المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام

د. جواد علي

الجزء الثالث – الفصول 63-136

 

الفصل الثالث والستون انبياء جاهليون. 691

الفصل الرا بع والستون اللّه ومصير الإنسان. 695

الفصل الخامس والستون الروح والنفس والقول بالدهر. 702

الفصل السادس والستون الالهة والتقرب اليها 707

الفصل الثامن والستون رجال الدين. 718

الفصل التاسع والستون الاصنام 721

الفصل السبعون أَصنام الكتابات.. 733

الفصل الحادي والسبعون، شعائر الدين. 742

الفصل الثاني والسبعون الحج والعمرة 745

الفصل الثالث والسبعون بيوت العبادة 755

الفصل الرابع والسبعون الكعبة 762

الفصل الخامس والسبعون الحنفاء. 766

الفصل السادس والسبعون اليهودية بين العرب.. 779

الفصل السابع والسبعون اليهود والأسلام 786

الفصل الثامن والسبعون شعر اليهود 792

الفصل التاسع والسبعون النصرانية بين الجاهليين. 795

الفصل الثمانون المذاهب النصرانية 804

الفصل الحادي والثمانون التنظيم الديني. 807

الفصل الثاني والثمانون اثر النصرانية في الجاهليين. 812

الفصل الثالث والثمانون المجوس والصابئة 817

الفصل الرابع والثمانون تسخير عالم الارواح. 820

الفصل الخامس والثمانون في اوابد العرب.. 830

الفصل السادس والثمانون الطيرة 836

الفصل السابع والثمانون من عادات وأَساطير الجاهليين. 840

الفصل الثامن والثمانون أَثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين. 844

الفصل التاسع والثمانون الزروع و المزروعات.. 849

الفصل التسعون الزرع. 853

الفصل الحادي والتسعون المحاصيل الزراعية 855

الفصل الثاني والتسعون الشجر. 857

الفصل الثالث والتسعون المراعي. 863

الفصل الرابع والتسعون الثروة الحيوانية 866

الفصل الخامس والتسعون الارض... 870

الفصل السادس والتسعون الارواء. 876

الفصل السابع والتسعون معاملات زراعية 889

الفصل الثامن والتسعون الحياة الاقتصادية 891

الفصل التاسع والتسعون ركوب البحر. 895

الفصل المئة التجارة البحرية 898

الفصل الواحد بعد المئة تجارة مكة 904

الفصل الثاني بعد المئة القوافل. 911

الفصل الثالث بعد المئة طرق الجاهليين. 914

الفصل الرابع بعد المئة الاسواق. 921

الفصل الخامس بعد المئة البيع والشراء. 925

الفصل السادس بعد المئة الشركة 929

الفصل السابع بعد المئة المال. 931

الفصل الثامن بعد المئة أصحاب المال. 935

الفصل التاسع بعد المئة الطبقة المملوكة 939

الفصل ألعاشر بعد المئة الاتاوة والمكس والاعشار. 943

الفصل الحادي عشر بعد المئة النقود 946

الفصل الثاني عشر بعد المئة الصناعة والمعادن والتعدين. 950

الفصل الثالث عشر بعد المئة حاصلات طبيعية 954

الفصل الرابع عشر بعد المئة الحرف.. 957

الفصل الخامس عشر بعد المئة قياس الابعاد والمساحات والكيل. 973

الفصل السادس عشر بعد المئة الفن الجاهلي. 976

الفصل السابع عشر بعد المئة القصور والمحافل وألاطام 982

الفصل الثامن عشر بعد المئة الخزف والزجاج والبلور. 987

الفصل التاسع عشر بعد المئة الفنون الجميلة 988

الفصل العشرون بعد المئة أمية الجاهليين. 993

الفصل الحادي والعشرون بعد المئة الخط العربي. 1003

الفصل الثاني والعشرون بعد المئة المسند ومشتقاته 1016

الفصل الثالث والعشرون بعد المئة الكتابة و التدوين. 1025

الفصل الرابع والعشرون بعد المئة الدراسة والتدريس.. 1033

الفصل الخامس والعشرون بعد المئة ا لكتاب والعلماء. 1038

الفصل السادس والعشرون بعد المئة الفلسفة والحكمة 1043

الفصل السابع والعشرون بعد المئة الأمثال. 1047

الفصل الثامن والعشرون بعد المئة القصص... 1050

الفصل التاسع والعشرون بعد المئة الطب والبيطرة 1052

الفصل الثلاثون بعد المئة ألهندسة والنوء. 1060

الفصل الحادي والثلاثون بعد المئة الوقت و الزمان. 1064

الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة الاشهر الحرم 1071

الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة النسيء. 1075

الفصل الرابعُ والثلاثون بعد المئة التقاويم والتواريخ. 1079

الفصل الخامس والثلاثون بعد المئة اللغات السامية 1082

الفصل السادس والثلاثون بعد المئة العربية لسان آدم في الجنة 1085

 

الفصل الثالث والستون
انبياء جاهليون

قال "الجاحظ": وإلمتكلمون لا يؤمنون بهذا، ويزعمون أن خالداً هذا كان أعرابيا وَ برياً، من أهل "شرج" و "ناظرة". ولم يبعث الله نبياً من الأعرأب ولا من الفَدًادين اًهل الوبر، وهم أهل البادية. إنما يبعثهم من أهل لقرى، وسكان المدن.

ويظهر أنه عاش قبيل الإسلام. ففد ذكر أهل الأخبار أن ابنة له قدمت على النبي، فبسط لها رداءه وقالى: هذه ابنة نبي ضيعه قومه. وذكروا أنهْا لماسمعت سورة: )قل هو الله أحد (، قالت: قد كان أبي يتلو هذه السورة. وزعموا أنه هو الذي دعا على العنقاء، فذهبت وانقطع نسلها.

ثم نبيّ اخر اسمه "حنظلة بن صفوان"، كان نبياً بعثه الله اهل الرس، فكذبوه وقتلوه، عاش في أيام "بختنصر"، وقد نسب الى حمير، وقبل إنه كان من أنبياء الفترة تلك، وإنه هو الذيَ دعا على العنقاء، فانقطع نسلها.:ذكر بعض أهل الأخبار أن الله أرسل "حنظلة" إلى أهل عدن ففقتلو5.

وذكر أهل الأخبار اسم نبي ارسل الى أهل "حضور"، اسمه "شعيب بن ذي مهدم". فقتلوه، فاستأصلهم "بختنصر"، وقبره ب "صنين" جبل باليمن.

وذكر أهل الأخبار أن "مسيلمة بن حبيب الحنفي"، كَان ممن ادعى النبوة بمكة قبل الهجرة، وصنع أسجاعا. وكان قد طاف قبل التنبي، في الأسواق التي كانت بين دور العجم والعرب، يلتقون فيها للتسوق والبياعات، كنحو سوق الابلة، وسوق لقه، وسوق الأنبار، وسوق الحيرة. وكان يلتمس تعلم الحبل والنيرّجات، واختبارات النجوم والمتنبئين. وقد كان أحكم حيل السدنة والحُواء وأصحاب الزجر والخط، ومذهب الكاهن والعيلّف والساحر، وصاحب الجن الذي يزعم أن معه تابعه.

وقد احكم من ذلك أموراً. فمن ذلك، أنه صب " على بيضة من خلّ قاطع، حتى لان قشرها، فادخلها في قارورة ضيقة الرأس،وتركها حتى نجت ويسمت، وعادت إلى هيئتها الأولى، فأخرجها إلى "مجاعة بن مرارة بن سلمى الحنقي" لليمامي، وأهل بيته، وهم أعراب، وادعى بها أعجوبة، وانها جعلت له آية، فآمن به من في ذلك المجلس: مجاعة وغيره. ومن ذلك أنه كان قد حمل معه ربشاً في لون ريش أزواج حمام، وقد كان يراهن في منزل مجاعة مقاصيص. فالتفت، بعدان أراهم الاية فيً البيض، إلى الحمام فقال لمجاعة: إلى كم تعذب خلق الله بالقص! ولو أراد الله للطير خلاف الطيران لما خلق لها أجنحة، وقد حرمت علكيم قص أجنحة الحمام ! فقال له مجاعة كالمتعنت: فسل الذي أعطاك في البيض هذه الآية أن ينبت لك جناح هذا الطير الذكر الساعة ? قال مسيلمة: فإن أنا ساًلت الله ذلك، فانتبه له حتى يطير وأنتم ترونه، أتعلمون اني رسول الله اليكم ? قالوا: نعم. قال فإني اريد أن اناجي ربي، وللمناجاة خلوة، فانهضوا عني، وان شئتم فادخلوني هذا البيت وادخلوه معي، حتى أخرجه اليكم الساعة وافي الجناحين يطير. وأنتم ترونه ولم يكن القوم سمعوا بتغريز الحلم، وكانوا بسطاء لا يعرفون حيل المحتالين، فلما خلا بالطائر أخرج الريش الذي قد هيأه، فادخل طرف كل ريشة مما كان معه في جوف ريش الحمام المقصوص، من عند المقطع والقصن. فلما غرز ريشه اخرجه، وأرسله أمامهم من يده فطار، واعتبروا عمله آية.

ثم انه قال لهم: ان الملَك ينزل إليّ، والملائكة تطير وهي ذوات أجنحة، ولمجيء الملك زجل وخشخشة وقعقعة، فمن كان منكم ظاهراً فليدخل منزله، فإنّ من تاًمل اختطف بصره ثم صنع راية من رايات للصبيان للتي تعمل من الورق الصيني، ومن الكاغد، وتجعل لها الأذناب والأجنحة، وتعلق في صدورها الجلاجل، وترسل يوم الريح بالخيوط الطوال الصلاب. ثم أرسلها مع الريح، وهم لا يرون الخيوط، والليل لا يبين عن صورة الرق، وعن دقة الكاغد،فتوهموا أن ذلك الملائكة: وتصارخوا، وصاح: من صرف بصره ودخل بيته فهو آمن ! فاصبح القوم وقد أطبقوا على نصرته والدفع عنه. فهو قوله: ببـيضة قــارورٍ ورايةِ شـــادن  وتوصيل مقصوص من الطير جادف 

ونسب بعض أهل الأخبار "مسيلمة" على هذا النحو: "مسيلمة بنُ ثمامة ابن كبير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هفان بن ذهل بن الدول بن حنيفة" و "مسيلمة الكذاب بن حبيب" ثمامة بن كبير، وجعله بعضهم "مسيلمة بن حبيب". وجعلوا كنيته "أبا ثمامة" وقيل "أبا هارون" و "أبو ثمالة". وذكروا أنه كان يسمى ب "الرحمان" قبل مولد "عبد الله" والد رسول الله، "وكانت قريش حين سمعت: بسم الله الرحمن الرحيم، قال قائلم:   

دق فوك، إنما تذكر مسيلمة رحمان اليمامة ". وذكروا أنه دعا إلى الرحمان، أي إلى عبادة الرحمان. بينما عرف نفسه ب "الرحمن"، فقيل له: "رحمان اليمامة". وأنه دعا إلى عبادته هذه قبل النبوة، وقد عرف أمره بمكة، فلما نزل الوحي على الرسول، قال أهل مكة إنما أخذ علمه من "رحمان" اليمامةّ. وقالوا له: لا إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن، ولن نؤمن به أبداً ". فأنزل الله سبحانه: )وهم يكفرون بالرحمن. قل: هو ربي(. كان مسيلمة بن حبيب الحنفي، ثم أحد بني الدول قد تسمى بالرحمن في الجاهلية،وكان من المعمرين. ذكر وثيمة بن موسى أن مسيلمة تسمى بالرحمن قبل أن يولد عبد الله ابو رسول الله صل الله عليه وسلم.

قال "الواحدي" في أسباب نزول الاية: "وهم يكفرون بالرحمن. قل لهم اتصال باليمن وباليمامة وبمعظم أنحاء جزيرة العرب. وأرى ان "مسيلمة" كان قد دعا إلى عبادة الرحمن متأثرا ًبدعوة المتعبدين له ممن كان قبله على ما يظهر، وهي عبادة إلهَ اسمه "الرحمن" فعرف مسيلمة ب "الرحمن" وب "رحمن اليمامة". وعبادة الرحمن ديانة متأزرة بفكرة التوحيد، وبوجود إلهَ واحد هو "الرحمن" رب العالمين.

وقد أشير إلى موضع اسمه "وادي ا الرحمن" في الكتاب الذي أعطاه رسول الله الى "يزيد بن المحجل" الحارثي، ورد فيه: "ان لهم غرة ومساقيها ووادي الرحمن من بين غابتها". ولا أستبعد احتمال وجود صلة بين هذه ألتسمية وبين الرحمن الإلهَ.

وقد وصف الرواة "مسيلمة" باًنه "كان قصيراً شديد الصفرة أخنس الأنف أفطس.

ويظهر من غربلة ما ذكره أهل الأخبار عن "مسيلمة" أنه كان أكبر عمرا من الرسول. وأنه كان قد تكهن وتنبأ باليمامهّ ووجد له أتباعا قبل نزول الوحي على النبيّ. وأن أهل مكة كانوا على علم برسالته. ويذكر أهل الأخبار أن "مسيلمة" كان ابن ماثة وخمسين سنة حين قتل. وهو عمر قد بولغ فيه ولا شك، إذ لا يعقل أن يكون في هذه السن يوم قتل، فقد كان فعالاً نشيطاً، نشاطاً لا بمكن أن يظهر إلاّ من رجل قويّ فعال، هو دون المائة.

وكان "مسُيلمة" يدعي أن معه رئياً في أول زمانه، ولذلك قال الشاعر حين وصفه: بيبضة قارور وراية شادن  وخلة جني وتوصيل طائر 

وكان "مسيلمة" في. جملة رجال "وفد حنيفة" الذي قصد الرسول، وفيهم "رحال بن عنفوة". لكنه - كما يقول الرواة - لم يذهب مع الوفد إلى الرسول، بل بقي مع رجال الوفد يبصرها لهم. فلما قرروا العودة، بعد أن أسلموا وأعطاهم جوائزهم، قالوا: "يا رسول الله إنا خلفنا صاحباً لنا في رحالنا يبصرها لنا، وفي ركابنا يحفظها علينا، فأمر له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمثل ما أمر به لأصحابه وقال: ليس بشركم مكاناً لحفظه ركابكم ورحالكم، فقيل ذلك لمسيلمة، فقال: عرف أن الأمر لىّ من بعده. فلما عادوا إلى ديارهم، ادعى مسيلمة النبوة، وشهد "رحال بن عنفوة" "الرحال بن عنفوة"، أن رسول الله، أشركه في الأمر، فتبعه الناس. وكان "الرحال" قد تعلم سوراً من القرآن، فنسب إلى "مسيلمة" بعض ما تعلم من القرآن، فكان من أقوى أسباب الفتنة على "بني حنيفة". قتله "زيد بن الخطّاب"، يوم اليمامة.

وذكر "الطبري"، أن "مسيلمة" كان يصانع كل أحد ويتألفه ولا يبالي أن يطلع الناس منه على قبيح. "وكان معه نهار الرجّال بن عنفوة" وكان قد هاجر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وقرأ القرآن، وفقه في الدين، فبعثه معلماً لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة، وليشدد من أمر المسلمين، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، شهد له أنه سمع محمداً، صلى الله عليه وسلم، يقول: إنه قد أشرك معه، فصدقوه واستجابوا له، وأمروه بمكاتبة النبي، صلى الله علبه وسلم، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه، فكان نهار الرجال ابن عنفوة لا يقول شيئاً إلا تابعه عليه ؛ وكان ينتهي إلى أمره. وكان الذي يؤذن له: عبد الله بن النواحة، وكان الذي يقُيم له "حجير ين عمير"، ويشهد له، وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة، قا ل: صرح حجير، فيزيد في صوته، ويبالغ لتّصديق نقسه، وتصديق نهار وتضليل منَ كان قد أسلم، فعظم وقاره في أنفسهم. فجعل "الطبري" اسم مساعد "مسيلمة" "نهار الرجال بن عنفوة"، لا "الرحال ين عنفوة" "رحال بن عنفوة كما في الموارد الأخرى. لكنه عاد فدعاه "الرجال" تارة و "رحال بن عنفوة" تارة أخرى، حينما تكلم عنه وعن.نهايته. وذلك في أيام "أبي بكر"، أي في حوادث السنة الحادية عشرة. وأظن أن مرد هذا الاختلاف لا يعود إلى "الطبري نفسه، بل إلى النساخ والى الطبع.

وقد أورد "الطبري" رواية أخرى في كيفية قدوم "مسيلمة بن حبيب" على رسول الله. فذكر "ان بني حنيفة أتت بمسيلمة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تستره بالثياب، ورسول الله جالس في أصحابه، ومعه عسيب من سعف النخل، في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم،فقال له رسول الله: لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما اعطيتك !. ولم يشر "الطبري" إلى أسماء من جاء معه من وفد بني حنيفة، وقد ذكر بعد هذه الرواية الرواية السابقة التي ذكرناها،دون أن يشير إلى اسماء رجال الوفد. ثم قال بعد ذلك: "ثم انصرفوا عن رسول الله وجاءوا مسيلمة بما أعطاه رسول الله، فلما انتهى إلى اليمامة ارتدّ عدو الله وتنباً وتكذّب لهم، وقال: إني قد أشركت في الأمر معه، وقال لوفده: ألم يقل لكم رسول الله حيث ذكرتموني: أما انه ليس بشرّكم مكاناً ! ما ذلك إلا لما كان يعلم اني قد أشركت معه، ثم جعل يسجع السجعات، ويقول لهم فيما يقول، مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحُبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى. ووضع عنهم الصلاة، وأحلّ لهم الخمر والزنا، ونحو ذلك".

ولا يتفق ما ذكره "الطبري" من وضع "مسيلمة" الصلاة عن أتباعه، مع ما أورده هو من انخاذه مؤذناً يؤذن بين الناس، ومن اتخاذه "مقيماً" يقيم له الصلاة، ئم مع ما ذكره غيره من أنه قلّص الصلوات الخمسة، فجعلها ثلاثة صلوات في اليوم. ولا يوجد دلبل على تحليله الزنا والخمر.

وذكر ان "مسيلمة"، بعد ان عاد إلى قومه كتب كتاباً إلى الرسول فيه :من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد، فإني قد أشركت معك في الأمر، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوماً يعتدون". فكتب اليه رسول الله: "بسم الله الرحمن الرحيم:.من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فالسلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء والعاقبة للمتقين". وقدم بكتاب مسيلمة رجلان، فساًلهما رسول الله عنه فصدّقاه، فقال: أما والله لولا ان الرسل لا تقتل لقتلتكما.

وتذكر رواية أخرى ان مسيلمة قال للرسول يوم وفد عليه مع من وفد من رجال "حنيفة": "إِن شئت خلينا لك الأمر وبايعناك على انه لنا بعدك. فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا ولا نعمة عين ولكن الله لقاتلك". وتذكر رواية أخرى ان "هوذة بن علي الحنفي" صاحب اليمامة. " قد كتب إلى النبي، أن يجعل له الأمر من بعده على من يسلم ويصير اليه "فينصره،فقال رسول الله: لا ولا كرامة اللهم اكفنيه، فمات بعد قليل.

وروي ان رسول اللّه، بعث "حبيب بن زيد بن عاصم" أحد "بني النجار و"عبد الله بن وهب الأسلمي" إلى مسيلمة، فلم يعرض لعبد الله، وقطع يدي حبيب ورجليه.    

وذكر ان رسولي مسيلمة اللذين حملا كتابه إلى الرسول، كانا "ابن الفوّ احة و "ابن أثال"، وانهما قالا لرسول الله: نشهد ان مسيلمة رسول إلله. فقال الرسول: لو كنت قاتلاً رسولاَ لقتلتكما. فعادا إلى صاحبهما، وذكر "الطبري" أن "مسيلمة" ضرب حرماً باليمامة، فنهى عنه، وأخذ الناس به، فكان محر ماً، فوقع في ذلك الحرم قُرى الأحاليف، أفخاذ من بني أسيد، كانت دارهم باليمامة فصار مكان دارهم في الحرم"، فصاروا يغيرون على ثمار أهل اليمامة، ويتخذون الحرم دغلاً، فإن نذروا بهم فدخلوه أحجموا عنهم، وإن لم ينذروا بهم فذلك ما يريدرن، فكثر ذلك منهم حتى استعدوا عليهم، فقال: انتظر الذي يأتي من السماء فيكم وفيهم، ثم قال لهم والليل الأطحم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم. فقالوا: أما محرم استحلال الحرم وفساد الأموال ا ثم عادوا للغارة، وعادوا للعدوى. فقال: انتظر الذي يأتيني، فقال: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس. فقالوا: أما النخل مرطبة فقد جدّوها، وأما الجدران يابسة فقد هدموها، فقال اذهبوا وارجعوا فلا حقّ لكم".

وقد أورد أهل الأخبار كلاماً زعموا أن "مسيلمة" نظمه مضاهاة للقرآن. من ذلك قوله: "يا ضفدع نقيّ كم تنقين ! نصفك فْي الماء ونصفك في الطين ! لا الماء تكدرين، ولاَ الشارب تمنعين". "وكان فيما يقرأ لهم فيهم: إن بني تميم قوم طهر لقاح، لا مكروه عليهم ولا إتاوة، نجاورهم ما حيينا بإحسان، نمنعهم من كل إنسان، فإذا متنا فاًمرهم إلى الرحمان". "وكان يقول: والشاة وألوانها، واعجبها السود والبانها، والشاة السوداء واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فمالكم لا تمجعون". "وكان يقول: "يا ضفدع ابنة ضفدع، نقّي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين". "وكان يقول: والمبذّرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً، إهالة وسمناً، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه". وذكر بعض أهل الأخبار أن "أبا بكر" لما سأل وفداً من "بني حنيفة" أرسله "خالد" اليه عما كان يقوله لهم: "قالوا: كان يقول يا ضفدع نقي نقي، لا للشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكنّ قريشاً قوم يعتدون".

ويظهر من أسلوب هذه الأيات المنسوبة إلى "مسيلمة"، انها محاكاة ومضاهاة للايات الأولى من القرآن الكريم، الآيات للتي نزلت بمكة في عهد الرسالة الأولى.

وهي بذلك تختلف عن أسلوب الوحي المنزل بعد الهجرة بالمدينة. ولم نجد فيما بقي من كتب أهل الأخبار ما يشير بشيء إلى "قرآن مسيلمة"، أو إلى بقية أخرى منه.

هذا ولا بد لي من التنبيه إلى اننا لا نستطيع التأكيد بان ما نسب إلى مسيلمة من كلام، هو حق وصحيح. فمن الجائز أن يكون قد وضع عليه وضعاً. وقد رأينا كيف انهم اختلفوا في رواية "يا ضفدع" اختلافاً بينا في ضبط العبارات.

وكان الناس يقصدون "مسيلمة" ليسمعوا منه، بعد ان اشتهر امره. وقد تمكن من التاًثير في بعضهم. وكان ممن قصده "المتشمس بن معاوية"، عم "الأحنف بن قيس" الشهير. فلما خرج من عنده قال عنه انه كذاب. وقال عنه "الأحنف"، وقد رآه ايضاً، وقد سئل كيف هو ? ما هو بنبي صادق، ولابمتنبىء حاذق.

وذكر أهل الأخبار ان مسيلمة كان صاحب "نيرجات" و. تمويه واحتيال. يدًعي المعجزات والأيات، وانه أول من أدخل البيضة في القارورة، وأول من وصل جناح الطائر المقصوص، وكان يدّعي ان ظبية تأتيه من الجبل فيحلب لبنها. وقد جربه قوم، فوجدوا آياته "منكوسة. تفل في بئر قوم سألوه ذلك تبركاً، فملح ماؤها. ومسح رأس صبي فقرع قرعاً فاحشاً، ودعا لرجل في ابنين له بالبركة، فرجع إلى منزله، فوجد أحدهما قد سقط في البئر والآخر قد أكله الذئب. ومسح على عيني رجل استشفى بمسحه فابيضت عيناه"، ومسح وجه "أبا بصير"، وهو صبي من "بني يشكر بن وائل"، وكانوا أتوا به "مسيلمة"، فعمي، فكنى "أبا بصير"، وكان يروى عنه. وأتته امرأة من بني حنيفة، تكنى بأم الهيثم، "فقالت: إن نخلنا لسحق وإن آبارنا لجرز، فادع الله لمائنا ولنخلنا، كما دعا محمد لأهل هزمان"، فدعا بسجل، ودعا لهم فيه، ثم تمضمض بفمه منه، ثم مجه فيه، فانطلقوا به حتى فرغوه في تلك الآبار. ثم سقوه نخلهم، فغارت مياه تلك الآبار، وخوى نخلهم. وقد ذكر "الطبري" هذه الملاحظة: "وانما استبان ذلك بعد مهلكه".

وروى " الطبري "، أخبارا أخرى من هذا النوع، ذكر ان " نهاراً" قال له: برك على مولودي حنيفة، فقال له: وما التبريك ? قال: كان أهل الحجاز اذا ولد فيهم المولود أتوا به محمداً فحنّكه ومسح رأسه، فلم يؤت مسيلمة بصبي فحنكه ومسح رأسه إلا قرع ولثغ. وذكر ان "نهاراً" قال له: توضأ واعطِ وضوءك إلى أصحاب الحيطان، أي البساتين كمايفعل محمد، فأعطى أحدهم وضوءه، فسقى به حائطه، فيبست أشجاره، وصارت الأرض يبابأَ لا ينبت مرعاها. وأعطى "مسيلمة" رجلاً سجلاً من ماء، وكانت أرضه سبخة، فأفرغه في بئره، فغرقت أرضه، فما جف ثراها، ولا أدرك ثمرها. وأتته امرأة فاستجلبته إلى نخل لها يدعو لها فيه،فجزت كبائسها يوم عقرباء كلها.

وقد عرف "مسيلمة" بين أتباعه ب "رسول الله"، وكانوا يتعصبون له،ويؤمنون به إيماناً شديداً. وذكر أن "طلحة النميري" جاء إلى اليمامة، فقال: "اين مسيلمة ? قالوا: انه رسول اللّه! فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه. قال: أنت مسيلمة ?قال: نعم. قال: من يأتيك ? قال: رحمن. قال: أفي نور أو في ظلمة ? فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنّك لكذّاب وأن محمداً صادق، ولكن كذّاب ربيعة أسب احب إلينا من صادق مضر "، أو "أنه في قال: كذاب ربيعة أحب اليّ من كذّاب مضر"، فقتل معه" "يوم عقرباء".

ويظهر من بعض ملاحظات "الطبري" عن هذه الأخبار، أنها إنما ظهرت، وقيلت بعد هلاك "مسيلمة ". فقد قال في موضع: " وكانوا قد علموا واستبان لهم، ولكن الشقاء غلب عليهم"، وقال في موضع آخر: "وانما استبان ذلك بعد مهلكه "، و " استبان ذلك بعد مهلكه ". ولهذه الملاحظات أهمية كبيرة بالطبع في تقييم هذه الروايات وصحتها، فالعادة أن من يفشل ويهلك لا سيما اذا كان قد نال حظاً من المكانة والجاه والاسم، يحمل عليه كثيراً، ولا يتورع حتى أصحابه ومن كان يؤمن به من الدس عليه.

واتخذ "مسيلمة" مؤذناً يؤذن له في اتباعه اسمه "حجير". "وكان أول ما أمر أن يذكر مسيلمة في الاذان، توقف. فقال له محكم بن الطفيل: صرح حجير، فذهبت مثلا ً". وكان "محكم بن طفيل الحنفي" صاحب حربه ومدبر أمره، وكان أشرف منه في حنيفة. وذكر "الطبري"، أن الذي كان يؤذن له "عبد الله بن النوّاحة"، وكان الذي يقيم له حُجير بن عمير، ويشهد له. وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة، قال صرح حجير، فيزيد في صوته ويبالغ لتصديق نفسه. وذكر أن مؤذنه "حجير"، كان إذا أذن يقول أشهد أن مسيلمة يزعم أنه رسول الله، فيقول مسيلمة له: أفصح حجير، فذهبت مثلاً.

ورووا أنه تزوّ ج "سجاح" التي تنبأت، وهي تميمة من "بني يربوع"، وكان يقال لها "صادر" وكان لها مؤذن، يقال له "زهير بن عمرو"، من "بني سليط بن يربوع"، ويقال إن "شبث بن ربعي" أذن لها.

وذكروا أنها كانت كاهنة زمانها، تزعم أن رئيها ورئي سطيح واحد، ثم جعلت ذلك الرئي ملكاً حتى ادعت النبوة، فاختلفت مع "مسيلمة" وكذبته وجحدت نبوته،فلما اتصلت به وتزوجته، وهبت نفسها له. فقال لها فيما زعموا: ألا قومي إلى المخدع  فقد هيىّ لك المضجع 

فإن شثت سلَـقـنـاك  وان شئت على أربع

وإن شئتَ بثـلـنة  وإن شئت به أجمع 

فقالت بل به أجمع. فجرى المثل بغلمتها حتى قيل أغلم من سجاح.

وفيها قال قيس بن عاصم، وقيل عطارد بن حاجب بن زرارة: اضحت نبيتنا أنثى نطيف بهـا  وأصبحت أنبياء ألله ذكـرانـا

يا لعنة الله والأقوام كـلـهـم  على سجاح ومن بالإفك أغرانا 

أعني مسيلمة الكذاب لاسقـيت  أصداؤه ماء مزن حثما كانـا

ولما قتل "مسيلمة" رثاه بعض شعراء بني حنيفة بقوله: لهفي عليك أبـا ثـمـامة  لهفى على ركني تهـامة

كم آية لـك فــيهـــم  كالشمس تطلع من غمامة 

قتله "وحشي" قاتل حمزة.

وذكر أهل الأخبار ان "مسيلمة" كان قد تزوج "كبشة بنت الحارث بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس" "كيسة بنت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس"، ثم تركها فخلف عليها "عبد الله بن عامر بن كريز"، فولدت له. ويظهر انها لم تلد من "مسيلمة".

والذي يقرأ ما ذكره "الطبري" عن "مسيلمة" وعن صلة "نهار" به، يخرج بصورة تظهره شخصاً جاهلاً بليداً، يحركه ويوجهه "نهار" حيث يريد، لا يفهم ولا يعقل، ولا يعرف كيف يتصرف، ولا يتخذ رأياً حتى يشير عليه "نهار" به. "فكان نهار الرجّال بن عنفوة لا يقول شيئاً إلا تابعه عليه". وهي صورة تخالف ما نقرأه عنه في الموارد الأخرى. ولو كان "مسيلمة" على نحو ما صوّره الطبري، لما التفت حوله "بنو حنيفة"، ولما استماتوا في الدفاع عنه. ولما ضحى "الرحال بن عنفوة" و "محكم بن الطفيل" وغيرهما بأنفسهم في الدفاع عنه. حتى ان منهم من بقي مؤمناً به حتى بعد مقتله،وتغلب المسلمين على اليمامة.

وقد كتب الجاحظ قصة مسيلمة وقصة "ابن النواحة"، ولعلّه قصد به "عبد الله بن النواحة" مؤذنه، في كتابه المفقود حتى اليوم "فصل ما بين النبي والمتنبيّ"، حيث ذكر جميع المتنبين. وذكر "البلاذري" أن "مسيلمة"، كان قد أرسل كتابه الذي كان وجهه إلى الرسول والذي فيه "من مسليمة رسول الله، الى محمد رسول الله، أما بعد: فإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً لا ينصفون، والسلام عليك. وكتب "عمرو بن الجارود الحنفي"، مع "عبادة بن الحارث" أحد بني عامر بن حنيفة، وهو "ابن النواحة " الذي قتله عبد الله بن مسعود بالكوفة.

وكان "مسيلمهّ قد أمر "عمرو بن الجارود الحنفي"، بتدوين كتابه الذي وجهه إلى الرسول، فأمر الرسول كاتبه "أُبي بن كعب" بالردّ عليه. ومعنى هذا أن مسيلمة كان قد اتخذ له كتبة يكتبون له رسائله، على نحو ما كان لرسول الله.

وأنا لا استبعد احتمال علم "مسيلمة" بالكتابة والقراءة. وإن لم ينص أهل الأخبار على ذلك. كما لا استبعد احتمال، التقائه باليهود وبالنصارى وأخذْه منهم، فقد كان في اليمامة قوم من أهل الكتاب، ودعوته الى عبادة إلَه هو "الرحمن"، تدل على تأثره بأتباع هذه الديإنة وبأهل الكتاب.

هذا ولم أجد في الأخبار المتعلقة بمسيلمة خبراً يفيد صراحة أن مسيلمة كان قد اعتنق الإسلام ودخل فيه. فالأخبار التي تتحدث عن مجيئه إلى يثرب لا تشير إلى ذلك، والأخبار الأخرى التي تتحدث عنه وهو في اليمامة لا تشير إلى قبوله الإسلام كذلك، بل نجد فيها كلها أنه ظل يرى نفسه نبياً مرسلاً من "الرحمن" وصاحب رسالة، لذلك فليس من الصواب أن نقول: "ردة مسيلمة"، أو "ارتداد مسيلمة"، أو نحو ذلك، لأنه لم يعتنق الإسلام ثم ارتد عنه، حتى ننعته بالمرتد.

وكان "مجاعة بن مرارة" الذي نزل عليه "مسيلمة"، من رؤساء "بني حنيفة" وممن وفد على الرسول، فأعطاه النبي أرضاً باليمامة يقال لها "الغورة"، وكتب له بذلك كتاباً. وذكر بعض أهل الأخبار انه كان بليغاً حكيماً وقد أسر "يوم اليمامة"، فتوسط له بعض وجوه "بني حنيفة"، لدى خالذ أن يبقيه، فارسله إلى "أبي بكر"، فصفح عنه. وقد كان قد انجرف مع من انجرف فمال إلى "مسيلمة" وأيده، وحارب معه. وله شعر أشار فيه إلى مسيلمة، ونعته فيه ب "الكذاب". ولما وفد على "أبي بكر." اقطعه "الخضرمة"، ثم قدم على عمر، فاًقطعه الرياء، ثم قدم على عثمان، فأقطعه قطيعة أخرى.

وأما "الرحال بن عنفوة" "رحّال بن عنفوة"، فهو "نهار الرجال بن عنفوة"،"الرجّال بن عنفوة" في تأريخ الطبري. وهو من وجوه "بني حنيفة" واسمه "نهار"، وكان في الوفد الذي جاء إلى الرسول، وقد اختلف إلى " أبيّ بن كعب" ليتعلم منه القرآن. وكان رئيس وفد "حنيفة" "سلمى بن حنظلة". وقد تعلّم سورة البقرة وسورأَ من القرآن. وذكر انه كان على غاية من الخشوع واللزوم لقراءة القرآن والخير، ثم انقلب على عقبيه وصار من أشد أعوان مسيلمة المقربين له، فشهد له ان الرسول أشركه معه في الأمر. وكان احد وفد "بني حنيفة" إلى رسول الله، وفيهم "فرات بن حيان".

وأما "محكم بن طفيل بن سبيع" الحنفي، فقد كان من أشراف وسادات "بني حنيفة". وهو اشرف من مسيلمة في حنيفة. وكان من المقدمين عند مسيلمة. وقد عهد " مسيلمة" اليه قيادة احدى المجنبتين في قتاله مع "خالد ابن الوليد". وقد عرف ب "محكم اليمامة". وقد قتل وهو يحارب المسلمين. "قتله خالد بن الوليد يوم مسيلمة".

وأما "فرات بن حيان بن ثعلبة بن عبد العزى بن حبيب" العجلي، فكان عيناً لأبي سفيان في حروبه، وكان ممن هجا الرسول، ثم أسلم ومدحه،وأقطعه الرسول أرضأَ باليمامة.، ثم سكن الكوفة وأقام بها. وكان في حرب الخندق عيناً للمشركين.

وأما أثال بن النعمان الحنفي، فكان معع "فرات بن حيان" حين قدم المدينة وقد كلّم الرسول. وذكر في رواية أنه كان مع ثمامة بن أثال في قتال مسيلمة في الردة.

وكان "ثمامة بن أثال بن النعمان بن سلمة الحنفي"، من قدماء من أسلم من أهل اليمامة. فقد أرسل رسول الله خيلا قبل نجد، فجاءت به، فربطوه بسارية من سواري المسجد بيثرب، فكلمه الرسول، ثم امر فأطلق من رباطه، فدخل في الإسلام.، وأمره ان يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت ! قال: لا والله ولكن أسلمت مع محمد رسول الله ولا واللهِ لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة، حتى يأذن فيها النبيّ. ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً. فكتبوا إلى النبيّ: إنك تأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمآمة أن يخلي بينهم وبن الحمل اليهم. وكانت ميرة قريش من اليمامة ومنافعهم منها، وكانت ريف مكة. ولما ارتد أهل اليمامة، وصاروا مع مسيلمة، ثبت أثال على الإسلام فكان مقيماً باليمامة ينهاهم عن اتباع مسيلمة وتصديقه، فلما عصوه وأصفقوا على اتباع مسيلمة، عزم على مفارقتهم، ففارقهم ولحق بالعلاء بن الحضرمي في مقاتلة المرتدين من اهل البحرين، فلما ظفروا اشرى ثمامة حلة كانت لكبيرهم:"الحطم" فرآها عليه ناس من "بني قيس بن ثعلبة"، فظنوا أنه هو الذي قتله وسلبه فقتلوه. وقد رووا له شعراً في الرسول وفي الردة. وكان له عم اسمه "عامر ابن سلمة بن عبيد بن ثعلبة الحنفي". وقد كان مسلماً.

وجاء في رواية ان رسول الله لما بعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى في رجب سنة تسع، فاسلم المنذر ورجع العلاء، فمر باليمامة، قال له ثمامة بن أثال: انت رسول محمد ? قال نعم. قال: لاتصل اليه ابداً، فقال له عمه: عامر بن سلمة بن عبيد بن ثعلبة الحنفي: مالك وللرجل، فأسلم عامر، ووقع ثمامة بعد ذلك في الأسر.

وكان "معمر بن كلاب الرماني"، جاراً لثمامة بن أثال، وهو ممن وعظ مسيلمة وبني حنيفة ونهاهم عن الردة، فلما عصوه تحول إلى المدينة، فمنعه ثمامة حتى ردّه وشهد قتال اليمامة، مع خالد.

و "الحطم" المذكور، هو "الحطم بن هند" البكري، أحد "بني قيس ابن ثعلبة"، قدم المدينة في رواية في عير له يحمل طعاماً فباعه، ثم دخل على النبي، فبايعة وأسلم، فلما قدم اليمامة، ارتد عن الإسلام، وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة، وكان عظيم التجارة، وأراد المسلمون أن يتلقوه ويأخذوا ما معه، فمنعهم الرسول من ذلك لحرمة الشهر. وذكر انه بعد ان قابل الرسول، وسمع منه مبادىء الإسلام. قال الحطم: في أمرك هذا غلظة، أرجع إلىقومي، فأذكر لهم ما ذكرت، فإن قبلوه أقبلت معهم، وان أدبروا أدبرت معهم. قال له ارجع. فلما رجع مرّ بسرح من سرح المدينة،فساقه فانطلق بهْ.

وذكر أن "الحطم" قتل في الجيار، من نواحي البحرين، لما ارتدت بكر ابن وائل.

هذا هو كل ما ورد إلى علمنا عن الأنبياء العرب في الجاهلية. وقد حصلنا عليه من المؤلفات الإسلامية. أما نصوص جاهلية، فيها شيء عن النبوة والأنبياء، فلم يصل إلينا منها أي شيء.

يقول "أبو العلاء المعري" عن ادعاء بعض الناس بالأمامة والنبوة في الإسلام: "ولم تكن العرب في الجاهلية تقدم على هذه العظائم، والأمور غير النظائم، بل كانت عقولهم تجنح إلى رأي الحكماء، وما سلف من كتب القدماء. إذ كان أكثر الفلاسفة لا يقولون بنبي، وينظرون إلى من زعم ذلك بعين الغبي ". فهو ينكر وجود نبوة وأنبياء عند الجاهليين للسبب المذكور. وهو يقصد ولا شك بها، النبوة على وفق المعنى المفهوم منها في الإسلام. أي أن تكون بوحيّ ينزل على النبي من الإسلام، ويكلام منزل يتلوه على الناس، يكون كلام الله لا كلام النبيّ.

الفصل الرا بع والستون
اللّه ومصير الإنسان

لا نعرف رأي الجاهليين في الخلق، وفي كيفية نشوء هذا ألكون، إذ لم تصل إلينا نصوص جاهلية في هذا المعنى. ولا بد أن يكون لهم كما كان لغيرهم رأي في الخلق وفي نشوء الكون. فموضوع نشوء الكون وظهوره، من الموضوعات التي تثير رأي كل انسان مهما كانت ثقافته وكان تفكيره.

وفي القرآن الكريم كلمات مثل "البارىء" و "المصور" و "الخلاّ ق" و "خلقنا" و "خلقت" و "خلقناكم" و "خالق" وغيرها مما له علاقة بخلق الكون والانسان وبقية المخلوقات، وفيه كيفية خلق الله للكون ومن فيه وكيفية خلق الإنسان ومن أي شيء خلق. ولكن هل كان يعرف جميع الجاهليين هذا المعنى المنزل في كلام الله، وهل نزلت هذه الآيات لإرشاد الناس إلى ذلك، أو انها نزلت لتذكير القوم ولفت نظرهم إلى شيء يعلمونه ولكنهم كانوا ينسبونه لغير الله أو يتجاهلونه، إن كان ذلك على سبيل التذكير، فمعنى هذا ان لأهل الجاهلية رأياً في كيفية الخلق، وإن كان ذلك على سبيل التعليم والإرشاد،إنه يدل على أن من خوطب بتلك الآيات لم يكن له فقه وعلم بما خوطب به.

وفي القرآن الكريم آيات فيها خطاب للمشركين في بيان فساد رأيهم واعتقاداتهم، وفيها ردّ عليهم، منها نستطيع أن نحيط بعض الإحاطة بآرائهم في الوجود وفي البعث والحشر والحساب وغير ذلك من أمور تتعلق بدياناتهم. وهذه الآيات هي الشواهد الوحيدة التي نملكها من اراء القوم في ذلك العهد.أما ما جاء في روايات الأخباريين وفي كتب التفسير والحديث والملل والنحل، ففيه بعض الشيء عن آراء الجاهليين القريبين من الإسلام، ولا سيما عرب مكة ويثرب عن تلك الأمور.

ويفهم من القرآن الكريم ان من الجاهليين من كان يعتقد ان للعالمّ خالقاً خلق الكون وسوّاه، وان منهم من كان يعتقد بوجود إلهَ واحد فهم موحدون، وان منهم من أقر بوجود إلَه واحد غير انه رأى تعذر الوصول اليه بغير وسطاء وشفعاء فاعتقد بالأرواح وبالجن وعبد الأصنام لتكون واسطة تقربه إلى الله.

أما كيف خلق الله الأرض والسماوات وكيف نشأ الكون، فذلك ما لم يتعرض له القرآن الكريم حكاية على لسان الجاهليين. ولذلك لا نعرف رأي أولئك القوم الذين عاصروا الرسول وعاشوا قبيل الإسلام في كيفية ظهور الوجود وخلق الكون. ويفهم من بعض الأخباريين أن من الجاهليين من كان يرى أن خالقاً خلق الأفلاك، غير أنها تحركت أعظم حركة فدارت عليه وأحرقته، لأنه لم يقدر على ضبطها وإمساك حركتها، وأن منهم من كان يقول: " إن الأشياء ليس لها أول البتة، وإنما تخرج من القوة الى الفعل. فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل، تكونت الأشياء مركباتها وبسائطها من ذاتها لا من شيء آخر. وقالوا إن العالم لم يزل ولا يزال ولا يتغير ولا يضمحل مع فعله. وهذا العالم هوالممسك لهذه الأجزاء التي فيه ". وهذا كلام إن صح أنه من كلام الجاهليين ومن مقالاتهم، فإنه يدل على تعمق القوم في المقالات، وعلى أن لهم رأياً وفلسفة في الدين، وأنهم لم يكونوا على الصورة التي يتخيلها معظمنا عنهم، وهي الصورة التي رسمها لهم أهل الأخبار. في أثناء كلامهم العام عن الجاهليين.

اللّه الخالق

ويظهر من القرآن الكريم، أن قريشاً كانوا يؤمنون بإلَه واحد خلق الكون، وهو رب السماوات والأرض. ففي سورة العنكبوت: ) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولنّ: الله، فأنى يؤفكون(.

وفي هذه السورة نفسها سؤال آخر موجه إلى المشركين ) ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها، ليقولن: الله، قل: الحمد لله، بل أكثرهم لا يعقلون(.

وفي سورة لقمان سؤال آخر موجه إلى أولئك المشركين، وجواب صادر منهم، هو هذا الجواب نفسه: إقرار بوجود خالق واحد خلق السماوات والأرض:) ولئن سألهم من خلق السماوات والأرض، ليقولن: الله. قل الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون(. وفي سورة الزخرف: )ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض، ليقولن: خلقهن العزيز العليم (، وفي سورة الزمر: )ولئن سألهتم من خلق السماوات والأرض، ليقولن الله(، وفي سورة الزخرف أيضاٌ: )ولئن سألتهم من خلقهم، ليقولن: الله. فانى يؤفكون (، وفي سورة العنكبوت: )ولئن سألتهم من نزً ل من السماء ماءفاًحيا به الأرض من بعد موتها، ليقولن: الله(. وهناك آيات أخرى على هذا النحو، فيها أسئلة موجهة إلى المشركين عن خلق السماوات والأرض،وأجوية على السنتهم فيها اعتراف باًن خالقها وصانعها هو الله.

وفي القرآن الكريم أيضاً ان قريشاً كانت تعتقد ان الله هو الذي ينزل المطر ويحيي الأرض بعد موتها، وفيه انهم كانوا يقسمون به، وانهم كانوا قد جعلوا له نصيباً مما ذرأ من الحرث والأنعام، وانهم كانوا يقولون إن الله هو الذي شاء فجعلهم وآباءهم مشركين، وانه لو لم يشأ لما أشركوا بعبادته أحداً، وانهم كانوا يتضرعون اليه ويستغيثون به في الكوارث والملمات، وانهم جعلوا له بناتاً وبنين وشركاء الجن. فقريش اذن وفق هذه الآيات قوم، كانوا يؤمنون بإلَه عزيز عليهم، ومن آيات ذلك انهم جعلوا له نصيباً في أموالهم، مع ان المال من أعز الأشياء على الإنسان، لا سيما بالنسبة لتلك الأيام.

وفي تلبية الجاهليين المنصوص عليها في كتب أهل الأخبار اعتراف صريح واضح بوجود إلهَ. كانوا يلبون بقولهم: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريك هو لك. تملكه وما ملك، يعنون بالشريك الصنم، يريدون ان الصنم وما يملكه ويختص به من الآلات التي تكون عنده وحوله والنذور التي كانوا يتقربون بها اليه كلها ملك لله عز وجل" فذلك معنى قولهم: يملكه وما ملك. فهم يعترفون ويقرون بوجود الله، لكنهم يتقربون اليه بالأصنام. وهذا هو الشرك.

وفي دعاء العرب اعتراف بوجود "الله"، فقولهم: "رماه الله يما يقبض عصبه"، و "قمقم الله عصبه"، و "لا ترك الله له هارباً ولا قارباً"، و "شتت الله شعبه"، و "مسح الله فاه"، و "رماه الله بالذبحة"، و "رماه الله بالطسأة"، و "سقاه الله الذيغان"، و "جعل الله رزقه فوت فمه"، و "رماه في نيطه"، و "قطع الله به السبب"، و "قطع الله لهجته"، و "مدّ الله أثره"، و "جعل الله عليها راكباً قليل الحداجة"، و "لا أهدى الله له عافية"، و "أثل الله ثلله"، و "حته الله حت البرمة"، و "رماه الله بالُطّلاطلة"، و "رماه الله بالقصمل"، و "ألزق الله به الحوَبة"، و " لحاه الله كما يلحى العود"، و "اقتثمه الله اليه"، و "ابتاضه الله"، إلى آخر ذلك من دعاء يدل على وجود ايمان بخالق هو اللّه.

وفي الشعر المنسوب إلى الجاهليين اعتقاد بوجود الله، واتقاء منه، وتقرب اليه باحترام الجوار وقرى الضيف ". هذا عمرو بن شأس يقول في شعره: ولولا اتقاء الله والعهد قد رأى  منيته منى أبوك الـلـيالـيا

فلولا اتقاء شأسٍ اللهَ، لفتك بخصمه، وجعله من اهالكين. وفي بعضه اعتراف بان هذه الأرض الواسعة هي "بلاد الله". أينما حللت فيها فهي أرضه وبلاده. وهذه نظرة مهمة جداً عن رأي الجاهليين في الله وفي الأرض، إن صح أن هذا للشعر الوارد فيه حقاً من شعر أهل الجاهلية.

و "اللهُ" كما جاء في شعر زهير بن أبي سلمى، عالم يكل شيء، عارف بالخفايا وبالأسرار، وبما ظهر من الأعمال وما بطن.

فلاتكتمنّ الله ما في نفوسكم  ليخفى، ومهما يكتم الله يعلم 

وهو عدو للأشقياء شديد عليهم، لا يرحم ظالماً، وأمرهُ بُلغ به تشقى به الأشقياء وهو يثيب على الاحسان، ويجزي المحسن على جميل إحسانه. وهو الذي يعصم من السيئات والعثرات. وهو مقر بوجود يوم حساب يحاسب فيه الناس على ما قاموا به من أعمال، وقد ينتقم الله من الظالم في الدنيا قبل الآخرة، فلا مخلص له.

والله "كربم" لا يكدر نعمة، اذاُ دعي أجاب. وهذا هو رأي الأعشى في الرب، اذ يقول: ربّي كريم لا يكدر نعـمة  واذا يناشد بالمهارق أنشدا 

وقد ورد اسم الجلالة في أشعار كثير من الشعراء الجاهليين: ورد في شعر امرىء القيس وغيره، فامرؤ القيس يقول: "من الله" و "لله"، و "تالله"، و "قبح اللّه"، و "والله"، و "يمين الله" " و "يمين إلإلَه"، و "الإله" هي "اللّه"، و "الحمد لله". ونرى العرب عامة تستعمل في كلامها: "لله دره"، و "لا يبعد الله"، و "لحى اللّه"، و "جزى الله"، و "عمر الله"، وأمثال ذلك مما يرد في أشعار الشعراء الجاهليين، يخرجنا تدوينه وحصره في هذا المكان عن حدود الموضوع.

وقد جاءت لفظة الجلالة في ايمان أخرى، في مثل: "لعمر الله"، و "ها لعمر الله" كالذي ورد في شعر زهير: تعلمن ها لعمر الله ذا قـسـمـاً  فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك 

وورد "ها اللّه" و "والله" و "الله " و" نعم الله" و "أي والله لأفعلن"، و "ايم الله" و "ايمن الله" و "يعلم الله" و "علم الله" وأمثال ذلك.

ومن ايمانهم الدالة على الاعتقاد بوجود خالق، قولهم: "لا وبارىء الخلق، و "لا والذي يراني من حيث ما نظر" و "لا والذي نادى الحجيج له"، و "لا والذي يراني ولا أراه"، و "لا والذي كل الشعوب تدينه"، و "حرام الله لا آتيك"، و "يمين الله لا آتيك "، و "لا والذي جلد الإبل جلودها"، و "والذي وجهي زمم بيته"، و "لا والذي هو اقرب إليّ من حبل الوريد"، و "لا ومقطع القطر"، و "لا وفالق الإصباح"، و "لا ومهب الرياح" و "لا ومنشر الأرواح"، إلى غير ذلك من ايمان حلفوا بها، تدل على إبمان وعقيدة بوجود خالق، فحلفوا به.

ونجد في معلقة امرئ القيس قسماٌ باللّه حكي على لسان صاحبة صاحب المعلقة: فقالت: يمين الله ما لـك حـيلة  وما إن أرى عنك الغواية تنجلي 

وترى في بيت لامرىء القيس وهو يذكر اقدامه على الشرب: فاليوم أسقى غير مستحقب  إثماً من اللـه ولا واغـل

فالرجل مؤمن بالله، وقد وفى بما عاهد الله عليه، وهو لا يخشى بعد ذلك إثماً اذا شرب، لأنه وفى بنذره.

ونراه يذكر الله أيضاً في هذا البيت: للهِ زبدان أمسى قرقراً جلـداً  وكان من جندل أصم منضودا 

ثم نراه يشكر اللهَ بجملة: "والحمد لله" في هذا البيت: أرى إبلى والحمد لله أصبحت  ثقالاً إذا ما استقبلتها صعودها 

ونراه يحث الناس على التمسك بحبل الله، فبالله يكون النجاح، ويحث الناس على عمل البر، والبر خير حقيبة الرجل: والله أنجح ما طلبت بـه  والبر خير حقيبة الرجل 

ونفهم من هذه الأبيات ومن أبيات أخرى، إن امرأ القيس رجل مؤمن يعتقد بالله الواحد، مؤمن بالله الواحد، مؤمن بالثواب وبالعقاب، وأنه كان يخاف الله ويخشى الإثم والفسوق، ولا أدري أينطبق هذا الذي نقوله على امرىء القيس الذي يتحدث عنه أهل الأخبار ويصفونه بأنه رجل عابس مياّل إلى اللهو و الشهوات رمى صنمه بسهم وأنبّه لما جاء الجواب بخلاف ما كان يرغب فيه ويشتهيه. ثم لا أدري اذا كان اسلوب هذا الشعر من أسلوب الشعر الجاهلي وطرازه ? وإذا كان هذا الشعر صحيحاً، فلمَ ادخل رواته شاعره في الجاهليين الوثنيين ولم يدخلوه في عداد المؤمنين بالله من الأحناف ? وإذا اعتقدنا بصحة الأبيات المنسوبة إلى عَبيد ين الأبرص: من يسأل الناس يحرموه  وسائل اللـه لا يخـيب

بالله يدرك كـلء خـير  والقول في بعضه تلغيب 

والله لـيس لـه شـريك  علاّم ما أخفت القلـوب

وقلنا مع القائلين إنها من شعر ذلك الشاعر حقاً، وجب عدّه إذن في جملة الموحدين المؤمنين المسلمين، وإن عاش قبل الإسلام. فرجل يقول هذا القول، لا يمكن إلاّ أن يكون مسلماً مؤمناً بالله الواحد الأحد علاّم الغيوب والعارف بما في آلقلوب، ومن الممهدين للتوحيد بين العرب قبل الإسلام.

وقد أهمل بعض رواة هذه المعلقة البيت الآتي: والله ليس لـه شـريك  علام ما أخفت القلوب 

وكأنهم فطنوا إلى ان من غير المعقول نسبته إلى رجل وثني، مهما كان رأيه في الأوثان والتوحيد، لا يمكن أن يستعمل هذه الألفاظ التي لم يستعملها العرب بهذا الشكل إلا في الإسلام.

والى عبيد نفسه ينسب الأخباريون قول هذا البيت: حلفت بالله إنً الله ذو نـعـم  لمن يشاء وذو عفوٍ وتصفاح 

ورجل يقول هذه الأبيات وأبياتاً أخرى من لونها، لا يمكن إلا ان يكون موحداً مؤمناً، من فصيلة المؤمنين بالله من الأحناف. وقد"أراح "شيخو" نفسه وأراح الناس حين ذهب إلى ان عبيداً وأمثاله من الشعراء الجاهليين كانوا نصارى وان هذا التوحيد هو توحيد نصراني محض، وقف عليه عبيد في زيارته للحيرة مهد النصرانية في ذلك العهد، فاعتنقه، فهو على رأيه اذن شاعر نصراني، وشعره شعر نصراني لا يرد ولا يرفض.

ونجد "طفبل بن عوف" الغنَوَي يقسم ب "الإله" في شعره. غير أن هناك رواية تضع "رضى" موضعَ "الإلَه" فيكون القسم به، ورضى اسم صنم كان لطيء. وقد ذكر "الله" في مواضع أخرى من شعره، وقال إنه هو الذي يصلح الأمور، ويسد العجز والثُغر التي ليس في وسع الإنسان سدّها، وإنه يجزي الناس على أعمالهم.

وفي معلقة "الحارث بن حِلزة" اليشكريّ: "أمر الله بلغ تشقى به الأشقياء"، وأن الله عالم بالأمور.

ونجد "المتلمس"، يُقسم بالله في شعره، ويذكر الله في مثل جملة "أبى الله"، للتعبير عن مشيئة الله واَرادته، وجملة "لله دري" في التعجب وجملة "تقوى الله"، و "عاداك الله" وغيرها مما يدل على أنه كان يعتقد أن الله يعادي الأعداء ويحبّ المحبين.

ولكننا نجده في مواضع أخرى يقسم باللات وبالأنصاب، والمقصود بالأنصاب الأوثان مما يشعر أنه كان يؤمن بها، فكيف نوفق بين اعتقاده بالله واعتقاده باللات والأنصاب ? وهل نعدّ هذا الشعر صادراً من شاعر واحد ? نعم، يجوز أن يكون قاله هو. قاله لأنه كان يعتقد بوجود إلهَ، فهو يؤمن به ويقر بوجوده، غير أن قسمه باللات والأنصاب، هو من باب.عقيدة الجاهليين المؤمنين بوجود إلهَ، ولكنهم كانوا يتقربون اليه بالأصنام والأوثان والأنصاب. ويتوقف هذا التفسير بالطبع على اثبات أن هذا الشعر له حقاً، وليس مفتعلاً، ولا مما أدخل الرواة عليه تغيبرأ أو تبديلاً.

ونجد في شعر النابغة الجعدي، أبو ليلى عبد الله بن قيس، الشاعر المخضوم المتوفى سنة "65" للهجرة، قصيدة مطلعها: الحمد لله لاشريك لـه  من لم يقلهافنفسه ظلما 

يلي هذا المطلع قصة نوح والسفينة، وهي سفينة مصنوعة من خشب الجوز والقار. وفي هذه القصيدة اعتراف بالتوحيد، وبوجود إِلَه واحد لا شريك له، لا يحمد إلا هو، وهو شعر لا يمكن أن يكون إلا من شعرشاعر مسلم،إن صح انه من شعره، فيجب أن يكون مما نظمه في الإسلام.

وينسب إلى "لبيد" اعتقاده ان الله يبسط الخير والشر على عباده، وانه منتقم ممن يخالفه، معاقب له، كما عاقب "إرما" و "تبعا"، وقوم "لقمان بن عاد"، و "أبرهة" وذلك في أبيات أولها: من يبسط الله عليه إصبعأ  بالخير والشر بأي أولعا

وهي رجز، يرى بعض العلماء انها ليست من رجزه.

ونجد معود الحكماء، وهو معاوية بن مالك بن جعفر، يذكر الله ويحمد، فيقول: "بحمد الله"، ويقول "عامر": "أردت لكيما يعلم الله انني"، ويقول."خداش بن زهير": "وذكرته بالله بيني وبينه "   

وذكر أهل الأخبار ان الجاهليين الوثنيين كانوا يفتتحون كتبهم بجملة "باسمك اللهم". ساروا في ذلك على هدى "أمية بن أبي الصلت" مبتدعها وموجدها، كما في رواية تنسب إلى ابن الكلبي. وذكر بعض آخر ان قريشاً كانت تستعمل هذه الجملة منذ عهد قبل الإسلام، وانها بقيت تستعملها ألى ظهور الإسلام. وقد استعملها الرسول، ثم تركها، وذلك بنزول الوحي باستعمال "بسم اللّه الرحمن الرحيم". ونحن لا يهمنا هنا اسم مبتدع هذه الجملة، وانما الذي يهمنا منها هو ما فيها من عبارة تدل أيضا على التوحيد، فإذا صح ان الجاهليين كانوا يستعملون هذه الجملة، فإن استعمالها هذا يدل على اعتقاد القوم بإلهَ واحد، أي بعقيدة التوحيد، ولا يعقل بالطبع استعمال شخص لهذه الجملة في رسائله، يفتتح بها كتبه، لو لم يكن من أصحاب عقيدة التوحيد، وقد جاء في بعض الأخبار ان هذا الاستعمال متاًخر، وانه حدث بعد ان تغيرت عوائد القوم في افتتاح كتبهم، فقد كانت عوائدهم القديمة افتتاح رسائلهم بأسماء آلهتهم كاللات والعزى، فرفعوا تلك الافتتاحيات القديمة واستبدلوا بها هذه الجملة الجديدة، جملة "باسمك اللهم". وعلى كل، فإن جملة "باسملك اللهم" وأمثالها إن صح انها من ذلك العهد حقاً فإنها تدل على حدوث تطور في الحياة الدينية عند الجاهليين، وإلا،فكيف يتصور استعمال هذه الجملة الموحدة مع وجود الشرك لو لم يكن قد حدث تطور فكري كبير في هذا العهد حملهم على استعمال هذه الجملة وأمثالها من الجمل والألفاظ الدالة على التوحيد ? وقد درس بعض المستشرقين هذا الموضوع، ولا سيما موضوع ورود اسم الجلالة في الشعر الجاهلي، فذهبوا في ذلك مذاهب. منهم من أيد صحة وروده في ذلك الشعر، وآمن أن الشعر الذي ورد فيه هو شعر جاهلي حقاً، ومنهم من أنكر ذلك، وأظهر أنه شعر منحول مصنوع، صنع على الجاهليين فيما بعد، ومنهم من ذهب إلى أنه شعر صحيح، غير أن رواة الشعر أدخلوا اسم الجلالة فيه، ولم يكن هو فيه في الجاهلية، بأن رفعوا أسماء الأصنام وأحلوا اسم اللّهِ محلها.

وبينما نجد أهل الأخبار ينسبون إلى هؤلاء الشعراء وأمثالهم الاعتقاد بالله، نجدهم ينسبون اليهم، الحلف بالأصنام، والاعتقاد بها. فقد نسبوا إلى "خداش بن زهير" شعراً آمن به بالله، ثم نسبوا له قوله: وبالمروة البيضاء يوم تـبـالة  ومحبسة النعمان حيث تنصرا 

والمروة البيضاء،هي ذو الخلصة، ثم هو يقسم بمحبسة النعمان، وهو نصراني.أفلا يدل هذا على وجود تنافر أو تناقض في عقيدة أمثال هؤلاء الشعراء ? والذي لا وقوف له على طبائع أهل الجاهلية، يرى هذا الرأي، أو يذهب إلى أن هذا الشعر مصنوع مفتعل. أما الذي يعرف عادة العرب في القسم، فلا يستغرب منه ولا يرى فيه تنافراً، فقد كان الجاهليون يقسمون بكل شيء، يقسمون بالشجر وبالحجر وبالكواكب، وبالليل وبالنهار، وبالأصنام، وبعمر الإنسان وبحياتهم وبلحى الرجال، وبالأصنام وبالمعابد، وبألله، وبالخبز والملح، لا يرون في ذلك بأساً ولا تناقضاً مع عقيدتهم. هذا "عديّ بن زيد" العبادي، يقسم بمكة، وهو نصراني، لا يري للكعبة في دينه حرمة ولا مكانة. أقسم بها على قاعدة العرب في القسم، وقد أقسم بأمور أخرى من أمور أهل الجاهلية الوثنيين، ولم يذكر أحد أنه بدل دينه، وصار وثنياً. وكذلك الأمر مع غيره من شعراء نصارى ويهود وعبّاد أصنام، أقسموا برهبان النصارى وباًمور نصرانية، مع أنهم كانوا عباّد أوثان.

ومن القائلين بالرأي الأخير، "نولدكه". فقد ذهب إلى ان رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر، وذلك بأن حذفوا منه أسماء الأصنام، وأحلوّا محلها اسم الله. فما جاء فيه اسم "اللات" حل محله اسم "الله". وقد ذهب أيضا إلى ان رواة الشعر في الإسلام حذفوا من شعر الجاهليين ما لم يتفق مع عقيدتهم، وما وردت فيه أسماء الأصنام. ومن جملة ما استدل به على أثر التغيير والتحريف في الشعر الجاهلي ورود كلمة "الرحمان" في شعر شاعر جاهلي من هذيل، زعم ان ورود هذه الكلمة في هذا الشعر دليل كاف لاثبات أثر التلاعب فيه، لأن هذه اللفظة اسلامية استحدثت في الإسلام، ولا بمكن أن ترد في شعر شاعر جاهلي. وقد فات "نولدكه" صاحب هذا الرأي ان الكلمة بهذا المعنى كلمة جاهلية، وردت في نصوص المسند وفي نصوص جاهلية أخرى، وان من جملة من استعملها "أبرهة" الحبشى في نصه الشهير المعروف بنص سد ماًرب، وان قومأَ من الجاهليين تعبدوا للرحمان، على نحو ما تحدثت عن هذه العبادة في موضع آخر من هذا الكتاب.

وادعاء أن لفظة "الله" لم تكن موجودة في الأصل، وإنما أقحمت فيه من بعد، وذلك بإزالة رواة الشعر لأسماء الأصنام النبي ذكرها أولئك الشعراء، واحلالهم اسم الله في محلها، حتى ظهر ذلك الشعر وكأنه شعر شعراء موحدين يعتقدون بوجود إلَه واحد. هو تعليل فيه شيء من التكلف، فليس كل شعر فيه اسم الأصنام بصالح لقبول الجلالة، فقد لا يستقيم من حيث الوزن أو المعنى بإدخال تلك اللفظة في موضع اسم الصنم. ثم إن من الشعر الجاهلي المروي في الإسلام ما بقي محافظاً على اسم الصنم دون أن يمس ذلك الاسم بسوء. ولو كان من عادة الرواة حذف اسم الأصنام عامة لما تركوا لها بقية في الشعر. ثم ما هي الفائدة التي يجنيها إلرواة من طمس أسماء الأصنام، وهم يعلمون أن أهل الجاهلية كانوا وثنيين، يدينون بالأصنام، وكانوا يقسمون بها، وقد رووا أمثلة من ذلك القسم ! أما "ولهوزن"، فيرى أن عدم ورود أسماء الأصنام في الشعر الجاهلي إلاّ في النادر وإلا في حالة القسم أو في أثناء الإشارة إلى صنم، أو موضع عبادة، ليس بسبب تغيير الرواة الإسلاميين وتبديلهم لأسماء الأصنام. وإنما سببه هو أدب الجاهليين وعادتهم في عدم الإسراف والإسفاف في ذكر أسماء الآلهة الخاصة، وذلك على سببل التأدب تجاه الأرباب، فاستعاضوا عن الصنم يلفظة "الله" التي لم تكن تعني إلهاً معيناً، وإنما تعني ما تعنيه كلمة ربّ وإلَه. ومن هنا كثر استعمالها في القسم وفي التمني أو التشفي وأمثال ذلك من حالات.

ويرى "ولهوزن" أن لفظة "الله" كانت بهذا المعنى في الأصل. كانت تعني إلهاً على وجه التعميم، دون التخصيص، أي أنها لا تشير إلى إله معين. استعملتها كل القبائل بهذا المعنى، فهي صفة تشير إلى الألوهية المجردة، وإن كان أفراد كل قبيلة يقصدون بها صنمهم الخاص بهم. استعاضوا بها عن ذكر اسم الصنم. وان استعمالها جملا مثل: "حاشا لله" و "للهِ درك" و "لاها الله"، و "تا لله"، و "ايم الله"، و "لحا الله"، و "جزى الله"، و "جعلني الله فداك"، و "لك الله"، و "أرض الله"، وأمثالها، هو من هذا القبيل، الله فيها بمعنى الرب والإلهَ، ولما كانت أداة التعريف تفيد التخصيصى، فدخولها في اسم الجلالة أفاد التخصيص والعلمية. وهذا ما حدث، إذ فقدت الكلمة معناها العام، واتجهت نحو التخصص حتى صارت بهذا المعنى الذي صارت عليه في الإسلام.

وقد ذهب مستشرقون آخرون الى صحة ورود لفظة الجلالة في الشعر الجاهلي. كما ذهبوا إلى ان ورودها في القرآن الكريم أو في الحديث، لا يمنع من ورودها في الشعر الجاهلي، ولا يكون سبباً للطعن في ذلك الشعر، لأن من الجاهليين من كان يؤمن بوجود إلهَ هو فوق الآلهة عندهم، فورود اسمه في شعرهم، ليس باًمر غريب.

وورود اسم الجلالة في أشعار الجاهليين يحملنا على البحث في أصله: هل هو اسلامي محدث، أو هو اسم جاهلي قديم ? وبحث مثل هذا يجب ان يستند إلى النصوص. غير اننا ويا للأسف لا نملك نصاً جاهلياً يمكن أن يفيدنا في هذا الباب، فكل النصوص الجاهلية التي وصلت إلينا خُرس لم تنطق بشىء عن اسم الجلالة، فليس أمامنا إلا اللجوء إلى الطريقة المألوفة في مثل هذه الأحوال، وهي الرجوع إلى آراء علماء اللغة، والى المقابلة بين العربية واللهجات السامية الأخرى. أما آراء علماء اللغة، فإنها مثل آرائهم الأخرى في أصول الكلمات الصعبة التي على شاكلتها، كلها حدس وتخمين. ولا يمكن أن بسُتنبط منها شيء تاريخي، يرجعك إلى أول عهد ظهرت فيه هذه اللفظة، والى المراد منها. وأما المستشرقون، فمنهم من يرى ان اللفظة عربية اصيلة، ومنهم من يرى انها من "الاها" Alaha ومعناها "الإلهَ" بلغة "بني إرم". أما الذين قالوا بعربيتها، فيرون انها من "اللات"، اسم الصنم المعروف، تحرف وتولد منه هذا الاسم.

واللفظة "الله" من أصل "إلاه"، أي "رب"، و "بعل"، وهي من الألفاظ السامية القديمة. ويقال "إلهة" "إلاهة" للانثى. لأن من الجاهليين من تعبد للالهة الأناث. وتقابل "ه - اله" "ها الاه" "ه الاه" في النصوص الثمودية، أي "اللَه"، كَما ترد هذه اللفظة في نصوص عربية أخرى مثل النصوص اللحيانية.

ويلاحظ ان لفظة "اللّه" هي من التسميات التي وردت في النصوص الشمالية، ويدل ورودها في هذه النصوص على تاًثر العرب الشماليين بمن اختلطوا بهم من الشعوب التي كانت تقيم في شمال جزيرة العرب، وأخذهم عبادة هذا الإلهَ منهم. ولم تكن هذه اللفظة اسم علم في الأصل، ثم تخصصت على مايظهر من النصوص المتأخرة، فصارت تدل على إلهَ معين ثم على إلهَ واحد أحد هو إلهَ الكون في الإسلام.

وبذكر علماء اللغة ان "لاه" الله الخلق يلوههم خلقهم، واللآهة الحية، منها سميّ الصنم اللات بها، وجوز "سيبويه" اشتقاق اسم الجلالة منها. قال الأعشى: كدعوة من أبي كبار  يسمعها لاهه الكبار 

ولاه: علا وارتفع. وسميت الشمس إلاهة لارتفاعها في السماء. وذكروا ان "ال" اسم الله، وكل اسم اخره ال أو ايل، فمضاف إلى اللّه، ومنه جبرائيل وميكائيل، فهو "ايل" اذن، إلهَ جميع الساميين القديم.

وتعداد المواضع التي وردت فيها لفظة الجلالة أو لفظة إله والإله في الشعر الجاهلي، يخرجنا عن صلب الموضوع، ويحعل البحث جافاً مملاً. غير أن في استطاعتنا أن نقول إنها وردت في أكثر ذلك الشعر إن لم نقل فيه كله. وأن ورودها فيه يشير الى اعتقاد أصحاب ذلك الشعر بإله واحد قهار هو إله العالمين.

غير أن هذا القول يتوقف، بالطبع على إثبات أن ذلك الشعر هو شعر جاهلي حقاً، وأن من نسب اليهم قالوه من غير شك، وأنه لم يوضع على ألسنة أولئك الجاهليين.

الاعتقاد بإله واحد

والذي يفهم - وذلك كما سبق أن قلت - من القرآن الكريم ومن الحديث أن قريشاً ومن كان على اتصال بهم، أو غيرهم من قبائل أخرى، لم يكونوا ينكرون عباده اللّه، ولم يكونوا يجحدون اللّه، بل كَانوا يقرون بوجوده، ويدينون له، وإنما الذي أنكره الإسلام عليهم وحاربهم من أجله وسفه أحلامهم عليه، هو تقربهم إلى الأصنام والأوثان، وتقديسهم لها تقديسأَ جعلها في حكم الشركاء والشفعاء ومرتبة الألوهية. والإسلام لا يعترف بهذه الأشياء، وهو ينكرها، ومن هنا حاربته قريش ومن كان على هذه العقيدة من حلفائها ومن القبائل إلتي كانت ترى رأيها. فهنا كان موطن الخلاف " لا عقيدة الإيمان باللّه. وإذا أخذنا بهذا الرأي، رأي اعتقاد الجاهليين أو بعضهم بإله واحد، نكون بذلك قد حللنا عقدة الازدواجية، أي العقيدة الثنائية عند الجاهليين ووجودها في شعرهم، فلا نجد عندئذ فى غرابة إذا وجدنا شاعرا يذكر الله في شعره ويحلف به، ثم نجده يذكر الأصنام في الشعر نفسه، ويقسم بها قسمه بالله.

ويكاد يكون الاجماع على ما تقدم. قال ابن قيم الجوزية في معرض مقارنته بين آراء المجوس وعبدة الأوثان من العرب: "بل كفر المجوس أغلظ. وعبّاد الأوثان كانوا يقرون بتوحيد ااربوبية، وأنه لا خالق إلا الله، وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى ولم يكونوا يقرون بصانعين للعالم أحدهما خالق للخير والاخر للشر كما تقوله المجوس ". فالوثنية على هذا الرأي، ليست نكراناً لوجود إلهَ، وإنما هي اعتقاد بوجوده، واعتقاد بفائدة التقرب اليه، بتقربهم إلى الأصنام والأوثان، أي الشفعاء، بمافي ذلك المبالغة في تقديس الأشخاص والقبور.

ولا نجد للعرب إلهاً قومياً خاصاً بهم كالذي نجده عند العبرانيين من تعلقهم ب "يهوه"، وعدهم اياه إلهاً خاصاً باسرائيل. فقد صار هذا الإلهَ إله جميع قبائل اسرائيل ويهوذا. أما العرب، فقد كانوا يعبدون جملة آلهة: كل قبيلة لها إلهَ خاص بها وآلهة أخرى، ولم يكن لها إلَه واحد له اسم واحد يعبده جميع العرب. والظاهر ان القبائل الساكنة في الحجاز ونجد والعراق والشأم، صارت قبيل الإسلام تتنكر لأصنامها العديدة، وتأخذ بالتوحيد وبالاعتقاد بإلهَ واحد هو اللّه، وهو الذي نجده في هذا الشعر الجاهلي الذي هو حاصل تغريد شعراء قبائل عديدة مما يدل على ان قبائل اولئك الشعراء دانوا بالاعتقاد بوجود ذلك الإلَه فوق الأصنام والأوثان، وقد توّ جت هذه العقيدة بتاج النصر في الإسلام. غير ان "الله" في الإسلام يختلف عن الله الجاهليين. فالله هو إلهَ العالمين، إلَه جميع البشر على اختلافهم. ليس له شريك من أصنام وأوثان.

أما الله الجاهليين، فهو رب الأرباب، وإلهَ الآلهة، يسمو فوق آلهة القبائل أي آلهة القبيلة الواحدة. ولهذا ذكر في شعر شعراء مختلف القبائل، لأنه لايختص بقبيلة واحدة.

ويقال لما يعبد من دون الله: الأنداد. وفي كتاب النبي لأكيدر: وخلع الأنداد والأصنام. والند: مثل الشيء والنظير " وفي التنزيل: واتخذوا من دون الله أنداداً، أي ما كانوا يتخذونه آلهة من دون الله.

والله إلَه ذكر. وكيف لا يتصور الإنسان إلهه ذكراً، والذكر هو قوي مقتدر بخلاف الأنثى ! وحيث أن الله هو قوي ومصدر القوة والخلق، فلا بد وأن يكون ذكواً في عقلية تلك الأيام، ولا بد من التعبير عنه بصيغ التذكير. كما يلاحظ أن الجاهليبن قد تصوروه واحداً، فلم يخاطبوه بصيغة الجمع، مما يفهم منه التعدد.

ولم يتطرق الشعر الجاهلي إلى موضوع وجود إلهة أي أنثى تكون زوجاً له. ولم يشر القرآن الكريم إلى اعتقاد الجاهليين بوجود زوجة له. فهو في نظرهم إذن إله واحد متفرد لا يشاركه مشارك في حياته. وإذ كان الله واحداً أحداً أعزبَ، فلا يمكن أن يكون له ولد. ولكن القرآن الكريم يشير إلى اعتقاد الجاهليين بنينُ و بنات لله. ففي سورة الانعام: )وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم، سبحانه وتعالى عما يصفون(. وقد ذهب المفسرون إلى ان العرب قالت الملائكة بنات الله، وقالت اليهود والنصارى عزبر والمسيح ابنا الله، وأن النصارى قالت المسيح ابن الله، وقال المشركون الملائكة بنات الله. وفي سورة النحل )ويجعلون للَه البنات سبحانه ولهم ما يشتهون"، وفي سورة الصافات )فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون(، )ألا إنهم من إفكهم ليقولون: ولد الله وانهم لكاذبون. اصطفى البنات على البنين. مالكم كيف تحكمون(، وفي سورة الزخرف )أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين( وفي سورة الطور )أم له البنات و لكم البنون(. وأجمعوا على أن قريشاً وأضرابهم كانوا يزعمون أن الله اصطفى الملائكة بناتاً له. ولم يذكروا كيف صاروا له بناتاً، وقد ورد في بعض الروايات أن كفار قريش قالوا: "الملائكة بنات الله. فسأل أبو بكر من أمهاتهن ? فقالوا: بنات سروات الجن". وورد في بعض أقوال علماء التفسير، ان "أعداء الله" زعموا: ان الله وابليس اخوان. ولم يذكروا من هم "أعداء الله" أهم من العرب أم من غيرهم !   

. ويظهر ان الذين آمنوا بوجود إلَه، تصوروا مكانه فوق الإنسان، اي فوق الأرض، في السماء. لذلك كانوا اذا توجهوا اليه بالدعاء رفعوا أيديهم إلى السماء. والسماء، المكان المرتفع اللائق بان يكون مقر الرب أو الأرباب. وهو اعتقاد نجده عند غير الجاهليين أيضاً، ومن هذه النظرة ظهر "بعل سمين" "بعل سمن"، أي "رب السماء" و "إلَه السماء" المذكور في بعض نصوص المسند، وهو إلَه قبيلة "امر" "أمر" من القبائل العربية الجنوبية. الإلَه المرسل للسحاب ومنزل الغيث وباعث الحركة والخصب والخير للناس. وقد تعبد له الصفويون كذلك، وذكر في نصوصهم. وعرف عندهم ب " ه - بعل سمن".

ولهذه النظرة اتخذ زهادهم لهم معابد خلوية على قمم الجبال وعلى الهضاب والمرتفعات وابتنوا الصروح للتعبد فيها ومناجاة الرب، واتخذوا من الكهوف المنقورة في الجبال مآوي يتعبدون فيها ويعتكفون الأيام والشهور والسنين. وكانوا اذا أمسكت السماء قطرها، وأرادوا الاستمطار، أصعدوا البقر في جبل وعر، وقد أضرموا النار في السلع والعشر المعقودين في أذنابها، وهم يتبعون آثارها، يدعون الله ويستسقونه. ولولا اعتقادهم ان الجبل أقرب إلى الله من الأرض، لما اتعبوا أنفسهم، فصعدوا الجبل المرتفع مع بقرهم، فكان أَستسقاءهم من الأرض.

الجبر والاختيار

هذا وأود ان ابين ان اكثر الذين كانوا يدينون يالتوحيد، ويعتقدون بوجود إلَه واحد خلاّق لهذا الكون، كانوا يؤمنون بما نسميه: "القضاء والقدر" أو "الجبر" بتعبير أصح. فالخير والشر من الله، وكل شيء في هذا الكون محتوم مكتوب، وما يصيب الإنسان، لا بد ان يكون قد كتب عليه، ولا راد لما هو مكتوب، بل نجد هذه النظرة حتى عند من لم يأت اسم الله في شعره، فلا ندري أكان من المؤمنين بالله ام لا. وفكرة ان كل شيء في هذا الكون مقدر محتوم، فكرة قديمهّ غلبت على عقلية الشرقيين، بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية التي كانت سائدة اذ ذاك، أوضاع جعلت الغالبية من الناس تشعر انها مسخرة، وانها تدفع في حياتها دفعاً وفي سبيل خدمة النخبة المتحكمة، المسيرة للامور، أضف إلى ذلك تأثير عامل الجو في الإنسان. وقضية الجبر والاختيار، قضية لا نجدها عند المؤمنين بوجود إلهَ هو "الله"، أو آلهة أخرى من الجاهليين فقط، بل نجدها عند غيرهم أيضاً ممن لم يكن يقر بعبادة "الله"، وينكر وجود خالق، نجدها عند ممن كان يتعبد للاصنام، أو للقوى الخفية، أو لا يدري أي شيء عن الآلهة والخلق، أو من الدهربة، القائلين بالدهر. فهؤلاء أيضاً كانوا يعتقدون أن الإنسان، مسير ولا اختيار له في هذه الدنيا، فكل شيء مكتوب عليه. كتب عليه منذ ولد. والسبب، هو ما قلته: وجود عوامل عديدة سيرت الإنسان واستعبدته من أوضاع سياسية واجتماعية وعسكرية واقتصادية ومناخية تحكمت فيه، حتى رسخ في عقل الجاهلي، أن كل شي في هذه الدنيا مقدر مكتوب، وأن ما كتب على الجبين، لا يمكن تغيره ولا تبديل له،ولا اعتراض على ما هو مكتوب، ولا راد لأمر كتب في السماء.

الموت

وفي مطلع قائمة الموضوعات التي أثارت البشريهَ ولا تزال تثيرها قضية الموت الذي هو ضد الحياة والعالم الثاني الذي يصير اليه الإنسان بعد الموت. إن الموت اْمر مخيف راعب يثير مشاعر كل انسان. فما الذي سيكون مصيره بعد الحياة، وإلى أي مكان سيتجه بعد هذه الحياة، وهل الموت انطفاء لشعلة الحياة وانحلال للجسد إلى الأبد ? أو هو مرحلة من حياة إلى حياة أخرى يحيا فيها الإنسان حياة جديدة، ويبعث بعثاً جديداً يبعثه من خلقه ? ثم ما الذي سيكون عليه في العالم الثاني ? هل يعيش عيشة راضية مطمئنة، عيشة تفوق معيشته في عالمه الأول ? أم سيعيش عيشة أخرى ? إما راضية ناعمة، وإما شقيّة تعسة بحسب عمل الإنسان وما قدمه لنفسه من عمل في العالم الأول ? هذه الأسئلة وعشرات من أمثالها شغلت بال الإنسان البدائي والراقي ولا تزال تشغله. كل وجد لها أجوبة، وكل قنع بما أجاب به عنها، ورضى بها. وكانت للجاهليين على اختلافهم آراء في هذه المشكلات لا شك في ذلك.

والموت في كلام العرب: السكون. يقال مات بمعنى سكن. وهذا هو المعنى المفهوم للموت عند الجاهليين. فالمراد من الموت هو سكون الجسد بعد مفارقة الروح له. وقد حار الجاهليون، كما حار غيرهم في تفسير ظاهرة الموت، وكيفية وقوع الموت وحدوثه. وقد اعتبره بعضهم حدثاً طبيعياً، يحدث للانسان كما يحدث لاْي شيء آخر في هذا الكون من التعرض للهلاك والدمار.واعتبره بعض آخر، مفارقة الروح للجسد. وهم الذين أعتقدوا بالثنائية وبالازدواجية في حياة الإنسان، أي بوجود جسد وروح. واعتبره آخرون موت للنفس، وبوفاة النفس يتوفى الجسد ويصيبه السكون. فالموت عندهم مفارقة الروح للجسد، فإذا مات الإنسان خرجت روحه من أنفه، أو من فمه، فينفض الإنسان نفَسًه. واذا مات ميتة طبيعية، يقال عن الميت: مات حتف أنفه، ومات حتف فيه، أي ان روحه خرجت من أنفه أو من فمه، وهو قليل، لأن النفس في نظر اهل الجاهلية تخرج بتنفسه، كما يتنفس من أنفه. ويقال أيضأَ حتف أنفيه.

وكانوا يعتقدون أن المريض تخرج روحه من أنفه، وأما القتيل، والجريح، فتخرج روحه من موضع جرحه.

ويقال: "زهقت نفس فلان"، اي خرجت روحه. فهم يتصورون اذن ان روح الإنسان كائن مستقل اذا فارق الجسد مات. "وفي الحديث: إن النحر في الحلق واللّبة، وأقروا الأنفس حتى تزهق، اي حتى تخرج الروح من الذبيحة ولا يبقى فيها حركة.

و "الرمق" بقيه الحياة، أو بقية الروح، وآخر النفس. فكَأنهم تصوروا ان الشخص المريض أو الجريح،.قد ودع معظم نفسه، ولم تبق كل من روحه إلا بقية لا تزال في جسده، هي الرمق.

البعث

لم يكن كثير من الجاهليين يؤمنون بالبعث كما يتبين ذلك من القرآن الكريم. لقد كانوا يرون أن الموت نهاية، وانهم غير مبعوثين، وأن البعث بعد الموت شيء غير معقول، لذا تعجبوا من قول النبي بوجود البعث والحساب. )وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين(، )وأقسموا بالله جهد ايمانهم لا يبعث اللّه من يموت، بلي وعداً عليه حقاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون(، )وقالوا اذا كناّ عظاماً ورفاناً إنّا لمبعوثون خلقاً جديداً. قل: كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم، فسيقولون: من يعيدنا ? قل:الذي فطركم أول مرة: فسينفضون اليك رؤوسهم، ويقولون: متى هو ? قل: عسى أن يكون قريباً (. و )زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا، قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير(، و ) إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب(، و ) لئن قلت إنكم مبعوثون بعد الموت، ليقولن الذين كفروا إن هذا الا سحر مبين(، و ) بل قالوا مثل ما قال الأولون. قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون (، و )ان تعجب فعجب قولهم: أ إذا كنّا تراباً أإنا لفي خلق جديد(، و ) ايعدكم انكم اذا متم وكنتم تراباً وعظاماً إنكم مخرجون. هيهات هيهات لما توعدون. ان هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين(. و )قال الذين كفروا أاذا كنّا تراباً وآباؤنا أانا لمخرجون، لقد وعدنا هذا، نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين. قل: سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين. ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون. ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون (، و ) وقالوا: أاذا ضللنا في الأرض أانا لفي خلق جديد، بل هم بلقاء ربهم كافرون. قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم، ثمّ إلى ربكم ترجعون(ا. و)إن هؤلاء ليقولون: إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين. فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين(. والايات المتقدمة وأمثالها كلها حكاية عن رأي كثير من الجاهليين في نفي البعث وفي عدم امكان العودة إلى حياة أخرى بعد موت يهلك الجسم ويفني العظام فيجعلها رميماً وبمحو كل أثر للجسم، لذا كان البعث من أهم ما عارض فيه الجاهليون معارضة قاسية شديدة، وكان من الموضوعات التي تندروا بها وسخروا وآخذوا عليها الرسول. وكانوا يقولون: "إِن هي إلا موتتنا الأولى التي نموتها. وهي الموتة الأولى، وما نحن بمنشربن بعد مماتنا ولا بمبعوثن تكذيباً منهم بالبعث والثواب والعقاب". وقالوا للرسول: "فأتوا بآبائنا الذين قد ماتوا ان كنتم صادقين ان اللّه باعثنا من بعد بلانا في قبورنا،ومحيينا من بعد مماتنا"، وقالوا: ""ذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون ? يقولون منكرين بعث الله اياهم بعد بلائهم. أئنا لمبعوثون احياء من قبورنا بعد مماتنا ومصيرنا تراباً وعظاماً قد ذهب عنها اللحوم. أو آباؤنا الاّولون الذين مضوا من قبلنا فبادوا وهلكوا ?".

وكان من محاججة قريش للرسول ومحاولتهم إفحامه وتعجيزه قولهم له يوم اجتمعوا به: "يا محمد ? فإن كنت غير قابل منا شيئ مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت انه ليس من الناس احد أضيق بلداً ولا اقل ماءً ولا أشد عيشاً منا. فسل لنا ريك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليفجر لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق. وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول، أحق هو ام باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وانه بعثك رسولاً كما تقول ". وسألوه أسئلة اخرى من هذا القبيل، لتعجيزه في اثبات البعث. "جاء عبد الله بن أبيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بعظم حائل فكسره بيده، ثم قال: يا محمد، كيف يبعث الله هذا وهو رميم ? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبعث الله هذا ويميتك ثم يدخلك جهنم"ا. وأتى "أبيّ بن خلف" رسول الله "بعظم حائل ففته ثم ذراه في الريح، ثم قال: يا محمد من يحيي هذا وهو رميم ? قال الله يحييه ثم يميته، ثم يدخلك النار ". و "جاء العاص ابن وائل السهمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعظم حائل ففته بين يديه. فقال يا محمد أيبعث الله هذا حياً بعدما أرم ? قال: نعم يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم ".

وممن أنكر البعث على ما ذكره الأخباريون قوم من قريش كانوا زنادقة أنكروا الآخرة والربوبية، أخذوا زندقنهم هذه من الحيرة. وإذا كان من هؤلاء من كان يقدم القرابين والهدايا لأصنامه، فإن ذلك لا يعني أنه كان يفعل ذلك لترضى عنه في العالم التالي، بل كان يفعل ذلك لترضى عنه في هذه الحياة الدنيا، لتمن عليه بالنعم والخيرات. أما العالم الثاني، فهو عالم لا يهتم به، لأنه لم يكن يتصور وجوده ولا حدوثه بعد الموت.

ويتجلى هذا الانكار للحشر والبعث في أبيات. تنسب إلى "شدّاد بن الأسود ابن عبد شمس بن مالك" يرثي بها قتلى قريش يوم بدر، وهم الذين قتلوا في تلك المعركة وألقوا في القليب: أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا  وكيف حياة أصداء وهام

أيعجز أن يرد الموت عني  وينشرني إذا بليت عظامي

أراد الشاعر إنكار البعث،وأن يصير الإنسان مرة أخرى انساناٌ بعد أن تتحول روح الإنسان إلى طير.

وذكر ان "الحارث بن عبد العزى" ابو رسول الله من الرضاعة، لما قدم مكة، قالت له قريش:" ألا تسمع يا حار ما يقول ابنك هذا ? فقال: وما يقول: قالوا: يزعم ان الله يبعث بعد الموت، وان لله دارين يعذب فيها من عصاه، ويكرم فيها من أطاعه. فقد شتت أمرنا وفرّق جماعتنا"ا.

فهم ينكرون البعث والحساب، ولا يريدون سماع شيء عنهما، ولا يصدقون عودة الروح إلى الجسد بعد أن فارقته، فذلك عندهم من المستحيلات، ولذلك سخروا من البعث لما سمعوا به. وكيف يكون. بعثاً وقد فنت الأجساد، فلم تبق منها بقية! فرأي من أنكر الحشر والبعث من أهل الجاهلية، ان الحياة حياة واحدة، هي حياتنا التي نحن فيها في دار الدنيا، ولا يكون بعد الموت بعث ولاحساب، نحيا ونموت، يموت بعضنا ويحيا بعضنا، وما يميتنا إلا الأيام والليالي، اي مرور الزمان وطول العمر. فالحياة اذن حياة وموت في هذه الدنيا، وهي استمرار للاثنين على مدى الدهر، يولد انسان ثم يموت ليحل محله انسان آخر، وهكذا بلا انتهاء.

ونجد رأي الناكرين للبعث في قوله تعالى: ) وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا، وما يهلكنا الا الدهر (. فهم يقولون: ما هي الا حياتنا الدنيا، نموت نحن ويحيا أبناؤنا بعدنا، فجعلوا حياة ابنائهم بعدهم حياة لهم، لأنهم منهم وبعضهم، فكأنهم بحياتهم أحياء. والدهر الزمان، وهو الذي يهلك ويفنى. فالحياة بهذا المعنى، فعل مستمر، وتطور لا ينتهي، يهلك جيل، ليأخذ محله الجيل الذي نبت منه. وكلّ يأخذ دوره في هذه الحياة، فإذا انتهى دور انسان، قام بدوره نسله، وهكذا، وبهذا المعنى تفسر الحياة، ويفسر الموت.

وقد يسأل سائل اذا كان أغلب أهل الجاهلية لا يؤمنون بثواب ولا بحساب وبعث ونشر، فلمَ تعبّدوا اذن لإلهَ، وتقرّبوا إلى الأصنام، وقدّ موا القرابين والنذور ? وجوابي على هذا السؤال، هو ما ذكره المتقدمون عنه. قالوا:   

"كانت العرب في الجاهلية تدعو في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدوّ، ولا يطلبون الآخرة، اذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها ". فعبادتهم الله وتقربهم إلى الآلهة، هي لمصلحة دنيوية، لنفع ولزيادة في مال، ولدفع شر الأذى والأمراض وعيون الحساد، ومن كل ما هو شر، أما الاخرة، فلا علم لهم بها.

وما خوفهم من الآلهة إلا لاعتقادهم أنها تضرهم وتهلكهم وتنزل بهم الشرّ في هذه الدنيا. فإذا أقسم أحدهم كذباً، انتقمت الآلهه منه وأنزلت به نازلة، لذلك تجنبوا الايمان الكاذبة، وامتنعوا من الحلف جهد إمكانهم، لخوفهم من عاقبة الحلف الكذب. والعاقبة السيئة تكون في هذه الدنيا. وهي عواقب مادية، لأن عقلية اكثر اهل الجاهلية لا تدرك إلا القيم المادية للاشياء. فتصوروا العاقبة السيئة تصورا مادياً، كنزول مرض بإنسان أو نزول كارثة بماله أو بإبله أو بزرعه أو بأهله، وهي أمور يخشاها الجاهلي، تكون معجلة في نظره، اي في هذه الدنيا. لأنهم لا يعرفون أن في الحياة داراً غير هذه الدار، ولا يؤمنون بحشر وبعث.

جاء في الأخبار ان "ضمام بن ثعلبة" السعدي، ويقال التميمي، لما قدم على الرسول، اقبل حتى وقف على رسول الله، وهو في اصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب ? فقال رسول الله.: انا ابن عبد المطلب، قال: أمحمد? قال: نعم. قال: يا ابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسئلة فلا تجدنّ في نفسك. قال: لا اجد في نفسي. سل عما بدا لك. قال انشدك باللهِ إلهك وإلهَ من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك الله امرك ان نعبده وحده لا نشرك به شيئاً، وان نخلع هذه الأوثان التي كان آباؤنا يعبدون معه ? قال: اللهم نعم. ثم سأله عن الفرائض، فاسلم. فلما قدم على قومه، فاجتمعوا اليه، "فكان أول ما تكلم به، ان قال: بئست اللات والعزى، قالوا: مه يا ضمام اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون. قال: ويلكم انهما والله ما يضران وما ينفعان". فالعقاب عقاب مادي في هذه الدنيا، ترسله الالهة على الإنسان.

غير ان فريقاً من الجاهليين كما يقول أهل الأخبار كان يؤمن بالبعث وبالحشر بالأجساد بعد الموت، ويستشهدون على ذلك ب "العقيرة" وتسمى "البلية" أيضاً. والبلية الناقة التي كانت تعقل عند قبر صاحبها اذا مات حتى تموت جوعاً وعطشاً. ويقولون انه يحشر راكباً عليها، ومن لم يفعل معه هذا حشر راجلاً. وهذا مذهب من كان يقول منهم بالبعث، وهم الأقل. ومنهم زهير فإنه قال: يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر  ليوم حساب أو يعجل فينـقـم

ويذكر أيضاً انهم كانوا يعكسون رأس الناقة أو الجمل أيَ يشدونه إلى خلف بعد عقر احدى القوائم أو كلها لكيلا تهرب، ثم يترك الحيوان لا يعلف ولا يسقى حتى يموت عطشاً وجوعاً،ذلك لأنهم كانوا يرون ان الناس يحشرون ركباناً على البلايا ومشاةً اذا لم تعكس مطاياهم عند قبورهم،وفي هذا المعنى قال الشاعر في البلية: والبلايا رؤوسها في الولايا  مانحات السموم حر الخدود 

والولايا هي البراذع، وكانوا يثقبون للبرذعة فيجعلونها في عنق البلية وهي معقولة. وأوصى رجل ابنه عند الموت بهذه الوصية: يا سعدُ اما أهلـكـن فـإنـنـي  أوصيك إن أخا للوصاة الأقرب 

لا تتركن أباك يمشي خلـفـهـم  تعباً يخرّ على اليدين وينـكـب

احمل أباك على بعير صـالـح  وابقّ الخطيئة إنه هو أصـوب

ولعلّ مالي ما تركـت مـطـيّة  في اليم أركبها إذا قيل اركبـوا

وذكر أنهم كانوا يحفرون البلية حفرة وتشد رأسها إلى خلفها وتبلى، أي تترك هناك لا تعلف ولأ تسقى حتى تموت جوعأَ وعطشاً. وكانت النساء، يقمن حول راحلة الميت فينحن إذا مات أو قتل، وقد عرفن ب "مُبَكيّات ".

وفي رواية أن بعض المشركين كان يضرب راحلة الميت بالنار وهي حية حتى تموت، يعتقدون أنهم إنما يفعلون ذلك، ليستفيد منها الميت بعد الحشر.

وإذا كانت عقيدة الجاهليين فُي عقر الحيوانات المسكينة وإهلاكها قد ماتت وزالت، بسبب تحريم الإسلام لها، فإن فكرة حشر الناس ركباناً لا تزال باقية حية عند بعض الناس. فالذبن يقدمون "العقيقة" في الحياة أو يقدمونها حين الوفاة ومع نقل الجنازة أو على القبر، يختارون أحسن الحيوانات وأقواها لتتمكن من حملهم يوم الحشر، وتنهض بهم، فيسير راكباً، ولا يحشر وهو مترجل يسير في تلك الساعات الرهيبة ماشيأَ على قدميه.

ويقال للموت وللحساب "اللزام ".

ولا أعتقد أن نحر الإبل على القبر وتبليله بدم الإبل المذبوحة، مجرد عادة يراد بها إظهار تقدير أهل الميت له، أو تمثيل كرم الراحل حتى بعد وفاته، بل لا بد أن يكون هذا النحر من الشعائر الدينية والعقائد الجاهلية التي لها علاقة بالموت وباعتقادهم أن موت الإنسان لا يمثل فناءً تاماً وإنما هو انتقال من حال إلى حال.

وذكر "السكري"، أن أكثر العرب كانوا يؤمنون بالبعث. واستشهد على ذلك بشعر للأعشى، ذكر فيه الحساب. كما ذكر أنهم كانوا يؤمنون بالحساب، واستشهد على رأيه هذا بشعر للأخنس بن شهاب التميمي. وقول "السكري" هذا مردود،بما ورد في القرآن الكريم من إنكار أغلبهم للحساب والبعث والكتاب، واما الذين قالوا بالبعث، فهم طائفة لا تصل إلى مستوى الكثرة أو الكلّ حتى نستعمل صيغة التعميم.

وإذا كان ما تصور أهل الجاهلية عن البعث والحشر صحيحاً على نحو ما ذكره أهل الأخبار، فلا يستبعد أن يكون القائلون به أو بعضهم قد تصوروا الحساب على نحو ما يحاسب الإنسان على عمله في دنياه. ويلاحظ أن القيامة والبعث والحشر والجنة والنار هي من الكلمات العربية التي لا يستبعد أن يكون لها مفهوم قريب من مفهومها الإسلامي عند الجاهلين.

أما كيف تصور أولئك الجاهليون حدوث البعث والحشر،هل هو قصاص وثواب وعقاب وحساب وجنةّ ونار، أو هو بعث وحشر لا غير، فأهل الأخبار لم يأتوا عنه بجواب، ولم يذكروا رأي تلك الفئة المقرة بالبعث والحشر في ذلك. ولهذا فليس في استطاعتنا إعطاء صورة واضحة عن الحشر وعما يحدث بعده من تطورات وأمور.

ولم تتحدث الكتابات الجاهلية عما سيحدث للانسان بعد موته. وكل ما ورد فيها هو توسل إلى الآلهة بأن تنزل غضبهأ على كل من يحاول تغيير قبر، أو ازالة معالمه، أو دفن ميت غريب فيه، وان تنزل به الأمراض والآفات والهلاك. ولم تذكر تلك النصوص السبب الذي حمل أهل القبور على التشدد في المحافظة على القبر وعلى ضرورة بقائه ودوامه. فلا ندري اذا كان ذلك عن تفكير بوجود بعث، وبتصور قيام الميت من قبره مرة أخرى، ورجوعه ثانية إلى الحياة، أو إلى عالم ثان، هو عالم ما بعد الموت، ولهذا حرصوا حرصاً شديداً على عدم السماح بدفن أحًد في قبر، إلا اذا كان من أهل صاحب القبر ومن ذوي رحمه، حتى لا يتأذى الميت من وجود الغرباء: وليستأنس بأهله وبذوي قرابته مرة أخرى بعد عودة الحياة اليه، فيرى نفسه محشوراً معهم، ومع من أحبه في حياته،عائشاً معهم، كما كان قد عاش معهم، أو ان حرصهم عاى حرمة القبر، إنما كان عن مراعاتهم لحرمة القبر، وعلى منزلة الموتى، فالمس بحرمة القبر، مسّ بحرمة الميت، وانتهاك لمقامه ولمكانته، ولما كان عليه في هذه الحياة ! وهناك من كان يعتقد ان الميت وان غيب في قبره وانقطعت علاقته بآله وذويه، الا ان روحه لن تموت، وانه يظل وهو في قبره يقظاً، متتبعاً لأخبار أهله. تخبره بها هامته التي تكون عند ولد الميت في محلته بفنائهم، لتعلم ما يكون بعده فتخبره به، حتى قال الصلت بن أمية لبنيه: هامي تخّبرني بما تستشعروا  فتجنبوا الشنعاء والمكروها

واما ما ورد في الشعر الجاهلي من أمر الحشر والنشر والحساب والكتاب والعالم الثاني، فهو مما ورد ودوّن في الإسلام، ولم أجد في رواية من روايات أهل الأخبار ان أحداً من رواة الشعر الجاهلي، ذكر انه نقل ما نقل من هذا الشعر من ديوان جاهلي، أو من كتاب كتب قبل الإسلام. ومع ذلك، فإن هذا المروي عن العالم الثاني قليل، لذلك لا نتمكن لقلته من تكوين صورة واضحة عن ذلك العالم ومن التحدث بطلاقة عن رأي أصحاب هذا الشعر في الحشروالنشر والبعث.

وأما ما ورد في شعر "أمية بن أبي الصلت" عن الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، فهو أوسع ما ورد في الشعر الجاهلي في هذا الموضوع. وأمية، هو الشاعر الجاهلي الوحيد الذي جاء أكثر شعره في نزعات دينية وفكرية، ذلك لأنه كان في شك من عبادة قومه، وكان على شاكلة غيره ممن سئم تلك العبادة، ينهى قومه عنها، ويسفه أحلامها، وقد تاًثر باليهودية وبالنصرانية، وفي شعره اعتقاد بالجنة والنار والبعث. وبصحة المعاد الجسماني، وبوجود الجنة والنار بالمعنى الحقيقي، لا المجازي، وهو يتفق في ذلك مع الإسلام، كما تحدثت عن ذلك في الفصل الخاص بالأحناف.

وكان "الأعشى" ممن يؤمن بالله وبالحساب، وقد استشهد من قال ذلك عنه بأبيات شعر تشعر أنه كان يؤمن بالحساب وبقيام الإنسان بعد الموت لمحاسبته على عمله. من ذلك قوله: يراوح من صلوات المليلـك  طوراً سُجوداً وطوراً جُوَارا 

بأعظم منك تُقى في الحساب  إذا النسمات نفضن الغبـارا

وكان "زهير بن أبي سلمى" على مذهب من كان منهم يقول بالبعث، وهم الأقل قال: يؤخر فـيوضـع فـي كـتـاب  فيدخر ليوم الحساب أن يعجل فينقم 

وكان "حاتم" طيء من المتألهين، ومن المعتقدين بالحساب. وقد أورد أهل الأخبار له شعراً في ذلك.

البلية والحشر

ولم يذكر أهل الأخبار كيف تصور القائلون بالقيامة وبالحشر من أهل الجاهلية قيام الموتى ومشيهم إلى المحشر: فقد ذكروا ان قوماً من الجاهليين كانوا اذا مات احدهم عقلوا ناقة على قبره وتركوها حتى تبلى، وتسمى لذلك "البلية". وقالوا: "البلية كغنيّة الناقة التي يموت ربها، فتشد عند قبره، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت جوعاً وعطشاً أويحفر لها وتترك فيها إلى ان تموت، لأنهم كانوا يقولون صاحبها يحشر عليها، و "كانوا يزعمون ان الناس يحشرون ركبانأَ على البلايا ومشاة اذا لم تعكس مطاياهم غد قبورهم". وذكر انهم "كانوا في الجاهلية يعقرون عند القبر بقرة أو ناقة أو شاة، ويسمون العقيرة البلية"، "وفي فعلهم هذا دليل على انهم كانوا يرون فيِ الجاهلية البعث والحشر بالأجساد. وهم الأقل. ومنهم زهير". وفي هذا المعنى يقول جريبة بن أشيم: يا سعدُ إما اهلكـنّ فـإنـنـي  أوصيك أن أخا الوصاة الأقربُ 

لا أعرفن أباك محشر خلفكـم  تعباً يخرّ على اليدين وينكـب

واحمل أباك على بعير صالـح  وتقى الخطيئة انه هو أصوب

ولقل لي مما جمعت مـطـيّة  في الحشرأركبها اذاقيل:اركبوا

ومن ذلك قول عمرو بن زيد المتمني يوصي ابنه عند موته في البلية: أبني زوّدني اذا فارقتـنـي  في القبر راحلةً برحل فاتر

للبعث أركبها اذا قيل: اظعنوا  مستوثقين معأَ لحشر الحاشر

من لا يوافيه على عثـراتـه  فالخلق بين مدقع أو عاثـر

وقال عويمر النبهاني: أبني لا تنسَ البليةّ إنـهـا  لأبيك يوم نشوره مركوب 

وأوصى رجل ابنه عند الموت بهذا: لا تتركنّ أباك يحشـر مـرة  عدواً يخر على اليدين وينكب 

وطريقتهم في ذلك أن أحدهم اذا مات، بلوا ناقته، فعكسوا عنقها إلى مؤخرتها مما يلي ظهرها، أو مما يليما كلكلها أو بطنها، ويأخذون ولية فيشدون وسطها، ويقلدونها عنق الناقة، ويتركون الناقة في حفيرة لا تطعم ولا تسقى حتى تموت، وربما أحرقت بعد موتها، وربما سلخت وملىء جلدها ثماماً.

قال شاعر في البليّة: والبلايا رؤوسها في الـولايا  ما نحات السموم حر الخدود 

والولايا هي البراذع. وكانوا يثقبون البرذعة، فيجعلونها في عنق البليّة وهي معقولة حتى تموت.

أما كلمة "جهنم"، فيرى العلماء انها من الكلمات المعربة. ويظن المستشرقون أنها من أصل عبراني. ومن أسماء جهنم على رأي علماء اللغة "الهاوية". و" أم الهاوية ".

الفصل الخامس والستون
الروح والنفس والقول بالدهر

ويحملنا قول بعض الجاهليين بوجود البعث، ويالصدى وألهامة، على التحرش بموضوع الروح وماهيتها عندأهل الجاهلية، وعن كيفية تصورهم لها. وقد سأل اهل مكة الرسول عن ماهية الروح، فنزلت الآية: )ويساًلونك عن الروح، قلِ: الروحُ من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم الاّ قليلاً ". ويذكر المفسرون أن اليهود حرضوهم على توجيه هذا السؤال إلى الرسول، امتحاناً واحراجاً له. وفي سؤالهم له عن الروح معنى اهتمام القوم بالموضوع، ومحاولة إثارة مشكلة للرسول كانت مهمة في أعين الناس يومئذ، مما يدل على أهمية هذه القضية في ذلك العهد. وورد ان يهود يثرب هم الذين سألوه عن أمر الروح ما هي ? وكيف تعذب الروح التي في الجسد ? فنزل الوحي عليه بالأية المذكورة.

و "الروح" في تعريف علماء اللغة ما به حياة الأنفس، والذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة. وذهب بعضهم إلى ان الروح والنفس واحد، غير ان الروح مذكر والنفس مؤنثة. وقال بعض آخر الروح هو الذي به الحياة، والنفس هي التي بها العقل، فإذا نام النائم قبضت نفسه، ولم يقبض روحه، ولا يقبض الروح إلى عند الموت. وذكر بعض العلماء: لكل انسان نفسان: احداهما نفس التمييز، وهي التي تفارقه اذا نام، فلا يعقل بها، والأخرى نفس الحياة، واذا زالت زال معها النفّس، والنائم يتنفس. وقد يراد بالنفس الدم، وفي الحديث: ما ليس له نفس سائلة، فإنه لا ينجس الماء اذا مات فيه. فعبر عن الدم بالنفس السائلة، وكما ورد في قؤل السموأل: تسيل على حد الظبات نفوسنـا  وليست على غير الظبات تسيل 

وانما سمي الدم نفساً لأن النفس تخرج بخروجه.

وقد يعبر بها عن الإنسان جميعه، وعن الجسد. وهناك كلمة أخرى ترد في معنى " الروح"، هي "النسيم". و "النسم" نفس الروح كالنسمة، يقال ما بها نسمة، أي نفس، وما بها ذو نسيم، اي ذو روح. والنسم نفس الريح اذا كان ضعيفاً كالنسيم. وقد ربطوا بين النسيم والروح، لما كان قد علق في أذهانهم اذ ذاك من ان الروح نوع من انواع النسيم، وهو النفس الذي يتنفسه الإنسان، ومن ان النفس من النسم كذلك، وان بين التنفس والنفس صلة، والتنفس يكون بالنسيم. ولهذا قالوا لمن يموت موتاً طبيعياً: "مات حتف أنفه"، و "مات حتف فيه"، والحتف الموت، لإن نفسه يخرج بتنفسه من أنفه أو فيه. ولأنهما نهاية الرمق، ومنهما يكون التنفس.

ويظهر من دراسة معاني الكلمات المذكورة، أن لفظة "نفس" هي بمعنى الإنسان والجسد في الشعر الجاهلي القديم، أما "الروح"، فبمعنى النفس، أي التنفس واستنشاق الهواء والريح. وتقابل لفظة "نفس" لفظة "نيفش" Nephesh في العبرانية، وتطلق على نفس كل كائن حي، من إنسان أو حيوان، وبهذا المعنى وردت في العهد القديم. وتقابل لفظة Soul في الانكليزية و Seele في الألمانية. وقد استعملت لفظة" Psyche " اليونانية بمعنى نفس في العهد الجديد. ومن هذه اللفظة اليونانية أخذ العلماء مصطلحهم Psychology Psychologia،أي علم النفس، ثم مصطلحات العلوم الأخرى المتعلقة بموضوع النفس. وهي في الوقت الحاضر علوم عديدة.

أما لفظة "الروح"، فتقابل كلمة "روح" Ruach في العبرانية.، ولفظة Spirit في الانكليزية، و Geist في الألمانية. وتكون في مقابل النفس في علم النفس، وتقابل لفظة Pneuma في اليونانية، ومعناها الهواء والريح والنفس.

ونجد بين المعان التي ذكرها علماء العربية للالفاظ المذكورة، وهي: النفس، والريح، والهواء،.والنسيم، وبين المعاني الواردة في اللغات الأعجمية عنها شبهاً. كبيراً، يرجع إلى وجهة نظر الإنسان في تفسير مظاهر الحياة، وشعوره بوجود شيء في نفسه خارج عن حدود المادة، أي عن الجسم أو الجسد، لا يمكن أن يمسكه ولا أن يلمسه، فسماه "نفساً" تارة وسماه "روحاً" تارة أخرى، وفرق بين الاثنين تارة ثالثة. وقدّ تصور أن النفس والروح، شيئان لهما علاقة بالحياة. فنسب الحياة اليهما أو إلى أحدهما. ونظراً إلى أنهما غير محسوسين، ولا يمكن الامساك بهما أو لمسهما، تصورهما الإنسان تصوراً يختلف باختلاف درجة مداركه ومقدار ثقافته ودرجة ما توصل اليه من علم في ذلك الوقت.

وقد تصور اليونان النفس، على انها هواء ونسيم، وتصوروها على هيأة طائر صغير في شكل الإنسان، أو على شكل طيير، أو فراشة. وهو تصور عرف عند غيرهم ايضاَ، بل يكاد يكون الغالب على الناس. ولا زال الناس يصورون الروح على هيأة طائر، يسبح في الفضاء، فإذا مات الإنسان صعدت روحه إلى خالقها، أو إلى السماء. فالأرواح طيور تكون في الإنسان، اذا انفصلت عن الجسد مات، واخذت هي تطير مرفرفة. في الأعالي، وبهذا الرأي أخذ بعض الجاهليين تفسير النفس. تصوروا "النفس طائراً ينبسط في الجسم، فإذا مات الإنسان أو قتل لم يزل يطيف به مستوحشأً يصدح على قبره". "وكانوا يزعمون ان هذا الطائر يكون صغيراً، ثم يكبر حتى يكون كضرب من البوم، وهو أبدأ مستوحش،ويوجد في الديار المعطلة ومصارع القتلى والقبور، وانها - أي النفس - لم تزل عند ولد الميت ومخلفه لتعلم ما يكون من بعده فتخبره". وزعموا انه أذا قتل قتيل، فلم يدرك به الثار خرج من رأسه طائر كالبومة، وهي الهامة، والذكر الصدى، فيصيح على قبره اسقوني اسقوني، فإن قتل قاتله كفّ عن صياحه. وكان بعضهم يقول ان عظام الموتى تصير هامة وتطير. وذكر ان الصدى حشو الرأس، ويقال لها الهامة أيضاً، أو الدماغ نفسه.

وكان من زعم بعض الجاهليين، ان الإنسان اذا مات أو قتل اجتمع دم الدماغ أو أجزاء منه، فانتصب طيراً هامة، ترجع إلى رأس القبر كل مئة سنة.ويرجع هذا الرأي إلى عقيدة قديمة تعتبر الدم مقراً للنفس، بل تجعل الدم في معنى النفس، والنفس في معنى الدم، وذلك للصلة الوثيقة الكائنة بين الدم والنفس، ولأن الإنسان اذا قتل سال دمه، فتخرج روحه بخروج الدم من الجسم، أي خروج النفس من الدم، بعد ان كانت كامنة فيه. وبمثل هذا الرأي رأي العبرانيين ايضاً في النفس وفي صلتها بالدم، ورأي غيرهم من الشعوب.

وكان اعتقادهم أن مقر الدم ومركز تجمعه في الدماغ، ومن هنا قيل: بنات الهام: مخ الدماغ، فلا غرابة إذا تصوروا ان الروح تنتصب فيه، فتكون هامة تخرج من الرأس، وتطير. ويكون خروجها من الأنف أو الفم، لأن النفس يكون منهما. فتتجمع الأرواح حول القبور، ويكون في وسعها مراقبة أهل الميت وأصدقائه ونقل أخبارهم اليه. ولهذا السبب، تصوروا المقابر مجتمع الأرواح، تطير فيها مرفرفة حول القبور. والى هذه العقيدة أشير في شعر أبي دُواد: سلّط الموت والمنون عليهم  فلهم في صدى المقابر هام 

وكذلك في شعر للشاعر لبيد: فليس الناس بعدك في نفيرٍ  وليسوا غير أصداء وهام

ولهذا سموا الدماغ "الطائر" لأنهم تصوروه على صورة طير. قال الشاعر: همُ أنشبوا صم القنا في نحـورهـم  وبيضا ًتقيض البيض من حيث طائر 

عنى بالطائر الدماغ. وعبر عنه للسبب المذكور ب "الفرخ" وورد ان "الصدى" ما يبقى من الميت في قبره، وهو جثته، وقيل: حشوة الرأس، أي دماغ الإنسان الهامة والصَّد ىَ. وكانت العرب تقول إن عظام الموتى تصير هامة فتطير. وقال بعض الأخباريين: إن العرب تسمي ذلك الطائر الذي يخرج من هامة الميت اذا بلي، الصدى.

وقد نهى الإسلام عن الاعتقاد بالصدى والهامة. ورد في الحديث: "لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر ".

وذكر بعض العلماء ان المراد من "صفر" في الحديث النبوي المذكور دابة يقال إنها أعدى من الجرب عند العرب.، فأبطل النبيّ أنها تعدي. وقال بعض آخر أراد به النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو تأخيرهم المحرم إلى صفر في تحريمه وجعل صفر هو الشهر الحرام، فأبطله الرسول.

وقد لخص " المسعودي" آراء أهل الجاهلية في النفس والروح، فقال:   

"كانت للعرب مذاهب في الجاهلية في النفوس، آراء ينازعون في كيفياتها، فمنهم من زعم ان النفس هي الدم لا غير، وان الروح الهواء الذي في باطن جسم المرء منه نفسه، ولذلك سموا المرأة منه نفساء، لما يخرج منها من الدم، ومن أجل ذلك تنازع فقهاء الأمصار فيما له نفسً سائلة اذا سقط في الماء: هل ينجسه ام لا ? قال تأبط شراً لخاله الشنفري الاكبر وقد سأله عن قتيل قتله، كيف كانت قصته ? فقال: ألجمته عضباً، فسالت نفسه سكباً. وقالوا ان الميت لا ينبعث منه الدم، ولا يوجد فيه، بدأ في حال الحياة، وطبيعته طبيعة الحياة والنماء مع الحرارة والرطوبة، لأن كل حي فيه حرارة ورطوبة، فإذا مات بقي اليبس والبرد، ونفيت الحرارة".

ثم تطرق "المسعودي" إلى رأي من قال ان النفس طائر ينبسط في جسم الإنسان، فإذا مات أو قتل لم يزل مطيفاً به متصوراً اليه في صورة طائر يصرخ على قبره مستوحشا، يسمونه الهام، والواحدة هامة.

ونظراً إلى قلة ما لدينا من موارد عن الروح والنفس وعلاقتهما بالجسد، عند الجاهلين، فإننا لسنا في وضع نستطبع فيه ان نتحدث عن رأي عموم الجاهليين في تركيب الإنسان. هل هو من "جسد" و "روح"، أو "جسد" و "نفسا أي ثنائي التركيب، أو انه من "جسد" و "روح" و "نفس"، أي ثلاثي التركيب. فقد رأينا انهم يجعلون الروح والجسد شيئاً واحداً أحياناً، ويفرقون بينهما أحياناً اخرى. ولكننا نستطيع ان نقول ان غالبيتهم كانت ترى ان الانسلن من جسد، هو الجسم، أي مادة، ومن شيء لطيف ليس بمادة هو الروح أو النفس، وهما مصدرا القوى المدركة في الإنسان ومصدرا الحياة. وان بأنفصالهما عن الجسد، أو بانفصال الجسد عنهما يقع الموت.

ويظهر من مخاطبات الوثنين للاصنام، كانهم كانوا يتصورون أن لها روحأ وأنها تسمع وتجيب. ومن الجائز حلول الروح في الجماد. وقد ورد عن "ابن الكلبي"" عن "مالك ين حارثة" أن والد مالك هذا كان يعطيه اللبن، ويكلفه بأن يذهب به إلى الصنم ود ليسقيه،فكان مالك يشربة سراً ويبخل به على صنمه. واذا صح خبر ابن الكلبي هذا،فإنه يدل على "حارثة"، وربما غيره أيضاً من عبدة الأصنام، كان يرى ان الصنم يعقل ويدرك،يسمع ويرى، وانه وان كان من حجر، إلا أنه ذو روح كما ورد أن من المشركين من كان يرى أن الشمس،ملك من الملائكة ذات نفس وعقل.

ويتبين من تشديد النبي في تسوية القبور مع الأرض، ومن لعن المتخذين على القبور المساجد والسُرُج، ومن النهي عن الصلاة إلى القبور، ومن حديث: اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، ان المشركين كانوا يقدسون قبور اسلافهم، ويتقربون اليها، لزعمهم انهم أحياء، لهم أرواح،تعي وتسمع وتدرك، وتفرح وتغضب وتجيب، وتنفع وتضر، ولهذا حاربها الرسول، وأمر بتسوية القبور، ابعاداً عن أمر الجاهلية في ذلك، وخشية العودة إلى،ما كانت عليه: )ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى(، تعبير عن معنى هذه المشاركة وعن رأيهم في عبادة الأصنام.

الرجعة

واعتقد قوم من العرب في الجاهلية بالرجعة: اي الرجوع إلى الدنيا بعد الموت. فيقولون ان الميت يرجع إلى الدنيا كرة أخرى ويكون فيها حياً، كما كان. ولعل هذه العقيدة هي التي حملت بعض الجاهليين على دفن الطعام وما يحتاج الإنسان في حياته اليه مع الميت في قبره، ظناً منهم، انه سيرجع ثانية إلى هذه الدنيا، فيستفيد منها، فلا يكون معدماً فقيراً. ويفهم من كتب الحديث ان من الناس من سال الرسول عن الرجوع إلى هذه الدنيا، مما يشير إلى معرفة القوم عند ظهور الإسلام بهذا الرأي.

و "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عمر بن الخطاب، فقال:إن رجالاً من المنافقين يزعمون ان رسول الله توفي،وان رسول الله والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع بعد ان قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله فليقطعن ايدي رجال وأرجلهم يزعمون ان رسول الله مات". ثم جاء "أبو يكر" "وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر ? فأنصت، فأبى إلا ان يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه، وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ايها الناس، انه من كان يعبد "محمداً فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا هذه الآية: )وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل( إلى آخر الآية "وقال عمر: والله ما هو إلا ان سمعت أبا يكر يتلوها فعقرت حتى وقعت على الأرض، ما تحملني رجلاي، وعرفت ان رسول الله قد مات".

وقد اعتقد بعض الجاهليين ب "المسخ". وهو تحول صورة إلى صورة أخرى أقبح، وتحول انسان إلى صورة أخرى أقبح، أو إلى حيوان. كأن يصير إنسان قرداً، أو حيواناً آخر، أو إلى شيء جماد. من ذلك ما يراه بعض أهل الأخبار عن "اللات"، من انه كان رجلاً يلت السويق عند صخرة بالطائف، فلما مات قال لهم "عمرو بن لحيّ"، إنه لم يمت.، ولكنه دخل الصخرة،ثم أمرهم بعبادتها وبنى بيتاً عليها يسمى اللات. وما رووه ايضاً عن "أساف،" و "نائلة"، من أنهما كانا رجلا وامرأة، عملا عملاً قبيحاً في الكعبة،فمسخا حجرين. وما رووه من أن "سهيلاً" كان عشاراً على طريق اليمن ظلوماً،فمسخه الله كوكباً.

وورد أن بعض الملائكة عصى الله فأهبط إلى الأرض في صورة رجل تزوج أم جرهم فولدت له جرهماً. وأن ما تولد بين الملك والآدمي يقال له "العلبان". وان "النسناس" جنس من الخلق يثب أحدهم على رجل واحدة، أصلهم حيّ من عاد عصوا رسولهم فمسخوا نسناساً، لكل إنسان منهم يد ورجل من شق واحد، ينقزون كما ينفز الطائر ويرعون كما ترعى البهائم.

وقد ذكر "الجاحظ" أمثلة من امثلة المسخ التي وقعت للحيوان على أعتقاد الناس، من ذلك: اعتقادهم ان السمك "الجريّ " والضباب كانتا أمتين من الأمم مسختا، واعتقادهم ان "الإربيانة" كانت خيّاطة تسرق السلوك، وانها مسخت وترك عليها بعض خيوطها لتكون علامة لها ودليلاً على جنس سرقتها، ومن ان "الفأرة" كانت طحانة، والحية كانت في صورة جَمَل، وان الله عاقبها حتى لاطها بالأرض، وقسم عقابها على عشرة اقسام، حين احتملت دخول ابليس في جوفها حتى وسوس إلى آدم من فيها. ومن ان الإبل خلقت من أعناق الشياطين، وأن الكلاب امة من الجن مسخت، وان الوزغة والحكأة من ممسوخ الحيوان.

ومن أمثلة المسخ: جرهم،فقد زعم ان جرهماً كان من نتاج ما بين الملائكة وبنات آدم، وكان بعغى الملائكة قد عصى الله، فأهبط إلى الأرض في صورة رجل، تزوج أم جرهم فولدت له جرهما. وزعموا ان سهيلاً كان عشاراً باليمن، فلما ظلم مسخه الله نجماً. و "الزهرة"، وقد زعموا انها كانت بغياً عرجت إلى السماء فمسخها الله شهاباً. و "البسوس"، وقد زعموا انها كانت امراة مشؤومة اسمها: البسوس، أعطي زوجها ثلاث دعوات مستجابات، وكان له منها ولد، فكانت محبّه له. فقالت اجعل لي منها دعوة واحدة. قال: فلكِ واحدة. فماذا تريدين ? قالت: ادع الله ان يجعلني أجمل امرأة في بني اسرائيل. ففعل فرغبت عنه، لما علمت أن ليس فيهم مثلها، فأرادت سيئاً. فدعا الله تعالى عليها أن يجعلها كلبة نبّاحة، فذهبت فيها دعوتان. فجاء بنوها، فقالوا: ليس لنا على هذا قرار،قد صارت أمنا كلبة يعيرنا بها الناس. فادع الله تعالى، أن يردها إلى حالها التي كانت عليها، ففعل. فعادت كما كانت: فذهبت الدعوات الثلاث بشؤمها، وبها يضرب المثل.

ونجد عقيدة "المسخ" عند غير العرب أيضاً. في التوراة أن الله مسخ امرأة لوط، فصارت عمود ملح. ونجدها عند الهنود وعند غيرهم من الأمم القديمة. وقد تشرب من اليهودية إلى العرب المسلمين كثير من القصص الوارد في المسخ.

وقد أنكر بعض المتكلمين "المسخ"، وأنكره قوم آخرون، لكنه جوّزو "القلب"، وهو أن يقلب ابن أدم قرداً من غير أن ينقص من جسمه طولاً أو عرضاً.

الزندقة

وقد أشار بعض الأخباريين إلى اعتقاد بعض قريش بالنور والظلمة، زاعمين انهم أخذوه من الحيرة، ويسمي الأخباريون اْصحاب هذا الرأي "الثنوية"، وأطلقوا على تلك الفئة المذكورة من قريش: "الزنادقة". ولم يذكروا شيئاً عن زندقة تلك الجماعة من قريش ولا عن رجالها. وأشار بعض أهل الأخبار إلى وجود الزندقة والتعطيل في قريش: "وكانت الزندقة والتعطيل في قريش". وقد وصفوا الزنديق بانه القائل بدوام بقاء الدهر، ولا يؤمن بالاخرة وبوحدانية الخالق. فهو دهري ملحد لا يؤمن بوجود إلَه واحد، وهو من "الثنوية" على رأي بعض العلماء. والى هذا المعنى في تفسير زندقة قريش، ذهب أكثر أهل الأخبار. وقد عدّ "أبو العلاء" المعري "شداد بن الأسود الليثي" المعروف أيضاً ب "ابن شعوب"، وهي أمه، شاعر زنادقة قريش. وذلك لشعره الذي فيه: ألا من مبلغ الرحمن عنـي  باني تارك شهر الـصـيام

اذا ما الرأس زايل منكبـيه  فقد شبع الأنيس من الطعام

أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا ?  وكيف حياة أصـداء وهـام

أتترك ان ترد الموت عني  وتحييني اذا بليت عظامي 

والزندقة كلمة معربة، ذكر علماء اللغة انها. أخذت من الفارسية، أريد بها في الأصل الخارجون والمنشقون،على تعاليم دينهم، فهي في معنى "هرطقة" وقد صار لها في العهدين: الأموي والعباسي مدلول خاص، حيث قصد بها "الموالي الحمر"، الذين تجمعوا في الكوفة، وكانوا يظهرون الإسلام ويبطنون تعاليم المجوسية والإلحاد.

وفي كلام أهل الأخبار عن الزندقة ووصفهم لزندقة قريش إيهام وغموض وخلط. وإذا كان الزنديق هو القائل ببقاء الدهر، وبعدم وجود عالم ثان بعد الموت، فتكون الزندقة "الدهرية" ويكون الزنديق هو الدهرىّ لقوله بالدهر وبأبدية الكون والمادة 0 أما القول بالثنوية: بالنور والظلمة، وبالكفر والالحاد، فشيء آخر، يختلف عن القول بالدهر. والظاهر أن الجمع بين القول بالدهر وبالقول بالنور والظلمة وبالكفر و الالحاد، إنما وقع في الإسلام، بسبب الخلط الذي وقع بين المعنى المفهوم للفظة في الفارسية القديمة وفي الفارسية الحديثة، وبالمعنى الذي ظهر للكلمة في الإسلام. والذي تحول إلى زندقة بغيضة تحوي العناصر المذكورة، والتي كانت تؤدي بمن يتهم بها إلى القتل.

وقد أشير في القرآن الكريم إلى وجود القائلين بالدهر: )وقالوا ما هي إلاّ حياتنا الدنيا، نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر(. وهم على حد قول المفسرين والأخباريين، من لا يؤمن بالآخرة وبوحدانية الله. وهو مذهب ودين كان عليه كثير من أهل الجاهلية، يسخر من البعث بعد الموت، ويرى استحالة ذلك. ولم يذكر المفسرون أن من عقيدة هؤلاء القول بالثنوية،أي بالنور والظلمة، وبوجود إِلهين: إلهَ الخير واله الشر.

وقد ذكر "محمد بن حبيب" أسماء "زنادقة قريش"، فجعلهم: "أبو سفيان ابن حرب"، و "عقبة بن أبي معيط"، و "أبى بن خلف الجمحي"،و "النضر بن الحارث بن كلدة"، و "منبه" و "نبيه" ابنا "الحجاج" الهمّيان، و "العاص بن وائل" السهمي، و"الوليد بن المغيرة المخزومي. ودْكر انهم "تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة". فربط هنا بين الزندقة وبين "نصارى الحيرة". وقد ذهب "ابن قتيبة" أيضأَ، إلى أخذ قريش الزندقة من الحيرة.

والذي نعرفه عن المذكورين،انهم كانوا من المتمسكين الأشداء بعبادة الأصنام وقد كان " أبو سفيان" يستصرخ "هبل" على المسلمين يوم أحد، ويناديه: "أعلُ هُبَلُ، أُعلُ هُبَلُ"، وقد نص على انه كان من أشد المتحمسين لعبادة الأصنام. ولم يذكر أحد من أهل الأخبار، انهم كانوا ثنويين على رآي المجوس، يقولون بإلهين، بالنور والظلمة، وانهم تعبّدوا للنار، أو تأثروا برأي مزدك أو ماني الذي أضيف اليه الزنادقة، ولا نجد في آرائهم المنسوبة اليهم وفي حججهم في معارضة الرسول ما يشير إلى "زندقة" بمعتى "ثنوية"، لذلك فزندقة من ذكرت لا يمكن أن تكون بهذا المعنى ولا على هذه العقيدة.

وللوقوف على زندقة من ذكرت من رجال قريش، ولتحديد معنى زندقتهم، يجب الرجوع إلى ما نسب اليهم من أراء والى ما عارضوا به الرسول وحاربوه من أجله. ويمكن حصر ذلك في أمرين: التقرب إلى الأصنام والتعبد لها،والدفاع عنها بقولهم:)ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى(، ولا علاقة لهذه العقيدة بالزندقة. والأمر الثاني، هو القول باَلدهر وبالتعطيل، أي بنكران البعث والحشر والنشر. ويتجلى ذلك في قولهم لرسول الله: إن كنت صادقاً فيما تقول، فابعث لنا جدّك: "قصي بن كلاب"، حتى نسأله عما كان ويحدث بعد الموت، وامثال ذلك مما له علاقة بنفي وقوع البعث. وهو الذي له صلة بالزندقة. فالزندقة بهذا المعنى قول بالدهر وبدوامه ونكران للبعث، لا الثنوية بمعنى القول: بالنور والظلمة.

وأما ما يرويه أهل الأخبار من أخذ زنادقة قريش زندقتهم من الحيرة، أو من نصارى الحيرة، فإن فيه تاييداً لما قلته من أن الزندقة لا تعني المجوسية والثنوية، وإنما القول بالدهر، وانكار المعاد الجسماني،وهو قول قريب من قول من أنكر بعث الأجسام، وآمن ببعث الروح فقط من النصارى ومن غيرهم من أهل الأديان.

والزندقة بهذا المعنى قريبة من رأي القائلين بالدهر، وهم "الدهرية" الذين أشير اليهم في القرآن الكريم،في الآية: )وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر(. وهم من يقول ببقاء الدهر، وبنكران البعث والآخرة، والخالق والرسل والخلق على بعض الاراء، وينسبون كل شيء إلى فعل الدهر، أي الأبدية مع التأثير في حياة الإنسان وفي العالم. ولهذا أضافوا اليه بعض الألفاظ والنعوت التي تشير الى وجود هذا التأثير في الحياة فقالوا: يد الدهر، وريب الدهر، وعُدواء الدهر،و "الدهر لا يبقي على حدثانه"، و "الدهر يحصد رببه ما يزرع"، وأمثال ذلك من تعابير، فنسبوا اليه الفعل في الكون وفي كل ما فيه.

ونسبوا الإماتة إلى الدهر،. فقالوا: )وما يهلكنا إلا الدهر( أي وما يميتنا إلا الأيام والليالي، اي مرور الزمان وطول العمر، انكاراًَ منهم للصانع. قال أحدهم: فاستأثر الدهر الغداة بهـم  والدهر يرميني وما أرمي 

يا دهر قد أكثرت فجعتنـا  بسراتنا ووقرت في العظم 

فكانوا في الجاهلية يضيفون النوازل إلى الدهر،والنوازل تنزل بهم من موت أو هرم، فيقولون أصابتهم قوارع الدهر وحوادثه، وأبادهم الدهر، فيجعلون الدهر الذي يفعله، فيذمونه ويسبونه. وقد ذكروا ذلك في أشعارهم.

ومن الجمل التي تنسب الفعل إلى الدهر، قولهم: "أصابتهم قوارع الدهر وحوادثه، وأبادهم الدهر"، والدهر يجلب الحوادث، ففي هذه الجمل وأمثالها معنى أن ما ينزل بالإنسان من قوارع، وما يحلّ به من إبادة هو بفعل الدهر، فهو إذن المهيمن على العالم والمسخر له.

وقد كان هذا الاعتقاد راسخاً في نفوس كثير من الجاهليين، وفي نفوس كثير ممن أدرك الإسلام فأسلم، فكانوا إذا أصيبوا بمكروه وبحادث مزعج نسبوا حدوثه إلى الدهر، فسّبوه كما يتضح من حديث: "لا تسّبوا الدهر،فإن الله الدهر"، أو "فإن الدهر هو الله". ومن حديث: "يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر الدهرَ، وإنما أنا الدهر: اًقلب الليل والنهار". وأحاديث أخرىمن هذا القبيل. وقد ذكر "الجاحظ"، أن مّن الصحابة والتابعين والفقهاء من نهى الناس من قول: طلع سهيل وبرد سهيل، وقوس قزح، كأنهم كرهوا ما كانوا عليه من عادات الجاهلية، ومن العود في شىء من أمرتلك الجاهلية، فاحتالوا في أمورهم، ومنعوهم من الكلام الذي فيه ادنى متعلق.

وفي هذين الحديثين.توفيق لفكرة الجاهيين في الدهر، وللعقيدة الإسلامية في التوحيد بأن صير الدهرُ اللّهَ، وصيره بعض العلماء من أسماء الله الحسنى. والذي حملهم علىذلك،على ما أرى، صعوبة ازالة تلك الفكرة التي رسخت في النفوس منذ القدم عن فعل الدهر، وعن اثره في الكون، فراى القائلون بذلك ازالتها الدهر اسماً من أسماء اللهِ، أو هوّ الله تعالى، وهو واحد أحد، والدهر واحد أبدي أزلي كذلك، فلا تصادم في هذا التوفيق بين الرأيين.

وقد وقع هذا التوفيق على ما أعتقد بعد وفاة الرسول في أمور عديدة نسبت إلى الرسول،وقد ثبت عدم إمكان صدورها منه. وللحكم على صحة نسبة الحديثين الى الرسول أحيل القارىء على الطرق التي وردا بها، والى آراء العلماء فيهما، وأعتقد أنه ان فعل ذلك فسيجد في نسبتهما إلى الرسول بعض الشك، إن لم أقل كل الشك.

وتعبر لفظة "الزمان" عن معنى "الدهر" كذلك.وقد ذهب علماء اللغة:إلى ان الزمان، أقصر من الدهر، اذ يقع على الزمان القصيز، أما الدهر، فالزمان الدائم، اي الزمان الذي لا ينتهي بنهاية. وأنا لا يهمني في هذا المكان تفريق العلماء بينهما في الطول والقصر، إنما المهم عندي هو ان الجاهليين استعملوا الزمان استعمالهم للدهر، ونسبوا اليه ما نسبوه للدهر من فعل في الإنسان وفي الحياة والعالم. هذا "زهير بن أبي سلمى" يشتكى منه في قصيدته التي يمدح بها "هرم بن سنان"، فيقول في مطلعها: لمن الديار بقُنة الـحـجـر  أقوين من حجج ومن دهر

لعبَ الزمان بها وغـيّرهـا  بعدي سوافي الُمورِ والقَطر 

وتجد اللفظة في أشعار غيره من الشعراء الجاهليين والإسلاميين تعبّر عن "غدر الزمان" وعن "كذبه"وتلوّنه وتلاعبه بمقدرات الإنسان. وفي كل هده المواضع التي استعملت فيها تعبير عن تلك العقيدة التي لا تزال راسخة في نفوس كثير من الناس، وهي ان الحياة قسمة ونصيب وحظ وبخت، وانه ليس لمخلوق على ما يقدره له القدر من سلطان. وان الزمان يلعب "بالانسان وبالكون كيف يشاء، مع ان الإنسان لو فكر في نفسه وتأمّل في عقله، لوجد انه هو الذي خلق الزمان اي الدهر فأوجده على صورته هذه،بأن حدده وعيّنه بسنين وبقرون، وليس الزمان إلا دوام وبقاء لهذا الكون، وليس له اي فعل حقيقي في هذا الكون، والانسلن هو الذي أوجد السنين ليقيس بها طول الزمان، لحاجته إلى معرفته، وان حسابه بالسنين مهما سيطول، فإنه لن يبلغ ولن يكون في مقدوره بلوغ نهاية الكون".

والمعنى الذي نفهمه من "الدهر" في الشعر الجاهلي، هو،الأبدية مع التأثير في حياة الإنسان وفي العالم. ولهذا أضافوا اليه بعض الألفاظ التي تشير إلى وجود هذا التأثير في الحياة، فقالوا: يد الدهر، وريب الدهر، وعدواء الدهر، وأمثال ذلك من تعابير. فنسبوا اليه الفعل في الكون وفي كل ما هو فيه.

ومن نسب اليه القول بالدهر، الحارث بن قيس، المعروف بابن الغيطلة. وتؤدي لفظة "الأيام" هذا المعنى كذلك، بل استعملت أجزاء اليوم مثل "الليالي" للتعبير عن تلك الفكرة أيضاً. فالليالي هي كالأيام، لا يمكن أن يطمأًن اليها، ولا ان يوثق بها، إنها تتلون وتتبدّل ولا تخلص لأحد. وحيث أن الليالي هي أوقات الراحة والاستقرار والهدوء، وأوقات الانس والطرب والإنفراد بالأحبة، وهي اوقات الغدر والاغتيال والغارات والغزو في الوقت نفسه، فيكون ذكرها في الشعر وتفضيلها على النهار وتقديمها عليه، ونسبة الخير أو الشر اليها أكثر من نسبتهما إلى النهار شيئاً طبيعياً. لذلك يجب ألا يستغرب ما نقرأه فيالشعر وما نسمعه من أفواه الناس من نسبة تبدل الحال والتلون إلى الليالي أكثر من النهار.

وقد استعملت لفظة "عَوْ ض" في معنى الدهر والزمان، وردت في شعر شاعر من شعراء بكر بن وائل، فعبر بهذه اللفظة عن زمانه، واستخدام بكري لهذه الكلمة، يشير إلى الصنم "عوض" الذي كانت بكر قبيلة هذا الشاعر تتعبد له. وقد أقسموا بها، فقالوا: "عوض لا يكون ذلك أبدا"، ولا أستبعد وجود صلة بينها وبين الصنم " عوض".

وأما "الحِمام "، فإنه قضاء الموت وقدره، يقال: "حمَّ أجله" أي قضى وقدر. وقد وردت لفظة "حم" ومتعلقاتها في أشعار عديدة بهذا المعنى.

اي القضاء والتقدير. فورد "ماُ حُمّ واقع"، وورد "أحم الله..." و "حمّه الله"، و "حمت لميقاتي"، و "حمتي"، و "حمام الموت"، و "حمام النفس"، و "حمام المنون"، و "حمام". وهي من حيث هذا المعنى كالحتف والأجل والآجال والحتوف والمنون.

القضاء والقدر

ويسوقنا هذا الموضوع إلىالبحث عن فكرة القضاء والقدر عند الجاهليين. فقد كان بن أهل الجاهليه من كان يقول بالجبر، وبأن الإنسان مسيّر لا مخير. وان كل ما يقع له مكتوب عليه،ليس له دخل في حدوثه. ومن هؤلاء القائلون بالدهر والمنون والحمام و ما شاكل ذلك من مصطلحات تشير إلى وجود هذا الرأي عندهم.

ولا يعني القول بالجبر، ان قائله من المتألهين القائلين بوجود خالق أوجد الكون، فقد كان من المجبرة من كان ملحداً، لا يقول بخالق، وكان منهم من كان مشركاً. كما أن بينهم من كان يؤمن بوجود خالق أو جملة آلهة. فليس لمذهب الجبر علاقة بالخالق، وإنما هو مذهب يرى ان الإنسان مسيّر، وأنه يسير وفق ما كتب له، ومنهم من ينسبه إلى علة، هي الله أوالدهر، ومنهم من لا ينسبه إلى أحد وهو مذهب موجود في اليهودية وفي النصرانية وفي الإسلام.

ونجد هذه العقيدة في شعر الشاعر النصراني "عديّ بن زيد العبادي"، وربما نجدها أيضاً عند سائر إخوانه النصارى ومن كان على هذا الدين من غيرهم من العرب. والواقع ان الاعتقاد بوجود إلهَ خلق الكون منفرداً، أو الهة خلقوا الكون مشتركين، يحمل الإنسان على أن يتصور نفسه أنه لا شيء تجاه خالقه أو الهته وانه من صنعهم، فما يقوم به، هو من صنع الله أو من صنع الآلهة وهي عقيدة لا بد أن يكون للأحوال الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية إذ ذاك دخل في شيوعها بينهم. ونكاد نجد أكثر الشعوب الشرقية على هذا الرأي. وأما ما ظهر من نظرية حرية الارادة وقدرة الإنسان على خلق أفعاله واختياره، فإنه من تاًثير الفلسفة الاغريقية التي دخلت النصرانية.

ونرى "حاتم الطائي" وهو من النصارى على رأي، مؤمناً بالقضاء وبالقدر وبما يأمر به الله، اذ يقول: اتيح له من ارضه وسمـائه  حِمامُ، وما يأمر به الله يفعل 

فأسند الأمر والنهي في هذا البيت إلى الله، وأما الإنسان فأنه مامور مسّير ونجده يكل أمره إلى الله، ويدعو قومه إلى تسليم أمرهم للاله الذي يرزقهم اليوم ويرزقهم غدا ً: كلوا اليوم من رزق الالهَ وأيسروا  وان على الرحمان رزقهم غـدا

ونجد "المثقب العبدي" مؤمناً بالله، وبالقدر. فما يقع للانسان بمشيئة الالهَ وقدره: وايقنت إن شاء الاله بأنـه  سيبلغني أجلادها وقصيدها 

و "القدر" و "المقدر" و "المقدور" و "الأقدار" و "القضاء"، من الألفاظ القديمة التي كانت تؤدي هذا المعنى الذي نبحث فيه قبل الإسلام. واستعمال المتكلمين للقضاء والقدر وللقدرية، لا يعني ان تلك الكلمات من الألفاظ التي نبعت في الإسلام. بل ان ظهورها في هذا العهد وأشتهارها فيه، هو لاستخدام العلماء لها في مدلولات معينة وفي مصطلحات وأفكار توسعت واستقرت في هذا العهد.

ونجد الاشارة إلى القدر في شعر الجاهليين والمخضرمين بالمعنى الذي نقصده هنا، اي شيء مقدر مفروض على كل انسان. هذا لبيد الشاعر المخضرم يذكر أن ما يرزقه هو من فضل الله عليه، وما يحرمه فإنه مما يجري به القدر. ونجد فكرة القدر مركزة قوية صريحة في شعره، فهو يعتقد ان القدر خيره وشره من الله، وان ما يصيب الإنسان مكتوب عليه، ولا راد لما هو مكتوب. ولا دخل لامرىء في عمله، فليحمد الله على خيره، وليشكره على شرّه ايضاً، فهو العالم وحده بما هو صالح وضار. وشعره هذا لابد ان يكون مما نظمه في الإسلام، اذ لا يعقل ان يكون من نظم عصر وثني، لما يتجلى عليه من الطابع الإسلامي في الفكر وفْي الأسلوب والعرض.

كذلك نجد هذه العقيدة عقيدة القدر في شعر "زهير بن أبي سُلمى" وفي شعر غيره من الشعراء. هذا زهير يقول: إن المنايا أمر لا مفر منه، وإن من جاءت منيته لا بد أن يموت، ولو حاول الارتقاء إلى السماوات فراراً منه. ثم نجده يقول: وجدت المنايا خبط عشواء من تصب  تمته ومن تخطىء يعمر فـيهـرم

فليس للانسان دخل في عمله، وإنما كل شيء يقع له في حياته هو مكتوب عليه. مكتوب عليه أن يموت في أجله، وأن يعيش إلى أجله، وان يكون غنياً وأن يكون فقيراً، وليس للأنسان عمل على سلطان الحظ.

ومن القائلين بالقدر، "عبيد بن الأبرص"، الشاعر الجاهلي الشهير، المقتول في قصة معروفة مشهورة. نجد في الشعر المنسوب اليه اسم "الله" يتردد في كثير من المواضع، ونراه من المتشائمين المؤمنين بالمنايا وبالمحتم المكتوب، ونراه يتوكل على الله، ويدعو الناس إلى الآعتماد عليه، فيقول: من يساًل الناس يحرموه  وسائل اللـه لا يخـيب

باللـه يدرك كـل "خـير  والقول في بعضه تلغيب 

والله لـيس لـه شـريك  علاّم ما أخفت القلـوب

ونراه يقول في المنايا: فأبلغ بني وأعمامـهـم  بان المنايا هي الـوارده

لها مدة فنفوس العـبـاد  اليها وإن كرهت قاصده 

فلا تجزعوا الحمام دنـا  فللموت ما تلد الوالـده

وفي كثير من مواضع شعره يذكر المنايا ويذكر الموت، ثم هو يتجلد ويتصبر في ملاقاة الشدائد والأهوال، وينصح الناس بالسير على هذا المنوال. والذي يقرأ شعره، يشعر انه أمام رجل حضري رقيق عاطفي المزاج، ذي نفس ميالة إلى التقشف والتصوف، مؤمن بالعدل، كاره للظلم، فهل كان عبيد على هذه الشاكلة? وهل هذا الشعر وخاصة ما جاء منه في البائية هو نظم من منظومه ? أو هو من نظم من عاش بعد في الإسلام ?.

ونجد "عمرو بن كلثوم" في جملة من آمن بالقضاء والقدر، وبأن الموت مقدر لنا، ونحن مقدرون له، وذلك في قوله: وأنّا سوف تدركنا المنايا  مقدرة لنا ومقـدرينـا

وهو من المؤمنين بالله، الحالفين به.وذلك كما جاء في بيت شعر نسبوه اليه: معاذ الله يدعوني لحنث  ولو أقفرت أياماً قتار

وكما ورد في أشعار أخرى تنسب اليه.

والشاعر "لبيد" من هذه الطبقة التي اعتقدت ان الله خالق كل شيء، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا دخل للانسان في عمله. تراه يقول: من هداه سبل الخير اهتدى  ناعم البال ومن شاء أضل

وتؤدي لفظة "منا" معنى القدر، ومنها "الماني" بمعنى القادر، و"المنية" بمعنى الموت، لأن الموت مقدر بوقت مخصوص. وهي من الكلمات السامية المشتركة الواردة في مختلف لهجات هذه المجموعة. ولهذه الكلمهَ صلة باسم الإلهَ الكنعاني "منى"، وهو آلهَ القدر. ولها أيضاً صلة بالصنم "منوات" "منوت "، من أصنام ثمود، وب "مناة" من أصنام الجاهليين.

ومن أصل "منا" "المنايا" الواردة في أشعار الجاهليين. و "الماني" الواردة في شعر منسوب إلى سويد بن عامر المصطلقي، هو: لا تأمن الموت في حلّ ولا حرم  إن المنايا توافي كل إنـسـان

واسلك طريقك فيها غير محتشمً  حتى تلاقي ما يمنى لك الماني

في رواية. و: لا تأمنن وإن أمسيت في حـرم  حتى تلاقي ماُ يُمني لك الماني 

فالخيرُ والشر مقرونان في قرن بكل ذلك ياًتيك الجديدان على رواية أخرى.

وفي هذا البيت الذي ينسبه بعض الرواة إلى أبي قلابة اُلُهذلي: فلا تقولن لشىء سوف أفعلـه  حتى تلاقي ما يمني لك الماني 

وتؤدي كلمة "المنون" معنى الدهر والموت، وقد تسبق بكلمة "ريب" في بعض الأحيان، فيقال: "ريب المنون " كما يقال "ريب الدهر". ويرى "نولدكه" ان هذه الكلمات هي أسماء آلهة، وليست أسماء أعلام، هي أسماء تعبر عن معان مجردة للألوهية، وهي مما استخدم في لغة الشعر للتعبير عن هذه العقائد الدينية. فالزمان مثلا أو الدهر، لا يعنيان على رأيه هذا إلهاً معيناً، ولا صنما حاصاً، إنما هي تعبير عن فعل الإلهة في الإنسان.

وبعض هذه الكلمات - في رأي " ولهوزن" - مثل قضاء و منيّة، هي بقايا جمل اختصرت، ولم يبق منها غير بقايا، هي هذه الكلمات. فكلمة قضاء هي بقية جملة أصلها "قضاء الله"، سقطت منها الكلمة الأخيرة، وبقيت الأولى. وكذلك الحال في منية، فإنها بقية جملة هي: منية الله، سقط عجزها، وبقي صدرها. وهي تعني ان المنية هي منية الله تصيب الإنسان.

يبدو ان من الغريب ذكر الدهر والزمان والحمام والمنايا وأمثالها في الشعر ونسبة الفعل اليها، بينما يهمل ذكر الأصنام فيه أو نسبة الفعل إلى الله. فهل يعني هذا ان الجاهليين لم يكونوا يعلمون ان لله سلطاناً وحولاً، وان المنايا والحتوف وكل خير أو مكروه هو من فعل الله ? الواقع ان هذا الذي نذكره يذهب اليه أهل الجاهلية ولم يقصدوه. ما ذكر الدهر في الشعر، إلا كتشكي الناس من الزمان أو من الحظ أو النصيب في هذه الأيام. وشكواهم من ذلك لايعني تحديد سلطان الله، أو نكرانه، وانما هو بقية من تصور انساني قديم بنسبة كل فعل وعمل إلى قوة خفية هي القوة العاملة، وهي ما عبرت عنها بالدهر وبالزمان. وذلك لما يتصورونه من مرور الأيام والسنين وبلاء الإنسان فيه، وبقاء الأرض والكون، ومثل هذه النسبة والشكوى عامة عند جميع الشعوب البدائية والمتطورة المتقدمة، فنراها عند القبائل البدائية ونراها عند الغربيين.

ولا يقصر هذا الاستعمال على الشعر وحده، بل نجد ذلك في النثر وفي كلام الناس الاعتيادي. لذلك لا ارى صحيحاً ما ذهب اليه بعض المستشرقين من ان نسبة الفعل إلى الدهر هو من الاستعمالات الخاصة بالشعر.

وهناك كلمات اخرى تشير معانيها إلى هذه الفكرة فكرة القدر، وان الخير والشر وكل ما في يصيب الإنسان" هو مقدر مكتوب. وهي نظرة لا بد أن تكون قد انبعثت من الاّوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن أثر المحيط في الإنسان. ومن شعور الإنسان بأن قوى خفية تلعب به وتوجهه حيث يشاء. فنسب كل ذلك إلى غيره، وصير نفسه مسخرأ موجهاً كالريشة في مهب الرياح. وتؤدي عقيدة القدر بصاحبها الى التشاؤم، والى القنوط والاستسلام والتوجع والتألم، والتشكي من عبث الدهربالإنسان، وهو ليس له دخل في رده وصده. وقد تؤدي بمعتنقها إلى الخمول والكسل، والى العجز في هذه الحياة، والى ردّ كل ما يصيبه بسبب كسله وعدم استخدام قابلياته ومواهبه إلى غدر الدهر به وحنق الزمان عليه، وتلاعب الحدثان بأموره. ونجد أكثر شعراء أهل الجاهلية، هم على هذه الشاكلة، يبكون ايامهم، ويتذكرون الماضى، ويتوجعون، لأنهم سائرون نحو مستقبل مؤلم موجع، لا حول فيه لإنسان ولا قوهّ. انه عالم الشيخوخة أو عالم الموت أو عالم الفقر. وأمثال ذلك من العوالم المفزعة. يستوي في ذلك امرؤ القيس والشعراء المخضرمون، فأنت اذا تمفحت دواوينهم قلما تجد فيهم شاعراً متفائلاَ، أو شاعرأَ غير مبال بالأيام، لا يهمه ما يأتي به الدهر، حتى ليخيل إلينا أن هذا طبع. والواقع أننا نجد الشعراء في الجاهلية والإسلام وأكثر الكتاب والخطباء على هذا المنوال، مما يحمل المرء على القول بوجود التشاؤم في طبع العرب.

وموضوع "القدر" من المواضيع التي حيّرت المسلمين أيضاً. فانقسموا في ذلك إلى مذاهب. وقد مرّ الرسول بناس كانوا يتذاكرون في القدر، فقال: انكم قد أخذتم في شعبين بعيدي الغور. أي يبعد أن تدركوا حقيقة علمه، كالماء الغائر الذي لا يقدر عليه.

وقد ذكر علماء التفسير أن قريشاً خاصموا الرسول في القدر، وأن رجلاٌ جاء إلى الرسول فقال: يا رسول الله ففيم العمل ? أفي شيء نستأنفه، أو في شيء قد فرغ منه ? فقال رسول الله: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، سنيسره لليسرى، وسنيسره للعسرى. ويظهر من ذلك أن قريشاً أو جمعاً منهم، لم يكونوا يؤمنون بالقدر، بل كانوا يؤمنون بان فعل الإنسان منه، وان لا لأحد من سلطان في تصرفه وفعله.

القدرية

وذكر ان الشاعر "الأعشى" كان قدرياً، يرى ان للانسان دخلاً في فعله، وأن له سلطاناً على نفسه، حيث يقول: استأثر الله بالوفـاء وبـال  عدل وولى الملامة الرجلا 

فالانسان مسؤول عن فعله، ملام على ما يرتكبه من قبيح. فالله عادل، لا يجازي الإنسان إلا على فعله، ولو كان قد قدر كل شيء له، وحتمه عليه كان ظالماً. وقد أخذ الأعشى رأيه هذا "من قبل العباديين نصارى الحيرة، كان ياًتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك ".

فنحن أمام عقيدتين. عقيدة تقول: إن الله خالق كل شيء، وان فعل الإنسان من تقدير الله وأمره، فهو يفعل بفعله وبحسب ما قدره له، ورأي يقول ان الإنسان خالق فعله، فهو حرّ مختار، ولهذا فهو وحده مسؤول عن عمله، من خير- أو شرّ. والرأي الأول أظهر عندهم وأقوى من الرأي الثاني.

الحظ

وحظ الإنسان، اي ما يصيبه في حياته، هو جزء من هذا الموضوع أيضاً. مشتبك به، متصل بأجزائه، والحظ في اللغة النصيب والجد. أو خاص بالنصيب من الخير والفضل. والنصيب، هو ما قدر وما قسم لك، أي حظك. والحظ وهو "البخت". وقيل: البخت من المعربات، وقيل من الألفاظ التي تكلمت العرب بها قديماً. وذكر علماء اللغة أن الجد البخت والحظ في الدنيا-. ويفهم من الأمثلة الواردة في شرح معنى اللفظة، أنها في معنى الحظوة والرزق. أي في معنى الشيء الحسن المفرح مما يصيب الإنسان.

قالوا: والحظ موجود في المرزوق والمحروم، وفي المحارف، وفي القبائل، فربما سعدت بالحظ، وربما حظيت بالجد. وهو كذلك في الشعر وفي النياهة، ورب عاقل فاهم أديب، لا يكون إلا دائم الصبر على الشدة، لسلطان الحظ على الإنسان.

ونظرية "القسمة والنصيب"، معروفة في الإسلام، وقد بحث فيها علماء الكلام. فهي فن الموضوعات التي بحثت في الجاهلية والإسلام. ونجد احد الشعراء يقول: وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى  ولكن أحاظ قسـمـت وجـدود

وهو بيت ينسب لسويد بن حذاق العبدي، ويروى للمعلوط بن بدل القريعي و صدره: متى ما يرى الناس الغني وجاره  فقير يقولوا عاجـز وجـلـيد

أي "إنما أتاه الغني لجلادته، وحرم الفقير لعجزه وقلة معرفته، وليس كما ظنوا، بل ذلك من فعل القسّام وهو الله سبحانه وتعالى، لقوله: )نحن قسمنا بينهم معيشتهم (. وفي هذا المعنى قول الشهاب المقري: سبحان من قسم الحظـو  ظ فلا عتاب ولا ملامه 

وأهل الجاهلية يرجعون القسمة إلى الدهر والزمان والحظ. فاًبطل الإسلام ذلك، اذ جعلها بأمر الله وقدره. فالله هو مقدر الأقدار، ومقسم القسَمْ، وموزع الحظوظ والأرزاق.

الطبع والطبيعة

ومن الموضوعات التي لها صلة بالقضاء والقدر. موضوع الطبع، أي الخليقة والسجية التي جبل عليها الإنسان. فرأي كثير من الجاهليين، ان الإنسان مجبول على طبيعته التي ولد فيها، وكل انسان على طبيعته، ولا يستطيع تبديل طبعه، ولا تغيير السجايا، لأنها مكتوبة على الإنسان مسنونة، ولاْ تبديل لما طبع المرء عليه. وطبائع الإنسان لا يغيرها إلا الموت. جاء في شعر لبيد: فاقنع بما قسم المليك، فإنما  قسم الخلائق بيننا علاّمها

وهو شعر قد يكون مما قاله في الإسلام.

و "زهير بن أبي سلمى"، ممن يعتقدون بهذه العقيدة، ويأخذون بهذا الرأي،فهو القائل: ومهما تكن عند امرئ من خلـيقة  ولو خالها تخفى على الناس، تعلمْ 

الفصل السادس والستون
الالهة والتقرب اليها

لا نملك - ويا للاسف - نصوصاً جاهلية فيها وصف لطبائع الآلهة، ولا أساطير فيها شيء على رأي أهل الجاهلية في أخلاق أربابهم، ولهذا صار مرجعنا وسندنا في تكوين صورة عن طبائع الآلهة وأخلاقها، دراسة وتفسير أسماء الالهة ونعوتها التي نعتت بها، لاستخراج شيء منها يعيننا على تكوين هّذه ا الصورة. وتفسير أسماء الآلهة ومعرفة أصولها وجذورها، عملية ليست سهلة يسيرة،بسبب جهلنا بمعاني بعض تلك الأسماء، وعدم وقوفنا على أصولها التي اشتقت منها، لأن اللهجات التي دوّنت بها، لا تزال بعيدة عن مداركنا، ولأن قواعد نحوها وصرفها مختلف بعض الاختلافات عن قواعد وصرف عربيتنا، و نحن لا نملك اليوم المؤهلات الكافية، للحكم في تلك اللهجات حكمنا في عربيتنا.

واسم الإلهَ هو صفة في الغالب، ألبسها الزمن بمضي الوقت لباس العلمية قعدت اسما علما فإذا استطعنا الرجوع الى اصول وجذور هذه الأسماء الصفات، نكون قد استنبطنا شيئاً عن طبائع تلّك الآلهة من صفاتها المذكورة. ونجحنا بعض النجاح من تكوين رأي عن تلك الديانات الجاهلية.

هنالك أسماء مثل "ال" "ايل"، يجد الباحثون صعوبة في الاتفاق على أصولها، وضبط معانيها، وهناك أسماء واضحة جليّة ظاهرة، تدل على أشياء معروفة محسوسة، مثل "شمس" و "ورخ" بمعنى قمر، و "عثتر" و "الشعرى العبور" و "نجم" ة و "ثريا" وأمثال ذلك من أسماء تشير إلى أشياء مادية، هي كواكب ونجوم، يستدل منها على وجود عبادة الأجرام السماوية عند الجاهليين. وهناك أسماء، هي نعوت في الواقع، لا تدل على ظواهر حسية وانما تعبر عن أمور معنوية، مثل "ود-" بمعنى "حبّ" و "رض"،و"سعد"، و "حكم"، و "نهي"، و "صدق"، و "رحمن"، و "ر حم" "ها - ر حم" "الرحيم"، و "سمع"، "سميع"، و "محرمم" "محرم"، وأمثال ذلك من ألفاظ، هي نعوت، جرت بين الناس مجرى الأسماء. وعلى هذه الصفات الأسماء سيكون جلّ اعتمادنا في استنباط الصورة التي نريد تكوينها عن طبيعة آلهة العرب ا لجنوبيين.

وعلينا ان نضيف على ما تقدم الأعلام المركبة المضافة للاشخاص،.مثل "عبد ود"، و "عبد مناف"، و "عبد شمس"، و "عبد يغوث"، و "امت العزى" "أمة العزى"، فالكلمات الثانية من الاسم، أسماء أصنام. وفي تركيب الاسم على هذا النحو، دلالة على تذلل الإنسان تجاه ربه، واعتبار نفسه عبداً له، وفيه تعبير عن صلة الأشخاص بربهم، أضف اليها الأعلام المركبة تركيباً إخبارياً، مثل "ودم ابم"، أي "ود أبٌ" أو "أبٌ ود"، ففي هذا التركيب دلالة على حنو الإلَه على المؤمنين به، واشفاقه عليهم، إشفاق الأب على أولاده.

ودراسة الأمور المذكورة، هي مصدر مهم، بل هي تكاد في هذا اليوم ان تكون المصدر الوحيد لفهم ذات الآلهة وادراك شخصيتها، ولفهم تطور الدين على مر العصور والأجيال، وكيف تطور الدين عند الجاهليين إلى يوم ظهور الإسلام.

هذا، ونجد في النصوص العربية الجنوبية المتأخرة، أسماء الهة لا نجد لها موضعاً في النصوص العربية الجنوبية المتقدمة، واختفاءً لأسماء الآلهة القديمة التي كانت لامعة ساطعة في سماء الألوهية عند العرب الجنوبيين قبل الميلاد. ونجد أسماء آلهة قبائل تعبد عند قبائل أخرى مع معبوداتها القديمة،وأسماء آلهة كانت لامعة شهيرة، تحولت إلى آلهة صغيرة. وفي كل هذه الملاحظات دلالة على حدوث تطور في الحياة الدينية عند الجاهليين، وعلى تأثر العقائد بمؤثرات داخلية وخارجية،فأًحدثت هذا ا التطور الذي نبحث عنه.

ومن بين أسماء الآلهة، أسماء مركبة،0 استهلت ب "ذ"، أو ب "ذت" و "ذ"، بمعنى "ذو" في عربيتنا و "ذت" بمعنى "ذات". و "ذ" للمذكر، و "ذت" للمؤنث، أما الكلمات التالية، فهي صفات فجملة "عثتر ذ قبضم"، تدل على إله ذكر، اسمه "عثتر ذو القبض" "عثتر ذو قبض"، أو "عثتر القابض" بتعبير أصح. وجملة "ذ شقرن"، و "ذ صهرم" و "ذ عذبتم"، و "ذ يسرم"2، و "ذ امر وشمر"، أي الامر الناهي و "ذ انبى"، هي جمل تشير إلى إله ذكر، لوجود "ذ" علامة التذكير فيه. وجملة " ذت حمم"، و "ذت بعسن"، و "ذت برن"، و "ذت غضرن" و "ذت رحبن"، و "ذت صهرن"، و "ذت صنتم، و "ذت ظهرن"، تشير إلى آلهة إناث، لوجود "ذت" " ذات" في الاسم. ومعنى هذا ان العرب الجنوبيين كانوا قد جعلوا الآلهة كالإنسان اناثاً وذكوراً. وهو ما ورد في القرآن الكريم عن أهل مكة وبعض قبائل الحجاز، من قوله تعالى: ) ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون(، ومن قوله: )فاستفتهم أ لربك البنات ولهم البنون(. وقوله تعالى: )واصطفى البنات على البنين( و ) أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين( و )أم له البنات ولكم البنون(. وقد ذكر علماء التفسير انه "لا ينبغي ان يكون لله ولد ذكر ولا انثى، سبحانه نزه جل جلاله بذلك نفسه عما أضافوا اليه ونسبوه من البنات، فلم يرضوا بجهلهم اذ أضافوا اليه ما لا ينبغي اضافته اليه، ولا ينبغي أن يكون له من الولد ان يضيفوا اليه ما يشتهونه لأنفسهم ويحبونه لها ولكنهم أضافوا اليه ما يكرهونه لأنفسهم ولا يرضونه لها من البنات ما يقتلونها اذا كانت لهم. وذكروا "ان مشركي قريش كانوا يقوِلون: "الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونها". وقد وبخهم القرآن الكريم على قولهم هذا،واستخف بأحلامهم وبما قالوه جهلاً وحماقة.

وذكر علماء التفسير أن كفار قريش قالوا: " الملائكة بنات، الله. فسأل أبو بكر من أمهاتهن ? فقالوا سروات الجن. يحسبون أنهم خلقوا مما خلق منه إبليس. وإنهم قالوا: "ان الله وابليس اخوان "، وان بين الله وبين الجنة نسباً. ولم يذكَر علماء التفسير من قال هذا القول من كفّار قريش.ولا كيف صارت الملائكة بناتاً للّه، أو كيف اصطفى الله. له البنات، و لمَ فضلهن على البنين، إذ لم يذكروا ان أهل الجاهلية نسبوا له ولداً ذكراً، وَلم يذكروا هل اختار الله البنات اختياراً من خلقه، أو من زواج ? وقد رأيت ان رواية نسبت إلى قريش قولهم إن امهات الملائكة سروات الجن، وذلك حين سألهم أبو بكر من أمهاتهن.

ولا نجد في نصوص المسند إشارة إلى زواج الالهة، ولوجود بنات لها. وما قلناه من وجود آلهة ذكور، وآلهة إناث، هو إستنباط من وجود علامة التذكير "ذ" وعلامة التأنيث "ذت" في أسماء الآلهة. أما موضوع زواج القمر بالشمس، وظهور ولد ذكر منه هو "عثتر". فهو من استنباط علماء العربيات الجنوبية ومن آرائهم التي استخلصوها من دراستهم لنصوص. فليس في المسند أي شيء عنه. وليس في المسند، أي شيء عن دين العرب الجنوبيين، وعن أساطيرهم في الآلهة وفي الخلق، ولا عن صلواتهم وأدعيتهم وكل مما يتعلق بالدين من امور.

وكل اسم ورد في المسند استهل بلفظة "ذت"،"ذات"، فيراد به الشمس، وهي إلهة، وكل لفظة بدأت بي "ذ"، "ذي"، فإنها تعني إلهاً، هو القمر أو عثتر. فنحن أمام ثالوث سماوي، يمثل عقيدة الجاهليين في الالوهية، كما يمثل عقيدة الساميين عموماً. والثالوث السماوي هو نواة الألوهية عند جميع الساميين، ومنه انبثقت عقيدة التوحيد فيما بعد.

وعثتر، هو "النجم الثاقب" المذكور في القران الكريم. وقد ذهب المفسرون إلى ان العرب كانت تسمي الثريا النجم. وذكر بعض منهم ان النجم الثاقب هو زحل. والثاقب الذي قد ارتفع على النجوم. وذكر بعض آخر ان النجم الثاقب هو الجدي. واقسم في موضع آخر من القرآن الكريم ب "النجم". وقد ذهب المفسرون إلى ان النجم الثرياْ، ونحن لا يهمنا هنا اختلاف علماء التفسير في تثبيت المراد من النجم، إنما يهمنا ان المراد به نجم من النجوم. فنكون أمام ثالوث معبود: هو الشمس و القمر والنجم الثاقب، الذي هو "عثتر" في نصوص العرب الجنوبيين.

ولهد ذكر ان العرب تعبدت للشمس وللقمر، وان طائفة منها،تعبدت لكواكب أخرى مثل الشعرى، حيث تعبدت لها خزاعة وقيس، ومثل "سهيل"، حيث تعبدت لها "طيء". و "عطارد"، وقد تعبّد له "بنو أسد". و "الأسد"، وقد تعبد له بعض قريش. و "الدبران"، وقد تعبدت له "طسم". و "الزهرة"، وقد تعبد لها اكثر العرب. و "زحل"، وقد تعبد له بعض أهل مكة. حتى إن من الباحثين من زعم " ان "الكعبة" كانت معبداً لزحل في بادئ الأمر. وتعبد للمشتري قوم من لخم وجذام.

ونجد في الكتابات العربية الجنوبية جملة: "ودم ابم"، أي "ود" أب" و "ابم ودم"، أيَ "أبٌ ود". كما نجد جملة: "ولد ود" و "اولد ود" "اولد هو ود"، أي "اولاد ود" بمعنى "شعب معين". وتعبر الجمل الأولى عن معنى ان الإلهَ "ود"، هو إله شفيق رحيم عطوف على الإنسان، هو بالنسبة له بمنزلة الأب من الابن. فهو "أب" للانسان لا بالمعنى التطبيقي بالطبع، أي بمعنى ان الإنسان انحدر من صلبه، بل بالمعنى المجازي الذي أشرت اليه. وبهذا المعنى نفسر جملة: "أولاد ودّ" تعبيراً عن معنى "شعب معين". فالإله "ود" هو أب هذا الشعب يحميه ويدافع عنه ويعطف عليه.

وبهذا المعنى وردت أيضاً جملة "ولد عم" عند القتبانيين و "ولد المقه" عند السبئيين.ف "عم" الذي هو "القمر" في لغة القتبانين هو بمنزلة الأب لشعبه، وكذلك "المقه" الذي هو "القمر" في لهجة سبا.

وقد عبرّ عن الشمس بلفظة "ه الت"،الى "الإلهة." في النصوص العربية الشمالية. وقيل لها "نكرح" في النصوص المعينية، و "ذت حمم" "ذات حمم" "ذات حميم" في النصوص السبئية، كما قيل لها "ذت يعدن" و"ذت غضرن"، و "ذت برن"، و "ذت صهرن" في هذه النصوص كذلك، وقيل لها "ذت ص نتم" و "ذت صهرن" و "ذت رحن" في النصوص القتبانية.

ومن الممكن التعرف على بعض هذه الأسماء التي اريد بها الشمس، ف "ذت حمم"، بمعنى "ذات حمم"، و "ذات تهيم". وقد وردت لفظة "جمتم" و"يحموم " في القرآن الكريم. والحميم الحار الشديد الحرارة، المتقد من شده الحر الساخن الشديد السخونة، وقد ذكر علماء التفسير أن "اليحموم"، دخان حميم، ودخان شديد السواد يخرج من نار جهنم، فمعنى "ذت حمم"، إذن، الإلهة ذات الحرارة الشديدة المتقدة المهلكة، التي تلفح وتحرق. والشمس، نفسها حارة، ملتهبة متقدة. لذلك يكون الناس قد أخذوا صفتها هذه منها فأطلقوها عليها، وصاروا ينعتونها بها، ويخيفون الناس منها، بانتقامها منهم إن خالفوا أمرها وعملوا عملاً يثير غضبها عليهم.

ويقابل هذه الإلهة ذات الحميم، الإله "ال حمون" "حمون" و "بعل حمون لما عند الساميين الشماليين، فهذا الإلهَ الذكر عند الساميين الشماليين، بسبب ان لفظة "الشمس"، نفسها مذكرة عندهم، هو ذو حميم وحما، أي ذو سخونة وحماوة وشدة حرارة، وقد نعت عندهم بالنعت الذيَ نهىّ به عند العرب الجنوبيين. فهو إله ذو حرارة مفزعة، وحمم لا يوصف. وقد استمد هذا الوصف من الطبيعة بالطبع. فالشمس مبعث الحرارة على الارض، يدرك الإنسان حرارته في كل مكان. فهي اذن "ذت حمم" حقاً.

وعرفت للشمس ب "اثرت" في كتابات قتبانية، ومعناها: "اللامعة"، أو الشديدة اللمعان بعبارة اصح والمتوهجة. فهي في معنى "ذت حمم". وعرفت أيضاً ب "ذت اثر"، "ذات اثر"، و ب "ربت اثر"، "ربت أثر".ونجد في النصوص النبطية الإلهة الشمس وقد عرفت ب "ربت الاثر" بمعنى ربة التوهج، مما يدل على ان "اثرت"، و "ذت اثر"، و "ربت أثر"، في القتبانية هذه الالهة للشمس.

وقد يعبر عن "الشمس" ب "الفرس". والفرس من الحيوانات التي قدسها قدماء الساميين. وقد كان العرب الجنوبيون يتقدمون بتماثيل الخيل،تقرباً إلى الآلهة. ومنها الإلهة "ذت بعدن" "ذات البعد" أي البعيدة، وهي الشمس.

واما "عثت"، للذي هو "الزهرة"، فيرد اسمه في نصوص عربية جنوبية كثيرة، ولاسمه هذا صلة باسماء بعض الجاهليين الواردة إلينا، مثل "أوس عثت" بمعنى "عطية عثتر" و "لحيعثت" "لحى عثت".

وفي الكتابات العربية الجنوبية أسماء يظن انها تخص الإله "عثتر". منها: "ذ قبضم"، و "ذ يهرق"، و "ذجفت" و "ذ جرب"، و"جرب"، و "متب نطين"، و "متب قبت"، و "مت مضجب"، و "يهر" و "بر" وغيرها.

وقد عرف "عثتر" ب "الشارق" في الكتابات، فورد "عثتر شرقن" لي "عثتر الشارق" وعرف ب "شرقن" فقط. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن المراد من "شرقن" بمعنى الطالع من الشرق، أو "عثتر المشرق".

وهو تفسير رده بعض آخر من الباحثين، إذ رأوا أن "شرقن"، بمعنى "الشارق". وهي لفظة ترد في اللهجات العربية الشمالية. وقد سبق لي أن بينت رأي المفسرين في "النجم الثاقب" المذكور في القرآن الكريم، وقلت باجمال المراد به هذا الكوكب،وان ذهبوا إلى انه الثريا أو زحل أو الجدي. و"الشارق" صنم من أصنام الجاهليين تسمى به عدد من أهل الجاهلية تسموا ب "عبد الشارق" قد يكون رمزاً لهذا الإلَه.

وورد في بعض كتابات المسند: "ذ غريم"، و "عثتر ذ غريم" أي "الغارب" و "عثتر الغارب". ومعنى ذلك "نجمة الغروب"، أو "نجمة المساء"، و "كوكب المساء"، في مقابل "نجمة الصباح" و "كوكب الصباح".

وورد "عثتر نورو"، و "نورو"، أي "عثتر نور"، "نور". نور صفة من صفات الله في الإسلام. )الله نور السماوات والأرض. مثل نوره(. ولفظة "نورو"، هي نعت من نعوت "عثتر". وورد "سحرن"، بمعنى السحر. والسحر، قبيل الصبح وآخر الليل، فيراد بذلك "كوكب السحر"، اي الكوكب الذي يطلع عند طلوع السحر. كما ورد "متب مطين"، أي "الحامل للرطوبة"، وورد "عثتر قهحم"، أي "عثتر القدير" و "عثتر " القادر" و "القاهر"، و "سمعم"، اي "السميع"، و "نوبم" و "نبعن" و "يغل" "يغلن" بمعنى المدمر، والمنتقم. وقد ورد هذا النعت في احجار القبور بصورة خاصة. وذلك لتذكر من يحاول تغيير الحجر أو أخذه من موضعه أو تدميره أو إلحاق أذى به، أو الاستفادة منه في أغراض أخرى، بأنه في حماية إله قدير منتقم.

وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الإله "رضى" "رضو" الذي يرد في   

النصوص الثمودية والصفوية، هو الإلَه "عثتر". وهو صنم ذكره أهل الأخبار، لكنهم لم يذكروا شيئاً عن صلته بالكواكب ولا عن المعبود الذي بمثله.

وقد ورد في الأخبار المتعلقة ب "الرها" ان أهل هذه المدينة، كانوا يعبدون الشمس ويعتقدون بوجود إلهَه يطاع قبلها اسمه "أزيزوس" Azizos، وإلَه يظهر بعدها يسمى "مونيموس" Monimos. وذهب الباحثون الى ان "أزيزوس"، هو "عزيز". وهو نجم الصباح، ويطلع قبل طلوع الشمس. وبمثل "رضى" "رضو"، و "عثتر". ويرد اسم "رضى" في الكتابات التدمرية كذلك. و "عزيز" "العزيز" من صفات الله في الإسلام.

وقد ذهب بعض الباحثين الى ان الصنم المنحوت على شكل طفل هو رمز "عثتر"، أي "رضى" "رضو"، و "عزيز". وقد حفر على شكل طفل عاري الجسم في الكتابات التدمرية. أما الشمس والقمر، فقد مثلا إنسانين كاملين. وفي هدا التصور للالهة في الديانات الفطرية، التي استمدت ادراكها لكُنه الالهة عن مظاهر الطبيعة.

ولعل " تصور الجاهليين الإله "رضو" على هيئة طفل، هو الذي يحل " لنا المشكلة الواردة في أخبار "نيلوس" Nilus" " عن تقديم العرب Saracens قرابين أطفالاً لكوكب الصباح. ذكر "نيلوس" أن العرب سرقوا ابنه ألجميل الصغير "ثيودولس" Theodulus، وقرروا تقديمه قرباناً لكوكب الصباح. وقد قضى الطفل ليلة تعسة صعبة، فلما طلع الكوكب، وحان وقت تقريب الطفل قرباناً له، نام مختطفوه، ولم يستيقظوا إلا وقد طلعت الشمس، وفات وقت القربان، وبذلك نجا الطفل من الهلاك. وقد تفسر جملة " إننا نقدم لك قرباً يشبهك " الواردة في دعاء عثر على نصه في "حران" قصة تقديم الأطفال الجميلة قرابين الى هذا الإله.

وقد أشار كتاب يونان إلى تعبد العرب إلى الشمس والقمر وكوكب الصباح، وهي أجرام سماوية تراها العين. ذاكرين أن العرب لا يتعبدون لآلهة روحية لا يبصرونها بأعينهم. ولهذا تعبدوا لهذه الأجرام المادية وللاحجار.

واما "مونيموس" Monimos، فإنه "منعم". و "منعم" من صفات الله في الإسلام. فالله هو "المنعم" المتفضل على عباده العزيز المقتدر.

وذهب بعض الباحثين إلى أن الصنم "ذو الخلصة" المذكور في كتب أهل الأخبار، والدي كان له بيت يدعى: "الكعبة اليمانية"، ويقال له "الكعبة الشامية" أيضاً، والذي هدم في الإسلام، هو تعبير آخر عن الصنم "عثتر"، أي الإلَه المكون مع القمر والشمس الثالوث.

ويظن ان "ملك" اسم آخر من أسماء "عثتر". وقد تسمى به رجل عرف ب "عبد ملك". كما ورد اسم "عبد ملك" في النصوص النبطية والإرمية، بمعنى "عبد الملك". ويرد اسم "ملك ال" "ملك ايل" كثيراً في الكتابات الثمودية. كما ورد في كتابة من الكتابات القتبانية "مختن ملكن". وقد ظن ان لفظة "ملك" تجني ملكاً، أي رئيس حكومة ملكية، فترجمت جملة "مختن ملكن" ب "مختن الملك" أي ملك قتبان. غير أن هذه الترجمة وإن كانت ترجمة مقبولة، إلا انها غير دقيقة. ولو ترجمت لفظة "ملكن" لمعنى "الملك" على انه اسم اِلَه لكانت للترجمة أحق وأصح. فنحن نجد النص القتباني الذي ورد فيه جملة "مختن ملكن " يقول: "بنى الملك ورم معبد ود واثرت ومختن ملكن"، أي "بنى الملك ورم معبد ود واثرت ومختن الملك"، ولو ترجمناها على هذه للصورة: "بنى الملك ورم معبدود واثرت ومعبد الإله الملك" كانت الترجمة أنسب وأقبل، ويجب ان نتذكر ان الله هو: الملك، في الإسلام، وان "عبد الملك"، وهو من أسماء المسلمين كذلك يعني: عبد الله. وان "الملكوت" من الملك مختصة بملك الله. ورد في للقرآن: )وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والأرض(.

ومن الممكن فهم الصلة من لفظة "ملك" التي تعني اله، ومن لفظة "ملك" المالك على الأرض، أي الملك الدنيوي. فالإلَه مالك، والملك مالك أيضاً، مالك شعبه. ومن هنا فلا غرابة اذا ما رأينا عقيدة تقديس الملوك عند الشعوب القديمة، واعتبار بعضها ملوكها من نسل الآلهة. فالآلهة قوة خارقة، والملوك قوة مسيطرة مهيمنة، تفعل في القديم ما تشاء بغير حساب، وهي ألسنة الآلهة الناطقة على الأرض، فلا بد وان تكون للالهة اذن صلة بالملوك، ولا بد وان يكون لملوك الأرض نسب وان تكون لهم قرابة بالالهة. وقد فسر بعض الباحثين جملة: "ولد ود"،التي نعت بها أحد ملوك قتبان، تفسيراً بهذا المعنى، تفسيراً يعبر عن اعتقاد القوم، بأن ملوكهم هم من نسل الإلهَ "ود". ولكني ارى اننا لو فسرنا لفظة "ولد" بالمعنى المجازي، أي ولد الإله ود على سبيل المجاز، بمعنى ان الإله منه بمنزلة الوالد من الولد، في العطف والود، فإن هذا التفسير يكون مقبولاً أكثر من تفسير الولد المتسلسل من صلب الإلهَ ود.

الآلهة

توصلنا من دراساتنا المتقدمة، إلى أن الآلهة كالبشر ذكوراً وأناثاً. وتوصلنا منها إلى أن القمر، هو مذكر عند جميع العرب على اختلاف لهجاتهم، وأما "الشمس"، فهي أنثى عندهم. واما "النجم"، الذي هو "عثتر"، فهو ولد، عند العرب الجنوبيين. وعلى ذلك فنحن أمام ثالوث سماوي يتألف من إلآهين ذكرين و من إلاهة أنثى.

وقد عجزنا على الاهتداء إلى كيفية ظهور هذا الثالوث. أو العائلة الصغيرة المختارة المكونة من ذكرين وأنثى. لأننا لم نعتثرعلى نص جاهلي أو غير جاهلي يتحدث عن كيفية ظهوره. وعجزنا عن التوصل إلى علاقة أعضاء هذا الثالوث بعضهم ببعض، وذلك لسبب مماثل، هو عدم وجود نص لدينا يشرح لنا هذه العلاقة ولم نتمكن من العثور على أي مورد يشرح لنا كيفية ظهور هذه الالهة، ولا سيما الإلَه "عثتر" الذي يعدّ ابناً للقمر وللشمس.

ولم نعثر ويا للاسف على نصوص جاهلية فيها بعض الشيء عن كيفية التقاء القمر بالشمس، وقي كيفية طلوع "النجم" "عثتر". فبينما تجد في اللغات اليونانية والهندية واللاتينية تعابير عن التقاء الشمس بالقمر، فيها معنى النكاح، نجد أنفسنا قد عجزنا عن الحصول على مثل هذه المصطلحات في النصوص الجاهلية، ولهذا لم نتمكن من تكوين رأي عن تصور الصلة التي كان يراها الجاهليون بين الشمس والقمر. وفي اليونانية والهندية وأساطير الشعوب الأخرى، أن القمر اقترن بالشمس، وتزوج بها، وتغنت بذلك الزواج.

وبالنظر لوجود الإلَه الذكر والإلهة الأنثى في نصوص المسند، لأفي مؤلفات أهل الأخبار، فلا يستبعد احتمال مجيء يوم قد نعثر فيه على نصوص قد تتعرض إلى اسطورة زواج القمر بالشمس. وفي عربيتنا لفظة "اقتران" نطلقها على اقتران الشمس بالقمر وعلى اقترانْ الكواكب بعضها ببعض، وترد في كتب النجوم والأنواء. وفي هذه اللفظة معنى الازدواج.

إن هذه الأسطورة التي جعلت من الأجرام السماوية آلهة، وحصرت الألوهية في ثلاثة أجرام منها في الغالب ثم زوجتها و اولدتها، حولت هذا الزواج إلى زواج حقيقي سماوي يشبه زواج الإنسان على سطح الأرض. زواج تكوّن من ذكر وأنثى، من أب وأم، انتج ولداً عند العرب الجنوبيين، وولدين عند شعوب أخرى غير عربية هما كوكبا الصباح والمساء، أو بناتاً هي الملائكة أو الجن عند فريق من الجاهليين.

ونجد الإلَه "القمر" يلعب دوراً كبيراً في الأساطير الدينية عند الجاهليين. دوراً يتناسب مع مقامه باعتباره رجلاً بعلاً اي زوجاً، والزوج هو البعل، والرب والسيد وصاحب الكلمة على زوجه وأهله عند العرب. وهو القوي ذو الحق، وعلى الزوجة حق الطاعة والخضوع له. وبناءً علي هذه النظرية جعل الإلهَ القمر صاحب الحول و الصول والقوة في عقيدة أهل الجاهلية في الأرباب. ومن هذا الإلهَ القوي الجار، جاء "الله" بعد أن تحول الثالوث عند بعض الجاهليين إلى "واحد"، واستخلصوا منه عبادة "الله".

وقد عرف القمر ب "ثور". ولعل ذلك بسبب قرنيه اللذين يذكران بالهلال. ُدعي بهذه التسمية، أي "ثور" في الكتابات. وقد رمز إلى الإلَه القمر ب "ثور" عند شعوب سامية قديمة أخرى.

ونظراً لأن القمر هو الإلَه الذكر،.صار بمنزلة الأب. فدعي ب "ابم"، اي "أب". ونعت بمحب، فقيل له "ودم" "ود"، لأنه يحب عبيده ويشفق عليهم. وهو "كهلن"، أي القادر والقدير، وهو "حكم"، اي الحاكم والحكيم، وهو "سمعم"، اي السامع والسميع، وهو "علم"، اي العالم والعليم، والبصير المبصر، وهو "نهى"، اي الناهي، وهو "صدق" الصادق الصديق المتعالي المنعم الكريم إلى غير ذلك من نعوت عرف بها ورمز بها اليه في النصوص.

ويجب ان ننتبه إلى ان الكتابات الجاهلية وكذلك أخبار أهل الأخبار، قد نص على اسم الإلهة الشمس، فدعوها باسمها، اي الشمس. أما القمر، فلا نجد لاسمه الخاص ذكراً يتناسب مع مقامه. نعم ذكر ب "شهر" و "سين" في النصوص العربية الجنوبية. و "شهر" القصر في ألعربيات الجنوبية، ولا زال الناس يسمونه بهذه التسمية في جنوبي جزيرة العرب. لكننا نجد أسماءه المأخوذة من النعوت، اي من صفاته تطغى عليه. فهو "ود" في الغالب في النصوص المعينية.ويظن من لا علم عميق له بالعربيات الجنوبية، انه اسم إلهَ خاص، بينما هو اسم من أسماء عديدة للاله القمر عند شعب معين، وهو ".المقه"، اي المنير والنور عند السبئيين اي صفة للشر. وهكذا قل عن باقي أسمائه، فهي صفات له في الغالب، لا اسم علم خاص به، كما في حالة الشمس.

ونحن نجد هذه الظاهرة في روايات أهل الأخبار أيضاً. فبينما تنص أخبار أهل الأخبار على تعبد بعض العرب للشمس، وعلى مخاطبتهم لها ب "الالاهة" وب "لاهة"، وعلى تعبد بعضهم لزحل أو للمشتري أو لغيرهما من الأجرام السماوية كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر، لا نجد للقمر ذكراً في أخبار أهل الأخبار. فلم يشيروا إلى اسمه ولا إلى تعبد الجاهليين له، حتى ليذهب الظن بعد تتبع جميع ما ورد في تلك الأخبار واستقصاءها استقصاءً تاماً ان الجاهليين لم يعرفوا عبادة القمر. والظاهر أن أهل الأخبار كانوا في جهل من عبادة الجاهليين للقمر، بسبب ما شاهدوه من تعبد أهل مكة وغيرهم وكذلك القبائل إلى الأصنام وتقربهم اليها، وقولهم انها تقربهم إلى الله، وبسبب نص القرآن الكريم على تعبد الجاهليين وتقربهم للأصنام والأوثان. فذهبوا إلى أنهم كانوا مجرد عبدة أوثان ولم يفطنوا إلى أنهم اتخذوا الأصنام واسطة وشفيعة للالهة التي هي أجرام سماوية في الأصل.

أو لأن أهل الجاهلية القريبين من الإسلام، كانوا قد ابتعدوا عن عبادة الكواكب ولم يعودوا يذكرونها ذكر أجدادهم لها، واختصروا عبادتها، باًن جعلوا من الثالوث إلهاً واحداً، هو "الله". فتقربوا اليه، وعكفوا يتقربون اليه بالتقرب.إلى الأصنام والأوثان. وذلك باتخاذهم إياها رموزاً مشخصة وممثلة الالهَ على الأرض. فكان لكل. قبيلة صنم يقربهم في زعمهم إلى الله.

واذا أردنا تلخيص ما توصلنا اليه عن آلهة العرب الجنوبيين، قلنا انهم تعبدوا كما ذكرنا لثالوث سماوي تألف من القمر والشمس ومن عثتر، وهو الزهرة في رأي معظم الباحثين. وقد عرف القمر ب "ود" عند المعينيين، وب "المقه" عند السبئيين، و ب "عم" عند قتبان، و ب "سن" "سين" عند حضرموت، و ب "ود" عند أوسان " وعرفت الشمس ب "نكرح" عند المعينيين،و ب "شمس" عند السبئيين، وب "اثرت" "اثيرت" عند القتبانيين، وب "شمس" عند أهل حضرموت و أوسان. وعرف "عثتر" ب "عثتر" عند المعينيين والسبئيين وعند قتبان وأهل حضرموت والأوسانييٍن.

وقد رمز الفن العربي الجنوبي إلى هذا الثالوث السماوي المقدس برموز. فرمز إلى القمر بهلال نحت أو نقش على الأحجار والأخشاب والمعادن. والهلال، يشير بالطبع إلى مطلع القمر في أول الشهر القمري. كما اشير اليه برأس ثور ذي قرنين.

أما الشمس، فقد صورت قرصاً أو دائرة، أو كتلة او هالة، والقرص، صورة طبيعية لقرص الشمس، التي تظهر في السماء قرصاً وهاجاً يبعث الحرارة والنور. واما الزهرة، فرمز اليها بصورة نجمة في النقوش العربية الجنوبية وبثمانية خيوط اشعاعية في النصوص البابلية. وهي ذكر وولد عند العرب الجنوبيين.

وقد هدم الإسلام عبادة الكواكب، وحرم السجود للشمس وللقمر، والصلاة لهما، وحاول اجتثاث كل ما له صلة بتلك للعبادة، فلم يبق اليوم من العرب من يتعبد للثالوث السماوي المقدس. ولكننا لا نزال نرى بعض العوام يغضبون إذا مس أحدهم الشمس أو القمر، وبتقرب الأطفال إلى الشمس بأسنانهم التي يخلعونها لتعطيهم أسنان غزال، أي اسناناً جميلة بيضاء، إلى غير ذلك من أوابد يعرفها الأعراب.

وفي القرآن الكريم: )ومن آياته الليل والنهار. والشمس والقمر. لا تسجدوا للشمس ولا للقمر. واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون(. ) فله فاسجدوا وإياه فاعبدوا دونهما، فإنه إن شاء طمس ضوءهما فترككم حيارى في ظلمة لا تهتدون سبيلاً ولا تبصرون شيئاً(. وقد خاطب الله قريشاً وغيرهم بذلك، مما يدل على أنهم كانوا يسجدون للشمس والقمر. ولعلهم كانوا يفعلون ذلك ضد الشروق،وعند الغروب. وقد ذكر "ابن كثير" في تفسيره الآية المذكورة، ما يأتي: "لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون(. أي ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به.

والسجود الخضوع، ومنه سجود الصلاة، وهو وضع الجبهة على الأرض، والانحناء، وسجد طأطأ رأسه. وكان النصارى يسجدون لأحبارهم، اى سادتهم من رجال دينهم. و "المسجد" من الألفاظ المعروفة عند الجاهليين. وهو البيت الذي يسجد فيه، وكل موضع يتعبد فيه، فهو مسجد.

صفات الآلهة

ومعظم أسماء الآلهة هو كما سبق اني ذكرت صفات في الأصل، استعملت استعمال الأسماء الأعلام، وهي كثيرة يتبين من دراستها ان الآلهة كالانسان، تغضب وترض، تحب وتبغض، قوية شديدة، رؤوفة رحيمة شفيقة، اذا رضيت عن انسان اسعدته في هذه للدنيا، وإن غضبت عليه أهلكته، سميعة بصيرة حكيمة حليمة. باقية خالدة خلود الدهر، بينما الإنسان هالك.

ومن النعوت الواردة في نصوص المسند: "رحم"، أي "رحيم"، فالآلهة رحيمة بعبادها، تغفر ذنوبهم وتصفع عن سيئاتهم، وهي "حليمة" "حلم"، سميعة "سمع".، قديمة "كهلن"، تحمي عبادها حماية الأب لأبنائه "ابحمى"، ترضى عنهم رضاء الأب عن أولاده "اب رضو". شفيقة بهم شفقة الأب بأبنائه "اب شفق"، وتهتم بهم "اب شعر". وهي فخورة "ايل فخر" "الفخر"، عالية سيدة العالم "ال تعلى" "ايل - تعلى"، "ايل تعالى"، و"بعل" "بعلت".

ومن الصفات -والنعوت التي أطلقتها النصوص الثمودية على الآلهة: "عم"،. بمعنى رحيم ورؤوف. و "سمع"، بمعنى "سميع".، و "رم بمعنى العظيم، و "الرامي"، والكبير. و "ابتر" "أبتر بالمعنى المفهوم من اللفظة في عربيتنا، اي، ليس له ولد. ولهذه الصفة أهمية كبيرة بالنسبة لدارس الحياة الدينية وتطور فكرة الألوهية عند الجاهليين، لأنها تشير إلى ان صاحب النص الذي خاطب إلهه يقوله: "ه أل ه ابتر"، "ه إله ابتر"، بمعنى " فيا الله الأبتر"، اي الإلهَ الذي لم يلد ولا ولد له، كان يعتقد ان إلهه لم يلد أحداً، فهو فرد واحد أحد. وقد وردت لفظة "ابتر" في نص ختم بهذه الجملة: "ه ال ه ابتر بك سرور لنا "، اي: "فيا إلاه أبتر بك سرور لنا"، أو بتعبير أوضح: "فيا إلهي أو إلاهنا الذي ليس له ولد، بك نسر""، أو "فيا إلهنا أبتر بك سرور لنا" أو "أنت سرور لنا".

والالهة تساعد الناس وتعاونهم وتغيثهم. هذا نص ثموديَ كتبه رجل من قوم ثمود توسل فيه الى إلهه أن يرسل المسرات "ميسر"، إلى من نزلت بهم للدواهي من الناس. وان يعاون العاملين. "ذ اتا يعمل". وهذا نص آخر، كتبه شخص آخر، وجهه إلى الإلهَ "رضو"، يقول فيه: "ه رضو ات عون عمل". أي "يا رضو امنح العون لمن يعمل"، أو "يا إلهي رضو العون للعامل".

والالهة ضياء للناس، تضيء لهم سواء السبيل، تمنحهم نعمة الرؤية وترشدهم إلى النور. هنا نص يقول: "إلى ن ام ت ض ي ل ن". فهو يطلب من الإله أو من المعبد، أن يضيء لكاتبي النص السبيل، وأن ينقذهم من الغفوة التي أصيبوا بها، ليتجلى لهم الحق. وفي نص آخر: "بك ري نور تمت حيت"، ومعناه "بك رأينا النور. وتمت الحياة"، أو "بك نور. ضياء.. حياة،، أو ما شابه ذلك. فالإلهَ هو نور لهذه الحياة، وضياء للناس.

والله عالم بكل شيء، ذو المعرفة والعلم. وقد وردت صفة "ه ع ر ف" "ها عارف" "ها عرف" أي العارف في نص وسم بJSA 568، وفي نص آخر، وسم ب Hu626. وهو العالم المحيط بكل شيء، وقد عبر عن هذه الصفة بلفظة "حصي"، و"أحصى" بمعنى أحاط وأحصى كل شيء عدداً، فالله محيط بكل شيء عالم لا يخفي على علمه شيء.

ووصفت الالهة في النصوص الثمودية بأوصاف أخرى، مثل "عبر" بمعنى"القدير" والقوي والمعتز، و "ذ عبر"، "ذو عبر" بمعنى ذو الحول والطول، وذو القوة والقدرة. و "ذبر"، وهي بهذا المعنى أيضاً. وهو "العوذ"، "عوذ"، والملجأ لكل إنسان. وهو "العلي"، وقد وردت جملة "عل رضو"،بمعنى "أعل رضو"، وهي جملة تذكرنا يقول "أبو سفيان" يوم معركة "أحد":"اعلُ هبل، اعلُ هبل". وإني أرجح أن لفظة "عل" في هذا النص، تعني "على"، أي حرف جر، فيكون المعنى "على رضو الملجأ"، و "على رضو المعولّ".

ولم أعثر في النصوص الجاهلية على نعت يشير إلى استخفاف أو حطة بالآلهة.

فلم أجد إلهاً نعت فيها باللؤم أو بالسرقة،، أو بالاعتداء على الأعراض، أو رمي بالحسد، حسد الناس أو حسد امثاله من الأرباب، كما لم أجد ما تجده في الأساطير اليونانية من وجود فروق بين الآلهة، وتباين بينها في المنزلة والمكانة، بحيث نجد آلهة كبيرة غنية، وآلهة ضعيفة فقيرة تحسد الأولى وتنقم عليها، وآلهة تسرق وتنهب لحاجتها إلى المال ولفقرها، ولم أجد فيها التخصص الذي نجده في الآلهة اليونانية، من وجود آلهة للبحار، وآلهة للهواء، وآلهة للحب، وآلهة للخمر، ونحو ذلك، وكل ما نجده عندهم، هو وجود آلهة شعوب وقبائل، مثل ود إلَه شعب معين، والمقه إلَه شعب سبأ، وهبل إلهَ قريش، وهكذا نشأت من الظروف المحلية التي عاش فيها الجاهليون.

ولا أستبعد وجود "ميثولوجيا" أي أساطير عند الجاهليين، تدور حول آلهتهم، فقد تحدثت عن رأي بعضهم في "الشعرى"، ولكني أستبعد وجود أساطير دينية معقدة عندهم على شاكلة الأساطير اليونانية، أو الأساطير المصرية أو الهندية، لما بين الظروف المحيطة بالجاهليين وبين الشعوب المذكورة من فروق. والأساطير هي من حاصل المجتمع والظروف المتحكمة في الإنسان.

وإذا وجدنا آلهة أهل الجاهلية على هذا النحو من الصفات المذكورة، حساسة ذات حسّ مرهف، تنفعل بسرعة، تغضب وترضى، فيجب أن نعرف أن هذه الصفات، تمثل خلق من اطلقها على أربابه، فأرباب الناس من صنعهم، هو الذي أوجد تلك الأصنام وسوّاها، فما دام هو موجدها، فلن تكون آلهته إلا على شاكلته، إنها صورة صادقة له.

الثواب والعقاب

وما يفعله الإنسان من خير أو شر، سيكون ثوابه وجزاؤه في هذه الدنيا. والآلهة، هي التي تثيب وتعاقب. تثيب المتقي المتعبد لها المتقرب اليها بالنذور وبالبر بمعابدها، فتعطيه مالاً وتبارك له في نفسه وفي أهله، وتعطيه ذرية صالحة ذكوراً. وتنجيه من البلايا والآفات ومن الأوبئة والأمراض، وترجعه سالماً معافى من الحروب، تشفي جروحه اذا جرح، وتغدق عليه بالنعم من غنائم الحرب. فهذا هو الثواب. ثواب في الدنيا وكفى.

اما العقوبة، ففي الدنيا وحدها ايضاً، وتكون بإنزال البلاء بمن يستحقه من الخارجين على أوامر الالهة، المتجاسرين على حرمة المعابد، المارقين على النظام، المخالفين لسلوك المجتمع، المتجاوزين على حقوق غيرهم. ومن البًلاء الأمراض، من عمى وعور، واصابة عضو من اْعضاء الجسم بعطب، والأوبئة. ونجد في النصوص توسلات إلى الآلهة بأن تصيب من يغير النصوص المدونة الموضوعة شواخص على القبور، ومن يتطاول على حرمة المقابر، أو يدفن غريباً فيها بغير اذن، بالعمى والعور، لتجاوزه على حرمة القبور. وكان في روع أهل مكة وما حولها ان من يعرض للسائبة، أو لحرمات ال له، أصابته عقوبة في الدنيا. وعقوبات الدنيا أشد تخويفاً للاعرابي، واكثر وقعاً في نفسه من العقوبات المؤجلة في للعالم الثاني، ثم إن معظم اهل الجاهلية لا يؤمنون باليوم الثاني، ولا بحشر وبعث ونشر. ولولا الثواب والخوف من العقاب في هذه الدنيا، لما تقدم انسان وهو فقير بائس، بأعز ما عنده إلى آلهته، على فقره وجوعه، ليقدَمه قربة اليه، وهو في أشد الحاجة له، ولما بنى الناس المعابد، وتقدموا اليها بالهدايا والنذور، ولما ذكر رجل الهته وتبرك باسمها، ووضع ملكه في حمايتها ورعايتها، ولعمت الفوضى المجتمع، وأكل بعضهم بعضاً، ونهبوا المال. والخوف من العقوبة في هذه الدنيا، ساعد بالطبع كثيراً في ردع الأشرار عن غيهم، وفي منعهم من الاعتداء على الحرمات، كما ان الإثابة في هذه الدنيا حملتم على عمل الخير، وعلى التقرب إلى المعابد والعمل بأوامر رجال الدين، لتحقيق رضى الالهة، وفي نيل رضاها كسب مادي وربح ملموس أكيد في هذه الحياة.

ولولا الأمل في الرضى والثواب، والخوف من الالهة، لما جعل الناس أنفسهم عبيداً إلى الالهة، فسموا أنفسهم "عبد ود" و "امت العزى" "أمة العزى"، و "عبد يغوث"، و "عبدَ مناة"، وما شابه ذلك من أسماءُ دعي أصحابها بها، أملاً في العمر الطويل، وفي التهرب من الموت. فقد كان الآباء والأمهات ينذرون نذراً، انه ان ولد لهم مولود، أخدموه إلهاً من الآلهة، ودعوه عبداً له حتى يعيش. يفعل هذا الفعل من لا يعيش له مولود، ومن يولد له مولود لكنه لا يعمر طويلاً، بل يموت طفلاً أو في مقتبل العمر. فأمل الإنسان في ان يضع الإلَه حمايته ورعايته للمولود، دفعه على ركوب هذا المركب، لاقناع الآلهة بدفع الموت عن أبنائهم وحمايتهم منه.

ولدينا نصوص جاهلية عديدة، تخبر عن تلبية الآلهة توسلات المتعبدين لها، ووفائها لهم بما طلبوه منها. ففي نص ثمودي يخاطب انسان ربه "منف" "مناف" بقوله: "سمعت منف"، أي "سمعت ندائي. يا مناف"، أي استجبت لندائي، فوفيت لى يا إِلهي مناف. وقد دوّنه حمداً له وشكراً واعترافاً بفضله عليه، وفي نص آخر،يخبر صاحبه انه برئ. وان ربه شفاه مما ألم به من مرض. فيقو ل "بر ا ت"، أي "برأت"، و "بر تن"، و "برتتن ". و في نص آخر يشكر انسان ربه "صلم "، ولم يرد في النص السبب الذي حمل صاحب النص على شكر إلهه "صلما"، لكننا نستطيع ان نحزر، فنقول،انه طلب منه شيئاً، فصار على نحو ما اراد فشكر إلهه لذلك وفي نص آخر، توسل من شخص الى إلهه "صلم" لكي يعينه في الفاجعة التي فجع بها. وفي نص آخر، توسل إلى إلهه لأن يمنحه: "خلود"، أي الخلود، بمعنى طول للعمر.

ومن التوسلات الجميلة التي وجهها الثموديون إلى آلهتهم، قول أحدهم: "بالهى امت"، "ب الهى اموت"، "بإلهي اموت"، أو "في حب إلهي أموت "، أو "في إلهي أفنى" فهو يخاطب ربه. وقد ملأ قلبه العشق نحوه، العشق الإلهي الذي نقرأه في كتب اَلمتصوفة، ونسمعه في تغاريدهم يخاطبون بها الله. ونجد هذا الحب الإلهي والهروب إلى الله في نص ثمودي آخر،هذا نصه: "بم مرر. ب ل ه ى جرت، ب ل ه ى ام ت لبب ذ ه غ ث ت". أي "من مرّ". بإلهي استجرتُ " بإلهىِ أموت. اعطني لبك. يا مغيث"، وبعبارة أوضح: "من مر"" و "مر" اسم صاحب النص، فهو يوجه نداءه إلى ربه "استجرتُ بإلهي. وبإلهي اموت. اسمع ندائي يا من يغيث"، أو "يا مغيث".ففي هذه التوسلات وأمثالها رقَة الشعور الديني، والحس المرهف الذي يكون عند كبار المتصوفة في مناجاتهم الله.

?????????????????????????????? ???????التطاول على الأرباب

وفي روع أهل الجاهلية ان من سب الأرباب أو تطاول في كلامه عليها، نزلت به قارعة. فلما أسلم "ضمام بن ثعلبة" السعدي أو التميمي، وقدم على قومه، "فكان أول ما تكلم يه، لن قال: بئست اللات والعزى. قالوا: مه ياضمام اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنونً قال: انهما والله ما يضران ولا ينفعان". ولما تحرش الرسول بالأصنام خوفه المشركون من ان يصاب بسوء، والى تخويفهم هذا أشير في القرآن الكريم: )ويخوفونك بالذين من دونه، ومن يضلل الله، فما له من هاد (. يعني" ويخوفونك "هؤلاء المشركون" يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والالهة أن تصيبك بسوء، ببراءتك منها وعيبك لها، والله كافيك ذلك". و "كانت زنيرة رومية َ، فأسلمت فذهب بصرها، فقال المشركون: أعمتها اللات والعزى"، "وقالت قريش ما أذهب بصرها الا اللات والعزى".

?الفصل السابع والستون

?التقرب الى الآلهة

وكما تقوم الصداقة بين الناس على أساس الود والتقرب والاتصال والتذكر بتقديم الهدايا والألطاف ونفائس الأشياء، كذلك تقوم "الصلة بين الإنسان وآلهته على اساس من الود والصداقة أيضاً. وإذ كانت الآلهة أقدر من الإنسان، كان من اللازم على البشر التودد اليها بشتى الطرق المعبرة عن معاني التقرب والتحبب والتعظيم، لتتذكره، فتمن عليه بالبركه والسعد وبخير ما يشتهيه ويرغب فيه. والبشر عبيد لآلهتهم، فعليهم ان يؤدوا لها ما يجب أن يؤديه العبد لسيده.

إن على العبد واجبات وفروضاً يجب ان يؤديها لصاحبه ومالكه، وعلى الإنسان كائناً ما كان ان يقوم بأداء ما فرض عليه لالهته واربابه في اوقات مكتوبة وفي المناسبات.

ولما كانت عقلية الإنسان القديم وعقلية كل بدائي تقوم على فهم الإدراك الحسي في الدرجة الأولى، كان للهدايا وللنذور والقرابيِن والشعائر العملية المقام الأول في دياناته، لأنها ناحية ملموسة تراها الأعين و تدركها الأبصار، وفيها تضحية تقنع المتدين التقي المتقرب بها إلى آلهته بأنه قد قدم شيئاً ثميناً لها، وانها لذلك سترضى عنه حتماً، لأنه قد آثرها على نفسه فقدم اليها أعز الأشياء وأغلاها. انها سترضى عنه، لأنه لم ينسها، ولم يغفل عنها، ولم يفتر حبه لها.وسترضى عنه كلما تذكرها وقام بأداء هذه الواجبات المفروضة أو المستحبة لها،كما يرضى الصديق عن صديقه أو السيد عن عبده، بإظهار الاخلاص وبالحرص على أداء الأعمال المرضية.

وللدين عقيدة، أي "ايمان Belief وعمل. والعمل أبين وأظهر وأقوى في الديانات القديمة من الايمان، بسبب ان الايمان بالقلب، وهو لا يكون إلا بين المرء وربه، ولا يمكن لأحد الاطلاع على كنهه. أما العمل فهو تجسيد للايمان وتعبير عنه بصورة عملية واقعية. وهو الناحية المحسوسة الظاهرة للتدين. ولا يفهم البدائي من الدين إلا مظاهره، التي ترتكز على تضحية وبذل مادي لارضاء الالهة، فعنده انه متى بذل أعز ما يملكه في سبيل آلهته عدّ مؤمنا ًتقياً، ترضى عنه الآلهة، والسنتها الناطقة بلسانها على الأرض: طبقة رجال الدين. ولهذا رأى بعض العلماء، انه لدراسة دين من الأديان القديمة يجب الاهتمام بشعائره وبالأحكام التي فرضها على أتباعه، لأنها هي أساس ذلك الدين وجوهره.

لقد كانت ديانات الجاهليين ذات حدود ضيقة، آلهتها آلهة محلية، فالإله إما إلَه قبيلة وإما إلهَ موضع. وطبيعي ان تكون صلة الإنسان بإلهه متأثرة بدرجة تفكير ذلك الإنسان وبالشكل العام للمجتمع. والإله في نظرهم هو حامي القبيلة وحامي الموضع، وهو المدافع عنها وعنه في ايام السلم وفي ايام الحرب، ما دام الشعب مطيعاً له منفذاً لأوامره وأحكامه وللشعائر المرسومة التي يعرفها ويقررها ويقوم بتنفيذها رجال الدين.

ويكون ارضاء الآلهة بالتقرب اليها وبتنفيذ أوامرها التي تعينها وتثبتها خاصتها المختصة بين القبيلة أو الشعب، أعني كهَانها ورجال الدين الذين يعرفون اوامرها وأحكامها خير معرفة، وهم الذين يفسرونها ويامرون بتنفيذها بين للناس. وقد يكون هذا التنفيذ في ايام أو أشهر ثابتة معينة تكون لها قدسية وحرمة خاصة، وقد يكون في مواسم. يرى الناس ان آلهتهم تكون في تلك الأوقات حاضرة متهيئة قريبة منهم تسمع شكاواهم وما عندهم من مطالب. ويكون هذا التنفيذ بصور مختلفة أهمها زيارة المعابد والتبرك باصنامها، وتقديم النذور لها، وايقاف الحبوس عليها، والحج اليها في الأوقات المفروضة وفي كل وقت آخر ممكن، وأداء الصدقات والزكاة، تزكية للمال،وتطهيراً للنفس من الذنوب.

ومن اهم ما تقرب به الإنسان إلى آلهته "النذور" و "القرابين" و "المنح"، اي الصدقات والعطايا. وتدخل "الذبائح" في باب النذور والقرابين كذلك.

وبجب ان اضيف "القرى" اي الضيافة عليها أيضاً، لما لها من صبغة أخلاقية دينية، حتى صارت الضيافة من الواجبات المثبتة في نظام "مكة". وهي "الرفادة" أي تقديم الطعام لمن يحتاج اليه.

والمنحة عند العرب ان يعطي الرجل صاحبه المال هبة أو صلة فيكون له، أو ان يمنح الرجل أخاه ناقة أو شاة يحلبها زماناً واياماً ثم يردها. وقد تقع على الأرض،وهي ان يعطي الرجل غيره أرضاً ليزرعهاُ و يستفيد منها،هبة أو عارية. ويظهر من الاشارة اليها في الحديث، انها كانت من أعمال البر المعروفة عند أهل الجاهلية، وكانوا يتقربون بها إلى آلهتهم.

ولم تحدد الوثنية الأشياء التي كان على الإنسان ان يتقدم بها إلى آلهته قربة اليها أو وفاءً لنذر، بل تركت له الأبواب مفتوحة، فله ان يتقرب إلى أربابه بكل ما يختار ويشاء، من امور بسيطة رخيصة إلى أشياء ثمينة غالية، كل حسب مقدوره وقابلياته. فنجد بين النذور مباخر وتماثيل ومصابيح، وأشياء نفيسة من ذهب أو من جواهر. كما كانوا يتبركون بوضع حصونهم وبيوتهم وبساتينهم ومزارعهم في حراسة الالهة ورعايتها، لتحفظها ولتحفظ أصحابها.

ويمكن تقسيم ما تقدم به الجاهليون إلى اربابهم إلى قسمين: قسم إجباري، يجب الوفاء به بسبب "نذر" مثلاً ؛ وقسم تطوعي، أي اختياري مثل "المنح" والذبائح التي تقدم في المواسم وفي سائر الأيام، ويقال لها "ندب" و "ندبت" "ندبة". و "المندوب" في عربيتنا المستحب. وأدخل في القسم الأول ما يقال له "خطَت" "خطاتَ" "خطأة"، ي "الحطيئة". ويراد بها تقديم "فدية" عن عمل مخالف قام به انسان، مثل تقديم ذبيحة بسبب دخول انسان نجس في المعبد.

واذا كنا في شيء من الجهل بالنسبة إلى الزكاة التي كان الناس يدفعونها في نجد أو العربية الشرقية أو في الحجاز إلى المعابد والى رجال الدين، لعدم وجود نصوص جاهلية تكشف النقاب عنها، فإن لنا بعض المعرفة عن الزكاة التي كان يقدمها اهل العربية الجنوبية إلى معابدهم، ظفرنا بها في الكتابات التي عثر عليها هناك، وقد وردت فيها اشارات اليها في نصوص تعرضت لها بالمناسبات.

وهذه الزكاة حصص عينية مقررة تدفع إلى المعبد على شاكلة الحصص التي تدفع إلى أصحاب الأرض والحكومة، تخزن في مخازن المعابد، لتصدّر إلى الخارج، أو لتباع في الأسواق، أو ليصرف منها على المعابد ورجال الدين والمحتاجين. فكان القتبانيون مثلاً يدفعونُ عُشر حاصلهم إلى المعبد، ويعرف ذلك عندهم ب "عصيم"، تدفع هذه الضريبة عن حاصلات الأرض،وذلك في كل سنةً وقد عرفت هذه الضريبة ب "عشر" عند المعينيين، وهي ضريبة تدفع ايضاً عن الحيوان إلى المعبد. وهذه الضريبة هي في الواقع من الضرائب العامة التي كانت تدفعها أمم اخرى عديدة إلى المعابد، وتستند الى تقاليد تأريخية قديمة، والى نظرية ان الأرض هي ملك للالهة، فهي التي تنعم على الإنسان بالحاصل وبالخير وبالبركات، فعلى الإنسان تخصيص جزء من حاصله لتلك الالهة. فإذا قصر انسان في اداء ما عليه إلى الالهة، تعرّض للعقاب ولحرمان الآلهة اياه من البركة والخصب.

ويتبين من نصوص المسند انه كانت في العربية الجنوبية أرضون واسعة مسماة بأسماء الآلهة، أجرّتها المعابد للرؤساء أو سلمّتها إلى ايدي " الكبراء" لاستغلالها في مقابل أجر يدفعونه إلى المعبد يتفق عليه. وهذه الأرضون هي أوقاف حبست على الألهة تعرف ب "وتفم" "وتف"، ومن غلات هذه الأوقاف ومن "العصم" والنذور والهبات الأخرى ينفق على المعابد وعلى رجال الدين.

وقد ظهر في العربية الجنوبية نظام اقطاعي "كهنوتي"، اسياده رجال الدين، تولوا الإشراف على ادارة أملاك المعبد الواسعة وعلى استغلالها وادارة شؤونها، وجباية الأرضين التي يوقفها المؤمنون أصحابها على الآلهة، وعلى استحصال حقوق المعبد من المتمَكنين. وقد أشير في كتابات المسند الى ارضين واسعة كانت اوقافاً للمعابد، أجرّت الى سادات القبائل لاستغلالها في مقابل أجر اتفق عليه. ويظهر ان بعض اولئك السادات كانوا أقوياء وأصحاب نفوذ فاستولوا على "الحبوس" استيلاء في مقابل اجور زهيدة كانوا يدفعونها للمعبد، ولما لم يكن في وسع المعبد فعل شيء تجاههم، اضطر إلى قبول الأجر الزهيد الرمزي الدال على تملك المعبد للارض. اما السادات فكانوا يؤجرون الأرض لأتباعهم باجور عالية، ويربحون من ذلك أرباحاً كبيرة.

وعثر المنقبون على وثائق في خرائب بعض المعابد، تبين منها انها كانت نصوص عقود ايجار واستئجار لأملاك المعبد، أي للاوقاف المحبوسة على أرباب المعبد. وقد ذكر المستأجرون فيها الشروط التي اتفقوا عليها مع المعبد في مقابل استغلال الوقف. واذا كان المستأجر غير متمكن من أداء ما عليه للمعبد في مقابل استغلال الأرض، فإن من حقه الاستدانة من غيره أو الاتفاق معه على المساهمة معه في الاستغلال والاستثمار على شرط اخذ موافقة رجال المعبد على ذلك، وإدخال اسم الشخص الثاني في العقد، كي يكون مسؤولاً شرعاً عن تنفيذ شروط العقد في حالة عدم تمكن زميله من ذلك.

وقد اقتضى تضخم املاك المعابد خلق جهاز خاص لادارة الأملاك والأوقاف والاشراف على استحصال "الأعشار" عن الدخل وتركات الارث والمشتريات إلى جانب النذور والقرابين وتوقيع العقد. جهاز رأسه كبار رجال الدين، الذين يمثلون الالهة على الأرض،وقاعدته صغار رجال الدين ومن عهد اليهم أمر الادارة من غير رجال الدين. فصار للمعبد بذلك نفوذ كبير في اقتصاد العربية الجنوبية في ذلك الوقت.

وفي المعابد مواضع يرمي الزوار فيها ما يجودون به على المعبد، تكون أمام الأصنام في الغالب. وهي خزائن تتجمع فيها النذور والهبات، فياخذها السدنة. وأغلب ما يرمى فيها الحلي والمصوغات المصاغة من الذهب والفضة، والأشياء النفيسة الأخرى. كما كانوا يعلقون السيوف والألبسة الثمينة على الأصنام وعلى الاشجار المقدسة تقرباً اليها، ووفاء بنذور نذروها لها.

ولم يبخل الجاهليون على اصنامهم،فقدموا لها حتى المأكل والمشرب، لاعتقادهم انها تسر بذلك وتفرح. فقد علقوا على "ذي الخلصة"، وهو صنم نصبه "عمرو بن لحي"، القلائد وبيض النعام، والبرد النفيسة، وقدموا له الحنطة والشعير، بل واللبن أيضاً، ليشرب منه، وذبحوا له. فهم يعتقدون أن في الصنم روحاً، وان في مقدوره التلذذ بهذه النذور. وكان في روعهم أنه يشرب من ذلك اللبن.

وقد أشير إلى الهبات التي تقدم إلى المعابد والآلهة بكلمة "وهبم" في النصوص القتبانية. بمعنى "وهبّ" و "هبات". ووردت كلمات أخرى تؤدي هذا المعنى أيضاً. منها: "ودم"، و "شفتم"، و "بنتم". وتقابل هذه ما يقال له: "منحة" و "المنحة" عند العرب الشماليين.

وفي جملة ما يدخل في هذا الباب "بكرت"، أو "الباكورة" أول كل شيء. مثل الثمر وأول مولود بالنسبة للحيوان، حيث يهدى للالهة. وقد كان معروفاً عند العبرانيين وعند غيرهم من الساميين. وذلك أن يجعل صاحب المال ثمرة أول زرعه أو حيوانه نذراً لآلهته. وّقد اشير إلى هذا النذر أو الهبة في نصوص المسند. ومن "الباكورة" العقّيقة التي تحدثت عنها في موضع آخر من هذا الكتاب.

وتلعب النذور دوراً خطيراً في الحياة الدينية عند الجاهليين، حتى صارت عندهم بمثابة المظهر الأول وللوحيد للدين. فالعامة لا تكاد تفهم من الدين إلا تقديم النذور للالهة، لتجيب لها طلباتها وتنعم عليها بنعمائها. والنذور هي وعد على شرط. يتوسل الناذر إلى آلهته بأنها ان أجابت طلباً عينه، وحققت مطلباً نواه، فعليه كذا نذر، يعينه ويذكره. فهنا عقد ووعد بين طرفين في مقابل تنفيذ شرط أو شروط، أحد طرفيه السائل صاحب النذر، أما الطرف الثاني فهو الإله أو الالهة. وأما الشرط، فهو تنفيذ المطالب التي يريدها الناذر. وأما النذر، فهو أشياء مختلفة، قد تكون ذبيحة، وقد تكون جملة ذبائح، وقد تكون نقوداً، وقد تكون فاكهة أو زرعاً، وقد تكون أرضاً،وقد تكون تمثالاً، وقد تكون حبساً لانسان يهب نفسه أو مملوكه أو ابنه لإلهه أو لآلهته، وقد يوهب ما في بطن المرأة أو ما في بطن الحيوان، وقد يكون النذر حيوانات حية. وهكذا نجد مادة النذر كثيرة مختلفة متباينة بتباين النذر والأشخاص.

ولا يشترط في وفاء النذر ان يكون عيناً اي مادة، إذ يجوز ان يكون امرأَ معنوياً، كأن يذكر الناذر في نذره انه إن اجاب الإلهَ الفلاني طلبه وبارك له ومنحه طفلاً، يخدمه له أو يسميه عبده، اي عبد ذلك الإله الذي نذر له. وكثير من الأسماء المبتدأة ب "عبد".يليها اسم "صنم"، هي من هذا القبيل، دُعي اصحابها بها ليحمي من سمّي به صاحب ذلك الاسم في مقابل تلك التسمية. ومن هذا القبيل عبد مناف وعبد مناة.

ومن هذا القبيل ايضاً نذر المواهب، كأن ينذر شخص مواهبه لصنم او لمعبد، باًن يتعهد ان يقوم بترنيم التراتيل الدينية في الأعياد أو في اوقات الصلوات والمناسبات في ذلك المعبد، أو يقوم فيه بأعمال فنية مثل رسم منظر ديني أو تزيين معبد الإله، والنذر بالصيام وبغير ذلك.

ويعبر عن الابن الذي ينذره أبوه أو أمه بأن يجعله خادماً للمعبد أو للصنم أو للكنيسة ذكراً كان أم أنثى "النذيره"، وذلك لأنه حبس على خدمة الإله أو الصنم أو المعبد وتفرغ، فلا يخدم أحداً سواها. وفي التنزيل: )إني نذرت لكَ ما في بطني محرراً".

ويقال للنذر "النَّحْب"، وهو ما ينذره الإنسان على نفسه فيجعله نحباً واجباً، وقيل: إنما قيل للنذر نذراً، لأنه ينذر فيه، أي أوجب على النفس. ووردت لفظة "نذر" "نذرم" "نذرن" في نصوص المسند، بمعنى "نذر" و"نذور".

ومن هذه النذور "الربيط". فقد كان الجاهليون ينذرون أنهم إذا عاش لهم مولود جعلوه خادماَ للبيت، أي لبيت الصنم. ومن هنا لقب "الغوث بن مرّ" بالربيط " لأن أمه كانت لا يعيش لها ولد، فنذرت لئن عاش هذا لتربطن برأسه صوفة، ولتجعلنه ربيط الكعبة، فعاش ففعلت وجعلته خادماً للبيت حتى بلغ الحلم، فنزعته فلقب الربيط".

ويظهر من بعض الروايات انهم كانوا يربطون الربيط بالبيت. فقد ذكروا أن أم "الغوث" لما "ربطته عند البيت اًصابه الحرّ، فمرت به، وقد سقط وذوى واسترخى "، فيظهر أنهم كانوا يربطونه برباط بالموضع المقدس، ليكون على اتصال تام به، كما يفعل الناس اليوم من ربط مرضاهم ومن لا يعيش طويلاً من الأولاد بقبور الأولياء بخيط أو حبل، رجاء الشفاء وطول العمر، وقد يعقدون خيطاً أو شريطاً بالقبر، لهذا الغرض.

وقد كان اصحاب النذور يتنسكون ويكثرون من تعبدهم ومن تقربهم للصنم الذي نذروا له، ليمنّ عليهم ويحقق لهم ما طلبوه. وقد اشار "لبيد" الى الناسكات ينتظرن النذر بقوله: توجس النُبوُحَ شُعٌثا غُبراً  كالناسكات ينتظرن النذرا 

ومن نذورهم في الجاهلية، انهم كانوا ينذرون بألا تهب الصبا حتى يذبحوا أو ينحروا، ويظهر ان هذه عادة كانت لها صلة بطقوس دينية جاهلية قديمة،نجدها عند اهل مكة وعند الأعراب.

وتكون النذور في حالات الشدة والضيق في الغالب. فإذا أصيب انسان بمكروه أو أصيب عزيز له بذلك، نذر إلى آلهته نذراً، يقدمه لها حالة تحقق الشرط، فإن صادف ان تحقق ما طلبه، وجب على الناذر الوفاء بنذوره. ونظراً لظروف ذلك الوقت، فقد كانت النذور كثيرة ومتنوعة. منها نذور مادية، ومنها نذور معنوية، مثل التعبد والتبتل وخدمة بيوت الأصنام وما شاكل ذلك من نذور. وقد كانوا لا يحلون لأنفسهم التملص والتخلص من الوفاء بالنذور، لاعتقادهم   

انهم إن أكلوها ولم يوفوا بها، غضبت عليهم الالهة، ولاسيما الإلَه الذي جعلوا نذرهم له، فيصابون بغضب منها، و ينالهم مكروه، فهم لذلك يوفون نذورهم ولا يقصرون في الأداء، إلا لحاجة أو لاستهتار. أو لتغلب الشح على النفس، ومع ذلك، فقد كاّنوا يلجأون الى الحيل الشرعية في هذا التهرب، بإيجاد الحلول و الأعذار.

ونجد في نصوص المسند عدداً كبيراً من الكتابات تفيد ان صاحب الكتابة قد قدّم إلى الإلهَ الفلاني كذا وكذا، لأنه أجاب طلبه وأعطاه ما أراد ووفاه بحسب طلبه، فقدم اليه كذا وكذا وفاء لنذره. وتذكر في النص أحياناً جملة لتنزل اللعنة أو لينزل الهلاك والدمار أو ما شابه ذلك على من يحاول ازالة النذر والأثر عن موضعه أو إلحاق الأذى به أو ما شابه ذلك من عبارات. وقد ورد مثل ذلك في النصوص الثمودية والليانية والنصوص الأخرى. وتفهم فكرة النذر والغاية منه صراحة من هذه الكتابات، فالناذر قدّم نذره، لأن الإلهَ المذكور أو الآلهة المذكورة أجابت طلبه ووفت له ما أراد، فوفى هو له أو لها ما أشترط على نفسه تقديمه عند عقده صيغة النذر. فالإلهَ أو الالهة طرف يسمع ويتعاقد ويجيب ويفعل أو تفعل تماماً كما يفعل الإنسان، وهي تشترط على الطرف الثاني اي على السائل الوفاء بالنذر، لأنه دين يجب عليه دفعه في مقابل تنفيذ الآلهة الشروط المذكورة، وإلا فإن الآلهة تغضب عليه وتوقع القصاص عليه، وقد تسحب ما قدمت له حينما عقدت النذر معه.

وكانت القرابين البشرية في جملة الأشياء التي قدمها الإنسان نذراً إلى آلهته. وكان "عبد المطلب"، كما يذكر أهل الأخبار قد نذر إن توافى له عشرة رهط أن ينحر أحدهم. فلما اكمل العدد، قرر الوفاء بنذره، وذلك بذبح أحدهم. وإِذ لم يكن قد عين الولد الذي سيذبحه، ذهب كعادة أهل مكة إلى هُبل يستقسم عنده. فلما أصاب النصيب "عبد الله"، ذهب إلى "إساف" ونائلة وثَني قريش الذين تنحر عندهما، ليذبحه، "فقامت اليه قريش من أنديتها: فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب ? قال: أذبحه. فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبداً حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا ?". ثم سألوه أن يذهب إلى عرّافة كانت بالمدينة لها "تابع"، لترى رأيها في الموضوع وتفتي فيه، فلما ذهب اليها،وجدها بخيبر، فأشارت عليه أن يعود الى مكة، ثم يضرب بالقداح على ابنه وعلى عشر من الإبل وهو مقدار الدية عندهم، فإن خرجت القداح على عبد الله ضربوا القداح مرة أخرى، فإن خرجت القداح على عبد الله مرة أخرى، أعادوا الضرب حتى يقع على الإبل، فيكون الرب قد رضي عنه، فتنحر الإبل عندئذ، فسمع نصيحتها وفعل، ونحرت الإبل فدية عن ابنه "عبد الله". والظاهر أن عادة نحر الأبناء عند الكعبة قد بقيت حتى بعد دخول العرب في الإسلام، بدليل ما ورد عن نذر امرأة أن تنحر ابنها عند الكعبة في أمر إن فعلته، ففعلت ذلك الأمر، فجاءت إلى المدينة تستفتي علماءها في الأمر. فأشار عليها من استفتتهم بوجوب الوفاء بالنذر، ولكنهم ذكروا لها أن الله قد نهى عن قتل أنفسكم، وذكروا لها قصة عبد المطلب المذكورة، ومعنى ذلك تقديم الفداء.

كذلك كان من عادة الجاهليين النذر في ساعات الشدة والخطر، فكان بعض النساء ينذرن أن يجعلن ولدهن "حمساً" إن شفي الرب ابنها من مرض ألم به، كما كانوا ينذرون بحلق شعر الرأس أو جز شعر الناصية أو الاعتكاف والانزواء بعيداً عن الناس. وهي عادات نجدها عند غير العرب أيضاً.

وقد أشار المفسرون وأصحاب الحديث والأخبار الى نذور كانت معروفة في الجاهلية، فمنعها الإسلام وفي بعضها نوع من التحايل والتلاعب، حيث كانوا يتصرفون بحسب أهوائهم وشهواتهم ومنافعهم وقت استحقاق النذر. ومن ذلك ما أشير اليه في القرآن الكريم: )وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا: هذا لله بزعمهم، وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون(. وقد ذكر المفسرون ان من الجاهليين من كان يزرع لله زرعاً وللأصنام زرعاً، فكان اذا زكا الزرع الذي زرعوه لله ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام، جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه عليها، ويقولون ان الله غني والأصنام أحوج، وان زكا الزرع الذي زرعوه للاصنام، ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله لم يجعلوا منه شيئاً لله. وقالوا هو غني.

وكانوا يقسمون الغنم، فيجعلون بعضه لله، وبعضه للاصنام، فما كان لله أطعموه الضيفان، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم. فكانوا اذا اختلط ما جعل للاصنام بما جعل لله تعالى ردوه، واذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه. وقالوا الله أغنى. واذا هلك ما جعل للاصنام، بدّ لوه مما جعل للّه، واذا هلك ما جعل لله لم يبدلوه بما جعل للأصنام.

فهم يتطاولون على ما خصصوه لله من نصيب، ويتصرفون به كما يشاؤون، و يحافظون على ما خصصوه للاصنام، بزعمهم أنها شركاء لله، ويقدمونه لها. ولعل ذلك بسبب أن ما كان يخصصونه للاصنام كان يجد له معقباً وسائلاً،يراجع أصحاب الحرث أي الزرع وأصحاب الأنعام لاستحصال حق الأصنام منهم. وهو حق مفروض، وهم السدنة ورجال الأصنام، فكانوا يستحصلون حقوق الأصنام منهم، على حين كان ما يخصصونه لله نذراً لا يعرف به غير الناذر، فكان يتلاعب به، ويعطيه أو يعطي جزءاً منه إلى جامعي حق الأصنام، على اعتبار أنها شريكة لله، وبذلك يتهرب من أداء النذر كاملاً بهذه الحيلة الشرعية، فلا يستخرج من ماله الذي خصصه لنفسه شيئاً عن الوفاء بالنذر وفاءً تاماً، أو لاعتقادهم أن الله بعيد عنهم، وهو غفور رحيم، أما الأصنام، فقريبة منهم، وهي منتقمة أشد الانتقام.

ويتبين من دراسات النذور عند الشعوب القديمة أنها كانت نتيجة حاجة،وتصور الإنسان أن بإمكانه التأثير على آلهته بهذه النذور، فيجعلها تميل إلى اجابة طلبه وحل مشكلاته، وذلك بتقديم مطالب مغرية تطمعها، وهدايا سارة تفرح بها، كما يفرح الإنسان عند تقديم أمثالها اليه، فيهش لصاحب الهدية ويرتاح له ويتقرب اليه، ويعد الهدية نوعاً من التقرب والتودد والتحبب، فمن واجب من أهديت اليه الهدية مقابلة المتودد بالمثل. وأما الحاجات التي كان يرجو الناذرون تحقيقها، فهي في الغالب الحصول على ثروة، أو صحة وعافية أو ذرية أو نصر وتوفيق. والناذر على يقين بالطبع من أن الإلهَ الذي نذر له النذر قادر على تحقيق ذلك، وإلا لم يتقدم اليه بهذا النذر.

ويدخل في باب النذور ما يأخذه المرء عهداً على نفسه بتجنب الطيبات واللذيذ من العيش، أو بالابتعاد عن الناس، واعتزالهم على نحو ما يفعله الرهبان والناسكون لأمد معين أو لأجل غير معلوم. ونجد أمثلة عديدة من هذا العهد في أخبار الجاهليين، كالذي ذكروه عن "امرىء القيس" من أنه قال حينما بلغه مصرع والده: " الخمر عليّ والنساء حرام حتى أقتل من بني أسد مئة وأجز نواصي مئة "، وكالذي رووه عن غيره من الجاهليين. وهي كلها من هذا الطراز. أخذ الشخص عهداً على نفسه بألا يقرب امرأة أو يشرب خمراً أو يضع طيباً أو يقرب اللذائذ حتى يأخذ بثأره أو يتحقق ما نوى عليه، وقد يحدد ذلك بوقت بأن يعين أجل العهد.

وإذ كان النذر عهداً، كان من اللازم تنفيذ العهد ? فإذا مات من أخذ عهداً على نفسه بأن يفعل شيئاً لم يفعله، فعلى ورثته وقبيلته الوفاء بعهده. فإذا مات شخص كان قد نذر على نفسه الأخذ في بثأر قتيل ولم يوف بعهده، بسبب موته، فعلى اهله وذوي قرابته وأفراد قبيلته الأخذ بالثأر. ولذلك كانت أحقاد الثأر تنتقل من الآباء إلى الأبناء فالأحفاد، وتستغرق أحياناً زمناً طويلا حنى يؤخذ بالثأر. وقد نشأت عن هذه العهود مشكلات خطيرة في المجتمع الإسلامي في موضوع العهود التي يمكن تنفيذها والعهود التي لا يجوز تنفيذها، أو التي يسمح بعدم تنفيذها وفي مبلغ التبعة التي تترتب على الورثة في تنفيذ العهود.

القرابين

وتؤلف القرابين جزءاً مهماً من عبادة الأمم القديمة، بل تكاد تكون العلامة الفارقة عندهم للدين. والرجل المتدين في عرفهم هو الرجل الذي يتذكر آلهته ويضعها دائماً نصب عينيه، وذلك بتقديم القرابين لها، ولست أخطئ اذا قلت انها كانت عندهم أبرز من العبادات العملية كالصلوات، لأن الإنسان القديم لم يكن يفهم آنئذ من الحياة إلا مفهومها المادي،وهو يرى بعينيه ويدرك ان ما يقدم اليه من هدايا يؤثر في نفسه كثيراً، ولذلك كان من الطبيعي ان يتصور بعقله ان القرابين هي أوقع في نفوس آلهته من اي شيء كان، فقدمها على كل شيء، وجعلها عبادة يتقرب بها إلى الآلهة كما يتقرب اهل الأديان السماوية إلى الإلَه بالدعاء والصلوات، فهي في نظره عبادة تقربه إلى الأرباب.

وقد كان الجاهليون، يعظمون البيت بالدم، ويتقربون إلى أصنامهم بالذبائح، يرون ان تعظيم البيت أو الصنم لا يكون إلا بالذبح، وان الذبائح من تقوى القلوب. والذبح هو الشعار الدال على الاخلاص في الدين عندهم،وعلامة التعظيم. "قال المسلمون: يا رسول الله، كان اهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم،فنحن أحق ان نعظمه".

ويظهر من قول أحد الشعراء الجاهليين: فلا لعمر الذي مسحت كعـبـتـه  وما هرُيق على الأنصاب من جسدِ 

أن الجاهليين كانوا يريقون دم الضحية على الأنصاب،وهي موضوعة في الكعبة، ويمسحون الكعبة.

وكلمة "قربان" وجمعها "قرابين"، هي من أصل "ق ر ب"، وقد استعملت وخصصت بهذا المعنى لأنها تقرب إلى الآلهة. والقربان هو كل ما يتقرب به إلى الله. فليس القربان خاصاً بالذبائح، وان صار ذلك مدلوله في الغالب.

ومن القرابين ما يقدّم في أوقات معينة موقوتة، ومنها ما ليس له وقت محدد ثابت بل يقدم في كل وقت. ومن أمثلة النوع الأول ما يقدم في الأعياد أو في المواسم أو في الأشهر أو في أوقات معينة من اليوم وفي ساعات العبادات، ومن أمثلة النوع الثاني ما يقدم عند ميلاد مولود، أو انشاء بناء أو القيام بحملة عسكرية أو لنصر وما شابه ذلك من احوال. ويدخل في النوع الأول الأحتفاء بأعياد الآلهة، حيث تكسى أصنامها أحسن الحلل، وتزين باجمل زينة، ثم يوضع أمامها ما لنَّ من الطعام وما حسن من الهدايا، وتذبح لها الذبائح، تذبح على الأنصاب. ويأتي الكهاّن ليقوموا بتأدية الشعائر الدينية المقررة في هذه الأحوال. ومعظم نصوص المسند كتابات دونت عند تقديم قربان أو نذر إلى الآلهة في ميلاد مولود، أو شفاء مريض، أو بناء معبد أو بيت، أو حفر خندق أو تشييد برج أو سور، أو حفر بئر أو زواج وما شاكل ذلك. ويظهر منها ان الناس في ذلك العهد كانوا يقدمون القرابين إلى آلهتهم في مناسبات كثيرة، تقرباً اليها وارضاء لها، ولكي تمنّ على أصحابها بالخير والبركة.

وقد استعملت نصوص المسند لفظة "ذبح" و "ذبجم" بمعنى "ذبحوا" و "ذبح" و "ذبيحة" و "ذبائح". وقد تسبق بكلمة "يوم"، فتكون "يوم ذبح"، اي "يوم ذبحوا"، ثم يذكر بعدها عدد ما ذبح ونوعه، ثم كلمة "اذبح" بمعنى "ذبائح" في بعض الأحيان. والذبائح التي تقدم إلى الآلهة هي الإبل والبقر والثيران والغنم والمعز، وهي اكثر الحيوانات شيوعاً في الذبح عند الشعوب السامية الأخرى. ولم نجد في نصوص المسند ذكراً لحيوانات اخرى كالأسماك أو الدجاج مثلاً، ولعل ذلك بسبب ضآلة قيمتها وتفاهتها بالقياس إلى أثمان الحيوانات الأخرى، مما جعل الناس يأنفون من الاشارة اليها في النصوص. وفي بعض الأديان حرق الذبائح وسكب دمائها على النار كما يفعل العبرانيون،إذ اتخذوا مذبحاً للمحروقات، ويسمى أيضاً بمذبح النحاس. وكانت ناره لا تطفأ، وتقدم اليه الذبائح على الدوام، ويعرف ذلك عندهم ب "عولاه" Olah، وتفسير الكلمة الشيء الذي يعلو.

وينفي "ولهوزن" وجود المحارق عند الجاهليين، وعنده أن العرب لم يكونوا يحرقون الذبائح للارباب، بل كانوا يكتفون بالذبح وبسكب دم الذبيحة على النصب كله أو بعضه، أو انهم يتركونه يسيل إلى "الغبغب"، وليس في الذي بين أيدينا من نصوص ما يدل على ان الجاهليين كانوا يحرقون ذبائحهم لأربابهم على نحو ما كان يفعله العبرانيون،غير أن ذلك لا يمكن أن يكون مع ذلك دليلا قاطعاً وحجة كافية في اثبات أن هذه العادة لم تكن عند جميع الجاهليين.

وهناك ذبائح من نوع آخر قدمها الإنسان إلى آلهته، من نوع لا تشمله كلمة خروف أو شاة أو بقرة أو ثور أو جمل، من نوع آخر لا تشمله اية تسمية من هذه التسميات التي تطلق على هذه الحيوانات التي يأكلها الإنسان في العادة، هي ذبائح يعاقب القانون كل من يمارسها في الوقت الحاضر بأشد العقوبات، هي ذبائح بشرية قدمها الإنسان إلى الهته لاعتقاده انها زلفى محببة الى نفوسها، وانها ستفيد المجموع وتنقذه من كثير من الأوبئة والأمراض وأنواع الشر والضر، إن كان الإنسان الحديث يتبرأ منها في الزمن الحاضر ويتنكر لها ويحاول تبرئة أجداد أجداده من ممارستها قبل مئات من السنين، فالتأريخ لا يستطيع ان يجد دليلاً يثبت تبرئة أكثر أديان شعوب العالم القديمة من تقديم هذا النوع مهن القرابين، وفي التوراة أمثلة عديدة تتحدث عن تقديم العبرانيين لهذا النوع من القرابين إلى "يهوه"، ليرضى عن شعبه، ويعفو عنه، ويتقرب منه. كذلك نجد هذه العادة عند اليونان والرومان والهنود والفراعنة والصينيين واليابانيين وغيرهم.

أما عند الجاهليين، فذكر "فورفيريوس" Forphyrius أن أهل "دومة" Duma كانوا يذبحون في كل سنة إنساناً عند قدم الصنم تقرباً اليه. وذكر "نيلوس" Nilus أن من عادة بعض القبائل تقديم أجمل من يقع أسيراً في أيديهم إلى "الزُهرة"،ضحية لها تذبح وقت طلوعها، وقد وقع ابنه "تيودولس" Theodolus أسيراً حوالي سنة 400 م في أيدي الأعراب Saracenes، و هيىء ليذبح قرباناً إلى الزُهرة غير ان أحوالاً وقعت أفاتت عليهم الوقت المخصص لتقديم الذبائح، أنقذته من الذبح، فاكتفى آسروه ببيعه في أسواق الرقيق ب "ألوسة" Elusa، فاستقر هناك إلى أن صار أسقفاً على المدينة. وذكر أيضاً أن الملك "المنذر" ملك الحيرة قدم احد ابناء الحارث الذي وقع أسيراً في يديه ونحو من أربع مئة راهبة قرابين إلى العُزّى. غير أننا يجب أن نكون في حذر شديد من قراءة أمثال هذه الروايات، لأن مصدرها في الغالب هو الخيال. كذلك يجب ان نمر برواية الاخباريين عن قصة عبد المطلب وعبد الله بشيء من الاحتراس والحذر، بل والشك والريبة، ويخيل اليّ إن الاخباريين استفادوا في هذه القصة من حكاية ابراهيم واسحاق.

وليس في الذي بين أيدينا من نصوص المسند نصّ ما فيه خبر يشير إلى تقديم شخصً ما ملك أو كاهن أو اي انسان آخر ذبيحة بشرية إلى الآلهة، كذلك لا نجد في النصوص الأخرى مثل النصوص الثمودية أو اللحيانية أو الصفوية مثل هذه الاشارات.

وتلعب "المذابح" التي سبق ان تحدثت عنها، دوراً خطيراً في العبادة عند الساميين، بل تكاد تكون المظهر الأساس للدين والتعبد عندهم في ذلك العهد..ولهذا كان المتدين يكثر من ذبح الذبائح لأنها تقربه إلى الآلهة في نظره.

الترجيب

وقد عرف شهر "رجب" بكثرة ما كان ينحر فيه من عتائر للاصنام، فلا بد ان يكون لذلك أصل وسبب، كأن يكون هذا الشهر من الأشهر التي كان لها حرمة خاصة في الجاهلية القديمة. وشهر رجب هو من الأشهر الحرم المعظمة التي لم يكن يحلّ فيها القتال. وقد سمى الذبح في هذا الشهر ب "الترجيب"، وقيل للذبائح التي تقدم فيه "العتائر" جمع "عتيرة". وقد عدّت العتائر من شعائر الجاهلية. وأطلق بعض علماء اللغة كلمة "العتائر" على ذبح الحيوانات الأليفة، وأطلق لفظة "النافرة" على ذبح الحيوانات الوحشية. "وفي الحديث: هل تدرون ما العتيرة، وهي التي يسمونها الرجبية ? كانوا يذبحون في شهر رجب ذبيحة، وينسبونها اليه. يقال هذه ايام ترجيب وتعتار. وكانت العرب ترجب، وكان ذلك لهم نسكاً".

وذكر بعض أهل الأخبار ان أول من عتر العتائر وسن العتيرة للعرب، هو "بورا"، وهو "بوز"، وهو ابن شوحا، وهو سعد رجب، وهو أول من سن الرجبية للعرب. وهو ابن يعمانا، وهو قموال، و كان في عمر سليمان ابن داود. والظاهر ان أحد أهل الكتاب قص على الاخباريين هذه القصة، فنسبوا هذه السنّة الجاهلية إلى هؤلاء الأشخاص.

وكان بعض السادة ينحرون إذا أهلّ "الشهر الأصم"، اي "شهر رجب". روي: ان "حاتماً الطائي" كان ينحر اذا أهلّ الشهر، ينحر عشراً من الإبل ويطعم الناس لحومها، وذلك لحرمته ومنزلته عنده، ولتعظيم "مضر". فهو من شهود مضر الخاصة.

وعرفت "العتيرة" ب "الرجبية" عند الجاهليين كذلك، لأنها كانت تذبح في شهر رجب، فنسبوها اليه. وعرفت ايام رجب ب "ايام الترجيب". وورد "ايام ترجيب وتعتار". وقيل للذبائح التي تقدم فيه "النسائك" كذلك.

وأصل "النُسك": الدم، وبهذا المعنى ورد من فعل كذا وكذا فعليه نسك، اي دم يهريقه. و "النسيكة": الذبيحة. و "منسك": الموضع الذي تذبح فيه النسيكة، وهذا هو المعنى القديم الأصلي للكلمة. وقد صار من معانيها في العربية الشمالية، العبادة والطاعة، وكل ما يتقرب به إلى الله تعالى، لما كان للذبح من شأن في الديانات القديمة بحيث كان يعدّ عبادة أساسية عندها، ولذلك قيل لمن انصرف إلى التعبد: الناسك.

وقد فسر علماء التفسير لفظة "نسك" الواردة في الآية: "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك"، بذبح ذبيحة شاة أو ما فوق ذلك.

والعرف في الذبح عندهم، انهم كانوا يسوقون ما يريدون تعتاره اي ذبحه إلى النصب الخاص بالصنم أو إلى الصنم نفسه، ثم يذبحونه بعد التسمية باسم ذلك الصنم، وبيان السبب في ذبح هذه العتيرة، ثم يلطخ رأس الصنم بشيء من دم تلك العتيرة،وقد منع المسلمون من أكل ذبائح المشركين، لأنها مما أهل لغير الله، ولأن المشركين لم يكونوا يذكرون اسم الله عليها، بل كانوا يذكرون اسم الصنم الذي يذبحون له عليها. فحرم ذبائح المشركين لذلك على المسلمين.

وقد أبطل الإسلام "الرجبية" وهي العتيرة، كما أبطل "الفرع"، وهو ذبح أول نتاج الإبل والغنم لأصنامهم، فكانوا يأكلونه ويلقون جلده على الشجر. ويذكر انهم كانوا اذا أرادوا ذبح الفرع زيتوه والبسوه، ليكون ذلك أوكد في نفوس الآلهة، وتعريفاً للناس. وكانوا يفعلون ذلك تبركاً. وفي الحديث: لا فرع ولا عتيرة.

وذكر انهم كانوا اذا بلغت الإبل ما يتمناه صاحبها ذبحوا، أو اذا تمت إبل احدهم مائة عتر عنها بعيراً كل عام فأطعمه الناس ولا يذوقه هو ولا أهله، قيل بل قدم بكره فنحره لصنمه.وقد كان المسلمون يفعلونه في صدر الإسلام ثم نسخ. وذكروا ان العتيرة الذبيحة التي كانت تذبح للاصنام ويصب دمها على رأسها. و "العتر" الصنم الذي يصاب رأسه من دم العتر. قال زهير: فزلّ عنها واوفى رأس مـرقـبة  كناصب العتر دمى رأسه النسك

وكانوا يؤكدون على تلطيخ الصنم الذي يعتر له، أو "النصب" بشيء من دم العتيرة. يفعلون ذلك على ما يظهر،ليحس الصنم بالدم فوقه. فيتقبله ويرضى به عنهم: ويتقبل عتيرتهم.

ويظهر من غربلة ما جاء في روايات علماء اللغة والأخبار عن العتيرة والرجبية،أن العتيرة بمعنى الذبيحة، وأن "العتر" الذبح عامة، في رجب وفي غير رجب. و "العتائر" الذبائح التي كانوا يذبحونها عند أصنامهم وأنصابهم في رجب وفي غير رجب، والتي كانوا يلطخون بدمائها.الصنم الذي كانوا يعترون له. وأما "الرجبية" فهي العتائر التي تعتر في رجب خاصة، وقد كانت كثيرة. ولذلك نسبت إلى هذا الشهر. ونظراً إلى كون الرجبية عتيرة، ذهب البعض إلى أن العتيرة الرجبية. فظن أنهم قصدوا بذلك أن العتيرة هي الرجبية، مع ان الرجبية من العتائر، أي بعض من كل، وليست مساوية لها.

وقد كان بعض أهل الجاهلية إذا طلب أحدهم أمراً نذر لئن ظفر به ليذبحن من غنمه في رجب كذا وكذا، أو أن يقول: إن بلغت ابلي مائة عترت عنها عتيرة، فإذا ظفر به، أو بلغت مائة، فربما ضاقت نفسه عن ذلك، وضن بغنمه، فصاد ظبياً فذبحه، أو ياخذ عددها ظباء، فيذبحها مكان تلك الغنم، وهي "الربيض". والى ذلك أشير في شعر للحارث بن حلزة اليشكري: عنتاً باطلا وظلماً، كـمـاتـع  تر عن هجرة الربيض الظباء 

فذلك نوع من أنواع التحايل للتخلص من الوفاء بالنذور.

وكان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم، وانما ياكل لحومها غيرهم. كما كانوا يضرجون البيت بدماء ألبدن،، ويضرجون أصنامهم بها. وورد في رواية أخرى، انهم ينحرون هديهم عند الأصنام، فإذا نحروا هدياً قسموه فيمن حضرهم.

من ذبائح اهل الجاهلية "الشريطة". كانوا يقطعون يسيراً من حلق الشاة ويتركونها حتى تموت ويجعلونه ذكاة لها. وقد نهي عن ذلك في الإسلام. وقيل ذبيحة الشريطة، هي انهم كانوا يشرطونها من العلة، فإذا ماتت قالوا قد ذبحناها.

ومما يلاحظ في تقديم الذبائح، ان النافر يراعي الجنس في اختيار الذبيحة،فإذا كان مقرب القربان ذكراً، اختار قربانه حيواناً ذكراً، وان كان المقرب أنثى، اختيرت الذبيحة أنثى. ولا زال الناس يراعون ذلك حتى اليوم. وفي هذه العادة عند غير العرب أيضاً، فقد كان أهل العراق يقسمون كتف حيوان، في مقابل شفاء كتف انسان، ورأس ذبيحة في مقابل رأس ناذر، وهكذا وكانوا يجعلون الرأس رمزاً أحياناً، فينذرون تقديم رأس المريض أو الصبي إلى الإلَه،إن منّ عليه بالعافية وبالصحة. ويقصدون بذلك بدلاً، رأس حيوان أو رمزاً يرمز اليه من ذهب أو فضة.

البحيرة والسائبة والوصيلة والحام

ومن النذور والقرابين ما يكون حيوانات حية، تسمى كلها أو بعضها باسم الأرباب، فتحبس عليها، وتكون حرة طليقة لا يجوز مسها بسوء. وقد أشير في القرآن الكريم إلى "البحيرة"، و "السائبة"، و "الوصيلة"، و "الحام"،، وللعلماء في هذه المصطلحات كلام، مهما تضارب واختلف، فإنه يوصلنا إلى نتيجة هي ان الجاهليين كانوا يراعون هذه الأمور مراعاة شديدة،ولهم فيها قواعد وأحكام ترجع إلى تقاليد موروثة قديمة، حافظوا عليها، وظلوا يحافظون عليها إلى ان منعها الإسلام.

فاما البحيرة، فالناقة او الشاة تترك فلا ينتفع من لبنها ولا تحمل ولاتركب، وترعى وترد الماء فلا ترد، فاذا ماتت حرموا لحمها على النساء وأباحوه على الرجال، ذلك بعد ان تنتج خمسة أبطن أو عشرة أو ما بين ذلك. وقيل ايضاً الناقة اذا نتجت خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فان كان ذكرا نحروه،فأكله الرجال والنساء جميعاً، وان كانت أنثى شقوا أذنها، فتلك البحيرة، فلا يجز وبرها ولا يحمل عليها، وحرم على النساء ان يذقن من لبنها شيئاً وان ينتفعن بها، وكان منافعها للرجال دون النساء. وقيل للشاة التي تشق أذنها،وذلك شيء كان لأهل الجاهلية. تشق أذنها أو أذن الناقة بنصفين، وقيل بنصفين طولا، ليكون التبحير علامة لها.

وقيل: البحيرة هي التي يمنع درّها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس. قيل لها البحيرة، لأنهم بحروا اذنها، أي شقوها، وكان البحر علامة التخلية. وقال بعض العلماء: البحيرة هي ابنة السائبة. وقال بعض آخر: البحيرة من الإبل يحرم أهل الجاهلية وبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلاّ على الرجال، فما ولدت من ذكر وأنثى، فهو على هيئتها، وان ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها، وورد أن البحيرة من الإبل، كانت الناقة اذا نتجت خمسة أبطن نحروا الخامس ان كان سقباً، وان كان ربعة شقوا أذنها واستحيوها وهي بحيرة. وأما السقب فلا يأكل نساؤهم منه، وهو خالص لرجالهم، فإن ماتت الناقة أو نتجوها ميتا فرجالهم ونساؤهم فيه سواء يأكلون منه. والمرار من "السقب" الذكر من ولد الناقة.

وورد في الأخبار أن أول من بحر البحائر رجل من "بني مدلج"، كانت له ناقتان فجدع آذانها وحرم البانهما وظهورهما، وقال هاتان لله، ثم احتاج اليهما، فشرب ألبانهما وركب ظهورهما. كما نسب التبحير إلى "عمرو بن لحيّ"، إذ قيل إنه كان أول من بحر البحيرة وسيب السائبة.

وأما السائبة، فهي الناقة أو البعير أو الدابة تترك لنذر، أو بعد بلوغ نتاجها حدا معلوماً، فلا تركب ولا يحمل عليها ولا يمنع من ماء وكلأ، وتترك سائبة لا يحل لأحد كائناً من كان مخالفة ذلك. "وكان الرجل في الجاهلية اذا قدم من سفر بعيد، أو بريء من علة، أو نجَته دابة من مشقة أو حرب، قال ناقتي سائبة، أي تسيب، فلا ينتفع بظهرها، ولا تحلا عن ماء، ولا تمنع من كلا، ولا تركب، وقيل: بل كان ينزع من ظهرها فقارة، أو عظما، فتعرف بذلك.فاغير على رجل من العرب، فلم يجد دابة يركبها،فركب سائبة، فقيل: أتركَب حراماً ? فقال: يركب الحرام من لا حلال له، فذهبت مثلاً"، و " قيل: هي أم البحيرة، كانت الناقة اذا ولدت عشرة أبطن، كلهن اناث: سيبت فلم تركب، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت. فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعاً، وبحرت اذن بنتها الأخيرة، فتسمى البحيرة، وهي بمنزلة أمها في أنها سائبة".. وقيل السائبة: كان الرجل من أهل الجاهلية يسيب من ماله من الأنعام، فلا يمنع حوضاً أن يشرع فيه، ولا مرعى أن يرتع فيه، فيهمل في الحمى، فلا ينتفع بظهره، و لا بولده ولا بلبنه ولا بشعره ولا بصوفه، فهو مخلاة لا قيد عليه، ولا راعي له. وكان في روعهم ان من تعرض للسوائب أصابته عقوبة في الدنيا.

ويذكر اهل الأخبار ان أول من سيب السوائب "عمرو بن عامر الخزاعي"، أي "عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف"، أخا بني كعب، وهو أول من غير دين ابراهيم. وقد رجعوا خبرهم هذا الى رسول الله. وقيل ان أول من ابتدع ذلك "جنادة بن عوف"، وهو من النسأة، كما سيأتي الكلام عنه فيما بعد.

وأما الوصيلة، فالناقة التي وصلت بين عشرة أبطن، أو الشاة التي وصلت سبعة أبطن. وفي رواية: ان الشاة اذا ولدت ستة أبطن نظروا، فإن كان السابع ذكراً ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وان كان أنثى تركت في الغنم، وان كان ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها، ولم يذبح، وكان لحمه حراماً على النساء. وفي رواية: ان لبن أم الوصيلة حلال على الرجال دون النساء. وقالوا: الوصيلة الشاة اذا أتامت عشر اناث متتابعات في خمسة أبطن، ليس بينهن ذكر. فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الاناث، إلا ان يموت شيء منها فيشترك في اكله ذكورهم واناثهم.

وأما الحام، فالبعير اذا نتج عشرة أبطن من صلبه، قالوا: قد حمى ظهره،فلا يركب ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى. وقالوا: الحام من الإبل، كان الفحل اذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه. وقالوا بل الحام ان الفحل اذا نتج له عشر اناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى ظهره ولم يركب ولم يجز وبره ويخلى في إبله يضرب فيها لا ينتفع به بغير ذلك. وذكر ان الحام، الفحل يضرب في الإبل عشر سنين، ويقال: اذا ضرب ولد ولده قيل قد حمى ظهره، فيتركونه لا يمس ولا ينحر أبدا ولا يمنع من كلا يريده. وهو من الأنعام التي حرمت ظهورها.

وذكروا ان أول من حمى الحامي هو "عمرو بن لحي ""، وذلك في سنن أخرى سنها لأهل الجاهلية.

وقد أشير في سورة "الأنعام" إلى أشياء كان يفعلها أهل الجاهلية، يتقربون بها إلى آلهتهم، كانوا يحرمون من انعامهم أشياء لا يأكلونها ويعزلون من حرثهم شيئاً معلوماً لالهتهم ويقولون لا يحل، لنا ما سمينا لالهتنا. فورد: )وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصباً. فقالوا: هذا لله بزعمهم، وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون" وورد )وقالوا هذه أنعام وحرث، حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم، وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراءَ عليه سيجزيهم.بما كانوا يفترون. وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا. ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء. سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ".

وذكر المفسرون أن من المشركين من حرم ظهور بعض أنعامهم، فلا يركبون ظهورها، وهم ينتفعون برسلها ونتاجها وسائر الأشياء منها غير ظهورها للركوب. وحرموا من أنعامهم أنعاماً أخر فلا يحجون عليها. وقد ذكروا أن المراد بذلك: البحيرة والسائبة والحام. وأنهم كانوا قد جعلوا ألبان البحائر للذكور دون الإناث. وان كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه، وكان للرجال دون النساء، فان كانت أنثى تترك فلم تذبح، وان كانت ميتة فهم فيه شركاء. فالمراد بهذه الآيات مما ذكرته عن الأمور المتقدمة. وقد كان بعض أصحاب النذر ينذر، فإذا تم النذر وصار وبلغت ابلهم أو غنمهم ذلك العدد، بخل بإبله أو شاته وضاقت نفسه عن الوفاء وضن بإبله وبغنمه فاستعمل التأويل، وقال: إنما قلت إني أذبح كذا وكذا شاة والظباء شاء، كما ان الغنم شاء.: فيجعل ذلك القربان شاءً كله مما يصيده من الظباء فلَذلك يقول الحارث بن حلزة اليشكري: عنناً باطلاً وظلماً كمـا تـع  ترعن حجرة الربيض،الظِباءُ 

وكان الرجل من العرب في الجاهلية اذا بلغ إبله ألفاً عار عين بعير منها، وسرحه لا ينتفع به. وكان من عادتهم اذا بلغ إبلهم المئة، ترك ركوب ظهر بعير منها، فلا يركب ولا ينتفع به، ويقولون لذلك: الأخلاق.

وكانوا يتصدقون بمائة من الإبل على الفقراء والمحتاجين والمعابد، وما شاكل ذلك. روي ان "حنيفة" النعم، وهو من أثرياء الجاهلية، لما شعر بدنو أجله، جمع بنيه، ثم أوصى بمائة من إبله على يتيمه صدقهّ. وكانوا يسمونها "المطيبة"، وقد عرف ما كان يحبسه أهل الجاهلية على أصنامهم من السوائب والبحائر والحوامي وغيرها.ب "الحبس". وقد أطلق الإسلام ما حبسوا وحلل ما حرموا،. وهو جمع حبيس.

وكانت لهم مكرمات، فعلوها في الجاهلية عن خلق ودين ورغبة في شهرة وسمعة. منها انهم كانوا يتصدقَون بأموالهم على أبناء السببل وعلى الفقراء والمحتاجين، ذكر ان "الأسود بن ربيِعة بن أبي الأسود" لليشكري، قال لرسول الله: "يا رسول الله إن أبي كان تصدق بمال من ماله على ابن السبيل في الجاهلية، فإن تكن لي مكرمة تركها، وإن لا تكنً لي مكرمة، فأنا أحق بها. فقال: بل هي لك مكرمة فتقبلها". وذكر ان رسول الله قال: "ألا ان كل مكرمة كانت في الجاهلية، فقد جعلتها تحت قدمي، إلا للسقاية والسدانة". وهذه المكرمات هي من مآثر العرب في الجاهلية، مكارمها وتفاخرها للتي تؤثر عنها. وتحريم أكل لحوم الحيوانات في مثل هذه الحالات على النساء وتخصيصه بالرجال، وجوازه في حالات أخرى،ثم تحريم الانتفاع من لبنها على النساء في بعض الحالات وعلى الرجال والنساء في حالات أخرى إلا للضيوف وعلى جواز ركَوبها: كل هذه تشير إلى أنها من شريعة قديمة. وقد رجع بعض العلماء ذلك إلى الطوطمية، غير أن من للعسير قبول هذا التفسير.

وقد كان الجزارون المجازون شرعاً يقومون بذبح الذيائح عند العبرانيين، وهم الذين يقررون صلاح الذبيحة أو عدم موافقتها لأحكام الشرع. أما عند الجاهليين فلا نعرف شيئاً عمن كان يقوم بذبح الضحايا التي تقدم إلى الأصنام، كما أننا لا نستطيع أن نبحث عن الشروط التي كانوا يثسترطونها في الذبيحة ليكون لحمها صالحاً للأكل.

والطيب والبخور من أهم المواد النبي كان يتقرب الجاهليون إلى آلهتهم بإهدائها إلى المعابد. ولم تكن هذه عادة خاصة بالجاهليين وحدهم، بل هي عادة معروفة في جميع الأديان، ولا تزال باقية مستعملة. يحرق البخور في المباخر والمجامر، لتنبعث روائحه الزكية في أبهاء المعبد. أما الخلوق وأنواع الطيب، فتلطخ بها الأصنام وجدران المعبد، وطالما يقدم المؤمنون إلى آلهتهم بمبخره ليحرق البخور فيها. ومن بين نصوص المسند، نصً كتبه مؤمن اسمه "عبد أصدق" وأبناؤه إلى الإلَه "ود"، ذكروا فيه أنهم قدموا اليه مبخرة تعويظ عن المبخرة التي سرقها اللصوص من معبده.وقد عثر في اليمن على مباخر كبيرة نحتت من الصخر، أهديت إلى المعابد، ليحرق فيها البخور.

وبين ما قدم إلى الآلهة، الملابس والأقمشة وأنواع الأطعمة، حتى اللبن قدّم إلى الصنم "ود" على رواية الأخباريين.

ووردت لفظة "الهدي" في القرآن الكريم. ويراد بها ما أهدي إلى مكة من النعم وغيره من مال أو متاع. والعرب تسمي الإبل هَدْياً، لأنها تهدى إلى البيت لتنحر، فأطلقت على جميع الإبل،وإن لم تكن هدياً تسمية للشيء ببعضه. وذكر ان الهدي ما أهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة أو ثياب وكل ما يهدى. فهو عام في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات. إلا ان الاطلاق إنما ينصرف إلى احد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه. وقد ذكر "الهدي" في شعر لزهير بن أبي سلمى: فلم أر معشراً أسروا هدياً  ولم أر جار بيت يستبـاء

يذكر رجلاً أسر يشبهه في حرمته بالبدنة التي تهدى.

وعرف الهدي المقلد بقلائد، تشعر انه مما أهدى إلى بيت الله ب "القلائد".فلا يجوز لأحد ان يتحرش به، أو ان يفك قلائده، لأن ذلك تجاوز على مال الله، وهو مال معلم عليه معروف بقلادته انه من الهدي المخصص بالبيت. فماذا فكت قلادته سرق وحسب من أموال الناس،الخاصة. والظاهر ان من الجاهليين من كان يتطاول على أموال البيت، يستولي على الهدي، ويفك القلائد، ويسطو بذلك على الإبل المقلدة والبقر المقلد، وذلك كما يظهر من الآية: )لا تحلوا شعائر الله، ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد (. ومنهم من كان يسطو على الهدي قبل وصوله موضعه من البيت.

وكانوا يهدون الإبل والبقر إلى بيوت أصنامهم. وقيل الناقة أو البقرة أو البعير تهدى إلى مكة "البدنة". وقد أشير إلى البدن في القرآن، فورد: )والبدن جعلناها لكم من شعائر الله (. تهدى إلى بيت الله فلا تركب. وذكر ان البدن السمان من الإبل والبقر. ويظهر من غربلة ما ورد في روايات علماء التفسير عن البدن، انها الهدايا التي تقدم إلى الكعبة، تحبس فتبقى حية، لا يجوز لأحد التطاول عليها، وكانوا ينحرونها أيضاً. والإبل تنحر قياماً معقولة. فكانوا اذا ا أرادوا نحر البعير، عقلوا احدى يديه،فيقوم على ثلاث قوائم. ولم يكونوا يركبون البدن إلا عن ضرورة. فالبدن إذن ما يهدى إلى مكة، ليحبس على اسمها، أو ليذبح تقرباً إلى رب البيت.

حمى الآلهة

ولحماية الحبوس من أرض ومن حيوان، شددت شرائع الجاهليين في وجوب المحافظة على حرمتها وعدم الاعتداء عليها. وهددت من يتجاسر على مال الأرباب بعقوبة تنزل عليه منها وبغضب الآلهة عليه، وبمصير سيئ يلحق به، فضلاً عن العقوبة التي تنزلها المعابد به، قد تصل حد القتل. فصار من المحظور اعتضاد نبات الحرم وصيد الحيوان فيه، ومن يفعل. ذلك يكون آثماً، وقد يعرض نفسه لغضب الناس عليه. فصار الحرم مرتعاً آمناً للطيور، ولا زال الناس لا يتحرشون بطيور المعابد ولا يمسونها بأي سوء، بل يقدمون لها ما تحبه من المأكول، لتعيش عليه.

وجعلت المعابد لحيواناتها وللهدي وللقلائد مواضع خاصة، اختارتها لترعى فيها جعلت "حمى" للارباب. لا يجوز لأحد رعي سوائمه بها ولا التطاول على دواب تلك الأحمية، لأنها مما حبس للاصنام. وتكون هذه المواضع مخصبة معشبة ذات حياة، وقد تزرع. وتكون غلتها للمعبد.

الفصل الثامن والستون
رجال الدين

أقصد برجال الدين، أولئك الذين خدموا الأصنام، أو زعموا أنهم ألسنة الأرباب الناطقة على سطح الأرض، والذين كانوا يوجهون الناس توجيها روحياً دينيا، ويرعون حرمة المعابد والأماكن المقدسة وشعائر الدين ويحافظون عليها، ويضون قواعدها للناس.

ومعارفنا عن هذا الموضوع قليلة ضئيلة، لعدم وجود نصوص جاهلية نتحدث عن ذلك، ولعدم ورود شيء مهم عنه في روايات أهل الأخبار. وليس لنا من أمل في زيادة علمنا بهذه الناحية، إلا في المستقبل، فلعله يكشف عن نصوص جاهلة جديدة، قد يرد فيها شيء جديد عن رجال الدين عند الجاهليين، أو في موارد أخرى عربية أو غير عربية قديمة، قد تكون مختبئة مطمورة، يأمر الزمن باخراجها، ليقف عليها الباحث عن هذا الموضوع.

ومن الألفاظ الخاصة برجال الدين، لفظة "رشو"، الواردة في النصوص المعينية والقتبانية، أطلقت على من كان يقوم بخدمة الإلَه "ود" إله معين الرئيس و "عم" إله شعب قتبان الرئيس. فهي في معنى سادن في لغة أهل الحجاز. ووردت لفظة "شوع" في المعينية أيضاً في المعنى نفسه. و "رشوت" "رشوة".بمعنى سادنة وكاهنة. مما يدل على وجود سادنات وكاهنات بين رجال الدين الجاهليين.

ووردت في إلمعينية وفي ألليحانية لفظة "افكل" "أفكل" بمعنى رشو وسادن، أي القائم بأمر الصنم، و السادن له، فورد: "افكل ود"، أي سادن ود. وتقابل هذه اللفظة لفظة "ابكلو" Apkalu في الأكادية. وعرفت السادنة ب افكلت وأفكلة.

والسدنة، قومة الاصنام ومتولو امرها وكان امر فتح البيت بمكة وغلقه وتولي امره الى السادن وهو من بني عبد الدار وفد اقر الرسول السدانة فيهم عام الفتح ويعرف السادن ب الحاجب كذلك فالسدان والحجابة هما بمعنى واحد غير ان الحجابة تخصصت بحجابة الملوك والحكام فصارت وظيفة ادارية ذات مدلول خاص فالحاجب هو الذي يتولى تقديم الناس الى الملوك او منعهم من الوصول اليهم وذلك في الجاهلية وفي الإسلام اما السدانة فأنها ظلت محافظة على معناها هذا الخاص بالمعابد والمواضع المقدسة ولهذه المنزلة وصلتها بالآلهة وبالاصنام عدت السدانة من درجات الشرف والجاه وكانت لاصحابها حرمة ومكانة في النفوس.

والسدانة تنتقل بالارث من الاباء الى اكابر الابناء وتنحصر في الاسرة فتكون من حقها ومن نصيبها لا يمكن انتزاعها منها الا بقوةَ لا يمكن التغلب عليها ومن واجب العشيرة التي تنتمي اليها هذه الاسرة الدفاع عنها ان حاول غريب انتزاع هذا الشرف منها لقد كانت سدانة الكعبة في بني عبد الدار وكانت حجابة ود في دومة الجندل الى بني عامر الاجدار بنو الفرافصة بن الاحوج من كلب وكانت سدنة العزى من بني صرمة بن مرة"، وكان سدنة "جهار" من "آل عوف" من "بني نصر"، وكان سدنة "سواع" "بنو صاهلة"،من هذيل. وكان سدنة بيت "الربة" أي الشمس، من "بني أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيّد بن عمرو بن تميم"، وكان سدنة "الفلس"، "بنو بولان"، وكان سدنة "مناة" "الغطاريف" من الأزد. وسدنة "السعيدة "" "بنو العجلان"، وسدنة "ذو الخلصة"، "بنو هلال بن عامر"، وكان سدنة "ذو اللبا"، "بنو عامر"، وسدنة "المحرق"، "آ ل الأسود" العجليوّن. وسدنة "مرحب" "ذو مرحب"، أي من يتولى أمر الصنم.

وكان "مسعود" الثقفي، زوج "سبيعة"، وقائد ثقيف في الفجار، من من سدنة اللات. وهو من سادات ثقيف. ومن أبناء" "عروة بن مسعود"،وأمه "سبيعة" بنت "عبد شمس". وذكر انه الذي ذكر اللّه عزّ وجل في التنزيل من القريتين عظيم. وأحد أربعة اتصل سؤددهم في الجاهلية والإسلام.

، وكان لهذه الأسر التي تولت السدانة، مكانة كبيرة في قومها، فعدّت من الأسر الشريفة ذات النفوذ عند الجاهليين. وقد استفادت من النذور والقرابين التي ّتقدم إلى بيوت الأصنام، إذ تكون من حقها ونصيبها. وقد ظهر من "بني مخاشن بن معاوية بن شرُيف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم"، حكام حكموا بعكاظ. والحكومة من امارات الشرف والجاه والتقدير، كما ظهر منها أئمة تولوا الإجازة بالمواسم، وهي من علائم التعظيم والتفخيم عندهم.

غير ان هذا الحق لا يستوجب ولا يشترط أن تكون السدانة في أسرة من القبيلة أو الموضع الذي فيه بيت الصنم أو الأصنام، فقد كان دَير من سدنة الأصنام من قبيلة لا تنتمي اليها من يقع بيت الصنم في أرضها. فكانت السدانة مثلاً لبني أنعم في جرش، ولبني الغطريف في قديد، ولبني شيبان في نخلة، ولآل أمامة في تبالة وهكذا. ويظهر ان هؤلاء توارثوا هذا الحق من عهد سابق، إما لأنهم استوردوا الصنم أو تلك الأصنام إلى هذه المواضع فأقاموا فيها وإما لأنهم كانوا يسكنون مع قبيلتهم في تلك الأماكن، ثمَ حدث لسبب من الأسباب أن جلت قبيلتهم عن الموضع. أما السدنة، ففضلوا البقاء في الموضع الذي كانوا فيه حيث أصنامهم والبيت. ونجد مثل ذلك أيضاً عند العبرانيين.

ويظهر من تفسير لفظة "صوفة" و "صوفان"، على رأي بعض العلماء، أن هذه الكلمة كانت تقال لكل من ولي البيت شيئاً من غير اهله. أو قام بشيء من خدمة البيت أو بشيء من أمر المناسك. ومعنى هذا أن خدمة البيت: بيت مكة أو غيره، لم تكن خاصة بأهل الموضع الذي يكون فيه هذا البيت، بل كان من ا لجائز أن في يتولاها أناس من أهل ذلك الموضع، واناس من غيرهم أيضاً كأن يقيم أشخاص في ذلك المكان فتطول اقامتهم به وتظهر منهم زعامة او من اولادهم تؤدي بهم الى الاستحواذ على رئاسة البيت ورئاسة ذلك المكان كالذي كان من امر قصي ولا بد من ادخال "النسأة"، في رجال الدين. فقد كان الناسئ هو الذي ينسئ النسيء يعين موسم الحج ويثبته للناس فهو اذن فقيه القوم وعالمهم ومفتيهم في أمر الحج.

وقد كان من أهم واجبات "النسأة". تثبيت وتعيين الأشهر. فقد كانت لدى الجاهليين أشهر حرم " لها حرمة ومنزلة خاصة في نفوسهم، لما كان لها من علاقة بآلهتهم وبتعبدهم لها، وبالحج فيها إلى معابد الآلهة. مثل شهر "ذ الالت" "ورخن ذ الالت"، وهو شهر خصص بالآلهة، كما يظهر من تسميته بها. يظهر أنه كان شهر تقرب وعبادة الأرباب، ومثل شهر "ذ عم"، "ذو عم"، و "عم" هو إله قتبان الرئيس،فيظهر أنه شهر مقدس خصص بعبادة هذا الإلهَ، أو أن يوماً أو عيداً خاصاً به، كان يقع فيه، فدعي لذلك. بأسمه ومثل شهر "ذ حجن"، أي شهر "ذو الحجة"، وهو شهر خصص بالحج. ومثل الأشهر الاربعة الحرم التي تتحدث عنها الموارد الإسلامية. والإجازة بعرفة م ن الأعمال التي لها تماس بالدين،فهي من شعائر الجج ومناسكه.

ولا بد وان نعد "المجيز"، وهو الذي يجيز الناس من المزدلفة إلى منى من رجال الدين. وممن كانت له منزلة وحرمة في قومه، لما لمركزه من أهمية في الحج. وقد أشار - "السكري " الى"أئمة العرب"، فذكر انهم الذين تولوا أمر ألمواسم وأمر القضاء بعكاظ، والذين كانوا سدنتهم على دينهم وامناؤهم على قبلتهم، وكانوا م قريش، والذين تولوا الإفتاء في دينهم. وهم من "بني مالك بن كنانة". ولما تحدث عن "النسأة"، قال: "نسأة الشهور من كنانة وهم "القلامسة، واحدهم قلمّس ؛ وكانوا فقهاء العرب والمفتين لهم في دينهم". والفقيه العالم وفقيه العرب عالمهم ". والفقه العلم، "وقد جعلته العرب خاصاً بعلم الشريعة". وفقهه تفقيهاً علمه. "ومنه الحديث: اللهم علمهم الدين وفقهه في التأويل، أي علمه تأويله.

وفي القران الكريم )فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين(. والفقه العلم بالشيء والفهم له والفطنة.وقد خصصت اللفظة بعلم الفقه في الإسلام. مما يدل على أن لها صلة منذ أيام الجاهلية باعلم وبالدين. وأن "الفقهاء"، العلماء بأمور إلدين عند الجاهليين كذلك. وفيه ألفاظ يستدل منها على وجود مفهوم العلم وا لعلماء والتعلم والدين وفهمه والشريعة " والأحكام عند الجاهليين، ولا تكون هذه عنداقوم ليس لهم علماء ورجال دين يعلمون منهم دونهم أحكام الدين،ليتفقهوا فيه وليتعلموا ما هو واجب عليهم وما هو غير واجب ومفروض عليهم. والإفتاء الاجابة عن مسألة ومنه قوله تعالى ) قل الله يفتيكم في الكلالة ( والفتيا والفتوى ما افتى به الفقيه في مسألة وقد استفتى اصحابه رسول الله الرسولَ في أمر النساء وإرثهن فنزل الوحي: ) ويستفتونك في النساء. قل: الله يفتيكم فيهن(. فقد كان أهل الجاهلية يستفتون فقهاءهم وأهل الفتيا منهم فيما يشكل عليهم من أمور الدين، فيفتون لهم ما يرونه من رأي واجتهاد. فنحن، اذن أمام فقه في الدين واجتهاد فيه عند أهل الجاهلية.

والإمام ما ائتم به قوم من رئيس أو غيره،كانوا على دين أو كانوا مشركين. فهو الذي يقتدى به. وقد وردت الكلمة في سبمعة مواضع من القرآن ا لكريم في حالة الإفراد، ووردت خمس مرات في حالة الجمع،، أي "أئمة"، اًطلقت على أئمة الكفر وعلى الغواة كما أطلقت فيه على المؤمنين الهادين إلى الحق. وأئمة الكفر في قوله تعالى :) فقاتلوا أئمة الكفر( "، أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان، وهم الذين كانوا يؤذون الرسول، وهموّا بإخراجه وعادوه. فالإمام إمام دين وإمام دنيا: رجل دين يقتدى به، ورئيس قبيلة وشريف قوم وسيدهم. ونظراً لقلة استعمال اللفظة في الرئاسة الدينية ولاستعمالها في معنى الرئاسة الدينية في الغالب، ولا سيما في الإسلام حيث خصصت برئاسة دينية، من إمامة للمسلمين، وإمامة في الفقه، وإمامة في الصلاة، ولعدم اطلاق الجاهليين لها على سادات القبيلة أو سادة القوم، إلا في القليل. فإن في استطاعتنا القول انها كانت عندهم في معنى الرئاسة الدينية كما هو الحال في الإسلام.

ونجد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد بوجود رجال دين كان لهم رأي في الخلق وفي الخالق وفي الحياة، منهم من بشر برأيه وحاول نشره: ومنهم من تبتل واعتكفْ وقنع بإيمانه برأيه وبصحة عقيدته. حتى ان منهم من كان قد تبتل وتنسك وسلك طريق الزهاد في اجتناب الطيبات ولذات الحياة، ومن ذلك أكل اللحم. فقد عرف "عبد الله بن عبد الملك بن عبد الله" الغفاري، ب "أبي اللحم" "آبي اللحم"، لأنه كان يأبى أن يأكل اللحم. وكان شريفاً شاعراً، ينزل "الصفراء"، وشهد "حنين" وقتل بها.

وعرف "عثمان بن مظعون" بتبتله، حتى انه ابتعد عن زوجه، فلم يقربها، وكاد ان يختصى، حتى نهاه عن ذلك رسول اللهَ. وكان على هذا الرأي في جاهليته من شدة التمسك بالزهد عن الدنيا والابتعاد عن ملذاتها،وقد كان نصرانياً متأثراً بالرهبانية، أخذ آراءه هذه من زهاد النصارى، الذين غلب التصوف علهم، وابتعدوا عن الدنيا، ورأوا ان الخلاص من الخطيئة والإثم،هو بالتقشف وبالابتعاد عن كل حلو محبوب في هذه الدنيا.

وقد عرفت الجاهلية رجالاً آخرين كانوا مثل عثمان بن مظعون والرهبان في التأمل والتفكر والابتعاد عن الناس. وهي رهبانية حاربها الإسلام، إذ نهى عن الرهبنة. رأى "عمر" رجلاً مطأطئاً رأسه، فقال: ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمريض. ورأى رجلاً متماوتا، فقال: لا تمت علينا ديننا، أماتك الله. ونظرت عائشة إلى رجل كاد يموت تخافتاً، فقالت: ما لهذا ? قيل: انه من القراء، فقالت: كان عمر سيد القراء، وكان اذا مشى أسرع،واذا قال أسمع، واذا ضرب أوجع. وذكر ان عشرة من الصحابة اجتمعوا في بيت "عثمان بن مظعون"، واتفقوا على ان يصوموا النهار َويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش، ولا يأكلون اللحم والودك، ويلبسوا المسوح، فسمع، رسول الله بهم، فنهاهم عن ذلك، و " الصارورة" والصرار الذين تبتلوا وتركوا النكاح. وهذا من فعل الرهبان.

وهو معروف عند العرب. والصرورة الرجل في الجاهلية يحدث حدثا فيلجأ الى الكعب، فلا يهج. فكان إذا لقيه ولي الدم في الحرم، قيل إله هو صرورة ولا تهجه، تعظيماً للبيت واحتراما له،ومثل "صرمة" إلى المعروف ب "أبي قيس "، وكان الترهب في الجاهلية واغتسل من الجنابة وهم بالنصرانية ثم امسك وكان قوّالا بالحق لا يدخل بيتا فيه جنب او حائض الى ان ادرك الإسلام فأسلم ويظهر من ذلك أن الاغتسال من الجنابهَ والابتعاد عن الحائض من الشعائر التي راعاها المتدينون من اهل الجاهلية، من الموحدين الذين تأثروا باليهودية، لكنهم لم يدخلوا فيها ولا في النصرانية، بل أمسكوا عن الديانتين، ودعوا إلى عبادة واحد أحد، وماتوا على هذا الدين.

ومثل "وكيع بن سلمة" الإيادي، صاحب الصرح بحزورة مكة " فقد كان كاهنا ورجل دين، وقالوا كان صديقاً من الصديقين. اتخذ صرحاً يصعد اليه بسلالم، فكان يدعي أنه يناجي ربّه من ذلك الموضع. وكان يعظ الناس وينصحهم التدين بدينه وبالابتعاد عن عبادة الأوثان، على شاكلة الأحناف. وهو في الواقع واحد منهم، ويجب اعتباره أحدهم، لأن ما ينسب اليه ينسب أيضاً إلى الحنفاء. والصديق الكثير الصدق، ومن صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله."قال الله تعالى )واذكر في الكتاب ابراهيم.انه كان صديقاً نبياً. وقال تعالى )وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام(، أي مبالغة في الصدق و التصديق". وهم من آمن بالله وصدق به وبشر بعبادته بين الناس، وكان باراً بنفسه وبغيره. وهي بمعنى " بار" في لغة بني إرم.

وقد نسب أهل الأخبار إلى رجال من الجاهليين فتاوى وأحكام صارت سنناً في قومهم. من ذلك ما نسبوه إلى "قصي" من أمور، زعموا انها صارت سنةّ احدثت بها قريش، وان بعضاً من أحكامه بقيت إلى الإسلام، فأقرها، وما نسبوه إلى "عامر بن الظرب" العدواني من حكم في "الخنى" جرى حكم الإسلام به. وما ذكروه من افتاء "عامر بن جشم بن غنم"، المعروف ب "ذي المجاسد" في التوريث على قاعدة: ان للذكر مثل حظ الانثيين، وهو حكم حكم به الإسلام. ومن أمور أخرى، يرد ذكرها في المواضع المناسبة من هذا الكتاب، مما يدل على ان الحياة الدينية عند الجاهليين، هي آراء وفتاوى، أفتى بها رجي الدين أهل الدين والمروؤة والعقل والعلم من أهل الجاهلية، فأخذ بها قوم من أتباعهم، وساروا بموجبها. وبقي بعض منها إلى الإسلام. غير ان تلك الفتاوى لم تكن عامة، شملت كل العرب، بل حتى كل قوم ذلك المفتي أو الإمام، إذ لم تكن عند إلى العرب سنة واحدة ملزمة، لسبب انهم كَانوا شيعاً وقبائل، ولكراهتهم الخضوع للقيود العامة، إلا كرها، وذلك في الأمور التي لا بد لهم من الخضوع ولحكمها لأنها من أصول الأعراف ا لتي يقوم عليها وجودهم مثل عرف الاخذ بالثأر.

ومن الصعب تصور وجود طبقة خاصة كبيرة لرجال الدين على نحو ما كان عند المصريين مثلاً أو الآشوريين أو البابليين أو اليونان أو الرومان،أو في الكنيسة، بسبب النظام القبلي الذي كان غالباً على جزيرة العرب. وصغر المجتمعات الحضرية. فالأصنام هي أصنام محلية. " أصنام قبيلة، لذلك كان عبدتها هم عبدة القبيلة أو القبائل المتعبدة لها. وفي محيط اجتماعي ضيق مثل هذا المحيط، لا يمكن ظهور طبقة خاصة برجال الدين ذات نفوذ واسع، إنما تكون قدرتها بقدرة المحيط الذي تعيش بها. ولما كانت حياة البداوة حياة بسيطة غير معقدة، تعذر علينا أن نتصور حياة دينية معقدة عند أبناء البادية. وكل ما يمكن وجوده عندهم، هو ما كان له علاقة بمحيطهم وبمعيشتهم البسيطة " مثل السدانة و الكهانة وأمثال ذلك مما يحتاج اليه البدوي لحل مشكلات حياته ولجلب السعادة له، ولم أجد في نصوص الجاهليين ولا في اخبار أهل الأخبار، ما يفيد قيام رجال الدين من أهل الجاهلية، بتلقين الناس أصول الدين وتعاليمه، أو شرح نصوص دينية لهم. أو تعليمهم الناس مبادئ القراءة والكتابة في المعابد على نحو ما كان يفعله اليهود والنصارى في ذلك الوقت. ولكن هذا لا يكون دليلاَ على نفي وجود شيء من ذلك عندهم. فقد يجوز أن يعثر في المستقبل على نصوص تفيد بوجود ذلك عندهم. ذكر أن رجلاً من "خثعم" قال: " كانت العرب لا تحرم حلالاً ولا تحلل حراماَ. وكانوا يعبدون الأوثان ويتحاكمون اليها.

وفي القرآن الكريم آيات مثل: ) وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فقالوا: هذا لله بزعمهم. وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم، فلا يصل إلى الله، وما كان لله، فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون ( وكذلك زين لكثير. من الناس قتل أولادهم،شركاؤهم ليردوهم، وليلبسوا عليهم دينهم. ولو شاء الله ما فعلوه،فذرهم وما يفترون. وقالوا: هذه أنعام وحرث حجرً لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم،وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها، افتراء عليهم، سيجزيهم بما كانوا يفترون"، وآيات أخرى وكلمات تفيد وجود تسريع ومشرعين لدى الجاهليين، أي رجال دين يبينون لهم الحلال والحرام وأوامر الأصنام، ويشرعون لهم من تشريع كالذي نراه في هذه الآيات وغيرها من أحكام وضعوها للناس باسم آلهتهم، فوبخهم الله في القرآن.على افترائهم هذا على الله وعلى الأصنام التي لا تنطق ولا تعقل.

وكان من أهم واجبات رجال الدين والزهاد والمتنسكين، الاشراف على المعابد وصيانة أموالها، وخدمة الأصنام وتنفيذ الأحكام، وتلبية طلبات الناس في التوسط لدى الآلهة برفع الضر والكرب عنهم، أيام الشدة وساعات العسر. من ذلك التوسل إلى الآلهة. بحفظ القوافل، وانزال الرحمة بالناس سني القحط. ومن ذلك ما يسمونه بالاستسقاء. فقد كانوا يستسقون إذا أجدبوا، فإذا أرادوا ذلك أخذوا من ثلاثة أشجار وهي: سلع وعشر وشبرق، من كل شجرة شيئاً من عيدانها وجعلوا ذلك حزمة، وربطوا بها ظهر ثور وأضرموا فيها النار، ويرسلون ذلك الثور، فإذا أحس بالنار عدا حتى يحترق ما على ظهره ويتساقط. وقد يهلك ذلك الثور فيسقون.

وذكر انهم كانوا اذا أرادوا الاستمطار في الجاهلية اجتمعوا وجمعوا ما قدروا عليه من البقر ثم عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها السلع والعشر، ثم صعدوا بها في جبل وعر، وأشعلوا فيها النيران، وضجوا بالدعاء والتضرع، فكانواّ يرون ان ذلك من أسباب السقيا. ولأمية بن أبي الصلت شعر في ذلك.

وكان من عادة أهل مكة في الاستسقاء، انهم كانوا اذا أجدبوا وقحطوا،واشتدت بهم الحاجة، خرج من كل بطن منهم رجل، ثم يغتسلون بالماء، ويتطيبون، ثم يلتمسون الركن ويطوفون بالبيت العتق سبعاً،تم يرقون أبا قبيس،فيتقدم رجل منهم، يكون من خيارهم، ومن رجال الدين فيهم، ممن يتبركون به،فيدعو الله ويستغيث،طالباً الرحمة والغوث بالمتوسلين اليه، ويذكرون ان "عبد المطلب"، كان ممن استسقى لأهل مكة ولغيرهم مراراً.

التبرك برجال الدين

ويظهر من أخبار أهل الأخبار، ان رجال الدين من أهل الجاهلية كانوا يباركون أتباعهم ويقدسونهم ويلمسون رؤوسهم. لمنحهم البركة والشفاء من الأمراض. فكان أحدهم يضع يده على رأس مريض، أو يلمس جبهته، ليمنحه بركة تشفيه،أو عافية تصيبه، أو تبركاً وتقرباً بذلك إلى الالهة. وكانوا يتفلون في فم الصبيان، لتكون التفلة بركة لهم،وعافية، وشفاء من مرض، أو علماً يصيب الصبي، حينما يكون رجلاً.

ويظهر من القرآن ومن الحديث النبوي، ان أهل الكتاب من الجاهليين كانوا يبالغون في التقرب من رجال دينهم وفي التبرك بهم، حتى انهم كانوا يتسابقون في الحصول على قطعة من ملابس أوليائهم ورجال دينهم ورهبانهم ونسّاكهم للتبرك بها. وفي شعر امرىء القيس،وشعر غيره إشارة إلى هذا التبجيل والتعظيم.

تنفيذ الأحكام

ولم يكن تنفيذ الأحكام الدينية إلزامياً، إنما كان عن طاعة وموافقة. ثم إن العرب لم يكونوا على دين واحد يرجع إلى شرائعه، حتى يلزم المرء بتنفيذ ما جاء في حكمه.فكان أمر إطاعة أحكام. رجال الدين رهناً بمكانة رجل الدين وبما له من هيبة ونفوذ بين قومه.

وقد رأينا أن من الناس من كان يثور حتى على آلهته، إذا وجد أنها لم تلبّ طلباته. وأنه كان يتوسل اليها ويلوذ بها لمساعدته عند الشدة، ثم يهددها ويتوعدها بالابتعاد عنها وبترك زيارتها وبنبذها، إن هي صمت آذانها عنه، ولم تجب ما طلبه منها. وقد قصصنا حكاية امرئ القيس مع صنمه، اذ رمي السهام في وجهه وعنفه وشتمه، لأن جواب الاستقسام لم يكن على نحو ما كان يريد. ولم يكن ذلك من عمل أهل الجاهلية م وحدهم، بل في وقوع مثل هذه الحوادث في الإسلام أيضاً.

وقد رأينا أن في الجاهليين - كما في كل قوم - أناس كانوا لا يقيمون وزناً لحلال أو حرام، فكانوا يستحلون المظالم، ولا يجعلون للحرمات حرمة،ويعتدون في الأًشهر الحرم. كانوا إذا حضروا الأسواق، أباحوا لأنفسهم الاعتداء فيها على أموال الناس فسمّوا: "المحلون". ومنهم قبائل من أسد و طىء وبني بكر ابن عبد مناة بن كنانة، وقوم من بني عامر بن صعصعة. فهؤلاء لا يعرفون الحلال ولا الحرام، والشهور والأيام عندهم سواء بسواء، يغزون فيها متى شاؤوا،حتى في الأشهر الحرم، اذا لا حرمة عندهم لشهر.

وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر، فيسمون الذادة المحرمون. وهم من بني عمرو بن تميم،وبني حنظلة بن زيد مناة،وقوم من هذيل،وقوم من بني شيبان،وقوم من بني كلب بن وبرة. فكانوا يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس. وكان العرب جميعاً بين هؤلاء تضع أسلحتهم في الأشهر الحرم.

ولم تكن للجاهليين أحكام في الحلال والحرام بالنسبة إلى المأكول على ما يظهر، بل كان مرجع الحرمة والإباحة عندهم إلى عرف القبائل. فلما نزل الأمر في الإسلام بتحريم أكل الميتة، أي الحيوان الميت، عجبت قريش من ذلك، واحتجوا قائلين: كيف تعبدون في شيئاً لا تأكلون مما قتل،وتأكلون أنتم مما قتلتم ? وكانوا يقولون ما الذي يموت، وما الذي تذبحون إلا سواء. وذكر " ان ناساً من المشركين دخلوا على رسول الله،صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أخبرنا عن الشاة اذا ماتت من قتلها ? فقال الله قتلها. قالوا: فتزعم ان ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتله الله حرام ! ". وذكر ان فارس أوحت إلى أوليائها من مشركي قريش ان خاصموا محمداً وقولوا له: ان ما ذبحت فهو حلال وما ذبح الله بشمشار من ذهب،فهو حرام. فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ". فقد كانت قريش تأكل كل شيء،من ميتة ومختنقة ومن نطيحة وما أكل السبع وما أهل للصنم، فنزل تحريم ذلك في الإسلام.

وذكر انهم كانوا يقطعون يسيراً من حلق الشاة ويتركونها حتى تموت،يجعلون عملهم هذا ذكاة لها. وقيل: ذبيحة الشريطة، هي انهم كانوا يشرطونها من العلة، فإذا ماتت، قالوا: قد ذبحناها. وذكر ان الشريطة الشاة أثر في حلقها أثر يسير كشرط المحاجم،لا يستقصي في ذبحها،والشريطة أيضاً المشقوقة الأذن من الإبل، لأنها شرطت آذانها، واذا كان التعريف الأول صحيحاً،فإن معنى هذا انهم كانوا يراعون بعض، الأحكام في الذبح، أي ان لهم أحكاماً دينية في كيفية الذبح. وقد نهى الإسلام عن أكل الشريطة.

واستباح الجاهليون أكل "النطيحة"،وهي المنطوحة التي ماتت من النطح.واستباحوا أيضاً أكل الفريسة والأكيلة والرمية.

وقد كان رجال الدين وسادات القبيلة، يحرمون بعض الاشياء على أنفسهم اذا شعروا بوجود ضرر بها، وبأن في فعلها الحاق أذىَ في الإنسان وخدشا في الاسم فحرم لعض رجال الجاهلية الخمر على انفسهم تكرما وصيانة لانفسهم.،منهم عامر بن الظرب العدواني، وقيس بن عاصم، وِصفوان بن أمية بن محرث الكناني " وعفيف بن معد يكرب، وسويد بن عدي بن عمرو بن سلسلة الطائي. وغيرهم لما وجدوا فيها من ضرر على الابدان واثر في العقل واضاعة للمال وورد في بعض الموارد ان اول من خرم الخمر في الجاهلية الوليد بن المغيرة وقيل قيس بن عاصم ثم جاء الإسلام بتقريره.

ليأمنوا به على أنفسهم، لأنهما قد خالفا بذلك العهود وما اتفق عليه من وجوب مراعاة الحرمات.

وقد كان من عرفهم: انهم كانوا يتقلدون من لحاء شجر مكة،فيقيم الرجل بمكانه، حتى اذا انقضت الأشهر الحرم فأراد ان يرجع إلى أهله قلّد نفسه وناقته من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتي أهله. وكان من عرفهم في رواية من روايات أهل الأخبار، انهم اذا خرجوا من بيوتهم يريدون الحج، تقلدوا من لحاء السمر واذا أرادوا العودة إلى ديارهم تقلدوا قلادة شعر، فلم يعرض لهم أحد بسوء. وذكر أيضا، ان الرجل منهم كان يتقلد قلادة من لحاء شجرة من شجر الحرم، ثم يذهب حيث يشاء، فيأمن بذلك. وان اهل مكة كانوا يفعلون ذلك في تجارتهم أ فيضعون القلائد في أعناقهم وفي أعناق بهائمهم، فلا يعرض لهم أحد بسوء. إذ كانوا يرون الوفاء بالميثاق عهداً في أعناقهم وديناً يلزمهم بالوفاء في أحكامه.

كسوة رجال الدين

يقول أهل الأخبار في معرض كلامهم على كسوة العرب: وأما أهل الحضر وسكنة المدن منهم، فكانوا يتفننون في لبوسهم، ويختلفون في كسوتهم، فكان الكَاهن لا يلبس المصبغ والعراف لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه، والحكم لا يفارق الوبر و الشاعر منهم كان اذا أراد الهجاء دهن أحد شقي رأسه، وأرخى إزاره، و انتعل نعلاً واحدة، وكان لحرائر النساء زيّ " ولكل مملوك زي، ولذوات الرايات زي. لا يظهر من قولهم هذا انه قد كان لرجال الدين أو لبعض منهم زي، يميزون أنفسهم به عن بقية الناس، وهو شيء معروف عند البشر من قديم الأيام الى اليوم فلا نستبعد وجود زي خاص لرجال الدين عند الوثنيين الجاهليين. أما رجال الدين من أهل الكتاب فقد كانوا يتزيون بزي خاص يميزهم عن بقية اتباعهم وقد نص على ذلك اهل الكتاب.

الفصل التاسع والستون
الاصنام

نجد في كتاب الأصنام لابن الكلبي في المؤلفات الإسلامية الأخرى، أسماء عدد من الأصنام كان الجاهليون يعبدونها، وهي على الأكثر أصنام كان يتعبدها أهل الحجاز ونجد والعربية الشمالية،وذلك قبيل الإسلام. ومن هذه الموارد الإسلامية استقينا علمنا عن هذه الأصنام. وقد ذكر أهل الأخبار ان بعض هذه الأصنام اناث. وهن اللات، والعزى، و مناة. وهي أصنام ذكرت في القرآن الكريم: ) أ فرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى(. ويجب ان نضيف اليها الشمس.

اللات

و اللات من الأصنام القديمة المشهورة عند العرب. ذكر ابن الكلبي أنه كان صخرة مربعة بيضاء، بنت ثقيف عليها بيتاً صاروا يسمرون اليه، يضاهون به ما كان في مكة وفي بيوت الآلهة الأخرى.

ويرى ابن الكلبي ان الصنم "اللات" هو أحدث عهداً من مناة. أما نحن فلا نستطيع ان نجرؤ فنقول بهذا القول، لأن الصنمين هما من الاصنام القديمة التي ورد ذكرها في كتابات النبط والصفويين ثم ان هيرودوتس اشار الى اللات كما ساذكر بذلك وليس من السهل حتى بالنسبة الى ابن الكلبي او غيره ممن تقدم عليه بالزمن الحكم على زمن دخول عبادة الصنمين الى جزيرة العرب لان ذلك يعود الى زمن سابق لا تصل ذاكرة الرواة اليه.

ومكان بيت اللات في موضع مسجد الطائف،أو تحت منارة مسجد الطائف. وقد عرف البيت الذي بني على اللات بيت الربة، ويقصدون بالربة اللات، لأنه أنثى في نظر عابديه. ولا ندري أكان انشاء مسجد الطائف على موضع معبد اللات رمزاً لحلول بيت الله محل بيت الربة،وبيت الأصنام، وتعبيراً عن حلول الإسلام محل عبادة اللات والأصنام، أم كان ذلك "لسبب آخر، هو وجود أسس، سابقة وحجارة قديمة موجودة، واسهل لذلك إقامة بناء المسجد في هذا المكان ? وقد فسر بعض المستشرقين إقامة المسجد في هذا المكان، بأته تخليد لذكرى الوثنية في نفوس بعض من أسلم لسانه وكفر قلبه، فسرهم قيام المسجد في هذا المكان ليبقى أثراً يذكرهم بذكرى صنمهم القديم اللات.

وللاخباريين روايات عن صخرة اللات، منها أنها في الأصل، حجرة كان يجلس عليها رجل، يبيع السمن واللبن للحجاج في الزمن الأول، وقالوا: إنها سميت باللات لأن عمرو بن لحي كان يلت عندها السويق للحجاج على تلك الصخرة، وقالوا: بل كانت اللات في الأصل رجلاً من ثقيف. فلما مات، قال لهم عمرو بن لحي: لم يمت، ولكن دخل في الصخرة، ثم أمر بعبادتها، وأن يبنوا بنياناً يسمى اللات. وقالوا: "قام عمرو بن لحي، فقال لهم: إن ربكم كان قد دخل في هذا الحجر، يعني تلك الصخرة،نصبها لهم صنماً يعبدونها. وكان فيه وفي العزى شيطانان يكلمّان الناس، فاتخذتها ثقيف طاغوتاً، وبنت لها الطبرى ان "اللات، هي من الله، ألحقت فيه. التاء، واللات، كما قيل عمرو للذكر وللأنثى عمرة، وكما قيل للذكر عباس ثم قيل الأنثى عباسة".

وورد في بعض روايات اْهل الأخبار ان الثقفي الذي كان يلت السويق بالزيت ويقدمه للناس، لما توفي قبر في موضع أللات، فعكفوا على قبره،فعبدوه وجعلوه وثناً، وزعم بعض آخر انه قبر عامر بن الظرب العدواني. فترى هذه الروايات ان "بيت الربة"، هو قبر رجل، دفن، فيه فعبد وصير الهاً. وزعم قوم انه كان رجلا من ثقيف، يقال له "صرمة بن غنم"، وكان يسلأ السمن، فيضعه على صخرة، فتْأتيه العرب، فلما مات، عبدته ثقيف.

وتفسير أهل الأخبار لاسم "اللات"، هو بالطبع من تفسيراتهم المألوفة الكثيرة التي لا يمكن أن نثق بها، ولا يمكن أن نحملها على محمل الصدق والعلم. فالاسم هو من الأسماء القديمة التي عرفت قبل الميلاد. ويرى بعض المستشرقين أنه ادغام وسط بين "الالاهت"،"ال سال هت"ِ Al Alahat والإدغام التام "اللات" "ال لت" Allat، على نحو ما حدث للفظ الجلالة: "الا لاه "ال ال ه" الذي صار "ا لله".

وفي قول أهل الأخبار أن صخرة اللات كانت ليهودي، يلتّ عندها السويق أو لرجل من ثقيف، غمز وطعن في ثقيف، وقد غمز بها في أمور أخرى أشرت اليها في مواضع أخرى. ويعود سبب هذا الغمز ان المنافسة التي كانت بين أهل الطائف وأهل مكة، ثم إلى الكراهية الشديدة التي حملها اهل العراق وأهل الحجاز وغيرهم للحجاج لأعماله القاسية، وعدم مبالاته ومراعاته للحرمات حتى بالنسبة إلى الكعبة، مما حمل الناس على كرهه وكره قومه ثقيف، وعلى وضع قصص عن ثقيف.

ولا يستبعد أن تكون صخرة اللات صخرة من هذه الصخور المقدسة التي كان يقدسها الجاهليون ومن بينها "الحجر الأسود" الذي كان يقدسه اهل مكة ومن كان يأتي إلى مكة للص ج وفي غير م وسم الحج، لذلك كانوا يلمسونه ويتبركون به. وإذا أخذنا برأي ابن الكلبي من أن عمرو بن لحي قال للناس: "إن ربكم كان قد دخل في هذا الحجر "، أو أن الرجل الذي كان عند الصخرة لم يمت، ولكن دخل فيها أو أن روح ميت حلت فيها ونظرنا إلى رأيه هذا بشيء من الجد، فلا يستبعد أن يشير هذا الرأي إلى ما يعني ب "الفتيشزم"fetichism" أي عبادة الأحجر في اصطلاح علماء الأديان. ويعنون بها عبادة الأرواح التي يزعم المتعبدون لها أنها حالة في تلك الأحجار، وخاصة الأحجار الغريبة التي لم تصقلها الأيدي، بل عبدت على هيأتها وخلقتها في الطبيعة، وهي من العبادات المنحطة بالنسبة الي عبادة الصور والتماثيل والأصنام.

وذكر ان قريشاً تعبدت للصنم اللات بموضع نخلة عند سوق عكاظ، وقيل انه كان بالكعبة. وذكر ان "اللات بيت كان بنخلةّ تعبده قريش" ويلاحظ ان من أهل الأخبار من جعل العزى بيت كان بنخلة أي هذا البيت المذكور. ويظهر من روايات أهل الأخبار ان منهم من رأى ان اللات بيت للصنم، الذي كان بالطائف، وان منهم من رأى انه كان بنخلة تعبده قريش. وأما عباد البيت الأول، فهم ثقيف. ولا أستبعد وجود بيوت عبادة اخرى. في غير هذين المكانين فيّ الحجاز وفي غير الحجاز.

واللات من الآ لهة المعبودة عند النبط أيضاً، وقد ورد اسمها في نصوص "الحجر" و "صلخد" و "تدمر"، وهي من مواضع النبطْ. وهو "ه ل ت" "ه لت" "ها لت" في النصوص الصفوية، و منها "اللات"، لأن "الهاء" حرف تعريف في اللهجة الصفوية. وقد ذكر أكثر من ستين مرة في الكتابات الصفوية. وهو أكثر آلهة الصفويين وروداً في نصوصهم، و يدل ذلك على شيوع عبادته بينهم.

ويذكر الباحثون ان النبط عدّوا اللات أماً للالهة، وهي في نظر "روبرتسن سمث" الإلهة الأم لمدينة "بطر"، وتقابل الإلهة Artemis عند أهل قرطاجة. وقد عبدت اللات في تدمر، وفي أرض "مدين" عند اللحيانين. وقد وصف "أفيفانيوس" Epiphanius معبد الإلهة اللات في مدينة "بطرا"، فذكر انه معبد "الأم العذراء Virgin mother. كما انها كانت معبودة عند أهل "الوسة" "الوس" Elusa كذلك. و يظهر ان عبادتها كانت قد انتقلت من النبط ومن القبائل العربية الشمالية إلى أهل الحجاز.

وصنم اللات، هو "أليلات" "أللات" Alilat=Alelat المذكور في تاريخ "هيرودوتس". ذكر انه من آلهة العرب الشهيرة، والتسمية عربية النجار، وقد غيرت تغيراً طفيفاَ، اقتضته طبيعة اللغة اليونانية، فذكره "هيرودوتس" على النحو المذكور. فهذا الصنم إذن هو أول صنم عربي يرد اسمه في نص مؤرخ يوناني. وهو يقابل الإله Minerva أي "أثينة" Atheneعند اليونان.

وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن "اللات" تمثل "الشمس"، وهي أنثى أي إلهة اًما "رينه ديسو"، فيرى أنها لا تمثل الشمس، وانما تمثل كَوكب الزهرة، وخطأ رأي من يقول إن اللات الشمس.

وقد انتهت إلينا أسماء رجال أضيفت إلى اللات، مثل: "تيم اللات"، و "زيد اللات"، و "عائذ اللات"، و "شيع اللات". و "شكم اللات"، و "وهب اللات" وما شاكل ذلك من أسماء. ومما يلفت النظر أننا لم نلاحظ ورود اسم "عبد اللات" بين أسماء الجاهليين.

وقد أقسموا باللات. كما أقسموا بالأصنام الأخرى، ونسب إلى أوس بن حجر قوله: وباللات والعزى ومن دان دينها  وباللهِ، ان اللهَ منهـن أكـبـر

وهدم اللات في جملة ما هدم من الأصنام،وأحرق البيت وقوضت حجارته، هدمه بأمر الرسول المغيرة بن شعبة في أغلب الروايات. وكان الناس ينظرون إلى هدمه في خوف وفزع وهلع خشية أن ينالهم شيء من أذى انتقاما منهم، لانهم لم يدافعوا عن بيت ربتم، وكانت نساء ثقيف حسراً يبكين عليه. فلما انتهى الهدم، ولم يحدث لهن شيء، أخذ المغيرة مالها وحليها من الذهب والجزع وأعطاه أبا سفيان، وكان الرسول قد أرسله مع المغيرة في وفد ثقيف الذي جاء اليه عارضاً عليه الإسلام، فأخذه منه أبو سفيان، ليقضي نت مال اللات دين عروة والأسود ابني مسعود.

ولما أصيبت ثفيف بهزيمة، واحتمت بالطائف قال الشاعر: وفرّت ثقيف الى لاتها  بمنقلب الخائب الخاسر 

ويظهر من هذا الشعر الذي ينسب الى "شداد بن عارض الجشمي". وقد قاله حين هدمت وحرقت اللات: لا تنصروا اللات ان الله مهلكها  وكيف نصركم من ليس ينتصر

ان التي حرقت بالنار فاشتعلـت،  ولم تقاتل لدى احجارهـا هـدر

ان الرسول متى ينزل بساحتكـم  يظعن، وليس بها من اهلها بشر

ان ثقيفا بقيت مخلصة لصنمها مؤمنة به،حتى بعد هدمه وتحريقه، فقال الشاعر شعره، ينهى ثقيفاً عن العود اليها والغضب لها.

ويظهر من بيت ينسب الى كعب بن مالك الأنصاري، هو قوله: وننسى اللات والعزى وودا  ونسلبها القلائد والسـيوفـا

ان الناس كانوا يعلقون القلائد والسيوف على تلك الأصنام. وروايات الأخباريين تؤيد هذه الدعوى، إذ نذكر ان الجاهليين كانوا يقدمون الحلي والثياب والنفائس وما حسن وطاب في أعين الناس هدية ونذوراً إلى الأصنام، فكانوا يعلقون ما يمكن تعليقه عليها، ويسلمون الأشياء الأخرى إلى سدنة الأصنام.

وقد ذكر الرحالة الانكليزي "جيمس هاملتون" ان صخرة اللات كانت لا تزال في ايامه بالطائف. وقد شاهدها فوصفها بأنها صخرة من الغرانيت ذات شكل خماسي، وان طولها زهاء اثنتي عشرة قدماً.

ويظهر انه كان للات بيت وقبة يحملها الناس معهم حين يخرجون إلى قتال، فينصبان في ساحة الجيش، ليشجع المحاربون فيستميتوا في القتال، وينادي المنادون بنداء تلك الأصنام مثل: يا للات، وقد كانت لبقية الأصنام بيوت وقباب أيضاً. وعادة حمل الأصنام إلى المعارك والحروب واشتراكها مع الناس في القتال بإحضارها ساحة المعارك عادة قديمة،معروفة عند العرب وعند غيرهم. وقد سبق أن قلت إن الآشوريين ذكروا أنهم أسروا أصنام "أريبي" العرب في أثناء قتالهم معهم، أسروها مراراً، وكانوا يثبتون عليها خبر الأسر. كان أن الفلسطينيين والعبرانيين وغيرهم كانوا يحملون معهم اصنامهم في القتال.

العُزى

والعزُى صنم أنثى كذلك، وهي أحدث عهداً في نظر ابن الكلبي من اللات ومناة. وأما الذي اتخذ العُرى على رواية ابن الكلبي،فهو ظالم بن أسعد. وضعت "بواد من نخلة الشامية، يقال له حراض، بازاء الغمير،عن يمين المصعد إلى العراق من مكة، وذلك فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، فبنى عليها بيسا "يريد بيتاً"، وكانوا يسمعون فيه الصوت" وينسب اليه بيت العزى كذلك.

وقد زعم بعض اهل الأخبار ان "العزى" كان بيتاً بالطائف تعبده ثقيف. ويظهر ان هذا اشتباه قد وقع لهم، وأنهم خلطوا بين اللات والعزى، فتوهموا أن بيت اللات هو العزى فقالوا ما قالوه. ونجد في تفسير الطبري تأييداً لهذا الرأي.

وورد في بيت شعر ينسب إلى "حسان بن ثابت" ان بيت العزى كان "بالجزع من بطن نخلة".

ويظهر أن العزى كانت "سمرات"، لها حمى، وكان الناس يتقربون اليها بالنذور. وهي بالطبع عبادة من العبادات المعروفة للشجر. وقد ذكر الطبري روايات عديدة تفيد أن "العزُى" شجيرات، ولكنه أورد روايات أخرى تفيد انها حجر أبيض. فنحن إذن أمام رأيين: رأي يقول إن العزى شجيرات،ورأي يرى أنها حجر. وذكر "ابن حبيب" ان العزُى شجرة بنخلة عندها وثن تعبدها غطفان، سدنتها من بني صرمة بن مرة. وذكر غيره انها سمرة لغطفان.

وقد تسمى العرب وقريش بالعزى، فقالوا: "عبد العزى". وقد أقسموا بها، ولها يقول درهم بن زيد الأوسي: إني ورب العزى السعيدة  والله الذي دون بيته سرف 

وأقدم من سمي باسم "عبد العزى" في رأي ابن الكلبي هو عبد العزى بن كعب. وقد ذكر ابن دريد أسماء عدد من أهل مكة عرفوا ب "عبدالعزى"، منهم ب "عبد العزى بن قصي"، و "عبد العزى بن عبد مناف"،و "عبد العزى بن عبد المطلب".

ويظهر من هذا الشعر المنسوب إلى "زيد بن عمرو بن نفيل": تركت اللات والعزى جميعا  كذلك يفعل الجلد الصبـور

فلا العزى أدين ولا ابنتيهـا  ولا صنمي بني غنم أزور

ان عباد العزى كانوا يتصورونها أماً، ولها ابنتان، ولعله أراد ب "ابنتيها" اللات ومناة. وقد نسب بعض أهل الأخبار عبادة العزى إلى عمرو بن لحي جرياً على عادتهم في نسبة عبادة الأوثان اليه، فقالوا انه قال لعمرو بن ربيعة والحارث ابن كعب: إن ربكم يتصيف باللات لبرد الطائف، ويشتو بالعزى لحر تهامة. وفي رواية لابن اسحاق: ان عمرو بن لحي اتخذ العزى بنخلة، فكانوا اذا فرغوا من حجهم وطوافهم بالكعبة، لم يحلوا حتى ياتوا العزى، فيطوفون بها، ويحلون عندها، ويعكفون عندها يوماً. وكانت لخزاعة. وكانت قريش وبنو كنانة كلها تعظم العزى مع خزاعة وجميع مضر. وكان سدنتها الذين يحجبونها بنو شيبان من بني سليم، حلفاء بني هاشم.

وتشير رواية من زعم ان عمرو بن لحي قال لقومه: "إن ربكم يتصيف باللات لبرد الطائف، ويشتو بالعُزى لحر تهامة"، صحت أو لم تصح، إلى وجود صلة بين اللات والعُزى. وقد ذكرت العُزى بعد اللات في القرآن الكريم.

و كذلك ترد بعد اللات في جميع روايات الاخباريين. مما يشير إلى وجود صلة بين اللات والعزى. ولا يستبعد ان تكون هذه الصلة بين الصنمين قد جاءت ان أهل الحجاز من بلاد الشام من اهل تدمر وبادية الشام والصفويين، إذ وردا وكأنهما إلهان متقابلان، فحمل ذلك بعض المستشرقين على تصور أنهما يمثلان كوكبين: كوكب الصباح وكوكب المساء.

والعزُى مثل اللات ومناة من الآلهة المعبودة عند عرب العراق وعرب بلاد الشام، وعند النبط والصفويين. وقد ذكر اسم العزى مرتين في المصادر المؤلفة. بعد الميلاد، وأشار اسحاق الأنطاكي Isaac of Antioch من رجال القرن الخامس للميلاد، إلى اسم العُزى في، حديثه عن مدينة "بيت حور" Beth-Hur ودعاها ب Beltis، وسماها "كوكبتا". ويظن ان "كوكبتا" Kawkabta، أي "كوكبة" المذكورة في المصادر السريانية، هي أنثى كوكب، تعني الكوكب الذي يظهر عند الصباح، وهو العُزى عند الجاهليين: ويراد بها "الزهرة" Venus، عند النبط. حيث اتخذوا لها معبداً في مدينة "بصرى" في منطقة "رم" عرف ب "بيت ايل،" وقد نص "بروكوبيوس"، Procopiusعلى انها "أفروديت". وهي كناية عن القمر على رأي بعض المستشرقين. ولعل العزى هي "ملكة السماء Melekheth Hash-Shamaالمذكورة في سفر "ارميا"، وقد جاء فيه: ان أهل "اورشليم" كانوا يصنعون كعكاً، يتقربون به إلى تلك الإلهة: إلهة السماء. وقد كان الجاهليون يتقربون بالخبز والكعك إلى "كوكب السماء".

ويظهر من ورود اسم امرأة هو: "امت عزى"، "أمة العزى"، في نص عربي جنوبي، ان عبادة العزى كانت معروفة هناك. وقد قدم أحد العرب تمثالا من ذهب إلى هذه الإلهة.

وقد كان آل لخم، ملوك الحيرة، ينحرون الأسرى قرباناً للعزى. وقد زعم بعض المؤرخين السريان ان "المنذر بن ماء السماء" ضحى بأربع مئة راهبة للعزى.

وذكر "إسحاق الأنطاكي" ان العرب كانوا يقدمون الأولاد والبنات قرابين للكوكبة "كوكبتا"، فينحرون لها، ويقصد ب "كوكبتا" العزى.

وكانت قريش تتعبد للعزى، وتزورها وتهدي اليها، وتتقرب اليها بالذبائح. وذكر ابن الكلبي انها كانت أعظم الأصنام عند قريش، وان قريشا كانت تطوف بالكعبة وتقول:"واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى. فإنهن الغرانيق العلا،وإِن شفاعتهن لترتجى". و كَانوا يقولون: هن بنات الله، وهن يشفعن اليه. وكانت قريش قد حمت لها شعباً من وادي حراض، يقال له سقام يضاهون به حرم الكعبة.وكان لها منحر ينحرون فيه هداياهم، يقال له الغبغب، فكانوا يقسمون لحوم هداياهم فيمن حضرها وكان عندها.

وكانت قرِيش تستعين بأصنامها حين تحارب، تستجير بها وتستمد منها العون في الحرب، لتبعث الهمة والنشاط في النفوس بذكرها. فلما كان يوم أحد نادى "أبو سفيان: "اعلُ هبل، اعلُ هبل" فقال المسلمون:" الله أعلى وأجل". فقال "أبو سفيان": " لنا العزى ولا عزى لكم". فقال المسلمون: " الله مولانا ولا مولى لكم ".

ويقول ابن الكلبي أيضاً: " ولم تكن قريش بمكة ومن أقام بها من العرب يعظمون شيئاً من الأصنام إعظامهم العزى، ثم اللات، ثم مناة.. فأما العزى، فكانت قريش تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية. وكانت ثقيف تخص اللات كخاصة قريش للعزى وكانت الأوس والخزرج تخص مناة كخاصة هؤلاء الآخرين، وكلهم كان معظماً لها"، أي للعزى.

ولابن الكلبي رأي في اقبال قريش على العزى، إذ يقول: " فأما العزى،فكانت قريش تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية. وذلك فيما أظن لقربها منها ". فجعل قرب بيت العزى من قريش،هو السبب في إقبال قريش عليها.

وهو يرى هذا الرأي نفسه حين تكلم على الأصنام: ود، وسواع، ويعوق، ونسر، وقارن بينها وبين الأصنام اللات والعزُى ومناة، إذ قال: "ولم يكونوا يرون في الخمسة الأصنام التي دفعها عمرو بن لحي.. كرأيهم في هذه ولا قريباً من ذلك. فظننت أن ذلك كان لبعدهم منهم ".

وقال ابن الكلبي في كتابه الأصنام " وقد بلغنا أن رسول الله، صلى الله عليه و سلم. ذكرها يوماً، فقال: لقد أهديت للعزى شاة عفراء، وأنا على دين قومي".

وكان فيمن يتقدم إلى العُزى بالنذور والهدايا، والد خالد بن الوليد. ذكر خالد أن والده كان يأتي العزى بخير ما له من الإبل والغنم، فيذبحها للعزى، ويقيم عندها ثلاثة ايام، و ممن تعبد للعزُى بنو سليم وغطفان وجشم ونصر وسعد بن بكر. وغني وباهلة وخزاعة وجميع مضر وبنو كنانة. وقد ارتبطت قبائل غطفان بعبادة العزُى وتقديمها بصورة خاصة،حتى لقد ذكر "ياقوت الحموي" ان "العزُى سمرة كانت لغطفان يعبدونها،وكانوا بنوا عليها بيتا، وأقاموا لها سدنة". وقد عرف البيت ب "كعبة غطفان". وذكر "الطبري" أن العُزى "صنم لبني شيبان"، بطن بن سليم حلفاء بني هاشم، وبنو أسد بن عبد العزى، يقولون: هذا صنمنا، وانها "كَانت بيتاً يعظمه هذا الحي من قريش وكنانة ومضر كلها". وقد تعبدت لها ثقيف كذلك، بأن اتخذت صنماً. والظاهر ان قريشاً كانت تعدّ العزى حامية وشفيعة لها.

وكان لحرم العزى شعب حمته قريش للصنم، يقال له سقام في وادي حراض.على طريقة قريش في اتخاذ حرم للكعبة. وقد صار هذا الحمى موضعاً آمناً لا يجوز التعدي فيه على أحد، ولا قطع شجره، ولا القيام بعمل يخل حرمة المكان. فذاك قول أبي جندب الهذلي تم القردي في امرأة كان يهواها، فذكر حلفها له بها: لقد حلفت جهداً يميناً غلـيظة  بفرع التي أحمت فروع سقام 

وينسب "ابن الكلبي" بناء "بيت العزى" إلى "ظالم بن أسعد"، إذ يقول: "بس: بيت لغطفان بن سعد بن قيس عيلان كانت تعبده. بناه ظالم بن أسعد بن ربيعة بن مالك،بن مرة بن عوف، لما رأى قريشاً يطوفون بالكعبة ويسعون بين الصفا و المروة، فذرع البيت. ونص العباب: وأخذ حجراً من الصفا وحجراً من المروة، فرجع إلى قومه، وقال: يا معشر غطفان، لقريش بيت يطوفون حوله والصفا والمروة، وليس لكم شيء، نبنى بيتاً على قدر البيت، ووضع الحجرين فقال: هذان الصفا والمروة فاجتزئوا به عن الحج. فأغار زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة الكلبي،فقتل ظالماً، وهدم بناءه".

وجاء في رواية أخرى ان "بني صداء" قالوا: أما والله لنتخذن حرماً مثل حرم مكة، لا يقتل صيده، ولا يعضد شجره، ولا يهاج عائذه، فوليت ذلك بنو مرة بن عوف. ثم كان القائم على أمر الحرم وبناء حائطه رباح بن ظالم ففعلوا ذلك، وهم على ماء لهم يقال له بس، فلما بلغ فعلهم هذا وما أجمعوا عليه زهير بن جناب، قال: والله لا يكون ذلك وأنا حي، ولا أخليّ غطفان تتخذ حرماً أبدا، ثم سار في قومه حتى غزا غطفان، وتمكن منها، واستولى على الحرم، وقطع رقبة أسير من غطفان به، وعطل الحرم وهدمه.

وذكر بعض أهل الأخبار، ان العزى صنم كان لقريش وبني كنانة، أو سمرة عبدتها غطفان بن سعد بن قيس عيلان. أول من اتخذها منهم: "ظالم بن أسعد" فوق ذات عرق الى البستان بتسعة أميال، بالنخلة الشامية بقرب مكة، وقيل بالطائف، بنى عليها بيتاً وسمّاهُ بهاً، وقيل بساء، وأقاموا لها سدنة مضاهاة للكعبة، وكانوا يسمعون فيها الصوت، فبعث اليها رسول الله خالد بن الوليد، عام الفتح، فهدم البيت، وقتل السادن وأحرق السمرة.

ويظهر مما تقدم أن البيت هدم مرتين: مرة في الجاهلية، على يد زهير بن جناب،وقتل إذ ذاك بانيه ظالم، والمرة الثانية عام الفتح على يد خالد بن الوليد. وأما سدنة العزى، فكانوا من بني صرمة بن مرة، أو من بني شيبان بن جابر بن مرة بن عبس بن رفاعة بن الحارث بن عتبة بن سليم بن منصور.فهم من بي شيبان، من بني سليم حلفاء بني هاشم.

وكان آخر سادن للعزُى "دبية بن حرمي السلمي ثم الشيباني"، قتله خالد بن الوليد بعد هدمه الوثن والبيت وقطعه الشجرة او الشجرات الثلاث وفي رواية ان هدم العزى كان لخمس ليال لقين من شهر رمضان سنة ثمان وكان سادنها افلح بن النضر السلمي من بني سليم فلما حضرته الوفاة دخل عليه ابو لهب يعوده وهو حزين فقال له مالي اراك ? حزينا قال اخاف ان تضيع العزى من بعدي قال ابو لهب فلا تحزن فانا اقوم عليها بعدك فجعل ابو لهب يقول لكل من لقي ان نظهر العزى كنت قد اتخذت عندها يدا بقيامي عليها وان يظهر محمد على العزى وما اراه يظهر فألن اخي فأنزل الله تبارك وتعالى ) تبت يدا ابي لهب وتب( وتدل هذه الرواية ان صحت على ان افلح بن النضر لم يكن آخر سادن للعزى وان الهدم لم يكن في حياته وانما كان بعد وفاته.

وتشبه هذه القصة قصة اخرى وردت في الموضوع نفسه عن ابي احيحة وأبي لهب. فلما مرض أبو أحيحة، وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف، مرضه الذي مات فيه، كان اهم ما شغل باله عبادة العزُى وخشيته ان لا تعبد من بعده، فلما اجابه ابو لهب مهوناً عليه الأمر: رد والله ما عبدت حياتك "لأجلك"،ولا تترك عبادتها بعدك لموتك سره هذا الجواب، وأفرج عنه. فقال: الآن علمت ان لي خليفة.

ويروي ابن الكلبي ان الرسول أمر بالقضاء على العزُى، وذلك عام الفتح، فلما افتتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال له: ايت بطن نخلة، فإنك تجد ثلاث سمرات، فاعضد الأولى، فأتاها فعضدها، فلما جاء اليه عليه السلام: هل رأيت شيئاً ? قال لا، قال: فاعضد الثانية ? فأتاها فعضدها. ثم أتى النبي عليه السلام، فقال: هل رأيت شيئا قال: لا. قال: فاعضد الثالثة. فأتاها. فإذا هو بحبشية نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها، تصرف بأنيابها، وخلفها دبية بن حرمي الشيباني ثم السلمي، وكان سادنها. فلما نظر إلى خالد، قال: أعـزّ شـدي شـدة لا تـكـذبــي  على خالد القي ألقي الخمار وشمري 

فإنك الا تقـتـلـي الـيوم خـالـدا  تبوئي بذل عـاجـلاً وتـنـصـري

فقال خالد: يا عز كفرانك، لاسبحانك  إني رأيت اللّه قد أهانك

ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة. ثم عضد الشجرة، وقتل دبية السادن.

ثم أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب. أما انها لن تعبد بعد اليوم.

ويظهر من شعر ل "أبي خراش الهذلي" أن "دبية" كان كريماً، يطعم الناس، عظيم القدر،له جفنة حين الشتاء، وقد مدحه، إذ حذاه نعلين جيدين، كما رثاه يوم قتل بأبيات ذكرها "ابن الكلبي" في كتابه الأصنام.

وذكر بعض أهل الأخبار أن "خالد بن الوليد" هدم بيت العزى عام الفتح، وقتل إذ ذاك سادنه "ربيعة بن جرير السلمي"وروايات الأخبارين عن العزُى يكتنفها شيء من الغموض واللبس، ويدل ذلك على أنهم لم يكونوا على علم تام بالعُزى. فبينما هم يذكرون أن العزى شجرة أو سمرة. تراهم يذكرون في روايات أخرى أنها شيطانة تأتي ثلاث سمرات، أي ان العزى هي تلك الشيطانة، لا السمرة أو السمرات الثلاث. ثم تراهم يذكرون في روايات أخرى أن العزى صنم، وان الرسول حينما أمر خالد بن الوليد بهدمه، قال له لما هدم العزى، وعاد: " أرأيت شيئاً قال: لا، قال: فارجع فاهدمه، فرجع خالد إلى الصنم، فهدم بيته، وكسر الصنم، فجعل السادن يقول: أعزى اغضبي بعض غضباتك. فخرجت عليه امرأة حبشية عريانة مولولة، فقتلها وأخذ ما فيها من حلية، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فقال: تلك العزى، ولا تعبد العزى أبداً. ومعنى هذا أن العزى صنم، كان في داخل بيت العُزى، وأن خالد بن الوليد كسره، وهدم بيته. ولم يكن شجرة. أما تلك السمرة أو السمرات الثلاث، فلم تكن إلا أشجاراً نبتت في حرم البيت. لذلك صارت محرمة لا يجوز مسها بأي سوء كان.

وقد سمىّ بعض أهل الأخبار اسم اخر سدنة العزى "دُبيَة" و "دبية بن حرمس السلمي" وسمّاه بعض آخر "ربية السلمي"، و "ربية بن جرمي"، و "ربيعة بن جرير السلمي".

والرأي المعقول المقبول، هو ان العزى صنم، له بيت، وأمامه غبغب، أي خزانة يضع فيها العباد المؤمنون بالعزى هداياهم ونذورهم لها، كما كانوا ينحرون لها، إذ لا يعقل ان يقال إن خالداً كسر الصنم وهدم بيته ثم لا يكون العزى، صنماً بل يكون شجرة، أو شجرات. وأما الشجيرات، فإنها شجيرات مقدسة أيضاً، لأنها في حرم العزى، وشجر الحرم هو شجر مقدس لا يجوز قطعه، ولذلك كان أهل مكة يجتنبون مس شجر الحرم بسوء، فلما أراد "قصي" اعتضاده، هابت قريش عمله وخافت سوء العاقبة، ونهته عن مسه بسوء، ولكنه أقدم على قطعه، لم يبال برأيهم، ولم يحفل بنصائحهم، فقطعه. وكان بيت العزى يسمع فيه الصوت. وقد ذكر الأخباريون انه كان في كل من اللات والعزى ومناة شيطانة تكلمهم، وتظهر للسدنة وقد نسبوا ذلك إلى صنع ابليس. والظاهر ان الحبشية المذكورة التي قتلها خالد،وزعم انها شيطانة ان صح ما ذكره الرواة عن وجودها، كانت امرأة كان السادن يخفيها في موضع سري، وهي التي تجيب عن أسئلة السائلين فينسب السادن كلامها الى العزى.

ومما يؤيد رأيي في ان "العزى" صنم، ما ورد في تفسير "الطبري" من قوله: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، خالد بن الوليد إلى شعب بسقام ليكسر العزى، فقال سادنها، وهو قيمها: يا خالد أنا أحذركها إن لها شدة لا يقوم اليها شيء. فمشى اليها خالد بالفأس فهشم أنفها. مما يدل على انها كانت صنماً أنثى، أي تمثالاً لامرأة، لأنها أنثى.

ويظهر من هذا البيت: أما ودماء مائرات تـخـالـهـا  على قنة العزى وبالنسر، عندما 

ان عبّاد العزى كانوا قد لطخوا قنة الصنم، أي أعلاه ورأسه بدم الأضاحي. وكذلك فعل عباد الصنم نسر بقة صنمهم.

مناة

ويعد الصنم مناة أقدم الأصنام عند الأخباريين. وهو من الأصنام المذكورة في القرآن الكريم: ) أ فرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى (. وهذه الأصنام الثلاثة هي إناث في نظر الجاهليين.

وموضع مناة بالمشلل على سبعة أميال من المدينة، وبقديد بين مكة والمدينة، وقيل أيضاً انه بموضع "ودان" أو في موضع قريب منه. وذكر اليعقوبي ان مناة كان منصوباً بفدك مما يلي ساحل البحرْ. والرأي الغالب بين أهل الأخبار انه كان على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد. وذكر "محمد بن حبيب" أنه كان بسيف البحر وكانت الأنصار وأزد شنؤة وغيرهم من الأزد تتعبد له. واًما سدنته، فهم "الغطاريف" من الأزد. وذكر أن تلبيته كانت على هذه الصورة: "لبيك اللهم لبيك،.لولا ان بكراً دونك، يبرك الناس ويهجرونك، و ما زال حج عثج يأتونك. أنا على عدوائهم من دونك".

وتسكت أكثر روايات أهل الأخبار عن معبد "مناة" فلم تذكر شيئاً عنه، ولكن "الطبري" يشير في تفسيره إلى أنه كان بيتاً بالمشلل، وهو كلام منطقي معقول، إذ لا يعقل أن يكون هذا الصنم، مجرد صخرة أو صنم قائم في العراء تعبث به الرياح والشمس،.ثم ان له سدنة، ولا يعقل أن تكون لصنم سدنة، ثم لا يكون له بيت يؤويه. ولست أستبعد أن يكون له، "جب" يلقي المؤمنون فيه هداياهم ونذورهم. وذكر "الطبري" أيضاً أن معبده كان في "قديد". وأما عبدته، فخزاعة، وبنو كعب.

والأخباريون على خلاف فيما بينهم على هيأة "مناة" وشكله، منهم من يقول إن مناة صخرة، سميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها، أي تراق. ومنهم من يقول إنه صنم كان منصوباً على ساحل البحر، فهو على هيأة تمثال، وقد نحت من حجارة، وجعله بعض الرواة في الكعبة مع بقية الأصنامْ.

و الذين يذكرون أن مناة صخرة، يرون أن اناس كانوا يذبحون عندها فتمنى دماء النسائك عندها، أي تراق، فهي إذن، وبهذا الوصف مذبح تراق عنده الذبائح الذي تقدم نسيكة للالهة. ويذكرون أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك " كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها. ويتبين من ذلك ان هذا الموضع كان مكاناً مقدساً، وقد خصص بإلهه ينشر السحب ويرسل الرياح فتأتي بالأمطار لتغيث الناس، وان لهذا الإلهَ صلة بالبحر وبالماء، ولذلك أقيم معبده على ساحل البحر قد تكون هذه الصخرة مذبحاً أقيم عند الصنم، أو عند معبده لتذبح عليه ما يهل للصنم، فسمي باسمه، ولذاك يمكن التوفيق بن الرأيين: كونه صخرة، وكونه صنماً.

ويظهر من أقوال ابن الكلبي ان هذا الصنم كان معظماً، خاصة عند الأوس والخزرج، أي أهل يثرب ومن كان يأخذ مأخذهم من عرب المدينة والأزد وغسان "فكانوا يحجون ويقفون مع الناس.المواقف كلها، ولا يحلقون رؤوسهم، فإذا نفروا أتوا منآة وحلقوا رؤوسهم عنده وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تماماً إلا بذلك. ولكن القبائل العربية الأخرى كانت تعظمه كذلك، وفي جملتها قريش وهذيل وخزاعة. وأزد شنؤة، وغيرهم من الأزد. وقيل ثقيف أيضاَ، وذكرت رواية أخرى ان العرب جميعاً كانت تعظمه وتذبح حوله. أما سدنته، فالغطاريف من الأزدْ.

وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمون مناة، ويهلون منها للحج إلى الكعبة.

فمناة اذن من الأصنام المعظمة المقدسة عند "الخزرج". وكانوا يحلفون بها ويقفون عندها. وفي ذلك ورد شعر ينسب إلى عبد العزى بن وديعة المُزني أو غيره من العرب: إني حلفت يمين صدق برة  بمناة عند محل آل ألخزرج 

فالمحل الذي يقف فيه "آل الخزرج"، هو المحل الذي يحلف به أمام مناة. وكان العرب في الجاهلية يسمون الأوس والخزرج جميعاً: الخزرج، ولذلك يقول الشاعر في بيته: "عند محل آل الخزرج".

وترجع بعض الروايات تاريخ مناة إلى "عمرو بن لحي" فتزعم أنه هو الذي نصبه على ساحل البحر مما يلي قديداً. وقد أخذت من الرواية التي ترجع أساس عبادة الأصنام وانتشارها بين العرب إلى ذلك الرجل.

وكان المتعبدون لهذا الصنم يقصدونه، فيذبحون حوله، ويهدون له. ويظهر من روايات ابن الكلبي عن هذا الصنم، أنه.كان من الأصنام المعظمة المحترمة عند جميع العرب. وقد قصد ابن الكلبي بعبارة: "وكانت العرب جميعا ًتعظمه وتذبح حوله" عرب الحجاز على ما اعتقد. وكان سدنته يجنون من سدانتهم له أرباحاً حسنة من هذه الهدايا التي تقدم إلى معبده باسمه.

وقد بقي سدنة هذا الصنم يرتزقَون باسمه، إلى أن كان عام الفتح، فانقطع رزقهم بهدمه وبانقطاع سدانته. فلما سار الرسول في سنة ثمان للهجرة، وهي عام للفتح اربع أو خمس ليال من المدينة، بعث عليا اليه، فهدمه وأخذ ما كان له، فأقبل به إلى النبي، "فكان فيما أخذ سيفان كان الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان أهداهما له، أحدهما: يسمى مخذماً، والآخر رسوباً. وهما سيفا الحارث اللذان ذكرهما علقمة في بيته: مظاهر سربالي حديد عليهما  عقيلاً سيوف: منخم ورسوب 

فوهبهما النبي لعليّ، فيقال: إن ذا الفقار، سيف علي أحدهما. ويقال: إن علياً وجد هذين السيفين في الفلس" وهو صنم طيء، حيث بعثه النبي فهدمه.

وفي رواية للواقدي أن الذي هدم الصنم هو سعد بن زيد الأشهلي، هدمه سنة ثمان للهجرة. وفي رواية أخرى ان الذي هدم الصنم هو أبو سفيان.

وقد كانت القبائل تتجنب ان تجعل ظهورها على "مناة" إعظاماً للصنم، ولذلك كانت تنحرف في سيرها، حيث لا يكون الصنم إلى ظهرهاْ. وفي ذلك قال الكميت بن زيد الشاعر، أحد بني أسد بن خزيمة بن مدركة وقد آلت قبائل لا تولي  مناة ظهورها متحرِّفينا 

ويظهر من ورود اسم هذا الصنم في القران الكريم ومن انتشار التسمية به في مثل عبد مناة وعبدة مناةوزيد مناة وعوذ مناة وسعد مناة و اوس مناة بين القبائل المختلفة مثل طيء وكنانة. ان عبادة مناة كانت منتشرة انتشارا واسعا بين القبائل ولهذه الكلمات المتقدمة على كلمة مناة شأن كبير في وصف الصورة التي كانت مخيلة عبدة مناة عنه اذ تمثله الهاً كريما يسعد عباده ويساعدهم في المكاره والملمات ويعطيهم ما يحتاجون اليه.

والصنم مناة هو منوتن ومنوت Manavat عند النبط ويظن ان لاسمه صلة بمناة Menata في لهجة بني ارم ومنا 'Mana في العبرانية وجميعها مانوت منوت Manot وباسم الالهة منى Meni بكلمة منية وجمعها منايا في عربية القرآن الكريم وهي لذلك تمثل الحظوظ والاماني وخاصة الموت ولهذا ذهب بعض الباحثين الى ان هذه الالهة هي الهة المنية والمنايا عند الجاهليين.

وقد ذكر منى Meni مع جد Gad في العهد القديم والظاهر ان كلمة جد كانت مصدرا ثم صارت اسم علم لصنم وذكر منى مع جد له شأن كبير من حيث معرفة الصنمين فالاول هو معرفة المستقبل وما يكتبه القدر للانسان من مناية ومخبآت لا تكون في مصلحة الإنسان والثاني وهو جد لمعرفة المستقبل الطيب والحظ السعيد t yche fortune في اليونانية فهما يمثلان اذا جهنين متضادتين.

هبل

يقول ابن الكلبي:" وكانت لقريش اصنام في جوف الكعبة وكان اعظمها هبل وكان فيما بلغني من عقيق اخمر على صورة انسان مكسور اليد اليمنى. أدركته قريش فجعلت له يداً من ذهب. وكان أول من نصبه خزيمة ابن مدركة بن الياس بن مضر. وكان يقال له هبل خزيمة.

وكان في جوف الكعبة قدامه سبعة أقّداح، مكتوب في أولها: صريح والاخر ملصق. فإذا شكوا في مولود أهدوا اليه هدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج صريح ألحقوه، وإن خرج ملصق دفعوه. وقدح على الميت،وقدح على النكاح، وثلاثة لم تفسر لي على ما كانت. فإذا اختصموا في أمر، أو أرادوا سفراً أو عملاً، أتوه فاستقوا بالأزلام عندّه. فما خرج، عملوا به وانتهوا اليه. وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله.

وتذكر رواية أخرى أن خزيمة بن مدركة كان أول من نزل مكة من مضر فوضع هبل في موضعه، فكان يقال له صنم خزيمة، وهبل خزيمة. وورث أولاده سدانته من بعده. وقد ذهب "ابن الكلبي" هذا المذهب أيضاً، إذ قال: "وكان أول من نصبه خزبمة بن مدركة ".

ولا خلاف بين أهل الأخبار في أن "هبل"، كان على هيأة انسان رجل. وهناك روايات تنسب هبل إلى عمرو بن لحي، تقول إنه جاء به إلى مكة من العراق من موضع هيت، فنصبه على البئر وهي الأخسف والجب الذي حفره إبراهيم في بطن الكعبة، ليكون خزانة للبيت، يلقى فيه ما يهدى إلى ااكعبة.، و أنه هو الذي أمر الناس بعبادته، فكان الرجل إذا قدم من سفر بدأ به على أهله بعد طوافه بالبيت، وحلق رأسه عنده، وكان على هذه الروايات من خرز العقيق على صورة إنسان، وكانت يده اليمنى مكسورة، فأدركته قريش فجعلت له يداً من ذهب. وكانت له خزانة للقربان وكان قربانه" مائة بعير. وله حاجب يقوم بخدمته.

وجاء في رواية ان عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام. في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق، ويقال عمليق، وجدهم يتعبدون للاصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ? قالوا له: هذه الأصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنماً، فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدوه ? فأعطوه صنماَ يقال له هبل، وأخذه، فتقدم به إلى مكة فنصبه، وأمر الناس بعبادته.

ولسنا نجد في كتب أهل اللغة أو الأخبار تفسيراً مقبولاً لمعنى "هبل". وقد ذهب بعضهم إلى انه من "الهبلة"، و معناها القبلة. وذكر بعض آخر انه من "الهبيلي"، بمعنى الراهب، وذكر ان "بني هبل" كانت تتعبد له. و ذكر انه من "هُبل" بوزن "زُ فَر"، ومعناها كثرة اللحم والشحم، أو من "هبل" بمعنى غنم، وما شاكل ذلك من آراء. ويكمن.سبب اضطراب العلماء في تسميته في انه من الأصنام المستوردة من الخارج التي حافظت على تسميتها الأصلية، فوقع لديهم من ثم هذا الاضطراب.

وكانت تلبية من نسك هبل: "لبيك اللهم لبيك. اننا لقاح، حرمتنا على أسنة الرماح، يحسدنا الناس على النجاح.

ويذكر أهل الأخبار ان "هبل" كان أعظم أصنام قريش، وكانت تلوذ به وتتوسل اليه، ليمن " عليها بالخير والبركة، وليدفع عنها الأذى وكل شر. وكانت لقريش أصنام أخّرى في جوف الكعبة وحولها، ولكن هبل هو المقدم والمعظم عندها على الجميع. وقد نصب على الجب الذي يقال له "الأخسف"، وهو بئر، وكانت العرب تسميها "الأخشف.

وذهب بعض المستشرقين إلى ان "هبل"، هو رمز إلى الإلهَ القمر، وهو إلهَ الكعبة، وهو الله عند الجاهليين. وكان من شدة تعظيم قريش له انهم وضعوه في جوف الكعبة. وانه كان الصنم الأكبر في البيت.

ويرى بعض الباحثين ان صورة الحية أو تمثالها يشيران إلى هبل، أو إلى هبل وود. وقد عثر على صورة لحيّة في "رم"، يظهر انها رمز إلى "هبل" أو ود.

وذكر "ياقوت الحموي" أن هبل "صنم" لبتن كنانة: بكر ومالك وملكان، و كَانت كنانة تعبد ما تعبد قريش، وهو اللات والعزى. وكانت العرب تعظم هذا المجمع عليه، فتجتمع عليه كل عام مرة. وقال غيره: " وكان هبل لبني بكر ومالك وملكان وسائر بني كنانة. وكانت قريش تعبد صاحب بني كنانة، وبنو كنانة يعبدون صاحب قريش. وقد ورد اسم هبل في الكتابات النبطية النبي عثر عليها في الحجر، ورد مع اسم الصنمين: دوشرا "ذي الشرى"، و "منوتو" "مناة". وقد تسمى به أشخاص وبطون من قبيلة كلب، مما يدل على أن هذه القبيلة كانت تتعبد له، وأنه كان من معبودات العرب الشماليين. وباسم هذا الصنم سمي "هبل بن عبد اللّه بن كنانة الكلبي جدَ زهير بن جناب.

ولما أراد النبي الانصراف عن أحد، علا صوت أبي سفيان: أعل هُبل، أعل هبلْ. فقال النبي لعمر: أجبه، قال: ما أقول له ? قال: الله أعلى وأجل. فقال: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي لعمر قل: الله مولانا ولا مولى لكم.

أصنام قوم نوح

وزعم ابن الكلبي أن خمسة أصنام من أصنام العرب، من زمن نوح، وهي: ودّ، و سواع، و يغوث، ويعوق، ونسر. وقد ذكرت في القرآن الكريم: "قال نوح: رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً، ومكروا مكراً كباراً، وقالوا: لا تذرون آلهتكم، ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ولا يعوق ونسراً، وقد أضلوا كثيراً". ويظهر ان ورود اسمها على هذا النحو في القرآن، هو الذي حمله على رجع هذه الأصنام إلى أيام نوح. وزعم "ابن الكلبي" ان الأصنام المذكورة كانت في الأصل قوماً صالحين، ماتوا، في شهر، وذلك في أيام "قابيل"، فجزع عليهم بنو قابيل، و ذوو أقاربهم، وقام رجل من قومهم، فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم ونصبها لهم، فصار الناس يعظمونها ويسعون حولها، ثم جاء من بعدهم من عبدها، وعظم أمرها، ولم يزل أمرها يشتد، حتى أدرك "نوح" فدعاهم إلى الله، والى نبذ هذه الأصنام، فكذبوه، فكان الطوفان، فأهبط ماء الطوفان هذه الأصنام من جبل "نوذ" إلى الأرض، وجعل الماء يشتد جريه وعبابه من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جدة، ثم نضب الماءْ وبقيت على الشط، فسفت الريح عليها حتى وارتها. وبقيت مطمورة هناك أمداً، حتى جاء "رئي" "عمرو ابن لحي " وكان يكنى أبا ثمامة، فقال له: عجل بالمسير والظعن من تهامة بالسعد والسلامة. قال عمر: جير ولا إقامة فقال الرئي ايت ضف جدة تجد فيها أصناماً معدة، فأوردها ولا تهاب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجاب. فأتى شط جدة فاستثارها، ثم حملها حتى ورد تهامة. وحضر الحج، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة. فأجابه سادات القبائل، ووزع تلك الأصنام عليهم، وأشاعوا عبادتها بين الناس، ومن ثم عبد العرب هذه الأصنام.

وذكر أيضاً ان الأصنام المذكورة هي أصنام نحتها الشيطان على صورة. خمسة بنين من أبناء "آدم"، ماتوا فجزع الناس عليهم، لأنهم كانوا عباداً صالحين.

فسول لهم الشيطان ان يصنع لهم تماثيل على هيأتهم وصورهم، لتذكرهم بهم فسرّوا برأيه، وصنعها لهم، فما لبث الناس ان عبدوها، حتى تركوا عبادة ال له، وكان "ود" أكبرهم وأبرهم، فصار أول معبود عبد من دون الله.

ود

وكان الصنم ود من نصيب "عوف بنُ عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحلف بن قضاعة"، أعطاه اياه "عمرو بن لحي" فحمله إلى وادي القرى، فأقره بدومة الجندل. وسمىّ ابنه عبد ود، فهو أول من سمي به، وهو أول من سمىّ عبد ود، ثم سمّت العرب به بعد. وقد تعبّد له بنو كلب.

ومنهم من يهمز فيقول أدٌّ. ومنه سمي "عبد ودّ" و "أد بن طابخة"، و "أدد" جد معد بن عدنان.

وجعل عوف ابنه عامراً الذي يقال له عامر الأجدار سادناً له، فلم يزل بنوه يسندونه حتى جاء الله بالإسلام.

وقد استنتج "ياقوت الحموي" من هذه الرواية التي يرويها "ابن الكلبي" أن الصنم اللات أقدم عهداً من ودّ لأن وداً على هذه الرواية قد سلم إلى عوف وعوف هو حفيد زيد اللات الذي سمي ب "زيد اللات"،نسبة الى الصنم اللات، فوّد على هذا أحدث عهداً من اللاتْ.

وفي رواية لمحمد بن حبيب أن وداً كان لبني وبرة، وكانت سدنته من بني الفرافصة بن الأحوص من كلب. ويشك "ولهوزن" Wellhausen في صحة هذه الرواية، فقد كان الفرافصة بن الأحوص على رأيه نصرانياً، وهو والد نائلة زوج الخليفة عثمان. ثم ان "الفرافصة" لم يكن من بني عمرو بن ود، ولا من بني عوف بن عذرة، فهل يعقل ان تكون السدانة اليه وفي نسله.

وود على وصف "ابن الكلبي" له في كتابه الأصنام "تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال قد ذبر عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوساً، وبين يديه حربة فيها.لواء، و وفضة فيها نبل". وقد أخذ ابن الكلبي وصفه هذا لود من أبيه عن مالك بن حارثة الأجداري.

ومالك بن حارثة الأجداري، هو من بني عامر الأجدار، وهم سدنة ود. وزعم ابن الكلبي ان أباه محمد بن السائب الكلبي حدثه عن مالك بن حارثه أنه قال له: إنه رأى وداً، وأن اباه كان يبعثه،وهو صغير، باللبن اليه، فيقول: اسقه إلهك فيشربه مالك، فيعود وقد شرب اللبن. أما أبوه فيظن انه قد أعطى وداً إياه.

وذكر "جارية بن أصرم الأجداري"،من بني عامر بن عوف، المعروف بعامر الأجدار،انه رأى وداً بدومة الجندل في صورة رجل. وورد أن من عبدة "ودّ" بعض تميم،و طيء،والخزرج، وهذيل، ولخمْ.

ويظهر انه "أدد" عند ثمود. وأدد من الأسماء المعروفة.وقبيلة "مرة" نسبة إلى "مرة بن أدد". وقد عرف ب "كهلن"،أي "الكاهل" "هكهل" "ها - كهل". ويظن أن الإلهَ "قوس" "قيسو" "قوسو"،هو" ود"، أي اسم نعت له. وذهب بعض الباحثين الى أن "نسراً" و "ذا غابة" "ذ غبت" يرمزان اليه.

وقد بقي ود قائماً في موضعه إلى ان بعث رسول الله خالدَ بن الوليد من غزوة تبوك لهدمه. فلما أراد خالد هدمه، اعترضه بنو عبد ود وبنو عامر الأجدار،وأرادوا الحيلولة بينه وبين هدمه، فقاتلهم وأوجعهم، وقتل منهم، فهدمه وكسره. وذكر ابن الكلبي انه كان فيمن قتل رجل من بني عبد ود يقال له قطن بن شريح،ورجل آخر هو حسان بن مصاد ابن عم الأكيدر صاحب دومة الجندل.

ويرى بعض المستشرقين استناداً إلى معنى كلمة "ود" بأن هذا الصنم يرمز إلى الود، اي الحب، وانه صنو للالهين "جيل" Gel و "بحد" Pahad عند الساميين. ويستندون في رأيهم هذا إلى بيت للنابغة مطلعه: "حياّك ود"، غير ان من العسير علينا تكوين رأي صحيح عن هذا الصنم.ولا أستبعد أن تكون كلمة "ود" صفة من صفات الله لا اسم علم له.

وهناك من يرى وجود صلة بين "ود" و "ايروس" Eros الصنم اليوناني، ويرى انه صنم يوناني في الأصل استورد من هناك، وعبدته العرب. وهو رأي يعارضه "نولدكه"، لانتفاء التشابه في الهيأة بين الصنمين. و "ود" هو الإلَه الأكبر لأهل معين. وسوف أتحدث عنه فيما بعد.

سواع

أما سواع فكان موضعه برهاط، من أرض ينبع. وذكر انه كان ضخماً على صورة امرأة، وهو صنم هذيل. وينسب ابن الكلبي انتشار عبادته - كعادته - الى عمرو بن لحي، فذكر ان مضر بن نزار أجابت عمرو بن لحي، فدفع إلى رجل من هذيل "يقال له الحارث. بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر" سواعاً،فكان بأرض يقال لها رهاط من بطن نخلة، يعبده من يليه من مضر. وذكر "ابن حبيب" انه كان ب "نعمان"، وأن عبدته: بنو كنانة، وهذيل،ومزينة، وعمرو ين قيس بن عيلان. وكان سدنته بنو صاهلة من هذيل. وفي رواية اًن عبدة سواع هم آل ذي الكلاع. وذكر "اليعقوبي" أنه كان لكنانة.

وفي رواية أخرى يرجع سندها إلى "ابن الكلبي" كذلك، تزعم أن سواعاً صنم كان برهاط من أرض ينبع، وينبع عرض من أعراض المدينة. وكانت سدنته بنو لحيان. ثم تقول إنه لم يسمع بورود اسم هذا الصنم في شعر هذيل، إنما بورود اسمه في شعر رجل من اليمن وورد في رواية أخرى ان "سواعاً" صنم من أصنام همدان.

ويرى "نولدكه" أن سواعاً لم يكن من الأصنام الكبرى عند ظهور الإسلام، وهو في نظره من الأصنام التي لم ترد أسماؤها في الأعلام المركبة، ويدل عدم ورود اسمه في هذا ا الإعلام على خمول عبادته بين الجاهليين.

وفي السنة الثامنة من الهجرة هدم سواع،وكان الذي هدمه عمرو بن العاص، فلما انتهى الى الصنم، قال له السادن: ما تريد: قال: هدم سواع،قال: لا تطيق تهدمه، قال له عمرو بن العاص: أنت على الباطل بعد. فهدمه عمرو، ولم يجد في خزانته شيئاً، ثم قال للسادن: كيف رأيت، قال: أسلمت والله. و "سواع" من الأصنام التي ورد اسمها في القران الكريم )وقالوا: لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً (. وقد ذكر بعض العلماء، انه صنم عبد في زمن نوح، فدفنه الطوفان، فأشار "ابليس" على الجاهليين بالتعبد له، فعبدته همدان،ثم صار لهذيل، وكان برهاط وحجّ اليه. وقال "ابن الكلبي" انه لم يسمع بذكره في أشعإر هذيل. وقد قال رجل من العرب.: تراهم حول قيلهم عكـوفـا  كما عكفت هذيل على سواع 

يظل جنابه برهاط صرعـى  عتائر من ذخائر كـل راع

وذكر بعض أهل الأخبار ان سواعاً وبقية الأصنام التي ذكرت معه في سورة نوح، كانوا قوماً صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صوّرناهم كان أشوق لنا الى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبّ اليهم ابليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم. ورهاط من بلاد بني هذيل، ويقال وادي رهاط ببلاد هذيل، ذكر انه على ثلاثة أميال أو ثلاث ليال من مكة.

ونسب بعض أهل الأخبار هدم الصنم "سواع" إلى "غاوي بن ظالم السلمي" "غاوي بن عبد العزى". ذكروا أن هذا ا!صنم كان "لبني سليم بن منصور"، فبينما هو عند الصنم، اذ أقبل ثعلبان يشتدان حئ تسنّماه، فبالا عليه فقال: أربّ يبول الثعلبان بـرأسـه  لقد ذل من بالت عليه الثعالب 

ثم قال: يا معشر سليم ? لا والله هذا الصنم لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع ! فكسره ولحق بالنبيّ عام الفتح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم، ما اسمك ? فقال: غاوي بن عبد العزى. فقال: بل أنت راشد بن عبد ربه. وعقد له على قومه. وقيل إن هذه الحادثة إنما وقعت لعباس بن مرادس السلمي،.وقيل لأبي ذر الغفاري.

يغوث

وأما يغوث، فكان أيضاً على رواية ابن الكلبي، في جملة الأصنام التي فرقها عمرو بن لحي على من استجاب إلى دعوته من القبائل، دفعه إلى أنعم بن عمرو المرادي، فوضعه باًكمة مذَحج باليمن، فعبدته مذحج ومن والاها وأهل جرش. وقد بقي في أنعم إلى ان قاتلتهم عليه بنو غطيف من مراد، فهربوا به إلى نجران، فاًقروه عند بني النار من الضباب، من بني الحارث بن كعب. واجتمعوا عليه جميعاً. وفي رواية أن عبدة يغوث هم بنو غطيف من مراد.

وفي رواية أن يغوث بقي في أنعم وأعلى من مراد. إلى ان اجتمع أشراف مراد وتشاوروا بينهم في أمر الصنم، فقر رأيهم أن يكون فيهم، لما فيهم من العدد والشرف. فبلغ ذلك. من أمرهم إلى أعلى وأنعم، فحملوا يغوث وهربوا به حتى وضعوه في بني الحارث بن كعب، في وقت كان النزاع فيه قائماً بين مراد وبني الحارث بن كعب. فلما أبت بنو الحارث تسليم الصنم إلى مراد،وتسوية أمر الديات، أرسلت عليها مراد جيشاً فاستنجدت بنو الحارث بهمدان، فنشبت بينهما معركة عرفت بيوم الرزم،. انهزمت فيها مراد ومنيت بخسارة كبيرة قبيحة، وبقي الصنم في بني الحارث. وقد وافق يوم الرزم يوم بدر.

وذكر "الطبرسي" أن بطنين من طيء أخذا يغوث، فذهبا به إلى مراد،فعبدوه زماناً ثم اْن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم " ففروا به إلى بني الحارث بن كعب.

ويظهر من غربلة هذه الروايات أن الصنم يغوث كان في جرش أو على مرتفع قريب من هذه المدينة. أما سدنته، فكانوا من بني أنعم بن أعلى من طيء، وكانوا في جرش. وفي حوالي سنة 623، أي السنة التي وقعت فيها معركة بدر، حدث نزاع على الصنم: أراد بنو مراد ان يكون الصنم فيهم وسدنته لهم، وأراد بنو أنعم الأحتفاظ بحقهم فيه. فهرب بنو أنعم بصنمهم إلى بني الحارث،واحتفظوا به بعد أن وقعت الهزيمة في مراد.

وفي الحرب التي وقعت بين بني أنعم" و "غظيف" حمل عبدة "يغوث" صنمهم معهم وحاربوا، مستمدين منه العون والمدد. وفي. ذلك يقول الشاعر: وسار بنا يغوث إلى مراد  فناجوناهم قبل الصبـاح

ويظهر ان "بني أنعم"، وسائر عبدة هذا الصنم، كانوا يحملون صنمهم معهم في غالب الأحوال عند قتالهم القبائل الأخرى.

ولا يستبعد ان تكون لاسم هذا الصنم علاقة بفكرة المتعبدين له عنه، بمعنى ان المتعبدين له كانوا يرون انه يغيثهم ويساعدهم. وقد ظن بعض الباحثين انه يمثل الإلَه الأسد. وانه كان "طوطم" قبيلة مذحج، يدافع عنها ويذب عن القبيلة التي تستغيث به، على نحو ما فعله الاسرائيليون من استغاثتهم ب "حية النحاس" المسماة "نحشتان" Nahushtan، التي كانت "طوطماًَ" في الأصل على رأي "سمث".

ونجد بين أسماء الجاهليين عدداً من الرجال سموا ب "عبد يغوث"، منهم من كان فيِ مذحج، ومنهم من كان في قريش، ومنهم من كان في هوازن. وقد كان قائد بني الحارث بن كعب على تميم في معركة "الكلاب" عبد يغوث، كما كان لدريد بن الصمة أخ اسمه "عبد يغوث". ومن مذحج: "عبد يغوث" ابن وقاص بن صلاءة الحارثي الذي قتلته "التيم" يوم الكلاب الثاني. ومن بني زهرة : عبد يغوث بن وهب، وعبيد يغوث، وامهما صفية بنت هشام بن عبد مناف. ويدل ذلك على ان عبادته كانت معروفة بين مذحج واًهل جرش وقربش وهوازن. وقبائل أخرى مثل تغلب.

ولم يرد اسم هذا الصنم في الكتابات. وقد ذهب "روبرتسن سمث" إلى انه "يعوش" Ye,ush المذكور في سفر التكوين، وهو أحد أجداد أدوم. وبمثله الأسد في نظر "روبرتسن سمث".

يعوق

ويعوق أيضا في جملة هذه الأصنام التي فرقها عمرو بن لحي على القبائل. لقد سلمه عمرو الى مالك بن مرثد بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيبوان بن نوف ابن همدان فوضعه في كل موضع خيوان، حيث عبدته همدان وخولان ومن والاها من قبائل. وكان في أرحب.

وذكر "ياقوت الحموي" ان ابن الكلبي قال: "واتخذت خيوان يعوق،وكان بقرية لهم يقال لها خيوان من صنعاء على ليلتين مما يلي مكة، ولم أسمع لها ولا لغيرها شعراً. فيه. وأظن ذلك لأنهم قربوا من صنعاء واختلطوا بحمير، فدانوا معهم باليهودية أيام تهود ذي نواس، فتهودوا معه". ونسب "الطبرسي" عبادة يعوق إلى كهلان، وذكر انهم توارثوه كابراً عن كابر،حتى صار إلى همدان. وذكر في رواية أخرى ان يعوق اسم صنم كان لكنانة.

وذكر بعض أهل الأخبار: " يعوق" صنم كان لكنانة، "وقيل كان لقوم نوح عليه السلام، كما في الصحاح. أو كان رجلا من صالحي أهل زمانه. فلما مات جزعوا عليه فاًتاهم الشيطان في صورة إنسان. فقال: أمثله لكم في محرابكم حتى تروه كلما صليتم، ففعلوا ذلك به وبسبعة من بعده من صالحيهم، ثم تمادى بهم الأمر إلى أن اتخذوا تلك الأمثلة أصناماً يعبدونها".

وتشير ملاحظة " ابن الكلبي" من أنه لم يسمع بأن همدان أو غير همدان سمت "عبد يعوق" إلى أن يعوق لم يكن من الأصنام المهمة بين العرب عند ظهور الإسلام، وان عبادته كانت قد تضاءلت. وانحصرت في قبائل معينة. وهناك بيت ينسب إلى مالك بن نبط الهمداني الملقب بذي المعشار، وهو من بني خارف أو من يام بن أصى، هذا نصه: يربش الله في الدنيا ويبري  ولا يبرى يعوق ولا يريش 

النسر

وأما نسر فكان من نصيب حمير، أعطاه عمرو بن لحي قيلَ ذي رعين "معديكرب" فوضعه في موضع بلخع من أرض سبأ، فتعبدت له حمير إلى أيام ذي نواس، فتهودت معه، وتركت هذا الصنم. وكان عباد نسر آل ذي الكلاح من حمير على رواية من الروايات. وذكر "محمد بن حبيب"، أن حمير تنسكت لنسر، وعظمته ودانت له، وكان في همدان قصر ملك لليمن. وذكر اليعقوبي أنه كان لحمير وهمدان منصوباً بصنعاء.

ونسر هو "نشر" Nesher في العبرانيةْ. وهو صنم من اصنام اللحيانيين كذلك، ويجب ان يكون من أصنام العرب الشماليين لورود اسمه في الموارد العبرانية والسريانية على انه اسم إله عريي.

وأشير في التلمود إلى صنم ذكر ان العرب كانوا يعبدونه اسمه "نشرا" Neshra و "نشرا" هو "نسر". وقد ورد اسم الصنم "نسر" عند السبئين كذلك، وكان من الآلهة المعبودة عند كثير من الساميين، وقد عبد خاصة في جزيرة العرب.

ولم يشر ابن الكلبي إلى صورة الصنم نسر، ولكننا نستطيع ان نقول استناداً إلى هذه التسمية انه كان على هياًة الطائر المسمى باسمه، وقد وجدت أصنام على صورة نسر منحوتة على الصخور خاصة في أعالي الحجاز. ويؤيد هذا الرأي رواية ذكرها الطبرسي في أشكال الأصنام، أسندها إلى الواقدي، قال فيها: "كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير".

عميأنس

وعميأنس "عم أنس"، هو صنم خولان، وموضعه في أرض خولان. وكان يقدم له في كل عام نصيبه المقرر من الأنعام والحروث. وذكر ابن الكلبي ان الذين تعبدوا له من خولان هم بطن منهم يقال لهم "الادوم" وهم الأسوم. وفيهم نزلت الآية: )وجعلوا الله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا: هذا لله، بزعمهم،وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى،شركائهم، ساء ما محكمون". وكانوا "يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسماً بينه وبين الله بزعمهم. وما دخل في حق الله من حق عميأنس، ردوه عليه، وما دخل في حق الصنم من حق الله الذي سموه له، تركوه له(.

وقد ورد ذكر هذا الصنم في خبر "وفد خولان" الذي قدم على رسول الله في شعبان سنة عشر، إذ ذكر أن رسول الله. قال لهم: "ما فعل عم أنس"، فقالوا: بشرّّ وعرّ، أبدلنا اللّه به، ولو قد رجعنا اليه هدمناه. "وقد بقيت منا بعد بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به".

وقد كانوا يقدمون له القرابين حتى في أيام الضيق وأوقات المحنة، تقرباً اليه. لقد قالوا للرسول حين سألهم: "ما أعظم ما رأيتم من فتنته" "لقد رأيتنا وأسنتنا حتى أكلنا الرمة، فجمعنا ما قدرنا عليه، وابتعنا مئة ثور، ونحرناها لعم أنس قرباناً في غداة واحدة، وتركناها تردها السباع، ونحن أحوج اليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا. لقد رأينا العشب، يوارى الرجال، ويقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس ". وذكروا له أنهم كانوا يقتسمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم، وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءاً له.

اساف ونائلة

وللأخبارين قصص في اساف ونائلة، وهما في زعم بعضهم إنسانان عملا عملاً قبيحاً في الكعبة، فمسخا حجرين، ووضعا عند الكعبة ليتعظ الناس بهما. فلما طال مكثهما، وعبدت الأصنام، عبدا معها. وكان أحدهما بلصق الكعبة، والآخر في موضع زمزم. فنقلت قريش الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخر، فكانوا ينحرون ويذبحون عندهما. وفي رواية أن اسافاً كان حيال الحجر الأسود. وأما نائلة، فكان حيال الركن اليماني. وفي أخرى أنهما "أخرجا إلى الصفا والمروة فنصبا عليهما ليكونا عبرة وموعظة، فلما كان عمرو بن لحي، نقلهما إلى الكعبة ونصبهما على زمزم: فطاف الناس بالكعبة وبهما حتى عبدا من دون الله".وذكر "اليعقوبي"، أن "عمرو بن لحي" وضع "هبل" عند الكعبة، فكان أول صنم وضع بمكة. ثم وضعوا به اساف ونائلة كل واحد منهما على ركن من اركان البيت. فكان الطائف إذا طاف بدأ بأساف فقبله وختم به. ونصبوا على الصفا صنماً يقال له مجاور الريح وعلى المروة صنماً. يقال له مطعم الطير". فاليعقوبي ممن يرون إن اسافاً ونائلة كانا عند الكعبة، لا على الصفا والمروة.

وتذكر رواية أخرى ان أساف صنم وضعه عمرو بن لحي الخزاعي على الصفا، ونائلة على المروة. وكانا لقريش. وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة. أو هما رجلان من جرهم، أساف بن عمرو ونائلة بنت سهل فجرا في الكعبة، وقيل أحدثا فيها، فمسخا حجرين، فعبدتهما قريش. وورد ان موضع أساف ونائلة عند الحطيم. وورد ان اسافاً رجل من جرهم، يقال له اساف بن يعلى، ونائلة امرأة من جرهم يقال لها نائلة بنت زيد، وكان اساف يتعشقها في أرض اليمن، فأقبلا حجاجاٌ، فدخلا الكعبة، فوجدا غفلة من الناس وخلوة في البيت، ففجر بها في الكعبة، فمسخا حجرين، فأصبحوا فوجدوهما ممسوخين،فوضعوهما موضعهما. فعبدتهما خزاعة وقريش، ومن حج البيت بعد من العرب.

وذكر "محمد بن حبيب" ان اسافاً كان على الصفا. وأما نائلة، فكان على المروة. "وهما صنمان وكانا من جرهم. ففجر اساف بنائلة في الكعبة، فمسخا حجربن، فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما.، ثم عبدا بعد". وكان نسك قريش لأساف: "لبيلك اللهم لبيلك، لبيلك، لاشريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك ".

وورد اسم اساف في بيت شعر ينسب إلى بشر بن أبي خازم الأسدي، هو: عليه الطير ما يدنون منـه  مقامات العوارك من اساف 

وورد ان نائلة حين كسرها الرسول عام الفتح، خرجت منها سوداء شمطاء تخمش وجهها وتنادي بالويل والثبور.

ويظهر أن مردّ هذا القصص الذي يقصه علينا أهل الأخبار عن الصنمين، إنما هو إلى شكل الصنمين. كان "اساف" تمثال رجل على ما يظهر من روايات الأخباريين، وكان "نائلة" تمثال إمرأة. يظهر أنهما استوردا من بلاد الشام، فنصبا في مكة، فتولد من كونهما صنمين لرجل وامرأة، هذا القصص المذكور ولعله من صنع القبائل الكارهة لقريش، التي لم تكن ترى حرمة للصنمين.

وكانت قريش خاصة تعظم ذينك الصنمين وتتقرب اليهما، وتذبح عندهما وتسعى بينهما. أما القبائل الأخرى، فلم تكن تقدسهما، لهذا لم تكن تتقرب اليهما، ومن هنا لم يكن الطواف بهما من مناسك حج تلك القبائل.

وكانت قريش تحلف عند هذين الصنمين. ولهما يقول "أبو طالب"، وهو يحلف بهما حين تحالفت قريش على بني هاشم: أحضرت عند البيت رهطي ومعشري  وأمسكت من أثوابـه بـالـوصـائل

وحيث ينخ الأشعـرون ركـابـهـم  بمغضي السيول من أسـاف ونـائل

فكانا على ذلك الى أن كسرهما الرسول يوم الفتح فيما كسر من الأصنام. ويظهر من الشعر المتقدم، أن أسافاً ونائلة كانا في موضعين مكشوفين،وعندهما كان. ينيخ الأشعرون. ويؤيد ذلك هذا الشعر المنسوب إلى بشر بن أبي خازم الأسدي: عليه الطير ما يدنون منـه  مقامات العوارك من أساف 

حيث يظهر أن الطير كانت تقف مكتظة،عليه، لا تخاف من أحد، ولا تفزع من قادم، لأنها في حرمة صنم.

رضى

ورضى، ويكتب رضاء في بعض الأحيان، هو صنم آخر. وذكر ابن الكلبي انه كان لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فهدمه المستوغر،وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. هدمه فيَ الإسلام. وتعبدت لهذا الصنم قبيلة تميم. وقد ورد اسم "عبد رى" بين أسماء الجاهليين. ويظهر ان قبيلة طيء كانت قد تعبدت له كذلك.

و "رضى" من الأصنام المعروفة عند قوم ثمود. وقد ورد اسمه في كتابات ثمودية عديدة. وكانت عبادته منتشرة بين العرب الشماليين. وورد في نصوص تدمر وبين أسماء بني ارم، كما ورد في كتابات الصفويين. وورد على هذا الشكل: "رضو" و "رضى"، و "هر ضو" "ها - رضو". ويظن انه يرمز إلى كوكب.

ويظهر من بيت شعر ينسب الى المستوغر في كسره رضى في الإسلام، هو: ولقد شددت على رضاء شدة  فتركتها تلا تنازع أسحمـا

ان الصنم "رضى" "رضاء"، هو انثى، بدليل استعمال ضمير التأنيث في لفظة " فتركتها". فهو إلهة. ويرى بعض الباحثين، انه إلهةّ أيضاً عند العرب الصفويين.

مناف

و "مناف": صنم من أصنام الجاهلية، قال عنه ابن الكلبي: "وكان لهم مناف، فيه كانت تسمى قريش "عبد مناف". ولا ادري اين كان، ولا من نصبه ?". وسمي به أيضاً رجال من هذيل. و "به سمي عبد مناف. وكانت أمه اخدمته هذا الصنم".

وفيه يقول بلعاء بن قيس: وقرن وقد تركت الطير منه  كمعتبر العوارك من مناف

ويتبين من ورود اسم" مناف" بين عرب الشام أنه كان إلهاً معبوداً عندهم كذلك. وقد عثرعلى اسمه في كتابة دوَّنها شخص اسمه: "أبو معن" على حجر توجه بها إلى الإلهة مناف، ليمن عليه بالسعد والبركة، وحفرت على الحجر صورة الإلَه "مناف" على هيأة "رجل لا لحية له" يتحدر على عارضيه شعر رأسه الصناعي المرموز به إلى الإلهة الشمس، وحول جفنيه وحدقتيه خطّان ناعمان: ويزين جيده قلادة، كما ترى غالباً في تصاوير الآلهة السوريين، وعلى صدره طيات ردائه، ويرى طرف طيلسانه الإلهي الذي ينعطف من كتفه الأيسر فيتصل إلى الأيمن ويعقد به. وقد ذهب المتخصصون الذين فحصوا هذه الكتابة إلى أنها من حوران.

وقد عثر على كتابة وجدت في حوران، ورد فيها اسم"مناف " مع إلَه اخر، ورد اسم مناف فيها على هذا الشكل."MN,PHA " وقد عثرعلى كتابة أخرى وجد فيها الاسم على هذه الصورة: "منافيوس" Manaphius مما يدل على أن المراد بالإسمين شيء واحد، هو الإلَه مناف.

ذو الخلصة

أما ذو الخلصة، فكان صنم خثعم وبجيلة ودوس وأزد السراة ومن قاربهم من بطون العرب من هوازن، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة، والحارث بن كعب وجرم وزبيد والغوث بن مر بن أد وبنو هلال بن عامر،.وكانوا سدنته. وذكر ابن الكلبي ان سدنته بنو أمامة من باهلة بن أعصر.

وصفته انه "كان مروة بيضاء منقوشة، عليها كهيأة التاج". وكان بتبالة بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة. وله بيت يحج إليه. وجعل "ابن حبيب" موضع البيت في العبلاء على أربع مراحل من مكة.

وفي رواية لابن اسحاق ان عمرو بن لحي نصب ذا الخلصة بأسفل مكة، فكانوا يلبسونه القلائد، ويهدون إليه الشعير والخطة، ويصبون عليه اللبن، ويذبحون له، ويعلقون عليه بيض النعام.

وهناك روايات جعلت ذا الخلصة "الكعبة اليمانية" لخثعم، ومنهم من سماه كعبة اليمامة. وأظن ان هاتين الروايتين هما رواية واحدة في الأصل، صارت روايتين من تحريف النساخ. ومنهم من جعل ذا الخلصة بيتاً في ديار دوس. ويستنتج من كل هذه الروايات ان ذا الخلصة بيت كان يدعى كعبة أيضاً، وكان فيه صنم يدعى الخلصة، لدوس وخثعم وبجيلة وغيرهم.

ويظهر من حديث: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة، والمعنى انهم يرشدون ويعولون إلى جاهليتهم في عبادة الأوثان، فتسعى نساء بني دوس طائفات حول ذي الخلصة، فترتج أعجازهن". ويستنتج من ذلك ان بي دوس وغيرهم كانوا يطوفون حول كعبة ذي الخلصة التي في جوفها صنم الخلصة.

وكان "بيت ذي الخلصة" من البيوت التي يقصدها الناس للاستقسام عندها بالأزلام. وكانت له ثلاثة أقدح: الآمر، والناهي، والمتربص.

وفي ذي الخلصة قال الرجّاز:   

لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا مثلي، وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زورا وكان سبب قوله أنه قُتل أبوه، فأراد الطلب بثأره، فأتى ذا الخلصة، فاستقم عنه بالأزلام، فخرج السهم ينهاه عن ذلك، فقال تلك الأبيات. ومن الناس من ينحلها امرأ القيس. وذكر "ابن الكلبي" ايضاً أنه لما أقبل امرؤ القيس بن حجر، يريد الغارة على بني أسد، مرَ، بذي الخلصة، فاستقسم عنده ثلاث مرات. فخرج الناهي. فكسر القداح وضرب بها وجه الصنم، ثم غزا بني أسد، فظفر بهم.

وقد هدم البيت في الإسلام، "فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وأسلمت العرب ووفدت عليه وفودها، قدم عليه جرير بن عبد الله مسلماً. فقال له: يا جرير: ألأ تكفيني ذا الخلصة ? فقال: بلى.. فوجهه اليه. فخرج حتى أُتي بني أحمس من بجيلة، فسار بهم اليه. فقاتلته خثعم وياهلة دونه. فقتل من سدنته من باهلة يومئذ مئة رجل، وأكثر في خثعم، وقتل ستين من بني قحافة بن عامر بن خثعم. فظفر بهم وهزمهم، وهدم بنيان ذي الخلصة، وأضرم فيه النار فاحترق. وورد في رواية أن هدمه كان قبل وفاة الرسول بشهرين أو نحوهما.

ويذكر "ابن الكلبي" أن موضع بيت ذي الخلصة عند عتبة باب مسجد تبالة أما "أبن حبيب"، فذكر أنه صار بيت قصار في العبلاء. وذكر أن موضعه مسجد جامع لبلدة.يقال لها العبلات من أرض خثعم.

ويظهر من رثاء امرأة من خثعم لذي الخلصة حين هدمه جرير بن عبد الله،وأحرق بيته، وهو قولها: وبنو أمامة بالوليّة صرعوا  ثملا يعالج كلهم انبـوبـا

ان "الخلصة" كان صنماً أنثى، أي إلهة، ولذلك قيل له "الولية"،كما ترى ذلك في البيت المذكور. ونجد في مواضع أخرى من روايات أهل الأخبار ما يؤيد هذا الرأي، فقد استعملوا ضميرالتأنيث للتعبير عنها، كما قالوا فيه "المروة البيضاء". وأما تعبيرهم عنه بضمير التذكير، مثل قولهم "وكان"،فإنهم أرادوا بذلك لفظ "صنم" فذكروه.

سعد

وكان لمالك وملكان، ابني كنانة، بساحل جدة وتلك الناحية صنم يقال له سعد. وكان صخرة طويلة. وذكر "اليعقوبي" انه كان لبني بكر بن كنانة. وذهب "ابن اسحاق" إلى انه في موضع قفر، وقيل انه قرب اليمامة. وقد أورد الأخباريون عنه هذه القصة: "أقبل رجل منهم بإبل له ليقفها عليه،يتبرك بذلك فيها. فلما أدناها منه نفرت منه، وكان يهراق عليه الدماء، فذهبت في كل وجه وتفرقت عليه، وأسف فتناول حجراً فرماه به، وقال: لا بارك الله فيك إلهاً. أنفرت عليّ إبلي"ا. ثم خرج في طلبها حتى جمعها، وانصرف عنه،وهو يقول: أتينا إلى سعد ليجمع شـمـلـنـا  فشتتنا سعد،فلانحن من سـعـد

وهل سعد إلا صخرة بـتـنـوفة  من الأرض لايدعي لغيّ ولارشد 

وذكر "ابن قتيبة" أن سعداً صنم على ساحل البحر بتهامة، تعبده عك ومن يليها، ويقال كانت تعبده هذيل.

وقد ورد اسم "سعد" في أسماء الأشخاص المركبة المضافة، مثل "عبد سعد"، وهو مما يدل على أن الناس كانوا يتبركون به بتسمية أبنائهم باسمه.

وقد ورد اسم هذا الصنم في كتابات النبط، فدعي ب "سعدو". كما ورد في كتابات الصفويين، مما يدل على أنه كان بين الأصنام التي تعبد لها أولئك القوم. ويظن انه يرمز إلى كوكب.

ذو الكفين

وهناك صنم عرف عند الأخبارين ب" ذي الكفين" وكان لدوس، ثم لبني منهب بن دوس. فلما أسلموا، بعث النبي صلى الله عليه وسلم،الطفيل بن عمرو الدوسي، فحرقه وهو يقول: يا ذا الكفين لست من عبادكـا  ميلادنا أكبر من مـيلادكـا

اني حشوت النار في فؤادكا 

ويظهر من هذا الرجز أنه أحرقه بالنار. ومعنى هذا أنه لم يكن صنماً من حجر، وإِنما كان من خشب،أو أنه أراد بيت الصنم. وذكز أن هذا الصنم كان صنم "عمرو بن حممة الدوسي" أحد حكام العرب.

ذو الشرى

وكان لبني الحارث بن يشكر بن مبشر من الأزد، صنم يقال له ذو الشرى. وورد في رواية للاخباربين أن "ذا الشرى" صنم لدوس كان بالسراة. وقد ورد اسم هذا الصنم في الحديث النبوي، وورد بين أسماء الجاهليين اسم "عبد ذي الشرى".

ويرى بعض اللغويين ان الشرى ما كان حول الحرم، وهو إشراء الحرم،فإذا كان هذا التعريف صحيحاً،فإنه يكون في معنى "ذات حمى" عند السبئيين. وكان له حمى، به ماء يهبط من جبل حمته دوس له.

و "ذو الشرى" إله ورد اسمه في كتابات "بطرا" و "بصرى"، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد.

الأقيصر

أما الأقيصر، فكان صنم قضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان، وكان في مشارف الشام. وقد ذكر اسمه في شعر لزهير بن أبي سلمى، ولربيع بن ضبع الفزاري، وللشنفرى الأزدي. وكانوا يحجون اليه ويحلقون رؤوسهم عنده، ويلقون مع الشعر قرة من دقيق. وهي عادة كانت متبعة عند بعض قبائل اليمن كذلك.

ويذكر "ابن الكلبي" أن هوازن كانت تنتاب حجاج الأقيصر، فإن أدركت الموسم، قبل أن يلقي القرة، أي قبضات من دقيق، قال أحدهم لمن يلقي: "أعطنيه. فإني من هوازن ضارع، وإن فاته، أخذ ذلك الشعر بما فية من القمل والدقيق، فخبزه وأكله. وقد عبرت هوازن في ذلك، فقال معاوية بن عبد العُزى بن ذراع. الجرمي، في "بني جعدة" وكانوا قد اختصموا مع بني جرم في ماء لهم إلى النبي يقال له العقيق، فقضى به رسول الله لجرم،شعراً منه: ألم تر جرمـاً أبـحـدت وأبـوكـم  مع القمل في جفر الأقيصر شارع

إذا قرة جاءت بقـول:أصـب بـهـا  سوى القمل? إني من هوازن ضارع

ويظهر من بيت شعر رواه "ابن الأعرابي"، هو: وأنصاب الأقيصر حين أضحت  تسيل على مناكبها الـدمـاء

ومن بيت لزهير بن أبي سلمى، هو: حلفت بأنصاب الأقيصر جاهداً  وما سحقت فيه المقاديم والقمل 

انه كان عند الصنم الأقيصر أنصاب ينحر الناس عليها ذبائحهم التي يتقربون بها إلى هذا الإلَه. وكانت أكثر من نصب واحد، وقد تلطخت بالدماء من كثرة ما ذبح عليها.

وأشير إلى "أثواب الأقيصر" في بيت للشنفرى الأزدي. ويظهر ان عباده كانوا يطوفون حوله، وهم يلبون ويغنون.

نهم

وكان لمزينة صنم يقال له: نهم، كسره سادنه خزاعي بن عبد نهم، وهو من مزينة من بني عداء، وأعلن إسلامه. ويظهر من ابيات لأمية بن الأسكر ان أتباع الصنم كانوا يقدمون. الذبائح له، ويقسمون به. وقد سمى منهم جملة رجال عرفوا ب "عبد نهم" من بني هوازن وبجيلة وخزاعة. وهذا مما يدل على انتشار عبادة هذا الصنم بين هذه القبائل أيضاً.

عائم

وكان لأزد السراة صنم يقال له عائم.ورد اسمه في شعر لزيد الخير،المعروف أيضاً بزيد الخيل

سعير

أما سعير، فهو صنم عنزة. وكان الناس يحجون اليه ويطوفون حوله، ويعترون العتائر له، وقد ورد في شعر لجعفر بن خلاس، الكلبي، وكان راكباً ناقة له، فمرت به، وقد عترت عنزة عنده، فنفرت ناقته منه، فأنشأ يقول؛ نفرت قلوصي من عتائر صرعا  حول السعير تزوره ابنا يقـدم

وجموع يذكر مهطعين جنـابـه  ما ان يحير اليهم بـتـكـلـم

وبين أسماء الرجال أناس عرفوا ب "سعير". والسعير النار واللهب، ولا استبعد وجود صلة بين هذا المعنى وبين هذا الصنم. بان يكون هذا الصنم ممثلاً للشمس.

الفلس

وكان لطيء صنم يقال له الفلس، وكان أنفاً أحمر في وسط جبلهم الذي يقال له أجأ، أسود، كأنه تمثال إنسان. وكانوا يعبدونه، ويهدون اليه، ويعترون عنده عتائرهم، ولا يأتيه خائف إلاّ أمن عنده، ولا يطرد أحد طريدة فيلجأ بها اليه إلاّ تركت له ولم تخفر حويته أي حوزته و حرمه. ذكر "ابن حبيب" انه كان بنجد، وكان قريباً من فيد وسدنته بنو بولان.

وبولان جد بني بولان هو الذي بدأ بعبادته على رواية ابن الكلبي. وكان آخر من سدنه منهم رجل يقال له صيفي " فاًطرد ناقة خلية لامرأة من كلب من بني عُليَم، كانت جارة لمالك بن كلثوم الشمجي، وكان شريفاً، فانطلق بها حتى وقفها بفناء الفلس. وخرجت جارة مالك، فأخبرته بذهابه بناقها، فركب فرساً عُرياً وأخذ رحمه، وخرج في أثره،. فادركه وهو عند الفلس، والناقة موقوفة عند الفلس، فقال له: خل سبيل ناقة جارتي. فقال: انها لربك. قال: خل سبيلها. قال: أتخفر إلهك ه ?فبوأ له الرمح، فحل عقالها،وانصرف بها مالك، وأقبل السادن على الفلس، ونظر إلى مالك، ورفع يده وقال، وهو يشير بيده اليه:   

يا ربّ إن مالك بن كلـثـوم  أخفرك اليوم بنابٍ علـكـوم

وكنت قبل اليوم غير مغشوم 

يحرضه عليه. وعدي بن حاتم يومئذ قد عثر عنده وجلس هو ونفر معه يتحدثون بما صنع مالك. وفزع لذلك عدي بن حاتم وقال، انظروا ما يصيبه في يومه هذا. فمضت له أيام لم يصبه شيء. فرفض عدي عبادته وعبادة الأصنام وتنصر. فلم يزل متنصراً حتى جاء الله بالإسلام، فأسلم.

فكان مالك أول من أخفره. فكان بعد ذلك السادن إذا أطرد طريدة، أخذت منه. فلم يزل الفلس يعبد حتى ظهرت دعوة النبي عليه السلام، فبعث اليه علي بن ابي طالب، فهدمه، وأخذ سيفين كان الحارث بن أبي شمر الغساني، ملك غسان قلده اياهما، يقال لهما مخذم ورسوب، فقدم بهما علي بن أبي طالب على النبي، فتقلد أحدهما، ثم دفعه إلى علي بن أبي طالب، فهو سيفه الذي كان يتقلده". وجاء في بعض الروايات ذكر ثلاثة سيوف، هي: مخذم، و رسوب، واليماني.

وقد عرف "مالك بن كلثوم بن ربيعة" الشمجي المذكور، ب "مخفر الفلس"، لأنه أخفر ذمته، وكان لا تخفر ذمته.

و "الفلس"، هو "هفلس" "ها - فلس"، عند لحيان. وقد تعبدوا له مع أصنام أخرى، وردت أسماؤها في نصوصهم.

ويلاحظ أن "ابن الكلبي" الذي يروي هذا الخبر، كان نفسه قد روى قبل ذلك أن السيفين مخذماً ورسوباً،كانا على الصنم مناة، صنم الأوس والخزرج، وان الذي أهداهما،له هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وأن علي بن أبي طالب لما هدم مناة، أخذ السيفين معه، فجاء بهما إلى الرسول. فيظهر من ذكره للخبر مع صنمين انه وقع في هفوة أو نسي، فجعل من القصة الواحدة قصتين.

أصنام اخرى

وكانت لطيء اصنام أخرى، منها اليعبوب، وهو صنم لجديلة طيء، وكان لهم صنم أخذته منه بنو أسد، فتبدلوا اليعبوب بعده. وقد ورد ذكره في شعر لعبيد: فتبدلوا اليعبوب بعـد إلـهـهـم  صنماً، فقروا، يا جديل، وأعذبوا 

أي: لا تأكلوا على ذلك، ولا تشربوا.

وأما باجر، فكان صنماًً للازد ومن جاورهم من طيء وقضاعة.

ولم يذكر ابن الكلبي في كتابه الأصنام اسم الصنم الجلسد. وهو صنم كانت كندة تتعبد له، وكذلك تعبد له أهل حضرموت. وكان سدنته بنو شكامة من السكون، وهم من كندة. وكان للصنم حمى،ترعاه سوامه وغنمه، فإذا دخلته هوافي الغنم، حرمت على أربابها، وصارت ملكاً للصنم.

وقد وصف بأنه كان كجثة الرجل العظيم، من صخرة بيضاء، لها كالرأس أسود، إذا تأمله الناظر رأى فيه كصورة وجه الإنسان. وكانوا يكلمون منه، وتخرج منه همهمة، ويقربون القرابين اليه، ويلطخون بدمه، ويكترون ثياب السدنة يلبسونها حينما يقربون قرباناً اليه ويريدون مكانه.ويلاحظ أن تغيير الملابس، وابدالها للتطهر، له مثيل عند العبرانيين.

المحرق

وكان المحرق "محرق" صنماً لبكر بن وائل وبقية ربيعة في موضع سلمان. وأما سدنته، فكانوا أولاد الأسود العجلي. وقد نسب اليه بعض الرجال فورد "عبد محرق". ويظن بعض المستشرقين انه عرف ب "محرق" لأن عبدته كانوا يقدمون اليه بعض القرابين البشرية محروقة. وكان بنو بكر بن وائل وسائر ربيعة، قد جعلوا في كل حي من ربيعة له ولداً. "وكان في عنزة بلج بن المحرق. فكان في عميرة وغفيلة عمرو بن المحرق. وكان سدنته آل الأسود العجليون".

الشمس

والشمس صنم كان لبني تميم، وله بيت. وكانت تعبده بنو أد كلها: ضبة: وتميم، وعدي، وعكل، وثور. وأما سدنته، فكانوا من بني أوس بن مخاشن ابن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم. فكسره هند بن أبي هالة وصفوان بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن. وقد قيل لها: الإلاهة. وذكر "اليعقوبي" ان قوماً من "عذرة" تعبدوا لصنم يقال له: شمس.

وقد ذكر بعض أهل الأخبار، ان الشمس صنم قديم. وأول من تسمى به سبأ بن يشجب. وذكر"اليعقوبي"، انه صنم قوم من عذرة.

وقد وردت جملة أسماء منسوبة إلى الشمس،عرف أصحابها بعبد شمس،منهم من قبائل أخرى من غير تميم. ويدل ذلك على ان عبادتها كانت معروفة في مواضع مختلفة من جزيرة العرب. وعرف بعض الأشخاص ب "عمرو شمس" عند العرب الشماليين.

وفي جملة أصنام تميم الأخرى، الصنم تيم، وبه سمي رجال من تميم ومن غيرهم، مثل "عبدتيم" و "تيم الله".

وهناك أسماء أصنام أخرى لم ترد في كتاب الأصنام، إنما وردت في كتب أخرى. وقد ذكرها "ابن الكلبي" نفسه في بعض مؤلفاته. ومن هذه الأصنام: الأسحم، و الأشهل، وأوال، و البجة، و بلج، والجهة، وجريش، و جهار،و الذار، وذو الرجل، والشارق، وصدا، وصمودا، والضمار، و الضيزن،و العبعب، و عوض، و عوف، و كثرى، و الكسعة، والمدان، و مرحب، ومنهب، و الهبا، و ذات الودع و يا ليل، وذريح، و باجر، و الجد، وحلال، والحمائم، وذو اللبا، والسعيدة، وغنم، وفراض، وقز ح، وقيس،والمنطبق، و نهيك.

أما أوال، فإنه ايال، وهو صنم بكر وتغلب.

وأما جهار، فقد كان من أصنام هوازن، وموضعه بعكاظ، وسدنته آلعوف النصريون، ومعهم محارب فيه. وكان في أسفل أفطح. وكانت تلبية من نسك لجهار: " لبيلك، اللهم لبيلك، لبيلك، اجعل ذنوبا جبار، وأهدنا لأوضح المنار. ومتعنا وملنا بجهار ".

وأما الدار، فصنم سمي به عبد الدار بن قصي بن كلاب.

وأما الدوار، فصنم كانت العرب تنصبه، يجعلون موضعاً حوله،يدورون به، واسم ذلك الصنم والموضع الدوار، ومنه قول امرىء القيس: فعنّ لنا سرب كأن نعـاجـه  عذارى دوار في ملاءٍ مذيل 

وقد ذكر "ابن الكلبي" ان العرب تسمي الطواف حول الأصنام والأوثان الدوار. وعرف بعض أهل الأخبار الدّ وار بأنه "نسك للجاهلية يدورون فيه لصنم أو غيره".

ويظهر من دراسة ما ورد في كتب أهل الأخبار وفي كتب اللغة عن "الدوار" ان الدوار لم يكن صنماً، وانما هو طواف حول صنم من الأصنام، أي عبادة من العبادات لا تختص بصنم معين. وقد كان من عادة الجاهليين الطواف حول الأصنام. فظن بعض أهل الأخبار ان الدوار صنم معين، أو انه صنم ينصب، فيدور الناس حوله.

وأما ذو الرجل، فهو صنم من أصنام أهل الحجاز،. ويظهر ان هذا الصنم، وكذلك الصنم "ذو الكفين"، هما من الأصنام التي تغلبت صفاتها على أسمائها.، فنعتت بهذه النعوت، كأن تكون لرجل أحد الصنمين، ولكفي الصنم الآخر ميزة خاصة وعلامة فارقة مثل كسر أو دقة صنعة، جعلت الناس يدعون الصنمين بالنعتين البارزين. ويرى "نولدكه" احتمال كون هذين الصنمين حجرين في الأصل من الأحجار المقدسة Fetish التي كان يعبدها الناس في القديم، ثم تحولت إلى صنمين بعد ان رسمت عليها بعض التصاوير صيرتهما على شكل انسانين.

وسمي بالصنم "الشارق" جملة رجال عرفوا بعبد الشارق. ولكلمة الشارق علاقة بالشروق. وقد ذهب "ولهوزن" إلى ان المراد به الشمس لشروقها. و "الشريق"اسم صنم أيضاً. وعندي ان الشارق وشريقاً نعتان للالهة، وليسا اسمين لصنمين، وانهما في معنى "شرقن" الواردة في نصوص المسند، وتعني "آلشارق "، أي اللفظة المذكورة تماماً. وقد وردت نعتاً في نصوص عربية جنوبية كثيرة، مثل جملة: "عثتر شرقن"، أي "عثترالشارق".

فالشارق إذن نعت من نعوت الآلهة، أو اسم من أسماء الله الحسنى، بالتعبير الإسلامي. وقد يقابل لفظة "نور" الذي هو نعت من نعوت الله في الإسلام، كما ورد في القرآن الكريم: ) الله نور السماوات والأرض(.

وأما صدا وصمودا والهبا، فإنها من أصنام قوم عاد على رواية الأخباريين. وأما الضمار، فكان صنماً عبده العباس بن مرداس السلمي، وبنو سليم."ولما حضرت مرداس الوفاة، أوصى به إلى ابنه العباس، وطلب منه العناية به، لأنه يضر وينفع. فلما ظهر الإسلام، أحرق العباس ضماراً، واتى النبي فأسلم.

والعبعب، هو صنم كان لقضاعة ومن داناهم. وقد يقال بالغين المعجمة، فيخلط بينه وبين الغبغب. ورأيي ان الكلمتين أصلهما كلمة واحدة، حرفها النساخ فصارت كلمتين.

وأما "عوض" فهو صنم كان من أصنام بكر بل وائل. وقد ذكر مع الصنم سعير في بيت شعر نسب الى الأعشى، أو الى رشيد بن رميض العزى.

وكان "جد" "الجد" صنماً معروفاً عند عدد من الشعوب السامية، وليس من المستبعد أن يكون لاسم القبيلة الإسرائيلية "جد" "جاد" علاقة باسم هذا الصنم. وقد ورد في النبطية "جدا". وورد في الأسماء العربية "عبد جد" و "عبد الجد".

و "كثرى" من الأصنام المنسوبة إلى طسم وجديس، ظل باقياً معروفاً إلى أيام للرسول، فكسره نهشل بن عرعرة ولحق بالنبي. وقد ورد بين أسماء الجاهليين منُ دُعي ب " عبد كثرى". ويرى "نولدكه" في عدم ورود اداة التعريف "ال" مع "كثرى" في "عبد كثرى"، دلالة على ان هذا الصنم هو من الأصنام القديمة. ويرى ايضاً ان كلمة "كثرى" هي مجرد لقب من ألقاب "العزُى"، نسي فظن أنه اسم صنم مستقل.

وأما المدّان، فصنم يظهر انه كان من أصنام أهل الحجاز. وقد سمي به جملة رجال عرفوا ب "عبد المدان"، وكان له بيت.

وأما "مرحب"، فصنم من أصنام حضرموت، وبه سمي "ذو مرحب" سادن هذا الصنم. وكانت تلبية من نسك له: " لبيك. لبيك، اننا لديك. لبيك، حببنا اليك ".

وللأخباريين جملة آراء في معنى ذات الودع، وهي أنثى. وقد ورد اسمها في الشعر، وكانت العرب تقسم بها. قيل انها وثن بعينه، وقيل هي مكة لأنه كان يعلق الودع في ستورها. وقيل سفينة نوح، كانت العرب تقسم بها، فتقول بذات الودع، قال عدي بن زيد العبادي: كلا يميناً بذات الودع لو حدثت  فيكم وقابل قبر الماجد الزارا

و ياليل، اسم صنم كذلك، أضيف اليه فقيل "عبد ياليل "، كما قيل " عبد يغوث " و " عبد مناة " و " عبد ودّ".

وأما "ذريح" "ذرح"، فكان لكندة بالنجير من اليمن ناحية حضرموت، يظهر أنها كانت تحج اليه، وأن له بيتاً يقصد، بدليل ورود تلبية من نسك اليه، وهي: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، كلنا كنود، وكلنا لنعمة جحود. فأكفنا كل حية رصود ". ويظن "ولهوزن" أنه يمثل الشمس. "وذرح" اسم من الأسماء، ويرد في الأعلام العربية الجنوبية المركبة، مثل "ذرح ايل".

وذهب "نو.لدكه" إلى ان "ذرح" هو مثل الشارق و "محرق" صنم يمثل الشمس. والظاهر ان عبادة هذا الصنم لم تكن منتشرة خارج حدود العربية الجنوبية.

وأما باجر، فإنه من أصنام الأزد ومن داناهم من طيء. وقد سمي به رجال عرفوا ب "عيد باجر".

وحلال، هو صنم فزارة، أما الحمام، فإنه صنم بنو هند من بني عذرة. وكان في المشقر صنم لبني عبد القيس يسمى ذا اللبا، سدنته بنو عمرو. وكانت تلبية من نسك له: " لبيك اللهم لبيك. لبيك، رب فاصرفن عنا مضر. وسلمن لنا هذا السفر. أن عما فيهم لمزدجر. واكفنا اللهم أرباب حجر ".

وكان المنطبق صنماً، للسلف وعك والأشعريين، وهو من نحاس، يكلمون من جوفه كلاماً لم يسمع بمثله. فلما كسرت الأصنام، وجدوا فيه سيفاً،فاصطفاه الرسول، وسمّاه "مخدماً ". وذكر "ابن حبيب" ان تلبية من نسك لمنطبق: لبيك اللهم لبيك. لبيك ". ويلاحظ ان الأخباريين ذكروا ان السيف "محدم" "مخذم" كان سيفاً على الصنم مناة أو "الفلس" صنم طيء، كما ذكروا ان السيف "رسوب" كان على الصنم "مناة"، أو الفلس كذلك.

وأما الصنم نهيك، فقد كان من الأصنام الموضوعة في مكة. وذكر "الأزرقي" ان عمرو بن لحي نصب هذا الصنم عند الصفا، وانه كان يعرف ب "مجاود الريح " "مجاور الربح"، وانه نصب الصنم: مطعم الطير عند المروة، فكان الناس في موسم الحج يحجون إلى الصنمين.

ولعل هذين الصنمين كانا من الأصنام التي خصصت بالسماء،وان الناس كانوا يضعون الحبوب عندهما لتأكلها الطيور. ولذلك قيل لنهيك "مجاود الريح"، ولصنم المروة "مطعم الطير".

وغنم، ذكر أنه كان في جملة الأصنام الموضوعة بمكة. وقد ورد اسم رجال، واسم أسر.

وفراض، صنم كان بأرض سعد العشيرة. وقد حطمه رجل منهم اسمه "ذُباب"، وهو من "بني أنس الله بن سعد العشيرة". حطمه، ثم وفد إلى النبي فأسلم، وقال شعراً في ذلك، أشار فيه إلى هدمه ذلك الصنم. وكانوا يذبحون له ويلطخونه بالدم.

أما قزح "قزاح"، فالظاهر أنه صنم، كان الناس يتصورون أنه يبعث الرعد والعواصف. وقد نسي على ما يظن. ولا بد أن يكون لقوس قزح علاقة ما بهذا ا!صنم القديم. وقد يكون لاسم قزح، وهو من مواضع الحرم بمكة، علاقة باسم هذا الوثن العتيق، وقد تعبد بنو أدوم لصنم اسمه "قزح" Koze مما يدل على أنه هو الصنم العربي الذي نتحدث عنه. والظاهر أنه كان من الأصنام القديمة المعروفة، غير أنه فقد منزلته وقلَّت أهميته، فلم يكن من الأصنام الكبرى عند ظهور الإسلام. ويخالف "نولدكه" رأي بعض المستشرقين الذين ذهبوا الى أن المراد بقزح الشيطان، لا صنم من الأصنام.

و "قيس" اسم صنم قديم. نسيت عبادته، وصار السم أشخاص. ودليل كونه صنم قديم وروده في الأعلام المركبة، مثل "عبد القيس"، فإن في هذه التسمية دلالة على أن قيساً اسم إلَه. ولقيس علاقة ب "قوس" Quas، وهو إله من آلهة أدوم.

وقد ورد اسم "قيس" "قس" و "قوس" في الكتابات. وهما اسم إلهَ واحد. عثر على معبد له في مدائن صالح.

وأما "عوف"، فقد استدل من التسمية ب "عبد عوف" على انه اسم صنم، غير اننا لا نعرف من أمر عبادته شيئاً، فلعله من الأصنام التي ذهب ذكرها قبل الإسلام بزمن طويل. وقد ذكر أهل الأخبار انه "صنم"، ولم يذكروا اسم عبدته.

و ذكر "اليعقوبي " ان للأزد صنم، يقال له "رئام".

وَالسعيدة، صنم أنثى وعلامة تأنيثه وجود تاء التأنيث بآخره. وكان لسعد هذيم وسائر قضاعة إلا "بني وبرة"، وعبدته الأزد أيضاً.وكان سدنته "بنو عجلان" وموضعه بأحد "وورود ان "السعيدة" بيت كان يحجه ربيعة في الجاهلية".

وورد في جملة أسماء أهل الجاهلية اسم "سعد العشيرة". وقد ذهب أهل الأخبار إلى ان "مذحجًاً كان يعرف بذلك الاسم. و "العشيرة" اسم صنم من الأصنام القديمة، وله علاقة بعبادة الساميين. فقد كان الكنعانيون يضعون وثناً في محلات العبادة يسمونه "العشيرة"، كما كانوا يتعبدون له لأنه من آلهتهم القديمة. وهو إلهة، أي أنثى عند الكنعانيين. ويظهر ان "العشيرة" من الآلهة السامية القديمة التي كانت تعبد بصورة خاصة عند الساميين الغربيين،كما عبر بلفظة "العشيرة" عن "المذبح" "المزبح. واسم "عبد عشيرة" مرتبط بالطبع باسم هذا الإلَه.

ومن دلائل عبادة "الأشهل"، ورود الأشهل في الأعلام المركبة، مثل "عبد الأشهل". وقد ذكر "ابن دريد" ان الأشهل صنم.

وأشار "محمد بن حبيب" إلى صنم قال له: "زائدة"، لم يذكر من كان يتعبد له.

وذكر علماء اللغة اسم صنم قالوا له: "الضيزن". وقال بعضهم: "والضيزنان صنمان للمنذر الأكبر، كان اتخذهما بباب الحيرة ليسجد لهما من دخل الحيرة امتحاناً للطاعة".

وأدخل بعض علماء اللغة "ألغري" في عداد الأصنام. فقال: "والغريّ: صنم كان طلي بدمٍ". وذكر بعض آخر أن الغري: نصب كان يذبح عليه النسك. وذكروا أن الغريين بناءان طويلان، يقال هما قبر مالك وعقيل نديمي جذيمة الأبرش، وسميا الغريين لأن النعمان بن المنذر كان يغريهما بدم من يقتله في يوم بؤسه.

ومن الأصنام صنم اسمه "عير"، قيل إنه كان لعبد عمرو المعروف ب "بكرابن جبلة الكلبي"، كان قومه يعضمونه. وصنم اسمه "جريش"، اليه نسب:"عبد جريش".

وذكر بعض أهل الأخبار أن "كعباً" و "كعيباً" المذكورين في قصة "القليس" التي أقامها "أبرهة" بصنعاء، هما صنمان.

الفصل السبعون
أَصنام الكتابات

أقصد ب "أصنام الكتابات" الأصنام التي عرفنا خبرها وأمرها من الكتابات الجاهلية ومن الكتابات الاشوربة ومن كتب الكتبة "الكلاسيكيين"، وذلك تمييزاً لها عن الأصنام التي أخذنا علمنا بها من روايات الأخباريين في الغالب.

وقد سبق لنا أن وقفنا على أسماء بعض آلهة الأعراب، وذلك أثناء حديثنا عن الآشوربين والعرب. وقد ذكرت تلك الأسماء في الكتابات الآشورية لمناسبة سقوط أصنامها أسيرة في أيدي الاشوريين. وكان الأعراب الذين حاربوا الآشوريين قد حملوها معهم، اما تبركاً وتيمناً بها، وتفاؤلاً من وجودها معها بالنصر والغنائم، واما لأنها كانت معهم في خيمتها المتخذة معبداً لها فسقطت في أيدي الاشوريين باكتساح الآشوريين لمنازل أولئك الأعراب. فأخذها الآشوريون معهم، وحملوها الى عاصمتهم أسيرة كما يؤسر البشر، وسجنوها عندهم، إذلالاً لعبادها وإهانة لهم، وازدراءً بشأن تلك الآلهة المغلوبة السيئة الحظ التي لم تتمكن من مساعدة عبادها في القتال والتي لم تتمكن حتى من تخليص نفسها من الأسر، فوقعت هي نفسها أسيرة ذليلة في أيدي عبدة آلهة أخرى. وبقيت في أسرها هذا، حتى وجد الأعراب الا مناص لهم من استردادها من الاشوريين إلا باسترضائهم وبإعلان خضوعهم لهم. فذهبوا إلى نينوى، وقدموا طاعتهم لملك اشور، وأمر عندئذ بإعادة أصنامهم اليهم، وكتب الآشوريون فوقها كتابة تشير إلى سقوطها في أسرهم، والى تغلب آلهة الآشوريين على آلهة الأعراب،وتفوق إلهَ آشور على تلك الأصنام، وبعد أن نقش عليها اسم الملك. ثم أعيدت وهي على هذه الصورة اليهم.

ومن هذه الأصنام دلبت "دلبات"، و "عتر سماين" "عشتر السماء" Atarsamain "A-tar-sa-ma-a-in" و "عتر قرمية" "عتر قرمي" "Atar Kurumiaa"، و "ديه" "دايا" "Dija"="Diya"، و "نوهيا" " نخيا" "نهيا ""Nuhaia"، و "اببريلو" "Ebirillu". و هي الأصنام التي عليها أن تسجن فأعيدت إلى أصحابها، ووضعت في أماكنها وسرّ أتباعها ولا شك بهذه العودة.

وقد حرفت أسماء هذه الأصنام،حتى صار من الصعب علينا تشخيصها. ولعل اسم الصنم "دلبت" أو تحريف "ذات بعل"، أيَ "الشمس". والشمس، إلهة عند العرب، تعبدت لها قبائل عديدة، كما تكلمت عنها في موضع آخر، وقد عرفت به الإلهة عندها. وأما "عتر سمين"، فهو "عثتر السماء"، و "عثتر" من الالهة المعبودة عند العرب، وقد ورد اسمه في نصوص المسند. ويرى بعض الباحثين انه إلهة، أي أنثى. ويرمز إلى "الزهرة" في رأي غالب العلماء. وقد أشير في النصوص القتبانية إلى قبيلة عرفت ب "عتر.سمين"، أي باسم هذا الصنم، لعلها من عبدته، فنسبوا اليه.

وأما "نوهيا" "نخيا" "نهى" "نهيا"، فهو الإله "نهى ". وقد ورد في الكتابات الثمودية، اسم صنم بهذا الاسم. فلعل له صلة بالصنم المذكور.

وحدثنا "هيرودوتس" - في أثناء كلامه على حملة "قمبيز" على مصر -عن إلهين من آلهة العرب، هما: "باخوس" Bacchus و "اوزانيا ""Urania ". و ذكر ان العرب تسمي "باغوس" "اوراتل" Oratal، وتسمي "اورانيا" "أليلات"،Alilat. و "اليلات"، هو الصنم "اللات"، الذي يرمز إلى "الشمس"، فهو إلهة، أي أنثى. ويقابل "اثينة" Athene التي ظهرت عبادتها متأخرة بعض التأخر بالنسبة إلى الآلهة الأخرى. و "اللات" من الأصنام العربية المعروفة النبي ذكرت في القرآن، وفي النصوص النبطية والصفوية، كما سأتحدث عن ذلك في المواضع المناسبة. وأما Oratal، فهو تحريف.عل ما يظهر لاسم صنم من الأصنام العربية، صار من الصعب ارجاعه إلى صنم من الأصنام النبي نعرفها الآن.

وقد حفظت النصوص الجاهلية أسماء عدد لا بأس به من الأصنام، كان الناس يقضون الليالي سهراً في عبادتها والتودد اليها، لتنفعهم ولتدفع الأذى وكل سوء عنهم، وكانوا يتقربون اليها بالنذور والقرابين. ثم ذهب الناس وذهبت آلهتهم معهم. وبقيت أسماء بعض منها مكتوبة في هذه النصوص، وبفضل هذه الكتابات عرفنا أسماءها، ولولاها لكانت أسماؤها في عداد المنسيات، كأسماء الالهة التي نسيت لعدم ورود أسمائها في النصوص.

وبين هذه الأسماء أسماء يجب اعتبارها من "الأسماء الحسنى"، أي "اسماء الله الحسنى" في المصطلح الإسلامي لأنها نعوت وصفات للالهة، التصقت بها حتى صات في منزلة الأسماء العلمية. وهي تفيد المؤرخ كثيراً، إذ انها تعينه في فهم طبيعة تلك الالهة، وهي فهم رأي المؤمنين بها، في ذلك الوقت.

وفي طليعة أسماء الآلهة المدونة في نصوص المسند، اسم الإله "ود"، إلهَ معين ا!كبير، وإلَه قبائل عربية أخرى، منها "ثمود"، حيث ورد اسمه في كتاباتهم " و "لحيان"، حيث ذكر في كتاباتهم أيضاً. كما كان من الأصنام الكبرى في الحجاز عند ظهور لاسلام. وقد ذكَر في القرآن الكريم مع أسماء أصنام أخرى عبدت في عهد نوح. وقد ظن بعض المستشرقين ان هذا الصنم لم يكن معبوداً في الجاهلية القريبة من الإسلام وعند ظهور الإسلام، وهو رأي غير صحيح، إذ ورد ذكره في شعر للنابغة، وكان له معبد في دومة الجندل، وسدنة وأتباع. ولدينا أسماء جملة رجال جاهليين عرفوا ب " عبد ود". وقد ذكر ان قريشاً كانت تتعبد لصنم اسمه ود، ويقولون له أدّ أيضاً.

ونعت "ود" بالإله " ال هن" "الهن" في بعض، الكتابات، جاء في أحد النصوص "ودم الهن"، أي "ود الإلَه". و "كهلن"، أي "الكاهل" بمعنى القدير والمقتدر. وهما من صفات هذا الإلَه التي كان يراها المعينيون فيه.

ويرمز "ود" إلى القمر، عند المعينيين، وهو الإله الرئيس عندهم. وقد وردت لفظة "شهرن"، أي "الشهر" بعد كلمة "ود" في بعض الكتابات. فورد: "ودم شهرن"، أي "ود الشهر". وتعني لفظة "شهر" القمر في عربية القرآن الكريم. و "ود"، هو الإلهَ "القمر" عند بقية العرب الجنوبيين. ومتى ورد اسمه في نص، قصد به القمر.

وقد نعت "ود" ب "الأب"، تعبيراً عن عطفه على المتعبدين له وعن رحمته بهم. فورد في النصوص المعينية: "ودم ابم"، و "ابم ودم" أي "ود أب"، و "أب ود"، فهو بمثابة الأب للانسان. والأب من كان سبباً في ايجاد شيء أو اصلاحه أو ظهوره. وقد عثر على أخشاب وأحجار حفرت عليها أسماء ود أو جمل "ودم ابم" أو "ايم ودم"، وذلك فوق أبواب المباني، لتكون في حمايته ورعايته، وللتبرك باسمه وللتيمن به، كما وجدت كلمة "ود" محفورة على اشياء ذات ثقوب، تعلق على عنق الأطفال لتكون تميمة وتعويذة يتبرك بها. فعلوا ذلك كما يفعل الناس في الزمن الحاضر في التبرك بأسماء الالهة والتيمن بها لمنحها الحب والبركة والخيرات.

ويظن ان لفظة "ود"، ليست اسم علم للقمر، بل هي صفة من صفاته، تعبر عن الود والمودة. فهي من الأسماء الحسنى للقمر اذن.

وقد ورد اسم "ودّ" في كتابة ثمودية دوّنها أحد المؤمنين الفانين في حب "ودّ"، جاء فيها: " أموت على دين ودّ"، "بدين ودّ أمت "، وجاء في كتابة أخرى: " يا إلهي احفظ لي ديني، يا ودّ أيده".

وورد اسم "ودّ" في النصوص االحيانية. فتكون عبادة هذا الإلهَ قد انتشرت في العربية الغربية من أعالي الحجاز إلى العربية الجنوبية. وذلك منذ ما قبل الميلاد إلى ظهور الإسلام.

وقد اقترن اسم "ود" مع "ال" "ايل" في بعض الكتابات العربية الجنوبية، و "ايل" هو الإله السامي القديم. ولعلّ في "ود ال" "ودّ ايل " معنى "حب ايل"، فتكون "ودّ" هنا صفة من صفات الإله. واما "ايل"، فإنها قد تعني ما تعنيه كلمة "إلهَه" في عربيتنا، وقد تعني إلهاً خاصاً في الأصل هو إلهَ الساميين المشترك القديم.

وقد وردت في نص قتباني جملة: "بت ودم" أي "بيت ود"، ومعناها معبد خصص بعبادة الإلهَ "ودّ". ولا بد أن تكون هناك جملة معابد خصصت بعبادة هذا الالَه.

ويرى بعض المستشرقين استناداً إلى معنى كلمة "ودّ" أن هذا الصنم يرمز إلى الودّ، أي الحبّ وانه صنو للالهين "جيل" Gil، و "بحد" Pahad عند الساميين. ويستندون في رأيهم هذا إلى بيت للنابغة هو: حياك ودّ وأنـى لا يحـل لـه  لهو النساء وان الدين قد عزما 

وهناك من يرى وجود صلة بين "ود" و Eros الصنم اليوناني، ويرى أنه صنم يوناني في الأصل استورد من هناك، وعبد عند العرب. وهو رأي يعارضه "نولدكه" لعدم وجود تشابه في الهيأة بين الصنمين.

ومن آلهة المعينيين الإله: "كهلن"، أي "الكهل" و "الكاهل". وقد ورد اسمه في النصوص التي عثر عليها في الأقسام الشمالية من العربية الغربية كذلك. وهو يرمز مثل "ودّ" إلى "القمر".

وعرف "ود" ب "نحس طب" "نحسطب". "ونحس" بمعنى "نحش"، أي الحيّة، و "طب" طيب، فيكون المعنى "الحية الطيبة". والحيّة رمز لود. فيكون المراد من "نحس طب" الإلَه ودّ.

ومن بين أسماء الالهة التي ورد اسمها في النصوص المعينية،اسم الإله "نكرح". ويري بعض الباحثين انه إلهَ البغض والحر ب. وان "نكرح" في معنى "كره" فيَ عربيتنا. وانه "نكرو" أو "مكرو" Makru=Nakru عند البابليين. وهو "العدو" فهو على طرفي نقيض مع الإلَه "ود". ويرون انه يرمز إلى الشمس، وانه في منزلة "ذت حمم" "ذات الحميم" عند السبئيين.

وقد وجد من دراسة الكتابات المعينية ان آلهة المعينيين ترد مرتبة على هذه الصورة في بعض الأحيان: "عثتر" يليه "ود" ثم "نكرح"، وتذكر بعدها جملة "ال ل ات معن"، بمعنى "آلهة معين".

وهناك آلهة أخرى وردت أسماؤها في كتابات المعينيين، لا نعرف من أمرها شيئاً يذكر منها: "بلو" إلهَ البلاء والنوازل والموت، و "حلفن" "حلفان"، وهو خاص بالقسم، و "ورفو"، وهو حارس الحدود، و "منضح" "منضحت" "منفحة"، إله الماء? والري والحدود، و "متبقبط"، إله الحصاد. غير ان من الجائز في رأيي ألا تكون هذه الأسماء أسماء آلهة، وانما هي مجرد مصطلحات يراد بها أمور أخرى.

وتعبد السبئيون للاله "المقه"، إلههم الكبير. ويعد في منزلة "ود" عند المعينيين، ويرمز إلى "القمر". وهو المقدم عندهم على سائر الآلهة. اليه تقرب "المكربون" والملوك بالأدعية والهدايا، واليه توسل الشعب في كل ملمة تنزل به. ونجد اسمه مدوناً في كثير من النصوص السبئية. بل تعبّد له أهل الحبشة كذلك، فنجد له معبداً عند "بحا" "يها". انتقلت عبادته اليهم من السبئيين الذين كان لهم نفوذ سياسي وثقافي على الساحل الافريقي المقابل لليمن، ويظهر أثر ذلك في الخط الحبشي حتى اليوم.

وليس للعلماء رأي واضح صحيح في معنى"المقه"، ويرى "ايوالد" Ewald ان الكلمة من أصل "لمق"، وهي بمعنى "لمع"، فيكون للاسم - على ذلك -معنى اللمعان، ويمكن أن تكون كلمة "المقه" اذن، بمعنى "الثاقب" و "اللامع". وقد كان الجاهليون يقسمون بالنجوم الثاقبة، أي النجوم التي يتوقد ضياؤها ويتوهج. ورد في القران الكريم: ) والسماء والطارق، وما أدراك ما الطارق. النجم الثاقب (. وقال المفسرون: " النجم الثاقب، يعني يتوقد ضياؤه ويتوهج ". وذكروا أن العرب كانت " تسمي الثريا: ا انجم. ويقال إن الثاقب: النجم الذي يقال له زحل. والثاقب أيضاً الذي قد ارتفع على النجوم ". وقد ذهب " هومل" إلى ان "المقه"، إنما تعني "سيده". وذهب بعض الباحثين إلى إن اللفظة من "ال" "ايل"، اسم الإلهَ " "ايل" ا لشهير، المعروف عند جميع الساميين.ومن "مقهو" بمعنى"قوي، فيكون الاسم "ايل قوى"، " ال مقهو".

وتدل روايات الأخباريين عن "المقه" على عدم وقوفهم على حقيقة هذه التسمية. فقد حاروا فيها، واضطربوا في أمرها، ولم يظهر أحد من بينهم من عرف حقيقتها. فصيرها بعضهم اسماً كل ت أسماء الملكة "بلقيس"، وصيرها بعض آخر مصنعة من مصانع الجن التي بنتها على عهد "سليمان"، وجعلها "الهمداني" الزهرة ؛ "لأن اسم الزهرة في لغة حمير: يلمقه والمق". ذكروا أن بناء "يلمقه" ظل قائماً باقياً إلى أيام غزو الحبشة لليمن، فهدموه. وإذا صحت رواية الهدم هذه، فلا يستبعد حينئذ أن يكون ذلك بسبب كونه معبداً وثنياً خصص بعبادة الأوثان،والأحباش نصارى سعوا لطمس الوثنية ونشر النصرانية في البلاد. ولعلّه أراد به معبد "المقه." بمأرب، فهدمه الحبش للاستفادة من أحجاره لبناء كنيستهم التي بنوها بهذه المدينة. وقد كان ذلك المعبد قد خصص بعبادة "المقه" إلهَ سبأ الكبير، فعرف ب ".المقه"، و "يلمقه" عند سواد الناس.

وقد حفظت لنا نصوص المسند أسماء جملة معابد خصصت بعبادة المقه، وللتمييز بينها ذكرت أسماء المواضع التي شيدت عليها تلك المعابد. ومن أشهرها معبد "المقه" الكبير بمدينة "مأرب"، المعروف بمعبد "المقه بعل اوم" "المقه بعل أوام"، وهو معبد لا تزال آثاره باقية، زارته ونقبت فيه بعثة "وندل فيلبس" الامريكية إلى اليمن. وتعرف بقايا هذا المعبد عند اًهل اليمن باسم "حرم بلقيس" و "محرم بلقيس". فأحل الدهر اسم امرأة محل اسم إلَه قديم كبير.

ووردت في بعض النصوص هذه الجملة: "المقه ثور بعل..." " ومعناها:"المقه ثور ربّ". أي "المقه الثور هو رب..." كما وردت جمل مثل: "المقه ثهون"، بمعنى: "المقه المتكلم". ومثل "المقه ثهون بعل اوم."، أي "المقه المتكلم ربّ أوم"،"أوام". ويظن أن المراد بذلك الكاهن المتكلم.باسم الرب "المقه". فقد كان لبعض المعابد كهنة، يزعمون أن الآلهة تتكلم فيها، ويقومون أنفسهم بدور الوساطة والترجمة. فإذا أراد شخص سؤال إلهه عن مشكلة يريد حلاً لها، أو عن قضية عويصهَ، أو عن سرقة وما شاكل ذلك، يذهب إلى المعابد المختصة، التي يزعم أن الالهة تجيب فيها، فيتقدم إلى الكاهن بنذر وبهدايا مناسبة، ثم يلقي سؤاله، فيظهر عندئذ صوت مسموع، يزعم أنه صوت الإلهَ اللي لا يرى،يجيب على للسؤال أو على الأسئلة، بما ينسب السؤال. وقد كنيّ عن "المقه" ب "ثور" في بعض الكتابات. ومما يؤيد أن المراد "بثور" هذا الإلَه، هو صورة رأس ثور في كثير من الكتابات، وهي ترمز اليه، كذلك رمز اليه بنسر وبصور الحيات. وهذه الصور من الرموز للدالة على الإلَه القمر عند قدماء الساميين. وقد صور العبرانيون "يهوه" على هيأة عجل. ويلاحظ أن أكثر الأوثان والصور "صلمن" التي كان الناس يقدمونها إلى معابد "المقه" وفاء لنذور نشإوها لها، اشتملت على صور ثبران، ويلاحظ كذلك أن الثيران، كانت من أكثر الحيوانات التي كان المتعبدون يقدمونها ذبائح لهذا الإلَه. وقد استنتج "دتلف نلسن" من هاتين الملاحظتين ومن تسمي أشخاص وأسر وعشائر وقبائل باسم "ثور"، أن الثور رمز يراد به هذا الإلهَ "المقه"، أي القمر.

وورد في النصوص السبئية اسم إلَه هو "هوبس" "هبس"، ورد منفرداً، وورد مع الإلَه "المقه". وقد قصد به الإله القمر. ومعنى "هوبس" على رأي "فرسنل" Fresnel اليابسة والجاف، وهو وصف للقمر. ويعلل ذلك بفعل القمر البارز في احداث الجزر حيث تنسحب المياه من الساحل مسافة إلى اابحر. وقد أشار "الهمداني" إلى أن اسم القمر "هيبس"، والظاهر ان هذه التسمية للقمر ظلت معروفة فيَ اليمن بعد الإسلام.

ووردت جملة "المقه ذ قِلم" في بعض النصوص ووردت "هوبس"، و "المقه ذ هوبس". بمعنى اليابس. وذكر بعض العلماء ان معنى ذلك "المقه" الذي يؤثر في المد والجزر، وذلك لما لاحظه المتعبدون له من وجود أثر له في احداث المد والجزر.

وقد أشير اليه ب "هلل" بمعنى هلال، وب "ربع"، أي الربع الأول من الشهر، وب "حول"، بمعنى تمام الشهر، أي القمر كاملاً. ومن صفاته "سمع"، أي سميع.

و "عم" هو إلَه شعب قتيان الرئيس. وقد ورد اسمه مقروناً مع الإله "أنبي" في نصوص قتبانية عديدة. وهو يقابل الإلهَ ود عند المعينيين، والإله "المقه" عند السبئيين، والإله "سن" "سين" عند أهل حضرموت. فهو الإله القمر اذن عند القتبانيين.

وكلمة "عم" من الكلمات السامية القديمة الواسعة الانتشار عند الساميين. وقد ذكرت في نص يقدر انه كتب حوالي سنة "4500" قبل الميلاد وهي من كلمات عهد الأمومة، ثم صارت من المصطلحات الدينية مثل "ال" "ايل" E l و "بعل" Baal، و "ادون" " Adon، و "ملك" Malke وما شابهها من أسماء الألوهية: كانت نعتاً في الأصل من جملة النعوت التي كان يطلقها الساميون على آلهتهم، ثم جعلت علماً لإله.

وترد لفظة "أنبي" في الكتابات القتبانية علماً على إله ذكر هو القمر. وقد وردت بعد اسمه كلمة "شيمن"، ومعناها "الحامي" والحافظ، فورد "انبي شيمن"، أي "أنبي المحامي" و "أنبى الحافظ"، والمدافع عن المؤمنين به. فهو اذن في معنى "عم". ولا بد أن يكون لهذا النعت صفات بصفات هذا الإلهَ، أي انه اسم من أسماء الله الحسنى.

ومن آلهة قتبان التي ذكرت مع "عم" الإلهَ "حوكم" و "اثرت" و "نسور" و "ال فخر". ويرى "هومل" ان الإله "اثرت" هو إلهة أنثى. هي في نظره زوج الإلهَ "عم". ويظن ان "اثرت" هي الشمس، ويظن أيضاً أن هذه الكلمة قريبة في المعنى من كلمة "عشيرة" "عشيرات" العبرانية، و "عشرتو" الآشورية البابلية، وأنها تعني في القتبانية الشروق أو الشارقة والشرقة الشديدة.

من "عثر" بمعنى شرق وإشراق، أضيف الى نهاية الكَلمة حرف للتأنيث، لأن الشمس مؤنثة، كما فعل في عتثر إذ عد مؤنثاً عند الساميين الشماليين. فصار "عتثرت" "عشترت" "عشتروت". أي أنثى. وكما فعل في "كوكب" و ""ملك"، فى "ذي الخلصى"، و "ذي الشرى"، حيث أضيفت اليها التاء، فصارت "كوكبت" "كوكبة"، و"ملكت" "ملكة"، و "الخلصت " و"شربت".

ويحتمل على رأي "هومل"، أنْ يكون "حوكم" "حوك" إله السماء، ويظهر أنه من الالهة الخاصة بشعب قتبان. أما "دتلف نلسن" فيرى احتمال كون الكَلمة من "حكم".

وقد عبر عن الإلهة "الشمس" ب"ذت حمم"، أي "ذات حميم"، "ذات حمم" ، "ذات الحميم"، أي ذات الحرارة الشديدة والأشعة المتوهجة التي تشبه الحميم من شدة الحر. وهذا المعنى قريب من "الحمون" " El-Hamon و "بعل حمون" Ba'al Hammon في العبرانية، ويراد بها الشمس. و"حمت" "حمه" Hammaفي العبرانية هي الشمس. وورد في بعض النصوص التدمرية اسم الإلهَة "حمن" Hamman وورد هذا الاسم في بعض النصوص النبطية التي عثر عليها في حوران. وهذا الإله هو الشمس. وقد كنيّ عنها بالأشعة الحارة المحرقة التي ترسلها خاصة في أيام الصيف.

وهناك من فسر "ذت حمم" ب "ذاتَ حمى" "ذات الحمى"، والحمى الموضع الذي يحمي، ويخصص بالإله أو المعبد أو الملك أو سيد قبيلة، والمكان الذي يحيط بالمعبد، فيكون حرماً آمناً لا يجوز لأحد انتهاك حرمته. وفي جزيرة العرب جملة مواضع يقال لها "حمى" ذكر أسماءها الأخباريون.

وعبر عن الشمس ب "ذت بعدن" "ذات بعدان" كذلك، أي ذات البعد. وهي كنية قصد بها الشمس حينما تكون بعيدة عن الأرض أي في أيام الشتاء. وقد استدل على ذلك بجملة وردت في نصوص المسند، هي: "بعلمن بعدن وقرين"، أي "بالعالم البعيد والقريب"، بمعنى في الماضي والحاضر. وقصد بذلك الشي، في هذا الوقت من السنة حيث تكون أشعتها غير محرقة ولا شديدة مؤذية للناس. وأنا لا استبعد أن يكون المراد من ذات البعد،الإلهة التي تشمل برحمتها وبركتها الأبعاد، أي المسافات الواسعة والأماكن البعيدة فضلاً عن القريبة أو الإلهة البعيدة عن الناس التي لا يمكن أن يصل، اليها أحد.

وكنيّ عن الشمس في النصوص القتبانية بكنى أخرى، منها: "ذت صنتم"، "ذات صنتم"، "ذات صنت"، و "ذت رحبن"، "ذات رحبان" "ذات الرحاب"، و "ذات صهرن" "ذات الصهر"، و "ذت غدرن" أي "ذات الغدر" و "ذاتَ الغدران"، و "ذت برن"، "ذات بران"، "ذات البر"، و "ذت ضهرن"، "ذات ضهران"، و "ذ محرضو ومشرقتن"، أي ذات اللون الذهبي المشرق و "مشرقتن"، بمعنى الغروب والشروق، و "تدن" "تدان" "تدون"، و "تنف"، وذلك في الكتابات السبئية، و "ذت حسولم" "ذات حسول"، أي شمس الشتاء، وذلك في النصوص المعينية.

وقد عرف إلَه حضرموت الرئيس ب "سن" "سين"، وهو القمر. وهو إلَه شعب حضرموت الخاص. وقد نعت بنعوت، مثل "ذ علم"، أي "ذو العلم"، بمعنى العالم، وبنعوت أخرى. وورد اسمه في كتابات عثر عليها في "يحا"بالحبشة.

و "عثتر" من الالهة التي ورد اسمها في نصوص، كثيرة من نصوص المسند. ورد في نصوص معينية وسبئية وحضرمية وقتبانية. ويقابله Atargatis المدون اسمه في كتب "الكلاسيكيين". و "عتر" Atar عند السريان، و "عشثر" "عشتار". وقد ذكر في نصوص الأشوريين والبابليين والكنعانيين والعبرانيين والحبش وغيرهم، مما يدل على انه كان من الآلهة التي كانت عبادتها شائعة في منطقة واسعة، وانه كان من الالهة الكبرى قبل الميلاد.

وقد ورد "ام عثتر"، و "ابم عثتر" في بعض النصوص. وقصد بالجملة الأولى: "أم عثتر"، وبالجملة الثانية "أب عثتر" "عثتر أب". وقد استنتج "دتلف نلسن" من ذلك ان "ءثتر" هنا هو بمثابة الإلهَ الرئيس، فهو أب وأم للالهة يليه القمر في الترتيب ثم الشمس. وذهب في بحث آخر له عن ديانة العرب إلى ان المراد ب "ام عثتر" الشمس، باعتدادها انثى إلهة أماً. أما ولدها فهو "عثتر". وليس بمستبعد ان يكون المراد من "ام عثتر"، ان "عثتر" بمنزلة الأم للمتعبدين لها، تريد لهم الخير والبركة وتعطف عليهم وتحبهم عطف الأم على ولدها وأن المراد من "عثتر ابم" "عثتر أب"، ان "عثتر" هو بمنزلة الأب للمتعبدين، يشفق عليهم ويحبهم، ويمنحهم الخير والصحة والبركة. وذهب بعض الباحثين إلى ان المراد من عبارة "ام عثتر"، الإلهة الشمس، لأنها أم "عثتر"، وان المقصود من "ابم عثتر" "أب عثتر" لاله القمر، الذي هو زوج الشمس، ومن زواجهما ولد الابن "عثتر".

وقد جاء في نص سبئي وجد في مدينة "صرواح" ان صاحبة النص قدمت إلى الإلهة "ام عثتر" "ام عثتر" أربعة تماثيل من ذهب،لأنها وهبت اليها أربعة أطفال، هم ولد واحد وثلاث بنات، كلهم أحياء يرزقون. ولأنها سرت قلبها بهذه الذرية. وهي لذلك قدمت هذه التماثيل، ولترجو منها ان تستمر في الإنعام عليها وعلى ابنها وبناتها بالصحة وقد قصد ب "ام عثتر" هنا الإلهة الشمس. ويتبين من هذا النص أن السبئيين كانوا ينظرون إلى "ام عثتر"، نظرة البابليين إلى "عشتار." على أنها إلهة الخصب.

وقد عثر في النصوص النبطبة، على اسم الهة هي "ربة العثر" "ربت عثر"، أي الشمس.

وورد اسم "عثتر" في عدد كبير من نصوص المسند على هذا النحو: "عثتر شرقن"، و "عثتر ذ قبضم"، و "عثتر ذ يهرق"، و "عثتر ذ يهر"، وهكذا. وتعني جملة "عثتر شرقن"، عثتر الشارق. وقد ذكر أهل الأخبار أن "الشارق" صنم كان في الجاهلية وبه سموّا عبد الشارق. مثل "عبد الشارق بن عبد العُزّى" الجهني شاعر من شعراء الحماسة. فلفظة "شرقن" إذن، نعت ل"عثتر"، معناه "الشارق".

ويرى بعض الباحثين ان "عثتر شرقن"، هو الاله الحارس للمعابد والمقابر اليه يصلي ويدعى ان تصل الهبات الى المعابد. واليه توسل المتوسلون لحفظ قبورهم من عبث العابثين بها الُمعَيرين لاحجارها الطامعين في كنوزها، ولهذا نعت ب "عثتر يغل"، أي "عثتر المنتقم".

واما جملة "عثتر ذ قبضم"، فقصد ب " قبضم" معنى القابض او "الجالس"، او اسم موضع يقال له "قبض". فيكون المعنى: عثتر رب موضع قبض. واما "يهرق" و "يهرق" "يهريق"، فهو اسم مدينة من مدن معين، كان بها معبد لعبادة "عثتر".

وورد ايضاً "عثتر غربن"، أي "عثتر الغارب"، كناية عن غروبه، او عن طلوعه عند الغروب، فهو اذن نجم الشروق ونجم الغروب، او النجم الشارق والنجم الغارب. كما ورد "عثتر نورو" "عثتر نورن"، أي " عثتر نور" و "عثتر المنير"، تعبيراً عن لمعانه وعن النور الظاهر عليه. وجاء "عثتر سحرن"، اًي "عثتر السحر"، بمعنى عثتر الذي يظهر عند السحر، وعبر عنه ب "متب نطين"، أي الحامل للرطوبة، تعبيراً عن الرطوبة التي تكون عند ظهوره، فنسبوها اليه.

وقد تكرر ذكر اسم "عثتر" في بعض النصوص، على سبيل التوكيد والتشديد في القسم وفي الدعاء، كما نفعل نحن أيضاً من اعادة اسم الله في الايمان المغلظة وفي التوسلات عند ساعات المحنة والشدة. ورد: "بعثتر شرقن، ويعثتر ذ قبضن، وود ونكرحم، وبعثتر ذ يهرق، وبكل ال ل ات معن". أي: "بعثتر الشارق وبعثتر ذو قبض وبودّ، ونكرح، وبعثتر ذو يهرق، وبكل - آلهة معين"، أو "وبحق عثتر الشارق، وبحق عثتر القابض أو رب موضع قبض، وبحق ودّ، ونكرح وعثتر رب يهرق، وبحق كل آلهة معين".

ولدينا جملة أسماء مركبة ورد فيها اسم "عثتر"، مثل "أوس عثتر" "أو سعثت" و "هوف عثت" "هو فعثت"،و "لحي عثت" "لحيعثت". و "عثب" هنا هو اختصار "عثتر".

ومن آلهة العرب الجنوبيين الإله "قينن" "قينان"، وهو إله قبيلة "سخيم"، النازلة ب "شبام"، "شبام سخيم".

ومن بين اسماء آلهة العرب الجنوبيين اسم الإله، ج "ال" "ايل"، ذكر اسمه مستقلاً كما ورد مقروناً باسم الإله "عثتر" كما في الكتابتين الموسومتين ب Halevy 144، وب150 Halevy، و قد قدم ذكره فيها على اسم الإله "عثتر". وقد ورد بكثرة في الأعلام المركبة.

ومن بين أسماء الآلهة التي ورد اسمها في النصوص العربية الجنوبية. اسم الإله "تلب ريم" "تالب ريام". وهو إله خاص بقبيلة "همدان". كما أن "المقه" هو إلهَ "سبأ" و "سين" "سن" اله حضرموت، و "عم" إله قتبان، و "ود" إلهَ معين. وقد ظهر بظهور نجم "بني بتع" واشتهر بهم. وكان ظهوره حوالى الميلاد بصورة خاصة. ففي ذلك العهد اشتد أمر أقيال همدان، فاستأثروا بالحكم، ودعوا أنفسهم ملوكاً، ورفعوا إله قبيلتهم فوق الآلهة الأخرى، فنحروا له الذبائح، وقدموا له النذور، وتنافسوا في بناء معبده. ودام عزيزاً مكرماً ما دام نفوذ ملوك همدان.

وقد كانت لهذا الإله مثل سائر الآلهة الأخرى جملة معابد، غير أن معبده الأكبر هو المعبد المعروف بمعبد "تلب ريم بعل ترعت" أي: "تاًلب ريام رب ترعت". ويظهر أن كلمة "ترعت" هي اسم موضع، أقيم المعبد عليه. وهو معبد كانت تقدم اليه أقيال "سمعى" وقبائل همدان الأخرى النذور والقرابين و الهد ايا، وتحبس له الأرضين.

ومن الآلهة التي ورد اسموا في الكتابات العربية الجنوبية، الإلَه "حول" "حويل"، والإله "جلسد" "الجلسد". وتدل لفظة "حول" على الحول والقوة. فلعلّ معنى اسم هذا الإله هو "الحويل"، أي صاحب الحول والقوة. بمعنى القوي. وهو من آلهة حضرموت.

وورد اسم الإلهَ "حلفن" في جملة أسماء الآلهة المذكورة في الكتابات العربية الجنوبية. وقد ورد في جملة نصوص تتعلق بحبس أموال وبعقد عقود. ويلاحظ ان أصحابها استعانوا بهذا الإلهَ لانزال النقمة والعذاب وأشد الجزاء بكل من يحاول أن يغير أو يبدل تلك العقود والنصوص، أو يتجرأ فيستولي على الأموال والحبوس المقررة، كما رجوا منه أن يشملهم هم وجماعتهم برحمته وبلطفه وكرمه لاخلاصهم له ولفنائهم في حبه.

ومن بين الآلهة إله عرف ب "ذ سموي"، أي "رب السماء"،وهو إله ظهر اسمه قبل الميلاد بقليل. وقد بقي اسمه متألقاً في سماء اليمن، يقدم اليه الناس النذور والقرابين إلى ما بعد الميلاد. ويرى بعض الباحثين، ان عبادته تدل على ظهور عقيدة التوحيد عند العرب الجنوبين، إذ تدعو إلى عبادة إله واحد، هو "رب السماء".

ولدينا كتابة مخرومة أسطراً، لكنها لا تزال مع ذلك مفهومة، تفيد ان جماعة من الأشرار المارقين تطاولوا على حرم "اوثن ذ سموي" أي "الوثن رب السماء"، فسرقوه، ونهبوا ما كان فيه، واستولوا على ما كان حبس له. ولكن عبدته عادوا، فجمعوا ما سرق، وأصلحوا ما أفسد، وتقربوا إلى الإله "رب السماء" بطلب التوبة والغفران، وختموا نصهم بهذ ه الجملة: "و ذ سموى ليزامتعن شعبهو"، أي "وليمتع رب السماء شعبه". ويقصد النص بشعبه أتباع هذا الإلَه وعبدته.

وإلى هذا الإله، الإلهَ: "ذ سمي" "ذ سموي"، إلَه السماء تعبدت قبيلة "امر" "أمر". ويعد "بعل سمن" "بعل سمين" " بعل السماوات" إلهاً للبركة والخصب، إذ يرسل المطر فينشر الخير للناس.

ونقرأ في النصوص العربية الجنوبية اسم إله جديد، هو الإله "رحمنن"، أي "الرحمن". وهو إله يرجع بعض المستشرقين أصله إلى دخول اليهودية إلى اليمن وانتشارها هناك. وهذا الإله هو الإله "رحمنه" Rahman-a "رحمنا" في نصوص تدمر.

وورد في نص: "رحمنن بعل سمين" "رحمنن بعل سمن"، أي "الرحمن رب السماء"، أي انه إله السماء. فصار في منزلة الإله "ذ سموى". ثم لقب ب "رحمنن بعل سمين وارضن"، أي "الرحمن رب السماء والأرض" في نصوص أخرى. فصار إله السماوات والأرضين.

وقد نشر نص بالمسند، وردت فيه جملة: "الرحمن الذي في السماء واسرائيل رب يهود". وهو نص، إن صح نقله عن الأصل بدقة وعناية، وإن صح انه نص صحيح غير مزيف، يشير إلى تأثر صاحبه باليهودية وبعبارة الرحمن. وقد استشهد به من قرأه على تهود صاحبه.

ويرد اسم الإله "بعل سمن" "بعل السماء" "بعل السماوات" في الكتابات الصفوية، وفي كتابات تدمر، حيث ورد "بعل شمن" "بعل شمين"، وفي كتابات بعلبك، وفي كتابات اللحيانيين. وقد ظهرت عبادته قبل الميلاد. ويظهر لذلك انه من الآلهة المعروفة عند الساميين وعند العرب الشماليين قبل الميلاد، ومن الجائز ان يكون قد انتقل إلى العرب الجنوبيين من العرب الشماليين.

ووردت في الكتابة الموسومة. ب SE48 أسماء. آلهة هي: "م ح ر ض و" "محرضو"، و "م ش ر ق ي ت ن" "مشرقيتين" و "نسور" و "ال فخر". وقد ذهب "رودوكناكس" إلى ان المراد من محرضو ومشرقيتين الشمس. وذهب آخرون إلى ان المراد بهما القمر والزهرة. وذهب فريق آخر إلى ان المراد بذلك غروب الشمس وشروقها. أما "نسور"، فاسم إلَه، لعل له صلة ب "نسر". وقد وردت في نصم، سبئي هذه الجملة: "بت نسور وبت ال" "بيت نسور وبيت ال"، ويقصد ب "بت" "بيت" معبد لعبادة هذين الإلهين: "نسور" و "ال". و "ال" هو "ايل" "ايلو" إلهَ الساميين القديم.

ورد في أحد النصوص السبئية هذا التعبير: "أهل نسور" مؤدياً معنى "قوم نسور" و "ملة نسور"، ويراد بهم جماعة هذا الإلهَ التي كانت نتعبد له. وعرف أحد أشهر السنة في النصوص السبئية المتأخرة ب "ذ نسور"، ولعله أريد بذلك نسبة الشهر المذكور إلى هذا الإلَهْ.

و "نسور" هو "نسر" على رأي بعض الباحثين. ويرمز إلى "القمر". وقد حصل المنقبون على أحجار حفرت عليها صورة النسر، فعلوا ذلك على سبيل التيمن والتبرك بهذا الإلَه.

وورد اسم إله دعي ب "نسر"، يظن أنه إله "ذ قلع"، "ذو قلاع"، اسم موضع أو قبيلة. ويرى الباحثون أنه الإلهَ "نسور" الذي نتحدث عنه.

و "نسر" هو اسم صنم من الأصنام التي عرفها أهل الأخبار. فقد زعموا أنه أحد أصنام نوح الخمسة، وأن "عمرو بن لحي" جاء به إلى حمير، فأشاع عبادته بينهم.

وأما اسم الإله "ال فخر"، فيظهر أنه مؤلف من كلمتين، هما: "ال" اسم الإله "ايل" المعروف عند الساميين، و "فخر"، وهي نعت من نعوت الآلهة. كَما في كلمة "ال تعلي" في النصوص القتبانية، وهي بمعنى "الله تعالى" في لهجتنا. و "فخر" ا لعربية، هى مثل "بخرو" في الآشورية، ومنها العلم المركب: "نبخر بلو".

وورد اسم الإله: "يعوق" أي الصنم يعوق المعروف، في نص متأخر، يعود عهده الى ما بعد الميلاد، وورد معه اسم: "رحمنن بعل سمن"، أي "الرحمن رب السماء ". وقد أرخ النص بشهر "ذ دون" "ذ داون" "ذي دوأن" لسنة "574" من التأريخ الحميري. المقابلة لسنة "9 5 4" للميلاد.

وهناك أسماء آلهة لانعرف من أمرها في الوقت الحاضر شيئاً كثيراً، من بينها الإله "بلو"، وقد عبر عنه بأنه إله البلاء والموت والمنون. وإله يقال له "حلفن" "حلفان"، ويقال إنه إله القسم والحف واليمين، والإله "ورفو"، وهو إله الحدود، أيَ الإله المختص بالمحافظة على الحدود، و "منضح" "منضحت"، وهو إله الماء والري، و "متبقبط"، وهو إله الحصاد عند المعينيين ثم الإله "يهرهم"، وهو إله المطر.

ولا بد من الاشارة الى إله ورد في كتابات عثر عليها في "شبام سخيم" وهو الإله "قينن" "قينان". وهو إله "بني سخيم".

لقد تجمع لدى علماء العربية الجنوبية من أسماء آلهة العرب الجنوبيين ما ينيف على مئة اسم إلهَ، غير أن اكثر هذه الأسماء ليست في الواقع أعلاماً، وإنما هي صفات ونعوت للالهة ذكرت بدلاً من ذكر اسم الإله الخاص. أو كناية تشير إلى أسماء المواضع التي كانت فيها معابد تلك الآلهة ؛ فقد كان لبعض المدن معابد خصصت بعبادة إلهَ، ربما كان إله المدينة أو جملة آلهة لها بالطبع صلة بالمدينة وبالشعب الذي تنتمي المدينة اليه. غير أن هذه الآلهة جميعها يمكن رجعها إلى ثلاثة، هي القمر والشمس والزهرة. أي الى ثالوث يرمز الى هذه الكواكب الثلاثة.

وهناك أسماء مثل "يثعم" في السبئية، و"ككون" في المعينية، و "ارن يدع"، و "سميهت"، و "ذ اينت"، و "نقين"، و "نو شم" و "هروم"، يظن أن لها صلة بالآلهة.

وكما حفظت نصوص المسند أسماء بعض آلهة العرب الجنوييين،حفظت النصوص الثمودية واللحيانية والصفوبة والنبطية كذلك أسماء بعض آلهة تلك الشعوب. وهي كما يظهر من دراستها وتحليلها خليط من آلهة ترد أسماؤها في روايات الأخباريين، ومن آلهة ترد أسماؤها في النصوص العربية الجنوبية، كما ان بينها أسماء آلهة لم ترد لا في أخبار الأخباريين ولا في نصوص المسند. ولاتصال مواطن هذه الشعوب بمواطن الساميبن الغربيين وبمواطن الساميبن الشرقيين ومتاخمتها لعرب العراق ونجد والقبائل العربية في الحجاز ولصلاتها التأريخية القديمة بالعرب الجنوبيين،كان لدراسة الناحية الدينية عند هذه الأقوام أهمية كبيرة في معرفة التطورات الدينية قبل الإسلام، وهذا الخليط الذي أشرت اليه هو في حد ذاته دراسة قيمة تشير إلى التقاء التيارات الدينية واتصالها بهذه البقاع.

وحفظت النصوص الثمودية أسماء جملة آلهة، تعبدوا لها وتقربوا اليها بالقرابين والنذور. منها الإله: "ود" و "جد هدد" و "شمس" و "عزيز" و "نعرجد" و "عمى شجا" و "رضو" و "منت" و "كهل" و "نهي" و "ايل" "ال" و "ات" "اللات "و "عتر سم" "عتر سمن" و "صلم" و "منف" "مناف".

و "جد" هو إله عرف عند بني إرم وعند العرب الشماليين وفي المقاطعات السورية، وهو إله "السعد" في اليونانية، يسعد الأشخاص والبيوت. وقد سمي به موضع "بعل جد" وموضع "مجدل جد"، وأسماء مواضع أخرى فيها كلمة "جد".

وقد وجدت جملة "الإله ازيزوس الفتى الطيب" مدونة على جدران أحد المعابد باللغة اللاتينية،ووجدت جملة أخرى فيها: "الإله الطيب الفتى فوسفورس"، وفي وصف الإلهين ب "الفتى" وب "الطيب" دلالة على ان المتعبدين لهما كانا يتصوران انهما كانا فتيين طيبين خيرين يمثلان ااطيب والمودة. ونجد في نص تدمري و صفاً للالهين: "ارصو" و "ازيزو"، أي "رصو" و "عز يز"، يشبه الوصف المتقدم، إذ ورد: "لارصو ولازيزو: الإلهان الخيران المجزيان"، و "ازيزو: الإله الطيب والرحيم". فوصف الإلهان بانهما خيران، ويجزيان الناس خيراً. وهي نعوت تمثل وجهة نظر القوم إلى هذين الإلهين.

وقد عثر في "تدمر" على نص ورد فيه: " لا رصو ولا زيزو. الإلهان الخيران المجزيان. قد عمله بعكي "بعلي ?" بن ير حيبولا. أفكل ازيزو الإلَه الطيب والرحيم. لسلامته ولسلامة إخوته. في شهر اكتوبر من سنة25. فليذكر الناس يرحى النحات ".. فنحن أمام إلهين: "ارصو" و "ازبزو"، من آلهة تدمر.

وورد اسم الإله "ازيزوس" والإله "مونيموس" في كتابات عثر عليها في "الرها" وفي حوران وتدمر. وقد ظهر الإلهان في نقش، حفر عليه موكب عربة الشمس. نقش "أزيزوس"، وهو يتقدم العربة، و "مونيموس"، وهو يتبعها.

و "ارصو" "أرصو"، هو الإلهَ "ر ضو" على ما يظن. وأما "ازيزوس" "أزيزو"، فهو اسم إلهَ لعلّه "عزيز"، تحرف فصار على النحو المذكور في الكتابات اللاتينية: والإرمية. وأما "مونيموس"، فهم "منعم". وأرى أن عزيزاً ورضياً ومنعماً هي من الأسماء الحسنى، أي نعوت من نعوت الآلهة لا أسماء علم. وذلك على نحو ما نسميّ اليوم ب: "عبد الرضا "، وب "عبد العزيز"، وب "عبد المنعم".

و "هدد" هو اسم إله تعبدت له شعوب عديدة من شعوب الساميين، منهم بنو إرم والعرب الجنوبيون والشماليون، كما تعبد له الاشوريون. وقد اقترن اسمه عند الآشوريين والبابليين ب "رمان"،ودخلت عبادته اليهم من بني إرم الغربيين. و يمثل "هدد" مثل "رمان" "رمون" Rimmon=Rammon=Ramman إلهَ الهواء والرعد والعواصف، ويظهر أنه من أصل عربي هو "هد". ومن اسم هذا الصنم الاسم "بنهدد" "بن هدد" " بنحدد" المذكور في التوراة.

ولا بد ان تكون لهذا الإله صلة بالإله "جد"، ومن هذا الاقتران ظهر "جد هدد" في كتابات قوم ثمود.

و "رضو" هو الصنم "رضى" عند الأخباريين، وهو صنم بقي حياً تتعبد له القبائل العربية حتى الإسلام، فكسر. ويرى "دتلف نيلسن"، انه يمثل الزهرة عند قوم ثمود والصفويين، وانه في منزلة "عثتر" عند العرب الجنوبيين. وقد تعبدت له "بنو ربيعة بن كعب"، كما تعبّد له أهل تدمر والنبط وأهل الصفاة، وعرف ب " ه- رضو" "هارضو"، أي بادخال "ه" "ها" أداة التعريف على الاسم. وقد انتشرت عبادته بين قبائل نجد والحجاز.

ويرى "رينه ديسو" ان "رضى" إلهة عند الصفويين، وانها كانت إلهة كذلك عند بقية العرب. أما "ارصو"، فإنه مذكر عند أهل تدمر.

أما "عزيز"، فإنه الإله "عزيزو"Azizo المعروف عند أهل "الرها"، الذي تحدثت عنه. وقد ذهب بعض الباحثين إلى انه يمثل كوكب الصباح، أي الزهرة. وقد وصف في كتابة مدونة باليونانية انه: Deus bonus puer phosphorus أي الإله الجميل اللماع ذو الأشعة البراقة التي تشبه في لمعانها لمعان الفوسفور.

و "كهل" أو "كاهل"، هو "كهان" المذكور في كتابة معينية. وقد ورد الاسم مقروناً في نص ثمودي بأداة التعريف "ه" "ها"، أي " ه ك ه ل" "ها - كهل" "هكهل". وتعني لفظة "كهل" المعنى المفهوم منها في عربيتنا، كما تعني "القدير".

وتعني كلمة "نهي" في الثمودية ما تعنيه لفظة "حكم" في العربية الجنوبية، أي "حكم" وحاكم و "حكيم" في بعض الآراء،.ولعلها تعني "الناهي" وتكون بذلك صفة للاله َ.وقد ورد اسم هذا الإله في مواضع عديدة من الكتابات الثمودية.

وأما "منف"، فإنه الصنم "مناف" المذكور عند أهل الأخبار. وقد تعبدت له قريش ولحيان، كما تحدثت عنه في موضعه.

وقد ورد اسم "صلم" في عدد من الكتابات الثمودية. ويظهر أن الثموديين كانوا قد أخذوا عبادة هذا الإلهَ من أهل "تيماء". فقد كانت تيماء من أهم الأماكن المتعلقة بعبادة هذا الصنم في حوالي السنة "600" قبل الميلاد. وقد جاءت عبادته اليهم من "ني إرم". ومنهم انتقلت عبادته إلى العرب. وتدل بعض الأسماء المركبة الواردة في الكتابات اللحيانية مثل اسم "صلم يهب" "صلميهب" على أنه كان معبوداً عند اللحيانيين كذلك. ومن لفظة "صلم" جاءت كلمة "صنم" على رأي بعض المستشرقين.

وقد ورد اسم "عترسم" "ه - عترسم" في عدد من الكتابات الثمودية.

وقد توسل فيها أصحابها منه أن يمن عليهم بالبركة والخير والصحة والسلامة.

وقد جاء اسم هذا الصنم من "عثتر سمن" "عتر سماء"،أي "عثتر السماء".

والإله "ود" هو إله معروف عند الثموديين كماِ سبق أن ذكرت. وقد تودد اليه عباده والمؤمنون به، فذكروه في كتاباتهم، ورمزوا اليه بصورة حية، كما رمز اليه العرب الجنوبيون بصورة رأس ثور. وقد تعبر صورة الحية عن الروح التي في بدن الإنسان.

وذهب "دتلف نلسن" إلى أن من بين آلهة ثمود إلهَ اسمه "ملك"، وهو يرى أن الإسم المركب "عبد ملكن"، أي "عبد الملك"، لا تعني كلمة "ملك" الواردة فيه بالمعنى السياسي الذي نفهمه منها، وإنما المراد: المراد بها اسم إله. وذهب أيضاً إلى أن لفظة " ملكن" الواردة في النص القتباني الموسوم ب Glaser 1600 لم يقصد بها ملكاً من ملوك قتبان، بل أربد بها إله اسمه ملكن، أي "الملك". وذكر أيضاً ان اسم " عبد الملك" من الأسماء المعروفة في الجاهلية " ورد في نصوص الثموديين وااصفويين.

وفي الكتابات الثمودية أسماء مركبة مثل "يعذر ال" "يعذر ايل"، و"صلم ال" " صلم ايل"، و "عزر ال" "عزر ايل"، و "سعد ال" "سعد ايل"، و "ود ال" "ود ايل"، اختتمت باسم الإله "ال" "ايل"، مما يدل على ان "ال" "ايل" كان من الآلهة التي تعبّد لها قوم ثمود.

ومن الأسماء الثمودية المركبة الأخرى "بعثتر" وفيه اسم الإله "عثتر" الذي عرفناه في المسند، و "يثع امر" "يثع أمر". وفيه اسم الإله "يثع"، وهو من الأسماء المستعملة بكثرة في العربية الجنوبية. و "صلم دع" و "صلمن دعم"، ف "صلمن" اسم الإله "صلم" من آلهة قوم ثمود المعروفة، و " تيم يغث" "تيم يغوث"، وهو اسم مركب من اسمي إلهين هما: "تيم" و "يغوث".

ووردت في الكتابات اللحيانية، اسماء جملة الهة. منها: "ذ غابت" "ذو غابة" و "عوض"، و "ود"، و "بعل سمن"، و "سلمان" "سلمن"، و "العزى"، و "منف" "منا ف"، و "جدت"، و "ال" "ايل"، و "إلهَ"، و "لت" "الت"، و "سمع"، و "نصر"، و "منت"، و "هفلس"، و "عجلبون" "عجلبن"، وأكثر هذه الالهة كما نرى معروفة، وردت أسماؤها في الكتابات وفي مؤلفات أهل الأخبار.

والإله "ذ غبت" "ذو غابة"، هو من أشهر آلهة اللحيانيين. ولعله إلههم الأول والأكبر. ومع ذلك، فإننا لا نعرف عنه شيئاً كثيراً، وقد كان له معبد في "الديدان". وخوطب بكلمة "قدست"، أي القدس أو المقدس في كتابة من كتاباتهم، وقيل انه في جملة ما قدم اليه من قرابين، قرابين من البشر.

وليست كلمة "ذ غبت" "ذو غابة"، اسم علم للاله، بل هي صفة له، تعني: "صاحب الغابة"، أو "صاحب غابة". وقد وردت لفظة "ذ غبت" في الأعلام المركبة، مثل: "عبد ذ غبت" "عبد ذوغابة"، و "فلح ذ غبت" "فالح ذو غابة"، و "خرح ذغبت" "خرح ذو غابة"، و "مر ذ غبت"، أي "مرأ ذو غابة"، و "زيد ذ غبت"، أيَ "زيد ذو غابة". وورد "عرر ذ غبت"، أي "عرر ذو غابة". والعرو والعر، الجرب، وهو مرض جلدي معروف. فكأن صاحب الكتابة أراد بها، ان الإله "ذو غابة" يرسل هذا المرض إلى مخالفيه ومن يعارض أحكامه أو يعتدي على غيره.

وأما "عوض"، فقد ورد اسمه " في الأعلام المركبة مثل: "عبد عوض"، و "جد عوض"، وقد تعبّد له الصفويون كذلك.

وأما ودّ، فهو إله عام له شهرة عند العرب، وقد عمت عبادته كل جزيرة العرب. والظاهر انه كان من الالهة العربية القديمة،وقد بقي معبوداً حتى الإسلام: وهو من الأصنام المذكورة في القرآن. وقد نعت ب "افكل"، وورد اسمه في الأعلام اللحيانية المركبة. وتعبدت له تميم، وطيء، والخزرج، وهذيل، ولخم، وقريش. وأقيم له صنم في دومة الجندل، صنع على هيأة انسان. ويرى البعض انه الإله "أدد" ءند ثمود. ويظن أن الصنم "قوس" يرمز اليه، ويرى بعض الباحثين أن "نسراً" والصنم "ذو غابت" يرمزان اليه كذلك.

وقد نعت "ود " في بعض النصوص العربية ب "نحسطب" "نحس طب"، ومعناه "الحية الطيب " "الحية الطيبة"، لأن الحية رمز للالَه "ود". ويظن أن اللحيانيين كانوا يتعبدون لهذا الإلهَ منذ كَانوا في مواطنهم الأولى، فلما هاجروا إلى "ديدان" لم ينسوه، ولكنهم بقوا يتعبدون له ويتقربون اليه، لأنه إله الآباء والأجداد وإلهَ لحيان الأكبر، كما تفعل بقية القبائل في اتخاذ إلهَ الآباء والأجداد الإلهَ الأول للقبيلة، والصنم الأكبر بين الأصنام.

وأما "بعل سمن" أي "رب السماء"،فقد تحدثت عنه، ووجدنا أنه كان معبوداً عند العرب الجنوبيين، والغالب أنهم أخذوا عبادته من العرب الشماليين. وقد كان له معبد في "ديدان". وقد نعت معبده ب "احرم" "احرام"، بمعنى "الحرم"، أي حرم الإلهَ "بعل سمين" "رب السماء". وتعبد له "النبط" وكانوا قد أقاموا له معبداً في "سيع"، وذلك فيما بين السنة 33 32 - 2 11 1 قبل الميلاد.

والظاهر أن اللحيانيين قد أخذوا هذا الإله من النبط. وقد تشرف أحدهم بتسمية نفسه ب "عبد سمن" أي "عبد السماء". وقصد ب "سمن" الإله "بعل سمن"، أي "رب السماء". وقد اختصر الاسم، فصار "سمن" "سمين"، والعزى من الأصنام المعروفة عند أهل الأخبار. وقد بقيت عبادته معروفة إلى الإسلام. وقد أشير اليه في القرآن. وقد ذكر اسمه في كتابات عثر عليها في "العلا". وتعبد له النبط كذلك، وصنعت له معبداً في "بصرى" دعي "بيت ايل". وعبر عنه ب "كوكبتا"، أي "الكواكب"، وهو أنثى، أي إلهة.

وقد ورد اسم "العزى" على هذه الصورة: "هنعزى" في كتابة لحيانية، دوّنها رجل اسمه "أوس بن حجر". ويظن بعض الباحثين، أن العزى تمثل كوكب الصباح. ويظهر أن اللحيانيين قد أخذوا عبادتها من نبط بلاد الشام. وأنها لم تكن من آلهة اللحْيانيين في الأصل، بدليل عدم ورود اسمها كورود "ذو غابة" أو الالهة اللحيانية الأخرى فيَ النصوص اللحيانية.

وورد اسم العزُى في الأعلام المركبة، مثل: "بل عزيني" "بال عزيني" و "ب ايل عزينى "، أي ب "العزينى"، وذلك في الكتابات الثمودية. و "تيم العزى" و "عبد العزى" و "امت العزى"، وفي كتابات أخرى تعود إلى ما بين القرن الخامس قبل الميلاد، والقرن الرابع بعد الميلاد.

ويظهر من بعض الأعلام اللحيانية المركبة، مثل "اوس يه" "اوس يهو"، و "عزريه" "عزر يهو"، أن القسم الثاني من الاسم، وهو "يه" "يهو"، قريب من "يهوه"، وهو الإله الكبير المعروف عند العبرانيين. ف "يه" "يهو" هو اسم إِلهَ من آلهة اللحيانيين.

وأما الإله "جدت"، فالغالب أنه إلهة، أي إلهاً أنثى بدليل وجود تاء التأنيث في آخر الاسم. والأصل هو "جد"، وهو اسم إله تكلمت عنه.

وأما "هفلس" "ها - فلس "، فإنه "الفلس"، عند أهل الأخبار. وقد ذكروا أنه كان على هيأة حجر أسود تعبدت له "سليم"، أو على صورة إنسان قدّ من حجر عند "طيء".

و "قيس" و "قيسو" من أسماء الآلهة المذكورة في الكتابات اللحيانية. وقد كان له معبد عرف ب "بت قس" "بيت قيس" في مدائن صالح. ويدل وجود اسمه في الأعلام العربية المركبة، مثل "عبد قيس" و "عبد القيس"، انه كان من الأصنام المعروفة المعبودة عند بقية العرب في مختلف أنحاء جزيرة العرب.

وورد في كتابة لحياني اسْم إله هو: "محر" "ه- محر" "همحر" وبعده اسم إله آخر، هو ""هنا كتب". ويظهر انه من الآلهة التي كانت تعبد في العربية الجنوبية وعند المعينيين الشمالبن، وتعني لفظة "محر" شريعة، أو قانون أو أمر، أو سنة. وهو من الآلهة التي آختفى اسمها في الكتابات اللحيانية المتأخرة.

وأما "هنا كتب" "هانىء كاتب" "هني" "هاني"، و "هنى كتب" "هاني كتب" المذكور مع "ه - محر" "همحر" "هامحر"، فيرى "كاسكل" W.Caskel انه الإله "توت"،Thot. و " توت" هو إله مصري، ويرمز اليه بصورة قرد. ويمثله الإلَه "نبو" عند البابليين. ويمثل "توت" "هرمس" و "المريخ" Merkur. فهو الإله الكاتب. ولعل اللحيانيين أخذوا إلههم هذا من المصريين. ولكننا لا نستطيع أن نجزم ان اللحيانيين قد تصوروا إلههم هذا على صورة " قرد" محاكاة للمصريين لأنهم أخذوه منهم، إذ لا دليل لدينا نستدل به على انهم تصوروا ذلك الإله بصورة قرد.

ووردت في بعض الكتابات اللحيانية أعلام مركبة، جاء فيها اسم هذا اإله،مثل " جرم هنا كتب"، و "زيد هنا كتب". ومعنى "جرم" و "زيد" خادم أوعبد، فيكون الاسم "عبد هنا كتب"، "عبد هنا كاتب".

وأما "سلمن" "سلمان"، فإنه من الآلهة التي ظهرت عبادتها عند اللحيانيين المتأخرين. ويرى بعض الباحثين انه والإله "اب الف" "أبو ايلاف" من الآلهة التي كان واجبها حماية القبور. وقد رمزعن "ابي ايلاف" بصورة أسد يوضع عند جانب القبر ليحميه.

وقد ورد اسم الإله "ابا لف" "ابو ايلاف" اسم علم لشخص كان كبيرا على قومه، وذلك في ايام الملك "عبدان بن ها نواس".

وقد ورد اسم إله هو "شمس"، وقد عبد عند أهل تدمر أيضاً، كما تعبدت له تميم. ونجد بين أسماء رجال قريش وقبائل أخرى أسماء تدل على تعبد الناس للشمس، ومن هذه الأسماء: "عبد شمس".

وأما الإله "عجلبن" "عجلبون" "عجل بن"، فإنه من الآلهة اللحيانية المتأخرة. ويظهر ان اسمه الأصلي هو "عجل بل" "عجل بول" "عجلى بل" أي "عجل" و "بول". ونجد اسمه مع "يرحى بول" "يرح بل" "يرحبل"، و "بل" في الكتابات التدمرية. وبظهر ان تاجراً جاء به إلى اللحيانيين، وأدخل عبادته عندهم. ويظهر انه جاء به من العراق.

ولدينا أسماء ونعوت آلهة تعبد لها أللحيانيون من غير شك، وإن لم نعثر عليها في كتاباتهم، توصلنا إلى معرفتها والوقوف عليها من دراستنا للاسماء اللحيانية المركبة، مثل "كبر ال" "كبر ايل"، و "متع ال" "متع ايل"، و "ذرح ال" "ذرح أيل" "ذر حال"، و "عذر ال" "عذر ايل،"، وأمثال ذلك، فإن اللفظة الثانية وهي "ال":ايل"، هي الإله "ايل" "ايلو"، وهو من الآلهة السامية القديمة.

ومن الأسماء التي وصلت إلينا، اسم رجل عرف ب "عبد قني" "عبد قاني"، مما يدل على ان لفظة "قني"، هي اسم إله أو نعت من نعوت الآلهة.

وورد في الكتابات اللحيانية المتأخرة اسم رجل عرف ب "عبد غث بن زد له سمم"، أي "عبد غوث بن زيد لاه بن سمم" "سموم"، كما ورد "زد غث"، أي "زيد غوث"، وذلك يدل على ان لفظة "غوث" اسم إله. وعندي ان " غوثاً" نعت من نعوت الآلهة، أي اسم من أسماء الله الحسنى لا اسم علم لإلهَ خاص.

و "خرج" من الآلهة التي تعبدها اللحيانيون، بدليل ورود اسمه في أسماء الأعلام المركبة مثل: "زيد خرج" و "عبد خرج".

ويعد "رعن" من آلهة اللحيانيين كذلك، إذ ورد في الأعلام المركبة، مثل: "ر عنا مر"، أي "رعن أمر"، وهو اسم رجل من "ديدان". ف "رعن" من آلهة اللحيانيين أيضاً، ومثل: "رعنا مد" "رعن امد"، ومعنى "امد" أغضب، و "رعنلثع"، "رعن لثع"، أي "رعز احاط" و "رعن ادرك ". ف "رعن" اذن اسم إله من آلهة اللحيانيين والديدانيين.

والإله "يثع" و "يثعن"، من الآلهة التي تعبد لها اللحيانيون، فقد ورد في النص الذي وسمه الباحثون برقم "73" وب J S 73 و M26، اسم امرأة عرفت ب "امتيثعن بنت دد"، أي "أمة يثعن بنت داد"، "أمة اليثع بنت داد"، وورد في الكتابات اسم رجل عرف ب "يثع حيو"، واسم رجل آخر هو "يثعحن"، مما يدل على ان "يثع" كان إلهاً معبوداً ومعروفاً عند "بني لحيان". وقد ورد في كتابة من كتابات "ديدان" اسم رجل عرف ب "يثع امر" "يثع أمر"، فقد ورد في النص الموسوم ب "2" من الكتابات القبورية: "كهف: يثعامر"، أي "قبر: يثعامر" "قبر يثع أمر". واسم "يثع أمر" هو من الأسماء الشعائعة المعروفة عند العرب الجنوبيين، وقد تسمى به ملوك من ملوك "سبأ". فالظاهر انه من الأسماء التي أخذها الديدانيون واللحيانيون عن العرب الجنوبيين، ومن الجاليات العربية الجنوبيهَ التي كانت قد استقرت في أيام عز الحكومات العربية الجنوبية في هذه الأماكن، ف "يثع" اذن، هو إلَه من آلهة العرب الجنوبيين في الأصل، انتقلت عبادته منهم إلى أهل ديدان واللحيانيين.

ومن الالهة التي نجد لها أثراً في عبادة اللحيانيين من دراستنا لأسمائهم، الاله: "حمد" "حميد". فقد ورد في اسم امرأة عرفت ب "امتحمد بنت عصم". وأرى ان "حمد" أو "حميد" ليس اسم إلهَ، أي اسم علم، وانما هو نعت من نعوت الالهة، أي اسم من الأسماء الحسنى، التي يسم الإنسان بها آلهته، على سبيل التأدب والاحترام.

ونرى أثر عبادة الإلهَ "مناة" عند اللحيانيين من دراستنا للأعلام المركبة أيضاً، مثل: "عبد مناة" "عبد منت"، و "اسمنت" "اوس منت"، أي "أوس مناة"، و "عبمنت" اختصار "عبد مناة" و "عبدة مناة "، و "عذ منت"، أي "عوذ مناة"، و "عابذ مناة"، و "هون منت" "هون مناة"، و "نعم منت" "نعمت" أي "نعم مناة"، و "نسمنت" "نسأ مناة" " و "قن منت" "قنمنت"، أي "قين مناة "، و "سنفمنت" "سنف مناة"، و "تهنمنت" "تهنأ مناة"، إلى غير ذلك من أعلام مركبة، ورد فيها اسم ذلك الإلهَ الذي هو إلهة، أي أنثى عند العرب. وقد ذكرت.

في القرآن الكريم. ولا أستبعد ان يكون أنثى عند اللحيان ين أيضاً. ولعل لأصل الكلمة التي أخذ اسم هذه الإلهة منه، وهو "منوتو" Manotu في النبطية، وتعني "منية" في عربيتنا صلة، بجعل الإلهَ إلهة، أي تحويلها إلى إلهة أنثى.

والصنم "اللات" من الأصنام النبطية، المعبمودة عند النبط، والمعبودة عند ثمود كذلك، وااظاهر ان عبادته انتقلت إلى عرب الحجاز ونجد من العرب الشماليين، الذين تأثروا بعبادة النبط.

ووردت لفظة "هتهم" في كتابة لحيانية، وردت بمعنى "إلاهتهم"، أي تعبيراً عن إلهة أنثى. ويظن "كاسكل"، انها تصغير "لات" "لث". و "اللات"، من إلآلهة المعروفة المعبودة عند النبط، وكذلك عند العرب الشماليين، وعند عرب الحجاز. وقد ذكرت في القرآن الكريم، وهي إلهة، أي أنثى. وترد اللفظة عندهم في إلاعلام المركبة مثل: "تيم اللات" "تيم لات".

وقد وردت "لفظة "هله" "ه - لاه" في كتابة لحيانية، وردت بصيغة التوسل والنداء والخطاب، أي بمعنى: "اللهم" و "يا الله". ووردت لفظة "لله"، أي "إلى الإله " أو "للّه"، في كَتابة أخرى. وهي لا تعني في كلَتا الحالتين إلهاً خاصاً معيناً، وانماَ تؤدي المعنى الذي تؤديه لفظة "إله" و "الإله" في عربيتنا، وgod في الانكليزية، وربما قصد بها إلهَ لحيان الأكبر "ذو غابة"، كما يقصد المسلمون باطلاقها لفظة "الله"، وذلك للتعبير عن اسم الله بأسلوب مؤدب مهذب.

ومثل: "هنا له" "هنا لاه" "هنى لاه"، و "نساله" "نسألاه" "نسى لاه"، و "ودع لاه" "ودع له"، و "مراله" "مرأ لاه"، و "تيم له" "تيم لاه"، و "وهب له" "وهب لاه"، و "زيد له" "زيد لاه"، و "جرم له " "جرم لاه"، و "سعد له" "سعد لاه"، فإن الجزء الأخير من الاسم وهو "له" "لاه"، هو "إلَه". وإله من الألفاظ الدالة على اللّه، وترد في أكثر اللغات السامية.

ويلاحظ ان أكثر استعمال "ال" "ايل" في العبرانية هو في الشعر وفي أسماء الأعلام المركبة، ولم يستعمل في النثر إلا قليلاً. أما في اللهجات العربية وفي اللغات السامية الأخرى، فقد استعملت اللفظة في الأعلام المركبة في الغالب، وفي معنى "إلَه" مثل "ال تعلى، أي "الإلهَ تعالى"، وما شاكل ذلك، بمعنى اسم من أسماء الله الحسنى وإله.

وعلى الرغم من ورود "ال" "ايل" ُ Elبصورة يستنبط منها انها قصدت إلهاً معيناً خاصاً، أي اسم علم، لا نستطيع ان نقول إن "ال" اسم علم لإلَه معين مخصوص،، مثل الآلهة الأخرى التي ترد أسماؤها في الكتابات، ذلك لأن الذين ذكروا "ال" "ايل" في الأعلام المركبة، أو في مواضع أخرى من كتاباتهم لم يقصد كما يتبين من الاستعمال إلهاً معيناً اسمه "ال" "ابل"، وانما أرادوا ما نعبر عنه بقولنا "إلهَ" والجمع آلهة. فلفظة "إِلهَ" عندنا ليست اسم علم، وانما تعبر عن اسم الجلالة دون ذكر اسمه. وهي كذلك عندهم وعند بقية الساميين بمعنى " رب"، وإله و "بعل" عند الأقدمين.

ولا يعرف العلماء معنى لفظة "ال" "ايل" على وجه علمي دقيق.ولكنهم يفسرونها عادة بمعنى "القدير" و "الحاكم". ومعنى ذلك ان "ال" نعت من نعوت الالهة، أو اسم من أسماء الله الحسنى بحسب التعبير الإسلامي. ويرى بعض، العلماء احتمال عدم وجود صلة له ب "الوهيم، Elohim الكلمة العبرانية التي تطلق على الإله.

وأما آلهة الصفويين، فهي "اللت" "لت" "هلت"، و "دين" "ديان"، و "هله" "" ه ل ه"، و "جد عوذ"، و "بعل سمن"، و "شيع ه - قوم" "شيع القوم"، و "اثع"، و "صالح"، و "ذ الشرا" "ذو الشرى"، و "رضا" "رضى"، و "جد ضيف"، و "ر حم" "ورحيم".

و "الت"، أبَ "اللات" إلهة أي أنثى، ويراد بها الشمس..وقد مثلت في بعض النصوص الصفوية بقطعة من الشمس رسمت بصورة بدائية، ورسمت في بعض النصوص السامية الشمالية بشكل امرأة عارية، رمز اليها بصورة فرس في النصوص العربية الجنوبية، والفرس من الحيوانات المقدسة التي ترمز إلى الشمس عند قدماء الساميين وعند غيرهم من الشعوب، ولذلك كان الناذرون لها يقدمون لها تماثيل مصنوعة على هيأة فرس.

ولفظة "ديان" "ديّان"، ليست اسم صنم على ما يظهر، وانما هي صفة من صفات الالهة. وهي معروفة في عربيتنا وعند المسلمين، تطلق على الله. وقد استعمل الصفويون "جد عوض" اسما لإلَه، كما استعملوا اسماء آخر قريباً منه هو "جد ضيف".

وقد ورد اسم الإلهَه: "جد عوض" "هجد عوض" في نص محفوظ في متحف دمشق، وسم با Dames 1312"وورد بعده اسم الالهين شع هقوم وشيع هقوم وهلت واللات.

وتقابل لفظة " جد" معنى الحظ في اللغة اليونانية، وقد صار في الأقاليم السورية المتحضرة الإلهَه الحارس للمدينة. و "جد عوذ" هو إلَه معروف مشهور عند الصفوبين، وورد أسهه في كتاباتهم. وقد ذهب "رينه ديسو" إلى ان لفظة "عوذ" "عويذ" هي اسم عشيرة أو قبيلة كانت تعبد للاله "جد"، وكانت سدنته منهم، فنسب اليهم وعرف ب "جد عوذ" "جد عويذ" على طريقة اله رب في ذلك العهد من نسب الأرباب إلى القبائل أو العشائر أو السدنة التي يعبدونها أو إلى الأشخاص الكبار.

وقد ورد اسم الإلهَ "جد ضيف" "جد ضف" في عدد من الكتابات الصفوية التي عثرعليها في المملكة الأردنية الهاشمية. كما ورد فيها اسم إلهَ آخر هو الإلهَه: "هجد عوذ" "ها - جد عوذ".

أما الإله "شيع القوم"، فقد ورد اسمه في النصوص النبطية في "بطرا" وفي "تدمر" وهو إلَه القوافل في نظر بعض المستشرقين.

وه اله يحمي قومه. وِقد احتمى به أهل القوافل خاصة من الأعراب وقطّاع الطرق. ولذلك كان التجار وأصحاب القوافل يذكرون اسمه وربما يحملون وثنه معهم لحمايته لهم في أثناء السفر حتى بلوغهم ديارهم سالمين.

وقد نعت في كتابة نبطية دونها أحد نبط "تدمر". بأنه "الذيَ لا يشرب خمراً". وهذا يعني ان هذا الإله كان يكره الخمور، ويكره شاربيها ": لعل في ذلك فكرة تحريم الخمر عند جماعته. وقد كان في الجاهليين ممن حرموا الخمر على أنفسهم. كما نعت ب "الالَه الطيب المجازي"، وهو نَعت نعت به وبمثله آلهة أخرى. وقد ذهب بعض، الباحثين الى احتمال وجود جماعة من النبط ومن غير النبط كانت تحرم شرب الخمر، بدليل ما جاء في النص النبي من نعته بأنه "الإلَه الطيب المجازي الذي لا يشرب الخمر ". و "يثع" هو في جملة الالهة التي تعبد لها الصفويون، كما تعبد له غيرهم أيضاَ. قد قلت سابقاً باحتمال انتقال عبادته ان هذه الأرضين مات العرب الجنوبيين الذين كانوا قد نزحوا اليها واستولوا عليها وذلك قبل الميلاد. وتعني لفظة "يثع" الحامي والناصر والمساعد، وقد حرف اليونانية الى "ايثاؤس" و "يشع". وقد ورد "يثع" في نص توسل فيه صاحبه الى هذا الإله ان يعينه على المكاره، وتوسل آخر اليه ان يثأر ممن يتبعه، وطلب اليه آخر ان يشفيه من المرض.

و "رحم" "رحيم" مثل "رحمن"، أيَ "الرحمن" " لعلهما اسمان من أسماء الله الحسنى في الأصل، ثم صارا اسمين علمين. وينطبق هذا القول على لفظة "صالح" الواردة في نصوص الصفويين.

وقد قرأ بعض الباحثين لفظة "رحم": "رحام" 0 أما "نولدكه" فقد قرأها بتشديد حرف الحاء. ولعدم وجود علامات لحركات الحروف يجوز ان تقرأ الكلمة "رحيم"، كما ذكرت آنفاً. وقد ورد اسم هذا الإلَه فيِ نص تدمري أيضاً، لأنه كان معبوداً عندهم أيضاً.

وقد ذكرت "الشمس" في نص، أو نصين أو أكثر من ذلك بقليل من النصوص الصفوية. وعبادة الشمس هي عبادة قليلة الانتشار بين الأعراب، على عكس الحضر الذين كانوا يتعبدون لها. و لهذا كان اثر الذين عبدوها من الحضر، أو من الأعراب الذين تطوروا بأن ركنوا الى حياة الحضر. أو توسطوا بين الحياتين.

وفي جملة النصوص الصفوية التي ورد فيها،اسما "الشمس" نص سجله رجل اسمه "خالص بن شهم بن عمرة بن عم". وقد توسل الى "شمس وجد عوذ و اللات " ان تنزل العمى بمن يتطاول على الكتابة فيمحوها ويطمس معالمها.

و "شمس" من هذه الالهة ا إني ذكرت في الأعلام المركبة، إذ ورد "عمشمس" "عم شهس". وهي إلهة معروفة. تعبد لها العرب الجنوبيون وغيرهم من العرب، كما انها من الالهة المعبودة عند بقية الساميين. ويرى "كاسكل" ان الشمس كانت تعد إلها ذكراً عند أكثر العرب الشماليين في هذا العهد، أي في القرن الأول قبل الميلاد.. والقرن الأول للميلاد.

ونجد اسم الإلهَ "بعل سمن" في الكتابات الصفوية كذلك والصفوِيون هم كما ذكرت قبائل عديدة طافت في هذه الأرضين التي عثر على الكتابات الصفوية بها، وهم من مواضع متعددة، ولم يكونوا من موطن ثابت، لذلك كانوا يعبدون الهة مختلفة: آلهة قبائلهم وآلهة قبائل سبقتهم، وآلهة قبائل اختلطوا بها فأخذوا عنها معبوداتهم، مثل هذا الإله "بعل سمين"، أي بعل السماء، أو ربّ السماء.

وتعد اللات من أهم الالهة عند الصفويين بدليل كثرة ورود اسمها في كتاباتهم. فقدورد اسمها في أكثر من ستين مرة في الكتابات.

و "ه ل ه"، "هله" هي بمعنى: "اللهم". فلفظة "له" هي بمعنى "إلهَ" و "لاه". وقد ذهب بعض المستشرقين إلى انها تعني "الله". و-اذا صح هذا الرأي، دلّ على ان لفظة الجلالة "الله" كانت معروفة عند العرب الجاهلين قبل الإسلام بقرون. وقد وردت في عدد من النصوص الصفوية مسبوقة بحرف "الهاء" في الغالب، وهو حرف النداء، كالذي ورد في نص صفوي سجله شخص اسمه "سني بن سني بن محنن"، ذكر فيه انه عثر على أثر عمه، ثم توسل إلى "له" إذ خالجه بقوله: فهله سلم لذ ساد وغيرت، أي: فيا الله امنح السلامة لمن سار بمعنى سافر وساعده.

و "رضى" "رضا" هو من الآلهة النبي تعبد لها الصفويون كذلك، وقد تحدثت عنه في مواضع عدة، اذ كان معبوداً عند غيرهم أيضاً. وهو "ارصو" "ارضو" في الغالب، الذي يرد في نصوص تدمر. وقد ورد اسم "رضى " في عدد من الكتابات الصفوية، يتوسل فيها أصحابه اليه أن يمنً عليهم بالسلامة والنعم، وأن يبعد عنهم شر الأعداء وكيدهم، وأن ينزل النقمة وغضبه على أعدائهم،إلى أمثال ذلك من توسلات وأدعية.

وورود "عبد حت"، أي "عبد حوت"، فيَ الكتابات المتأخرة،، يدل على ان "حوتاً" من أسماء الالهة التي تعبد لها اللحيانيون.

و "حمل" اسم إلهَ أيضا، لورود اسمه في الأعلام المركبة مثل: "عبدحمل"، وهو من الأسماء التي وردت في الكتابات اللحيانية المتقدمة.

وكثيراً ما نجد أناساً يتوسلون إلى هذه الالهة بأن تمنحهم السلام والرحمة، وان تنكل بأعدائهم، بل نجد شواخص القبور، ترجوها ان تصيب بالعمى من يطمس كتابة الشاخص، الذي يحمل اسم صاحب القبر المدفون فيه وان تنزل به الأمراض والآفات. ومعنى هذا ان المؤمنين بها كانوا يعتقدون انه! تثيب وتعاقب، تمنح السلام والخيروتنفع وتضر وتنزل الأذى بمن تريد وتشاء، ولهذا توسل الناس اليها وخاطبوها، إما لرجاء وإما لايذاء.

أما آلهة النبط، نبط "بطرا"، فهي: "ذو الشرى" Dushara، و "اللات"، وهو إلهة، "ام الآلهة"، و "منوتو"، أي "مناة"، ُ "قشح"، و "هبلو"، أي "هبل"، و "شيع القوم" خامي القوم، وإلَه القوافل.

وأما "ذو شرا" ]Duosares=Dausarys " "دوسرا"، فإنه "ذو الشرى" الذي يرد اسمه عند أهل الأخبار. وهو من آلهة "بطرا"، وقد زعم انه في منزلة "ديونيسوس" Dionysos. وعرف ب Dios Arabikos=Dieu Arabiques " في بعض الكتابات اليونانية التي عثر عليها في الأردن، والتي يعود عهدها إلى سنة "116-117" أو "126 - 127 للميلاد: مما يدل على انه كان من الآلهة المعروفة بين العرب، وانه إلههم الخاص بهم.

وذكر ان Dusares هو في منزلة Dionysus، و قد عرف عند اليونان بأنه إلهَ العرب، كما ذكرت. وانه الاله Pakades؛ عند النبط، وله معبد في "جرش" Gerash.

وورد اسم "دشر" "دوشرا".Dushares في عدد من النصوص الصفوية. ورد في هذه الجملة مثلاً: "فهلت وهدشرثار لمن حولت"، أي "فيا اللات ويا ذو الشرى، اثأروا ممن يحوّل". ويقصد ب "يحوّل"، يحول شاهد القبر الذي كتبت عليه هذه الكتابة. كما ورد في عدد من الكتابات،يرجو فيها أصحابها من هذا الإله ان ينعم عليهم بالسلامة وان يتقبل منهم أعمالهم.

وقد ورد مع اسم "ذي الشرى" في بعض الكتابات النبطية، اسم الإله "هبل" واسم "مناة". و "هبل" هو صنم قريش الرئيس. وهو إلَه الكعبة ويرمز إلى التمر. وقد وضع في الكعبة على هيأة انسان، وأمامه حفرة عبر عنها بلفظة "بغبغ"، وكانت يده اليمنى مكسورة، فعوضته قريش بيد من ذهب، والظاهر ان الحية ترمز اليه، أو إلى ود، وان الحية التي قيل انها كانت في بئر زمزم، هي رمز هبل.

وورد اسم "اللات" مدوناً في نصوص، نبطية عديدة، فقد عثر ب "صلخد" على كتابات من سنة "45" قبل الميلاد، وسنة "55" بعد الميلاد. وسنة "95" للميلاد، وعلى نصوص أخرى، وقد ذكر فيها اسم هذه الإلهة، وأشير فيها إلى تشييد معبد خصص بعبادتها والى سدنة كانوا يقوم ون بخدمتها. ووجدت كتابات في مواضع نبطية أخرى، ورد فيها اسم "اللات" وبدت كل ذلك على ان اللات كانت من المعبودات المقدره عند نبط هذه الديار.

أما الكتابات النبطية المدونة في مواضع اخرى من بلاد الشام وفي أعالي الحجاز، فقد ورد فيها اسم "اللات". ورد فيها على انه من الآلهة الكبيرة، التي يخدمها سدنة، ولها معابد خصصت بعبداتها.فقد جاء في نص مؤرخ بسنة "47" للميلاد ان شخصاً اسمه "".ملكو بن قصيو و" "مالك بن قصي"، أو "مليك بن قصي"، كان كاهنا "للات" في موضع "حبرن" "حبران"، وهو من جبل حوران.

وأما آلهة "تدمر"، فهي "بل"، أي "بعل" و "عزيزو"، و "ارصو" "ارضو"، و "شيع القوم"، و "شمش" "شمس" و "اللات"، و "ايل". و "بعل شمين"، و "سعدو". ويلاحظ ان الكتابات التدمرية تستعمل في الغالب الكنايات والنعوت الإلهية بدلاً من أسماء الآلهة، فاستعملت "تبارك اسمه"، و "رب العالم"، و "الله المحسن"، و " رب العالمين"، وأمثال ذلك كناية عن آلهة تدمر. وهي تشير إلى وجود فكرهّ التوحيد عند التدمريين. والى اغراب أهل تدمر عن التصريح بأسماء الآلهة، والاكتفاء بذكر نعوتها وأسمائها الحسنى، على طريقة العبرانيين في تجنب ذكر اسم الإله، والتكنية عنه بنعوته. وقد يكون لآراء الفلاسفة اليونان أثر في معتقدات أهل تدمر في آلهتهم.

ويرى "ليدزبارسكي"، Lidzbarski ان "بل".، هو إله تدمر الأكبر. وهو "بعل". ولمركزه الخطير عند أهل تدمر، دعاه اليونان "زيوس" Zeus أما "ملك بل"، فإنه الشمس، وأما "عجلى بل"، فهو القمر. ويقدم عادة على "ملك بل" في الكتابات. وتقدم القمر على الشمس عادة قديمة عند أهل تدمر لا بد أن يكون لها سبب بالطبع.

أما الإلهَ "عزيزو"، فهو العزى. ويؤيد ذلك ما ذكره أحد الكتبة اليونان من انه كان كوكب الصباح عند العرب، وانه الإلهَ الرؤوف الرحيم الذي عبدته العرب قبل الإسلام. ويلاحظ ان هذا النعت وارد في نص تدمري، مما يثبت كون "عزيزو" هو "العزى" الإلهَ ألشهير.

وأما "ارصو" "ارضو"، فيظن "ليسزبارسكي" انه Oratal الذي ذكر المؤرخ "هيرودوتس"، انه أحد آلهة العرب الكبرى مع الإلهَ "اللات". ويظن ان "ارصو"، هو "رضا" "رضى" الإلهَ الذي أشار اليه الأخباريون.

وأما "اللات"، فقليل الورود في النصوص التدمرية مع شيوع الأسماء المركبة المؤلفة منها ومن كلمات أخرى عندهم.

وأما "منوتو "، فإنه "مناة" المذكور في القرآن. وكان له معبد في "قديد"، بين مكة و المدينهَ، وقد صنع من حجر، وتعبدت له الأوس والخزرج، وهذيل، وخزاعة، وتعبد له النبط كذلك، وأقاموا له معبداً أشير اليه في كتابات "مدائن صالح"، كما تعبدت له ثمود ولحيان ونبط تدمر. وهو أنثى في نظر أهل الأخبار، والظاهر ان بينه وبين المنية صلة، كما بينت ذلك قبلا.

وقد عبد الإلهَ "بعل شمن" "بعل شمين" في تدمر. وقد رأينا انه عبد عند اللحيانين والصفوين، وعند غيرهم ايضاً. وقد وجد اسمه في كتابة تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، تبين منها انه كان معبودا في "بعلبك". وهو كما قلت الإلهَ "بعل سمن".

وأما "سعدو"، فقد رأى بعض المستشرقين انه الإلهَ "القمر"، وانه الصنم "سعد"، وهو من الأصنام النبي ذكرها أهل الأخبار. وقد تعبد له بعض كنانة، ويقال هذيل، كما تحدثت عنه.

وورد في بعض كتابات "حوران" اسم إلهَ دعي ب "قصي". واليه تنسب بعض الأعلام المركبة التي ورد فيها اسمه، مثل "عبد قصي". ويظن انه. الإلَه المسمى ب "زيوس كاسيوس" Zeus Kasios و ب Jupiter Casiu=Jupiter Casius في الكتابات اليونانية. وفي جملة هذه الأسماء المركبة المعروفة التي وردت إلينا، اسم "وهب لث"، اي "وهب اللاِت"، وهو اسم ابن الملك "اذينة" من زوجه "زنوبيا"، أي "الزباء".

وقد ذهب "رينه ديسو"، إلى ان للعنصر العربي كان مهماً في تدمر، وله أثر في حياة المدينة، وانه هو الذي أدخل عبادة اللات إلى تدمر. وقد عبر عنها ب "اثينا"، ولهذا ترجموا اسم ابن الزباَء، أي "وهب اللات"، ب "اثينودور" Athenodore.

وجاء في كتابات نبط "مدائن صالح" اسم إلهَ عرف ب "شيع هقوم" "شع هقم" ". هشع هقم" "شيع هاقوم" "شيع القوم"، وهو إلَه القوافل والمحاربين. يدافع عن القوافل وعن رجالها ويصد عنها لصوص الطرق وقطاّعها، ولهذا كان يتقرب اليه التجار بالنذور وبالدعوات ينزل يمن يتحرش بتجارتهم العذاب الأليم. وهو أيضا من الهة قوم ثمود والصفويبن،كما تحدثت عن ذلك. وقد بني للعزى معبد في "بصرى"، عرف ب " بت ال"، أي "بيت ايل".

وأما آلهة "ديدان"، فلا نستطيع التحدث بإفاضة عنها، لعدم وصول كتابات ديدانية إلينا، فيها ذكر لتلك الآلهة. وفي الأسماء الديدانية المركبة أسماء الهة، على رأسها "ال" "ايل" الذي ورد في "كبر - ال" "كير ايل"، و "متع ال" "متعال" "متع ايل"، و "ذرحال" "ذرح ايل"، و "وسقال" "وسق ايل"، و "ال - بر" "ايل - بر"، و "العم" "ايل - عم"، و "شيمال" "شيم - ايل"، و "الاب" "ال اب"، "ايل اب"، فإن "ايُّل" "ال" في هذه الأسماء هو الإلَه "ايل".

ثم: "إلَه" ظ و "يثع"، و "خرج"، و "رعن"، و "دد" "داد"، و "نعر"، و "قس" "قوس" "قيس". وبعض هذه الألفاظ نعوت للالهة، لا أسماء أعلام، وبعضها من أصل عربي جنوبي، مثل "يثع"، فإنها نعت من نعوت الألهة، معناه: "المساعد" "الناصر" "المؤيد"، وقد عرف عند السبئيين. وبعض آخر من أصل شمالي مثل "دد" "داد"، فإنه من معبودات الكنعانيين والنبط.

ويرى " كاسكل" ان "خرجا" هو إله، والخرج في العربية أول ما ينشأ من السحاب. وبه سمي "الخرج". وقد ورد في الاْعلام المعينية المركبة: "عبد خرج"، و "زيد خرج". ويحتمل أن يكون قد جاء إلى الديدانيين من المعينين الذين كانوا أصحاب ديدان قبل الديدانيين، ويرد" دد" "داود" في الأسماء المركبة كذلك، وكذلك بصيغة التأنيث أي "ددت" "دادت"، أي إلهة. ويعني "دد" عم فقد ورد "حي - دد" "حي داد"، و ورد "عبد ددت اي "عبد دادت"، يدل على ان "داد" اله من الآلهة المعبودة، وان "ددت" إلهة.

و "قس" أي "قوس" هو أيضاً من أسماء الآلهة، اذ ورد مكوناً لاسم رجل، عرف ب "جلتقس" أي "جلت "قوس". وورد اسم آخر في الأعلام المركبة كذلك، هو "قسط" ? في اسم "عبد قس"، ويمكن ان يقرأ "قوساً" كما يمكن ان يقرأ "قيساً"، اي "عبد قيس"، و "عبد قيس" و "عبد القيس" من الأسماء المعروفة عند العرب. ف"قوس"و "قيس" من الآلهة المعروفة عند العرب.

و "قوس" هو من آلهة "بني أدوم"، أي الادوميين،اذ كان يعبد عندهم. وقد ذهب "بروى" Braeu الى ان الإله "قيس" هو إلَه واجبه حماية الحدود.

ووردت لفظة "صلم" في الأعلام المركبة كذلك، مثل "صلمجد" أي "صلم جد ومثل "صلميحب" "صلم يحب". ومعنى ذلك ان "صلما" هو اسم إله.

يلاحظ ان بين الآلهة المذكورة أسماء، هي في الواقع ليست أسماء. وانما هي صفات، أو ما يقال له "أسماء الله الحسنى" فيِ الإسلام، استعملت وأطلقت على الألة حتى صارت في منزلة الأسماء. كما نجد صفات وضعت قبلها لفظة "ذ" أي "ذو" أو "ذت"، أي "ذات"، وأطلقت على الآلهة اطلاق الأسماء على المسميات. ومن هذا القبيل "ذعقل"، أي "ذو عقل"، و "ذ شرى"، أي "ذو الشرى"، و "ذ قبض"، أي "ذو قبض"، و "ذت انوط"، أي "ذات أنواط"، و "ذت حمم"، أي " ذات حميم"، و "ذت بعدن"، أي "ذات البعد"، فليست هذه أسماء في الأصل، وانما هي على ما ذكرت، وقد عبر بها عن آلهة معينة، حتى صارت عندهم في منزلة الأسماء.

الآلهة التي ورد ذكرها في النصوص

وأود ان أدوّن هنا أسماء ونعوت الالهة التي أشير اليها في نصوص المسند، وفي النصوص الأخرى. باختصار، ليحيط بها القارئ، وهي: "زد" إلَه معين الكبير. وقد ورد في نصوص أخرى عثر عليها في أعالي الحجاز. و "المقه" إله سبأ الكبير، و "سن" "سين،" إلهَ حضرموت الكبير، و "ورخ" و "شهر"، و "عم" إلهَ شعب قتبان. وهي كلها في معنى واحد، اذ قصد بها الاله القمر.

ومن الأسماء الأخرى: "انبي" "أنبى"، و "شرقن" "للشارق"، و "ر حم" "الرحيم" "رحيم"، و "رحمنن" "الرحمن"، و "عثتر"، و "اثرت" "اثيرت"، و. "بعل"، و "بعلت"، و "ذات انوت" "ذات أنوات"، و "ربت اثر"، و "بعدن"، و "ذت بعدن"، و "برن"، و "ذت برن"، و "غضرن"، و "ذت غضرن -"، و "حمم" "حميم"، و "ذت حمم" "ذات حمم" "ذات حمم"، و "نشقم" "نشق"، و "رحبن" "رحاب" "الرحاب"، و "ذت رحبن" "ذات الرحاب"، و "صهرن" "الصهر"، و "ذت صهرن" "ذات الصهر"، و "صنتم"، و "ذت صنتم"، و "ضهرن"، و "عم ذ دون"، أي "عم رب دأون" "هم صاحب داوان"، و "ال" "ايل"، و "كهلن" "الكاهل"، و "حرمن" "الحرم"، بمعنى الإلهَ، و "حرمت " حرمة، بمعنى الإلهة. و "هوبس"، و "حلم" "حليم"، و "حكم" "حوكم"، و ! متب قبط"، و "متب نطين"، و "نهى"، و "نكرح".، و "نسر"،و "نسور"، و "رب شهر"، و "رب ثون"، و "صدىَ" "صديق" " صادق"، و "شمس"، و "سموى" أ و "شرقن"، و "سمع""سميع" "سامع"، و "تالب" "تلب"، و "تلب ريمم" "تالب ريام، أي الإلهَ "تالب" رب موضع "ريام" لوجود معبد كبير له به.

و "عثرت"، و "عزيّ"، و "تلب سمعى" "تالب سمعى"،و "حول" "حويل"، و "ذ جربم" "ذو جرب"، و "ذ قبضم""ذو قبض" "ذو القبض" "القابض"، و "سمعى"، و شريت" "شرى"، و "عثتر شرقن"، و "عزين"، و "قزح"، و "متب مذجب"، و "نرو".

ومن اسماء آلهة ثمود: "ود"، و "جد هدد"، و "شمس"،و "عزبز"، و "نعرجد"، و "عمى شجا"، و "رضو" و "منت،و "كهل"، و "نهي"، و "ايل" "1 ل"، و "لت" "لات"،و "عثرسم" "عثر سمن"، و "صلم"، و "منف"، و "عثتر"، و"يثع"،و"يغث""يغوث"،و"بعلت"،و"يهو"،و"فلس"، و"عوذ".

وتمكن الباحثون من الحصول على أسماء عدد من آلهة لحيان، منها: "ابلف""اب الف" "ابالف"، بمعنى "أبو ايلاف"، و "عجلبن"، و "بدع سمع" " بدعسمع"، و "بعلسمن"، "بعل السماء"، و "ذ غبت" "ذوغابة، و "هنا كتب" "هانئ كتب"، و "له" "لاه"،و "لهت" "الهات"، و "لت" "لات"، و "همحر" "ها محر"،و "سلمن" "سلمان"، و "هنعزيَ" "ها نعزي"، و "و د".

وحصلنا من الكتابات الصفوية على أسماء بعض الالهة، مثل: "اللات" "لت"، و "للعزى"، و "مناة" "منات"، و "ر ضا" "رضو"، و "ه له" "ها لاه" "الله"، و "جد عوذ"، و "شمس"، و "رحم"، و "شيع هقوم" "شيع القوم"، و "اثع" "اثاع"، و "بعل سمين" "بعل سمن"، و "دو شر" "ذو الشرى" "د شر"، و "جد ضف" "جد ضيف".

الفصل الحادي والسبعون،
شعائر الدين

ولكل دين شعائر تكون له سمة وعلامة تميزه عن غيره من الأديان. ولمّا كنا قد ذكرنا ان الجاهلين كانوا شعوباً وقبائل، لم تجمع بينهم وحدة فكر ولم تضمهم دولة واحدة، بعقيدة مشتركة، فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن شعائر واحدة لجميع عرب الجاهلية.

وما سأذكره عن ديانات أهل الجاهلية، مستمد إما من نصوص جاهلية، وذلك فيما يخص العربية الغربية والعربية الجنوبية في للغالب،وإما من موارد اسلامية، وهو ما في يتناول أهل الحجاز، قبل ظهور الإسلام، وبعض أنحاء نجد. وهو مما جاء عنهم في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي وفي كتب التفسير والسير والأخبار مما له صلة بأيام الجاهلية المتصلة بالإسلام، وبظهور الإسلام.

وفي مقدمة شعائر الدين عند أهل الجاهلية: الأصنام وبيوتها والتقرب اليها بالصلاة وبالسجود. وبالطواف حولها، وبالنذور. وبالحبوس وبالقسم بها، وذلك تمنّ على عبدها الإنسان فتمنحه ما يرجوه.في هذه الحياة من صحة وعافية ومال ونسل وذكور وتكاد تنحصر الكتابات الجاهلية التي عثر عليها حتى الآن بهذه الأمور، اذ لا نكاد نجد فيها شيئاً له علاقة بالآلهة يخرج عن حدود ما ذكرت. ويكاد يقتصر ما جاء في روايات أهل الأخبار عن ديانة أهل الجاهلية بهذه الأمور ايضاً، فلا تتجاوز ما ذكرته من تقرب إلى صنم أو توسل اليه وطواف به، لنبل شيء منه يتمناه ويرجوه في هذه الحياة الدنيا.

أما الصلاة إلى الالهة على نحو ما يفهم من الصلاة في الإسلام فلا نجد لها ذكراً في النصوص الجاهلية، ولا نكاد نجد لها صورة واضحة صحيحة في روايات أهل الأخبار، اللهم إلا فيما يخص صلوات اليهود والنصارى والعرب فقد كان هؤلاء يصلون في كنائْسهم في أوقات معينة، وقف بعض أهل الجاهلية عليها، فأشاروا اليها في أشعارهم وفي حديثهم عن أهل الكتاب.

وقدُ ذكر ان عبدة "الشمس" كانوا قد "اتخذوا لها صنماً بيده جوهرعلى لون النار، وله بيت خاص قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلّون فيه لها ثلاث مرات في اليوم، ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعونه ويستشفعون به. وهم اذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها،واذا غربت واذا توسطت الفلك. ولهذا يقارنها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة، لتقع عبادتهم وسجودهم له. ولهذا نهى النبي، صلى الله عليه وسلم، عن تحري الصلاة في هذه الأوقات قطعاً لمشابهة الكفار ظاهراً، وسداً لذريعة الشرك وعبادة الأصنام". وذكر "اليعقوبي" ان العرب كانت "اذا أرادت حج البيت الحرام، وقفت كل قبيلة عند صنمها وصلوّا عنده ثم تلبوا". وفي هذين الخبرين دلالة على وجود الصلاة عند الجاهليين، ولا سيما في خبر عبدة الشمس، حيث كانوا يصلّون ثلاث كرات لها في اليوم.

وذكر ان "التسبيح" بمعنى الصلاة والذكر، روي ان "عمر" جلد رجلين سبّحا بعد العصر، أي صلّيا. وان قول الأعشى: وسبحّ على حين العشيّات والضحى  ولا تعبد الشيطان والله فاعـبـدا

يعني الصلاة بالصباح والمساء. وعليه فسر قوله )فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون(، يأمرهم بالصلاة في هذين الوقتين.

وذكر انهم كانوا يصلون على موتاهم، وكانت صلاتهم ان يحمل الميت على سرير، ثم يقوم وليه، فيذكر محاسنه كلها ويثني عليه. ثم بقول: عليك رحمة الله. ثم يدفن.

وقد أشير إلى سجود الناس للشمس والقمر في القرآن الكريم: )ومن آياته الليل والنهار، والشمس والقمر. لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون. فإن استكبروا، فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون". يقول تعالى ذكره: فإن استكبر يا محمد هؤلاء الذين أنت بين أظهرهم من مشركي قريش وتعظموا عن أن يسجدوا لله الذي خلقهم وخلق الشمس والقمر، فإن الملائكة الذين عند ربك لا يستكبرون عن ذلك ولا يتعظمون عنه". كما أشير إلى سجود أهل "سبأ" إلى "الشمس" في الأية: )وجئتك من سبأ بنبأ يقين. إني وجدت امرأة تملكهم واوتيت من كل شيء، ولها عرش عظيم. وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل، فهم لا يهتدون(. وفي هذه الآية وصف لتعبد أهل سبأ للشمس وسجودهم لها. وقد ذكر المفسرون أن ملكة سبأ كانت لها كوة مستقبلة الشمس، ساعة تطلع الشمس تطلع فيها، فتسجد لها. فسجودهم للشمس، هو عبادة لها وتعظيماً لشأنها.

الصوم

وأما "الصوم"، فنحن لا نجد له ذكراً في الكتابات الجاهلية بالمعنى المفهوم منه عند أهل الكتاب أو المسلمين. وهو في اللغة الإمساك عن الشيء والترك له.

وقبل للصائم صائم لامساكه عن المطعم والمشرب والمنكح، وقيل للصائم صائم، لامساكه عن الكلام. وقوله عزّ وجل: )إني نذرت للرحمن صوماً(. قيل: معناه صمتاً، ويقويه قوله تعالى: )فلن أكلم اليوم إنسياً(. والصوم: الصبر كذلك.

وقد ذكر "الصوم" في السور المدنية، أما في السور المكية، فقد ذكر مرة واحدة، في "سورة مريم": )فقولي: إني نذرت للرحمن صوماً. فلن اكلم اليوم إنسياً(. وقد حددت السور المدنية أصول الصيام في الإسلام.

والصوم المعروف عند اليهود والنصارى معروف عند أهل الجاهلية الذين كان لهم اتصال واحتكاك بأهل الكتاب. فقد كان أهل يثرب مثلاً على علم بصوم اليهود، بسبب وجودهم بينهم. وكان عرب العراق وبلاد الشام على علم بصوم النصارى، بسبب وجود قبائْل عربية متنصرة بينهم. وكان أهل مكة، ولاسيما الأحناف منهم والتجار على معرفة بصيام أهل الكتاب. وبصيام الرهبان، المتمثل في السكوت والتأمل والجلوس في خلوة، للتفكير في ملكوت السماوات والأرض. ويظهر من أخبار أهل الأخبار أن من الجاهليين من اقتدى بهم، وسلك مسلكهم. فكان يصوم، صوم السكوت والتأمل والامتناع عن الكلام والانزواء في غار حراء وفي شعاب جبال مكة.

ويذكر أهل الأخبار ان قريشاً كانت تصوم يوم عاشوراء. وفي هذا اليوم كانوا يحتمْلون، ويعيدّون، ويكسون الكعبة، وعللوا ذلك بأن قريشاًَ أذنبت ذنباً في الجاهلية، فعظم في صدورهم، وأرادوا التكفير عن ذنبهم، فقرروا صيام يوم عاشوراء، فصاموه شكراً لله على رفعه الذنب عنهم. وذكر ان رسول الله كان يصوم عاشوراء في الجاهلية، ولما قدم المدينة واظب عليه وأمر الناس بصيامه حنى نزل الأمر بصيام رمضان. وقد ذكر العلماء انه يحتمل ان قريشاً اقتدت بصيامه في الجاهلية، بشرع سالف ولذا كانوا يعظمونه بكسوة البيت الحرام فيه. وذكر بعضهم: كان يوم عاشوراء، يوماً تصوم قريش في الجاهلية، اقتداءً بشرع سابق، وكان النبي يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه على عادته وأمر أصحابه بصيامه في أول السنة الثانية، فلما نزل رمضان، كان من شاء صام يوم عاشوراء ومن شاء لا يصومه. وعلوا سبب صيام "قريش" هذا اليوم، انه كان أصابهم قحط ثم رفع عنهم، فصاموه شكراً. وورد "ان قريشاً كانت تعظم هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه". وذكر ان رسول الله، كان يتحرى صوم يوم عاشوراء على سائر الأيام، وكان يصومه قبل فرض رمضان. فلما فرض رمضان، قال: من شاء صامه، ومن شاء تركه. وبقي هو يصومه تطوعاً، فقيل له: "يا رسول الله انه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال، صلى الله عليه وسلم: اذا كان العام المقبل ان شاء الله صمنا اليوم التاسع،فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله". وذكر أيضاً ان قريشاً كانوا اذا أصابهم قحط ثم رفع عنهم صاموا شكراً لله وحمداً له على اجابة دعوتهم.

وقد أشار أهل الحديث إلى صيام "يوم عاشوراء"، فجعله بعضهم الصيام الذي كان في الإسلام قبل فرض صيام شهر رمضان، وذكر بعضهم انه كان مفروضاً إلى السنة الثانية من المجرة، ثم نسخ بصوم رمضان.

وقد أشير إلى الصيام في السور المكية من القرآن الكريم كما أشير اليه في السور المدنية، ويدل نزول الوحي به في مكة وفي المدينة أنه كان من الشعائر الدينية القديمة، وأن قريشاًَ كان لها علم به. ويظهر من بعض الآيات أن المراد من الصوم لم يكن الامتناع من الأكل والشرب حَسْبُ، بل كان يعني في أول عهد النبوة الامتناع عن الكلام كذلك.

ورواية أن قريشاٌ كانت تصوم في يوم "عاشوراء"، لا تتفق مع الروايات الأخرى في كيفية فرض صيام شهر رمضان. ففي هذه الروايات أن النبي "حين قدم المدينة رأى يهود تصوم يوم عاشوراء، فسألهم: فأخبروه أنه اليوم الذي غرّق الله فيه آل فرعون، ونجىّ موسى ومن معه منهم. فقال: نحن أحق بموسى منهم، فصام، وأمر الناس بصومه. فلما فرض صوم شهر رمضان، لم يأمرهم بصوم يوم عاشوراء، ولم ينههم عنه. وورد أن يهود خيبر والمدينة كانوا يعظمون صيام عاشوراء ويتخذونه عيداً.

ويقصدون بصوم اليهود يوم عاشوراء، ما يقال له "يوم الكفارة"، وهو يوم صوم وانقطاع، ويقع قبل عيد المظال بخمسة أيام، أي في يوم "10 تشرى" وهو يوم "الكبور" Kipor. ويكون الصوم فيه من غروب الشمس إلى غروبها في اليوم التالي، وله حرمة كحرمة السبت، وفيه يدخل الكاهن الأعظم قدس الأقداس لأداء الفروض الدينية المفروضة في ذلك اليوم.

ومما يلاحظ ان علماء التفسير والحديث، قد اختلفوا اختلافاًَ كبيراً في موضوع الصيام قبل نزول الأمر به وفرضه. فقال بعضهم كان المسلمون يصومون كما تصنع من صيامهم خمسين يوماً "حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب ما كان، فأحل لهم الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر". وقال بعض آخر، كان صيام الناس قبل فرض رمضان صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وذكر ان ذلك كان تطوعاً لا فرضاً، ولم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوماً فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضانْ. ولم أتمكن من العثور علي خبر قاطع يفيد بأن المسلمين كانوا يصومون بمكة قبل الهجرة إلى المدينة.

ولا صلة لقصة "أبي قيس بن صرمة الأنصاري" "أبو صرمة الأنصاري" و "عمر بن الخطاب" بصيام عاشوراء ولا بعدد أيام الصوم. وكل ما ورد فيها ان المسلمين كانوا في أول ما فرض عليهم في رمضان اذ أفطروا وكان الطعام والشراب وغشيان النساء لهم حلالاً ما لم يرقدوا، فإذا رقدوا حرم عليهم ذلك إلى مثلها من القابلة، فلم يزل المسلمون على ذلك، حتى نام "أبو قيس بن صرمة" بعد افطاره وكان يعمل في حيطان المدينة بالأجر، فلما أفاق أبى ان يأكل شيئاً وأصبح صائماً، وكان "عمر" قد وقع على جارية له، فنزل الوحي بنسخ ذلك عنهم في اية: )أحلى لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن. علم الله انكم كنتم تختانون أنفسكم (. فلا صلة لقصتيهما بموضوع الصوم.

ويظهر أنه خبر صيام قريش يوم "عاشوراء" " هو خبر متأخر ولا يوجد له سند يؤيده. ولا يعقل صيام قريش فيه، وهم قوم مشركون، وصوم "عاشوراء"، هو من صيام يهود. وهو صيام كفارة واستغفار عندهم، فلمَ يستغفر قريش ويصومون هذا اليوم وماذا فعلوا من ذنب، يطلبوا من آلهتهم العفو والغفران ة وإذا كان هناك صوم عند الجاهليين، فقد كان بالأحرى أن يصومه الأحناف، ولم يرد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد صيامهم في "عاشوراء" ولا في غير عاشوراء. ثم إن علماء التفسير والحديث والأخبار، يذكرون أن الرسول صام "عاشوراء" مقدمه المدينة على نحو ما ذكرت قبل قليل،. وأنه بقي عليه حتى نزل الأمر بفرض رمضان. ويظهر أن الرواة أقحموا اسم قريش في صيام "عاشوراء"، لإثبات أنه كان من السنن العربية القديمة، التي ترجع إلى ما قبل الإسلام وأن قريشاً، كانت تصوم قبل الإسلام.

ويظهر من روايات أهل الأخبار، أن صوم أهل الجاهلية: صوم امتناع عن الأكل والشرب وإتيان النساء. وهو صوم الإسلام، وصوم امتناع عن الكلام وحبس للسان، إما لأمد معين قصير، مثل يوم أو اسبوع، واما لأمد طويل. وقد أشير في القرآن الكريم ان هذا الصوم في قوله تعالى: ) فقولي إني نذرت للرحمن صوماً، فلن أكلّم اليوم أنسياً(. وروي أن رجالاً من زهاد أهل الجاهلية كانوا يصومون هذا الصوم.

وقد اتخذ الصوم نذراًَ، روي أن "أبا بكر" دخل على امرأة من "أحمس" يقال لها "زينب"، فرآها لا تتكلم، فقال: مالها لا تكلم ? قالوا: حجت مُصمتة، قال لها: تكلمي. فإن هذا لا يحل. هذا من عمل الجاهلية،فتكلمت فقالت له: من أنت: قال امرؤ من المهاجرين. قالت: أي المهاجرين ? قال لها: من قريش. قالت له: من أي قريش أنت ? قال: إنك لسؤول.أنا أبو بكر. قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء اللَه به بعد الجاهلية? قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم. قالت: وما الأئمة قال لها: كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم قالت: بلى. قال: فهم أولئك على الناس.

فالتصميت، وهو الصوم عن الكلام، من فعل أهل الجاهلية. وهو معروف عندهم، ولعله وقع لهم تأثرهم بأهل الكتاب.

التحنث

ومن طرق عبادة أهل الجاهلية: التحنث، أي التعبد والتقرب الى الآلهة، ومن ذلك حديث "حكيم بن حزام": "أرأيت أموراً كنت اتحنث بها في الجاهلية من صلة رحم وصدقة، أي أتقرب إلى الله تعالى بأفعال في الجاهلية ". وكان رسول اللّه. يجاور في حراء من كل سنة شهراً، وكان مما تحنّث به قريش في الجاهلية. والتحنث: التبرر ". فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به - اذا انصرف من جواره - الكعبة قبل ان يدخل بيته "، فيطوف بها سبعاً"، ثم يرجع إلى بيته. وذكر ان ذلك الشهر هو شهر رمضان.

الاختتان

ومن شعاثر الدين عند الجاهلين الاختتان. وهو من الشعاثر الفاشية بينهم، حتى انهم كانوا يعيرون "الأغرل"، وهو الشخص الذي لم يختتن. وكان منهم ولا سيما أهل مكة من يختن البنات أيضاً، بقطع "بظورهن". وتقوم بذلك "الختانة" "الخاتنة". وقد كانوا يعيرون من تكون أمه "ختانة" نساء، فإذا أرادوا ذم أحد قالوا له: يا ابن مقطعة البظور، وإِن لم تكن أم من يقال له: خاتنة.

وأما الاغتسال من الجنابة وتغسيل الموتى، فمن السن التي أقرت في الإسلام، وقد أشير إلى غسل الميت في شعر للافوه الأودي،. وأشير إلى تكفين الموتى والصلاة عليهم في أشعار منسوبة إلى الأعشى وإلى بعض الجاهليين. وورد أن قريشاً كانت تغسل موتاها وتحنطهم، ولكننا لا نستطيع تعميم هذه الأمور على كل العرب، ولا الإدعاء بأنها كانت من شعائر الدين عندهم، لما ذكرته مراراٌ من اختلاف العرب بأمور دينهم، وعدم خضوعهم لدين واحد. بل ورد أن المشركين لم يكونوا يغتسلون من الجنابة، وقد ذهب المفسرون إلى أن لفظة "نجس" الواردة في الآية: )يا ايها الذين آمنوا إنما المشركون نجس، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا. وان خفتم عيلة، فسوف يغنيكم الله من فضله (. فانما قصد بها اجناب، "سمّاهم بذلك لأنهم يجيبون فلا يغتسلون. فقال: هم نجس ولا يقربوا المسجد الحرام، لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد " ولما نزل الأمر بمنع المشركين من دخول مكة، "شق ذلك على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقالوا: من يأتينا بطعامنا ومن يأتينا بالمتاع ? فنزلت )وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء (. و "كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام ويتجرون فيه. فلما نهوا أن يأتوا البيت قال المسلمون من أين لنا طعام ? فاًنزل الله) وان خفتم عيلة، فسوف يغنيكم الله من فضله(.

والقرابين والنذور وزيارات المعابد والحج، هي من أبرز الشعائر الدينية عند سواد الناس. وتكاد تكون مفهوم الدين عندهم، وذلك لما فيها من تماس مباشر باًمور حياتهم ومصالحهم. فهم يفعلون ذلك لغايات استرضاء الالهة والتوسل اليها   

بأن تعطيها غلة وافرة ومالاً، فكانوا اذا تقربوا إلى صنم أو دعوا ربهم أو أدوا مناسك حجهم "فلا يسألون ربهم" إلا متاع الدنيا "فمن الناس من يقول: ربنا آتنا في الدنيا. هب لنا غنماً،.هب لنا إبلاً". "وكانوا يعني في الجاهلية يقفون يعني بعد قضاء مناسكهم، فيقولون: اللهم ارزقنا إبلاً، اللهم ارزقنا غنماً"، وفي هؤلاء نزلت الآية: ) فمن الناس من يقول: ربنا اتنا في الدنيا، وماله في الآخرة من خلاق (.

والفقر هو الذي حمل هؤلاء على ان يتقربوا إلى آلهتهم، بالنذور والقرابين وبالحج على فقرهم وجوعهم، على أمل ان تعطف الآلهة عليهم فتمن عليهم بالمال واليسر والبركة والصحة، تماماً كما يفعل شراء أوراق "النصيب" أو أوراق سباق الخيل من الفقراء والمحتاجين علي أمل الربح والكسب.

وهذه النظرة المادية الساذجة،هي التي حملت عوامهم على تهديد آلهتهم وإخبارها انهم سيمتنعون عن تقديم أي نذر أو أداء ألحجة زيارة لها إن لم تمنّ عليهم وتستجيب لأدعيتهم، فتنفذ طلباتهم وما طلبوه منها. وهي التي تحملهم بعد ذلك على التراجع عن تهديداتهم هذه، وعلى الاستغفار واظهار الندم لها، لما بدر منهم من سوء أدب، على أمل استرضاؤها من جديد، بعد أن فشلت وسائل التهديد من تخويف تلك الالهة.

الحلال والحرام

يقول "ابن عساكر" في رواية تنسب إلى رجل من خثعم: كانت العرب لا تحرم حلالاً ولا تحل حراماً. وكانوا يعبدون الأوثان ويتحاكمون اليها. ومعنى هذا انهم كانوا يحلون ويحرمون. وأن أمر الحلال والحرام إلى رجال الدين منهم، وهم سدنة الأوثان.

وقد تعرض "اليعقوبي" لموضوع "أديان العرب" وشعائرها، فقال: "وكانت أديان العرب مختلفة بالمجاورات لأهل الملل، والانتقال إلى البلدان، والانتجاعات. فكانت قريش وعامة ولد "معد" بن عدنان على بعض دين ابراهيم، يحجون البيت ويقيمون المناسك، ويقرون الضيف ويعظمون الأشهر الحرم، وينكرون الفواحش والتقاطع والتظالم، ويعاقبون على الجرائم". فأدخل في الدين أموراً نعدها اليوم من الأعراف وقواعد الأخلاق والسلوك، وجعلها من سنة ابراهيم، أي دين العرب القديم قبل افساده بالتعبد للاصنام.

وذكر "السكريَ"، أن العرب كانت " دون من سواها من الأهم. تصنع عشرة أشياء منها: في الرأس خمسة.وهي المضمضة والاستنشاق والسواك والفرق وقص الشارب. وفي الجسد خمسة. هي: الختانه وحلق العانة ونتف الأبطين، وتقليم الأظفار والاستنجاء. خصت بهذا العرب، دون الأمم. فهذه الأمور العشرة هي من شعائْر العرب فيَ نظر "السكري". وهي شعائر، لا يمكن أن نجاريه في رأيه، فنقول إنها كانت في جميع العرب، وإنها كانت فيهم خاصة، دون غيرهم من الأمم وفي كلام "السكري" أمور كثيرة لا ممكن التسليم بصحتها بل نجده هو يناقض نفسه في مواضع أخرى من كتابه،من ذلك قوله: "وكانوا يؤمنون بالحساب ولا يأكلون الميتة، فعمم رأيه، وجعله شاملاً كل العرب، بينما هو رأي طائفة من الجاهليين، وليس جميع أهل الجاهلية. وللقران الكريم دليل ذلك، فقد حمل عليهم لنكرانهم البعث والحساب،وحرم على المسلمين أكل لحم الميتة. )حرمت علكم الميتة والدم ولحم الخنزير (. وكانوا يأكلونها في الجاهلية.

وورد أن ممن حرم أكل الميتة على نفسه "حارثة بن أوس" الكلبي، وهو جاهلي، يقول: لا آكل الميتة ما عمـرت  نفسي وإن أبرح املاقي

والعقد لا أنقض منه القوى  حتى يواري القبر أطباقي

الفصل الثاني والسبعون
الحج والعمرة

والحج الذهاب إلى الأماكن المقدسة في أزمنة موقوتة، للتقرب إلى الآلهة،والى صاحب ذلك الموضع المقدس. وتقابل هذه الكلمة؛Bilgrinage في الانكليزية والحج بهذا المعنى معروف في جميع الأديان تقريباً، وهو من الشعائر الدينية القديمة عند الساميين.

وكلمة "حجّ" من الكلمات السامية الأصيلة العتيقة، وقد وردت في كتابات مختلف الشعوب المنسوبة إلى بني سام. كما وردت في مواضع من أسفار التوراة. وهي تعني قصد مكان مقدس وزيارته.

وفي روع الشعوب السامية القديمة وغيرها أن الأرباب لها بيوت تستقر فيها، قيل لها في الأزمنة القديمة "بيوت الآلهة". ولذلك يرى المتعبدون والمتقون شدّ الرحال اليها، للتبرك بها وللتهرب اليها، وذلك في أوقات تحدد وتثبت، وفي أيام تعين تكون أياماً حرماً لكونها أياماً دينية ينصرف فيها الإنسان إلى آلهته، ولذلك تعدّ أعياداً، يعمد فيها الناس، بعد اقامتهم الشعائر الدينية المفروضة وبعد أدائهم القواعد المرسومة، إلى االفرح والسرور والرقص، ليدخلوا السرور إلى قلوب الأرباب. ففي الحج اذن مناسك وشعائر دينية وعبادة تؤدى، وافراح وسرور وحبور.

ويكون الحج بأدعية وبمخاطبة إلى الالهة وبتوسلات لتتقبل حج ذلك الشخص الذي قصدها تقرباً اليها. وهذا هو الشائع والمعروف عن الحج، غير أن من الجاهليين من كان يحج حجاً مصمتاً، أي دون كلام، فلا يتكلم الحاج طيلة أيام حجه. وقد كان ذلك من عمل الجاهلية.

وقد ميزّ الشهر الذي يقع فيه الحج عن الأشهر الأخرى بتسميته " ب "شهر ذي الحجة" وب "شهر الحج". وذلك لوقوع الحج فيه. وهذه التسمية المعروفة حتى الآن في التقويم الهجري، هي تسمية قديمة، كانت معروفة في الجاهلية، وردت في نصوص الجاهلية. فبين اسماء الأشهر الواردة في نصوص المسند اسم شهر يعرف ب "ذ حجتن" أي "ذي الحجة"، ويدل ذلك على أنه الشهر الذي يحج فيه. وقد وردت كلمة "حج" في نصوص المسند كذلك.

وقد ذكر "أفيفانيوس" Epiphanius ان من أسماء الأشهر عند العرب شهراً اسمه Aggathalbaeith "حج البيت" أراد به شهر "ذي الحجة". والعرب الذين قصدهم هذا الكاتب هم عرب "الكورة العربية"، ومعنى هذا ان العرب الشماليين كان لهم شهر يسمى ب "ذي الحجة" كذلك.

ولفظة Aggathalbaeith،هي لفظة عربية النجار حرفت على لسان "فيفانيوس" وقومه، لتناسب منطقهم، فصارت على هذا النحو، وهي من كلمتين عربيتين في الأصل، هما "حجة البيت"، أو "حج البيت". ويكون نص "أفيفانوس" هذا من النصوص المهمة بالنسبة لنا، التي ساعدنا في الرجوع بتأريخ استعمال هذا المصطلح إلى ايامه، ولا بد وان يكون ذلك المصطلح قد استعمل قبل أيام ذلك الكاتب ولا شك.

ويقع شهر الحج "ذي الحجة" - على رواية "افيفانيوس" - في "تشرين الثاني"، وأشار "بروكوبيوس" إلى ان العرب كانوا قد جعلوا شهرين من السنة حرماً لالهتهم لا يغزون فيهما ولا يهاجم بعضهم بعضاً، كما أشار "فوتيوس" إلى الأشهر الحرم عند العرب. والشهران اللذان أشار اليهما "بروكوبيوس"، هما شهرا ذو القعدة وذو الحجة في نظر "ونكلر"، وها بمثلان - في رأيه - "جولاي" و "أغسطس" أي تموز وآب.

إننا لا نستطيع في الوقت الحاضر أن نقول إن شهر "ذ حجتن المذكور في المسند، أو Aggathalbaeith الذي.ذكره "افيفانيوس"، هو شهر "ذو الحجة" الشهر المعروف الذي كان من شهور أهل مكة. فمن الجائز أن يكون حج العرب الشماليين أو حج العرب الجنوبين في وقت آخر يختلف عن وقت حج أهل مكة، فيكون شهرهم المذكور شهر آخر يقع في موسم آخر من السنة، ولا ينطبق شهر "ذي الحجة".

ويرى "ونكلر" ان ما ذكره "فوتيوس" من احتفال العرب مرتين في السنة بالحج إلى معبدهم المقدس: مرة في وسط الربيع عند اقتران الشمس ببرج الثُور، وذلك لمدة شهر واحد، ومرة أخرى في الصيف وذلك لمدة شهرين، إنما يراد بذلك شهر رمضان لاقتران الشمس فيه ببرج الثور. وأما الشهران الاخران فهما ذو القعدة وذو الحجةْ.

ويظهر من غربلة ما أورده اهل الأخبار من روايات عن موسم الحج في ألجاهلية، أن الحج إلى مكة كان في موسم ثابت، هو الربيع على رأي كثير من المستشرقين، أو الخريف على رأي "ولهوزن". وذلك بسبب ما ذكر عن النسيء ومن رغبة قريش وغيرها من أن يكون في وقت واحد، كما تحدثت عن ذلك في باب النسيء. وقد ذهب "ولهوزن" إلى أن "الشهر الحرام" المذكور في القرآن الكريم، هو "شهر الحج"، وهو الشهر الأول أي شهر محرم، بينما يرى المفسرون أنه رجب، أو ذو القعدة أو ذو الحجة. والأصح انه في شهر من الأشهر الحرم.

وقد ورد في القرآن الكريم: )الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (. وقد قال "الطبري": "اختلف اهل التأويل في قوله: الحج أشهر معلومات. فقال بعضهم: يعني بالأشهر المعلومات: شوالاً وذو القعدة، وعشراً من ذي الحجة"، "جعلهن الله سبحانه للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح ان يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج. والعمرة يحرم بها في كل شهر، وذكر ان الله لم يسم أشهر الحج في كتابه، لأنها كانت معلومة عندهم، وان المراد بذلك انه لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج. وبناءاً على ذلك، فلا يكون المراد من الآية ان الحج يقع في كل وقت من أوقات هذه الأشهر، وانما هو في وقت معين، ولكن الإحرام للحج، أي العزم عليه يكون في أي وقت من هذه الأشهر المذكورة، وليس في الأشهر الأخرى. وذكر "المسعودي" ان أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. ومعنى ما تقدم ان الجاهليين كانوا يتهيأون للحج من دخول شهر شوال، فيصلحون أمورهم، ويحضرون ما يحتاجون اليه من لوازم السفر،فإذا أراد أحدهم تجارة وكسبا ذهب إلى الأسوإق، حتى يهل شهر ذو الحجة، وإن لم يرد تجارة، ذهب في أي وقت يراه مناسباً له. فبدء موسم الحج اذن والتهيؤ له يكون من شهر شوال.

ويظهر من شعر نسب الى"عوف بن الأحوص،" أنه سمى شهر "ذي الحجه" شهر بني أميّة" 0 إذ يقول: وإني والذي حجت قـريش  محارمه وما جمعت حراء

وشهر بني أميّة والـهـدايا  إذا حبست مضرجها الدماء 

وقد ذهب "ولهوزن" وجماعة آخرون من المستشرقين إلى تعدد بيوت الأرباب التي كان يحج اليها الجاهليون في شهر "ذي الحجة" والى عدم حصر الحج عند الجاهلين بموضع واحد. ومعنى هذا أن حج أهل الجاهلية لم يكن إلى "مكة" وحدها، بل كان الى جهات عديدة أخرى. بحيث حج كل قوم الى "البيت" الذي قدسوه وكانوا يتقربون اليه ووضعوا أصنامهم فيه. ويتفق هذا الرأي مع ما يراه أهل الأخبار من وجود بيوت للاصنام، وكان الناس يزورونها ويتقربون اليها ويذبحون عند أصنامها ويطوفون حولها ويلبّون تلبية الصنم الذي يطوفون حوله. والحج إلى مكة والى البيوت المقدسة الأخرى، مثل بيت اللات في الطائف وبيت العزُى على مقربة من عرفات وبيت مناة وبيت ذي الخلصة وبيت نجران وبقية البيوت الجاهلية المعظمة، إنما هو أعياد يجتمع للناس فيها للاحتفال معاً بتلك الايام وهم بذلك يدخلون السرور على أنفسهم وعلى أنفس آلهتهم بحسب اعتقادهم وتقترن هذه الاحتفالات بذبح الحيوانات، كل يذبح على قدر طاقته ومكاته، فيأكل منها في ذلك اليوم من لم يتمكن من الحصول على اللحم في اثناء السنة لفقره، فهي أيام يجد فيها الفقراء لذة ومتعة وعبادة.

ويذكر أهل الأخبار أن الحج إلى مكة كان في الجاهلية كذلك، وأن الجاهليين كانوا يحجون إلى البيت منذ يوم تأسيسه، وأنهم كانوا يقصدون مكة أفواجاً من كل مكان. وأن ملوكَهم كانوا يتقربون إلى "بيت الله" بالهدايا والنذور، وان منهم من حج اليه. وأن الناس كانوا يقسمون بالبيت الحرام لما له من مكانة في نفوس جميع الجاهليين.

غير اننا في نجد روايات بعض أهل الأخبار ما ينافي تعظيم كل العرب للبيت وحًجهم اليه واحترامهم للحرم وللاشهر الحرم. فقد ورد ان من العرب من "كان لا يرعى للحرم ولا للاشهر الحرام حرمه"، ومنهم "خثعم" و "طيء"، وأحياء من قضاعة ويشكر والحارث بن كعب. وورد ان ذؤبان العرب وصعاليكها وأصحاب التطاول، كانوا لا.يؤمنون على الحرم، ولا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدراً. وقد كانوا خطراً يهدد البيت وأهله لذلك، ألف "هاشم" بن قريش وسادات القبائل ألفة ليحمي بهم البيت. قال "الجاحظ" في تفسيره للإيلاف: وقد فسره قوم بغير ذلك. قالوا: إن هاشماً جعل على رؤوس القبائل ضرائب يؤدونها اليه ليحمي بها أهل مكة. فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب التطاول كانوا لا يؤمنون على الحرم، لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدراً، مثل طيء وخثعم وقضاعة وبعض بني الحارث بن كعب. ورؤوس القبائل الذين جعل هاشم عليهم ضرائب يؤدونها اليه ليحمي بها أهل مكة، هم رؤساء مكة بلا شك، ومن كانت له مصلحة تجارية مباشرة بمكة، فكان ياخذ من هؤلاء ما يأخذه ثم يجمعه ويعطيه إلى " إلمؤلفة قلوبهم" من سادات القبائل النازلين حول مكة وعلى مقربة منها، كما ألف بين مكة وبين سادات القبائل الذين تمر قوافل مكة بأرضهم في طريقها الى الشام او العراق أواليمن، بروابط "الإيلاف"، أي العقود التي عقدها معهم " باعطائهم جعلا معيناً، أو حقوقاً تبين وتكتب، أو ربحاً يدفع مع رؤوس المال عن البضائع التي تدفع لقريش، لتقوم قوافلها ببيعها في الأسواق. وبذلك أمنت مكة وسلمت تجارتها، ودانت بعض القبائل بدين قريش في الأشهر الحرم، لما فيها من فائدة ومنفعة مادية بينة ظاهرة: فاحترمتها، وبهذا أمن الحج واستراح التجار من قريش ومن غيرهم في ذهابهم بحرية وبأمان في هذه الشهور إلى الأسواق وليست لدينا ويا للاسف أخبار مدوّنة عن مناسك الحج وشعائره عند الجاهليين. لعدم ورود شيء من ذلك في النصوص الواردة إلينا، ما خلا الحج إلى "بيت الله الحرام" بمكة، حيث حفظت الموارد الإسلامية لنا شيئاً من ذلك، بسبب فرض الحج في الإسلام، واقرار الإسلام لبعض شعائره التي لم تتعارض مع مبادئه ولولا ذلك لما عرفا شيئاً عن الحج إلى مكة عند الجاهليين. ولهذا فسأقتصر في كلامي هنا على الحج إلى مكة فقط. إلا إذا وجدت خبراً أو نصاً عن حج غير أهل مكة من الجاهليين إلى مكة أو إلى بيوت أخرى فسأتكلم عنه حينئذ.

ويظهر من غربلة ما جاء في روايات أهل الأخبار عن "حج البيت"، أن مناسك الحج لم تكن واحدهَ بالنسبة للحجاج، بل كانت تختلف باختلاف القبائل.

فقد انفردت "قريش" بأمور من أمور الحج، واعتبرتها من مناسك حجها، وانفردت قبائل أخرى بمناسك لم تعتبرها "قريش" موجبة لها، ولم تعمل بها ووقفت قريش في مواقف، اعتبرتها مواقف خاصة بها. وأوجبت على من يفد إلى مكة للحح، مناسك معينة سنتحدث عنها. فلما ظهر الإسلام وحدّ مناسك الحج وثبتها. وأوجب على كل مسلم اتباعها.

ويبدأ الحج في الإسلام بلبس "الاحرام" حين بلوغه "الميقات" المخصص للجهة التي جاء منها. و "ميقات" الحج موضع احرامهم. وقد عين الرسول أكثر "المواقيت" وثبتها، فجعل "ذا الحليفة" ميقاتاً لأهل "يثرب"، و "الجحفة "، ميقاتاً لأهل الشام، و "يلملم" ميقاتاً لأهل اليمن، و "قرن المنازل" لأهل نجد ومن يأتي من الشرق نحو الحجاز.. وأما " ذات عرق"، فميقات أهل العراق، قبل ان الرسول ثبته، وقيل إنه ثبت بعد فتح العراق. أما أهل مكة، فكانوا يحرمون من بيوتهم. ويجوز أن تكون هذه المواقيت من مواقيت أهل الجاهلية كذلك، وقد ثبتها الإسلام.

ويستعد الجاهليون للحج عند حضورهم موسم "سوق عكاظ". فإذا انتهت ايام السوق، وأراد منهم من أراد الحج، ذهب إلى "مجنة"، فأقام بها إلى هلال ذي الحجة، ثم ارتحل عنها إلى "ذي المجاز"، ومنه إلى "عرفة"،فإذا كان يوم التروية، تزودوا بالماء وارتفعوا إلى عرفة. هذا بالنسبة إلى التجار، الذين كانوا يأتون هذه المواضع للتجارة. أما بالنسبة إلى غيرهم، فقد كانوا يقصدون الحج في أي وقت شاءوا، ثم يذهبون إلى "عرفة" للوقوف موقف عرفة، يقصدها "الحلة"، أما "الحمس" فيقفون ب "نمرة"، ثم يلتقون جميعاً بمزدلفة للإفاضة.

ويبدأ حج أهل الجاهلية بالإهلال. فكانوا يهلّون عند أصنامهم، ويلبون اليها، فإذا انتهوا من ذلك قدموا مكة، فكان الأنصار مثلاً يهلون لمناة في معبده، أي انهم كانوا يغادرون "يثرب" إلى معبد الصنم،فيكونون فيه لمراقبة هلال ذي الحجة، فإذا أهلّوا لبوّا، ثم يسير من يسير منهم إلى مكة، لحج البيت.

والطواف بالبيوت وبالأصنام، ركن من أركان الحج، ومنسك من مناسكه. وكانوا يفعلونه كلما دخلوا البيت الحرام، فإذا دخل أحدهم الحرم، واذا سافر أو عاد من سفر،، فاًول ما كان يفعله الطواف بالبيت. وقد فعل غيرهم فعل قريش ببيوت أصنامهم، إذ كانوا يطوفون حولها، كالذي كان يفعله أهل يثرب من طوافهم ب "مناة".

وقد ذكر الأخباريون أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون حول الرجمات، وهي حجارة تجمع فتكون على شبه بيت مرتفع كالمنارة، ويقال لها الرجمة. وكان الجاهليون يطوفون حول الأصنام والأنصاب كذلك. وذكر "نيلوس" Nilus أن الأعراب كانوا يطوفون حول الذبيحة التي يقدمونها قرباناً للالهة. وكانوا يطوفون حول القبور أيضاً: قبور السادات والأشراف من الناس.

وطافوا حول "الأنصاب"، ويسمون طوافهم بها " الدوار". فكَانوا يطوفون حول حجر ينصبونه طوافهم بالبيت، وسموّا تلك الأحجار الأنصاب.

وللطواف كلمة أخرى هي "الدوار" من "دار" حول موضع من المواضع، وطاف حوله الشيء، واذا عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه. ونجد هذا المعنى في شعر الشاعرين الجاهليين: امرئ القيس، وعنترة بن شدّاد العَبسٌي. وقد ذكر علماء اللغة أن "الدوار" صنم كانت العرب تنصبه، يجعلون موضعاً حوله يدورون به، واسم ذلك الصنم والموضع الدوار. ومنه قول امرئ القيس: فَعَنٌ لنا سِربٌ كأن نعـاجـه  عذارى دوار،في مُلاءٍ مذيل 

وقيل إنهم كانوا يدورون حوله أسابيع كما يطاف بالكعبة. وقيل حجارة كانوا يطوفون حولها تشبهاً بالكعبة.

وتلعب عبادة الحجر دوراً بارزاً في "الدوار". فقد كان قوم من أهل الجاهلية يقيمون الأحجار، ثم يطوفون حولها، يتخذون الدوار عبادة لهم. وقد تكون الأحجار أصناماً، وقد تكون حجارة تنتقى فيطاف حولها. و "عن أبي رجاء العطاردي، قال: لما بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، فسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذاب، فلحقنا بالنار، وكنا نعبد الحجر في الجاهلية،فإذا وجدنا حجراً هو أحسن منه، ألقينا ذلك وأخذناه، فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثية من تراب.ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ثم طفنا به. وكنا اذا دخل رجب قلنا جاء منصل الأسنة، فلا ندع سهماً فيه حديدة، ولا حديدة في رمح إلا نزعناها وألقيناها ".

ويلاحظ ان الجاهليين كانوا يقيمون وزناً للحليب في أمور العبادة، فقد كانوا يسكبونه على الأصنام، كما رأينا في باب الأصنام، وفي القصة المتقدمة. ويلاحظ ان الرواية قد خصصت حليب الغنم، ولم تشر إلى حليب الإبل، أو حليب أية ماشية أخرى،مما قد يدل على وجود رابطة بين هذا الحليب وبين "الدوار" وان له علاقة بالأساطير، وذلك في حالة صدق الخبر بالطبع.

والطواف من أهم طرق التعبد والتقرب إلى الآلهة. يؤدونه كما يؤدون الشعائر الدينية المهمة مثل الصلاة، وليس له وقت معلوم. ولا يخص ذلك بمعبد معين ولا بموسم خاص مثل موسم الحج، بل يؤدونه كلما دخلوا معبداً فيه صنم، أو كعبة أو ضريح، فهم يطوفون سبعة أشواط حول الأضرحة أيضاً: كما يطوفون حول الذبائح المقدمة الى الالهة. فالطواف، إذن من الشعائر الدينية التي كان لها شأن بارز عند الجاهليين.

وكانوا يطوفون بالبيت في نعالهم، لا يطأون أرض المسجد تعظيماً له. إلا ان يكون الحاج فقيراً حافياً، فقد كان منهم من لا يملك نعالاً ولا خفاً ولا ساثر ما يلبس بالرجل لفقره. وذكر أن رسول الله قال: "من لم يجد نعلين، فليلبس خفين ". وقد ذكر "السكري"، أن "الحمس" كانوا "لا يطوفون بالبيت إلا في حذاثهم وثيابهم، ولا يمسون المسد بأقدامهم تعظيماً لبقعته ". وذكر أن "الحلة." كانوا على العكس منهم. " فإذا دخلوا مكة بعد فراغهم تصدقوا بكل حذاء وكل ثوب لهم، ثم استكروا من ثياب الحمس تنزيهاً للكعبة أن يطوفوا حولها إلا في ثياب جدد. ولا يجعلون بينهم وبين الكعبة حذاء يباشرونها بأقدامهم".

وكانوا يدخلون جوف الكعبة بنعالهم،لا يتأثمون من ذلك. وذكر أن "الوليد ابن المغيرة" كان أول من خلع نعليه لدخول الكعبة، تعظيماً لها، فخلع الناس نعالهم.

وعدّة الطواف حول الكعبة عند الجاهليين سبعة أشواط، ولا أستبعد ان يكون هذا العدد.ثابتاً بالنسبة إلى الطواف حول البيوت الأخرى أو حول الرجمات والأنصاب والقبور أيضاً. فقد كان الطواف سبعة أشواط مقرراً عند غير العرب أيضاً، وقد ذكر في "التوراة"، اذ كان العبرانيون يمارسونه. والعدد سبعة هو من الأعداد المقدسة المهمة عند الشعوب القديمة. ولهذا أرى ان غير قريش من العرب كانوا يطوفون هذا الطواف أيضاً حول محجّاتهم في ذاك الوقت.

وقد ورد أن من الجاهليين من كان يطوف ويده مربوطة بيد انسان آخر، بحبل أو بسير، أو بزمام أو منديل، أو خيط أو أي شيء آخر، يفعلونه نذراً،أو حتى لا يفترقا. وقد نهى عن ذلك في الإسلام. فقد روي أن الرسول رأي أحدهما وقد فعل ذلك، فقطع بيده ذلك الرباط.

الحمس والطلس والحلة

والأخباريون يذكرون ان الطائفين بالبيت كانوا على صنفين: صنف يطوف عرياناً، وصنف يطوف في ثيابه. ويعرف من يطوف بالبيت عرياناً ب "الحلة". أما الذين يطوف بثيابهم، فيعرفون ب "الحمس". وأضاف بعض أهل الأخَبار إلى هذين الصنفين، صنفاً ثالثاً قالوا له: "الطلس".

و قبائل الحلة من العرب: تميم بن مرّ كلّها غير يربوع، ومازن، وضبة، وحميس، وظاعنة، والغوث بن مر،وقيس عيلان باًسرها ما خلا ثقيفاً وعدوان، وعامر بن صعصعة، وربيعة بن نزار كلها.وقضاعة كلها ما خلا علافاً وجناباً. والأنصار وخثعم، ويجيلة، وبكر بن عبد مناة بن كنانة، وهذيل بن مدركة، وأسد وطيء، وبارق. وقد ذكر هذه الأسماء "محمد بن حبيب". وذكرها "اليعقوبي" على هذا النحو: تميم وضبة ومزينة والرباب وعكل وثور وقيس عيلان كلها ما خلا عدوان وثقيف وعامر بن صعصعة وربيعة بن نزار كلها، وقضاعة وحضرموت وعك وقبائل من الأزد.

وهم يذكرون ان "الحلِة" هم ما عدا الحمس وانهم كانوا يطوفون عراة إن لم يجدوا ثياب أحمس،وكانوا يقصدون من طرحهم ثيابهم طرحهم ذنوبهم معها. ويذكَرون انهم كانوا يقولون: "لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب "، "ولا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها"، "ولا نطوف في ثياب عصينا الله فها"، وذكر انهم "كانوا اذا طافوا خلعوا ثيابهم وقالوا لا نطوف في ثياب عصينا اللّه فيها، فيلقونها عنهم، ويسمون ذلك الثوب اللقي ". وفي رواية ان من يطوف من "الحلة" بثيابه يضرب وتنتزع منه ثيابه. فجعلت هذه الرواية خلع الثياب واجب على الحلة محتم عليهم، لايجوز مخالفته، وإلا تعرض المخالف للعقاب.

وتخضع النساء لهذه القاعدة أيضاً اذا كَنّ من الحلة، فكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة. وقبل تضع احداهن ثيابها كلها إلا درعاً مفرجاً عليها ثم تطوف فيه. وقبل كانت تقف على باب المسجد، فتقول: من يعير مصوناً? من يعير ثوباً ? من يعيرني تطوافاً ? فإن أعارها أحد ثوباً أو كراه لها طافت به، وإلا طافت عريانة كما يطوف الرجال على حد زعم الروايات. لا يستر عورتها لباس أو قماش، بل كانت تضع احدى يديها على قبلها واليد الأخرى على دبرها وتطوف حول البيت على هذا النحو. وهم يروون في ذلك بيتا ًينسبونه لامرأة جميلة، قيل هي: ضباعة بنت عامر بن صعصعة، طافت بالبيت عريانة وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله  وما بدا منه فلا أحلـه

وشاءت بعض الروايات أن تخفف من وقع طواف النساء على هذه الصورة في النفوس، فذكرت ان بعض النساء كانت تتخذ سيوراً فتعلقها في حقوتها تستتر بها، وذكرت روايات أخرى انهن كن يطفن ليلا، وبذلك يتخلصن من وقوع سترهن في أعين الرجال، لأن طواف الرجال في النهار.

وقد وصفت بعض الروايات طواف العريان فقالت: "يبدأ بإساف فيستلمه، ثم يستلم الركن الأسود، ثم يأخذ عن يمينه ويطوف ويجعل الكعبة عن يمينه، فإذا ختم طوافه سبعاً، استلم الركن ثم استلم نائلة فيختم بها طوافه، ثم يخرج فيجد ثيابه كما تركها لم تمس، فيأخذها فيلبسها ولا يعود إلى الطواف بعد ذلك عرياناً". هذا هو طواف أهل الجاهلية قبل الإسلام على رواية اهل الأخبار.

وجاء في بعض الروايات: " كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة،إلا ان تعطيهم الحمس ثياباً، فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء"، "فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوباً ولا يسارٌ يستأجر به، كان بين أحد أمرين: إما ان يطوف بالبيت عرياناً، وإما ان يطوف في ثيابه، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه، فلم بمسه احد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى ". وجاء أيضاً ان "الحمس" كانوا "يقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب ان يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل اذا دخل أرضنا إلا من طعامنا".

وورد انهم " كانوا يطوفون بالبيت عراة،وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون ".

ويذكر بعض أهل الأخبار ان طواف الطائف عرياناً إنما يكون للمرة الأولى، فإذا عاد فطاف بعد ذلك: لبس ملابسه، وطاف بملابسه كالحمس لا يلقيها خارج حدود الحرم.

والتفسير الذي ذكره الأخباريون لطواف العري، هو رغبة الطاثف حول البيت ان يكون نقياً متحرراً عن ذنوبه وآثامه بعيداً عن الأدران. واعتقاده ان طوافه بملابسه طواف غير صحيح، لأن ملابسه شاركته في آثامه، فهي ملوثة نجسة، ولذلك هاب من لبسها، فإذا أتم طوافه تركها في موضعها،ولبس ملابس أخرى جديدة.

ويذكر الأخباريون ان تلك الملابس التي يلقيها المحرم تبقى في مكانها،لا يمسها أحد، ولا يحركها حتى تبلى من وطء الأقدام ومن الشمس والرياح. ويقال لهذه الثياب التي تطرح بعد الطواف "اللقي". وقد أشير اليها في شعرل "ورقة بن نوفل". ولعل اعتقاد القوم باًن تلك الملابس ملوثة بالأدران، هو الذي منع الناس الآخرين من لمس تلك الملابس والاستفادة منها،فتركوها لذلك للأرض وللشمس والرياح تعبث بها إلى ان تتمزق وتهرى.

ولكننا نجد الأخباريين يعودون فيروون روايات تناقض ما ذكروه من "اللقي".

إذ يقولون: كان الحلة اذا ختموا طوافهم وأتموه بنائلة، خرجوا إلى ثيابهم التي ألقوها خارج باب المسجد، فلبسوها، فإذا أرادوا الطواف مرة أخرى طافوا بملابسهم. فهم يقرون في هذه الرواية طواف العرى، ولكنهم ينكرون ترك "اللقى" على الأرض لتدوس عليها الأقدام ولتلعب بها الرياح وتعبث بها الأهوية والأتربة، ويجعلون أصحابها يعودون اليها فيلبسونها تارة أخرى.

ونقرأ في كتبهم رواية أخرى تذكر ان أحداً من الحلة اذا لم يجد ثياب أحمسي يطوف فيها ومعه فضل ثياب يلبسها، غير ثيابه التي عليه فطاف في ثيابه ثم جعلها لقى يطرحها بين أساف ونائلة فلا يمسها أحد ولا ينتفع بها منتفع حتى تبلى من وطء الأقدام والشمس والرياح والأمطار.

وقد ذكر "محمد بن حبيب" ان "الحلة" كانوا اذا دخلوا مكة "تصدقوا بكل حذاء وكل ثوب لهم ثم استكروا لهم من ثياب الحمس تنزيهاً للكعبة ان يطوفوا حولها إلا في ثياب جدد. ولا يجعلون بينهم وبين الكعبة حذاء يباشرونها باًقدامهم. فإن لم يجدوا ثياباً طافوا عراة. وكان لكل رجل من الحلة حرمي من الحمس يأخذ ثيابه. فمن لم يجد ثوباً طاف عرياناً. وانما كانت الحلة تستكري الثياب للطواف في رجوعهم إلى البيت لأنهم كانوا اذا خرجوا حجاجاً لم يستحلوا أن يشتروا شيئاً ولا يبيعوه حتى يأتوا منازلهم إلا اللحم. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حرمى عياض بن حمار المجاشعي: كان اذا قدم مكة طاف في ثياب رسول الله".

فالذي يطوف بالبيت عرياناً، هو ضعيف "الحلة"، ممن لا قبل له على استكراء ثياب له من أحمسي، وممن لا صاحب له من الخمس، يعطيه ثياباً ليلبسها. أما المتمكن من "الحلة"، ومن له صديق من الحمس، فلا يطوف عرياناً وانما يطوف بثياب أحمسي.

ويرىَ "روبرتسن سمث" ان الذي أوحى إلى الجاهليين وجوب طرح ملابس الحلة اذا أحرم فيها،اعتقادهم بتقدس تلك الملابس في أثناء الإحرام مما يجعلها في حكم ال "تابو" Tabu عند الاْقوام البدائية، ولذلك لا يجوز استعمالها مرة أخرى، وهم أنفسهم قوم غير مقدسين.

وقد منع الإسلام طواف "العريّ" في أي وقت كان، وحتم على الجميع قريش وغيرهم لبس "الإحرام". وقد ذكر علماء التفسير في تفسير قوله تعالى: )واذا فعلوا فاحشة، قالوا وجدنا عليها اباءنا، والله أمرنا بها. قل: إن الله لا يأمر بالفحشاء. أتقولون على الله ما لا تعلمون( ان هذه الاية نزلت في حق المتعرين الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، "فإذا قيل لهم: لم تفعلون ذلك قالوا وجدنا عليها اباءنا والله أمرنا بها"، "فنحن نفعل مثلَ ما كانوا يفعلون، ونقتدي بهديهم ونستن بسنتهم. والله اْمرنا به فنحن نتبع أمره فيه". فنحن اذن أمام سنة جاهلية قديمة، ترجع طواف العري إلى أمر سابق وشريعة سابقة.

وأما "الحمس"، فهم الذين كانوا يطوفون بثيابهم، ثم يحتفظون بها فلا يلقونها، فلهم من هذه الناحية ميزة امتازوا بها على الحلة. ولهم على الحلة ميزة أخرى، هي انهم كانوا يقفون الموقف في طرف الحرم من "غرة": يقفون به عشية عرفة، ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة، ويفيضون منه إلى المزدلفة ولا يقفون موقف غيرهم بعرفة، فقصروا عن مناسك الحج والموقف من عرفة وهو من الحل. وحجتهم انهم أهل الحرم فلا يخرجون منه مثل ساثر الناس. ويقولون: "نحن أهل الحرمة وولاة البيت.وقطان مكة وساكنها،فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا ولاتعرف له العرب مثل مانعرف".

وتفسير كلمة "الحمس" في رأي علماء اللغة التشدد في الدين، سمّوا حمساً،لأنهم كانوا يتشددون في دينهم، فكانوا اذا زوّجوا امرأة منهم لغريب عنهم، أي لمن كان من الحلة اشترطوا عليه ان كل من ولدت له، فهو أحمسي على دينهم. وكانوا اذا أحرموا لا ياًتقطون الاقط، ولا يأكلون السمن ولا يسلؤونه ولا يمخضون اللبن، ولا يأكلون الزبد،ولا يلبسون الوبر ولا الشعر ولا يستظلون به ما داموا حرماً، ولا يغزلون الوبر ولا الشعر ولا ينسجونه، وانما يستظلون بالأدم، ولا يأكلون شيئاً من نبات الحرم. وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ولا يخفرون فيها الذمة ولا يظلمون فيها، ويطوفون بالبيت وعليهم ثيابهم. وكانوا اذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية وأول الإسلام، فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج ولا يدخل من بابه. وكانوا يقولون: لا تعظموا شيئاً من الحل، ولا تجاوزوا الحرم في الحج فلا يهاب الناس حرمكم، ويرون ما تعظمون من الحل كالحرم، فقصروا عن مناسك الحج والموقف من عرفة وهو من الحل، فلم يكونوا يقفون به ولا يفيضون منه، وجعلوا موقفهم في طرف الحرم من نمرة: يقفون به عشية عرفة، ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة، ويفيضون منه إلى المزدلفة. فإذا عممت الشمس رؤوس الجبال دفعوا. وكانوا يقولون: نحن أهل الحرم، لا نخرج من الحرم،ونحن الحمس.

وكانوا اذا أرادوا بعض أطعمتهم ومتاعهم، تسوّروا من ظهر بيوتهم وأدبارها حتى يظهروا على السطوح، ثم ينزلون في حجرتهم، ويحرمون ان يمروا تحت عتبة الباب. فهم يحرمون اذن اشياء لم تكن العرب تحرمها.

والحارث بن عبد مناة بن كنانة. ومدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة، بنزولهم حول مكة. وعامر بن عبد مناة بن كنانة. ومالك، وملكان، ابنا كنانة، وثقيف، وعدوان، ويربوع بن حنظلة. ومازن بن مالك بن عمرو بن تميم. وأمهما جندلة بنت فهر بن مالك بن النضر. ويقال: ان بني عامر كلهم حمس لتحمس اخوتهم من بني ربيعة بن عامر. وعلاف، وهو رباّن بن حلوان ابن عمران بن الحاف بن قضاعة. وجناب بن هبل بن عبد الله من كلب. وأمه آمنة بنت ربيعة بن عامر بن صعصعة. وأمها مجد بنت تيم الأدرم ين غالب ابن فهر".

ويتبين مما تقدم ان "الحمس"، لم يكونوا قريشاً وحدهم وسكان الحرم، وانهم لم يكونوا جماعة قامت وظهرت على رابطة الدم والنسب، كما هو الحال بالنسبة إلى القبيلة. بل هم قريش وكل من نزل الحرم وسكن مكة، وطواثف من العرب شاركت قريشاً في مناسك حجها، وسارت على نهجها في الحج، وشاطرتها الرأي في دينها. وقد ذكر " الجاحظ" ان "عامر بن صعصعة"، و "خزاعة" و "ثقيفاً"، والحارث بن كعب، كانوا ديّانين، أي على رأي ودين. وكانوا على دين قريش. وقال غيره: "وصارت بنو عامر من الحمس وليسوا من ساكني الحرم لأن امهم قرشية. وهي مجد بنت تيم بن مرة. وخزاعة إنما سميت خزاعة، لأنهم كانوا من سكان الحرم فخزعوا عنه، أي خرجوا. ويقال انهم من قريش انتقلوا ببنيهم إلى اليمن. وهم من الحمس ".

وقد ميزّ بعض العلماء بين "الحمس" وهم نزلاء الحرم، وبين المتحمسين الذين دخلوا في الحمس، لأن أمهاتهم من قريش، بأن أطلقوا عليهم لفظة "الأحامس". فقالوا: "والأحماس من العرب الذين أمهاتهم من قريش "،. وجاء. في بعض الأخبار ان "غطفان."، لما اتخذت لها بيتاً أرادت به مضاهاة الكعبة، وجعلت له حرماً كحرم مكة. أغار "زهير بن جناب الكلبي" عليه.

وقد وصف "ابن معد" "التحمس" بقوله: "والتحمس أشياء أحدثوها في دينهم تحمسوا فيها، أي شددوا على أنفسهم فيها، فكانوا لا يخرجون من الحرم اذا حبّوا، فقصروا عن بلوغ الحق، والذي شرع الله، تبارك وتعالى، لابراهيم وهو موقف عرفة، وهو من الحل، وكانوا لا يسلؤون السمن ولا ينسجون مطال الشعر، وكانوا أهل القباب الحمر من الأدم، وشرعوا لمن قدم من الحاج ان يطوف لم بالبيت وعليه ثيابه ما لم يذهبوا إلى عرفة، فإذا رجعوا من عرفة لم يطوفوا طواف الإفاضة بالبيت إِلا عراة أو في ثوب أحمسيّ وان طاف في ثوبه لم يحلّ له ان يلبسهما ".

وللجاحظ ملاحظات قيمةعن قريش لها صلة بالتحمس، وقد تفسر لنا معنى التحميس بسبب شموله أناساً هم من غير قريش.

ذكر ان الإسلام لما ظهر، لم تكَن هنالك أية امرأة قرشية، كانت مسبية عند غير قريش. ولم تكن هنالك أية امرأة مسبيهّ فىِ أي سبي القبائل وأمها من قريش. ويذكر أيضاً ان قريشاً لم تكن تزوج بناتها من أبناء أشراف القبائل حتى تشترط عليهم ان من تلد منهن، فيكون من يكون من الحمس. أما هم، فكانوا اذا تزوجوا من بنات قبائل أخرى، فإنهم لم يشرطوا على أنفسهم أي شرط، وكان من هذه القبائل عامر بن صعصة وثقيف وخزاعة والحارث بن كعب، "وكانوا ديّانين". وَ كانوا على دين قريش في امورها. وكانت قريش كريمة، ولم ترض بالغارات والغزو ولا بالظلم ولم تقبل بالوأد ولا بالدخول.ممن يقع في أيديهم أسرى من النساء. وكان من فضائلهم ان منّ الله عليهم بالإيلاف. فأغناهم وجعلهم "لقاحأَ".. فلم يخضعوا لمالك ولم يستعبدهم سلطان أجنبي. ولم يدفعوا أي سة يء عنهم لملك منّ الملوك. بل كانت الملوك تأتي إلى مكة وتعظم البيت وتحترم سكانه. وهم قريش الحمس.

ويظهر من ملاحظات الجاحظ المذكورة، ان من أهم مبادىء الحمس، نبذ الغارات، أي الغزو، حتى جعلته قريش ركناً من أركان دينها. كما تمسكت بركن آخر، هو عدم الدخول بمن يقع في أيديهم من النساء السبايا في حالة ما اذا أغارت قبيلة عليهم، واعتدت عليهم، فانتصرت قريش عليها، وأخذت منها سبايا. اما الحمس الآخرون، مثل عامر بن صعصعة وثقيف والحارث بن كعب، وأمثالهم ممن تحمسوا، فلم يتمسكوا بهذه الأصول. وذكر "ابن الفقيه" ان القبائل المذكورة لم تكن في الأصل حمساً على دين قريش، وانما تحمست وصارت من الحمس بتاًثير قريش عليها. وقريش تمسكوا وحدهم بالحمس،"وصاروا بأجمعهم تجاراً خلطاء". وقد عرفت مكة ب "دار الحمس"، كما جاء ذلك في شعر ينسب إلى "الكاهن اللهبي". وعرفت قريش ب "أهل الله".

ونجد بين "الحمس" والحرم صلة متيتة، تشير إلى الأصل الديني للحمس والى ارتباطهم بالكعبة. فذهب "الزمخشري" إلى ان "حمس" من "حرم" ومن دلائل هذه الصلة أيضاً مما ورد في كتب أهل الأخبار من ان الكعبة كانت قد عرفت ب "الحمساء". سميت بذلك "لأن حجرها أبيض إلى السواد". ومن ان "الحمس" هم نزلاء الحرم. فبين الحمس والحرم، صلة متينة اذن. حتى قيل ان المنسوب الى الحرم من الناس "حرمي". و "ان عياض بن حمار المجاشعي، كان حرمي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان اذا حج طاف في ثيابه. وكان أشراف العرب الذين يتحمسون على دينهم، أي يتشددون اذا حج أحدهم لم يأكل إلا طعام رجل من الحرم: ولم يطف إلا في ثيابه.

فكان لكل رجل من أشرافهم رجل من قريش. فيكون كل واحد منهما حرمي صاحبه". ويفسر لنا هذا المعنى أيضاً قولهم: "رجل حرام: داخل في الحرم"،و" الحرم بالكسر الرجل المحرم. يقال: أنت حل وانت حرم". وقد أنجب الزواج المشروط بين قريش وبين من يتزوج منها حمساً جدداً، انتقل الحمس اليهم عن طريق "شرط عقد الزواج" من جهة الأمهات. أمها نسل هؤلاء الحمس الجدد، الذين هم فيِ الواقع أنصاف أحماس، فقد صار حمساً مثل قريش، لأنهم ولدوا من والد حسب من الحمس ومن والدة أحمسية. وبذلك لم يعد الحمس أهل مكة وحدهم، بل شمل أهل مكة ومن تزوج مكّيات فاًنجين ولداً، عدّوا حمساً بشرط العقد.

وتذكر بعض الروايات ان عقيدة "الحمس" لم تكن قديمة، بل ظهرت قبيل الإسلام. " قال ابن اسحاق: كانت قريش لا أدري قبل الفيل أو بعده، ابتدعت أمر الحمس رأياً. فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها،وهم يعرفون ويقرون انها من المشاعر والحج، إلا انهم قالوا: نحن أهل الحرم، ونحن الحمس. والحمس أهل الحرم. قالوا: ولا ينبغي للحمس ان يتأقطوا الأقط ولا يسلؤوا السمن، وهم حرم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرماً، ثم قالوا: لا ينبغي لأهل الحل ان يأكلوا من طعام جاءوا به من الحل الى الحرم اذا جاءوا حجاجاً أو عمّاراً، ولا يطوفوا بالبيت اذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس". ولم تذكر هذه الرواية سبب ظهورها، ولا من أوجدها من رجال قريش.

ويتبين من غربلة ما ذكره أهل الأخبار عن الحمس، ان الحمس هم أهل مكة الأحرار في الأصل، ثم من دان بدينهم. وجدوا أنفسهم في ضنك شديد، في واد غير ذي زرع، لا شيء عندهم غير "البيت"، فتحمسوا في دينهم وتشددوًا وتعاونوا فيما بينهم على العمل معاً، وعلى الدعوة إلى عبادة رب البيت واقراء الضيف والامتناع عن غزو غيرهم، وعن التحرش بأحد، إلا اذا تحرش بهم، وعلى إغاثة الملهوف ومساعدة من يأت البيت حاجاً أو معتمراً أو قاصداً تجارة، وتقديم الرفادة له. ونصرة الغريب. وحافظوا على الحرمات: حرمة البيت وحرمة الحج وحرمة الأشهر الحرم، ووضعوا لأنفسهم قواعد صارمة في آداب السلوك في موسم الحج وفي غيره، تشعر انهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم كانهم "جنس"، فضله الله على بقية أجناس العرب، لهم مناسكهم، ولبقية العرب مناسكهم، ولهم قباب خاصة يضربونها لأنفهسهم في سوق عكاظ وفي المواضع الأخرى تميزهم عن سائر من يفد إلى هذه المواضع،وترفّعوا عن مصاهرة سائر الناس إلا اذا وجدوا انهم أكفاء لهم، والكفاءة: القوة والمال. وأقاموا مجتمعهم الخاص هذا على قواعد دينية تعاونية. اقتصادية "صاروا بأجمعهم تجاراً خلطاء". شعارهم انهم "أهل الله"، دينهم " التحمس والتشدد في الدين، فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال، فلما زهدوا في الغصوب لم يبق مكسبة سوى التجارة: فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم، والنجاشي بالحبشة، والمقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجاراً خلطاء ". وكان ان تفردوا بالإيلاف، وللايلاف ارتباط بالحمس، وتوجهوا إلى التجارة والاتجار، وجمعوا بين الدين والمال، وأفسحوا المجال لمن به نشاط وهمة ان يجمع مالاً وأن يكون غنياً على ان يساهم بنصيبه في تحمّل أعباء مجتمعهم، للدفاع عن "بيت الله" ولكسب المتحالفين معهم وتوزبع العدل فيما بينهم، توزيعاً يخفف من حدة التفاوت فيما بين الغني والففير، حتى لا يقع اخلال في التوازن بين طبقات المجتمع، يحمل الفقراء على انتزاع المال من الأغنياء كرهاً وقسراً. وجعلوا ذلك واجباًَ من واجباتهم، فحثوا على رفع الظلم، واتخذوا السقاية والرفادة، وعقدوا "حلف الفضول" للدفاع عن المحتاج، وجعلوا "الإيلاف" الذي سأتكلم عنه في الجزء الخاص بالحياة الأقتصادية، سبباً من أسباب اشاعة الرحمة ومساعدة الفقراء وتخفيف وطأة الفقر في هذه القرية: "أم القرى"، وفي ذلك يقول "مطرود بن كعب الخزاعي" في رثائه عبد المطلب: يا أيها الرجل المحول رحـلـه  ألا نزلت بآل عبـد مـنـاف

هبلتك أمك لو نزلت علـيهـم  ضمنوك من جوع ومن إقرافّ 

الاخذون العهد من آفـاقـهـا  والراحلون لـرحـلة الإيلاف

والمطعمون اذا الرياح تناوحت  ورجال مكة مسنتون عجـاف

والمفضلون اذا المحول ترَادفَت  والقائلون هلـم لـلأضـياف

والخالطون غنيهم بفقـبـرهـم  حتىّ يكون فقيرهم كالكافـي

كانت قريش بيضة فتفلـقـت  فالمحّ خالصة لعبـد مـنـافِ

قام رجال من رجال مكة بالانفاق على المحتاجين،فعدّوا ذلك ديناً ومروءة وشهامة. فكان "نعيم بن عبد الله" العدوي، ينفق على أرامل بني عدي وأيتامهم. وكان "حكيم بن حزام" ينفق من أْرباحه على المحتاجن من آله وذويه. وكان صديق النبي قبل المبعث، وتذكر كتب السير والتراجم أسماء رجال آخرين عرفوا بتصدقهم على الفقراء والمحتاجن، اعتبروها منقبة وقربة لهم في الجاهلية، وقد أقرهم الرسول عليها.

فالحمس "أهل اللّه"، وأمته، تجمعهم عبادة الله والأصنام، والمناسك والشعائر التي وضعوها لهم، والتجارة التي جلوها مثل شعائر دينهم، ينفقون من أرباحهم منها في سبيل "الله". أي بيت الله وأهله المستضعفون، حتى جعلوا الصدقة وإطعام المحتاج من أمور الدين. فمجتمعهم مجتمع جمع بين الدين والتجارة، وبين الديات والمال. حثهم على التعاون بخلط رؤوس أموالهم و الاتجار معاً يقوافل، وفيه ربح كبير مضمون، وحثهم على إنصاف من ليس له شيء حتى يصير   

مكتفياً غير محتاج، لا يوجه عينه نحو غيره حسداً وحقداً. شعار هذا المجتمع الله والأصنام والحج والتجارة، مجتمع لم يكن يخلو بالطبع من أحامس بخلاء، شذوا عن الطريق، واغتصبوا أموال الفقراء، كما هو الحال في كل مجتمع بشري.

وقد اقتصرت "قريش"، وهم من الحمس، على استعمال القباب المصنوعة من الأدم لا يضربها غيرها ب "منى". لأنهم " كانوا لا ينسجون مظال الشعر، وكانوا أهل القباب الحمر من الأدم". وقد استعمل الرسول في حجه هذا النوع من القباب. ولا بد أن يكون لاقتصار قريش على استعمال هذا النوع من القباب دون غيرها في هذا الموضع،سبب ما، الأرجح انه عامل ديني واجتماعي. ويلاحظ انه كان للقباب الحمر ذكر خطير، وجاه عظيم في نظر الجاهليين.،فكان أصحابها يفتخرون على غيرهم بأنهم "أهل القباب الحمر"، وقد كان الملوك والسادة يضربون لأنفسهم القباب الحمر. فهي من امارات الجاه والمكانة والنفوذ.

ويظهر من بعض الأسماء أو الجمل التي وردت فيها كلمة "حمس" و "حمس" ان هذه الكلمة هي نعت أو اسم من أسماء الآلهة عند الجاهليين في الأصل، ثم تغير معناها بعد ذلك فصارت على النحو الذي ذكره علماء اللغة نقلاً عن الروايات التي ترجع ذلك المعنى الى الجاهلية المتصلة بالإسلام. ففي الأسماء الواردة إلينا: "أحمس الله"، و "بنو أحمس"، و "أبو أحمس"، و "الأحامس" ؛ ما يفيد ان الأصل بعيد جداً عن المعنى الذي فهمه وذهب اليه أهل الأخبار، وان للكلمة معنْى دينياً خاصاً قديماً، هو التشدد في الدين والتمسك به، وبعبادة الصنم، والمحافظة على سنّة الإباء والأجداد مع تصلب وتقشف.

والأحماس من العرب الذين أمهاتهم من قريش، صاروا من الحمس بسبب أمهاتهم.

هذا وقد نزل الوحي بتنظيم الحج وفق مبادىء الإسلام، فاباح للحجاج ما كانت الحمس حرمته على نفسها من طعام الحج إلا طعام أحمسى، على نحو ما ذكرت قبل قليل. وما ذكر من ان قوماً كانوا. قد حرًموا على أنفسهم ما يخرج من الشاة لبنها وسمنها ولحمها، اذا حجوا أو اعتمروا. كما نزل بوجوب ستر العورة ولبس الإحرام في الحج، وذلك بالنسبة إلى المحلّين، وأغلبهم من الأعراب ومن الفقراء، حيث كانوا يطوفون عراة، وفي ضمنهم النساء. فنزل الوحي به: ) يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، انه لا يحب المسرفين(. ونهوا عن ذلكْ. وذكر عن أبي هريرة انه قال: " بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول اللّه، صلى الله عليه وسلم، قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر، لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ".

كما نزل الوحي بجواز دخول الحجاج بيوتهم وخيامهم وما يأوون اليه من بيوتها، من أبوابها، لا كما كان يفعل بعضهم في الجاهلية وفي أول الإسلام، من انه اذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه، فإن كان من أهل المدن نقب نقباً في ظهر بيته منه يدخل ويخرج أو يتخذ سلماً فيصعد فيه،وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يدخل من الباب حتى يحل من احرامه ويرون ذلك ذماً، إلا ان يكون من الحمس. وهم: قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخثعم وبنو عامر بن صعصعة، وبنو النضر بن معاوية. نزل الوحي بذلك في الاية: )وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، و لكن البر من اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها، و اتقوا الله لعلكم تفلحون(.

وقد ذهب بعض أهل الأخبار والسير إلى ان الآية المذكورة، نزلت في أمر الحمس،" لأن الحمس لا يدخلون تحت سقف ولا يحول بينهم وبين السماء عتبة باب ولا غيرها، فان احتاج أحدهم الى حاجة في داره تسنم البيت من ظهره، ولم يدخل من الباب". وذهب المفسرون إلى انها نزلت في الأنصار، فقد كانوا اذا حجّوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل فدخل من قبل بابه، فكأنه عير بذلك، فنزلت هذه الآية. وورد: "كانت قريش تدعى الحمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الاحرام،وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الاحرام، فبينما رسول الله، صلى اللّه عليه وسلم، في بستان، إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله: إن قطبة بن عامر رجل فاجر، وانه خرج معك من الباب فقال له: ما حملك على ما صنعت ? قال: فإنّ ديني دينك ! فأنزل الله: )وليس البر بأن تاًتوا البيوت من ظهورها (. وقد أغفلت بعض الروايات اسم من كان لا يدخل البيوت من أبوابها، بأن قالت: " كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرونه براً "، أو "، كانوا في الجاهلية اذا أحرموا أتوا البيوت من ظهورها، ولم يأتوا من أبوابها"، أو " إن ناساً كانوا اذا أحرموا لم يدخلوا حائطا من بابه ولا داراً من بابها أو بيتاً"، أو " كان ناس من أهل الحجاز، اذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوها من ظهورها "، وذكر ان من كان يفعل ذلك، فانما يفعله،لأنهم كانوا يتحرجون من ان يكون بينهم وبين السماء حائل.

وقد جعل "اليعقوبي" العرب في الجاهلية على دينين: دين الحمس ودين الحلة. وذلك بالنسبة للمشركين. وذكَر ان منهم من دخل في دين اليهودية وفي النصرانية، ومنهم من تزندق وقال بالثنوية، وبهذه الفرق حصر "اليعقوبي" أديان أهل الجاهلية. إذ قال: " فهاتان الشريعتان اللتان كانت العرب عليهما. ثم دخل قوم من العرب في دين اليهود، وفارقوا هذا الدين. ودخل آخرون في النصرانية، وتزندق منهم قوم، فقالوا بالثنوية".

والتعميم الذي يطلقه "اليعقوبي" وبقية المؤرخين والأخباريين في قولهم "وكانت العرب في أديانهم"، لا يمكن التسليم به، إلا بالنسبة لأهل مكة ولمن كان يقصدهم من العرب. أما بالنسبة لجميع العرب، فهذا ما لا يمكن التسليم به.

وأما "الطلس"، فقد وصفهم "محمد بن حبيب" بقوله إنهم: "بين الحلة والحمس: يصنعون في إحرامهم ما يصنع الحلة، ويصنعون في ثيابهم ودخولهم البيت ما يصنع الحمس. وكانوا لا يتعرون حول الكعبة، ولا يستعيرون ثياياً، وبدخلون البيت من أبوابها، وكانوا. لا يثدون بناتهم، وكانوا يقفون مع الحلة ويصنعون ما يصنعون". وهم سائر أهل اليمن، وأهل حضرموت، وعك وعجيب، وإياد بن نزار.

وذكر ان من الحجاج من كان يحج بغير زاد، وان منهم من كان اذا أحرم رمى بما معه من الزاد، واستأنف غيره من الأزودة، وان "قبائل من العرب يرمون الزاد اذا خرجوا حجاجاً وعمّاراً، فنزل الوحي: "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، فأمر من لم يكن يتزود منهم بالتزود لسفره، ومن كان منهم ذا زاد ان يتحفظ بزاده فلا يرمي به. وقد عرف هؤلاء ب "المتوكلة"، لتوكلهم على "رب البيت" في اطعام أنفسهم، واعتمادهم في ذلك على السؤال.

وقد ذكر علماء التفسير ان الآية: )وتزودوا فإن خير الزاد التقوى( نزلت "في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالزاد. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في مسيره راحلة عليها زاد، وقدم عليه ثلثمائة رجل من مزينة، فلما أرادوا ان ينصرفوا قال: يا عمر زوّد القوم..... كما روى البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس".

ويظهر مما تقدم ان "المتوكلة" لم يكونوا جميعاً من الفقراء المحتاجين، بل كان منهم قوم أغنياء فضل الله عليهم، بدليل انهم كانوا اذا حجوّا رموا زادهم، أو أعطوه للمحتاج اليه، يفعلون ذلك ديانة وتقرباً الى الله، كما فعل "المتوكلة" من بعدهم في الإسلام. فهم اذن طائفة من الطوائف الجاهلية المتدينة، ترى ان التقشف في الحج، يزيد في ثوابه، ويقرب أصحابه الى رب البيت.

ويريد أهل الأخبار بالثياب "الإحرام" على ما يظهر. وهو قديم وقد عرف عند غير العرب أيضاً. وهو محاكاة لملابس رجال الدين الذين يخدمون المعابد، ويتقربون إلى الآلهة. وهو يتكون من قطعتين من: إزار ومن وشاح. ويكون أبيض اللون. واللون الأبيض من الألوان التي تعبر عن معان دينية. فقد كان رجال الدين والكهنة يلبسون الثياب البيض. كما انه شعار الحزن عند بعض الشعوب، وفي جملتهم عرب الحجاز. ويظهر ان أهل مكة وهم قريش، كانوا يلبسون الإحرام، أو يكرهونه لغيرهم من العرب أو يعيرونه لهم إن كانوا من حلفائهم، فيحرمون كإحرام قريش. أما من لم يتمكن من الحصول على الإحرام، فقد كان يضطر بحكم الضرورة إلى الطواف عرياناً على نحو ما يقصه علينا أهل الأخبار.

أما بالنسبة إلى أهل العربية الجنوبية من معينيين وسبئيين وقتبانيين وحضرميين، فإننا لا نستطيع ان نتحدث عن سنة الطواف حول المعابد عندهم، لعدم ورود شيء عن ذلك في النصوص الواصلة إلينا. ولكني لا أستبعد احتمال طوافهم حول بيوت أصنامهم على نحو ما كان يفعله أهل الحجاز، لأن الطواف حول بيوت الأصنام أو حول الصنم من السنن الشائعة بين العرب وعند جماعات من بني إرم والنبط.

التلبية

وذكر "محمد بن حبيب" ان طواف أهل الجاهلية بالبيت اسبوعاً، وذكر انهم كانوا يمسحون الحجر الأسود، ويسعون بين الصفا والمروة. وكانوا يلبّون. وذكر ان نسك قريش كان لإساف.، وان تلبيتهم: " لبيك اللهم لبيك،لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك ". وان تلبية من نسك للعزى: " لبيك اللهم لبيك، لبيلك وسعديك، ما أحبنا اليك ". وان تلبية من نسك للات: " لبيك اللهم لبيك، لبيك، كفى ببيتنا بنية،ليس بمهجور ولا بلية، لكنه من تربة زكية أربابه من صالحي إلبرية ". وكانت تلبية من نسك لجهار: " لبيك، اللهم لبيك. لبيك، اجعل ذنوبنا جبار،واهدنا لأوضح المنار، ومتعنا وملنا بجهار". وكانت تلبية من نسك لشمس: "لبيك، اللهم لبيك، لبيك، ما نهارنا نجره، ادلاجه وحره و قره، لا نتقي شيئاً ولا نضره، حجاً لرب مستقيم بره "، وكانت تلبية من نسك لمحرق: "لبيك، اللهم لبيك، لبيك حجاً حقاً، تعبداً ورقا "، وكانت تلبية من نسك لود":"لبيك اللهم لبيك، لبيك، معذرة اليك ". وكانت تلبية من نسك ذا الخلصة: "لبيك، اللهم لبيك، لبيك، بما هو أحب اليك ". وكانت تلبية من نسك لمنطبق: " لبيك، اللهم لبيك، لبيك ". وتلبيةعك، أنهم كَانوا اذا بلغوا مكة، يبعثون غلامين أسودين أمامهم، يسيران على جمل " مملوكين،قد جردا، فهما عريانان، فلا يزيدان على ان يقولا: " نحن غرابا عك ". واذا نادى الغلامان بذلك صاح من خلفهما من عك: "عك اليك عانية، عبادك اليمانية، كيما نحج الثانية، على الشداد الناجية ".

وكانت تلبية من نسك مناة: " لبيك اللهم لبيك، لبيك، لولا ان بكراً دونك يبرك الناس ويهجرونك، ما زال حج عثج يأتونك، إنا على عدوائهم من دونك"، وتلبية من نسك لسعيدة: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لبيك، لم ناًتك للمياحة، و.لا طلباً للرقاحة، ولكن جئناك، للنصاحة ".. وكانت تلبية من نسك ليعوق: " لبيك اللهم لبيك، لبيك، بغض إلينا الشر،وحبب إلينا الخير، ولا تبطرنا فنأشر، ولا تفدحنا بعثار ". وكانت تلبية من نسك ليغوث:" لبيك، اللهم لبيك، لبيك، أحبنا بما لديك، فنحن عبادك، قد صرنا اليك ". وكانت تلبية من نسك لنسر: "اللهم لبيك، اللهم لبيك، لبيك، اننا عبيد، وكلنا ميسرة عتيد، وأنت ربنا الحميد، اردد إلينا مُلكنا والصيد". وكانت تلبية من نسك ذا اللبا: " لبيك اللهم، لبيك، لبيك، رب فاصرفن عنّا مضر، وسلّمن لنا هذا السفر، إن عما فيهم لمزدجر، واكفنا اللهم أرباب هجر ". وكانت تلبية من نسك لمرحب: " لبيك اللهم لبيك، لبيك، اننا لديك. لبيك، حببنا اليك". وكانت تلبية من نسك لذريح: " لبيك، اللهم لبيك، لبيك، كلنا كنود، وكلنا لنعمة جحود، فاكفنا كل حية رصود ". وكانت تلبية من نسك ذا الكفين: " لبيك، اللهم لبيك، لبيك، إن جرهماً عبادك، الناسُ طرف وهم تلادك، ونحن أولى منهم بولائك ". وتلبية من نسك هبل: " لبيك اللهم لبيك، اننا لقاح، حرمتنا على أسنة الرماح، يحسدنا الناس على النجاح".

وقد تعرض "اليعقوبي" لموضوع التلبية، فقال: " فكانت العرب، اذا أرادت حج البيت الحرام، وقفت كل قبيلة عند صنمها وصلوا عنده، ثم تلبوا حتى يقدموا مكة، فكانت تلبياتهم مختلفة. وكانت تلبية قريش: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، تملكه وما ملك. وكانت تلبية كنانة: لبيك اللهم لبيك، اليوم يوم التعريف، يوم الدعاء والوقوف. وكانت تلبية بني أسد: لبيك اللهم لبيك، يا رب أقبلت بنو أسد، أهل التواني والوفاء والجلد اليك. وكانت تلبية بني تميم: لبيك اللهم لبيك، لبيك عن تميم، قد تراها قد أخلقت أثوابها وأثواب من وراءها، وأخلصت لربها دعاءها. وكانت تليية قيس عيلان: لبيك اللهم لبيك، لبيك أنت الرحمان، أتتك قيس عيلان، راجلها والركبان. وكانت تلبية ثقيف: لبيك اللهم إن ثقيفاً قد أتوك، وأخلفوا المال وقد رجوك. وكانت تلبية هذيل: لبيك عن هذيل قد أدلجوا بليل، في إبل وخيل. وكانت تلبية ربيعة: لبيك ربنا لبيك، لبيك إن قصدنا اليك. وبعضهم يقول: لبيك عن ربيعة، سامعة لربها مطيعة. وكانت حمير وهمدان يقولون: لبيك عن حمير وهمدان والحليفين من حاشد والهان. وكانت تلبية الأزد: لبيك رب الأرباب، تعلم فصل الخطاب، لملك كل مثاب. وكانت تلبية مذحج: لبيك رب الشعرى، ورب اللات والعزى. وكانت تلبية كندة وحضرموت: لبيك لا شريك لك، تملكه، أو تهلكه،أنت حكيم فاتركه. وكانت تلبية غسان: لبيك رب غسان، راجلها والفرسان. وكانت تلبية بجيلة: لببك عن بجيلة في بارق ومخيلة، وكانت تلبية قضاعة: لبيك من قضاعة، لربها دفاعة، سمعاً وطاعة. وكانت تلبية جذام: لبيك من جذام، ذوي النهي والأحلام، وكانت تلبية عك والأشعريبن: نحج للرحمان بيتاً عجبا  مستتراً مضبباً محجبا

و "التلبية" اجابة المنادي، أي اجابة الملبي ربه. وقولهم: لبيك آللهم لبيك، معناه اجابتي لك يا رب، واخلاصي لك. وقد كان الجاهليون يلبون لأصنامهم تلبيات مختلفة. وقد ذكر "أبو العلاء المعري"، ان تلبيات العرب جاءت طما ثلاثة أنواع: مسجوع لا وزن له، ومنهوك، ومشطور. فالمسجوع كقولهم: لبيك ربنا لـبـيك  والخير كله بيديك 

والمنهوك على نوعين: أحدهما من الرجز، والآخر من المنسرح. فالذي من الرجز كقولهم: لبيك إنّ الحمد لـك  والملك لاشريك لك 

إلا شريك هـولـك  تملكه وما مـلـك

أبو بنات بفدك و كقو لهم: لبيك يامعطي الأمـر  لبيك عن بني النمـر

جئناك في العام الزمر  نأمل غيثاً ينهـمـر

يطرقُ بالسيل الخَمر والذي من المنسرح جنسان: أجدها في آخره ساكنان كقولهم: لبيك رب هـمـدان  من شاحط ومن دان

جئناك نبغي الإحسان  بكل حرف مذعان 

نطوي اليك الغيطان  ناًمل فضل الغفران

والآخر لا يجتمع فيه ساكنان كقولهم: لبيك عن بجيله  الفخمة الرجيله 

ونعمت القبيلـه  جاءتك بالوسيله 

تؤمل الفضيله وربما جاءوا على قوافٍ مختلفه، من ذلك تليبة بكر بن وائل: لبيك حقاً حقـا  تعبـداً ورقـا

جئناك للنصاحة  لم نأت للرقاحه 

وروي في تلبية "تميم" قولها: لبيك لولا أن بكراً دونكـا  يشكرك الناس ويكفرونكا 

ما زال منا عثج يأتونكا ورووا أن من تلبيات همدان: لبيك مع كـل قـبـيل لـبـيك  همدان أبناء الملوك تـدعـوك

قد تركوا أصنامهم وانتـابـوك  فاسمع دعاءً في جميع الأملوك 

ومن تلبياتهم قولهم: لبيك عن سعد وعن بنيها  وعن نساء خلفها تعنيها

سارت إلى الرحمة تجتنيها وختم "أبو العلاء المعريَ" رأيه عن التلبية بقوله: "والموزون من التلبية، يجب أن يكون كله من الرجز عند العرب، ولم تأت التلبية بالقصيد. ولعلهم قد لبّوا به ولم تنقله الرواة ".

والتلبية هي من الشعائر الدينية التي أبقاها الإسلام، غير أنه غير صيغتها القديمة بما يتفق مع عقيدة التوحيد. فصارت على هذا النحو: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك،، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك". كما جعلها جزاً من حج مكة، بعد أن كانت تتم خارج مكة، إذ كانت كل قبيلة تقف عند صنمها، وتصلي عنده ثم تلبي، قبل أن تقدم مكة. وذلك بالنسبة لمن كان يحج مكة. فاًبطل ذلك الإسلام، وألغى ما كان من ذلك من حج أهل الجاهلية. وقد رأينا صيغ التلبيات، وكيف كانت تلبيات القبائل خاصة بها، تلبى كل قبيلة لصنمها، وتوجه نداءها اليه.

وتردد جمل التلبية بصوت مرتفع، ولعل ذلك لاعتقاد الجاهلين أن في رفع الصوت إفهاماً للصنم الذي يطافْ له بأن الطائف قد لبى داعيه، وأنه استجاب أمره وحرص على طاعته. وقد أشار بعض الكتاب "الكلاسيكيين" إلى الصخب والضجيج الذي كان يرتفع في مواضع الحج بسبب هذه التلبية.

وهناك مواضع أخرى غير متصلة بالبيت الحرام، كانت مقدسة وداخلة في شعائر الحج، منها عرفة ومنى والمزدلفة والصفا والمروة، ومواضع أخرى كان يقصدها الجاهليون لقدسيتها أو لوجود صنم بها، ثم حرمها الإسلام، فنسيت وأهملت فذهبت معالمها مع ما ذهب من معالم الجاهليين.

وتقف الحمس في حجها على أنصاب الحرم من نمرة على نحو ما ذكرت أما الحلة والطلس، أي غير الحمس من بقية العرب فيقفون على الموقف من عرفة، عشية يوم "عرفة". فإذا دفع الناس من عرفة وأفاضوا أفاضت الحمس من أنصاب الحرم حتى يلتقوا بمزدلفة جميعاً. وكانوا يدفعون من عرفة اذا طفلت الشمس للغروب وكانت على رؤؤس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم. فيبيتون بمزدلفة حتى اذا كانت في الغلس وقفت الحلة والحمس على "قزح"، فلا يزالون عليه حتى اذا طلعت الشمس وصارت على رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم دفعوا من مزدلفة، وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير.

ومن مناسك الحج الطواف بالصفا والمروة، وعليها صنمان: اساف ونائلة: وكان الجاهليون يمسحونهما. وكان طوافهم بهما قدر طوافهم بالبيت، اي سبعة أشواط. تقوم بذلك قريش، أما غيرهم فلا يطوفون بهما، وذلك على أغلب الروايات. ويظهر ان الصفا والمروة من المواضع التي كان لها أثر خطير في عبادة أهل مكة. ففي حج أهل مكة طوافان: طواف بالبيت، وطواف بالصفا والمرو ة.

بين الصفا والمروة يكون "السعي" في الإسلام، ولذلك يقال للمسافة بين المكانين "المسعى". وكان إساف بالصفا، وأما نائلة فكان بالمروة. ولا بد ان يكون لاقتران الاسمين دائماً سبب، و "المسعى" هو الرابط المقدس بين هذين الموضعين المقدسين عند الجاهليين.

وكان أهلّ مكة يتبركون بلمس الحجر الأسود، ثم يسعون بين الصفا والمروة. ويطوفون بإساف أولاً ويلمسونه، كل شوط من الطواف ثم ينتهون بنائلة. ويلبّون لهما: وكانت تلبيتهم لهما: " لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه و ما ملك". وذكر أن "الأنصار"، لما قدموا مع النبي في الحج، كرهوا الطواف بين الصفا والمروة لأنهما كانا من مشاعر قريش في الجاهلية، وأرادوا تركه في الإسلام. وذكر أن قوماً من المسلمين قالوا: يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه شرك كنّا نصنعه في الجاهلية. فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بين الصفا والمروة مسحوا الوثنيين، فلما جاء الإسلام وكسرت الاصنام، كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فأنزل الله: )إن الصفا والمروة من شعائر الله (. ويتبين من غربلة الأخبار أن الذين كانوا يطوفون بالصنمين المذكورين ويسعون بينهما. هم من عبّاد الصنمين وهم قريش خاصة، وليس كل من كان يحج إلى مكة من العرب، ولذلك كرهوا الطواف في الإسلام بالصفا والمروة. وقد استبدل الإسلام بالطواف السعي، لهدم الصنمين اللذين كان الناس يطوفون حولهما واكتفى بالسعي بين الموضعين.

وذكر بعض العلماء أن العرب عامة كانوا لا يرون الصفا والمروة من الشعائر ولا يطوفون بينهما فأنزل الله: ) إن الصفا والمروة من شعائر الله(، أي لا تستحلون ترك ذلك. وذكر أن الأنصار كانوا يهلون لمناة في الجاهلية، فلما جاء الإسلام قالوا: يا نبي الله إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما، فأنزل الله الآية المذكورة. وكان أهل "تهامة" ممن لا يطوفون أيضاً بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام ونزل الأمر بالطواف بالبيت، ولم ينزل بالطواف بين الصفا والمروة، قيل للنبي.: انا كنا نطوف في الجاهلبة بين الصفا والمروة وان الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بين الصفا والمروة فهل علينا من جناح أن لا نطوف بهما. فنزل الوحي: ) ان الصفا والمروة من شعائر الله (، فصار الطواف بين الصفا والمروة لجميع الحجاج، لا كما كان في عهد الجاهلية. من اقتصاره على قريش وبعض العرب المتأثرين بهم. فكانوا يطوفون بهما ويمسحون بالوثنين إساف ونائلة، فما جاء الإسلام تحرج يعض الناس وفيهم قوم من قريش من الطواف بينهما لأنهما من شعائر الجاهلية، فنزل الأمر به.

وذكر أهل الأخبار ان السعي ببن الصفا والمروة،شعار قديم من عهد هاجر أم اسماعيل. وأما رمل الطواف، فهو الذي أمر به النبي، أصحابه في عمرة القضاء ليرُي المشركين قوتهم، حيث قالوا: وهنتهم حمى يثرب.

وورد في خبر عن "عائشة" انها قالت: " إن الأنصار كانوا يهلّون في الجاهلية لصنمين على شط البحر، يقال لهما: إساف ونائلة، ثم يجيئون،فيطوفون بين الصفا والمروة ثم يحلقون، فلما جاء الإسلام، كرهوا ان يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل: إن الصفا والمروة من شعائر الله إلى آخرها. قالت: فطافوا ". وهو خبر يناقض أخباراً أخرى يتصل سندها ب "عانشة"، تجمع على انها قالت: إن الأنصار أو الأنصار وغسان كانوا قبل ان يسلموا يصلّون لمناة، فلا يحل لهم ان يطوّفوا بن الصفا والمروة، وكان ذلك سنة في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة، ولم أجد في خبر آخر شيئاً يفيد أن إسافاً ونائلة كانا على ساحل البحر.

و "السعي" في الإسلام سبعة أشواط، تبدأ بالصفا، وتختتم بالمروة. وعندما يصل الحاج حد "السعي" يسعى ويهرول، فإذا جاز الحد مشى. وكان الجاهليون يبدأون ب "الصفا" وينتهون ب "المروة." كذلك.

ومن مناسك حج أهل الجاهلية الوقوف ب "عرفة"، ويكون ذلك في التاسع من ذي الحجة ويسمى "يوم عرفة". ومن "عرفة" تكون "الإجازة" للافاضة إلى "المزدلفة". ومن "المزدلفة" إلى "منى". وقد كان الجاهليون من غير قريش يفيضون في عرفة عند غروب الشمس، وأما في المزدلفة فعند شروقها. وكان الذي يتولى الإجازة رجلاً من تميم يقال له "صوفة "، ثم انتقلت إلى "صفوان" من تميم كذلك. ولم يكن "الحمس" يحضرون عرفة، وإنما يقفون بالمزدلفة، وكان سائر الناس يقف بعرفة. ولما رأى أحد الصحابة رسول الله واقفاً بعرفة عجب من شأنه وأنكر منه ما رأى لأنه من الحمس، وما كان يظن أنه يخالف قومه في ذلك، فيساوي نفسه بسائر الناس. فأنزل الله: ) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله إن اللّه غفور رحيم (، فشمل ذلك الحمس وغيرهم. فاًخذوا يقفون كلهم موقف عرفة، ووضع عن قريش ما فعلوه من تمييز أنفسهم عن الناس.

وورد في روايات أخرى، أن قريشاً وكل حليف لهم وبني أخت لهم، لا يفيضون من عرفات، إنما يفيضون من المغمس، وورد أن قريشاً وكل ابن أخت وحليف لهم، لا يفيضون مع الناس من عرفات، يقفون في الحرم ولا يخرجون منه. يقولون: إنما نحن أهل حرم الله، فلا نخرج من حرمه، وأنهم -قالوا "نحن بنو ابراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت، وقاطنوا مكة وساكنوها، فليس، لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلنا، ولا تعرف له العرب مثل ما نعرف لنا، فلا تعظموا شيئاً من الحل، كما تعظمون الحرم. فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم، وقالوا: قد عظموا. من الحل مثل ما عظموا من الحرم فتركوا الوقوف على عرفة والافاضة منها ".

وذكر أن قريشاً ومن دان بدينها تفيض من "جمع" من المشعر الحرام. و "جمع" المزدلفة.

و "عرفة" أو "عرفات" موضع على مسافة غير بعيدة عن مكة. لابد وان يكون من المواضع التي كان يقدسها أهل الجاهلية، وان يكون له ارتباط بصنم من الأصنام، وإلا لما صار جزءاً من أجزاء مناسك الحج وشعائره عند الجاهليين. ويقف الحجاج موقف عرفة من الظهر إلى وقت الغروب. وقد يكون لموقف الجاهليين في عرفة وقت الغروب علاقة بعبادة الشمس. فإذا غربت الشمس اتجه الحجاج إلى "المزدلفة".

الإفاضة

ومن "عرفة" تكون الإفاضة إلى "إلمزدلفة". و "المزَ دلفة"، موضع يكاد يكون على منتصف الطربق بين "عرفة" و "منى". وفيه يمضي الحجاج ليلتهم، ليلة العاشر من "ذي إلحجة". ومنه تكون الإفاضة عند الشروق إلى "منى". وقد نعت ب "المشعر الحرام" في القرآن الكريم. ويذكر أهل الأخبار ان "قصي بن كلاب"، كان قد أوقد ناراً على "المزدلفة" حتى يراها من دفع من عرفة، وان العرب سارت على سنته هذه. وبقيت توقدها حتى في الإسلام. ولا بد وان يكون من المواضع الجاهلية المقدسة كذلك، التي كَان لها صلة با الأصنام. وقد ذكر علماء اللغة اسم جبل بالمزدلفة دعوه "قزحاً"، قالوا انه "هو القرن الذي يقف عنده الإمام"، وذكروا ان "قزح" اسم شيطان. ونحن نعرف اسم صنم يقال له "قزاح"، قد تكون له صلة بهذا الموضع.

ويفيض الحجاج في الجاهلية عند طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة من "المزدلفة" إلى "منى"، لرمي الجمرات ولنحر الأضحية. و"منى" موضع لا يبعد كثيراً عن مكة. ولعلماء اللغة آراء في سبب التسمية، من جملتها انها عرفت بذلك لما يمنى بها من الدماءْ.وذكر بعض أهل الأخبار ان "عمرو بن لحي" نصب بمنى سبعة أصنام، نصب على "القرين" القرن الذي بين مسجد منى والجمرة الأولى صنماً، ونصب على الجمرة الأولى صنماً، وعلى الجمرة الوسطى صنمأً، وعلى شفير الوادي صنماً. ولا بد أن يكون لهذا الموضوع صلة بالأصنام، نظراً لما له من علاقة متينة بمناسك الحج. وقد يكون لرمي الجمرات ولنحر الذبائح صلة بتلك الأصنام.

وقد ذكر العلماء "أن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس،ويقولون: أشرق ثبير"، وأن النبي خالفهم، فأفاض حين أسفر قبل طلوع الشمس". وفي فعل المشركين ذلك، ووقوفهم انتظاراَ للافاضة عند طلوع الشمس، دلالة على عبادة الشمس عندهم، ولهذا غيرَّ الرسول هذا الوقت.

و "رمي الجمرات" بمنى من مناسك الحج وشعائره. وهو من شعائر الحج كذلك المعروفة في المحجات الأخرى من جزيرة العرب. كما كان معروفاً عند غير العرب أيضاً. وقد أشر اليه في التوراة. وهو معروف عند "بني إرم". وكلمة "رجم" من الكلمات السامية القديمة. وقد وردت في حديث "عبد الله ابن "مغفل": لا ترجموا قبري، أي لا تجعلوا عليه الرجم، وهي الحجارة، على طريقة أهل الجاهلية، ولا تجعلوه مسنمّاً مرتفعاًْ. وقد فعله أهل الجاهلية على سبيل، التقدير والتعظيم. فكان أحدهم إذا مرّ بقبر، وأراد تقدير صاحبه وتعظيمه وضع رجمة أو رجاماً عليه.

" والجمرات"، أي مواضع "رمي الجمرات" عديدة عند الجاهليين، يطاف حولها " ويحج اليها منها مواضع أصنام، وأماكن مقدسة، ومنها قبور أجداد. وقد ورد قسم بها في بيت ينسب إلى شاعر جاهلي. وترمى الجمرات على مكَان عرف ب "جمرة العقبة" وب "الجمار" وب "موضع الجمار" وهو ب" منى"، وتتجمع وتتكوم عنده الحصى. وهي جمرات ثلاث: الجمرة الأولى، والجمرة الوسطى، وجمرة العقبة.

ويرجع أهل الأخبار مبدأ رمي الجمرات إلى "عمرو بن لحي".يذكرون انه جاء بسبعة أصنام فنصبها ب "متى"، عند مواضع الحجرات، وعلى شفير الوادي، ومواضع أخرى، وقسم عليها حصى الجمار، احدى وعشرين حصاة، يرمي كل منها بثلاث جمرات، ويقال للوثن حين يرمى: أنت أكبر من فلان الصنم الذي يرمى قبله.

وكانت إفاضة الجاهليين على هذا النحو: كان أمر الإفاضة بيد رجل من أسرة تناوبت هذا العمل أباً عن جد. وقد اشتهر منهم رجل عرف ب "عميلة ابن خالد العدواني"، واشتهر بين الناس ب "أبي سيارة". كان يجيز الناس من المزدلفة إلى منى أربعين سنة. يركب حماراَ أسود، وينظر الى أعالي جبل "ثبير"، فإذا شاهد عليها أشعة الشمس الأولى نادى: أشرق ثبير،كيما نغير ! ثم يجيز لهم بالإفاضة وفيه يقول الشاعر: خلّوا الطريق عن أبي سياّره  وعن مواليه بني فزاره

حتى يجيز سالماً حمـاره  مستقبل القبلة يدعو جاره 

فقد أجار اللّه من أجاره وضرب به المثل، فقيل: أصح من عير أبي سّيارة.

وذكر "الجاحظ" أن اسم "أبي سيّارة" "عميلة بن أعزل"، دفع بأهل الموسم أربعين عاماً، ولم يكن عيرع عيراً وإنما كان أتاناً، ولا يعرفون حماراً وحشياً عاش وعمّر أطول من عير "أبي سيارة" وورد أن الذين كان لهم أمر الإجازة بالحجاج،وهي الإفاضة، هم "صوفة". وهم حيً من مضر من نسل "الغوث بن مر بن اد بن طابخة بن الياس بن مضر"، وقد سمّوا "صوفة" و "آ ل صوفة"، لأن "الغوث" أبوهم جعلت أمه في رأسه صوفة وجعلته ربيطاً للكعبة يخدمها. وكانوا يخدمون الكعبة ويجيزون الحاج، أي يفيضون بهم، فيكونون أول من يدفع. وكان أحدهم يقوم فيقول: أجيزي صوفة، فإذا أجازت، قال: أجيزي خندف، فإذا أجازت أذن للناس كلهم في الإجازة. وكانت الاجازة بالحج اليهم في الجاهلية. وكانت العرب إذا حجت وحضرت عرفة لا تدفع منها حى تدفع بها صوفة، وكذلك لا ينفرون من "منى" حتى تنفر "صوفة"، فإذا أبطأت بهم، قالوا: أجيزي صوفة. وورد أن "صوفة" قوم من "بني سعد بن زيد مناة" من تميم.

ويفهم من رواية أن كلمة "صوفة" لم تكن اسم علم، وإنما هي لفظة أطلقت على من كان يتولى البيت أو قام بشي، من خدمته، أو بشئ من أمر المناسك. فهم من رجال الدين، تخصصوا بالإجازة بالناس في مواسم الحج. ولعلهم كانوا يضعون على رأسهم صوفة على هيأة عمامة أو عصابة، أو عطر، لتكون علامة على أنهم من أهل بيت دين وشرف. فعرفوا ب "صوفة" وب "آل صوفة" وب "صوفان". وفي ذلك قال "مرة بن خليف الفهمي"، وهو شاعر جاهلي قديم: إذا ما أجازت صوفة النقب من منى  ولاح قتار فوقـه سـفـع الـدم

و "يظهر" من الروايات الواردة عن "ثبير"، أنه كان من المواضع المقدسة عند الجاهليين،أو أن على قمته صنماً أو ببتاً كانوا يصعدون اليه لزيارته وللتبرك به. ومن الشعائر المتعلقة بمنى نحر الذبائح، وهي الأضحية في الإسلام و "العتائر"في الجاهلية. ولذلك عرف هذا العيد: عيد الحج ب "عيد الأضحى". وعرف اليوم الذي تضحى به الأضحية ب "يوم النحر" وب "الأضحى" وب "يوم الأضحى". وكانوا ينحرونها على الأنصاب وعلى مقربة من الأصنام، فتوزع على الحاضرين ليأكلوها جماعة أو تعطى للافراد. وقد تترك لكواسر الجو وضواري البر فلا "يصد عنها انسان ولا سبع". وتبلغ ذروة الحج عند تقديم العتائر، لأنها أسمى مظاهر العبادة في الأديان القديمة.

وكان إلجاهليون يقلدون هديهم بقلادة، أو بنعلين، يعلقان على رقبتي الهدي، اشعاراً للناس باْن الحيوان هو هدي، فلا يجوز الاعتداء عليه،كما كانوا يشعرونه. والإشعار الإعلام. وهو ان يشق جلد البدنة أو يطعن في اسنمها في أحد الجانبين بمبضع أو نحوه، وقيل في سنامها الأيمن حتى يظهر الدم ويعرف انها هدي. والشعيرة البدنة المهداة.

وكان بعض أهل الجاهلية، يسلخون جلود الهدي، ليأخذوها معهم. ويتفق هذا مع لفظة "تشريق" التي تعني تقديد اللحم. ومنه سميت ايام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها، أي تشرّر في الشمس. وقيل سمي التشريق تشريقاً، لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس. ويظهر ان الجاهليين كانوا ينحرون قبيل شروق الشمس وعند شروقها، بدليل ما ورد في الحديث من النهي عن ذلك. ومن حديث: من ذبح قبل التشريق فليعد. أي قبل أن يصلي صلاة العيد، وهو من شروق الشمس واشراقها، لأن ذلك من وقتهاْ.

ولا يحل للحجاج في الجاهلية حلق شعورهم أو تقصيرها طيلة حجهم، وإلاّ بطل حجتهم. ويلاحظ أن غير العرب من الساميين كانوا لا يسمحون بقص الشعر في مثل هذه المناسبات الدينية أيضاً، لما للشعر من أهمية خاصة في الطقوس الدينية عندهم، ولا سيما اللحية لما لها من علاقة بالدين. ولهذا نجد رجال الدين والزهاد والأتقياء. الورعين يحافظون عليها ويعتيرونها مظهراً من مظاهر التدين.

وقد كانت القبائل لا تحلق شعورها في مواسم حجها إلا عند أصنامها، فكان الأوس إذا حجوا وقفوا مع الناس المواقف كلها ولا يحلقون رؤوسهم، فإذا نفروا أتوا صنمهم مناة فحلقوا رؤوسهم عنده، وأقاموا لا يرون لحجّهم تماماً إلا بذلك. وكانت قضاعة ولخم وجذام تحج للاقيصر وتحلق عنده.

وكان من عادة بعض القبائل، مثل بعض قبائل اليمن، القاء قرة من دقيق مع الشعر. وذلك أن أهل اليمن كانوا إذا حلقوا رؤوسهم بمنى وضع كل رجل على رأسه قبضة دقيق، فإذا حلقوا رؤوسهم سقط الشعر مع ذلك الدقيق،ويجعلون ذلك الدقيق صدقة، فكان ناس من أسد وقيس يأخذون ذلك الشعر بدقيقه، فيرمون بالشعر وينتفعون بالدقيق. وفي ذلك يقول معاوبة بن أبي معاوية الجرمي: ألم ترَ جرماً أنـجـدت وأبـوكـم  مع الشعر في قص الملبد شـارع

إذا قرة جاءت تقول أصـب بـهـا  سوى القمل إني من هوازن ضارع 

وكان من يقصد العزى يذبح عند شجرة هناك ثم يدعون، وكان من يقصد مناة يهدي لها كما كان غيرهم يهدي للكعبة ويطوفون بها ثم ينحرون عندها، وكان عبدة ذي الخلصة في أسفل مكة يذبحون عنده كذلك. وكذلك كانت بقية القبائل تطوف في أعيادها. حول أصنامها، وتهدى اليها، ثم تنحر عندها عند اكمالها هذه الشعائر دلالة على اكمالها شعائر الحج الى هذه المواضع وانتهائها منها على أحسن وجه.

وتميز الحيوانات التي يهيئها أصحابها أو مشتروها للذبح في الحح بعلامات، بأن توضع عليها قلائد تجعلها معروفة، أو ان يحدث لها جرح يسيل منه الدم ليكون ذلك علامة انها هدي. ويقال لذلك إشعار، ومنه إشعار البدن، وهو ان يشق أحد نجبي سنام البدنة حتى يسيل منه الدم ليكون ذلك علامة الهدي. وقد كان من أهل مكة من يتخذ من لحاء شجر الحرم قلادة يضعها في عنق البدن، لتكون دلالة على إنها هدي، فلا يعترضها أحد.

ويجوز للحجاج مغادرة "منى" في اليوم العاشر من ذي الحجة، أي في اليوم الأول من العيد، ففي هذا اليوم يكمل الحجاج حجهم، ولكن منهم من يمكث في هذا الموضع حتى اليوم الثالث عشر، وذلك ابتهاجاً بأيام العيد، ومشاركة لإخوانه فيه. ويقال لذلك "التشريق". وأيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر.

وكان أهل الجاهلية اذا قضوا مناسكهم وفرغوا من الحج، وذبحوا نسائهم، يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فيقول بعضهم لبعض: كان أبي يطعم الطعام، ويقول بعضهم: كان أبي يضرب بالسيف، ويقول بعضهم: كان أبي جزّ نواصي بني فلان. يقولون ذلك عند "الجمرة"، أو عند البيت، فيخطب خطيبهم ويحدث محدثهم. أو انهم كانوا اذا قضوا مناسكهم وأقاموا بمنى قعدوا حلفاً، فذكروا صنيع آبائهم في الجاهلية وفعالهم به، يقوم الرجل، فيقول: اللهم ان أبي كان عظيم الجفنة عظيم القبّة كثير المال، وما شاكل ذلك، فنزل الوحي: "فإذا قضيتم مناسككم، فإذ ذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً".

وكانوا إذا خرج أحدهم من بيته يريد الحج، تقلد قلادة من لحاء السمر، دلالة على ذهابهم إلى الحج، في أمن حتى يأتي أهله. وذكر انه كان يقلد نفسه وناقته، فإذا أراد العودة عادوا مقلدين بلحاء السمر. وروي أنهم إذا أرادوا الحج مقبلين إلى مكة يتقلدون من لحاء السمر، وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها، تقلدوا قلادة شعر فلا يعرض لهم أحد بسوء. بقي ذلك شأنهم حتى نزل الأمر بمنع دخول المشركين مكة وبوجوب قتلهم حيث وجدوا.

التجارة في الحج

قال علماء التفسير: كان متجر الناس في الجاهلية: عكاظ وذو المجاز، فكانوا إِذا أحرموا لم يتبايعوا حتى يقضوا حجهم. ويقولون أيام الحح أيام ذكر. وقالوا: "كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا ضالة ليلة النفر. وكانوا يسمونها ليلة الصدر، ولا يطلبون فيها تجارة ولا بيعاً ". وقالوا: "كان بعض الحاج يسموّن الداج. فكانوا ينزلون في الشق الأيسر من منى. وكان الحاج ينزلون عند مسجد منى، فكانوا لا يتجرون حتى نزلت ليس عليكم جناح أن تبغوا فضلاً من ربكم. هي التجارة. قال.: اتجروا في الموسم". والصدر الإفاضة. ومنه طواف الصدر. وهو طواف الإفاضة.

والداج: الأجراء والمكارون وألأعوان ونحوهم الذين مع الحاج. وذكر ان قوماً جاءوا إلى "عبد الله بن عمر"، فقالوا: " انا قوم نكرى، فيزعمون انه ليس لنا حج. قال: ألستم تحرمون كما يحرمون، وتطوفون كما يطوفون، وترمون كما يرمون ? " قالوا بلى. قال فأنتم حاج، ومن "يكرى لخدمة الحاج، فهو من الداج.

العمرة

و "العمرة" هي بمثابة "الحج الأصغر" في الإسلام، وكان أهل الجاهلية يقومون بأدائها في شهر "رجب". وللعمرة في الإسلام شعائر ومناسك، وتكون بالطواف بالبيت وبالسعي بين الصفا والمروة. ولا بد أن يكون لها عند الجاهليين شعائر ومناسك. وهي في الإسلام فردية اختيارية، وهي تختلف بذلك عن الحج الذي هو فرض عين على كَل مسلم مستطيع، وجماعي، أي ان المشتركين فيه يؤدونه جماعة. أما بالنسبة إلى الجاهليين، فيظهر من ذكر العمرة في القرآن الكريم انهم كانوا يؤدونها كما كانوا يؤدون الحج، ولوقوعها في شهر رجب، وهو شهر كان الجاهليون يذبحون العتائر فيه، لعلنا لا نخطىء اذا قلنا إنهم كانوا يذبحون ذبائحهم في العمرة، حينما يأتون أصنامهم فيطوفون حولها، أما في الإسلام، فالعمرة دون الحج. وإذ كانت في شهر رجب في الجاهلية، كانت حجًاً خاصاً مستقلاً عن الحح الاخر الذي يقع في شهر ذي الحجة. حرص الجاهليون على ألا يوافق موعدها موعد مواسم الحج "ِ لما كان لها من أهمية عظيمة عندهم قد تزبد على الطواف المألوف في شهر الحج.

وورد ان أهل الجاهلية كانوا يرون ان العمرة من أشهر الحج: شوال وذي القعدة وتسع من الحجة وليلهّ ألنحر، أو عشر أو ذي الحجة من الفجور في الأرض، أي من الذنوب، ولكن بعضا آخر كان يعتمر في كل شهر، ولا سيما في رجب، حيث كانوا يحلقون رؤوسهم ويجيئون إلى محجاتهم للعمرة.

وورد ان أهل الجاهلية "كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أكبر الكبائر. ويقولون: اذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر ".

وذكر ان الأشهر الحرم ثلاثة سرداً وواحداً فرداً، وهو رجب. أما الثلاثة، فليأمن من الحجاج واردين إلى مكة وصادرين عنها، شهراً قبل شهر الحج، وشهراً بعده، قدر ما يصل الراكب من أقصى بلاد العرب، ثم يرجع. وأما رجب،فللعمّار يأمنون فيه مقبلين وراجعين نصف الشهر للاقبال ونصفه للاياب، إذ لا تكون العمرة من أقاصي بلاد العرب كما يكون الحج. وأقصى منازل المعتمرين بين مسيرة خمسة عشر يوماً.

ويلبس المعتمر "الاحرام " أيضاً. وقد كان الجاهليون يكتفون في عمرتهم بالطواف بالبيت، أما "السعي" بين الصفا والمروة.، فأغلب الظن ان العرب لم يكونوا يقومون به. بدليل ما ورد في القران الكريم من قوله: ) إن الصفا والمروة من شعائر الله،فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه ان يطوّف بهما. ومن تطوًع خيراً فان الله شاكر عليم (. ففي هذا النص دلالة على ان الجاهليين من غير قريش لم يكونوا يدخلون السعي بينهما في شعائر الحج أو العمرة، وان الله امر بادخاله فيهما. أما موقف الجاهليين بالنسبة لطواف العمرة،فهو نفس موقفهم بالنسبة للطواف بالبيت في أثناء الحج، والفرق بين الحج والعمرة، ان الحج هو الاحرام ثم الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروه وقضاء مناسك عرفة والمزدلفة والوقوف بالمواضع التي أمر بالوقوف بها، بينما العمرة الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، فلا يكون موقف عرفة من العمرة. وكان الجاهليون يحلقون رؤوسهم للعمرة، ويكون حلق الرأس علامة لها. فاذا وجدوا رجلاً وقد حلق رأسه علموا انه من "العمار"، فلا يمسونه بسوء، إلا اذا مس أحداً بسوء احتراماً للعمرة ولشعائر الدين.

والفرق بين العمرة والحج في الإسلام، ان العمرة تكون للانسان في السنة كلها، والحج في وقت واحد في السنة. و تمام العمرة انُ يطاف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، والحج لأ يكون إلا مع الوقوف بعرفة يوم عرفة واجراء بقية المناسك.

وتقبيل الأحجار والأصنام واستلامها في أثناء الطواف أو في غير الطواف من الشعائر الدينية عند الجاهليبن. كان في روعهم ان هذا التقبيل مما يقربهم إلى الآلهة، ويوصلهم اليها، فتقربوا اليها ونصبوها في مواضع ظاهرة، ومسحوا أجسامهم بها تبركاً. وكلمة "تمسَّحَّ" من الكَلمات التي لها معاني عند الجاهليين، وكذلك كلمة "استلم" و "استلام" عند أهل مكة خاصة حيث استعملت بالنسبة للحجر الأسود. وطريقتهم ان يمر الإنسان يده على الحجر المقدس أو ان يمسسه بها إن صعب استلامه كله. وقد يعوض عن ذلك بعصا يمدها الإنسان إلى الحجر حتى تلمسه، وإذا تعذر الوصول اليه بسبب ما، فيجوز أن يفعل ذلك راكبأ على جمل.

ومن هذا القبيل ايضاً طرق مطارق أبواب البيوت المقدسة طرقات خفيفة، وامرار بعض الأشياء مثل الملابس على الأصنام والصخور والمواضع المقدسة لاكتساب البركة،والتمسح بجدران البيت أو استلام أركانه أو التعلق بأطراف الكسوة. وتلطيخ الأحجار بدماء ألضحية التي تقدم للاوثان وذلك بسبب الدماء عليها، أو بتلطيخها وتلويثها كلها أو جزء منها بدم الضحية،. توكيدأَ بإراقة دم الضحية في نفس من ضحيت الضحية من اجله.

وقيل إن من شعائر الجاهليين في الحح ان الرجل منهم كان إذا أحرم، تقلد قلادة من شعر، فلا يتعرض له أحد. فإذا حج " وقضى حجّه، تقلد قلادة من "إذٌ خِر"، والإذخر نبات زكي الرائحة، وان الرجل منهم يقلد بعيره أو نفسه قلاعة من لحاء شجر الحرم، فلا يخاف من أحد، ولا يتعرض له احد بسوء. وتذكرنَا هذه العادة بما يلبسه بعض الحجاج عند اتمامهم حجّهم وعودتهم إلى بلادهم من لباس "كوفية" خاصة باًهل مكة ومن عقال حجازي وذلك بالنسبة للرجال، وخمار أبيض بالنسبة للنساء، وذلك طيلة الأيام السبعة الأولى من احتفالهم بالعودة من الحج.

ولم يكن الجاهليون القريبون من مكة أو البعيدون عنها يقصدونها في حج "عرفة" وعمرة "رجب" حسب، بل كانوا يقصدونها في اوقات مختلفة وفي المناسبات، للطواف حول الأصنام،.واستلام الحجر الأسود، والتقرب إلى الآلهة المحلية. وقد ساعد ذكاء سادة قريش الذي تجلى في جمعهم اكثر ما أمكنهم جمعه من أصنام القبائل في "البيت الحرام"، على اجتذاب القبائل اليها، وبذلك نشطوا في استغلال مواسم الحج والعمرة بالاستفادة من القادمين بالاتجار معهم، وببيع ما يحتاجون اليه من طعام وزاد، فحصلوا عل مال، حسدهم عليه الاخرون فكان الفضل في ذلك للبيت.. والى ذلك أشير في القرآن، في سورة"قريش": ")فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أظعمهم من جوع وآمنهم من خوف(.

هذا ما عرفنأه عن شعائر الحج إلى مكة وعن مناسكه في الجاهلية المتصلة بالإسلام. أما عن الحج إلى البيوت الأخرى وعن شعائره ومناسكه، فلا نكاد نعرف من أمرهما شيئاً يذكر. ولكننا نستطيع ان نقول إن من أهم أركان الحج عند جميع الجاهليين، وجوب مراعاة النظافة.، نظافة الجسم ونظافة الثياب. ولذلك، كانوا اذا حجوّا لبسوا ملابس خاصة بالحج هي "الاحرام" أو ملابس جديدة، أو ملابس مستعملة نظيفة مغسولة،وذلك لحرمة هذه المواضع وقدسيتها، فلا يجوز دخولها بملابس وسخة دنسة، واذا كانوا يلبسون أحسن ما عندهم عند ذهابهم إلى مقابلة عظيم أو سيد قبيلة أو رجل محترم، احتراماً له واجلالاً لشأنه، أفلا يجب اذن لبس خير ما عند الإنسان من ثياب لدخول بيوت الآلهة، ولا سيما في مواسم الحج ?. وكان منهم من يوجب على نفسه الغسل وتنظيف جسده حين دخوله المعبد أو اعتزامه الحج.

وتقبيل الأصنام والأحجار واستلامها في أثناء الطواف، والتمسح لها، من الشعائر الدينية اللازمة في الحج وفي غير مواسم الحج عند الزيارات. كان في روعهم ان هذا التقبيل مما يقربهم إلى الآلهة، ويوصلهم اليها، فتجعلها ترضى عنهم وتشفيهم مما هم فيه من سقم وأمراض، فتقربوا اليها ومسحوا أجسامهم بها تبركاً وتقرباً. و "التمسح" بالصنم أو الحجر المقدس، التبرك به لفضله وعبادته، كأنه يتقرب إلى الآلهة بالدنو منه ولمسه. وقد كان رجال الدين يمسحون بأيديهم أجسام المرضى وثيابهم، لازالة السوء عنهم. وقد ذكر أهل الأخبار ان الجاهليين كانوا يتمسحون بأصنامهم، ويمسحون ظهورهم بها، لاعتقادهم انها تشفيهم من كل ألم وسوء.

واستلام الصنم أو الحجر المقدس،هو نوع من أنواع التقدير والتعظيم والتقرب. ويراد بذلك تقبيل الحجر ولمسه وتناوله باليد ومسحه بالكف. واذا صعب الوصول اليه لشدة الازدحام، فقد يمدّ احدهم قصبة أو عوداً أو عصاً اليه لمسه، فيكون لمس هذه الأشياء له، كأنه لمس حقيقي، يجلب لصاحبه ما تمناه وطلبه ورجاه من ذلك الصنم أو الحجر.

وقد أشار بعض "الكلاسيكين" إلى وجود غابة من النخيل في ركن من البحر الأحمر، كان يؤمّها النبط للتبرك بها، إذ كانت في نظرهم أرضاً مقدسة، عليها معبد من الحجر عليه كتابة، وصفوها بأنها كتابة لا يستطيع اليوناني قراءتها، وبه كهّان وكاهنات يقضون عمرهم في خدمة ذلك المعبد.قالوا: وفي كل خمس سنين يحج الناس اليه، ويتجمعون عنده، ويحضر معهم من في جوار المعبد من ناس، فيذبحون، ويتقربون إلى ألهتهم. فإذا عادوا أخذوا معهم ماءً من ذلك المكان، للتبرك به، لاعتقادهم أنه يمنحهم الصحة والعافية. وذكر بعض آخر أن الحج إلى هذا البيت كان مرتين في السنة: الحج الأول في مطلع السنة، ويستغرق شهراً واحداً. اما الحج الثاني فيكون في نهاية الصيف،ويستغرق شهرين. وتكون هذه الأشهر الثلاثة أشهراً حرماً لا يحل فيها قتال، يعمّها سلم أوجبته الآلهة على الإنسان والحيوان.

ونرى في هذه الشعائر مشابهة كبيرة لشعائر الحج في مكة. ولولا تعيين هؤلاء الكتبة المكان، ونصهم على أنه على البحر الأحمر، وانه غابة نخيل، لأنصرف الذهن إلى مكة،0 إذ نجد أن شعائر الحج فيها تشبه هذه الشعائر، واستقاؤهم من ماء "زمزم" للتبرك به، يشبه استقاء هؤلاء من بئر معبدهم هذا، وقد أهمل أولئلك الكتبة أسماء الأشهر الحرم الثلاثة، فأضاعوا علينا فرصة ثمينة كانت تساعدنا كثيراً في الوقوف على تثبيت الأشهر عند الجاهليين.

ويلاحظ أن النبط كأنوا يعقدون في أثناء هذه الأشهر الحرم سوقاً، تذكرنا بسوق عكاظ التي كان يعقدها أهل الحجاز. ولا شك أن موسم الحج في المعبد المذكور، الذي يتحول إلى سوق للبيع والشراء، يشبه موسم الحج في مكة حيث ينقلب أيضاً إلى سوق.

ا لأعياد

والأعياد من جملة مظاهر الأديان وشعائرها. والحج في حد ذاته عيد من أعياد الجاهلين. وقد كانت للجاهليين أعياد لها صلة بأديانهم، غير اننا لا نستطيع ان نتحدث بالطبع عن وجود أعياد عامة يعيّد فيها جميع الجاهليين عبدة الأصنام، لأن الأعياد العامة تستدعي وجود ديانة واحدة وعبادة إلَه أو آلهة مشتركة يعبدها جميع القوم، واذ كانت العرب لا تعبد إلهاً واحداً أو آلهة مشتركة يقدسها أهل الوبر وأهل المدر منهم جميعاً، فلا يمكن ان نتصور وجود أعياد عامة لجميع العرب، في عهود ما قبل الإسلام.

ولفظة العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد على راي علماء اللغة. وهو بالمعنى المعروف الذي يخص الاحتفالات الدينية من الألفاظ المعربة المأخوذة عن لغة بني إرم على رأي المستشرقين. ف "عيدا" في الإرمية هي "العيد" في العربية.

الفصل الثالث والسبعون
بيوت العبادة

والمعبد هو الموضع المخصص للعبادة. وقد وردت في النصوص الجاهلية وفي عربية القرآن الكريم ألفاظ تؤدي هذا المعنى، فقد كان الجاهليون قد اتخذوا معابد ثابتة ومعابد متنقلة مثل بيوت الوبر، تعبدوا بها إلى معبوداتهم قبل الإسلام وقبل الميلاد.

فقد كانت القبائل في حركة دائمة، بحثاً عن الغزو والكلا والماء. وكانت آلهتها في حركة دائمة أيضأَ، ترحل مع المتعبدين لها، وتستقر عند استقرارهم بمكان ما. وعند نزول القبيلة في موضع ما توضع الأصنام في قبتها، وهي خيمة تقوم مقام المعبد الثابت عند أهل المدر. وتكون للخيمة بسبب ذلك قدسية خاصة، وللموضيع الذي تثبت عليه حرمة ما دامت الخيمة فوقه، وقد كانت معابدالقبائل المتنقلة كلها في الأصل على هذا الطراز. ولم يكن من السهل على أهل الوبر تغيير طراز هذا المعبد، واتخاذ معبد ثابت، لخروج ذلك على سنن الآباء والأجداد. ولذلك لم يرض العبرانيون عن المعبد الثابت الذي أقامه سليمان، لما فيه من نبذ للخيمة المقدسة التي كانت المعبد القديم لهم وهم في حالة تنقل من مكان الى مكان. ثم ان أهل الوبر قوم رحل، ولا يمكن لمن هذا حاله اتخاذ معبد ثابت له، لما كان عليه من وجوب نقل أصنامه معه حيث يذهب.

ولبيوت الأصنام سدنة، يحفظون الأصنام بها، ويرعونها، وينقلونها معهم حيث ترحل القبيلة، فإذا نزلت نزلوا بها، ليقيموا لها الواجبات الدينية المفروضة في الخيمة المقدسة. حيث فرضت طبيعة البداوة على أصحابها هذا النوع من أنواع البيوت المقدسة، وهذه الطقوس الدينية التي تلائم حياة الأعراب.

وبيوت العبادة عند الجاهليين ثلاثة أنواع: بيوت عبادة خاصة بالمشركين عبدة الأصنام، وهم الكثرة الغالبة، وبيوت عبادة خاصة باليهود، وبيوت عبادة خاصة بالنصارى. أما بيوت عبادة المجوس، فقد عرفت في العربية الشرقية وفي العربية الجنوبية، ولكن عباّدها هم من المجوس، أي العجم،فالمجوسية لم تنتشر بين العرب، ولم تدخل بينهم إلا بين عدد قليل من الناس.

وما ذكرته عن بيوت العبادة، خاص بالمعابد العامة، وهناك مواضع عبادة خاصة، جعلت في البيوت، وضع أصحابها أصنامهم في ركن من أركانها، وتقربوا اليها. روي ان العباس، كان قد أقام الصنمين أسافاً ونائلة في ركن داره، وكانا حجرين عظيمين. واحتفظ غيرة بأصنام في بيوتهم للتبرك بها، ولحماية البيت، وكانوا اذا سافروا حملوا أصنامهم الصغيرة معهم للاحتماء بها، وأخذ بعض شباب المدينة ما وجدوه من أصنام في البيوت، تعبد لها آباؤهم فحطمها، ومنهم من رماها في مواضع العذرة والقاذورات.

وقد استطعنا اليوم بفضل جهود السياح والمنقبين والباحثين من الحصول على بعض المعلومات عن معابد جاهلية كانت عامرة يوماً ما. وذللث بعثور المذكورين على ألواح مكتوبة وجدت في خرائب تلك المعابد. ولكن ما عثرعليه، لاصلة له بالدين في الغالب، فليس فيه أدعية أو صلوات أو كتابات تفصح عن عقائد القوم وعن أمور دينهم. ولهذا فإن علمنا بديانات الجاهليين لا يزال ضحلاً، لم يتقدم تقدما مرضياً، وأملنا الوحيد في زيادته هو في المستقبل، فلعله يخرج من صناديق سره المكتومة ما يفصح عن عقائد القوم.

وقد اتخذ بعض العرب، وهم المتمكنون، بيوتاً وكعبات لعبادة أصنامهم، وضعوا أصنامهم في أجوافها، ومنهم من اتخذ صنماً، فلم يبن عليه بناءً، لعدم استطاعته ذلك. ومن لم يقدر عليه، ولا على بناء بيت، نصب حجراً أمام الحرم، وامام غيره، مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، وسمّوها ا لأنصاب.

وذكر أن "وكيع بن سلمة بن زهير الإيادي"، كان قد اتخذ له صرحاً بالحزورة، سوق كانت بمكة، يرتقيه بسلالم يتعبد فيه، فعرف بصاحب الصرح. والبيت، مأوى الإنسان ومسكنه في الأصل، ثم تجوز الناس فأطلقوا اللفظة على المعبد، باعتبار أنه بيت الآلهة أو الإلهَ، لاعتقادهم أن الالهة تحل به. وقد كانوا يضعون الصنم أو الأصنام فيه. ويقال للبيت عندئذ "بيت الله" أو "بيت ريام" وهو بيت يذكر "ابن الكلبي" أنه كان لحمير بصنعاء، وأن الناس كانوا يعظمونه ويتقربون عنده بالذبائح، أو "بيت الربة" وما شاكل ذلك، بحسب اختصاص البيت بالصنم.

كذلك أطلقت كلمة "بيت " بمعنى معبد في نصوص المسند،فورد: "وقدسو بيت مرب"، أي "وقدسوا بيت مأرب" أو "وبيت مأرب المقدس". فلفظة بيت هي اللفظة التي استعملت لمواضع العبادة، أي المعبد، أطلقت قبل اسم الإلهَ أو الموضع لتدل على التخصيص. وهي ترد في لغات سامية أخرى في هذا المعنى نفسه.

وأما "الكعبة" فالبيت المربع، وكل بيت مربع كعبة عند العرب. وقد خصصت في الإسلام بالبيت الحرام بمكة. والكعبة الغرفة أيضاً. وقد كان لربيعة بيت يطوفون به، يسمونه الكعبات، وقيل: ذو الكعبات، وقد ذكره الأسود ا ابن يعفر في شعره، فقال: والبيتِ ذي الكعبات من سنداد 

والمسجد كل موضع يتعبد فيه. وقد استعملها الجاهليون بهذا المعنى أيضاً.

وقد وردت اللفظة في نصوص بني إرم وفي النصوص النبطية والصفوية. ورد على هذه الصورة "مسجدا" في نصوص بني إرم. وورد على هذه الصورة في النصوص الصفوية أيضاً، وقد عنت به معبداً.

وقد عبر عن المعبد بلفظة "مكربن"، أي "المكرب" أو "المكراب" في بعض نصوص المسند ؛ إذ ورد "مكربن يعق"، بمعنى "معبد يعوق". ومن هذا الأصل أخذت كلمة "مكراب" في الحبشة، ومعناها "معبد". ولهذا ذهب "كلاسر" وغيره الى ان "مكربة" Mocoraba المدينة المذكورة في "جغرافيا" "بطلميوس" هي " مكة"، لأنها "مقربة" الى الأصنام، فهي بمعنى "البيت" و "الكعبة" في لهجتنا.

وتقابل كلمة "المعبد" كلمة Templum اللاتينية التي تعني موضعاً مربعاً، فهي بمعنى "الكعبة"، و "كعبة" في اللغة العربية. ويلاحظ توافق تام بين معنى الكلمتين في هاتين اللغتينْ. ولا بد ان يكون لاتخاذ هذا الشكل للمعبد سبب، إذ لا يعقل ان يكون قد جاء ذلك عفواً، ولا سيما اننا نلاحظ ان الكلمتين: اللاتينية والعربية، قد جاءتا من شكل البناء ونوعه وطرازه.

وذكر علماء اللغة ان في جملة الالفاظ التي تطلق على بيوت الأصنام والعبادة والتصاوير، لفظة "البد". وهي تؤدي معنى "صنم" كذلك. وذكروا انها من الألفاط المعربة عن الفارسية، عربت من "بت"، وانها تعني البيت اذا كان فيه أصنام وتصاوير.

وذكروا أن في جملة الألفاط التي أطلقت على بيوت الأصنام لفظة "الطاغوت" والجمع "الطواغيت". ورد أن العرب " كانت قد اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي اليها، كما تهدي إلى الكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر، عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها كانت قد عرفت أنها بيت ابراهيم الخليل ومسجده".

وورد أن "الطاغوت".الصنم، وكل معبود من دون الله، ولما تقدمُ سمي الساحر والكاهن والمارد من الجن والصارف عن طريق الخير طاغوتاً. واللفظة تعني في لغة "بني إرم": رئيس عقيدة ضلال، وشيطان وصنم.

و "الهيكل" من الألفاط الدالة على موضع العبادة، استعملت لبيوت الاصنام مجازاً، ولمعابد النصارى. والظاهر أن استعمالها كان عند العرب الشماليين، في الغالب. مثل عرب العراق وعرب بلاد الشام، ولا سيما عند النصارى منهم. أخذوها من الاراميين، إذ هي بمعنى بيت الصنم، أي معبد الوثنيين عندهم. وقد وردت في لغة "ألمسند" كذلك، وردت بمعنى "قصر"، ومعبد في أيام دخول النصرانية إلى اليمن.

وقد أطلق "الديدانيون" على بيت "بعل سمن"، لفظة: "احرم" بمعنى " الحرم" تعظيماً وتمجيداً له. فهو ذلك الإلَه. وترد لفظة "محرم" - التي لا زالت حية معروفة يطلقها أهل اليمن على محرم "بلقيس" - في لغة المسند، بمعنى المعبد، والمسجد الحرام. وقد وردت في عدد من النصوص. وبيوت العبادة أنواع. بيوت عبادة كبيرة، يحج اليها في أوقات معينة، ومواسم محددة، من مواضع قريبة أو بعيدة، هي محجات يحج اليها في وقت معين ثابت، يتقرب بها المتعبدون الى رب المحجة أو أربابها بأداء واجب الخضوع والطاعة. وتكون محجة واحدة في الغالب، اختارها الإله أو الآلهة من بين سائر أماكن الأرض لتكون موضعاَ مقدساً وحرماً آمناً، فهي أقدس بقعة وأعز مكان في نظر المتعبدين لها على وجه هذه الدنيا. فلا تدانيها المعابد الأخرى ولا تبلغ منزلتها في الحرمة والمكانة.

وهناك بيوت عبادة أخرى تكون دون المحجات في الأهمية والدرجة، لأن الآلهة لم تخترها لنفسها ولم تنص على اسمها، وانما هي دور عبادة أقامها الناس تقرباً إلى تلك الآلهة. وهي متفاوتة في الدرجة أيضاً، فيها المعابد الكبيرة التي صرف على اقامتها مال كثير، وفيها معابد بسيطة، يقيمها الناس تقرباً إلى أر بابهم.

والناس في ذلك العهد، كالناس في ايامنا هذه، لا يكتفون بتشييد معبد واحد في المدينة، بل نجدهم يقيمون جملة بيوت للعبادة، وقدُ خصص بعضها بعبادة جملة آلهة، وخصص بعضها بعبادة إله واحد معين، يذكر اسمه على باب المعبد. وقد تبنى في الموضع الواحد جملة معابد لإله واحد، لأن المعابد من الأعمال الخيرية التى يقوم بها المؤمنون تقرباً إلى الالهة، لذلك يصادف قيام جملة أسر ببناء معابد لذلك الإلهَ، تسميها باسمه وتنقش اسم الأسرة أو المتبرع بالبناء على موضع بارز من المعبد. وبفضل هذه الطريقة القديمة، التي لا تزال البشريه تتبعها، تمكنا من الحصول على معلومات عن تلك المعآبد وعن الآلهة التي خصصت لها وعن أسماء المؤمنين الذين أقاموها.

وقد اتخذ الإنسان من الكهوف بيوتاً للعبادة،كما اتخذ من الجبال والمواضع المرتفعة أماكن بنى عليها معابده، ليكون في رأيه ونظره أقرب إلى السماء، حيث تقيم الالهة، فتسمع دعاءه، وتصل اليها كلمته، وتستجيب له، أكثر من استجابتها له لو كان على سطح إلأرض. وبنى الحضري معبده ه في المواطن التي يقيم فيها، وحاول جهده الإنفاق عليها، والتفنن في بنائها وزخرفتها، لتكون بيوتاً تليق بسكنى الأرباب. أما البدو، فكانت معابدهم في الخيام، تحفظ فيها أصنامها، فتنتقل معها، وتضرب في الموضع الذي تحل القبيلة فيه. ينظرون اليها نظرة تقديس وإجلال، لأنها حرم الالهة وأماكنها وبيوتها ألمقدسة، فلا يجوز تدنيسها ولا انتهاك حرمتها. لهذا لم يعكن يسمح لأحد بالدخول اليها إلا اذا كان من رجال الدين.

ولهذه الخيام المقدسة سدنة، يضعون الصنم أو الأصنام فيَ جوفها، ويسهرون على خدمتها، وينقلونها معهم حيث تنتقل القبيلة. وهم يتوارثون خدمتها. واذا استقرت القبيلة وتحضرت، تحضر معبد صنمها بتحضرها كذلك. ووجد الصنم عندئذ له مستقراً دائماً ومقاماً ثابتاً، ويصير عندئذ في عداد الأصنام الثابتة.

ويكون للصنم عندئذ معبد تتناسب قيمته وأهميته ودرجة عمرانه، مع مكانة القبيلة وعدد رجالها وغناها وما عندها من مال.

وللعين أهمية كبيرة في تقييم المعبد وفي نشر العبادة وفي تكوين شخصية الإلَه رب المعبد فيما بين الناس. فكما أن قيمة الإنسان بملبسه وبأناقته وبحسن مظهره، كذلك تكون قيمة المعبد بضخامته وبما يزبن به من نقوش وزخارف وبما يعلق على الموضع المقدس منه من ذهب وفضة وأحْجار كربمة. فالمعبد الضخم، يدل على قوة الإلهَ وقدرته في نظر من ينظر بعينه لا بعقله إلى قيم الأمور، أي في نظر السواد، وهم الكثرة الغالبة، ولذلك يجلبهم اليه، وتلقى ضخامته في نفوسهم تأثيراً كبيراً يجعلهم يشعرون أنهم أمام بيت إلَه حقاً، لما فيه من روعة ولما تفوح في داخله من روائح البخور والطيب، لذا حرص رجال الدين على جعل معابدهم ضخمة فخمة، لتجلب لها أكبر عدد ممكن من المتعبدين.

ومن أشهر المواضع المرتفعة التي حج اليها المتعبدون للتبتل والتعبد، والتي ورد ذكرها في قصص أهل الأخبار: حِراء، وأبو قبيس، وثبير.

أما "حراء" فقد ورد في بيت منسوب إلى شاعر جاهلي: فإني والذي حجت قـريش  محارمه، وما جمعت حراء 

وجعل أحد ألأجبل الخمسة التيُ بني من حجارتها البيت. واليه كان يلجأ كبار قريش لدعوة آلهتهم في الملمات، واليه أيضاً كان ياًتي بعض المتحنثين النسّاك الزاهدين في عبادة الأوثان للتفكير والتأمل. وفيه غار تحنث فيه النبي، ويعرف ب "جبل النور". وورد ان أبا طالب أرسل عقيلاً ليأتي بالرسول إليه، فذهب إلى "كبس"، وأخرجه منه. والكبس الغار. ويظهر انه أراد به غار حراء.

وأما "أبو قبيس"، فيظهر من غربلة أخبار الأخباريين انه كان من المواضع المقدسة الداخلة في شعائر الحج، يرتقي. الحجاج ظهره، ليتموا بذلك مناسك حجهم، وليدعوا آلهتهم بما يطلبون ويرغبون. وكان مقصوداً عند نزول الشدة والبلاء. فالمظلوم يجد محله فوق هذا الجبل للدعأء عند انحباس المطر، لنزول الغيث.

وقد زعم بعض أهل الأخبار، انه سميّ "أبا قبيس" برجل من مذحج حدّاد، لأنه أول من بنى فيه، أو بقبيس بن شالخ، رجل من جرهم، كان قد وشى بين عمرو بن مضاض وبين ابنة عمه "مية"، فنذرت ان لا تكلمه، وكان شديد الكلف بها فحلف ليقتلن قبيساً، فهرب منه في الجبل المعروف به، وانقطع خبره. فإما مات وإما تردّى منه، فسمي الجبل أبا قبيس. "وله خبر طويل ذكره ابن هشام في غير هذا الكتاب. وكان أبو قبيس الجبل هذا يسمى الأمين، لأن الركن، أي الحجر الأسود، كان مستودعاً فيه ". "وكان الله عز وجل استودع للركن أبا قبيس حين غرق الله الأرض زمن نوح "، فلما أقام "ابراهيم" قواعد البيت، "جاءه جبريل بالحجر الأسود". والظاهر ان بيتاً للعبادة كان عليه، وانه كانت له صلة بالبيت، فتجسمت هذه الصلة في الذي ذكروه عن الحجر الآسود ووجوده فيه.

وأما "ثبير"، فقد كانوا يفيضون منه في الحج على نحو يذكر في شعائر الحج. ويلاحظ أن أهل العربية الجنوبية وأهل السراة قدسوا قمم الجبال، فجعلوا فيها معابد لعبادة الالهة، مثل معبد "اوم" "أو ام" في "الو". وقد أزيلت معالم تلك المعابد في الإسلام، ولكن بعضها أخذ طابعاً اسلامياً فصير مثلاَ قبراً من قبور الأنبياء مثل: "حضور نبي شعيب"، الذي يقع على قمة جبل تعد من أعلا قممم جبال العربية الجنوبية، و "نبي ايوب" و " مقلى" على محر "مبلقة".

وترجع قدسية المواضع المقدسة وحرمتها إلى الاعتقاد بنزول الآلهة في هذه المواضع، والى وجود قوى خارقة فيها، أو إلى وجود مقدسين فيها قبروا في باطنها، فقدست تلك المواضع لهذه الأسباب. وتعرف هذه المواضع المقدسة بأسماء من تقدست بهم، وبأسماء المواضع التي نقع فيها.

و إنا لنرى كثيراً من الأماكن المقدسة قد أقيمت في جزيرة العرب عند الينابيع والآبار المقدسة حيث تروى الأرض بالماء فتنمو به المزروعات ويستقي منها الناس. وقد صوّر هذا الخصب لسكان تلك المناطق وجود قوى خارقة كامنة في تلك الأرضين كانت السبب في نظرهم في بعث الحياة للانسان ولهذه الأرض.

وقدست بعض المواضع وأقيمت المعابد بها، بسبب وجود أشجار مقدسة بها، ونجد في أخبار أهل الأخبار أن بعض، المعابد مثل معبد العزى، كان المتعبدون يتقربون بها إلى سمرات،أي شجرات ثلاثة، أو إلى شجرة واحدة، فكانوا يعلقون عليها الحلي ويزينونها، ومثل معبد "ذات أنواط"،وهي شجرة كانت تعبد في الجاهلية، وهي سمرة كان المتعبدون لها ينوطون بها سلاحهم ويعكفون حولها.

وقدست مواضع أخرى لوجود أحجار مقدسة بها، كانوا يطوفون،حولها من هذه المواضع: "عكاظ". فكان الناس يأتون الموضع في الموسم، فينصبون فيه خيامهم، ويقيمون سوقهم، ويطوفون بأحجار عكاظ، يقيمون على ذلك أيام الموسم. فهي أيام عبادة وتجارة وفرح.

ولهذه القدسية والحرمة، لم يسمح للسواد الأعظم من الناس بدخول الغرف المقدسة المخصصة بالآلهة، لأنها بيوت الآلهة، وعوض لهم عن هذا التحريم بالطواف حولها أو بلمس جدرانها، وللسبب نفسه، حتم على القاصدين لها غسل أجسامهم وتنظيفها ولبس ملابس طاهرة نظيفة، كان سدنة بعض تلك المعابد، أو أهل المواضع النبي تقع فيها المعابد يؤجرونها للناس، بأجر معين مرسوم، إن كانت تلك المعابد من المعابد الكبيرة وفي مواسم الحج. كذلك لم يكن يسمح لأحد بالدخول إلى المعابد والأحذية في أرجلهم فلا بد من خلعها والدخول بغير أحذية احتراماً لقدسية المكان وخشية التدنيس. وقد حتم الجاهليون على من يريد دخول الكعبة من المتمكنين خلع نعليه، احتراماً للبيت. ذكر أهل الأخبار ان أول من خلع نعليه لدخول الكعبة "الوليد بن المغيرة"، فخلع الناس نعالهم في الإسلام. وقد عثر على كتابات جاهلية تبين منها، ان الجاهليين كانوا يعدّون طهارة الملابس وطهارة الجسم من الأمور الملازمة لمن يريد دخول المعبد، فإذا دخل انسان معبداً وهو نجس عدّ أثماً،وقد ورد ان رجلاً اتصل بامرأة، ثم دخل المعبد بملابسه التي كان يلبسها حين اتصل بها.، فعدّ آثماً، ودفع فدية عن إثمه إرضاءً للآلهة. وورد ان رجلاً دخل معبد الإلَه "رب السماء" "ذ سموى" بمعطف نجس، فدفع فدية عن ذلك، جزاء ما ارتكبه من إثم. فدخول المعابد بملابس نجسة، نجاسة: مادية أو معنوية، إثم، تعاقب الآلهة عليه،لهذا اشترطت ديانتهم عليهم عدم دخول بيوت الآلهة، إلا بملابس طاهرة نظيفة حرمة وتقديراٌ لهذه البيوت.

وللسبب المذكور اشترط سدنة الصنم "الجلسد" على من يريد من عبّاده تقديم قربان اليه،أو تكليمه كراء ثياب مسدنة، للبسها بدلاً من ملابسهم، لأنها ملابس نظيفة طاهرة، لم تمسها أدارن مادية أو معنوية. وهو شرط نجده عند غير العرب أيضاً كالعبرانيين. وقد كانت المعابد تدخر ملابس تكريها لمن يريد أداء شعائر زيارة بيوت الأصنام، وورد في كتب أهل الأخبار، أن الجاهليين حتموا على المرأة الحائض ألا تمس الصنم ولا تتمسح به، و ألا تدخل بيته لنجاسة الحيض. وورد أن "فاختة" أم "حكيم بن حزام بن خويلد"،كانت دخلت الكعبة وهي حامل متمّ بحكيم   

ابن حزام فأجاءها المخاض، فلم تستطع الخروج من الكعبة،فوضعته فيها فلفت في الأنطاع هي وجنينها وطرح مثبرها وثيابها التي كانت عليها، فجعلت لقي لا تقرب.فيظهر من هذا الخبر ان أهل مكة كانوا يعتبرون دم المخاض والولادة نجساً،ولهذا اعتبرت الأنطاع التي وضعت "فاختة" جنينها عليها، بل اعتبرت هي نجسة أيضا، فلفت بالأنطاع، وألقيت، وجعلت لقي لا يمسها أحد.

وعثر المنقبون على أحواض داخل المعابد في العربية الغربية، يظهر أنها كانت للوضوء، لتطهير الجسم قبل الدخول إلى المسجد، موضع الصنم.وذلك بغسل الوجه واليدين والقدمين وربما الأبدان كذلك، قبل الدخول إلى بيت الصنم. ولكون هذا الوضوء تطهيراً للجسم، عرفت "الميضأة" بالمطهرة، لأنها تطهر من الأدران. ولهذا السبب، حفرت الآبار في المعابد، لتموين هذه الأحواض بالماء، وللتبرك أيضاً بالماء المقدس، ولاستعماله في أغراض أخرى، منها تنظيف الجسم من الأدران بعد قضاء الحاجة.

ولهم آداب اتبعوها حين دخولهم بيت الصنم، وحين خروجهم منه. من ذلك ان القبائل كانت تتجنب ان تجعل ظهورها على مناة اعظاماً للصنم. فكانت تنحرف في سيرها، حتى لا يكون الصنم إلى ظهرها. وفي ذلك قال الكميت بن زيد، أحد بني أسد بن خزيمة بن مدركة: وقد آلت في قبائل لا تولي  مناة ظهورها مُتَحرّ فينا

وقد تطورت أشكال المعابد و هندستها بتطور الحضارة، وبشكل طبيعة الأرض التي يقام المعبد عليها. وهي تتناسب مع درجة تطور الشعوب ودرجة رقيها وطراز تفكيرها واختلاطها. بالأمم المجاورة. ولذلك نجد معابد "تدمر" مثلاً قد تأثرت بطراز البناء الإغريقي، لتغلغل الثقافة اليونانية فيها، ولتأثر سكان المدينة باليونان. كذلك نجد هذا الأثر والأثر الروماني في معابد بلاد الشام وفلسطين، فالمعبد أذن هو نموذج معبر عن نفسية الناس وعن حضارتهم ودرجة تفكيرهم وعن هندستهم،ومدى تأثر فن البناء عندهم بالمؤثرات الداخلية الأصيلة أو المؤثرات الدخيلة في الزمن الذي قام فيه البناء.

ومن هنا نجد معابد اليمن، اتخذت لها الحجارة الضخمة المتقطعة من الصخور في بناء الجدر والأرض وفي الأعمدة، ونجد المعمار قد تفنن في تزويق الجدر والأعمدة والسقوف وفي زخرفتها، فصارت المعابد ضخمة جميلة، لا تضاهيها المعابد التي أقيمت في مواضع سهلة من جزيرة العرب، لعدم وجود المواد الصالحة للبناء فيها، ولأن الطبيعة لم تهب للمعمار فيها ما يدفعه إلى بناء أبنية ضخمة فيها تضاهي معابد أهل اليمن.

الاستفسار عن المغيبات

ولم تكن المعابد مواضع عبادة وتقرب إلى الأصنام حسب، بل كانت مواضع استفسار عن المغيبات كذلك، يقصدها أهل الحاجات لسؤال الآلهة عما عندهم من مشكلات، أو عما سيخبئه لهم المستقبل من أمور، أو عن أعمال يريدون القيام بها، أو عن سرقة، وما شابه ذلك من طلبات. ومن هذه البيوت بيت رئام، وقد كانوا يكلمون منه وينحرون عنده. وبيت العزى، و كانوا يسمعون فيه الصوت. والمنطبق وكان صنماً من نحاس يكلمون من جوفه، فيأتيهم الجواب. وبيت "الجلسد"،صنم كندة وأهل حضرموت. وقد ذكر "الجاحظ": " أنهم كانوا يسمعون في الجاهلية من أجواف الأوثان همهمة، وأن خالد بن الوليد حين هدم العزى رمته بالشرر حتى احترق عامة فخذه، حتى عاده النبي، صلى الله عليه وسلم". وهو ممن يشكون في صدور مثل هذه الأمور إذ يقول: " وهذه فتنة لم يكن الله ليمتحن بها الأعراب وأشباه الأعراب من العوام. وما أشك أنه كان للسدنة حيل وألطاف لمكان التكسب ".

تكليم الأصنام

ويقوم الكهان بتكليم الصنم، وهم الذين يفسرون للسائلين الهمهمة أو الأصوات الصادرة من تلك الأصنام ويتكلمون على ألسنتها بما يلائم السائل مقابل نذر وهدايا وألطاف يقدمونها إلى السدنة. وهذا النوع من التنبؤ، معروف عند اليونان والرومان،مشهور ومعروف عند غيرهم من الأمم كالبابليين والآشوريين والعبرانيين. بل هو يؤلف جزءاً مهماً من أركان الديانات القديمة، ويطلق عليهracule في الإنكليزية من Oraculum اللاتينية، ومعناها التكلم. ولهذا النوع من التنبؤ صلة كبيرة بالسحر، Magic وبالكهانة في الديانات القديمة والديانات البدائية عند بعض الشعوب الافريقية و الاسترالية في الزمن الحاضر. وقد اكتسبت بعض معابد اليونان شهرة كبيرة في هذا النوع من التنبؤ بالغيب، وأشهرها معبد "دلفي" Delphi الذي كسب شهرة عظيمة في هذا الباب.

وقد ورد في بعض النصوص، ان قوماً كلموا آلهتهم في شهر "ذ اجبى ذ عثتر" و "ذ فرعم ذ عثتر"، فأًجابهم الإله "عثتر" على ما سألوا عليه. وورد ان جماعة من المؤمنين ب "عم"، كلموه، فأًجابهم على ما سألوا عنه. وكانوا إذا كلموا الآلهة، فوجدوا ان الأجوبة غير منسجمة مع الأسئلة، أعادوا الأسئلة عليها وقدموا قرابين جديدة لها، أو وزادوا في الحلوان،يفعلون ذلك حتى يسمعوا الجواب المناسب لأسئلتهم.

ولم أسمع بوجود تكليم في مكة. فلم يذكر أحد من أهل الأخبار أن الجاهلين كانوا يأتون الكعبة لسماع أجوبة الأصنام عن أسئلة يوجهونها اليها،ولا عن وجود سدنة كانوا يقومون بأي نوع من التكليم. وإنما ذكروا أنهم كانوا يسألون الأصنام النصح والارشاد،والأمر والنهي بفعل فعل أو تركه، ويكون ذلك بالاستقسام بالأزلام. وقد خصص الصنم "هبل" بهذا النوع من الإرشاد. وكانت عنده سبعة قداح، كل قدح منها فيه كتاب: قدح فيه العقل، اذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة عليهم، فإن خرج العقل، فعلى من خرج حمله. وقدح فيه "نعم" للأمر،إذا أرادوه يضرب به في القداح، فإن خرج قدح فيه نعم، عملوا به. وقدح فيه "لا"، فإذا أرادوا الأمر ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح، لم يفعلوا ذلك الأمر. وقدح فيه "منكم"، وقدح فيه "ملصق"، وقدح فيه "من غيركم"، وقدح فيه "المياه"، فإذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح، وفيها ذلك القدح، فحيثما خرج به، عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاماً أو ينكحوا منكحاً أو يدفنوا ميتاً أو شكوا في نسب أحدهم،ذهبوا به إلى هبل وبمئة درهم و جزور،فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون،ثم قالوا: يا إلهنا فلان، أردنا به كذا. وكذا، فأخرج الحق فيه. ثم يقولون لصاحب القداح: إضرب،فإن خرج عليه "منكم" كان منهم وسيطاً، وإن خرج عليه من "غيركم" كان حليفاً، وإن خرج عليه "ملصق"، كان ملصقاً على منزلته فيهم لا نسب له ولا حليف، وإن خرج شيء مما سوى هذا مما يعملون به "نعم" عملوا به، وإن خرج "لا" أخروه عامه ذلك، حتى يأتوا به مرة أخرى، ينتهون في أمرهم ذلك إلى ما خرجت به القداح.

وهكذا كانت قريش والقبائل التي تحج إلى مكة تأتي إلى هبل لاستشارته في قضايا تهمها، فما يخرج في القدح مما هو مكتوب، يكون الجواب. غير أن بعض الأجوبة قد يأتي على خلاف رغبة السائلين، ولذلك كانوا يغرون الضارب على القداح بالضرب إلى أن يخرج القدح الذي فيه يريدون ويشتهون وقد يؤخرون ذلك بعض الوقت. وهم يفسرون النتيجة التي تظهر أنها رغبة الصنم و أرادته بوحيها، فتظهر بالقداح.

وذو الخلصة من الأصنام التي كان يستقسم عندها كذلك. والى هذا الصنم ينسب قول أحد الشعراء لهذه الأبيات: لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا  مثلي وكان شيخك المقبـورا

لم تنه عن قتل العُداة زورا

وهي أبيات ينسبها بعض الرواة إلى امرىء القيس. وكان أبوه قتل، فأراد الطلب بثأره. فأتى ذا الخلصة، فاستقسم عنده بالازلام، فخرج السهم ينهاه عن ذلك، فقال هذه الأبيات التي تتحدث عن غضب الشاعر على هذا الصنم، لنهيه إياه عن الأخذ بالثأر،. ولو كانت النتيجة كما يشتهي، لما قال الشاعر هذه الأبيات بالطبع، وتجاسر على الصنم.

ولما كانت الحروب والغزوات من القضايا المهمة، كانت استشارة الأصنام والاستقسام بشأنها من الأمور المأًلوفة، فكان أهل مكة اذا أرادوا الحرب أو عقد هدنة أو إبرام أمر خطير أتوا "هُبل" يستقسمون. عنده ليعطيهم الرأي المصيب في هذا الموضوع.

والغالب ان يكون الاستقسام أمام الصنم، ليقع في روع طالب الاستقسام ان ما يجري إنما هو بعلم الصنم و بوحيه، فيكون ذلك أوكد في نفسه وأعمق تأثيراً.

أشكال المعابد

هذا ولا بد لي ان أشير إلى اننا لا نملك حتى الآن رأياً واضحاً قاطعاً في شكل المعابد عند الجاهليين. ولا يمكن تكوين رأي واضح عن هذا النحو إلا بعد قيام علماء الآثار المتخصصين بدراسة آثار المعابد والكشف عنها ورسم مخططات صحيحة لقواعدها وأسسها. ولذلك،لا بد من مرور زمن، حتى يتمكن العلماء من تكوين رأي في أصول المعابد، وكيفية إقامتها من الوجهة الدينية الأصولية عند العرب قبل الإسلام.

واذا كان في استطاعتنا تحديد شكل "بيت الله" بمكة، و "كعبة نجران" و "كعبة سنداد"، أو "كعبات سِنداد"، كما يسميها البعض، فإن من الصعب علينا تحديد هيأة بيوت الأصنام في المعابد الأخرى، لعدم ورود نص يعين صفة تلك البيوت في أخبار أهل الأخبار. فلا ندري أكانت مكعبات، أم على أشكال أخر.

ولما كانت المعابد بيوت الأرباب، صارت لها حرمة خاصة وقدسية في كل دين، فلا يجوز انتهاك حرمتها، ولا القيام بأعمال شائنة دنسة فيها، خاصة بالقياس إلى الأماكن المقدسة جداً التي تعدّ محجة للناس. وقد اتخذت حول البيوت مواضع عدّت جزءاً من المعبد حددت بحدود، فما كان داخلاً عد حرماً آمناً، وما كان خارج الحد كان خارجاً عن المعبد، فليست له تلك الحرمة التي عينّتها شريعة القوم للمعابد.

وأقدس مكان في المعبد هو "البيت"، أي الغرفة التي تضم الصنم أو الأصنام. فقد كان البيت، وهو المسمى الكعبة في مكة، أقدم موضع عند قريش وعند غيرهم من عبدة الأصنام الذين كانوا يقدسون "البيت الحرام"، وذلك بسبب وجود الأصنام فيه.

ويعبر في العربية الجنوبية عن البيت الذي توضع فيه الأصنام، ب "مختن" فهو إذن بمثابة الكعبة بمكة.

ويقال للأرض الحرام المقدسة التي تحيط ب "البيت"، "الحرم". قيل سمي "الحرم" حرماً لتحريم الناس فيه كثيراً مما ليس بمحرم في غيره من المواضع. وقد وردت اللفظة في الكتابات النبطية. فوردت في كتابة نبطية عثر عليها في "بطرا" عما لحرم الإلَه ذي الشرى، قصد به الأرض المقدسة المحيطة ببيت ذلك الصنم، والمعبد كله، لأنه محرم ومقدس: "حرم ذي الشرى الإلهَ ربنا". ولا يجوز لأحد انتهاك حرمة الحرم والاعتداء عليه. وإذا دخل انسان الحرم صار آمناً مطمئناً، لا يجوز أن يعتدى عليه، ولا أن يمس بسوء، وإن كان قاتلاً. وحدود الحرم انصابه،وهي علاماته، فمن اجتازها وصار في داخلها، دخل في حرمة الحرم.

وما كان خارج الحرم، هو من الحل، أي من المنطقة الخارجة عن حرمة المعبد. فلا تشملها الأحكام المفروضة على الحرم.

وكان الرجل في الجاهلية إذا أحدث حدثاً ولجأ إلى الكعبة، لم يهج، فكان إذا لقيه وليّ الدم في الحرم، قيل له: هو صرورة ولا تهجه.

ولمكانة الحرم في نفوس الجاهليين ولأنه موطن آمن من دخل فيه صار آمناً، كان لا بد من تحديده ووضع معالم تشير إلى نهايته، إما بوضع أنصاب على أطرافه من تجاوزها إلى داخله صار آمناً فلا يخاف على نفسه، وإما ببناء حائل كجدار أو سياج أو أمثال ذلك ليكون اشارة إلى حرمة ما وراءه في الداخل. وقد جعل أهل مكة حدود حرم البيت أنصاباً من تجاوزها إلى الداخل صار في حرمة الحرم وفي حماية رب البيت.

وكانت أرض المعابد، أي حرمها، واسعة في الأصل، ذات ماء وأشجار وحمى، ثم تقلصت وضيقت وحددت بحدود، بسكن الناس حولها، وبتقربهم من المعبد، وبزيادة عدد عبّاده. فعندما يتألق نجم معبد، ويكثر المؤمنون بصاحبه، يكثر زوّاره، ويتسابق الناس إلى السكن بجواره والتقرب منه جهد امكانه، إذ يكون ذلك شرفا لهم. شرف مجاورة البيت، كما يكون مكسباً ومورداً طيباً للمال، لرغبة الزوار في مجاورة المعبد، فيدفع هذا الطمع، أصحاب النفوذ والجاه على اختلاس الأرض والتجاوز على حدود الحروم فتضيق. كالذي حدث بمكة، إذ كان الحرم واسعاً كبيراً، يشمل الوادي كله، فلما هبط "قصي" به وابتنى البيوت، اعتدى من جاء بعده على الحرم حتى صغر، مما دفع الخلفاء على شراء البيوت المجاورة وهدمها لاعادة أرضها إلى الحرم ليتسع صدره للناس.

وتلحق بالمعابد أرضون،يقال لها "حمى" لأنها في حماية الأرباب والأصنام ورعايتها، فلا يعتدى عليها، ولا يقطع شجرها ولا يرعى فيها ولا يسمح بصيد الحيوان فيها والاعتداء عليه في أرض الحمى. فكان في الطائف "حمى"، وهو "حمى اللات"،وقد خصص به، وكان حمى في جرش. بل كان وادي مكة الذي أقيم البيت به "حمى" لرب البيت،ولم يكن يسمح لأحد قبل "قصي" بقطع شجره، ولا التجاوز على ما فيه من نبت. وقد كان "قُصي" كما يقول أهل الأخبار أول من اقتطع شجره، وأقام البيوت لسكناه وسكنى قريش في ذلك الوادي.

ويفهم من كلام "نيلوس" Nilus أن العرب لم يكونوا يحيطون مواضعهم المقدسة التي فيها أصنامهم بأسوار، وإنما كانوا يجعلون لحرمها حجارة تكون حدّاً وعلامة للحرم. ويتبين من كلام هذا المؤرخ الذي أسر العرب ابنه وأرادوا تقديمه إلى الزهرة قرباناً على حدّ قوله، أنه قصد بالعرب الأعراب، ولا سيما أعراب طور سيناء، وقد كانوا أشداء غلاظاً يلقون الرعب في النفوس، وكانوا يتاجرون بالرقيق يقبضون على من يقع في أيديهم ويبيعونه في أسواق الرقيق. وجماعة هذا شأنها لا تستقر في مكان، لا يمكن بالطبع أن يكون لها معبد ثابت، وإنما يكون معبدها الموضع الذي يوضع صنم القبيلة فيه، ولتعيين الأرض الحرام توضع تلك الحجارة.

إلا أن هذا لا يعني أن معابد أهل المدر كانت مسورة أو ذات حائل دائماً، فقد ذكرت أن حرم بيت الله بمكة لم يكن مسوراً،بل كان معلماٌ بأنصاب. ومكة موضع حضر. أما حرم معبد "المقه" بمأرب وكذلك أكثر معابد أهل اليمن، فقد كانت مسوّرة بأسوار عالية قوية، لها أبواب يدخل المتعبدون منها، تفتح وتغلق كما نفعل هذا اليوم في دور العبادة عندنا.

ومن المعابد الشهيرة: "البيت الحرام"، أي "الكعبة"بمكة، وسأتكلم عليه في موضع خاص. ومعبد ذو الشرى" Dusharae بمدينة "بطرا"، و "كعبة سنداد"، و "كعبة نجران"، ومعابد عديدة في مواضع أخرى من جزيرة العرب، ولا سيما اليمن.

والفضل في ظفرنا ببعض المعارف عن "بيت الرب" بمدينة "بطرا"، يعود إلى الكتابات النبطية،والى ما كتبه بعض الكتبة اليونان والسريان عنه. وقد خصص هذا البيت بعبادة الإلَه "ذي الشرى"،الذي هو "رب البيت" الذي أطلقها النبط على إلههم تذكرنا بجملة أخرى معروفة في الجاهلية عند أهل مكة، كما هي معروفة عند المسلمين حتى اليوم،هي جملة: "رب البيت"، التي تعني إلَه البيت،وهو الكعبة،وقد أقرها وثبتها الإسلام. وقد نعت "رب البيت"، "رب بيت ذي الشرى" ب "الذي يفرق الليل عن النهار" وهو نعت له أهمية كبيرة في تكوين فكرة عن وجهة نظر عبّاده اليه.

وقد نصب في هذا المعبد الصنم "ذو الشرى" على قاعدة مكسوة بالذهب، في بيت موشى بالذهب وبالصور التي تمثل مشاهد تقديم القرابين اليه. وهو في موضع مرتفع على صخرة عالية، يحج اليه الناس من مواضع بعيدة، للتقرب إلى ذلك الإله الذي يقابل الإلهَ "باخوس" و "ديونسيوس" Dionysos-Bacchus في رأي الكتبة اليونان واللاتين.

وكان لهذا المعبد حج يقع في ليوم الخامس والعشرين من شهر كانون الأول من كل عام، فيفد اليه الناس من أماكن بعيدة للتقرب إلى "رب البيت"،فينحرون ويقضون الأيام المعينة، ثم يعودون إلى ديارهم. والظاهر ان هذه الكعبة لم تكن خاصة بأهل "العربية النبطية"، إنما كانت محجة لغيرهم من العرب، كما يتبين ذلك من تصريحات بعض الكتبة "الكلاسيكيين" عنها.

وقد عرفت بعض معابد الجاهليين ب "الكعبات". ويدل ذلك على أن بناءها كان على هيأة مكعب كشكل بناء الكعبة، وعلى أن العرب كانوا يبنون بيوت الأصنام الكبرى على هذا النحو. من هذه كعبة "سِنداد" على ما يذكره الأخباريون،وهي قصر كانت العرب تحج اليه. فيطوفون حوله، وقد عرف ب "الكعبات" جمع كعبة وهو البيت المربع والمرتفع، وب "ذات الكعبات". و "ذي الكعبات". وكان مركز حج قبائل بكر بن وائل و إياد. ولكن الأخباريين لم يتحدثوا بشيء من التفصيل عن هذا المعبد وعن كيفيته وشكله وعن الأصنام التي كانت فيه. وقد ذكر "ابن الكلبي" أن هذا البيت لم يكن بيت عبادة، إنما كان منزلاً شريفاً.

وذكر أن "ذات الكعبات" بيت كان لبكر وتغلب ابني وائل وإياد، وذكر أنه بيت كان لربيعة، كانوا يطوفون به. وذكر أنه كان لإياد،وكان كعبة بسنداد بين الحيرة والابلة. وهو من منازل إياد أسفل سواد الكوفة، وكان عليه قصر تحج العرب اليه.

وكان بنجران بيت عبادة عرف ب "كعبة نجران". وهو بناء بُني على هيأة الكعبة. وفي رواية تنسب لابن الكلبي انها كانت قُبة من أدم من ثلاث مئة جلد، كان اذا جاءها الخائف أمن، أو طالب حاجة قضيت، أو مسترفداً رفد. ويستخلص من الأخبار الواردة عن هذه الكعبة ومن أسماء أصحابها ومن كونهم أساقفة انها كانت بيعة أسسها النصارى في مركز النصرانية في اليمن، وهو موضع نجران، وانه لا علاقة له بالوثنية.. ويذكر الأخباريون ان بني عبد المدان ابن الديّان الحارثي أقاموها هناك، مضاهاةً للكعبة. وقد ذكر "ابن الكلبي" ان كعبة نجران لم تكن كعبة عبادة،. وانما كانت غرفة يعظمها القوم من بني الحارث بن كعب. وبنو الحارث بن كعب هم رؤساء نصارى نجران. وذكر بعض أهل الأخبار ان كعبة نجران وكانت لمذحج وبني الحارث بن كعب، عرفت ب "الربة".

وقد ذكر "ابن الكلبي" ان رجلاً من جهينة يقال له عبد الدار بن حُديب أراد بناء بيت بأرض من بلادهم يقال لها الحوراء ليضاهي به الكعبة حتى يستميل به العرب، فأعظم قومه ذلك، وأبوا عليه. ونجد في كتاب "الأصنام" لابن الكلبي،وفي كتب أهل الأخبار أسماء مواضع ذكر انها كانت بيوت عبادة حج اليها العرب حجهم لمكة. وذكر ان قريشاً بنت. للعزى بيتاً بوادي حراض بإزاء الغمير،وحمت له شعباً من وادي حراض يقال له سقام،يضاهون به الكعبة، وقد حجت اليه،وكانت تنحر عنده، ويتقربون إلى العزى بالذبائح.

وقد ذكر الأخباريون أنه كان بعكاظ صخور يطوف الجاهليون بها ويحجون اليها. وإذا تذكرنا "دومة الجندل" ومعبدها الكبير، فلا يستبعد أن تكون الأسواق الأخرى مواضع مقدسة قديمة كانت محجة للناس عامرة تفد اليها القبائل في مواسم الحج، ثم فقدت خطورتها قبيل الإسلام، ولم يبق عليها إلا طابع الأسواق التجارية.

وتكون في المعابد مواضع يلقي فيها العباد وأصحاب النذور هداياهم ونذورهم التي يتقربون بها إلى آلهة المعبد. وقد أشار أهل الأخبار الى وجودها في الكعبة وفي المعابد الجاهلية الأخرى. ويظهر من وصفهم لها أنها كانت على شكل حفر، تلقى فيها تلك الهدايا والنذور. فذكر الأخباريون أنه كان على يمين الداخل إلى البيت "جب"، اتخذ خزانة للبيت يلقى فيه ما يهدى الى الكعبة، وهو الجب الذي نصب عليه عمرو بن لحي "هبُل" وهو صنم كانت قريش تعيده. وقد عرف علماء اللغة الجب بأنه البئر،و وصفها "الأزرقي"،فقال: إنها كانت في جوف الكعبة على يمين من يدخلها، وكان عمقها ثلاث أذرع، وان اسمها "الأخسف"،وكانت العرب تسميها "الأخشف".

السقاية

وفي المعابد سقايا،يستقى منها الماء للشرب وللتطهر، كأن تغسل الأوجه والأيدي والأرجل بالماء ليسمح للزائر بدخول المعبد، أو لتحل له إقامة الشعائر الدينية. ويعد الماء ماءً مقدساً، لأنه من أرض مقدسة، ولذلك يتبرك به أيضاً، ويستشفى بالشرب منه. وقد عثر المنقبون على آثار آبار وأحواض مطمورة في حرم المعابد، كان المتعبدون يستفيدون من مياهها عند زيارتهم بيوت أربابهم،وعند أدائهم الشعائر الدينية. وبئر زمزم، هي البئر الوحيدة الباقية من آبار بيوت الله التي كانت في الجاهلية.

وقد كانت سقاية الحاج من المآثر الكبيرة عند أهل مكة،وهي تسقية الحجاج من الزبيب المنبوذ بالماء. وكان يليها في أيام الرسول العباس بن عبد المطلب. وكان بعضهم يسقي الحاج اللبن بالعسل.

المذابح

وتلحق بالمعابد مذابح تذبح عليها القرابين التي يقرب بها المؤمنون الى آلهتهم، ويقال للواحد منها، "مذبح" و "نصب" و "مصب" و "غبغب". وقد وردت لفظة "مذبح" و "مذبحت"،أي "المذبحة"، في طائفة من الكتابات. وهي مواضع الذبح، حيث يكون تقريب القرابين إلى الآلهة.

وقد ذهب علماء اللغة مذاهب في تحديد معنى "النصب"، فرأى بعضهم ان النصب كل ما عبد من دون الله، وذهب بعض آخر الى ان النصب صنم أو حجر كانت الجاهلية تنصبه، وتذبح عنده، فيحمرّ للدم، وذهب آخرون إلى ان الأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب، ويذبح عليها لغير الله تعالى. وعرفها بعض بقوله:" النصب الأوثان من الحجارة، جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الأرض، فكان المشركون يقربون لها وليست بأصنام"، "قال ابن جريج: النصب ليست بأصنام. الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب ثلثمائة وستون حجراً. منهم من يقول ثلثمائة منها بخزاعة. فكانوا اذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت وشرحوا اللحم وجعلوه على الحجارة. فقال المسلمون: يا رسول الله ? كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق ان نعظمه ". ولو أخذنا برواية "ابن جريج"،خلصنا إلى ان هذه الأنصاب، كانت بعدد أصنام الكعبة، اي انهم كانوا قد خصصوا بكل صنم، نصباً، يذبحون عليه ما يتقربون به اليه من عتائر. فقد كان عدد أصنام الكعبة ثلثمائة وستون حجراً عام الفتح على ما يذكره أهل الأخبار، إلا اذا اعتبرنا ما ذكروه عن عدد الأصنام وهماً، وأخذنا برواية "ابن جريج" التي هي دون الرواية الأخرى في الشهرة والذكر.

وأشير إلى "النصب" في شعر ينسب إلى "الأعشى"، يقال إنه قاله في مدح الرسول هو: وذا النصب المنصوب لا تنسكنه  لعاقبة والله ربـك فـاعـبـدا

وعلى كل، فنحن لو أخذنا بالروايتين، أو برواية واحدة منهما، فإن العدد "360" يلفت النظر حقاً. فلمَ خصص رواة الخبرين عدد الأصنام أو الأنصاب كذا الرقم، وهل يمثل ذلك شيئاً له صلة بالفلك، أو بأسطورة دينية قديمة كانت عند أهل مكة ? وقد وردت كلمة "النصب" في آية اللحوم المحرمات التي لا يجوز أكلها في القرآن الكريم: )حرمت عليكم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبعُ، الا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب(. فجعلت،الذبائح التي تذبح على النصب للأصنام في جملة التي لا يحل للمسلم أكلها،فيفهم من هذه الآية أن النصب مواضع تذبح عليها القرابين. كما وردت في موضع آخر من سورة المائدة: )يا أيها الذين آمنوا، إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان. فاجتنبوه(. وقد ذكر علماء التفسير، أن الأنصاب التي يذبحون عندها.

وقد ذكر علماء التفسير،ان أهل الجاهلية كانوا قد وضعوا حول الكعبة أنصاباً، أي حجارة كانوا يذبحون عليها، فكانوا اذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت وشرحوا اللحم: وجعلوه على الحجارة. وكانوا يبدلونها إذا شاؤوا بحجر هو أحب اليهم منها. كما كانوا قد وضعوا الأنصاب في بيوت الأصنام الأخرى، يذبحون عليها ذبائحهم لها. وقد أشير إلى "المائرات"،أي الدماء: دماء الذبائح ل "رشيد بن رميض العنزي": حلـفـت بـمـائرات حـــول  عوض وأنصار تركن لدى السعير 

و "عوض" صنم لبكر بن وائل، و "السُعير" صنم لعنزة خاصة. و "نصب" هي " نصب" و "مصب" في اللهجات العربية الجنوبية، و "نصب" و "مصبت" في الفينيقية، و "مصبه" Masseba في العبرانية. ويراد بها مذبح، تذبح عليها القرابين والضحايا التي يقدمها المتعبدون إلى معبودهم Deity. ويعرف ب Altar أي مذبح في الانكليزية. وهو من حجر واحد في الأصل، قد يذبح عليه، فيسيل الدم فوقه ويتلطخ به، وقد يكون في نظرهم بمثابة المعبود الذي تقدم الضحية اليه. وقد يذبح عليه، فيسيل الدم من فتحة تكون فيه إلى بئر تتجمع فيها دماء الذبائح، تكون عند قاعدة النصب.

وقد تخصص المذابح بحرق لحم الذبيحة كله أو بعضه عليها،تقرباً إلى الأصنام، كالذي كان يفعله العبرانيون.

وقد عثر المنقبون على أحجار عديدة اتخذت أنصاباً لذبح القرابين عليها أو عندها، عثرعليها في العربية الجنوبية بصورة خاصة. وفي بعضها فتحة على هيأة ثقب تسيل منه دماء القرابين إلى موضع تتجمع فيه. وفي بعض آخر مسايلُ جانبية، تسيل الدماء منها إلى الخارج. وهذه الأنصاب هي "مذابح" ويقال للواحد منها "مذبحم" في العربيات الجنوبية أي "مذبح". ولذبح القرابين "ذبحن"و "ذبحم"،أي "الذبح" و "ذبح".

فالنصب اذن،الأحجار التي تذبح عليها القرابين وما يهل للأصنام. والعادة أن تكون أمام الصنم،وعلى مقربة منه. فإذا ذبح القربان سال دمه على النصب إلى ثقب يؤدي الى حفرة يتجمع فيها الدم. هي "الغبغب". و "النصب" هو "مصبه" Massebah في العبرانية، حيث كانوا يذبحون عليها القرابين. ولكثرة ما كان يذبح عليها صارت تبدوا حمراء من لون الدم، وقد أشير إلى الحمرة في حديث اسلام "أبي ذر الغفاري"،إذ ذكر أنه وصف تعذيب قريش له بقوله: " فرماني الناس حتى كأني نصب أحمر".

وليس لأهل الأخبار رأي واحد في "الغبغب،"،وإنما ذهب بعضهم إلى أن الغبغب هو المنحر، وذهب بعض آخر إلى أنه خزانة المعبد، يلقي النافرون فيها ما عندهم من نذور وقربات، و ذهب فريق آخر الى أنه بيت كان الناس يحجون اليه،كما يحج إلى البيت بمكة. وقيل إنه كان لمعتب بن قيس بيت يقال له غبغب،كانوا يحجون اليه.

والذي عليه أكثر أهل الأخبار أن "الغبغب" المنحر. وقد صرح بذلك "ابن الكلبي" في كتاب "الأصنام": وهو يتحدث عن "العزى"،فقال: "ولها منحر ينحرون فيه هداياها، يقال له الغبغب". كما صرح بذلك علماء اللغة إذ عرفوا الغبغب بأًنه المنحر، أو نصب كان يذبح عليه في الجاهلية، أو كل مذبح بمنى. وقد خصصه بعضهم بمذبح منى. أو هو حجر ينصب بين يدي صنم، وكان لمناف مستقبل ركن الحجر الأسود غبغب،وقيل كانا اثنين ويظهر من شرح علماء اللغة للمثل: "رب رمية من غير رامٍ"، ينسب قوله إلى الحكم بن عبد غوث أن الغبغب هو المذبح، أي المنحر الذي ينحر عليه.

ويظهر من روايات أهل الأخبار عن "بيوت" الآلهة انه كان لكل "بيت" "غبغب"، تذبح فيه هداياها،أي ما يهدى إلى تلك البيوت من قرابين. وقيل: الغبغب: المنحر، وهو جبيل بمنى، فخصص. وقيل كل منحر بمنى غبغب. قال الشاعر: والراقصات الى منى فالغبغب 

ويذكر علماء اللغة ان "الغبغب" "العبعب" كذلك. وان العبعب موضع الصنم. وصنم لقضاعة ومن داناهم. وبيت كان لمتعب بن قيس،كانوا يحجون اليه كما يحجون إلى البيت. ويظهر من هذا الشرح ان "الغبغب" و "العبعب"،كلمة واحدة،لشيء واحد.

و "الغبغب" "الجب" كذلك. وهو حفرة يجمع فيها دم البدن، والجمع "الجباجب". قال "الزبير بن بكّار:الجباجب جبال مكة حرسها الله تعالى، أو أسواقها أو منحر، وقال البرقي، حفرٌ بمنى كان يلقى به الكروش، أي كروش الأضاحي في ايام الحج، أو كان يجمع فيها دم البدن والهدايا،والعرب تعظمها وتفخر بها ".

ويفهم أحياناً ان "الغبغب"،حفرة أو بئر، كان المتعبدون للاصنام يرمون بها نذورهم وهداياهم وما يتقربون به إلى أصنام كل: نذور نفيسة، من ذهب أو فضة أو حجارة كريمة. فكانت تحت صخرة "اللات" حفرة عرفت ب "الغبغب" حفظت فيها الهدايا والنذور والأموال التي كانت تقدم إلى الصنم. فلما هدم الصنم أخذت من الغبغب تلك الأموال. ويرادف الغبغب "الجب"، الذي يقال له "الأخسف" و "الأخشف"،وهو بئر في جوف الكعبة نصب "هبل" عليه. كان الناس يرمون فيها نذورهم وهداياهم. وتقع على يمين من يدخل البيت،وكان عمقها ثلاث أذرع.

و "الغريّ" مذبح على ما يظهر من تفسير علماء اللغة لهذه اللفظة. يظهر أنه كان صخرة تذبح عندها الذبائح وتطلى بدمها،أو نصب تذبح للقرابين عليه. ويعبر عن المذبح الذي تذبح عليه الحيوانات الكبيرة،مثل البقر بلفظة "حردن". ومن الألفاظ التي تطلق على المذبح، "منطف"و"منطفت"،أي "المنطفة"،وهي المذبحة. والمذبح، هو "مذبحت" في نصوص المسند، أي موضع الذبح.

المحارق

وتلحق بالمعبد محارق،تحرق فيها القرابين، يقال لها "مصرب". وقد كان العبرانيون يحرقون قرابينهم، في محارق تلحق بالمعبد، وتكون جزءاً منه. أما العرب، فإننا لا نستطيع أن نقول إنهم كانوا يحرقون قرابينهم في كل جزيرة العرب، لأننا لا نملك أدلّة آثارية على ذلك، إلا معابد اليمن واعالي الحجاز، حيث عثر على آثآر المحارق في معابدها،مما يدل على أنهم كانوا يحرقون القرابين.

و "المصرب"،المحرقة، الموضع الذي يحرق به الخشب ذي الرائحة الطيبة أو البخور، وهو مبخرة، تكون في المعابد،محرق بها، لتفوح منها روائح طيبة،أثناء العبادة. وقد أشير اليها في نصوص المسند.

البخور والمباخر

وللتبخير شأن كبير في أداء الفروض في المعابد، إذ لا بد من حرق البخور فيها، فيبخر بها المذبح والأصنام كما يبخر القائمون بأداء تلك الفروض. وتسمى المبخرة ب "مسلم"، وب "مقطر" وذلك في لغة بعض الجاهليين.

و "المجمرة" والمجمر، الموضع الذي يوضع فيه الجمر بالدخنة للتجمير. وقد أشير إلى المجمرات والمباخر في كتابات المسند. وعثر المنقبون على نماذج منها، قدمها الناذرون نذوراً إلى آلهتهم، وقد وضعوها في معابدها، وهي في جملة الهدايا المرموقة التي تقدم إلى المعابد بعضها من أحجار وبعضها من معدن بذل جهداً في صنعته وفي زخرفته حيث يكون هدية قيّمة تكون خليقة بوضعها في المعابد.

وقد كان الناس يأتون بالمجامر ليجّمروا بها،الكعبة تقرباً بعملهم هذا إلى الأصنام، وذكر ان حريقاً أصاب الكعبة، بسبب تطاير شرر من جمرة امرأة جمرت البيت، فأصاب ستار الكعبة، فاحترق. والتجمير،هو من شعائر التقدير والتعظيم. وهو مما يدخل في الطقوس، وقد صرفت المعابد القديمة أموالاً على شراء "العود" وغيره لإحراقه في المجامر، لتطييب المذبح والمعبد به. وَكان البخور مما يبخر به في المعابد أيضاً. وقد استعمله الجاهليون في بيوتهم المعظمة كذلك.

وتلحق بالمعابد مواضع يخزن فيها ما يقدم إلى المعبد من هدايا ونذور، وما يرد اليه من غلات أوقافه. واذا كانت النذور والهدايا ماشية، فقد تحفظ في مواضع بعيدة عن المعبد،أو توضع في احماء المعابد لترعى بها. ولا يجوز التعرض لها بسوء. وتعلم بعلامات تشير إلى أنها مما حبس على الأصنام. وكانت لهبل خزانة للقرابين. وكان قربانه مئة بعير، وله حاجب يقوم بخدمته. وفي جملة ما أهداه الناس إلى أصنامهم السيوف والملاجئ، وكانوا يعلقونها أحياناً على الأصنام.

سدنة الآلهة

ولبيوت العبادة سدََنة وحجبة وخدم، يقومون كلهم بخدمة البيت وما فيه من أصنام. ويعبر في عربيتنا عن الذي يتولى أمر الصنم ب "السادن" و "سادن الصنم".

وهو المسؤول عن الصنم أو الأصنام، ومتولي أمرها. وهو المرجع الأعلى في سلسلة الرتب بالنسبة إلى المعابد. ويعبر عنه بلفظة "شوع" في المعينية، وبلفظة أخرى هي "رشو".وأما إذا كان السادن امرأة، فيقال لها "رشوت" "رشوة" عندئذ.

ويقال لسادن الآلهة "افكل" "أفكل" في اللحيانية. جاء "افكل لت" "أفكل لات" أي "سادن اللات". وتقابل هذه اللفظة لفظة "ابكلو" Apkallu في اللغة الأكادية.

وتعد السدانة من المنازل الدينية والاجتماعية الرفيعة عند الجاهليين. وبيد السادن في العادة مفتاح بيت الصنم أو الأصنام. وتكون وراثية في الأغلب تتنقل في أفراد العائلة من الأب الى ابنه الأكبر أو إلى غيره من البارزين في الأسرة. وهي منزلة شرف، تكسب صاحبها جاهاً، كما تكسبه مالاً، لما تأتي به اليه من حبوس ونذور وقرابين. لذلك صارت سبباً لوقوع خصومات بين الأسر، من أجل الاستحواذ عليها، كالذي حدث مراراً في مكة من أجل الحصول على مفاتيح البيت.

وسدنة الأصنام في الجاهلية قومتها وحجابها، وكانت السدانة واللواء بمكة لبني عبد الدار في الجاهلية، فأقرها النبي لهم في الإسلام. فكان اليهم أمر مفتاح البيت.

ومن قدماء من كانت اليهم ولاية أمر البيت الحرام أي سدانته،رجل زعموا انه ولي أمر البيت بعد جرهم، ودعوه "وكيع بن سلمة بن زهير "زهر" الإيادي". جعلوه سادناً، وجعلوه كاهناً، فنسبوا اليه سجعاً من نوع سجع الكهان. ذكر انه جمع إِياداً قبيل، وفاته فنصحها وأوصاها. وزُعم انه بنى صرحاً بمكة، وجعل فيه سلماً كان يرقاه ليناجي الله. وكان الجاهليون يرون انه صدّيق من الصدًيقين، وانه ينطق بالخبر اليقين مع السماء. وذكر انه صاحب الصرح المعروف بحزورة مكة، وانه هو القائل: "اسمعوا وصيتي: الكلام كلمتان،والأمر بعد البيان. من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه، وكل شاة معلقة برجلها". فكان أول من قال هذه الكلمة، فذهبت مثلا.

ويذكر أهل الأخبار انه لما مات وكيع، نعي على الجبال. وفيه يقول بشير بن الحجير الإيادي: ونهن إياد عـبـاد الإلـه  ورهط مناجيه في سلـم

ونحن ولاة الحجاب العتيق  زمان النخاع على جرهم

ويفسرون زمان النخاع بأنه داء يقال له النخاع، سلّط على جرهم، فأفنى منهم ثمانين كهلاً في ليلة واحدة، سوى الشباب. وفي هذا الداء قال بعض العرب: هلكت جرهم الكرام فعالاً  وولاة البنية الحـجـاب

نخعوا ليلة ثمانين كـهـلاً  وشبابا ًكفى بهم من شباب 

ويظهر ان داءً كان قد تفشى في عهد غير بعيد عن الإسلام بين جرهم، فبقيت ذكراه في النفوس. ولا بد ان يكون "وكيع بن سلمة" ممن عاشوا قبيل الإسلام أيضاً، فبقيت ذكراه في أهل مكة، وإلا لما حفظت الذاكرة اسمه. وقد ذكر أهل الأخبار أحياناً أسماء الأسر التي تولت سدانة البيوت المعظمة والمحجات،كما ذكروا أسماء السدنة، ولا سيما السدنة الذين كانت اليهم سدانة تلك البيوت عند ظهور الإسلام. وهم من أسر عريقة، توارثت هذا المنصب من عهد بعيد، وحافظت عليه، وصارت بذلك من أشراف القوم.

حرمة المعابد

ومع الحرمة التي كانت للمعابد، انتهك المستهترون وذوو الحاجة حرمتها، فسرقوا ما تمكنوا عليه من خزائنها. فقد سرقت خزانة الكعبة مراراً. ذكر أهل الأخبار أن سارقاً سرق من مالها في زمن جرهم،وانه دخل البئر التي فيها كنزها، فسقط عليه حجر فحبسه فيها حتى أخرج منها وانتزع المال منه. وسرقت قبيل بنيانها في أيام الرسول، سرقها فتيان من فتيان قريش وأودعوا المال عند "دويك" مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة. فقطعت قريش يده.

الفصل الرابع والسبعون
الكعبة

وكعبة مكة، هي الكعبة الوحيدة التي بقيت محافظة على اسمها ومقامها حتى اليوم، من بين الكعبات التي كانت في الجاهلية. فقد اندثر أثر الكعبات الأخرى وزالت معالمها، ولم يبق لها مكان. والى الإسلام يعود ولا شك فضل بقاء "البيت الحرام". وبفضل الإسلام أيضاً جمع العلماء ما تمكنوا من جمعه من تأريخ المدينة القديم والمعالم المتصلة بها، ومن أخبار قريش، لما لهذا التأريخ من صلة بظهور الإسلام.

ويذكر أهل الأخبار أن الكعبة كانت معروفة عند العرب خارج الحجاز كذلك، وأنهم كانوا يحجون اليها ويقدسونها ويقسمون بها. وأن من أقسم بها وذكر البيت في شعره "زهير" و "النابغة". وقد عرفت ب "البيت العتيق"، وب "البيت المعمور". ورووا أن "عدي بن زيد العبادي" قصدها بقوله: كلا يميناً بذات الودع لوحدثت  فيكم وقابل قبر الماجد الزارا 

دعاها "ذات الودع" لأنه كان يعلق الودع في ستورها.

وقد أقسم بها شاعر جاهلي آخر، هو "عوف بن الأحوص" إذ قال: وإنى والذي حجت قـريش  محارمه وما جمعت حراء 

وشاعر عامري آخر، إذ قال: فاقسم بالذي حجـت قـريش  وموقف ذي الحجيج إلى إلال 

يريد بذلك مكة. وبمكة بيت الله.

ومعارفنا عن "البيت الحرام" ضئيلة، وفي الذي يذكره أهل الأخبار عنه ما لا يمكن قبوله ولا الأخذ به، لأنه لا يدخل في حدود التأريخ، ولغلبة الطابع القصصي عليه. ثم إن بعضه يناقض بعضاً، وفي بعضه تحيز وتعصب لبيت قرشي على بيت آخر. وحتى القسم الذي يتناول الأيام القريبة من الإسلام، لا يخلو من اضطراب ومن تناقض، وفيه شعر نحل على أناس، أقحمت أسماؤهم في قصص مكة، لتثبيته على طريقتهم في تثبيت الأخبار برواية شعر يتعلق بها.

ولم يعثر حتى الآن على كتابة جاهلية تكشف القناع عن تأريخ "البيت الحرام".ولذلك انحصر علمنا بتأريخه بما ورد في الموارد الإسلامية عنه.

وقد نص في القرآن الكريم، على ان إبراهيم وإسماعيل هما اللذان رفعا القواعد من البيت )وإذ جعلنا البيتَ مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى،وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل ان طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود. وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر. قال) ومن كفر فأمتعّه قليلاً ثم اضطره الى عذاب النار وبئس المصير. وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منا انك أنت السميع العليم(. وقد كان تأسيس البيت في ايام العرب الأولى،في ايام جرهم، على روايات أهل الأخبار،وفيهم تزوج. وفيهم تزوج. وفي عهده ظهر ماء زمزم.

ويذكر أهل الأخبار ان مكة حرم آمن، لا يحلّ فيه قتال،ولم يكن أهله يقاتلون فيه، وان أول بغي وقع فيه، كان حرب وقعت بين "بني السباق بن عبد الدار" وبين "بني على بن سعد بن تميم"، حتى تفانوا. ولحقت طائفة من "بني السباق" بعك،فهم فيهم. وقيل أول بغي كان في قريش: بغي"الأقايش"، وهم "بنو أقيش " من بني سهم، بغى بعضهم على بعض،فلما كثر بغيهم على الناس،أرسل الله عليهم فأرة تحل فتيلة، فأحرقت الدار التي كانت فيها مساكنهم فلم يبق لهم عقب.

وقد بقي البيت معبوداً مقدساً عند أهل مكة وعند غيرهم، غير أن المشركين حوّلوه إلى بيت لعبادة الأصنام والأوثان والشرك حتى عام الفتح، حيث أزال الرسول عنه آثار الجاهلية، وأمر بطمس معالم الوثنية. وصار حرماً آمناً خاصاً بالإسلام لا يدخله مشرك ولا تطأ أرضه أقدام غير مسلم مؤمن باللّه وبرسوله. ويذكر أهل الأخبار أن أهل مكة كانوا يعظمون البيت،وأن من سنن تعظيمهم له، أن من علا الكعبة من العبيد، فهو حرّ لا يرون الملك من علاها،ولا يجمعون بين عزّ علوّها وبين الرق.

وانهم لم يكونوا يبنون بنياناً مربعاً بمكة تعظيماً للكعبة. وان أول من بنى بها بيتاً مربعاً، "بديل بن ورقاء" الخزاعي،وهو أول من أتخذ بمكة روشناً، وكانوا قبل ذلك يتحامون التربيع في البناء كيلا يشبه بناء الكعبة وأن أول من سقف بمكة سقفاً "قصي بن كلاب"، وكان الناس قبل ذلك إنما ينزلون في العريش وأن أول من بوب بمكة باباً "حاطب بن بلتعة".

و "بديل بن ورقاء(،هو "بديل بن ورقاء بن عبد العزى"،شريف كتب اليه التي يدعوه إلى الإسلام، وكان له قدر في الجاهلية بمكة. فلو أخذنا برواية من قال انه كان أول من بنى بيتاً مربعاً بمكة، وأول من اتخذ بها روشناً، وجب جعل حدوث ذلك في ايام النبي، أو بسنين قليلة قبل المبعث،فهل يعقل ذلك ?والروشن الرف، و "الرشن" الكوة، من الألفاظ المعربة عن الفارسية.

وأما "حاطب بن أبي باتعة" فهو "حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو بن سلمة بن صعب بن سهل اللخمي"،حليف بني أسد بن عبد العزى،من الصحابة وممن شهد بدراً، كان حليفاً للزبير،وكان قد كتب كتاباً إلى قريش يخبرهم بتجهيز رسول الله اليهم، فضبط الكتاب قبل وصوله مكة، واعتذر.

فهو من الصحابة،وذكر ان الرسول أرسله إلى "المقوقس" صاحب الاسكندرية.

فهل يعقل أن يكون أول من بوّب باباً بمكة، وقد كانت البيوت قبله بمكة منذ وجدت، فكيف كان يدخل الناس اليها،وقد رأينا قصصاً لأهل الأخبار يروونه عن امتناع "الحمس" عن دخول البيوت من أبوابها، والحمس هم قريش وأهل مكة قبل دخول "حاطب" اليها ! ويذكر أهل الأخبار أن البيت قد تهدم مراراً، وأن السيول قوضت قواعده عدة مرّات،لذلك لم يتمكن "بيت إبراهيم وإسماعيل" من البقاء، ولكن الجاهليين حرصوا على المحافظة على أسسه وشكله وموضعه. وإنهم كانوا بعد كل هدم أو تصدع يصيبه يحاولون إرجاعه إلى ما كان عليه في أيام آبائهم وأجدادهم جهد امكانهم،لا يحدثون فيه تغييراً ولا يدخلون على صورة بنائه تبديلاً.

و "البيت الحرام" بناء مكعب، ولذلك قيل له "الكعبة". وصفه أهل الأخبار،فقالوا كانت الكعبة قبل الإسلام بخمسة أعوام صنماً، أي حجارة وضعت بعضها على بعض من غير ملاط، فوق القامة، وقيل كانت تسع أذرع من عهد إسماعيل،ولم يكن لها سقف، وكان لها باب ملتصقة بالأرض. وكان اول من عمل لها غلقاً هو تبع. ثم صنع "عبد المطلب"، لها باباً من حديد، حلاها بالذهب من ذهب الغزالين. وهو اول ذهب حليت به الكعبة. ووصف أهل الأخبار لها على النحو المذكور، يجعلنا نتصورها وكأنها خربة بدائية بسيطة، هي ساحة تكاد تكون مربعة أحيطت بجدار من أحجار رضمت يعضها فوق بعض من غير مادة بناء تمسك بينها، تحط في فنائها الطيور وسباع السماء، ولا يحول بين أرضها وبين أشعة الشمس المحرقة والأمطار التي تنزل على مكة أحياناً على شكل مياه خارجة من أفواه قرب، أي حائل. إنها في الواقع حائط من أحجار لا يزيد ارتفاعه على قامة إنسان.

ويذكر بعض أهل الأخبار أن أول من بنى جدار الكعبة، "عامر" الجادر من الأزد. فقيل له: "الجادر". و كان أول من جدر الكعبة بعد إسماعيل. وأول تسقيف لها كان - كما يذكر أهل الأخبار - في التعمير الذي أجري عليها في النصف الأول من القرن السابع للميلاد، وذلك قبل الإسلام بخمس سنين، وعمر الرسول يومئذ خمس وثلاثون سنة. وسبب ذلك حريق أصابها - كما يزعمون - فقرروا إعادة بنائها، واجتمعوا وعملوا رأيهم فكان قرارهم تسقيفها بخشب، وقد أقيم السقف على ستة أعمدة من الخشب،وزعت في صفين. وزادا فيها تسع أذرع، فصارت ثماني عشرة ذراعاً، ورفعوا بابها عن الأرض، فكان لا يصعد اليها إلا في درج أو سلّم. ورفعوا من جدرانها التي بنوها بساف من حجر وساف من خشب، حتى زادت على ما كانت عليه في الأصل. وورد في الأخبار ان رسول الله لما دخل الكعبة عام الفتح، قام عند سارية فدعا، وفيها ست سوارٍ.

وذكر أهل الأخبار، ان سبب بنيان الكعبة، هو انها كانت رضمة فوق القامة، وانها كانت قد تصدعت حتى تداعت جدرانها وتساقطت أحجارها، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك ان نفراً من قريش وغيرهم سرقوا كنز الكعبة، وانما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، فأجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها. ولم يكن هذا البناء الجديد بناءً فخماً،كما يظهر من الوصف الوارد في كتب أهل الأخبار. كل ما فيه أنه غرفة سقفت الآن بخشب، أقيم سقفها على صفين من أعمدة، كل صف ذي ثلاثة أعمدة. وأما حيطانها، فقد زيد ارتفاعها فصار ثماني عشرة ذراعاً، بعد أن كانت تسع أذرع، أو ارتفاع قامة أو أعلى من ذلك بقليل. وقد بنيت هذه المرة من مادة بناء قوية، جعلت مدماكاً من حجارة ومدماكاً من خشب، فكان الخشب خمسة عشر مدماكاً،والحجارة ستة عشر مدماكاً. وجعلوا سقفها مسطحاً له ميزاب، يسيل منه ماء المطر. وهو على الجملة لا يقاس بشيء بمعابد العربية الجنوبية مثل معبد "المقه" بمدينة مأرب أو المعابد الأخرى التي تمكن الباحثون من الوقوف على أسسها ومعالمها، من حيث مساحة البناء أو الفن أو الروعة والعظمة.

ويذكر أهل الأخبار أن أهل مكة استعانوا بتسقيف البيت بخشب سفينة رجل من تجار الروم رمى البحر بسفينته إلى الساحل إلى "الشعيبة"، وهو مرفأ السفن من ساحل الحجاز، وكان مرفأ مكة، ومرسى سفنها قيل "جدة". فجاؤوا بالخشب إلى مكة، وكان بها نجار "قبلطي"، استعين به في تسقيف البيت بذلك الخشب. وذكر أن الذي سقف البيت علج كان في السفينة، يحسن النجارة اسمه "باقوم"، فجئ به مع الخشب، وسقف الكعبة. وقد سألهم عن كيفية تسقيفها هل يجعل السقف قبة أو مسطحاً، فامروه أن يكون مسطحاً، فعمله على ما أمروه به. ويذكرون أن قريشاً حين أرادوا بناء الكعبة أتى "عبد الله بن هبل ابن أبي سالم"، ومعه مال، فقال: دعوني أشرككم في بنائها، فأذنوا له فبنى الجانب الأيمن، ف "لبني كلب يد بيضاء في نصرتهم لقريش حين بنوا الكعبة"، وصاحب هذا الخبر هو "ابن الكلبي"، ولا استبعد أن يكون خيره هذا من وحي العاطفة فى قومه الكلبيين.

وذكر أن "باقوم" الرومي، كان يتجر إلى "المندب"، فانكسرت سفينته بالشعيبة، فخرجت اليه قريش فأخذوا خشبها، وقالوا له ابنها على بنيان الكنائس، وقال لقريش: هل لكم أن تجروا عيري في عيركم، يعني التجارة، وأن أمدكم بما شئتم من خشب ونجار، فتبنوا به بيت ابراهيم.

ويذكر الأخباريون انه كان في بطن البيت قرنا كبش معلقان في الجدار تلقاء من دخلها يخلّقان ويطيبّان اذا طيب البيت، وقد علق عليهما معاليق من حليّ كانت تهدى الى الكعبة. ويرمز القرنان إلى قرني الكبش النبي ذبحه ابراهيم الخليل، وقد بقيا في الكعبة إلى ايام "عبد الله بن الزبير" فاحترقا مع الكعبةْ. وقد زوقت الكعبة بعد هذا الحريق، زوق سقفها وجدرانها من بطنها ودعائمها، وجعلت " في دعاماتها صور الأنبياء وصور الشجر وصور الملائكة، فكان فيها صورة ابراهيم الخليل الرحمان، شيخ يستقسم بالأزلام، وصورة عيسى بن مريم وأمه، وصورة الملائكة عليهم السلام أجمعين. فلما كان يوم فتح مكة دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، البيت، فأرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب، فجاء بماء زمزم، ثم أمر بثوب فبلّ بالماء، وأمر بطمس تلك الصور فطمست. ووضع كفيه على صورة عيسى بن مريم وأمه عليهما اسلام وقال: أمح جميع الصور، إلا ما تحت يدي، فرفع يديه عن عيسى بن مريم وأمه ونظر إلى صورة ابراهيم، فقال: قاتلهم الله جعلوه يستقسم بالأزلام، ما لابراهيم والأزلام. وقد بقيت صورة عيسى بن مريم وأمه، إلى ايام عبد الله بن الزبير، فلما تهدم البيت، تهدمت الصورة معه.

وأعاد الجاهليون - كما يذكر أهل الأخبار - الصنم هبل إلى مكانه، نصبوه أمام "الغبغب"، وأعادوا معه بقية الأصنام، التي كانت تتعبد لها بعض القبائل. ووضعوا حول الكعبة أصناماً أخرى، يجب أن تكون من الدرجة الثانية في المنزلة أي أصنام قبائل ضعيفة، لذلك وضعت خارج البقعة المقدسة. وقد أوصلت الروايات عدة أصنام الكعبة عام الفتح إلى "365" صنماً، كان بعضها منحوتاً من الحجارة، وبعضها معمولاً من النحاس، وبعضها قوارير، وكان صنم خزاعة قوارير صفر. ولما دخل الرسول مكة، أمر بها فأزيلت وحطمت، فلم يبق من يومئذ بها صنم. وذكر ان النبي دخل مكة "وحول الكعبة ثلاثماثة وستون نصباً. فجعل يطعنها بعود كان بيده. ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً ".

وذكر في بعض الروايات أن رسول الله بعد أن طاف بالبيت سبعاً على راحلته دخل الكعبة فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحهاْ. وأنه لما طاف بالبيت وجد حولها أصناماً مشدودة بالرصاص، فحطمت، وأعظمها "هبل" صنم قريش.

ويتبين من الروايات الواردة عن بناء الكعبة وعن اختلاف أهل مكة وتشاحنهم وتنافسهم فيما بينهم. على شرف وضع "الحجر الأسود" في مكانه أنه كان لهذا الحجر أهمية خاصة في نظرهم، وأنه كان أقدس شيء عندهم. وإلا لما اختلفوا هذا الاختلاف على وضعه، حتى ليمكن أن يقال إنه كان فوق أصنام الكعبة منزلة، بدليل عدم ورود لشارة ما إلى وقوع اختلاف بشان إعادة صنم من تلك الأصنام إلى مواضعها. ولو كانت الأصنام أقدس منه، لكان الاختلاف على شرف وضع تلك الأصنام لا الحجر الأسود بالطبع. وهذا التقديس الزائد يحملنا على التفكير في أسبابه وفيَ الميزة النبي ميزت هذا الحجر على الأصنام وهي في طبيعتها حجارة مثله. لقد ذهب "ولهوزن" إلى أن قدسية البيت عند أهل الجاهلية، لم تكن بسبب الأصنام التي فيه، بل كانت بسبب هذا الحجر. لقد كان هذا الحجر مقدساً في ذاته، وهو الذي جلب القدسية للبيت، فصار البيت نفسه مقدساً، مقدساً في حد ذاته، بحجره هذا الذي هو فيه، ولعله شهاب "نيزك"، أو جزء من معبود مقدس قديم.

وقد ذهب بعض المستشرقين إلى ان اابيت لم يكن إلا بمثابة إطار للحجر الأسود الذي كان من أهم معبودات قريش، لأنه بمثل بقايا حجر قديم كان مقدساً عند قدماء الجاهليين، غير أنه لم يكن معبود قريش الوحيد.

ويلاحظ ان التقرب إلى الأحجار في بيوت العبادة كانت شائعة بين الجاهليين.

وقد ذكر ان في "غيمان" موضع عبادة وفيه "حجر قحمم" "حجر قاحمم" "حجر قاحم"، وهو يشبه الحجر الأسود الذي كان يتقرب اليه الجاهليون في مكة. والحجر الذي كان في كعبة نجران وفي "تسلال"، وفي مواضع أخرى عديدة ذشرها "الهمداني". وقد عثر على مقابر جاهلية عديدة تبين للذين نقبوا فيها ان لها صلة بعبادة الأحجار، وان تلك المقابر أقيمت عند موضع مقدس لوجود حجر مقدس فيه.

وقد كان الجاهليون يلمسون الحجر الأسود للتبرك به، وهو مبني في جدار   

الكعبة، فيكون اللمس بالطبع للجانب البارز منه. وبين موضع "الحجر الأسود" وباب البيت يكون "الملتزم"، وفي الناحية الشمالية الغربية "الحجر" أو "الحطيم".

وكانت الجاهلية تتحالف وتحلف عنده. ويقال للجهة التي فيها "الحجر الأسود" "الركن". وذكر ان العرب في الجاهلية كانت تطرح بموضع الحطيم ما طافت به من الثياب، فيبقى حتى يتحطم بطول الزمان، فسمي الموضع حطيماً. وقد كانت الجاهلية تتحالف عند "الملتزم" بالأيمان، وتدعو على الظالم، وتعقد الحلف.

وذكر "اليعقوبي" ان الجاهليين كانوا قد وضعوا "إسافاً" و"نائلة"، داخل ألمسجد الحرام. وضعوا كل واحد منهما على ركن من أركان البيت، فكان الطائف اذا طاف بدأ، بإساف فقبله وختم به. وذكر انهم نصبوا على الصفا صنماً، يقال له "مجاور الريح"، وعلى المروة صنماً يقال له "مطعم الطير". وفي روايات أهل الأخبار عن تزويق الكعبة بالصور لبس وغموض وهي روايات عديدة، يفهم من بعضها أن هذه الصور كانت بالزيت، رسمت على دعائم السقف. ويفهم من بعض آخر أنها كانت قد رسمت على أشياء متنقلة، وأنها كانت معلقة على جدران البيت. ويفهم من بعض الروايات ان الرسول أمر فطمست معالم جميع الصور، ويفهم من بعض آخر، أنه استثنى منها صورة مريم وابنها عيسى، وأنها بقيت كما ذكرت إلى ايام عبد الله بن الزير. فلما تهدم البيت: تهدمت الصورة معه. أما رسم شجر أو صور ملائكة أو أشباه ذلك في الكعبة، فأمر لا اعتراض عليه، إذ يجوز أن يكون ذلك في معبد وثني، يضم الأصنام. ولكن ما للوثنية والانبياء، وما شان للشرك بمريم وبابنها وببقية للرسل حتى ترسم صورهم على جدران أو أعمدة البيت ? ثم هل كانت الكعبة مزوّقة قبل هذا التزويق بالرسوم وللصور ? وهل كانت هذه الصور من بقايا صور قديمة ? أم هي صور حديثة رسمت بعد أن أعادت قريش بناء البيت ? ورأيي ان هذه للصور هي من عمل عمّال نصارى أراهم للروم الذين جلبهم أهل مكة مع " باقوم" بعد تحطم سفينتهم عند الساحل للاتجار معهم ولبناء للكعبة.

و "باقوم" كما يقول الاخباريون. هو الذي أشرف على إقامة البناء و هندسته. وهو الذي سقف للبيت وأقامه على عمد. ولا أستبعد ان يكون هو الذي رسم تلك الصور وحده أو بالاستعانة بإخوانه من بني جنسه الروم. وقد كان هؤلاء نصارى، فرسموا على جدران البيت أو أعمدته صور قصص كتابي، ومنه صور الانبياء، للزينة والزخرف. لم يجد أهل مكة فيها ما يناقض عقيدتهم في الاصنام. ومن يدري، فلعله رسم لهم ذلك على أن له صلة بعقيدتهم التي كانوا عليها، فلم يعترضوا لذلك عليه. أما طمس الإسلام لتلك الصور، فللعلماء في ذلك كلام. وقد أشير اليه في كتب الحديث، وأكثرهم على أن الرسول لم يستثن من ذلك الطمس صورة.

وفي الحرم بئر "زمزم"، وهناك مقام ابراهيم، وبين زمزم ومقام ابراهيم كان موضع الذبح، ذبح القرابين. ويري "ولهوزن" احتمال كون موضع المقام هو المكان الذي كان الجاهليون يذبحون فيه.

ويرجع الأخباريون تأريخ بئر "زمزم" إلى يوم بناء الكعبة وعهد اسماعيل. ويقال لها "بئر اسماعيل" أيضاً. وهي في الحرم في جهة الجنوب الشرفي من للكعبة في الجهة المقابلة للركن. ولا نعرف من أمرها شيئاً يذكر. ويظهر من روايات أهل الأخبار عنها انها دفنت في ايام جرهم، وان أهل مكة صاروا يستقون الماء من آبار أخرى احتفروها، ويستوردونه من الخارج اليها، حتى اذا كانت ايام عبد المطلب، القى في قلبه ان يحتفرها، فحفرها واستخرج منها كنزأَ، وظهر الماء بها منذ ذلك اليوم. ولأهل الأخبار تفاسير عديدة للفظة "زمزم"، تدل على انهم لم يكونوا على علم باًصل التسمية، مما جاء فيها ان الملك "سابور" لما حج للبيت اشرف عليها وزمزم فيها، فقيل لها "زمزم". وهكذا جعلوا "سابور" من المؤمنين الحجاج للبيت الحرام، المتبركين بماء زمزم !   

وكان حرم "الكعبة" كما يظهر من روايات أهل الاخبار واسعاً شاسعاً ذا نبت وشجر. ولم يجرؤ أحد على احتطاب شجره أو قطعه لحرمة المكان ولحرمة ما فيه، فبقيت أشجاره على ما هي عليه، حتى إذا ما كانت ايام "قصي"، ضاقت مكة بمن وفد عليها من قريش، ممن جاء بهم "قصي" اليها، وقطعها "قصي" رباعاً، وأرادوا للبنيان، ولكنهم هابوا قطع شجر الحرم للبنيان، وتذكر رواية أنهم قالوا لقصي: كيف نصنع من شجر الحرم ? فحذرهم قطعها وخوفهم العقوبة في ذلك. فكان أحدهم يحوف بالبنيان حول الشجرة حتى تكون في منزله. وتذكر روايات أخرى العكس. تذكر أن قريشاً هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه. وبذلك تقلصت أرض الحرم وقلت أشجاره بالتدريج.

وتذكر رواية ان اهل مكة كانوا يهابون حتى في الإسلام قطع شجر الحرم.

وقطع كل شجرة دخلت من أرض الحرم في دور أهل مكة. وان "عمر" لما قطع "دوحة" كانت في دار "اسد بن عبد العزى"، وكانت تنال أطرافها ثياب الطائفين.بالكعبة، وذلك قبل ان يوسع المسجد، و دّاها بقرة. وتذكر ايضاً ان "عبد الله بن الزبير" حين ابتنى دوراً ب "قعيقعان" ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان، وجعل دية كل شجرة بقرة. وذكر ان "أبا حنيفة "، قال إن كانت الشجرة التي في الحرم مما يغرسها الناس ويستنبتونها فلا فدية على من قطع شيئاً منها، وإن كان من غيرها ففيه القيمة بالغاً ما بلغت.

وفي الحديث ان الله حرم مكة، وحرم شجر الحرم في جملة ما حرمه على الناس. ويظهر ان أرض مكة كانت كلها في الأصل قبل ايام "قصي" حمى للكعبة، على عادة الجاهلين.في تخصيص "حمى" لأربابهم تكون حول بيوتها، ولهذا كانت أشجار هذا الحمى أشجاراً مقدسة لا يجوز قطعها ولا احتطابها، سوى أخذ بعض أغصانها أو لحائها لعمل قلائد منها للاحتماء منها، فلما استباح أهل مكة لأنفسهم ا!تطاول على الحرم، أي على هذا احمى، بقطع شجره وتحويل أرضه إلى بناء، أو بابقاء بعض أشجاره في داخل الدور، بقوا ينظرون إلى ذلك الشجر الباقي في البيوت نظرة هيبة وتقدير، باعتبار انه من بقايا الحرم القديم. وبذلك صغرت مساحة الحرم، وقلت مساحته، حتى اضطر الخليفة "عمر" إلى توسيعه بشراء البيوت التي أقامها الناس عليه وادخالها في الحرم من جديد، وذلك حين ضيق الناس على الكعبة وألصقوا دورهم بها، فقال: " إن الكعبة بيت الله، ولا بد للبيت من فناء، وانكم دخلتم عليها ولم تدخل عليكم "، فاشترى بعض الدور من أهلها وهدمها وبنى المسجد المحيط بها، ثم اشترى عثمان دوراٌ أخرى وأغلى في ثمنها ثم زاد في المسجد من جاء بعدهما حتى وصل الى النحو الذي هو عليه الآن.

ولم يكن للحرم في الجاهلية سور، إنما كانت تحدد معالمه وحدوده أنصاب نصبت على اطرافه. لتكون علامة على ابتدائه وانتهائه. أما ما نراه في الوقت الحاضر من وجود سور مرتفع له، أي حائط به غرف، فإنه مما حدث في الإسلام. وذكراهل الأخبار ان الحرم قد شرب على حدوده بالمنار- القديمة التي بيَن ابراهيم مشاعرها، وكانت قريش تعرفها في الجاهلية والإسلام، لانهم كانوا سكان الحرم، ويعلمون ان ما دون المنار إلى مكة من الحرم، وما وراءها ليس من الحرم. فما كان دون المنار،فهو حرم لا يحل صيده ولا يقطع شجره، وما كان وراء المنار، فهو من الحل يحل صيده، إذا لم يكن صائده محرماً.

الكسوة

وكسوة البيت عادة قديمة، كان يقوم بها الجاهليون. ينسبها الأخباريون إلى "تبع أسعد الحميري"، فيذكرون انه كساها بالأنطاع، ثم كساها بثياب جدة من عصب اليمن، أغلى ثياب معروفة في تلك الأوقات. ولا يستبعد ان يكون الإكساء من بقايا المنشأ القديم للبيت، حيث كان خيمة في الأصل. وقد ورد في الأخبار أنه كان في موضع البيت خيمة قبل ان تكون الكعبةا. وكذلك كان معبد بني اسرائيل خيمة في الأصل قبل أن يبنى الهيكل.

ويذكرون أن التبع الذي.كسا البيت، هو التبع الذي أتى به "مالك بن عجلان" إلى يثرب لطرد اليهود عنها. وذكروا أن ذلك التبع هو "أسعد ابو كرب الحميري". وقد كساها الوصايل، ثياب حبرة من عصب اليمن. وكانت الكعبة تكسى بالحبرة واليرود وغيرها من عصب اليمن، تكسى بها ويوضع ما يفضل منها في خزانة الكعبة. فإذا تمزقت الكسوة، تستبدل بكسوة أخرى تؤخذ من الخزانة. تكسى من الداخل والخارج، وتطيب بالخلوق وتبخر بالمجامر.

وقد سبق لي أن تحدثت عن "التبع اسعد"، وذكرت ما قاله رواة الأخبار عنه، وما جاء عنه في نصوص المسند. وكان قد علق في ذاكرة أهل الأخبار أشياء عنه وعن بعض من جاء بعده، زوقت ونمقت على طريقتهم في رواية أكثر أخبار اليمن. ولعل ما ذكروه عن اكسائه البيت، هو من مصنوعاتهم التي وضعوها في الإسلام ليجعلوا لأهل اليمن فضلاً على الكعبة، فضل يسبق فضل العدنانيين عليها، وقد رأينا أنهم أوجدوا لهم جملة أنبياء نسبوهم إلى قحطان، ووضعوا أشياء أخرى كثيرة، في اظهار فضل للقحطانيين على الاسماعيليين المتعربين يوم فات الحكم من قحطان وصار في اهل مكة في الإسلام. فكان النزاع القحطاني العدناني المعروف.

ولو جارينا أهل الأخبار، واخذنا بروايتهم في ان التبع "لسعد ابو كرب الحميري"، كان أول من كسا الكعبة، نكون قد رجعنا بمبدا تأريخ إكساء الكعبة إلى نهاية القرن الرابع و أوائل القرن الخامس للميلاد. وقد سبق ان تحدثت عن هذا الملك في الجزء الثاني من هذا للكتاب.

ويظهر من روايات أهل الأخبار ان كسوة الكعبة"لم تكن كسوة واحدة، ولا من نسيج واحد، بل كانت انطاعاً، أي أبسطة من أدم، وحبرة وبروداً، وغيرها من عصب اليمن. وهي برود يمنية يعصب غزلها ثم يصبغ وينسج، فياًتي موشىًَ، وقيل هي برود مخططة. وذكر ان النبي كساها الثياب اليمانية، وان عمر وعثمان كسواها بالقباطي.

وذكر ان أول من كسا البيت الحرير "نتيلة بنت جناب بن كليب" وهي من "بني عامر" المعروف بالضحيان، وكان من ملوك ربيعة. وكان العباس ابن عبد المطلب ابنها، قد ضاع وهو صغير، فنذرت امه إن وجدته ان تكسو للبيت الحرير، فكسته، فهي أول من كساه ذلك. وقيل أول من كسا للبيت للديباج خالد بن جعفر بن كلاب. أخذ لطيمة من البر وأخذ فيها أنماطاً فعلقها على للكعبة،.

وروي انهم كانوا يكسون الكعبة يوم "عاشوراء"، وذكر ان "بني هاشم" كانوا يكسونها يوم التروية بالديباج، لتظهر في أحسن حال، ويراها الناس على ذلك. أما اذا حلّ يوم عاشوراء، فانهم يعلقون الازار عليها. وورد انهم كانوا يكسون الكعبة بالديباج يوم التروية، فيعلق عليها القميص ولا يخاط، حتى اذا ما انصرف الناس من "منى" خيط وترك الأزار، ثم تكسى بالقباطي يوم عاشوراء، ويعلق عليها الازار، ويوصل بالديباج.

ولا نستبعد احتمال كون يوم "عاشوراء" من الأيام التي كانت لها حرمة وقدسية عند أهل الجاهلية، وإن كنا نجهل كل شيء عنه وعن سبب احتفال أهل مكة به، وصومهم فيه. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى احتمال تأثر قريش بعاشوراء لليهود، كلن يكون أحد سادة مكة قد أخذ ذلك لليوم عنهم فعظمه، فاخذه اهل مكة عنه وجعلوه سنةَ لهم. غير ان من الجائز ألا يكون لهذا اليوم صلة بعاشوراء لليهود، وانما كان من تقاليد أهل مكة القديمة المعروفة عند غيرهم أيضاً، ولا صلة له بيوم يهود.

ويظهر انهم كانوا يضعون الأكسية الجديدة فوق الأكسية للقديمة، فلايرفعونها عنها، فكانت تتراكم بعضها فوق بعض، فلما جاء الإسلام، استمروا على ذلك أمداً، ثم رأى "شيبة بن عثمان" سادن البيت، تجريدها من أكسية الجاهلية، لأنها رجس من عمل الجاهليين فأزيلت. ثم رأى الخليفة المهدي، أن الأكسية قد أثقلت الكعبة، فأمر بتجريدها، تخفيفاً عنها، واكتفى بثلاث كسيّ من القباطي والخز والديباج.

وذكر أهل الأخبار أن اول من حلّل البيت "عبد المطلب"، جدّ النبي، لما حفر "بئر زمزم"،وأصاب فيه من دفن جرهم غزالين من ذهب، فضربهما في باب الكعبة.

المال الحلال

وقد تجنب أهل الجاهلية. بناء معابدهم بمال حرام، فلما أرادت قريش بنيان الكعبة نادى مناديهم: لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيباً. لا تدخلوا.فيه مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. هذا ما يذكره أهل الأخبار ويروونه عن بناء البيت الحرام.

بقية محجات العرب

ومن محجّات العرب وبيوتها المعظمة: بيت عرف ب "بس" لغطفان، كانت تعبده. بناه "ظالم بن أسعد بن ربيعة بن مالك بن مرة بن عوف"، لما رأى قريشاً يطوفون بالكعبة ويسعون بين للصفا والمروة، فذرع البيت، وأخذ حجراً من الصفا وحجراً من المروة، فرجع إلى قومه، فبنى بيتاً على قدر البيت ووضع الحجرين، فقال: هذان الصفا و المروة فاجتزئوا به عن الحج، فأغار "زهير بن جناب الكلبي "، فقتل ظالماً وهدم بناءه. وورد في رواية أخرى ان "العزى" سمرة عبدتها غطفان. أول من اتخذها "ظالم بن أسعد"، فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، بنى عليها بيتاً وسمّاه بسّاً، وأقام لها سدنة، فبعث اليها رسول الله "خالدَ بن الوليد"، فهدم البيت وأحرق السمرة.

وفي أخبار أهل الأخبار عن بيت "العزى"، أوهام وتناقض. فتراهم يجعلون "العزى" صنماً مرة ويجعلونها "سمرة" أو "شجرة" أو ثلاث سمرات مرة اخرى، ثم تراهم يخلطون بين البيت وبين الحرم الذي كان حوله، كما بينت ذلك في اثناء حديثي عن "العزى". والذي أراه، انه كان للعزى بيت هو " بس"، فيه صنم العزى، وكان حوله حرم، كحرم مكة، به،"سمرة" أو ثلاث سمرات، كان الناس يقدسونها أيضاً ويتقربون اليها بالنذور. وهي جزء متمم لبيت العزى. فلما أمر الرسول خالد بن الوليد، بهدم العزى، هدم البيت وحطم الصنم، فرجع، فلما سأله الرسول عنه، واستفسر منه عن السمرة أو السمرات الثلاث، وعلم منه انه لم يقطعها، أمره بالعودة اليها وقطعها اجتثاثاً لكل علامة من علائم عبادة هذا الصنم. فقطعها. فقطع عن عباّدها كل صلة لهم كانت تربطهم بذلك الصنم.

ومن محجّات الجاهليين، بيت الصنم "ذو الخلصة"، ذكر أنه كان بتبالة، وكان يسمى ب "الكعبة اليمانية"، تمييزاً له عن الكعبة التي عرفت ب "الكعبة الشامية". وذكر أنه نفسه عرف ب "الكعبة الشامية"، كما دعي ب "كعبة اليمامة"، وقد تحدثت عنه في أثناء كلامي على هذا الصنم. ولما هدم البيت والصنم بأمر الرسول،صار مكانه موضع عتبة باب مسجد تبالة. وذكر أن البيت هو "ذو الخلصة"،والصنم "الخلصة"، وقيل "ذو الخلصة: الصنم نفسه" وقد عرف البيت ب "الكعبة" كذلك، لأنه كان بناءً مكعباً. وكان بيتاً في خثعم باليمن، وكانت بجيلة تعظمه كذلك. به صنم، هو "ذو الخلصة" ونصب يذبحون عليه، ويظهر أنه كان من البيوت المعظمة الكبيرة بدليل، ما ذكره العلماء من أن الرسول قال لجرير بن عبد الله البجلي: "ألا تريحني من ذي الخلصة" فذهب اليه وأحرق البيت وهدم الصنم وكسر النصب. وذكر أن موضع "ذي الخلصة"، صار مسجداً جامعاً لبلدة يقال لها: العبلات من أرض خثعم.

وقد ذكر "أبو العلاء المعري" أن فدك كانت في الجاهلية ذات أصنام. وكانوا يقصدونها للحج، وذكر تلبيتهم لها.

وكان بيت "اللات" من البيوت المعظمة عند ثقيف. كانوا اذا عاد أحدهم من سفر، فاول ما يفعله أن يأتي "الربة"، وهي اللات ليتبرك بها. وهي الصخرة النبي كانت تعبدها ثقيف.. ولما أسلم "عروة بن مسعود الثقفي"، وعاد إلى قومه دخل منزله، فانكر قومه عليه دخوله قبل أن ياًتي الربة، يعني اللات. وفي حديث وفد ثقيف: كان لهم بيت يسمونه الربة. يضاهون بيت اللّه. وكانت ثقيف تضاهي أهل مكة، وتنافسهم على الزعامة. وكان لبيت اللات أستار وسدنة وحوله فناء معظم، يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب. ولأهل اليمن بيوت تعبدوا لها، وبقيت معظمة عندهم إلى الإسلام. من ذلك بيت عرف ب "بيت رئام". ذكر "ابن اسحاق" ان أهل اليمن كانوا يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون. وكانوا يعتقدون ان رئاماً كان فيه شيطان، وكانوا يملاون له حياضاً من دماء القربان، فيخرج فيصيب منها، ويكلمهم، وكانوا يعبدونه. وبيت غمدان، وقد ذكروا ان الضحاك بناه باليمن على اسم الزهرة، فجعلوه بيتاً، أي موضع عمادة، بينما هو دار حكم وبيت الملوك بصنعاء، كما سبق ان تحدثت عنه.

وذكَر بعض أهل الأخبار ان "ريام" بيت بصنعاء كان لحمير، وكان به كلب أسود. وان الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه وهدما البيت. وكان "ذو الكعبات" لبكر ولتغلب ابني وائل وإياد بسنداد، وله يقول الأعشى: بين الخورنق والسدير وبارق  والبيت ذو الكعبات من سنداد 

وذكر انه بيت كان لربيعة، كانوا يطوفون به، وقد ذكره الأسود بن يعفر في شعره، فقال: والبيت ذي الكعبات من سنداد 

فالبيت للاسود لا للأعشى على هذه الرواية.

وقد تعرض "ابن كثير" لموضوع بيوت الأصنام: اللات والعزى ومناة، فقال: " وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر، تعظمها العرب كتعظيم الكعبة، غير ان هذه الثلاثة التي تنص عليها في كتابه العزيز... قال ابن اسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب وتهدى لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها وتنحر عندها". وما فات من أسماء المحجات في العربية الجنوبية والشرقية وفي نجد، قد يزيد عدده على ما ذكرنا. فات عنا، لأن أهل الأخبار لم يذكروا شيناً عنها، لانصراف اهتمامهم إلى الحجاز وما كان له صلة بالإسلام، من أرضين، فحرمنا بذلك من الوقوف على أخبار المحجات في المواضيع الأخرى من جزيرة العرب.

ويحجّ الناس إلى هذه البيوت في أشهر معينة من السنة، هي الأشهر الحرم، وهي أشهر مقدسة لايحل فيها قتال ولا اعتداء على أحد،فهي أشهر هدنة وسلام، أشهر خصصت بالآلهة "، فلا يجوز انتهاك حرمتها. وفي شهر الحج الذي يحج فيه الناس إلى أصنامهم، يجتمع، الناس في المعبد لأداء الفروض المكتوبة المعينة، فيكون الاجماع اجتماعاً دينياً وسياسياً وتجارياً يتعامل فيه الناس. ويتبادلون به السلع، ويعود على أهل الموضع الذي فيه المعبد بأرباح كبيرة ولاشك. وقد ذكرت أن هذه الحرمة لم تكن عامة، فقد كان من العرب من لا يراعيها ولا يحترمها، تم إننا لا ندري إذا كان أهل العربية الجنوبية أو العربية الشرقية كانوا يعرفونها أم لا! وليست كل المعابد محجة للناس، يقصدونها في الأيام أو في المواسم. فقد كان في الموضع الواحد جملة معابد في بعض الأحيان، ولا يحج اليها، بل كانت المعابد التي يحج اليها معدودة معينة. لا بد أن تكون لها ميزة شرفتها على سائر دور العبادة الأخرى. ولهذه الميزة قصدت في المواسم من أماكن بعيدة. واذا استثنينا ما ورد عن مكة، فإننا لا نكاد نعرف شيئاً ذا بال عن المعابد الكبيرة الأخرى. ثم إن في أكثر ما ذكره أهل الأخبار عن مكة غمًوض ومجال واسع للنقد، لأنه منقول عن أفواه رجال يظهر أنهم نقلوا ما قيل لهم دون تحفظ أو تمحيص.

المزارات

وقد عظم بعض أهل الجاهلية قبور ساداتهم ورؤسائهم واتخذوها أضرحة يزورونها ويتقربون يها ويتبركون بها، وقد بلغ من بعضهم ان جعلها حمى وملاذاً من دخل اليها أمن، ومن لجاً اليها وكان محتاجاً أغيث، ومن طلب العون واستغاث بصاحب القبر أغيث، حتى صارت في منزلة المعابد. ومنها أضرحة السدنة والكهان وسادات القبائل، فقد كان قبر "تميم" جدّ قبيلة "تميم" مزاراً معظماً عند أبناء القبيلة من احتمى به من "بني تميم" ومن غيرهم صار آمناً. ولم أجد في أخبار اهل الأخبار مما يفيد بوجود أضرحة في مكة. اتخذت مزاراً وموضعاً يتبرك به. يعظمونه ويتقربون اليه بالنذور والذبائح. قفد كان قير قصي معروفاً عند أهل مكة، ولكنهم لم يتخذوه مزاراً ومصلى على ما يتبين من روايات الأخباريين.

الفصل الخامس والسبعون
الحنفاء

وقد أشار القرآن الكريم إلى جماعة من العرب لم تعبد الأصنام، فلم تكن من اليهود ولا النصارى، وانما اعتقدت بوجود إله واحد عدته. وقد ذكر المفسرون وأهل الأخبار أسماء جماعة من هؤلاء، غير ان ما ذكروه عنهم غامض لا يشرح عقائدهم، ولا يوضح رأيهم في الدين، فلم يذكروا عقيدتهم في التوحيد، ولا كيفية تصورهم لخالق الكون.

وقد عرف هؤلاء بالحنفاء وبالأحناف، ونعتوا بأنهم كانوا على دين ابراهيم، ولم يكونوا يهودأَ ولا نصارى، ولم يشركوا بربهم أحداً. سفهوا عيادة الأصنام، وسفهوا رأي القائلين بها.

وقد أشير إلى "الحنيفية" و "الحنفاء" في كتب الحديث. وقد بحث عنها شرّاح هذه الكتب. ومما نسب اليه حديث: "لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة". وحديث: "بعثتُ بالحنيفية السمحة السهلة". وحديث "أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة".

ويذكر أهل الأخبار أن الجاهليين جميعاً كانوا قبل عمرو بن لحي الخزاعيّ على دين ابراهيم. كانوا موحدين يعبدون الله جل جلاله وحده، لا يشركون به ولا ينتقصونه. فما جاء عمرو بن لحيّ، أفسد العرب، ونشر يينهم اضاليل عبادة الأصنام، بما تعلمه من وثنيي بلاد الشام حين زارهم، وحل بينهم، فكان داعية الوثنية عند العرب والمبشر بها ومضلهم الأول. وهو على رأيهم موزع الاصنام بين القبائل، ومقسمها عليها. فكان من دعوته تلك عبادة الاوثان، إلى أن جاء الإسلام فأعاد العرب إلى سواء السبيل، إلى دين ابراهيم حنيفاً، وما كان ابراهيم من المشركين.

ولقد فشت دعوة عمرو بن لحي وانتشرت، حتى دخل فيها أكثرهم، والضلال سريع الانتشار، وقلّ عدد من حافظ على دين ابراهيم والمراعي لأحكام دين التوحيد الحنيف: من اعتقاد بوجود إلهَ واحد أحد، وطواف بالبيت، وحج اليه، وعمرة، ووقوف على عرفة وهدي للبدن، واهلال بالحج والعمرة، وغير ذلك. فلم يبق منهم إلا عدد محدود في كل عصر إلى زمن البعثة المحمدية.

ولسنا نملك ويا للاسف شيئاً من الجاهلية يعيننا في الوقوف على عقائد الأحناف ودينهم، فليس في كتابات المسند ولا في الكتابات الجاهلية الأخرى، بل ولا في كتب اليونان واللاتنين شيء عن عقيدتهم وعن آرائهم،لذلك اقتصر علمنا بأحوالهم على ما جاء في المؤلفات الإسلامية وحدها، والفضل في حفظ أخبارهم للقرآن الكريم، فلولا اشارته اليهم وذكره لهم، لما اهتم المفسرون وأصحاب الأخبار بجمع ما كان عالقاً في ذهن الناس عنهم. وللحديث وكتب السير والأدب فضل في جمع أخبارهم يجب ألا ينهى كذلك.

وللعلماء الإسلاميين اراء وتفسيرات في أصل لفظة "حنيف" وحنفاء وأحناف وفي معانيها. فهم يقولون ان الأصل "حنف"، وحنف بمعنى مال. وحنف القسمين ميل كل واحدة منهما نحو الأخرى. والحنًفُ هو مال عن الضلال إلى الاستقامة، والحنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال. والحنيف هو المائل. ومن هذا المعنى أخذ الحنف. وأما الحنيف، فالشيء يميل الى الحق،وقبل الذي يستقبل. البيت الحرام، أو الحاج أو من يختتن،والحنيف من أسلم في أمر الله فلم يلتوِ في شيء، والحنيف المستقيم الذي لا يلتوِ في شيء.

وقد وردت لفظة "حنيفاً" في عشر مواضع من ا!قرآن الكريم. ووردت لفظة "حنفاء" في موضعين منه. وبعض الايات التي وردت فيها آيات مكية، وبعضها آيات مدنية. وقد نص في بعض منها على ابراهيم، وهو على الحنيفية، ولم ينص في مواضع منها على اسمه. وقد وردت لفظة "حنفاء" في سورتين فقط، هما: سورة الحج وسورة البينة.، وهما من السور المدنية.

وذكر بعض أهل الأخبار ان الحنيف عند أهل الجاهلية من اختتن وحج البيت فكل من اختتن وحج البيت هو حنيف. وقد رأى الطبري ان ذلك لا يكفي، بل لا بد من الاستقامة على ملة ابراهيم واتباعه عليها. والذين يذكرون أن الحنيف هو من اختتن وحج البيت، يذكرون أن العرب لم تتمسك في الجاهلية بشي من دين ابراهيم غير الختان وحج البيت، ولهذا فكل من اختتن وحج البيت، قيل له حنيف. وقد أضاف بعضهم اعتزال الأصنام والإغتسال من الجنابة إلى ما ذكرت، وجعلوا ذلك من أهم العلامات الفارقة التي ميزت الحنفاء عن المشركين، لأن الحنفية على حد قولهم لو كانت حج البيت والاختتان لوجب أن يكون الذين كانوا يحجون ويختتنون في الجاهلية من أهل الشرك حنفاء،وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفاً بقوله: )ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين(.

وينسب أهل الأخبار إلى الأحناف بالإضافة إلى ما ذكرت، امتناعهم عن أكل ذبائح الأوثان وكل ما أهل إلى غير الله. فقد ذكروا عن كل واحد من الأحناف أنه كَان قد امتنع عن أكل الذبائح التي تذبح للاوثان والأصنام، لأنها ذبحت لغير الله. كما نسبوا اليهم تحريم الخمر على أنفسهم، والنظر والتأمل في خلق الله، ونسبوا اليهم أداء شعائر الحج وغبر ذلك.

وقد لخص "الفخر الرازي" و "الطبرسي"، آراء العلماء في،"0 الحنيفية" واجملاها في تفسيرهما للاية: )وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، قل بل ملة ابراهيم حنيفاً، وما كنت من المشركين(. فقالا: "وفي الحنيفية أربعة أقوال: احدها انها حج البيت، عن ابن عباس والحسن ومجاهد. وثانيها انها اتباع الحق، عن مجاهد، وثالثها انها اتباع ابراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماماً للناس بعده من الحج والختان وغير، ذلك من شرائع الإسلام، والرابع انها الاخلاص لله وحده والاقرار بالربوبية والإذعان للعبودية".

ترى مما تقدم، وسترى فيما بعد ان أهل الأخبار لم يكونوا على بينة تامة وعلم واضح بأحوال الحنيفية وبآرائها وقواعد أحكامها وأصولها، وانهم خلطوا في بعض الأحيان فيما بينها وبين الرهبنة، ولا سيما رهبنة النصرانية. فأدخلوا فيها من بجب اخراجهم عنها، لانهم كانوا نصارى على ما يذكره نفس أهل الأخبار في أثناء تحدثهم عنهم، ومن هؤلاء: قيس بن ساعدة الأيادي وورقة بن نوفل، وعثمان ابن الحويرث، فقد نصوا نصاً صريحاً على انهم كانوا من العرب المتنصرة، ثم نجدهم مع ذلك يدخلونهم في جملة الأحناف.

وللمستشرقين بحوث في أصلها ومعناها وفي ورودها عند العرب قبل الإسلام. ومنهم من يرى ان اللفظة من أصل إرمي، وقد كانت معروفة عند النصارى، وأخذها الجاهليون منهم، وأطلقت على القائلين بالتوحيد من العرب، على أولئك الذين ظهروا في اليمن خاصة ونادوا بالتوحيد وعبادة الرحمان. وهي ديانة توحيد ظهرت بتأثير اليهودية والنصرانية، غير ان أصحابها لم يكونوا يهوداً ولا نصارى، وانما كانوا فرقة مستقلة تأثرت بآراء الديانتين.

وقد ذهب بعض المستشرقين إلى ان اللفظة من أصل عبراني، هو: "تحينوت" tchinoth، أو من "حنف" Hnet، ومعناه التحنث في العربية، وذلك لما لهذه اللفظة من صلة بالزهد والزهّاد. وقال "نولدكه" انها من أصل عربي هو "تحنف"، على وزن تبرر، وهي من الكلمات التي لها معانً دينية. ويلاحظ ان السريان يطلقون لفظة "حنفه" " Hanfaعلى الصابئة. وقد وردت لفظة "حنف" في النصوص العربية الجنوبية، وردت بمعنى "صبأ"، أي مال وتأثر بشيء ما. أي بالمعنى الذي فهمه علماء اللغة. فاللفظة اذن من الألفاظ المعروفة أيضاً عند العرب الجنوبيين.

عندي أن لفظة "حنيف"، هي في الأصل بمعنى "صابئ" أي خارج عن ملة قوم، تارك لعبادتهم. ويؤيد رأيي هذا ما ذهب اليه علم اللغة، من أنها من الميل عن الشيء وتركه، ومن ورودها بهذا المعنى في النصوص العربية الجنوبية. وبمعنى "الملحد"، و "المنافق"، و "الكافر" في لغة بني إرم، ومن اطلاق "المسعودي" و "ابن العبري" لهذه اللفظة على "الصابئة". ومن ذهاب "المسعودي" إلى أن اللفظة من الألفاظ السريانية المعربة. وقد اطلقت على "المنشقين" على عبادة قومهم الخارجين عليها، كما أطلق أهل مكة على النبي وعلى أتباعه "الصابئ" و "الصباة"، فصارت علماً على من تنكر لعبادة قومه، وخرج على الأصنام. ولهذا نجد الإسلام يطلقها في بادئ الأمر على نابذي عبادة الأصنام، وهم الذين دعاهم بأنهم على "دين ابراهيم". ولما كان التنكر للاصنام هو عقيدة الإسلام لذلك صارت مدحاً لمن أطلق الجاهليون عليهم تلك اللفظة لا ذماً.

وليست الصورة التي رسمها المفسرون وأهل الأخبار عن عقيدة الحنفاء واضحة،فهي صورة غامضة مطموسة في كثير من النواحي، تخص الناحية الخلقية أكثر مما تخص الناحية الدينية. فليس فيها شيء عن عقيدتهم في الله، وكيفية تصورهم وعبادتهم له، وليس فيها شيء عن كتاب كانوا يتبعونه أو كتب كانوا يسيرون عليها. نعم، إن نفراً منهم كما ذكر الرواة كانوا قد قرأوا الكتب ووقفوا عليها، ولكن ما تلك الكتب التي قرأوها، وما أسماؤها. وهل هي التوراة والانجيل ? ولكن أي توراة وإنجيل ? التوراة والانجيل التي كانت بين أيدي الناس أو غيرها ? فالذي يفهم من كلام الرواة أن الحنفاء كانوا يرون تحريفاً في الكتابين، وأن هناك تبايناً قليلاً أو كثيراً بين الأصل الذي أوحاه الله وبين الذي كان بأيدي الناس، وأنهم لذلك مالوا عن اليهودية والنصرانية إلى دين ابراهيم الحنيف، فقرأوا كتبه وتعبدوا بعبادة ابراهيم. ولكن ما هي كتب ابراهيم وما هي عبادته وليس في امكاننا في الوقت الحاضر وضع حد صريح واضح لمفهوم الأحناف و "الدين الحنيف" عند الجاهليين، لما ذكرته من عدم وجود موارد واضحة صريحة عن الأحناف، ولعدم ورود أي شيء عنهم في نصوص جاهلية، ولأن في آلكثير من الذي يذكروه المفسرون وأهل الأخبار عنهم غموض وإبهام أو صنعة وتكلف، لذلك فليس أمامنا سوى الانصراف إلى البحث عن جمع كل ما ورد عن الحنيفية في الشعر وفي النثر وتنقيته وغربلته لاستخراج الماسة الصافية منه التي تفيدنا في الوقوف على تلك الحركة الدينية التي.كانت بارزة عند ألمذكورين قبيل ظهور الإسلام. والوقوف عليها يفيدنا كثيراً ولا شك في فهم الإسلام الذي أثنى على الحنيفية وأرجعها إلى ديانة ابراهيم، وفي فهم اتجاهات الأحناف ودعوتهم التي وجهوها إلى قومهم في نبذ عبادة الأصنام والأحجار والمعبودات المادية الأخرى، والالتجاء إلى عبادة إلهَ أعلى لا يشبه المادة، هو إله واحد لطيف خبير. والحنفاء، كما يفهم من روايات أهل الأخبار، كانوا طرازاً من النسّاك، نسكوا في الحياة الدنيا، وانصرفوا إلى التعبد للالهَ الواحد الأحد إلَه ابراهيم واسماعيل،ساحوا في البلاد على نحو ما يفعله الحجاج الزهاد بحثاً عن الدين الصحيح دين ابراهيم، فوصل زيد بن عمرو بن نفيل إلى الشام والبلقاء ووقف على اليهودية والنصرانية، فلم يرَ في الديانتين ما يريد. و منهم من أخذ على قومه هدايتهم بحثّهم على ترك عبادة الأصنام، لذلك لاقوا منهم غشاً ونصباً شديداً. ومنهم من كان يتأمل في هذا الكون،لذلك تجنب الناس واعتزلهم، والتجأ إلى الكهوف والمغاور البعيدة ابتعاداً عن الناس للتأمل والتفكر، وقد تجنبوا الخمرة والأعمال المنكرة، وقول للفحش، وساروا على مثل الإسلام، وان عاشوا قبل الإسلام، لأن الإسلام دين ابراهيم.

والذي يفهم من القرآن الكريم، هو ان الحنفاء هم أولئك الذين رفضوا عبادة الأصنام، فلم يكونوا من المشركين، بل كانوا يدينون بالتوحيد الخالص، وهو فوق توحيد اليهود والنصارى، فلم يكونوا يهوداً ولا نصارى، و )وما كان ابراهيم يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين(، وان قدوتهم في ذلك ابراهيم. ويلاحظ ان لفظة "مسلم" استعملت في مرادف ومعنى لفظة "الحنيف"، وان ابراهيم هو أبو وأول المسلمين. وقد وصف الإسلام بأنه دين الله الحنيف، والدين الحنيف، وان الشريعة الإسلامية،هي الحنيفية السمحة السهلة، وذلك تميزاً لها عن الرهبانية المتعصبة.

وقد عدّ بعض المستشرقّين الحنفاء شيعة من شيع النصرانية، وعدّوهم نصارى عرباً زهاداً كيفّوا النصرانية بعض التكييف بهم وخلطوا فيها بعض تعاليم من غيرها.

وقد استدلوا على ذلك بما ورد من تنصر بعضهم وبورد في بعض الأشعار الجاهلية من مواضع يفهم منها على تفسيرهم ان المراد بهم شيعة من شيع النصرانية.

غير ان القرآن الكريم قد نص نصاً صريحاً على ان الحنفاء لم يكونوا يهوداً ولا نصارى، وانهم ينتمون في عقيدتهم إلى ابراهيم. ثم إن الأخباريين وإن أدخلوا في الأحناف أناساً نصوا على انهم كانوا نصارى، إلا انهم نصوا في الوقت نفسه نصاً صريحاً على ان -البقية الباقية، كانت واقفة،لم تدخل في يهودية ولا نصرانية، إذ وجدت في كل ديانة من الديانتين أموراً جعلتها تتريث،فلم تدخل في احداهما، وبقيت مخلصة لسنةّ ابراهيم، لذلك فلا يمكن اعتبار الأحناف نصارى خلصاً، أو شيعة من الشيع النصرانية.

وقد كان من الحنفاء.نفر من النصارى، أخلصوا نصرانيتهم وماتوا عليها. فهؤلاء هم نصارى من غير شك، ويجب اخراجهم من طائفة الحنفاء، وادخالهم في النصارى، مثل "بحيرا" الراهب، وأمثاله ممن سأتحدث عنهم فيما بعد.

ويلاحظ أن جميع من حشرهم أهل الأخبار في الحنيفية، كانوا من القارئين الكاتبين. وكانوا يشترون الكتب ويراجعونها ويّتسقطون أخبار أهل الآراء والمذاهب والديانات. ولبعض منهم - كما يروي أهل الأخبار - علم باللغات الأعجمية مثل السريانية والعبرانية، كما كان لهم علم ووقوف على تيارات الفكر في ذلك الوقت. وقد أضافوا إلى علمهم الذي أخذوه من الكتب، علماً حصلوا عليه من أسفارهم إلى الخارج مثل العراق وبلاد.الشام. ومن اتصالهم بالرهبان وبرجال الكنائس واليهود. فهم بالنسبة لذلك الوقت الطبقة المثقفة من الجاهلين نادت بالاصلاح وبرفع مستوى العقل وبنبذ الأساطير والخرافات وبتحرير العقل "من سيطرة العادات والتقاليد فيه، وذلك بالدراسات والتأمل وبقراءة الكتب وبالرجوع إلى دين الفطرة، الذي لا يقر عبادة الشرك ولا عبادة الناس.

لذلك نستطيع أن نقول عن هؤلاء إنهم كانوا اناساً من النوع الذي نطلق عليهم كلمة "مصلحين" في الوقت الحاضر. من هذا الطراز الذي يريد اصلاح الأوضاع ورفع مستوى العقل. فهم جماعة ضد الأوضاع الاجتماعية السائدة في أيامهم. لأنها في نظرهم أوضاع مؤخرة تمنع الإنسان من التقدم ومن ادراك الواقع. وقد رأت أن العقل لا يقر التقرب إلى أحجار والى التبرك بها والذبح لها، لأنها حجارة لا تعي ولا تفهم وليس في إِمكانها أن تسمع أو تجيب لذلك نفرت منها. ومنهم من آمن بدين كالنصرانية، ولكنه لم يكن على نصرانية قومه، لأن عقله لا يقر التقرب إلى المادة مثل الصليب والصور والتماثيل، ومنهم من ابعدته مثل هذه العبادة عن النصرانية، فصيرته حائراً في أمره من الديانات، يعتقد بإلَه، ولكنه لم يستقر على دين. عائب على قومه من المشركين ما هم عليه من جهل ومن عبادة أحجار ومن كل تقرب اليها.وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر ذكروا انهم كرهوا عبادة الأوثان وسخفوا أحلام المتعبدين لها، إذ وجدوا ان من الحمق التقرب إلى حجر لا يضر ولا ينفع، وهو جماد، فلما سمع بعضهم بالإسلام أسلموا. ولكنهم لم يدخلوهم في عداد الأحناف. وقد رأينا ان من أهل الأخيار من جعل "مسيلمة" يدعو إلى عبادة "الرحمن" قبل مبعث النبي. وقد ذكروا ان "عمرو بن عبسة بن عامر بن خالد السلمي، كان قد رغب عن آلهة قومه في الجاهلية، رأى انها باطلة، وان الناس في ضلال إذ يعبدون الحجارة، والحجارة لا تضر ولا تنفع، فكان حائراً، حتى اهتدى إلى الإسلام.

وليس في أيدينا اليوم مورد يفيد بوجود تكتل وتنظيم لمن أطلق الأخباريون عليهم لفظة: "الحنفاء"، تكتل وتنظيم مظاهر خارجية وداخلية يميزهم عن غيرهم من أهل الأديان. لذلك، فنحن لا نستطيع أن نقول إن الحنيفية كانت فرقة تتبع ديناً بالمعنى المفهوم من الدين، كدين اليهودية أو النصرانية، لها أحكام وشريعة تستمد أحكامها من كتبُ منزلة مقدسة ومن وحي نزل من السماء، على نحو ما نفهمه من الأديان السماوية. لذلك، فانا لا أستطيع إقرار رأي من ذهب إلى انهم كانوا جماعة دينية منظمة، كرأي المستشرق "شبرنكر"، الذي ذهب إلى هذا المذهب.

وجلً هؤلاء الآحناف، هم من أسر معروفة، وبيوت يظهر أنها كانت مرفهة أو فوق ستوى الوسط بالنسبة إلى تلك الأيام، ولهذا صار في امكانهم الحصول على ثقافة. وعلى شراء الكتب، وقد كانت غالية الثمن إذ ذاك، لنيل العلم منها. كما صار في امكانهم الطواف في خارج جزيرة العرب لأمتصاص المعرفة من البلاد المتقدمة بالنسبة إلى تلك الأوقات، مثل العراق وبلاد الشام. وقد اتصلوا كما يزعم أهل الأخبار فعلاً برجال العلم والدين فيها، وتحادثوا معهم وأخذوا الرأي منهم. ومن يدري فلعلهم قرأوا عليهم الكتب وفي جملتها كتب اليونان، أو ترجمات كتبهم بالسريانية، فحصلوا نتيجة لذلك على علم بمقالات اليونان وبآرائهم في الفلسفة والدين والحياة. وقد تكون بعض الاراء المنسوبة اليهم، والتي ترجع إلى أصل يوناني، قد قالوها من أخذهم لها من تلك الكتب ومن دراستهم على من اتصلوا بهم من العلماء في أثناء وجودهم في العراق وفي بلاد الشام.

ونجد في الأخبار أن الرسول كان يعد، للرهبانية مخالفة للحنيفية، إذ ورد أن أبا عامر بن صيفي - المعروف بالراهب لأنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح - قدم المدينة ورأى الرسول، وسأله: ما هذا الذي جئت به ? - فقال الرسول: جئت بالحنيفية دين ابراهيم، قال: فأنا عليها، فقال الرسول: لست عليها، ولكنك ادخلت فيها ما ليس منها. وقد سماه الرسول الفاسق. فذهب مغاضباً للرسول كما تقول الروايات،متوجهاً إلى قيصر، ليحمله على توجيه جيش إلى المدينة للقضاء على الإسلام، غير أنه مات وهو في بلاد الشام.

وقد خرج "أبو عامر" واسمه "عيد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان ابن أمة"1 الراهب أحد "بني ضبيعة" إلى مكة مباعداً لرسول الله، معه خمسون غلاماً من الأوس، منهم "عمان بن حنيف". "فكان يعد قريشاً ان لو قد لقي محرماً لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما كان يوم احد، كان أول من لقي أهل المدينة أبو عامر في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى يا معشرَ الأوس، أنا ابو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عيناً يا فاسق،وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية "الراهب" فسمّاه رسول الله الفاسق، فلما سمع ردهم عليه، قاتلهم ثم راضخهم بالحجارة". ثم رجع مع قريش إلى مكة و خرج إلى الروم يوم فتحت مكة فمات بها سنة تسع، ويقال سنة عشر. وأعطى "هرقل" ميراثه لكنانة بن عبد ياليل الثققي، وكان قد اختصم مع علقمة بن علاثة في ميراثه، فدقع هرقل ميراثه لكنانة قائلاً لعلقمة: هما من أهل المدر وأنت من أهل الوبر.

وكان له ولد اسمه "حنظلة" أسلم، واستأذن رسول الله في قتل ابيه، فنهاه عن ذلك. فلما كان يوم أحد شهده، والتقى هو وأبو سفيان، فلما استعلى حنظلة رآه "شداد بن شعوب" فعلاه بالسيف حتى قتله، وقد كاد يقتل أبا سفيان. فقال النبي: "إن صاحبكم تغسله الملائكة"، فعرف ب "غسيل الملائكة". فكان الابن مع المسلمين في هذا اليوم، وكان الأب مع المشركين.

وروي أنه كان يتزيد في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار، واتى قيصر فاستنجده على للنبي. وروي أنه هو للذي حزب الأحزاب لقتال الرسول: فلما خذل لحق بالروم يطلب النصر منهم، وقال لأناس من الأنصار ابنوا مسجدكم واستعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهب الى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم، فأخرج محمداً واصحابه، وكان قد خرج معه كنانة بن عبد ياليل الثقفي وعلقمة بن علاصة. فأما علقمة وابن ياليل "ابن بالين"، فرجعا فبايعا النبي وأسلما، وأما "أبو عامر" فتنصر وأقام.

ويظهر أن "أبا عامر الراهب"، كان قد وضع مع جماعة من الأنصار الحاقدين على الرسول وعلى المهاجرين الذين صاروا يزاحمونهم في أعمالهم،واستحوذوا. على التجارة واستغلوا أرض يثرب فقام قوم منهم بزراعتها، خطة لعمل مكيدة يخرجون بها الرسول من المدينة، يساعدهم في ذلك الروم. غير انها لم تنجح، وهدم المسجد، الذي تواعدوا على أن يكون موضع التآمر وملتقى الحاقدين على الرسول، وقضي على المؤامرة، وبقي "أبو عامر" عند الروم. فلما مات عاد "كنانة بن عبد يا ليل" الثققي، وكان رئيس ثقيف في زمانه، وكان يقول: "لا يرثني رجل من قريش"، مما يدل على أنه كان من الكارهين لقريش المتحاملين عليها وعلى الإسلام، ففر إلى "نجران" ثم توجه إلى الروم. فلما مات "أبو عامر" عاد فأسلم. وعاد "علقمة" أيضاً. وهناك روايات أخرى،تذكر أنه ارتد في أيام "عمر"، والتحق بالروم، ثم عاد إلى الإسلام.

ولاشتهار أبي عامر بالراهب، ولما ورد في. بعض الأخبار من انه كان حنيفاً، ذهب "ولهوزن" إلى ان الأحناف هم من النصارى، وان حركتهم حركة نصرانية، وانهم كانوا القنطرة التي توصل بين النصرانية والإسلام. غير ان ما لدينا من معارف عن الأحناف، لا يكفي لابداء رأي كهذا الرأي، وللتسليم بمثل هذا القول ينبغي لنا الوقوف على آرائهم وقوفاً دقيقاً ومقارنة ما لدينا بما نعرفه من النصرانية لنتمكن من التوصل إلى رأي علمي في هذا الشأن.وفي بيت منسوب إلى أمية إشارة إلى الحنيفية، ذكر فيه ان كل دين زور عند الله إلا دين الحنيفية. وقد رأينا ان أهل الأخبار يدخلون أمية في جملة الحنفاء، ويقولون: انه لبس المسوح تعبداً، وكان ممن ذكر ابراهيم واسماعيل وحرم الخمر. ويلاحظ ان الأخباريين ينسبون إلى عدد من هؤلاء الأحناف لبس المسوح، مما يشير إلى انهم كانوا قد تأثروا بالرهبان المتقشفين وبالزهاد النصارى الناسكين،فأخذوا عنهم هذه،الطريقة التي أشير اليها في القرآن الكريم وفي الحديث، والتي عدّ ت من البدع الممقوتة في الإسلام.

وقد أورد أهل الأخبار كلاماً ذكروا ان الأحناف قالوه، هو من نوع كلام الكهان المرتب على طريقة السجع، أوردوه بنصه على ما ذكروه. غير ان من الصعب تصور صدور ذلك الكلام المنمق من أناس عاشوا قبل الإسلام، ومحافظة الناس عليه محافظة تامة إلى ما بعد الإسلام. ويظهر على كل حال من دراسة روايات أهل الأخبار عن الكهان والأحناف ان كلام رجال الدين قبل الإسلام كان على هذا النمط من السجع، ومن جمل مكررة معادة عامة. وقد ظل السجع الطريقة المحببة في الكتابة إلى ايامنا هذه عند بعض الكتاّب. ويفهم من كلام الرواة ان بعض هؤلاء الحنفاء كانوا نصارى مثل ورقة بن نوفل، أي على عكس ما يذكره الرواة أنفسهم من أن هؤلاء كانوا قد تجنبوا اليهودية والنصرانية متبعين ديانة ابراهيم. والظاهر أن الرواة قد اشتبه عليهم -الأمر، فخلطوا في بعض الأحيان بين النصرانية وبين هؤلاء الذين أنكروا عبادة الأصنام واعتقدوا التوحيد.

ولدينا أمثلة أخرى على هذا الوهم. وسنرى من تراجم عدد من الاحناف ان منهم من يجب ادخاله في عداد النصارى ة لا الاحناف. وقد نْص أهل الاخبار أنفسهم على تنصرهم، غير انهم ادخلوهم مع ذلك في جملة الاحناف حين تكلموا عنهم. فكأنهم عنوا بالاحناف من كان على حياة الرهبنة والتقشف. وقد أدخل "المسعودي" بعض الاحناف في جماعة اهل الفترة ممن كان بين المسيح ومحمد، ومن أهل التوحيد، من يقر بالبعث ثم قال: وقد اختلف الناس فيهم،فمن الناس من رأى انهم أنبياء، ومنهم من رأى غير ذلك وقد ذكر من بينهم "حنظلة بن صفوان"، و "خالد بن سنان العبسى"، و "رئاب الشنى"، و "أسعد ابو كرب الحميري"، و "قس بن ساعدة الإيادي"، و "أمية بن أبي السلط الثققي"، و "ورقة بن نوفل"، و "عداس" مولى "عتيبة بن ربيعة الثففي، و "ابو قيس" "صرمة بن أبي انس" الانصاري، و "أبو عامر الاوسي"، و "عبد الله بن جحش الاسدي"، و "بحيرا الراهب". ومن هؤلاء من كان على النصرانية، وقد نص "المسعودي" نفسه على ذلك.

والذين ذكر الرواة أسماءهم من الحنفاء هم أناس عاشوا في الجاهلية المتصلة بالإسلام، ومنهم من أدرك الرسول، ولا عبرة بالطبع لما زعمه الأخباريون من طول عمر أولئك الأشخاص وبلوغ بعضهم مئين عدة من السنين، وادخالهم في المعمرين، فان من عادة الأخباريين إطالة عمر هؤلاء وأمثالهم من الرجال البارزين الظاهرين، ليكون ذلك مناسباً لما يجيء في أخبارهم من الحكم المنسوبة البهم، وهي فكرة عامة نجدها عند غير العرب أيضاً، ولذللك نجد صور الحكماء والفلاسفة الغالب على صورة شيوخ أصحاب لحى طويلة بيض ورأس جله الشيب أو قضى على شعره الزمن والتفكير، فصلِع، لأن هذه من علامات الحكمة والتفكير. وعندي ان الحنفاء جماعة سخرت من عبادة الأصنام، وثارت عليها وعلى المُثل الأخلاقية التي كانت سائدة في ذلك انزمن، ودعت إلى إصلاحات واسعة في الحياة وإلى محاربة الأمراض الاجتماعية العديدة التي كانت متفشية في ذلك العهد، دعاها إلى ذلك ما رأته في قومها من إغراق في عبادة الاصنام ومن اسفاف في شرب الخمر ولعب الميسر وما شاكل ذلك من أمور مضرة، فرفعت صوتها كما يرفع المصلحون صوتهم في كل زمن ينادون بالاصلاح، وقد أثارت دعونهم هذه المحافظين وأصحاب الجاه والنفوذ وسدنة الاوثان شأن.كل دعوة إصلاحية. ويجوز ان يكون من بين هؤلاء من مال إلى النصرانية، غير اننا لا نستطيع ان نقول انهم كانوا نصارى أو يهوداً، إنما أستطيع ان أشبه دعوة هؤلاء بدعوة الذين دعوا إلى عبادة الإله رب السماء "ذو سموى" أو عبادة الرحمن في اليمن، متأثرين بمبادئ التوحيد التي حملتها اليهودية والنصرانية إلى اليمن. ولكنهم لم يكونوا أنفسهم يهوداً أو نصارى، إنما هم أصحاب ديانة من ديانات التوحيد. ولا يعني قولي هذا ان الحنفاء كانوا على رأي واحد ودين واحد كالذي يفهم مثلاً من قولنا يهودي ونصراني ويهود ونصارى، بمعنى أنهم كانوا طائفة معينة تسير على شريعة ثابتة كالذي ذهب "شلرنكر" اليه إنما كان أولئك الاحناف نفراً من قبائل متفرقة لم تجمع بينهم رابطة، إنما اتفقت فكرتهم في رفض، عبادة الأصنام وفي الدعوة إلى الاصلاح. وهذا المعنى واضح في آيات القرآن الكريم التي أشارت إلى الحنفاء. والرجال الذين قال أهل الاخبار عنهم إنهم كانوا على دين، وكانوا من الاحناف، هم: قس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفل، وأميةّ ابن أبي الصلت: وارياب بن رثاب، وسويد بن عامر المصطلقي، وأسعد ابو كرب الحميري، ووكيع بن زهير الإيادي، وعمير بن جندب الجُهني، وعدي بن زيد الجبادي، وأبو قيس صرمة بن أبي انس،وسيف بن ذي يزن، وورقة بن نوفل القرشي، وعامر بن الظرب العدواني، وعبد الطانحة بن ثعلب ابن وبرة بن قضاعة، وعلاف بن شهاب ال!تميمي، والملتمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سُلمى، وخالد بن سنان العبَمْي ا، وعبد اللهء القضاعي، وعبيد ابن الابرص الاسسي، وكعب بن لؤي بن غالب وبعض هؤلاء مثل: "قس بن ساعسة الإيادي" و "عضان بن الحويرث أ و "عسي بن زيد العبادي" نصارى، وبعض منهم مثل "أسعد ابو كرب الحصري"، "ابو كرب اسعد الحميري"3 و "عبيد بن الابرص"، و"زهير ابن أبي سلمى"، مشكوك في أمرهم، لا نستطيع أن نذكر شيئاً عن دينهم. ولهذا فأنا اذكرهم هنا ذكر، مجاراة لمن أدخلهم في اهل الدين من الجاهلين. ولا أعني انهم كانوا على الحنيفية، اي على شريعة التوحيد التي ينص عليها أهل ا لاخبار.

وقد اقتصر "محمد بن حبيب" على ذكر بعض من تقدم، حين تكلم عن "أسماء الذين رفضوا عبادة الاصنام"، فذكرهم على هذا النحو: عمان ين الحويرث، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش ابن رئاب الاسدي. وذكر ان منهم من تنمر ومات على النصرانية، مثل: عمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن.جحش بن رئاب الاسدي فأما قُس بن ساعسة الايادي، فقد رفعه الاخباريون من مصاف أسوياء البشر، ووضعوه في صف المعمرين الذين عاشوا مئين من السنين قيل سبع مئة سنة، وقيل ست مئة سنة، أو أقل من ذلك بكثير، في انه لا يقل عن ثلاث مئة سنة على كل حال.

وأما موته، فمجهول. وأما وفاته، فيكاد محصل الاتفاق على انه كان قبيل البعثة. وقد ورد في رواية ان الرسول أدركه ورآه يخطب في سوق عكاظ خطبته " الشهيرة المعروفة، غير انه لم يحفظها، وان ابا بكر، وكان من جملة من حضر السوق وسمع الخطبة، كان قد حفظها، فأعادها على الرسول. وهي الخطبة الشهيرة المتداولة بين الناس والمحفوظة في الكتب. وهناك رواية تذكر ان الرسول كان حفظها، وقد تلاها على من حضر عنده، وتلا بعضاً منها على وفد عبد القيس.

ومما يلفت النظر في الروايات الواردة عن حفظ للرسول لخطبة "قس"، هو اشارتها إلى أن النبي كان يحفظ نص الخطبة، ولم يكن يحفظ الشعر الملحق بها. مع ان حفظ الشعر أيسر من النثر. ولعل الرواة رووا ذلك لإظهار أن الرسول كان لا يقول الشعر، وانما كان يسمعه. ولكننا في هم من ناحية أخرى نرى انه كان يتلو من الشعر المناسب ما شاء ان يتلو، وانه كان يستشهد به في كلامه، وأنه كان يحفظ شيئاً من شعر الماضين والحاضرين. ولن يضير النبوة من حفظ الشعر شيئاً. والنص المحفوظ لخطبة "قس" نص مختلف لم يتفق الرواة عليه. مما يدل على أنه لم يكن مدوناً، وإنما روي بروايات مختلفة، ثم دونت فيما بعد.

وأوصل بعض الاخباريين قساً إلى القيصر، فزعموا انه ذهب البه واتصل به، وان القيصر أكرمه وعظمه. وانه سأله عن العلم قائلاً له: ما أفضل العلم ? قال: معرفة الرجل بنفسه. قال: فما أفضل العقل ? قال: وقوف المرء عند علمه. قال: فما افضل الادب ? قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. قال: فما أفضل المروءة ? قال: قلة رغبة المرء في اخلاف وعده. قال: فما أفضل المال ? قال: ما قضى به الحق 1. وهو كلام ينبئك أسلوبه وطبعته عن أصله وفصله، وله أصل يرجع إلى الفلاسفة اليونان. ونسبوا له قبراً جعلوه في موضع "روحين" على مقربة من خلب في لحف جبل ينشر له ونجد حديث قيصر المزعوم مع "قس"، في رواية أخرى على شكل آخر. وقد أهملت هذه الرواية اسم قيصر فلم تعثر اليه، واكتفت بلفظة "قيل"، فقالت: " قيل لقس بن ساعدة: ما أفضل المعرفة قال: معرفة الرجل بنفسه. قيل له: فما أفضل العلم قال: وقوف المرء عند علمه قيل له: فما أفضل المروءة قال استبقاء الرجل ماء وجهه.

وقسُ هو مخترع أوجد للعرب أشياء عديدة على زعم أهل الأخبار، أحدث لهم أموراً كثيرة. فهو أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكأ - عند خطبته على سيف أو عصا وأول من علا على شرف وخطب عليه، وأول من قال: "أما بعد"، وأول من كتب "إلى فلان بن فلان". وأول من قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، فكل ما عرفه العرب من هذه الامور، هو من صنعة قس وعمله. ثم انه كان أحد حكماء العرب، وكان أسقف في ان، وخطيب العرب كافة. وذكروا ان له ولقومه فضيلة ليست لاحد من العرب، لان الرسول روى كلامه وموقفه على جمله الاورق بعكاظ وموعظته، وعجب من حسن كلامه، وأظهر تصويبه، هوانه قال فيه: "يحشر أمة و حبر".

وجاء في رواية في تفسير قول الرسول: "يحشر أمة وحده"، أو "يرحم الله قساً، إني لأرجو ان يبعث يوم القيامة أمة واحدة "، ان وفداً من إباد قدم على النبي: فسألهم عن قس، فقالوا: هلك. فقال: رحمه الله، كأني أنظر اليه بسوق عكاظ على جمل له أورق "أحمر" وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أوجدني أحفظه. فقال رجل من القوم،.أنا أحفظه يا رسول الله. سمعته يقول: ايها الناس اسمعوا وعوا... إلى آخر الخطبة، وما جاء بعدها من شعر، فقال رسول الله عندئذ قوله المذكور فيه.

ويختلف هذا الخبر بعين الاختلاف مع خيب آخر أشرت اليه قبل قليل، فقد ورد في ذلك الخير ان رسول الله كان. يحفظ تلك الخطبة، غير أنه لم يكن يحفظ الابيات الملحقة بها، وكان "أبو بكر" يحفظها، فأعادها على مسامعه. كما يختلف عن رواية أخرى، جاء فيها ان الوفد للذي قدم على الرسول كان وفد "عبد القيس"، وأن الذي قرأ الشعر عليه هو احد بني عبد القيس ويذكر بعض أهل الاخبار، ان "الجارود"، وكان في ضمن رجال وفد "عبد القيس"، قال للرسول حين سأل عن "قس": "فداك أبي وأمي كلنا نعرفه وإني من بينهم لعالم يخيره، واقف على أمره. كان قس يا رسول الله سبطاً من أسباط العمر عمّر ستمائة سنة نج تَفر منها نفسه أعمار في البراري والقفار". ثم ة خذ في وصض وفي ذكر عقاثده، وفي لقياه د "سمعان" رأس الحواريين. وخلص بعد ذلك إلى ذكر نص خطبته بسوق عكاظ،ومطلعها: "شرق وغرب"، حتى انتهى منها، ثم ألحق بها شعراً. وهي خطبة تختلف تماماً عن الخطبة المعروفة التي تنسب اليه، وان كانت على نمطها من حيث الاسلوب والافكار، وفيها مصطلحات اسلامية ترد في القرآن للكريم. ولا استبعد ان تكون من وضع شخص اخر غير الجارود. وضعها في العصور العباسية، للحث على الزهد. والجارود من سادات عبد القيس، وكان نصرانياً، قدم على النبي سنة عشر في وفد عبد القيس الاخير، وسرّ الرسول بإسلامه، وكان حسن الإسلام صلباً على دينه، وقتل بأرض فارس في خلافة عمر، وقيل بقي إلى خلافة عمان. ولو صح ما ذكروه من انه كان أسقفاً على نجران، لوجب اخراجه افن من الحنيفية وإدخاله في عداد النصارى. ولكن ليس مؤكداً انه كان اسقفاً على ذلك الموضع، ويرى الاب "لامانس" احتمال كونه نصرانياً، لان ما نسب اليه يبعث على هذا الظن. وقد أدخل الاب "لويس شيحْؤ" قساً في جملة النصارى الجاهليين،وأورد اكثر ما نسب اليه في ترجمته غير ان كثيراً من هذا المنسوب اليه منسوب إلى غيره. وقد اشار. إلى من نهب اليهم العلماء.

وذهب "شيرنكر" إلى ان قساًَ كان من "الركولمجة"، وهم فرقة عرفهم اهل اللغة بأنهم بين النصارى والصابئين، شملت جماعة من الحائرين في امر دينهم، ولذلك عمدوا إلى السياحة والترفع والانزواء. وقد حسبهم العرب نصارى، فأدخلوهم فيهم في اثناء كلامهم على هؤلاء.

ويرى "لامانس" انه لو كان قيس شخصية تاريخية حقاً، فإن زمانه لا يمكن ان يكون في ايام الرسول أو في ايام مقاربة من ايامه. إذ لايعقل عنده ان يتكون هذا القصص الذي صير قساً شخصية من الشخصيات الخرافية، لو كان من المعاصرين أو المقاربين له. ثم إن اياداً لم تكن في ايام الرسول كتلة واحدة، حتى ينسب قس اليها. فلا بد اذن ان تكون ايام هذا الرجل بعيدة بعض البعد عن ايام الرسول.

غير ان حجج "لامانس" المذكورة لا يمكن ان تكون سنداً يؤيد ادعاءه في ان قساً كان شخصية خرافية، أو انه كان رجلاً حقاً، ولكنه كان بعيد العهدعن الرسول. فقد روى الاخباريون قصصاً كثيراً عن سلمان الفارسي وعن غير سلمان من الصحابة، لايقل نسيجاًعن نسيج قصص قس، فهل يتخذ هذا القصص حجة لانكار شخصية سلمان وغيره ممن ورد هذا القصص عنهم ? وهل يجوز ان نقول إن سلمان إن كان شخصاً حقاً فوجب ان تكون ايامه بعيدة عن ايام الرسول. ولدى الرواة أبيات ينسبونها إلى بعض الشعراء الجاهليين، هم: الاعشى، والحطيأة، ولبيد، ذكر فيها اسم قسُّ. وقد أشيد فيها بفصاحته وببلاغته وحكمته، حتى جعل لبيد لقمان دون قس في الحكم.

وورد اسم "قس" في هذا الشعر وفي أمثاله إن صح انه من شعر الجاهليين حقاً، وورود اسمه في الحديث وفي الاخبار، هو تعبير عن رأي اهل الجاهلية في خطيب مفوه عد" في نظرهم المثل الاعلى في الخطابة وممثل البلاغة عندهم فهو كشيوخ الخطباء عند اللاتين.

وجميع هذا القصص المروي عن قس، هو من النوع الذي يحتاج إلى تمحيص. وقد نسبوا اليه شعراً،. زعموا انه قاله وهو يبكي بين قبرين بنى بينهما مسجداً، هما قبرا أخويه، على حين ان أكثر الرواة يقولون إن هذا الشعر لغيره، وان قصة القبرين لا تخص قساً،بل تخص أناساً آخرين، وقد كانا في ايران وأصحابهما قبرا فيهما في الإسلام. ورواة هذا الخبر، هم رواة خطبة قس الشهيرة، وهم محمد بن السائب الكلبي عن ابي صالح ابن عباس وجماعة آخرون آشار "ابن حجر" إلى بعضهم في كتابه: "الإصابة في تمييز الصحابة"، وقد ضعف ابن حجر هذه الطرق، فقال: "وقد أفرد بعض الرواة طريق حديث قس، وفيه شعره وخطبته"، وهو في الطوالات للطبراني وغيرها. وطرقه كلها ضعيفة". ثم عرج بعد ذلك إلى ذكر بعض الطرق التي وردت فيها خطبة قس.

واما "زيد بن عمرو بن نفُيل بن عبد العزى بن رياح بن عبدالله بن قرط ابن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر"، فهو من قريش من بني عدي، لم تعجبه عبادة قومه، فانتقدها وسخفها وهزىء منها ووقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الاوثان، ونهى عن قتل الموؤودة، وامتنع من الذبح للانساب ومن أكل الميتة والدم وما ذبح للاصنام. فكان في آرائه هذه مثل نفر آخر من قريش، منهم: ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيدالله بن جحش، لاموا قومهم على عبادتهم الاصنام، واتخاذ الانصاب وعبادة ما لايضر ولا ينفع. وهم طائفة من المفكرين، رأى بعضهم بلاد الشام، واتصل ببعضى المبشرين النصارى، ووقف على التطورات الفكرية في الخارج، ولعله كان يقرأ ويكتب، وله اطلاع على مؤلفات في الفلسفة والدين. وترجع احدى الروايات سبب خروج "زيد" على عبادة قومه، انه حضر يوماً وحضر معه في ذلك اليوم "ورقة بن نوفل"، و "عبدالله بن جحش" و "عثمان بن الحويرث"، عيداً من أعياد قريش، عند صنم من أصنامهم، كانوا يعظمونه، ويعكفون عنده، أو يديرون به، وكان ذلك عيدا لهم في كل سنة يوماً، وكانوا ينحرون له، فلما خلد بعضهم إلى بعض وتصادقوا، قالوا ليكتم بعضكم على بعض، واتفقوا على ذلك، ثم قال قائلهم: تعلمون والله ما قولكم على شيء، لقد أخطأوا دين ابراهيم وخالفوه. ما وثن يعبد? لا يضر ولا ينفع فابتغوا لأنفسكم فانكم والله ما أنتم على شيء. فخرجوا يطلبون ويسيرون في الارض يلتمسون اهل الكتاب" وقد زار زيد الشام والبلقاء، وعاش إلى خمس سنين قبل البعث، فهو من أولئك الرهط الثائربن على قومهم، والذين أدركوا أيام الرسول. وقد نسبوا اليه شعراً في تسفيه عبادة قومه، وفي فراقه دينهم وما لقيه منهم. وكان قد أوذي لمقالته هذه في دين قومه، حتى اكره على ترك مكة والنزول ب "حراء"، وكان "الخطاب بن نفيل" عمه، وقد وكل به شباباً من شباب قريش وسفهاء من سفائهم كلفهم ألاّ يسمحوا له بدخول البلدة وبمنعه من الإتصال باهلها، مخافة ان يفسد عليهم دينهم وان يتابعه احد منهم على فراق ما هم عليه.واضطر زيد إلى المعيشة في هذا المحل، معتزلاً قومه، إلا فترات، كان يهرب خلالها سراً، ليذهب إلى موطنه ومسكنه، فكانوا اذا أحسوا بوجوده هناك، آلموه وآذوه.

وورد في رواية، يرجع رواتها سندها إلى "هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل"، اي إلى حفيد "زيد"، تذكر أن "زيد" خرج مع" ورقة ابن نوفل" يلتمسان الدين، حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فساله عن الدين، فلم يقتنع بالنصرانية، اما "ورقة"، فاقتنع بها وتنصر. وتذكر رواية أخرى ان "زيد بن عمرو" خرج إلى الشام ومعه: "ورقة بن نوفل"، و "عثمان ابن الحويرث"، و "عبيد الله بن جحش". ويذكر الرواة أن زيد كان نديماً لورقة بن نوفل، فمات ورقة، وخرج زيد إلى الشام، فقتله لخم وجذام. ويذكر أهل الاخبار ان حرصه على الحنيفية وتمسكه الشدبد بها، حمله على السفر إلى بلاد شاسعة بحثاً عنها وعن مبادئها الصحيحة، مبادىً ابراهيم الاصيلة الخالية من كل درن وشائبة. فذهب إلى الموصل والجزيرة، ثم طاف في بلاد الشام حتى انتهى إلى راهب ب "ميفعة" "ببيعة"من أرض البلقّاء أو "أيلة"، فسأله عما قدم من أجله، فأرشده إلى ان ما يبتغيه ويراه لا يجده في النصرانية، فغادره وتركه، وعاد يريد مكة موطنه. فلما توسط بلاد لخم أو جذام، عدوا عليه وقتلوه. وقالوا أيضاً انه التقى في اثناء أسفاره هذه بأحبار اليهود وبعلماء من النصارى، ولكنه لم يجد عندهم ما يطمئن نفسه، وما يرى فيه التوحيد الخالص، ومبادىء ابراهيم، لذلك لم يدخل في ديانة ما من تلك الديانتين، حتى قتل.

وتذكر رواية من الروايات، أن "زيد بن عمرو بن نفيل" مات بالسم في بلاد الشام، سمّه بعض ملوك غسان. وتجعل رواية أخرى مقتله بمكان يقال له "ميفعة" من أرض البلقاء بالشأم، وتذكران قتلته هم من بني لخم. وتذكر رواية ان "ورقة ين نوفل"، لما سمع بخبر وفاته بكاه في شعر له. وهناك روايات أخرى تفيد رجوع زيد إلى قومه بعد عودته من الشام،ووفاته وفاة طبيعية لا قتلا بيد إنسان." توفي وقريش تبني الكعبة قبل ان ينزل الوحي على رسول الله بخمس سنين"، ودفن بأصل حراء.

وفي رواية تظهر عليها سيماء الصنعة، أن الذي أرشد "زيد بن عمرو" إلى الحنيفية، حبر التقى به في بلاد الشام، وعالم نصراني، وذلك أنه كان قد ساًلهما عن دين صحيح قويم، فأرشداه إلى الحنيفية دين ابراهيم. فدخل فيها وصار يرفع يديه إلى الله ويقول: اللهم إني أشهدك اننى على دين ابراهيم. ونجد في هذه الرواية أسئلة وجهها "زيد" إلى الحبر في البحث عن الله وعن دينه الحق، وأجوبة الحبر عليها. كما نجد أسئلة أخرى ذكر أنه وجهها إلى العالم النصراني، وفي أجوبة ذلك العالم عليها. وكيف أنهما دلاه على الحنيفية.

وذكر "ابن حبيب" ان زيداً "أول من عاب على قريش ما هم عليه من عبادة الأوثان". وقال عنه "ابن دريد"، و كان قد "ترك دين العرب في الجاهلية وقلاه". وقصد ب "دين العرب" الوثنية ولا شك. وزعم انه "كان يحيي الموؤودة. يقول للرجل اذا أراد ان يقتل ابنته مهلاً: لا تقتلها أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها اليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها". وقيل انه كان يقول: "اللهم لو أعلم أي الوجوه أحب اليك سجدت اليه.ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على راحته". وانه كان "يقول: إلهي إلهَ ابراهيم، وديني دين ابراهيم. وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله تعالى ! انكاراً لذلك واعظاماً له".

أو "يا معشر قريش: أيرسل الله قطر السماء، وينبت بقل الأرض، ويخلق السائمة فترعى فيه، وتذبحوها لغيره ! والله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على دين ابراهيم غيري". ويستقبل القبلة ثم يقول: أنفي لرب البيت عانٍ راغم  مهما يُجشّمني فإني جاشم

عذت بما عاذ به ابراهـيم  مستقبل القبلة وهو قـائم

وروى ان أسماء بنت أبي بكر "قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين ابراهيم غيري. ثم يقول: اللهم اني لو أعلم أحب الوجوه اليك عبدتك به. ولكني لا أعلم. ثم يسجد على راحته"ثم يصلي إلى الكعبة ويقول: إلى إلَه ابراهيم، وديني دين ابراهيم.

وذكر "ابن دريد" أن "زيد بن عمرو بن نفيل"، أدرك أيام الرسول، ثم قال: "وكان النبي عليه الصلاة والسلام قبل الوحي قد حبب اليه الانفراد، فكان يخلو في شعاب مكة، قال: فرأيت زيد بن عمرو بن نفيل في بعضى المشاعب، وكان قد تفرّد أيضاً، فجلست اليه وقربت اليه طعاماً فيه لحم، فقال لي يا ابن أخي اني لا آكل من هذه الذبائح".

وذكر "ابن دريد"، ان زيد بن عمرو قال شعراً في تجنبه الأصنام، هو: فلا عُزى أدين ولا ابنتـيهـا  ولا صنمي بني عمرو أزور 

أربّـاً واحـداً أم ألـف ربّ  أدين اذا تقسمـت الأمـور.

ويفهم من هذا الشعر ان "عزى"، إلهة، أي انثى، وان لها ابنتين اثنتين، ولم يشر "ابن دريد" إلى اسميهما.

وقد صيغت الرواية المتقدمة التي تشير إلى التقاء الرسول بزيد في شكل آخر. صيغت بهذه الصورة: "أتى زيد بن عمرو بن نفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه زيد بن حارثة، وهما يأكلان من سُفرة لهما، فدعواه لطعامهما، فقال زيد بن عمرو:يا ابن أخي: أنا لا آكل مما ذبح على النصب". وورد خبر التقاء "زيد" مع رسول الله في رواية اخرى. يرجع رواتها سندها إلى "زيد بن حارثة". يذكرون أنه قال: خرجت مع رسول اللّه في يوم حار من أيام مكة، وهو مردفي، فلقينا زيد بن عمرو بن نفيل، فحيا كل منا صاحبه. فقال النبي: يا زيد مالي أرى قومك قد شنقوك ? فأجابه زيد، باًنه لا يهتم بذلك، وأنه خرج يبتغي دين الله، حتى قدم على أحبار خيبر، فوجدهم يعبدون الله ويشركون به. ثم سأل أحد الأحبار، وهو شيخ منهم عن الدين الذي يبتغيه،فقال له: ما نعلم احد يعبد الله به إلا شيخاً بالحيرة، فخرج اليه. فلما كلمه قال له: إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك قد بعث نبىّ، قد طلع نجمه. فعاد إلى مكة. ولو صح هذا الخير لوجب أن يكون زيد قد أدرك مبعث الرسول. ولكن أهل الأخبار مجمعون على أنه توفي قبل المبعث. وان الرسول نفسه قال عنه: يبعث يوم القيامة أمة واحدة، وعلى الخبر سيماء الصنعة والتزويق.

وروي عنه ان قومه كانوا اذا دعوه إلى وليمة، كان ياًبى ان يأكل منها قائلاَ: "اني لست آكل مما تذبحون على انصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه". وهكذا كان يقاطع أكل لحوم الحيوانات التي تذبح للاصنام، ويشاركه في الامتناع عن أكل لحوم هذه للذبائح الأحناف الآخرون، فقد روي ان ورقة بن نوفل كان لا يأكل من لحوم هذه الذبائح ايضاً للسبب المذكور. ويذكر اهل الأخبار ان "زيد بن عمرو بن نفيل" كان اذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال: لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً، البر أرجو لا الخال، وهل مهجر لمن قال. ثم يقول: عذت بما عاذ به ابراهيم  مستقبل الكعبة وهو قائم

أو "لبيك حقاً، تعبداً ورقاً، عذت بما عاد به ابراهيم".

وذكر انه كان يأمر بالتوحيد وبعبادة إلهَ واحد. من ذلك قوله: لا تعبدنّ إلهاً غير خالقكـم  وإن دعيتم فقولوا دونه حدد 

وزُ عم انه كان يراقب الشمس، فإذا زالت استقبل الكعبة، فصلى وسجد سجدتين، ثم يقول: هذه قبلة ابراهيم واسماعيل لا اعبد حجراً ولا اصليّ له و لا آكل ما ذبح له، ولا أستقسم بالأزلام، وانما أصليّ لهذا البيت حتى أموت. وكان يحج فيقف بعرفة، وكان يلبي، فيقول: لبيك لا شريك لك، ولا ندّ لك. ثم يدفع من عرفة ماشياً، وهو يقول: لبيك متعبداً مرقوقاً.

ويروي أهل الأخبار أقوالاً اخرى لزيد، كما رووا له أشعاراً زعموا أنه قالها، وهي في هذه الأمور التي ينسبونها إلى الأحناف من ذكر لديانة ابراهيم وللتوحيد ومن ذمّ إلى الأصنام ومن اصلاح لحال مجتمع ذلك اليوم. كما رووا له أبياتاً من شعر زعموا أنه نظمه يعاتب فيه زوجته "صفية بنت الحضرمي"، لأنها كانت تمانع في خروجه عن مكة وفي سفره إلى الخارج التماساً لهذا الدين. وتفيد رواية من روايات اهل الأخبلر بأن "زيد بن عمرو بن نفيل"، كان في جملة من اشترك في "حرب الفجار"، تقول إنه كان على رأس "بني عدي" وذلك في يوم شمطة.

وروي أن رسول الله سئل عن "زيد بن عمرو"، فقال: "يبعث أمة وحده يوم القيامة". بل روي أنه ترحم عليه، وأنه قال: "رأيته في الجنة يسحب ذيولأ"   

وينسب اهل الأخبار لزيد شعراً،هومن هذا الشعر الذي ينسبونه إلى الأحناف، في الطابع الديني، من بحث عن توحيد، وحث على عبادة إلهَ واحد، واقرار بحساب وكتاب. وأمثال ذلك. وقد نسب بعض منه إلى "أمية بن أبي الصلت"، ونسب بعض منه إلى شعراء آخرين. كما ان الرواة يروون هذا الشعر بقراءات مختلفة.

ومن ولد زيد رجل كان له سبق وقدم في الإسلام، هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. كان من السابقين الأولين ومن المهاجرين،شهد المشاهد والأحداث المهمة، إلا بدراً، فإنه لم يكن حاضراً بالمدينة إذ ذاك. وهو أحد العشرة المبشرة. ذكر انه أسلم قبل دخول رسول الله دار الأرقم. ولا بد ان يكون لرأي والده في دين قومه وما أبداه من ثورة صريحة جامحة على عقائدهم أثر في نشوء هذا الابن وفي اقدامه مع السابقين على الدخول في الإسلام، بعد ان كان والده قد سبق إسلامه برحيله إلى الاخرة بسنين. وأمه "فاطمة بنت بعجة بن أمية بن خويلد بن خالد بن اليعمر" من خزاعة. ولسعيد أخت اسمها عاتكة بنت زيد.

وذكر "ابن هشام" ان زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، اتفقوا في الرأي والعقيدة، وتعاهدوا على نبذ عبادة قومهم وم ما كانوا عليه من ضلال، وتصادقوا، وكوّنوا عصبة خرجت على عبادة قريش، فلم يشتركوا معهم في أعيادهم،ولم يشاركوهم في عبادتهم، وظلوا حتى ماتوا عن عبادة قومهم صابئين.

أما عبيد الله بن جحش بن رئاب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، فقد بقي مرتاباً في دين قومه، بعيداً عنهم وعن عبادتهم، حتى اذا ظهر الإسلام دخل فيه، ثم هاجر مع من هاجر إلى الحبشة، ومعه امرأته أم حبيية بنت أبي سفيان، وكانت مسلمة كذلك. فلما صار في الحبشة، فارق الإسلام وتنصر، وهلك هناك.

وأما عثمان بن الحويرث، فقد بقي مغاضباً قومه في دينهم، ثم رأى الذهاب إلى الروم، فذهب اليهم، وتقرب إلى قيصر، وحسنت منزلته عنده ومنحه لقب "بطريق"، وأراد تنصيبه ملكاً على مكة، ولكن قومه أبوا ذلك، فلم يتمّ له مراده، ومات بالشأم مسمومأَ، سمهّ عمرو بن جفنة الغساني.

وذكر "الزبيري"، أن والدة "عثمان بن الحويرث"، هي تماضر بنت عمير بن أهيب بن حذافة بن جمح". وأنه خرج إلى "قيصر فسأله أن يملكه على قريش، وقال: أحملهم على دينك، فيدخلون في طاعتك، ففعل. وكتب له عهداً وختمه بالذهب، فهابت قريش قيصر، وهموا ان يدينوا له، ثم قام الأسود بن المطلب أبو زمعة، فصاح، والناس في الطواف: إن قريش لقاح، لا تملك ولا تملك. فاتسعت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان مما جاء له، فمات عند ابن جفنة، فاتهمت بنو أسد ابن جفنة بقتله". وَكان ابن جفنة حبس أبا ذئب عنده، وأبا أحيحة بسبب عثمان بن الحويرث. ويقصدون بابن جفنة: عمرو بن جفنة الغساني.

وتذكر احدى الروايات، ان وفاة "عثمان بن الحويرث " كانت بالشأم وقد مات عند قيصر، وكانت وفاته قبل المبعث بثلاثين سنة، رثاه "زيد بن عمرو بن نفيل"، وورقة بن نوفل.

ويعد "عثمان بن الحويرث" من أشراف "بني أسد" من قريش. وقد كان مع "خويلد بن أسد" على رأس "بني أسد" في "حرب الفجار".

وكان ينادمه "شيبة بن ربيعة بن عبد شمس". وقد تنصرا جميعأ، وقتل شيبة يوم بدر كافرأَ.

وأما "أمية بن أبي الصلت"، فهو أحسن الحنفاء حظاً في بقاء الذكر، بقي كثيراً من شعره، وربما وضع كثير منه على لسانه، وحفظ قسط لا باًس به من أخباره. وسبب ذلك بقاؤه إلى ما بعد البعث، واتصاله بتأريخ النبوة والاسلام اتصالاً مباشراً وملاءمة شعره بوجه عام لروح الإسلام. لم يكن مسلماً ولم يرض أن يدخل في الإسلام لأنه كان ياًمل ان تكون النبوة فيه، وأن ينزل الوحي عليه، فيكون نبي العرب والعالم أجمعين. فلما رأى النبوة في الرسول، حسده، وأثار المشركين عليه، ورثى قتلاهم في معركة بدر، وحرض قريشاً عليه، حتى مات على حسده وعناده سنة تسع للهجرة بالطائف قبل أن يسلم قومه الثقفيون. لم يمت مسلماً، ولم يمت على دين الوثنيين من قومه: بل مات كافراً با لديانتين.

وقد جاء في بعض الروايات، ان وفاة "أمية"، كانت في السنة الثانية من الهجرة. وورد في روايات أخرى أنه توفي سنة تسع للهجرة، كافراً قبل أن يسلم الثقفيون.

ورثاؤه قتلى معركة بدر، محفوظ في قصيدة حائية. مطلعها:   

الاّ بكيت عـلـى الـكـرا  م بني الكرام أولى الممادح 

كبكا الحمـام عـلـى فـرو  ع الأيك في الغصن الصوادح 

وهي قصيدة يتوجع فيها أمية لسقوط قتلى المشركين، ودفنهم بالقليب، وفيهم "عتبة" و "شيبة" ابنا "ربيعة بن عبد شمس"، وهما ابنا خالة أمية. وقد ذكر بعض الرواة ان الذي حمله على قول هذا الشعر، هو انه لما وصل إلى القليب موضع مدفن قتلى قريش في بدر، وكان ذاهباً إلى المدينة يريد الدخول في الإسلام، قال له بعض من كان معه من غلاظ الأكباد من المشركين: هل تدري ما في هذا القليب ? قال: لا. قيل: فيه شيبة وربيعة وفلان وفلان. فجدع انف ناقته، وشق ثوبه، ويكى، وعاد إلى الطائف.

وذكر ان أمية نال في بيتين من هذه القصيدة من أصحاب رسول الله، ولذلك أهملهما "ابن هشام" صاحب السيرة. وذكر أيضأَ ان النبي نهى عن روايتها. ولكن الرواة رووها وحفظوها ودوّنوها في الكتب، فكيف تجرؤوا على حفظها وتدوينها لو صح ان النبي نهى عن روايتها على نحو ما يزعمه أهل الأخبار.

وأميةّ مثل سائر المتألهين الآخرين من طبقة الحنفاء، سافر إلى الشام، واتصل بأهلها، وأوى إلى الأديرة ورجال الدين يسأل منهم ما يهمه من مشكلات دينية وعما كان يجول في خاطره من عبادة قومه وحقيقة العالم. وكان تاجراً، يذهب مع التجار في قوافلهم إلى تلك الديار التي كَانت في أيدي الروم. ثم إنه كان على ما يظهر من الروايات التي وردت في ترجمته وسيرته قارئاً كاتباً، قرأ الكتب، ووقف عليها. ومنها ومن اتصاله برجال الدين وبأهل الكتاب تكونت عنده فكرته عن الدين،وشكّه في عبادة قومه وفيما كانوا عليه من عقائد وعبادات. وقد بدا هذا التأثر في الكلمات والمصطلحات الأعجمية والغريبة المستعملة في شعره وفي الأمثلة والقصص المنتزع من الكتابين: للعهد القديم والعهد الجديد ومن موارد أخرى عديدة من الموارد الشائعة المستعملة عند أهل الكتاب.

وقد ورد في بعض الأخبار ان امية سافر مرة مع أبي سفيان والد معاوية في تجارة إلى بلاد الشام، فكان كلما نزل منزلاً أخذ فيه سفراً له يقرأه على من معه، كما كان يزور علماء النصارى ويتباحث معهم، وكان يلبس ثوبين أسودين حينما يقابلهم. ولم تذكر الرواية شيئاً عن السفر أو الأسفار التي كان يقرأ منها أمية ويشرحها لمن معه من التجار. وتذكر رواية أخرى انه كان قد بلغ مع "أبي سفيان" غزة أو "ايلياء".

ولأمية في هذا اليوم ديوان ضم أكثر ما نسب اليه من شعر. كما ان في بطون كتب الأدب والأخبار أشعاراً أخرى لم يرد لها ذكر في هذا الديوان. ومعظم شعره هو عن الدين والاخرة وعن الجنة والنار والحساب والكتاب، وقد تضمن إشارات إلى حوادث وقعت في ايامه، أو في ايام قرببة من ايامه مثل قصة الفيل، كما تضمن بعض قصص الأنبياء، ولتعرض شعره إلى هذه النواحي نعت بشاعر الآخرة.

ومما ذكره الأخباريون ورواة شعر أمية من أمثلة على استعماله للكلم الغريب، انه استعمل. "الساهور" للقمر، وهي كلمة لا تعرفها العرب، وانه ذكر، "السلطيط"، اسماً لله تعالى. وانه أطلق كلمة "التغرور" على الله تعالى في موضع آخر من شعره، وانه سمى السماء "صاقورة" و "حاقورة" وانه استعمل أشياء أخرى من هذا القبيل. ولولعه هذا باستعمال الغريب، رفض علماء اللغة الاحتجاج بشعره.

والساهور، كلمة آرامية الأصل من أصل "سهرو" Sahro، بمعنى القمر، أي تماماً بالمعنى الوارد في شعر أمية.

وهذا الشعر المنسوب إلى أمية وغريبه خاصة مادة مهمة جداً تجب دراستها بعناية، لمعرفة مبلغ صحة ما جاء في أخبار الرواة عن هذه الكلمات وعن أصولها ومواردها الأولى، إن صح انها من أشعار تلك الأيام حقاً، إذ ترشدنا أمثال هذه الدراسات إلى معرفة المنابع التيّ استقى منها هذا الشاعر علمه وإلهامه ومدى تأثره وتأثر أمثاله من الجاهليين بالآراء والتيارات الفكرية التي كانت في مكة وفي خارج جزيرة العرب قبيل الإسلام.

وقد روى الأخباريون قصصاً عن التقاء أمية بالرهبان، وعن توسمهم معالم النبوة فيه، فكانوا يسألونه أسئلة تستخرج من أجوبتها في نظرهم معالم النبوة.

فلما كانوا يقفون على الأجوبة، يقولون له: كادت النبوة تكون فيه، لولا بعض النقص في علاماتها عنده"، كما رووا قصصاً عن شق طيرين لقلب هذا الشاعر، لتنظيفه، وتهيئة النبوة فيه. ولكنهما عندما وقفا عليه لم يجدا أن النبوة خلقت له.

وقد حاكى أهل الأخبار في قصصهم هذا ما رواه رجال السير عن علامات النبوة عند الرسول. كذلك رووا أنه كان يتفرس في لغات الحيوانات، فيعرف ما تقوله وما تريده ويقصه على الناس وانه كان يسخر الجنّ، وكانت تطيعه، وأنه تنبأ بموته حينما نعب عليه الغراب. فجعلوه بأخبارهم هذه في مرتبة تضاهي سلمان في علمه بمنطق الطير وبقية الحيواناتْ. وذكر "ابن دريد": "كان بعض العلماء يقول له لولآ النبي صلى الله عليه وسلم، لادعت ثقيف أن أمية نبي،لأنه قد دارس النصارى وقرأ معهم، ودارس اليهود وكلّ الكتب قرأ".

وتشبه قصة تنظيف الطيرين لقلب أمية، وهي القصة التي أشرت اليها قبل قليل، خبر "حليمة السعدية" مرضعة الرسول لصدر النبي. ورواة قصة شق صدر أمية وتنظيف قلبه هم من أهل الطائف، ويرجعون سند قصتهم إلى أخت أمية المسماة "الفارعة"، "وكانت ذات لُبّ وعقل وجمال، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم بها معجباً"، وقد وفدت عليه، فلما سألها عن شعر أخيها كما يقول الرواة، قصت عليه قصة الطيرين، كما قصت عليه قصة وفاته " فقال رسول الله: "ان مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها له".

ويشير القصص الوارد عن التقاء "أمية" بالأحبار وبالرهبان وباتصاله بهم، إلى أن امية كان يرجو انً يكون نبياً، وأنه كان يعتقد بقرب ظهور نبي وتامله أن يكون هو ذلك النبي المرتجى: ألا نبيّ مـنـا فـيخـبـرنـا  ما بعد غايتنا من رأس مجرانا 

وقد كسف وتألم كثيرأَ وأكل الحسد قلبه، حين فلت ا الأمر منه، اذ سمع بإعلان الرسول رسالته، ودعوة الناس. إلى دين الله، الذي كان أمية نفسه يدعو اليه. وقد ورد أنه لما سمع بنبوة الرسوكل قال: "إنما كنت أرجو ان اكونه".

ويروي أهل الأخبار أن امية كان قد مات وهو معتقد بأن الحنيفية حق إذ رووا أنه قال في مرض موته، "قد دنا أجلي، وهذه المرضة فيها منيتي وأنا أعلم ان الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد. وقال: لا برىء فأعتذر ولا قوي فانتصر له".

وفي جملة ما رووه عنه، انه عرف مجيء يومه من نعيب غراب، نعب على مقربة منه. فحدث القوم بما سمعه من الغراب، وكان يعرف منطقه، وقال لهم انه سيموت وذكر علامة ذلك، فكان ان مات على نحو ما قال القوم. وذكر أيضاً انه لما كان على فراش الموت محتضراً أفاق عدة مرات، وكان يتلو في كَل مرة: "لبيكما لبيكما، ها أنذا لديكما"، ثم يتلو هذا الكلام بكلام آخر فيه توسل وتضرع إلى الإلَه، إلى ان أفاق للمرة الأخيرة، فقال شعراً بين فيه ان الموت أمر لا بد منه، وانه هالك في هذه المرة لا محالة، ثم هلك، دون ان يؤمن بالرسول.

وهذا القصص الوارد عن أمية، هو - بالطبع - من القصص المصنوع الموضوع، مثل كثير من أخباره وأخبار غيره، قص على ذوي القلوب الطيبة من الرواة والأخبارين، فأخذوه ونقلوه كما نقلوا ما شاء الله من الاسرائيليات والأساطير، وروي على انه مما كان يعلمه الأحبار والرهبان والخاصة من أهل الكتاب.

ولا أستبعد ان يكون هذا القصص قد ظهر في ايام الحجاج عصبية وتقرباً اليه، فقد كان الحجاج من ثقيف، وكان أمية من ثقيف كذلك. وقد أنتج الوضاعون في ايامه شيئاً كثيراً من الأخبار في قبيلة ثقيف، كما أنتجوا شيئاً في ذمها وفي ذم رجالها نكاية به.

وقد يكون في قول "الحجاج" حين سئل عن شعر أمية، شيء من التوجع والتألم أو المبالغة في تقديره حين قال: "ذهب قوم يعرفون شعر امية، وكذلك اندراسُ الكلام". وقد يكون كلام الحجاج غير ذلك، لو كان أمية من قبيلة أخرى.

ونحن نستطيع ادخال قول من قال عن "أمية" "قيل انه كان نبياً" في جملة هذه الدعاوى التي وضعت في هذا العهد، للرفع من شأن "ثقيف" ومن الرد على المتهجمين عليها الطاعنين حتى في نسبها الذين جعلوا "ثقبفاً" من بقية "ثمود"، وأيدوا قولهم هذا بحديث زعموا ان الرسول قاله: "ثقيف من ثمود"، وجعلوه من عبد لأبي رغال، وابو رغال نفسه الذي نسب عبده اليه، أي جد ثقيف، هو في نظر العرب وقريش خاصة سبة.

ويذكرون عنه انه بعد ان صبأ عن قومه وتحنف، لبس المسوح على زي المترهبين الزاهدين في هذه الدنيا، ورافق الكتب ونظر فيها، ليستلهم منها العلم والحكمة والرأي الصحيح، ثم حرّم الخمر على نفسه مثل بقية المتاًلهين، وتجنب الأصنام، وصام، والتمس الدين، وذكر ابراهيم واسماعيل، وانه كان أول من أشاع بين قريش افتتاح الكتب والمعاهدات والمراسلات بجملة: "باسملك اللهم"، وهي الجملة التي نسخت في الإسلام بجملة: "بسم الله الرحمن الرحيم". ويذكر أهل الأخبار ان امية أخذ جملة: "باسمك اللهم" من شيخ كان منطوياً على نفسه في برية نائية، وذلك حينما ألح عليه قوم كانوا معه من قريش في عير لهم، كانت قد نفرت، بأن يجد طريقة لطرد حيّة كانت تظهر بين ابلهم فتنفرها، فذهب إلى ذلك الشيخ واستشاره في طريقة تبعد عنهم أذى تلك الحية، فأشار عليه باستعمال تلك الجملة، فهربت الحية ونفرت منهم، وقد كان سبب ظهور تلك الحية كما يذكر أهل الأخبار، هو أن رجلا من القوم هو: "حرب بن أمية بن عبد شمس"كان قد قتل حيةّ فقررت زميلتها الانتقام من قتلتها، فقتلته الجن انتقاماً منه بثأر تلك الحية. وهربت الجن عند سماعها تلك الجملة. وإليه أشير كما يقول أهل الأخبار بقولهم: وقبر حرب بمكان قـفـر  وليس قرب قبر حرب قبر 

فحرب هذا المذكور في هذا البيت، هو حرب بن أمية، وأما الشيخ فكان رجلاً من الجن.

ويُذكر أنه لم يكن يرتضي من الأديان غبر دين الحنيفية ديناً. وأنه قال ذلك في شعر له: كل دين يوم القيامة عند الله  ، إلاً دين الحنيفـية، زور

وأنه كان يعظم الله في شعره ويكبره ويحمده، ويرى أنه إلهَ واحد لا شريك له، وأن من يشرك به أحداً فقد ظلم نفسه: الحمدلله لاشـريك لـه  من لم يقلها فنفسه ظلما 

وهناك من يروي أن "النابغة الحعدي"،كان يدعي أن هذا البيت وما بعده هو من نظمه. قال ذلك أمام "الحسن بن على بن أبي طالب".

ويروى ان النبي كان يسمع شعر أمية، وان "الشريد بن سويد" "الشريد ابن عمرو" الثقفي، كان ينشد له شيئاً منه، في اثناء أحد أسفاره، فكان كلما أنشد له شيئاً منه، طلب منه المزيد، حتى اذا ما أنشده مئة بيت، قال النبي له: كاد ليسلم، أو كاد ليسلم في شعره. وذكر ان الرسول قال في حديث له عنه: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه. وانه لما سمع شعره في الدين والحنيفية ومطلعه: الحمد لله ممسانا ومصبحنا  بالخيرصبحنا ربي ومسّانا 

قال: "إن كاد أمية ليسلم".

وروي عن "ابن عباس"، ان الرسول لما سمع شعر " امية ": زحل وثور تحت رجل يمينـه  والنسر للاخرى وليث مرصد 

قال: صدق أمية.

وفي رواية أنه: "كان قد قرأ الكتب القديمة، وعلم أن الله تعالى مرسل رسولأ، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فآتفق أن خرج إلى البحرين، وتنباً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقام هناك ثماني سنين. ثم قدم، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جماعة من أصحابة، فدعاه إلى الإسلام، وقرأ عليه سورة يس، حتى اذا فرغ منها، وثب أمية يجر رجليه، فتبعته قريش تقول: ما تقول يا امية ? فقال: أشهد انه على الحق. قالوا: هل نتبعه ? قال: حتى انظر في امره. فخرج إلى الشام، وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم، فلما أخبر بها، ترك الإسلام. وقال: لو كان نبياً ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات".

وفي هذه الرواية المنسوبة إلى الزهري، عن سماع أمية بن أبي الصلت بنبوة النبي وهو في البحرين، ثم مجيئه إلى مكة والتقائه بالرسول ومحاجته له في ظل الكعبة، ثم انكسافه وتراجعه وذهابه إلى الشام، ثم عودته منها، تكلف ظاهر، وفي تفاصيلها ما يناقض بعضه بعضاً.

وورد في رواية أخرى، ان اًمية بن أبي الصلت قدم المدينة فقال للنبي: ما هذا الذي جئت به ? فقال الرسول: الحنيفية دين ابراهيم. قال: فانا عليها. فقال غليه الصلاة والسلام لست عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال: أمات الله تعالى الكاذب منا طريداً وحيداً، ثم خرج إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا للسلاح. ثم أتى قيصر، وطلب منه جنداً، ليخرج النبي من المدينة، فمات بالشام طريداً وحيدأَ. وهي قصة ينسب وقوعها إلى "أبي عامر" الراهب، كما سبق أن تحدثت عن ذلك.

وتخالف هذه الرواية الروايات المالوفة الواردة الينا عن وفاة "أمية" بالطائف. وتزعم احدى الروايات، ان أمية كان قد أخذ ابنتيه وهرب بهما إلى أقصى اليمن، وذلك حين بعث النبي. ثم عاد إلى الطائف، فبينما هو يشرب مع اخوان له في قصر بالطائف، إذ سقط غراب على شرفة في القصر فنعب، وأدرك أمية انه ميت، لأنه عرف منطق الغراب، وحدّث القوم بذلك في قصة مفصلة تجدها في الكتب ثم مات. وقصة الشرب هذه تناقض ما يذكر عنه أهل الأخبار من انه كان لا يقترب من الخمر، ومن انه كان قد حرمها على نفسه، شأنه في ذلك شأن بقية الأحناف. كذلك يناقض خبر تحربمه الخمر على نفسه،خبر آخر، خلاصته انه كان يشرب يوماً مع عبدالله بن جدعان، فأخذ الشراب برأس "ابن جدعان"، وأصاب عين أمية، فلما كان اليوم الثاني وجلس أيضاً للشرب معه، سأل "عبدالله" أمية عن سبب الألم البادي على عينه، فلما أخبره بأنه كان هو سببه، ترك "ابن جدعان" الخمر استحياء مما فعله وقال شعراً في سبب تركه ألخمر. ويقول أهل الأخبار: "ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية، إلا ترك الخمر استحياء مما فيه من الدنس".

وتؤيد قصة ذهاب "أمية" إلى اليمن وسكنه أمداً هناك قصة ينتهي سندها ب "أبي سفيان"، خلاصتها انه كان قد ذهب في ركب من قريش إلى اليمن في تجارة، فمرّ بأمية، وقال له كالمستهزىء به: يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته ? فأجابه أمية: اما انه حق فاتبعه. وقال له قولاً يتنبأ فيه بمصير أبي سفيان وكيف سيؤتى به إلى الرسول، فيحكم فيه كما يريد. ففي هذه القصة توكيد بخروج أمية الى اليمن حين بعث الرسول وبمكوثه زماناً هناك.

وذكر أنه الشخص الذي نزلت في حقه الآية: )واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا، فانسلخ منها(. وهي آية قيل أيضاً إنها نزلت في "بلعام بن باعور" "بلعم بن ابر"، "بلعام بن باعرا"، أو في زوج البسوس، أو في "النعمان ابن صيفي الراهب".

وأمية كاكثر الشعراء له شعر في المدح وله تعريض. وأكثر مدحه في "ابن جدعان" من اجواد العرب المعروفين المشهورين في الجاهلية. وهو في المدح أو في الرثاء أو في كل مناسبة اخرى، مستعمل لكلمات ذات صلة بالدين وبالأفكار الدينية ولمصطلحات لا ترد إلا نادراً في الأشعار المنسوبة إلى الشعراء الجاهليين، مما يدل علي غلبة التفكَير الديني عليه، وتأثير ما قرأه أو أخذه من غير العرب فيه. سئل الأصمعي عن شعر أمية، فقال: "ذهب أمية في شعره بعامة ذكر الآخرة وذهب عنترة بعامة ذكر الحرب،وذهب عمر بن أبي ربيعة بعامة ذكر الشباب".

ووالد "أمية"، هو "عبدالله بن أبي ربيعة بن عوف الثققي" أو "ربيعة ابن وهب بن علاج بن أبي سلمة" الثقفي على رواية "الزبيري". أما أمه فهي "رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف". وقد كان والده شاعراً. ذكر انه مدح "سيف بن ذي يزن".

ومن الرواة من ينسب القصيدة التي تنسب إلى والد امية، والتي هي في مدح " سيف بن ذي يزن"، إلى امية نفسه. وفي هذه القصيدة إشارة إلى ذهاب "سيف بن ذي يزن" إلى هرقل، فلما لم يجد منه أية مساعدة أو اهتمام، عافه، وذهب إلى كسرى، حيث وجد منه مساعدة، فجاءت اليه بعد سنين من تعب ومواظبة.

وينسب إلى أمية شعر، ذكر انه افتخر فيه ب "نزار" وب "معد". وبقبيلة "إياد"، حيث نعتهم ب "قومي إياد".

ويتلخص ما جاء في شعر هذا الشاعر من عقائد وآراء في الاعتقاد بوجود إلَه واحد، خلق الكون وسوّاه وعدله، وأرسى الجبال على الأرض، وأنبت النبات فيها، وهو الذي يحيي ويميت،ثم يبعث الناس بعد الموت ويحاسبهم على أعمالهم، وليجازيهم بما كسبت أيديهم، فريق في الجنة وفريق في النآر، يساق المجرمون عراة إلى ذات المقامع والنكال مكبلين بالسلاسل الطويلة وبالأغلال، ثم يلقى بهم في النار يصلونها يوم الدين، يبقون فيها معذبين بها، ليسوا بميتين، لأن في الموت راحة لهم، بل قضى الله ان يمكثوا فيها خالدين أبدأَ.

أما المتقون،فإنهم بدار صدق ناعمون تحت الظلال: لهم ما يشتهون، فيها عسل ولبن وخمر وقمح ورطب وتفاح ورمان وتين وماء بارد عذب سليم، وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وحور لا يرين الشمس فيها، نواعم في الأرائك قاصرات، على سرر ترى متقابلات، عليهم سندس وجياد رَيٌط وديباج، حلّوا بأساور من لجين ومن ذهب وعسجد كريم، لا لغو فيها ولأ تأثيم، ولا غول ولا فيهاُ مليم، وكاس لا تصدع شاربيها، يلذّ بحسن رؤيتها النديم، تحتهم نمارق من دمقس، فلا أحد يرى فيهم سئيم.

والوقوف على آراء "امية"، وعلى معتقداته الدينية يجب الرجوع بالطبع إلى أشعاره وما نسب اليه من كلام. ففي هذا التراث الذي تغلب عليه النزعة الدينية والحكمية، تتمثل أراء ذلك الشاعر الجاهلي الذي أدرك أوائل المبعث، وهي آراء قريبة جداً من الإسلام، وبعضها يكاد يكون قولاً اسلامياً في لفظه وفي معناه مسبوكاً في شعر. وفي هذا الشعر قصص الرسل والأنبياء: آدم ونوح وقصة طوفانه، والغراب والحمامة، وقصة ذي القرنين وبلقيس وحكاية الهدهد، وقصة ابراهيم وتقديم ابنه للذبح،وداوود، وفرعون، وموسى، وابن عاد. وعيسى وأمه مريم وكيفية حملها به، فوصف ذلك بانياً وصفه على نحو ما جاء في القرآن الكريم عن تكوّ ن عيسى، مضيفاً إلى ذلك زيادات في 2حديث مريم مع الملائكة وجواب الملائكة لها. كما أورد في الشعر قصة "لوط اخي سدوم". وهي من القصص المذكور في التوراة، وأشياء أخرى عديدة من هذا القبيل. وفي أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر من آراء ومعتقدات دينية ووصف ليوم القيامة والجنة والنار، تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلاً لما ورد عنها في القرآن الكريم. بل نجد في شعر أمية استخداماً لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله وفي الحديث النبوي، فكيف وقع ذلك ? وكيف حدث هذا التشابه ? هل حدث ذلك على سبيل الاتفاق أو ان امية اخذ مادته من القرآن الكريم، أو كان العكس، اي ان القرآن الكريم هو الذي أخذ من شعر امية فظهرت الأفكار والألفاط التي استعملها امية في آيات الله وسوره ? فكتاب الله اذن هو صدى وترديد لآراء ذلك الشاعر المتأله، أو ان هذا التشابه مردّه شيء آخر هو تشابه الدعوتين واتفاقهما في العقيدة والرأي، أو اعتماد الاثنين على مورد أقدم، هما الكتابان المقدسان: التوراة والانجيل، وما لهما من شروح وتفاسير، أو كتب أو موارد عربية قديمة كانت معروفة ثم بادت وبقي أثرها في القرآن الكريم وفي شعر أمية بن ابي الصلت، أو ان كل شيء من هذا الذي نذكره ونفترضه افتراضاً لم يقع، وان ما وقع ونشاهده، سببه ان هذا الشعر وضع على لسان امية في الإسلام، وان واضعيه حاكوا في ذلك ما جاء في القرآن الكريم فحدث لهذا السبب هذا التشابه.

أما الاحتمال الأول، وهو فرض أخذ امية من القرآن، فهو احتمال إن قلنا بجوازه ووقوعه، وجب حصر هذا الجواز في مدة معينة، وفي فترة محدودة تبتدىء بمبعث الرسول، وتنتهي في السنة التاسعة من الهجرة، وهي سنة وفاة أمية بن أبي الصلت. اما ما قبل المبعث، فلا يمكن بالطبع ان يكون امية قد اقتبس من القرآن، لأنه لم يكن منزلاً يومئذ، وأما ما بعد السنة التاسعة، فلا يمكن أن يكون قد اقتبس منه أيضاً، لأنه لم يكن حياً، فلم يشهد بقية الوحي. ولن يكون هذا الفرض مقبولاً معقولاً في هذه الحالة،إلا اذا أثبتنا بصورة جازمة ان شعر امية الموافق لمبادىء الإسلام ولما جاء في القرأن قد نظم في هذه المدة المذكورة، اي بين المبعث والسنة التاسعة من الهجرة، وأن امية كان يتتبع نزول الوحي، ويجمعه،وانه كان يملك نسخة مما نزل على الرسول، رجع اليها واقتبس منها، وإلا سقط العرض. فإذا أثبتنا ذلك وثبتنا تأريخ نظم هذا الشعر، أمكنت المقابلة عندئذ بين شعر أمية وما جاء في معناه وفي موضوعه من ايات نزلت ببن ابتداء نزول الوحي علىالرسول وبين السنة التاسعة، أما الآيات التي نزلت بعد هذه السنة، فلا تكون شاهداً على أخذ أميّة منها: لأنه كان قد توفي في السنة التاسعة، فلا يقع هذا الافتراض.

ولكن من في استطاعته تثبيت تواريخ شعر أمية وتعيينه، وتعيين أوقات نظمه ? إن في استطاعتنا تعيين بعضه من مثل الشعر الذي قاله في مدح عبدالله بن جُدعان أو معركة بدر. ولكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بالغالبية منه، وهي غالبية لم يتطرق الرواة إلى ذكر المناسبات التي قيلت فيها. ثم إن بعض هذا الكثير مدسوس عليه، مروي لغيره، وبعضه إسلامي، فيه مصطلحات لم تعرف إلاّ في الإسلام.، فليس من الممكن الحكم على آراء أمية الممثلة في شعره هذا بهذه الطريقة. ثم إن أحداً من الرواة لم يذكر ان امية كان ينتحل معاني القرآن الكرم، وبنسبها إلى نفسه. ولو كان قد فعل، لما سكت المسلمون عن ذلك، ولكان الرسول أول الفاضحين له.

بقي لدينا افتراض آخر، هو أخذ القرآن الكريم من أميه، وهو افتراض ليس من الممكن تصوره، فعلى قائله اثبات أن شعر أمية في هذا الباب هو أقدم عهداً من القرآن الكريم،.وتلك قضية لا يمكن اثبانها أبداً. ثم إن قريشاً ومن لف لفها ممن عارض الرسول لو كانوا يعلمون ذلك ويعرفونه، لما سكتوا عنه، ولقالوا له انك تأخذ من أمية، كما قالوا له: انك تتعلم من غلام نصراني كان مقيماً بمكة، واليه اشير في القرآن الكريم يقوله: )ولقد نعلم انهم يقولون: انما يعلمه بشر، لسانُ الذي يلحدون اليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين(. ولقد أشار المفسرون إلى اسم الغلام، كما سأتحدث عن ذلك في الفصل الخاص بالنصرانية عند العرب قبل الإسلام، ولم يشيروا إلى أمية بن أبي الصلت. ثم إن أمية نفسه لو كان يعلم ذلك أو يظن ان محمداً. انما اخذ منه، لما سكت عنه وهو خصم له، منافس عنيد، أراد ان تكون النبوة له، وإذا بها عند شخص آخر ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمنون بدعوته. أما هو فلا يتبعه أحد. هل يعقل سكوت. أمية لو كان قد وجد اي ظن وإن كان بعيداً يفيد ان الرسول قد اخذ فكرة منه، أو من المورد الذي اخذ أمية نفسه منه ? لو كان شَعرَ بذلك، لنادى به حتماً، ولأعلن للناس انه هو ومحمد أخذا من منبع واحد،. وان محمداً أخذ منه، فليس له من الدعوة شئ، ولكانت قريش وثقيف اول القائلين بهذا القول والمنادين به.

نعم، لقد ورد في الحديث، كما قلت قبل قليل، ان الشريد بن سويد.كان قد أنشد الرسول شعر أمية، وانه كان كلما أنشده شيئاً منه طلب منه المزيد، حتى إذا ما أنشده مئة بيت، قال له الرسول: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه، ولكننا هنا بحاجة إلى تثبيت تاريخ هذا الإنشاد، وإثبات صحة الرواية وتدقيق رجال السند، لاثبات ان ما أنشد لم يكن قد نزل في مثله الوحي.

وممن ذهب إلى افتراض أخذ الرسول من أمية من المستشرقين "كلمان هوار" و "بور" Power زعم "بور" انه حيث يوجد تشابه بين شعر أمية والقرآن الكريم، فإن ذلك يدل على ان الرسول أخذ من "أمية"، لأن أمية أقدم من الرسول. وهذا الافتراض مقبول كما لو أثبتنا ان هذا النظم شعر أصيل صحيح" وانه نظم قبل نزول مشابهه في القران الكريم، وانه لم يضف اليه في الإسلام. فإن أثبتنا انه له، جاز لهما مثل هذا الادعاء.

وأما الرأي الثالث - وأعني به رأي من يرجع التشابه بين شعر امية وما ورد من مثل معانيه في القرآن الكريم إلى أخذ إلاثنين من التوراة والانجيل وتفاسيرهما، والى بعض "الصحف" و "المجلات" الني أشير إلى وجودها عند العرب - فهو رأي قديم، وليس بجديد. رأي قيل عن الوحي كله، لا عن القرآن وشعرّ امية أو غير امية، قبل ان يخلق المستشرقون بأكثر من 1300 سنة، فقد زُعم "ان النبي يتعلم من غلام نصراني اسمه جبر !!". وقد أشير إلى هذا الزعم في كتاب الله، وجاء الرد عليه في قوله تعالى: ) ولقد نعلم أنهم يقولون،إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون اليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين (. فلمُ يخْف القرآن الكريم ذلك الطعن والمغمز، ولم يتجاهل المفسرون اسم من قيل إنه كان يَعلمه، فذكروا جبراً هذا، وكان غلامأً مقيماً بمكة، وقال بعضهم بل هو رجل رومي اسمه غير ذلك.

ولو كان الرسول وأمية قد أخذا من منهل واحد، واستقيا من مورد واحد، لما سكتت قريش عن القول به، ولما سكت أمية نفسه وهو الغاضب الحاقد على الرسول عن الجهر به. وكيف يعقل سكوته عن هذا، وهو أمر مهم جدأَ بالنسبة اليه. وسيف يحارب به الإسلام? ولما سكت مسيلمة ومن كان على شاكلته من المتنبئين من الإشارة اليه في أثناء حروب الردّة، وقد كانت فرصة سانحة لإظهار هذه المقالة. ولما سكت "يوحنا الدمشقي" وأمثاله من التلميح إلى ذلك، وقد لمح بأمور كثيرة في طعنه على الإسلام.

ثم إنّ هذا التشابه، على ما يتبين من نقده وتمحيصه، ليس من نوع ما يحصل عن أخذ شخصين مستقلين من مورد معين، إنما هو من قبيل ما يحدث من اعتماد أحد الشخصين على الآخر، بدليل ورود أمور في القرآن الكريم، لم ترد في التوراة ولا في الانجيل، ولكنها وردت في شعر امية، وبدليل ورود أكثر قصص الأنبياء والآراء والمعتقدات في شعر أمية على شكل إسلامي، لا على النحو الوارد عند أهل الكتاب. واستعمال هذا الشخص لجمل وألفاظ وتراكيب اسلامية واردة في القرآن الكريم وفي الحديث لا في الكتب السماوية المذكورة. فلو كان مردً هذا التشابه الأخذ من مورد واحد، لوجب انحصار هذا التشابه في الأمور المشتركة التي ترد في الكتب المقدسة: التوراة والانجيل والقرآن، وفي شعر أمية حسب، لا في المسائل التي ترد في شعر أمية وفي القرآن الكريم، ولا ترد في الكتابين المقدسين أو في الكتب الأخرى.

ثم إن المقابلة بين نصين لمعرفة صله احدهما بالآخر،وأخذ احدهما من الآخر، تستوجب التأكد من صحة نسبة هذا الشعر إلى أمية. ففي هذا الشعر مقدار لا يمكن ان يشك في وضعه وصنعه، ومقدار نص العلماء نصاً على انه لغيره، وهم انما ذكروه في شعر أمية، لأن بعض اهل الأخبار نسبه اليه. ولذلك استدركوا هذا الخبر، بالاشارة إلى اسم قائله الصحيح. فلم يبق من هذا الشعر ما يصلح للمقابلة غير القليل منه، وهو القليل الذي له صلة بعقيدة ودين. وهذا القليل هو، في الغالب ايضاً، تبع لما ورد في القرآن وحده، لا لما ورد في الكتابين المقدسين. ولما كان القرآن محفوظاً ثابتأ، فلم يرتق اليه الشك. اما شعر امية، فليس كذلك، وهو غير معروف من حيث تعيين تأريخ النظم. فهذه المقابلة إن جازت، فانها تكون حجة على القائلين بالرأي المذكور، لا لهم. وقد كَان عليهم ان يثبتوا أولاً اثباتاً قاطعاً صحة رأيهمَ في أصالة هذا الشعر، لا ان يفترضوا مقدماً انه شعر أصيل صحيح، وان يذهبوا رأساً إلى انه هو والقرآن الكريم من وقت واحد، بل انه على حد قول بعضهم أقدم منه، فكتاب الله منتزع منه.

وممن قال باحتمال أخذ القرآن وأمية من مورد مشترك واحد، "فردرش شولثيس" Friedrich Schulthetz ناشر ديوان أمية. وقد زعم أيضاً احتمال أخذ أمية من بعض آيات الله التي كانتُ منزلة يوشذ، ونظمها في شعره. استند في زعمه القائل باقتباس الرسول من مورد مشترك إلى ورود بعض كلمات في القرآن الكريم وفي الحديث وفي كتب السير، يفهم منها على زعمه ان الرسول كان قارئاً كاتباً، لكنه لم يشترط في هذه المؤلفات كونها الانجيل و التوراة، بل ذهب الى انها "مجلة" و "صحيفة"، تتضن أحأديث وتفاسير وقصصاً دينياً قديما. أما دليله، فافتراض واحتمال، وليس له غير هذين. ولا يقوم علم إلإعلى دليل ملموس.

أما أنا، فاًرى ان مردّ هذا التشابه والاتفاق إلى الصنعة والافتعال. لقد كان أمية شاعراً، ما في ذلك شك، لاجماع الرواة على القول به. وقد كان ثائراً على قومه، ناقماً عليهم، لتعبدهم للأوثان. وقد كان على شيء من التوحيد والمعرفة باليهودية والنصرانية، ولكني لا أظن أنه كان واقفاً على كل التفاصيل المذكورة في القرآن وفي الحديث من العرش والكرسي وعن الله وملائكته وعن القيامة والجنة والنار والحساب والثواب والعقاب ونحو ذلك، إن هذا الذي ذكره شيء إسلامي خالص،لم ترد تفاصيله عند اليهود ولا النصارى، ولا عند الأحناف. فوروده في شعر أمية وبالكلمات والتعابير الاسلامية، هو عمل جماعة فعلته في عهد الإسلام: وضعته على لسانه، كما وضعوا أو وضع غيرهم على ألسنة غيره من الشعراء والخطباء، لاعتقادها أن ذلك مما يفيد الإسلام، ويثبت أن جماعة من الجاهليين كانوا عليه،وأنه لم يكن لذلك غريباً، وأن هؤلاء كانوا يعلمون الغيب، يعلمون بقرب ظهور نبيّ عربي، وأنهم لذلك بشروا به، وأنهم كانوا يتمنون لو عادوا فولدوا في أيامه، أو لو طال بهم العمر حتى يدركوه فيسلموا،وأمثال ذلك من قصص راج وانتشر، كما راج امثاله في كل دين من الأديان.

ولا بد وأن يكون هذا الوضع قد صنع في القرن الأول للاسلام، لأن أهل الأخبار القدامى يذكرون بعض هذا الشعر. وقد يكون قد وضع أ كثره في عهد الحجاج تقرباً اليه، لأنه من ثقيف، وفي ذلك العهد وضع الوضّاع أخباراً كثيرة في الغض من شأن قوم الحجاج، نكاية به فتقدم قوم آخرون اليه بالرفع من شأنها وبإضافة ذلك الشعر الى أمية وغيره، ليكون رداً على كارهي ومبغضى الحجاج.

وتتبين آية الوضع في شعر أمية في عدم اتساقه وفي اختلاف أسلوبه وروحه.

فبينما نجد شعره المنسوب اليه في المدح أو في الرثاء أو فيَ الأغراض الأخرى مما ليس لها صلة مباشرة بالدين، في ديباجة جاهلية على نسقى الشعر المنسوب إلى شعراء الجاهلية، نجد القسم الديني منه والحكمي في أسلوب بعيد عن هذا الأسلوب، بعيد عن الأساليب المعروفة عن الجاهليين، أسلوب يجعله قريباً من شعر الفقهاء والصوفين المتزمتين، ونسّاك النصارى، فهو بعيد جداً من أسلوب الجاهليين، حتى أسلوب مثل "عدي بن زيد "العبادي والأعشى ويقية من نسب إلى النصرانية من شعراء الجاهلية القريبين من الإسلام. يضاف إلى ذلك ما ذكره الرواة وأهل الأخبار من نسبة بعض ذلك الشعر إلى غيرة من الشعراء، وقد يقال إن أسلوب "أمية" في نظم الشعر الديني والحكمي، هو أسلوب صحيح لا يمكن إلا ان يكون على هذا الحال، هو أسلوب بعيد عن أسلوب الجاهليين في النظم، لأن الشعر الجاهلي المعروف نظم في أغراض أخرى لا صلة لها بالحكم وبالدين، وما جاء منه إلينا في الحكم وفي الدين هو على أسلوب آخر أيضاً، بدليل ان بعض الشعراء منهم حين نظموا في الحكم، رق شعرهم وبان عن نظمهم المألوف. وبدليل ان نظم "حسان بن ثابت" في الإسلام، هو دون نظمه في الجاهلية من حيث الجزالة والفخامه في النظم، وان شعر "لبيد".

في الإسلام، هو دون ما نظمه في الجاهلية، بسبب تغير الظروف واختلاف الموضوع. وهو اعتذار صحيح، ولكن أسلوب أمية في تعبيره عن الجنة والنار والبعث والحساب، أسلوب آخر، لا يفصح عن عقلية دينية جاهلية، وانما عن عقلية إسلامية. ومن هنا جاء شكنا في صحة هذا الشعر وفي أصالته، وليس من أسلوب النظم.

ولكن من الذي وضع هذا الشعر، ثم أنكره على نفسه وأسنده إلى أمية? ومن الذي وضع شعر أمية بأبيات من وزنه وقافيته، ولكنها أبيات إسلامية ? ومن كان أول من جمع شعر ذلك الشاعر في ديوان نسبه اليه ? هذه أسئلة يجب أن توجد لها أجوبة، ولكن أجوبتها كتاب يؤلف في حياة هذا الشاعر وفي شعره وديوانه،عندئذ يكون هناك مجال للتنقيب عن هذه الأمور، روي ان الحجّاج قال، وهو على المنبر: لا ذهب قوم يعرِفون شعر أمية. فهل ذهب العالمون به حقاً قبل ايام الحجاج ? وهل كان شعره ضخماً واسعاً ? أو هو قول من أقوال الحجاج، وهو ثقفي من قوم أمية، أو هو قول وزعم من زعم الرواة. وما أكثر مزاعم الرواة وحملة الأخبار.

وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن صنعة الوضع جيداً. فالقصيدة التي مطلعها:   

لك الحمد والمن ربّ العبا  د أنت المليك وأنت الحكم

هي قصيدة إسلامية، لا يمكن أبداً أن تكون من نظم شاعر لم يؤمن بالإسلام إبماناً عميقاً من كل قلبه ولسانه. خذ هذا البيت منها مثلاً:ً محمداً أرسله بالهـدى  فعاش غنياً ولمُ يهتضم 

ثم خذ الأبيات التالية له وفيها: عطـاء مـن الـلــه أعـــطـــيتـــه  وخـصّ بـه الـلّـه أهـلَ الـــحـــرم

وقـد عـلـمــوا انـــه خـــيرهـــم  وفـي بـيتـهـم ذي الـنـدى والـكـــرم

يعَـيبـون مـا قـال لـــمـــا دعـــا  وقـد فـرج الـلـه احـدى الـبـــهُـــم

به وهـو يدعـو بـصـــدق الـــحـــد  يث الـى الـلـه مـن قـبـل زيغ الـقــدم

أطـيعـوا الـرســـول عـــبـــادَ الإل  ه تـنـجـون مـــن شـــرّ يوم ألـــم

تنـجـون مـن ظـلـمـات الــعـــذاب  ومـن حـر نـار عـلـى مـنً ظـلـــم

دعـانـا الـنـبــيّ بـــه خـــاتـــم  فمـن لـمُ يجـبـه أســـر الـــنـــدم

نبـــي صـــدقً صـــادق طــــيب  رحـيم رؤوف بـوصــل الـــرحـــيم

به خـتـم الـلـه مــن قـــبـــلـــه  ومـن.بـعـده مـن نـبــي خـــتـــم

يمـوت كـمـا مـات مـن قـد مـضـــى  يردّ إلـى الـلـه بـاري الــنـــســـم

مع الأنـبـياء فـي جـنـان الـخــلـــود  همُ أهـلـهـا غـير حـلّ الـقـــســـم

وقدس فينا ا بحب الصلاة جميعاً وعلم خط القلم 

كتاباً من اللهِ نقرأ به  فمـن يعـتـريه فـقـــدمـــاً أتـــم

اقرأ هذه المنظومة، ثم احكم على صاحبها " هل تستطيع ان تقول انه كان شاعراً مغاضباً للرسول، وإنه مات كافراً، وان صاحبها رثى كفار قريش في معركة بدر وأنه قال ما قال في الإسلام وفي الرسول ? اللهم، لا يمكن أن يقال ذلك أبداً فصاحب هذا النظم رجل مؤمن عميق الايمان، هو واعظ مبشر، يخاطب قومه فيدعوهم إلى الإسلام والى طاعة الله والرسول. إنه مؤمن قلباً وايماناً، مع أنهم يذكرون أن الرسول قال فيه: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه، وإنه مات وهو على كفره وعناده وحسده للرسول، ثم إن صاحب المنظومة رجل يتحدث عن وفاة الرسول، مع أن أمية، كان قد توفي في السنة التاسعة من الهجرة، فهل يعقل أن يكون إذن هو صاحبها وناظمها: أليست هذه المنظومة وأمثالها إذن دليلاً على وجود أيد لصناع الشعر ومنتجيه في شعر أمية. نحمد الله على أن صنّاعها لم يتقنوا صنعتها، ففضحوا أنفسهم بها، ودلوّا على مقاتل النظم.

ثم خذ قصيدة أخرى من القصائد المنسوبة لأمية، وهي في وصف الجنة والنار استهلت بهذا البيت: جهنم تلك لا تبقي بغيا وعدن لا يطالعها رجيمُ 

ثم استمر في قراءتها، وفي ما جاء فيها من وصف للجنة والنار، ثم انعم النظر في هذه الأبيات: فذا عسل وذا لبـن وخـمـرٌ  وقمح في منابـتـه صَـريمُ

ونخل ساقط الأكتـاف عـد  خلال أصوله رطب قمـيمُ

وتـفـاح ورمـان ومـوز  وماء بـارد عـذب سـلـيم

وفيها لحم ساهـرة وبـحـر  وما فاهوا به لهُـمُ مـقـيم

وحور لا يربن الشمس فيهـا  على صور الدمى فيها سهوم 

نواعم في الأرائك قاصـرات  فهنّ عقـائل وهُـمُ قـروم

على سرر ترى متقـابـلات  ألا، ثمَ النضارةُ والـنـعـيم

عليهم سنـدًس وجـياد رَيط  وديباج يُرىفـيهـا قـتـوم

وحلوا امن أساور منُ لجـين  ومن ذهب،وعسجده كـريم

ولا لغَوٌ ولا تـأثـيم فـيهـا  ولا غولٌ ولا فيهـا مُـلـيمُ

وكأس لا تصدع شاربـيهـا  يلذّ بحسن رؤيتهـا الـنـديم

تصفق في صحافٍ من لجين  ومن ذهب مـبـاَركة رذوم

ثم احكم بعد ذلك على صاحب هذه الأبيات" لقد حاول ناظمها ادخال بعض الكلمات الجاهلية فيها، لإلباسها ثوباً جاهلياً، ولاظهارها بمظهر الشعر الجاهلي الأصيل، ولكنه لم يتمكن من ذلك، بل صيرها في الواقع نظماً لوصف الجنة والنار في الإسلام. وما بي حاجة إلى ان أحيلك على الايات التي أخذ منها صاحب هذا الشعر.وصفه من القرآن الكريم.

ومن الغريب ان بعض الأخباربين اتخذ هذا النظم وأمثاله حجة لتبيان عقائد الجاهليين، فذكر مثلاً ان العرب في جاهليتها كانت تؤمن بالجزاء، وان منهم من نظر في الكتب وكِان مقراًَ بالجنة والنار. وحجته في ذلك هذه المنظومة المنسوبة إلى أمية. وقد نسي أن ما قاله على سبيل التعميم أو التغليب، يناقض ما جاء في القرآن الكريم وما أورده الأخباريون عن الجاهليين.

ثم خذ قصيدته في عيسى بن مريم وحمل أمه به، وسائر قصائده ألأخرى، تجد عليها هذه المسحة الاسلامية بارزة ظاهرة، ولكن هذا لا يمنع مع ذلك من القول بوجود أبيات قد تكون من نظم أمية حقاً، في هذا المنظوم الديني، غير ان هذا الموجود، هو على كل حال مما لا يتعارض مع عقائد الإسلام. ومن الممكن ادراكه بدراسة ألفاظه وأسلوبه وأفكاره،وبهذه الطريقة نتمكن من استخلاص الأصيل من شعره من الهجين.

ولأمية بن أبي الصلت اًخت، اسمها "فارعة". قدمت على النبي بعد فتح الطائف، وكانت ذات لبّ وعفاف وجمال، وكان يعجب بها. وقال لها يوماً: هل تحفظين من شعر أخيك شيئأَ ? فأخبرته خبره وقصت قصته في شق جوفه واخراج قلبه وردّ ه مكانه وهو نائم وأنشدته شعره، على ما يزعمه أهل الأخبار. وذكر أهل الأخبار اسماء أربعة بنين لأمية، هم: القاسم، ووهب، وعمرو "عمر"، وربيعة. فأما "القاسم"، فكان شاعراً، وله مرثية في عثمان بن عفّان. وأسلم "وهب بن أمية" كذلك. وذكر أن رجلاَ من ثقيف مات في عهد النبي عن غير ولد، فاختصموا في ميراثه، فأعطى النبى ميراثه لوهب. وأما "ربيعة"، فأسلم كذلك، وله شعر. وقد ذكر أهل الأخبار أن "حقة" بنت "وهب بن أمية بن أبي الصلت"، تزوجت "عبدالله بن صفوان الأكبر"، فولدت له صفوان بن عبدالله بن صفوان. وذكر أن "ربيعة"، قد ولي بعض الوظائف في الإسلام. وأنه صاحب "ربيعتان"، نهر بقرب الابلة. وأن من ولده "كلدة بن ربيعة"، وكان شريفاً شاعراً. وقد ذكر أن بغلاً قتل "ربيعة" على باب دار "عبدالله بن عباس".

وكل ما يعرف عن سويد بن عامر المصطلقي أنه كان على دين الحنيفية وملة ابراهيم، وأنه قال شعراً، وصلت منه بضعة أبيات في "المنايا" وفي المقدر على الإنسان، وان المنايا محتومة لا مفرّ منها، وأن الخير والشر مكتوبان على النواصي،وليس لامرىء يدٌ فيما يصيبه من مقدور. فهي في هذه المشكلة المعضلة التي شغلت بال الإنسان ولا تزال تشغله مشكلة: "الجبر والاختيار"، أو "القدر"، المشكلة التي احتلت منزلة الصدارة في "علم الكلام". والتي صارت من أهم موضوعات الجدل في الإسلام. ويقال انها أنشدت للرسول، فلما سمعها، قال: "لو أدركته لأسلم".

وآما ورقة بن نوفل. فهو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يلتحم نسبه بنسب الرسول في جد جده. ذكروا انه ساح على شاكلة من شك في دين قومه، وتتبع اليهود والنصارى، وقرأ الكتب، وعدّ في جملة المتنصرين في أغلب الروايات، فقد ذكر انه " تنصر واستحكم في النصرانية، وقرأ الكتب ومات عليها". وهذا هو رأي اكثر اهل الأخبار.

ونسب اليه شعر ذكَر انه قاله في رثاء زيد بن عمرو بن نفيل، وفيه إشارة إلى النار والى الثواب والعقاب بعد الموت والى فكرة التوحيد والأيمان برب ليس رب كمثله والى التنديد بالأوثان.

وله أبيات من الشعر يحث فيها على مساعدة الضعيف ونصر المظلوم، وعلىفعل الخير للناس.

ولا نعلم عن حياة ورقة في ايام شبابه شيئاً، ولعله كان يعين اهله أو إقربائه في اتجارهم مع بلاد الشام أو اليمن شأن اكثر شبان أسر مكة المعروفة فىِ ذلك الوقت. فتَعلم بذلك سلوك الطرق الموصلة إلى العراق أو بلاد الثأم، ومن هنا اندفع نحو خارج الجزيرة يلتمس الحكمة والوصول إلى رأي يقنعه في الحياة. ويظهر انه لم يكن في شبابه من اولئك الشباب الخاملين الذين كانوا يصرفون وقتهم في فراغ دائم، دون عمل ولا تفكير، متوسدين الأرض يقتلون فراغهم في ترهات الكلام، كما انه لم يكن من اولئك الطائشين النزقين الذين يقضون وقتهم في النزاع والخصومة وشرب الخمر والاعتداء على الناس، والحصول على المال للانفاق على اللهو بأية طريقة كانت، بل كان شاباً متأملاً مفكراً منكمشاً على نفسه، مكنه علمه بالكتابة والقراءة من قراءة الكتب والاطلاع على آراء الماضين والحاضرين، حتى جاء يوم، دفعه اجتهاده الذي وصل اليه على الخروج على تقاليد قومه وانتقاد الأوضاع التي كانوا عليها، مما حمله على ترك مكة طوعاً أو قهراً، والتجول للبحث أو فراراً من غضب قومه عليه.

وهو ابن عم خديجة الكبرى زوج الرسول. وقد أشير اليه في خبر "مجيء جبريل إلى النبى في حراء"،وله كلام مع الرسول على ما ورد في بعض الروايات،يقال إنه قال للرسول و كَان قد ذهب اليه مع زوجته خديجة ليسأله رأيه فيما رآه من الرؤيا: "ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك !" وان الرسول قال له: أمخرجي هم ? قال: نعم، إنه لم يجيء رجل قط بما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً". وأشير اليه في خبر آخر، حيث ورد أن "خديجة" ذهبت وحدها إلى ابن عمها لتسأله عن الرؤيا التي رآها الرسول وعن هذا الناموس الأكبر" الذي تجلى له. فلما قصت عليه القصة قال: "لئن كنتِ صادقة، إنّ زوجك لنبي، وليلقينمن أمته.شدة، ولئن أدركته لأومنن به".

وذكر في خبر آخر أن الرسول قد رأى "ورقة" في منامه، وكان لابساً ثياباً بيضاً، وان الرسول ذكر ذلك لمن سأله عنه، وبين لهم انه لو كان من أهل النار لما ظهر له في منامه وهو بهذه الملابس. لأن أهل النار. لا يلبسون ثياباً بيضاً. ويروى أن الرسول قال:"لا تسبّوا ورقة بن نوفل، فإني رأيته في ثياب بيض". قيل إن شخصاً تساب مع أخ لورقة بن نوفل،فسب ورقة ليحرق قلب أخيه، فبلغ ذلك الرسول، فنهى عن سبّه.

وجاء في خبر ان "ورقة" كان يمر بمكة فيرى بلالاً وهو يعذَّب، يعْذبه المشركون برمضاء مكة، يلصقون ظهره بالرمضاء، ويضربونه يريدون منه ان يشرك بالله، فلا يشرك به. ويأبى إلا ان يقول: أحد أحد،فيرثي ورقة لحاله ويقول: أحد أحد والله يا بلال. والله لئن قتلتموه فأنتم من الخاسرين. أو "والله لئن قتلتموه، لاتخذن قبره حناناً".

ويظهر من الأخبار المتقدمة ان "ورقة بن نوفل"، كان قد أدرك ايام الرسول وعاش إلى يوم نزول الوحي عليه. بل يظهر من خبر رؤيته لبلال وهو في حالة تعذيبه،انه عاش مدة بعد نزول الوحي. غير إن الأخبار المذكورة لا تنص على اسلامه، ولم نجد أحداً قد نص على ذلك. أما خبر رؤيا الرسول له في منامه، فانه يدل على عدم إسلامه، وعلى انه كان قد توفي قبل نزول الوحي على الرسول. وهو الرأي الراجح. وهذا ما حمل أحد المؤرخين على القول: وقد اختلف فيه، فمنهم من زعم انه مات نصرانياً ولم يدرك ظهور النبي. ومنهم من رأى انه مات مسلماً وانه مدح النبي. وقد ورد في بعض الأخبار ان الرسول قال لما توفي ورقة: "لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير، لأنه آمن بي وصدقني". وورد مثل ذلك من أحاديث زعم ان الرسول قالها في حق ورقة، وهي كلها تشير إلى وفاة ورقة قبل المبعث، وعلى دينه، إذ لم يدرك الإسلام.

وورد في بعض الروايات أنه "كان يكتب الكتاب العربي، فكتب بالعربية من الانجيل ما شاء أن يكتب". وورد في رواية أخرى أنه "كان يكتب الكتاب العبراني، فكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب". والخبران هما خبر واحد، كما يظهر من وحدة النص، غير إن اسم اللغة التي زعم أنه كان يكتب بها قد حرّ ف، فقرأه بعضهم العربي، وقرأه بعض آخر العبراني. ولما كان الانجيل باليونانية وبلغة بني إرم، فقد أخطأ الرواة بجعل لغة الانجيل هي العبرانية، وهم يتوهمون كثيراً فيخلطون بين العبرانية والسريانية. والغالب أنهم كانوا يريدون بالعبرانية لغة بني إرم التي كانت لغة العلم والأدب والدين في العراق وفي بلاد الشام، بل وبين مثقفي اليهود ورجال دينهم في ذلك الوقت.

وذكر أهل الأخبار أنه لم يعقب. ولم يذكروا سبب ذلك، هل كان قد تزوج، ولكنه كان عقيماً، فلم يعقب ? أو أنه عاش أعزبُ لم يتزوّج طول حياته ? وكان "أبو قيس صرمة بن أبي أنس" "صرمة بن أنس" وهو من بني النجار، قد ترهب ولبس المسوح، وهجر الأوثان، ودخل بيتاً واتخذه مسجداً لا تدخله طامث ولا جنب، وقال: أعبد رب ابراهيم، فلما قدم النبي المدينة أسلم وهو شيخ كبير، وحسن إسلامه. وفيه نزلت الآية. )وكلوا واشربوا حى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر(. ورووا له شعراً. وزعم أنه اغتسل من الجنابة، وهمَّ بالنصرانية، ثم أمسك عنها. وذكر أن "ابن عباس" كان يختلف اليه يأخذ عنه الشعر.

وأما "وكيع بن سلمة بن زهر الإيادي"، فهو من إياد، زعم "ابن الكلبي" انه ولي البيت بعد جرهم، فبنى صرحأَ بأسفل مكة، وجعل فيه أمة يقال لها "حزورة"، وبها سميت "حزورة مكة"، وجعل في الصرح سلّماً، فكان يرقاه ويزعم انه يناجي الله. وكان ينطق بكثير من الخبر، ويزعم الناس انه صدِّيق من الصدِّيقين، وقالوا كان كاهناً،. وذكروا له كلمات مسجعة، ليس فيها ما يشرح لنا معتقده الديني ويوضحه وضوحاً تاماً.

والصرح كما يقول علماء اللغة، بيت يبنى منفرداً ضخماً طويلاً في السماء وكل بناء عالٍ مرتفع. والحزورة الرابية الصغيرة والتل الصغير. ويظهر انه كان بنى صرحه فوق تل في محل منفرد، ليختلي هناك على طريقة الرهبان والنساك.

وكل ما عرفه أهل الأخبار عن "عمير بن جندب " الجُهني، انه كان من جهينة، وانه كان موحداً لم يشرك بربه احداً، وانه مات قبيل الإسلام.

وكان عامر بن الظرب العَدواني من الحكماء، نسبت اليه أقوال في الحكم والدين. منها: "إني ما رأيت شيئاً خلق نفسه، ولا رأيت موضوعاً إلا مصنوعاً، ولا جائياً إلا ذاهباً، ولو كان يميت الناس الداء، لأحياهم الدواء". ثم قال: "إني ارى أموراً شتى وحتى. قيل له: وما حتى? قال: حتى يرجع الميت حياً، ويعود اللاشيء شيئاً، ولذلك خلقت السماوات والأرض، فتولوا عنه ذاهبين".

وقد نسبوا اليه جملة أحكام، منها حكمه في "الخنثى"، وقد ذكروا أن حكمه هذا قد أقرّه الإسلام. وقالوا إن العرب كانت إذا أشكل عليها أمر في قضاء، أو حارت في أمر معضل ترى وجوب الحكم فيه برأي صائب وعقل وتدبير، ذهبت اليه، فإذا حكم كان حكمه الحكم الفصل، فلا راد له.

ونسبت إلى كل من عبد الطابخة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة وعلاف بن شهاب التميمي أبيات، فيها اقرار بوجود إلَه واحد خالق لهذا الكون، ويوجود الحساب والثواب والعقاب.

وأما "المتلمس بن أمية" الكناني، فذكروا انه كان قد اتخذ من فناء الكعبة موضعاً يخطب فيه، ويعظ قومه عظات دينية، فكان في جملة ما قاله لهم "انكم قد تفردتم بآلهة شتى، واني لأعلم ما الله راض به. وإن الله تعالى رب هذه الآلهة، وانه ليحب ان يعبد وحده"، فنفرت كلماته هذه وامثالها القوم منه وتجنبته، وقالوا عنه انه على دين بني تميم.

وفي أبيات منسوبة إلى زهير بن ابي سُلمى الشاعر المعروف إقرار بوجود الَه عالم بكل ما في النفوس، هو "الله"، لا تخفى عليه خافية، فلا يجوز كتمان شيء عنه،.وبوجود يوم حساب يحاسب فيه الناس على ما قاموا به من أعمال، وقد ينتقم الله من الظالم في الدنيا قبل الآخرة، فلا مخلص له.

ونسب الايمان بالله واليوم الآخر إلى أشخاص آخرين، منهم: عبدالله القضاعي والشاعرَ عبيد بن الأبرص الأسدي، وكعب بن لؤي بن غالب، والأول منهم هو ابن تغلب بن وبرة بن قضاعة، كان من الحكماء الخطباء، يتبع الحنيفية، وينهج على نهجها مثل الحنفاء.

واما الثاني، وهو عبيد بن الأبرص، فشاعر جاهلي شهير،له في قتله قصة،هي من ذيول قصة "الغريَين" للمنذر بن ماء السماء. نجد في الشعر المنسوب اليه اسم "الله" يتردد في كثير من المواضع، ونراه من المتشائمين المؤمنين بالمنايا وبالمحتم المكتوب، ونراه في القصيدة البائية يتوكل على الله، ويدعو الناس إلى الاعتماد عليه فيقول: من يسأل الناس يحرموه  وسائل اللّـه لا يخـيب

باللـه يدرك كـل خـير  والقول في بعضه تلغيب 

والله لـيس لـه شـريك  علاّمُ ما أخفت القلـوب

ونراه يقول في المنايا: فاًبلغ بنيَّ وأعمامـهـم  بان المنايا هي الـوارده

لها مدة فنفوس العـبـاد  اليها وإن كرهت قاصده 

فلا تجزعوا الحمام دنـا  فللموت ما تلد الوالـده

وفي كثير من مواضع شعره يذكر المنايا ويتذكر الموت، ثم هو يتجلد ويتصبر في ملاقاة الشدائد والأهوال، وينصح الناس بالسير على هذا المنوال. والذي يقرأ شعره، يشعر أنه أمام رجل حضري رقيق عاطفي المزاج، في نفس ميالة إلى التقشف والتصوّف، مؤمنً بالعدل، كاره للظلم، فهل كان عبيد على هذه الشاكلة ? وهل هذا الشعر وخاصة ما جاء منه في البائية هو نظم من منظومه ? أوهو من نظم من عاش بعده في الإسلام ? وأما "كعب بن لؤي بن غالب". فهو من أجداد النبى. وقد كان على الحنيفية،واليه كانت تجتمع قريش في كل جمعة،فكان يعظهم ويوجههم ويرشدهم ياًمرهم بالطاعة والتفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وتقلب الأحوال والاعتبار بما جرى على الأولين والآخرين، ويحثهم على صلة الأرحام وإفشاء السلام وحفظ العهد ومراعاة حق القربة والتصدق على الفقراء والأيتام.

هذه خلاصة موجزة لسير من حشرهم أهل الأخبار في زمرة الحنفاء، تريك آراء الجماعة تكاد تكون واحدة: كفر بالأصنام وبالشرك كله، وإعراض عن عادات قومهم، وثورة على عقائدهم، وترقب لحدوث تطورٍ واصلاح يقضي على الجهالة، وقد مهدوا له بدعوتهم تلك التي أشاعوها بين بني قومهم فجلبت عليهم السخط والغضب الشديد، مما حمل أكثرهم، وهم في الغالب من مكة وأطرافها، على الفرار من بلدتهم إلى أطرافها المنعزلة الآمنة وغيرها من الأماكن الخالية، ليكونوا في أمان من ايذاء قومهم لهم، وفي وسط يفكرون فيه في خلق السماوات والأرض تفكيراً هادئاً، فلا يزعجهم مزعج، ولا ينغص حياتهم هناك منغص.

لقد جعل أهل الأخبار معظم من تحدثنا عنهم إن لم نقل كلهم من القارئين الكاتبين، ونسبوا إلى بعضهم قراءة الكتب والصحف والزبور ومجلة لقمان. يريدون بذلك الكتب المقدسة. ويفهم من كلامهم في بعض الأحيان ان منهم من كان يحسن فهم العبرانية أو لغة بني ارم. ولكن الاْخباريين عفا الله عنهم لم يتبسطوا لنا في الحديث عن ماهية تلك الصحف وعن محتويات مجلة لقمان وعن الكتب المنُزلة، ولم يأتوا بنماذج مفصلة طويلة أو قطع ترشد إلى المظانّ التي نقلت منها. فأضاعوا علينا، باهمالهم الاشازة إلى هذه الأمور، أشياء كثيرة مهمة، بنا حاجة ماسة إلى معرفتها، للوقوف على الحالة الدينية في جزيرة العرب قبيل الإسلام وابان ظهوره.

وبؤكد أهل الأخبار ان بعض أولئك الحنفاء كانوا يسيرون على سنة ابراهيم وشريعته، وان بعضاً آخر منهم كان يلتمس كلماته ويسالء عنها، وانهم في سبيل ذلك تحملوا المشاق والأسفار والصعاب. وقد جعلوا وجهة أكثرهم أعالي الحجاز وبلاد الشام وأعالي العراق. اي المواضع التي كانت غالبية اهلها على النصرانية يومئذ، وجعلوا أكثر كلامهم وسؤالهم مع الرهبان. وقد أضافوا اليهم الأحبار أحياناً،. وذكروا ان الرهبان والأحبار أشاروا عليهم بوجوب البحث والتأمل، فليس عندهم ما يأملونه ويرجونه من دين ابراهيم واسماعيل، ولذلك لم يدخلوا في يهودية ولا نصرانية، بل ظلوا ينتظرون الوعد الحق، ومنهم من مات وهو على هذه العقيدة. مات معتقّداً بدين ابراهيم حنيفاً، غير مشرك بربه أحداً.

أما كيف كانت شريعة ابراهيم، وعلى أي نهج سار الحنفاء، وهل كان لهم كتاب أو كتب أو نحو ذلك ? فأسئلة لم يجب عنها أهل الأخبار إجابة صريحة واضحة. لذلك صرنا في جهل بأمر تلك الشريعة: شريعة ابراهيم، شريعة التوحيد الحق.

ويذكر أهل الأخبار أنه كان لأتباع ابراهيم من العرب علامات وعادات ميزوا أنفسهم بها عن غيرهم، منها: الختان، وحلق العانة، وقص الشارب، وهي علامات جعلها بعض المفسرين من "كلمات ابراهيم" التي ذكرت في القرآن الكريم، في الآية: )وإذ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فاًتمهن(. ذهب القائلون بهذا الرأي إلى أن تلك الكلمات هي عشر: "خمس في الرأس، وخمس في الجسد. فاًما التي في الرأس، فالمضمضة والاستنشاق وقصّ الشارب وفرق الرأس والسواك. وأما التي.في الجسد فألاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان". ومن سنن شريعة ابراهيم الاختتان. وهو من العادات القديمة الشائعة بين العرب الجاهليين الوثنيين. أما العرب النصارى، فلم يكونوا يختتنون. فالحنفاء في هذه العادة والوثنيون سواء. وفي أخبار معركة "حنين" آن الأنصار حينما أجهزوا على قتلى ثقيف ممن سقط في هذه المعركة مع هوازن وجدوا عبداً، عندما كشف ليستلب ما علية وجد أغرل. فلما تبين ذلك للانصار، نادى أحدهم بأعلى صوته: يعلم الله أن ثقيفاً غُرل ما تختتن. فقام اليه المغيرة بن شعبة، وهو من ثقيف، فأخذ بيده، وخشي أن يذهب ذلك عن قومه في العرب، فقال له: لا تقل تلك فداك أبي وأمي، إنما هو غلام لنا نصراني، ثم جعل يكشف له قتلى قومه ويقول له: ألا تراهم مختتنين ? ويتبين من هذا الخبر أن العرب كانوا يعدون الغرل شيئاً معيباً، ومنقصة تكون حديث الناس. وهناك خبر آخر يفيد أن العرب جميعاً كانوا يختتنون، وأن الاختتان كان من السمات التي تميزهم عن غيرهم، وأنهم في ذلك كاليهود. وقد ورد في الموارد اليهودية ما يفيد اختتان العرب. ولعل التوراة،التي ذكوت قصة اختتان اسماعيل، أخذت خبرها هذا من تقاليد العرب الشماليين التي كانت شائعة بينهم في ذلك العهد.

الاعتكاف

وقد نسب الاعتكاف في الكهوف وفي البراري وفي الجبال الى عدد من هؤلاء الحنفاء. فقد ذكر أهل الأخبار أنهم كانوا قد اعتكفوا في المواضع الخالية البعيدة عن الناس، وحبسوا أنفسهم فيها، فلا يخرجون منها إلا لحاجة شديدة وضرورة ماسة. يتحنثون فيها ويتأملون في الكون، يلتمسون الصدق والحق. والتحنث التعبد. فكانوا يتعبدون في تلك المواضع الهادئة الساكنة، مثل غار "حراء" وقد ذكر أن الرسول كان يتحنث فيه الليالي، يقضيها في ذلك الغار.

ويعبر عن التعبد ليلا ب "التهجد" أيضاً. وذكر ان التهجد الصلاة ليلاً. وقد كان الرسول يتهجد. والتهجد التيقظ والسهر بعد نومة من الليل. والهجود النوم عند العرب. ويظهر ان تفسير التهجد بالتعبد ليلاً، انما ورد من تفسيرهم لما ورد في القرآن الكريم: )ومن الليل فتهجد به نافلة، عسى ان يبعثك ربك مقاماً محموداً(. فخص العلماء التهجد بالتعبد ليلاً.

ويعبر عن التعبد بالنسك، والنسك: العبادة والطاعة وكل ما يتقرب به إلى الآلهة. والنسّاك: المتعبدون. وقد كان الحنفاء من النساك أي المتعبدين. وعدوا الذبائح من النسك. وجعلوا النسيكة: الذبيحة. و،الذبائح، أي النسائك، هي من أهم مظاهر التعبد والزهد عند الجاهليين.

وممن نسب إلى النسك والرهبنة من الجاهليين "أبو عامر عبد عمرو بن صيفي ابن مالك بن النعمان"، أحد "بني ضبيعة بن زيد". وكان في الجاهلية يسمى "الراهب"،. لأنه كان مترهباً، وقد كان من المقدمين بيثرب، إذ كان رأس الأوس فيها، فلما جاء رسول الله إلى المدينة، خاصمه، ثم خرج إلى مكة مباعداً له، ومعه خمسون غلاماً من الأوس، واشترك مع قريش يوم أًحد.

الفصل السادس والسبعون
اليهودية بين العرب

والحديث عن اليهودية بين العرب، وعن وجود يهود في أنحاء من جزيرتهم، لا يمكن ان يكون حديثاً تأريخياً مبني على العلم اذا ارتفعنا به إلى الميلاد والى ما قبل الميلاد. ولا يعني كلامي هذا عدم وصول يهود إلى جزيرة العرب،وعدم إقامتهم في أماكن منها. فهذا كلام لايمكن أن يقال، ولا يمكن قبوله. انما أريد ان أقول اننا لا نملك نصوصاً تأريخية تخولنا ان نتحدث عن اليهود في جزيرة العرب قبل الميلاد حديثاً،علمياً، بأن نعين المواضع التي نزلوا فيها، والأماكن التي وصلوا اليها، وما فعلوه هناك، وفي أي عهد كان ذلك، ومن قادهم إلى تلك الأنحاء، ومن استقبلهم استقبالاً حسناً، أو استقبلهم استقبالاً سيئاً من الجاهليين? وقد عرف اليهود عند الجاهليين، وورد ذكرهم في الشعر الجاهلي. ولا بد من وقوف الجاهليين على أحوالهم، لأنهم كانوا كما سنرى يسكنون في مواضع عديدة معروفة تقع ما بين فلسطين ويثرب، كما سكنوا في اليمن وفي اليمامة وفي العروض. وكان تجار منهم يقيمون فى مكة وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب للاتجار واقراض المال بربا فاحش للمحتاجين اليه.

ومعارفنا عن يهود جزيرة العرب مستمدة من الموارد الإسلامية. والسبب في ورود خبرهم في هذه الموارد،هو اصطدامهم بالإسلام، ومقاومتهم له حينما دعاهم الرسول إلى الدخول فيه، فنزل فيهم الوحي، وأشير اليهم في الحديث، وذكروا في كتب التفسير والسير والتواريخ والأدب. ومن هنا تجمعت معارفنا عن يهود الجاهلية. ولهذا تجد الحديث عن يهود الجاهلية لا يرتقي كثيراً عن عصر النبوة، ولا يبتعد عنه ولكني لا استبعد احتمال تغير الحال، إذا ما عثرالمنقبون في المستقبل على كتابات جاهلية قد تكون مطمورة في الوقت الحاضر في باطن التربة، يكون لها صلة بيهود جزيرة العرب، أو إذا ما عثر على مؤلفات ووثائق مكتوبة عبرانية أو غير عبرانية قد تكون مجهولة عن ذوي العلم في الوقت الحاضر، تكون لها صلة وعلاقة بأمر يهود جزيرة العرب قبل الإسلام.

وقد وردت لفظة "يهود" معرفة في القرآن الكريم. أي على هذا الشكل:"اليهود". وردت في مواضع من سورة البقرة. ومن سورة المائدة ومن سورة التوبة. وكلها سور مدنية. ولم ترد في سورة من السور المكية. كما وردت لفظة "يهودياً" في سورة آل عمران، وردت في شرح ديانة "ابراهيم": )ما كان ابراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً". وهي من السور المدنية كذلك.

وعبر القرآن الكريم عن اليهود وعن معتنقي اليهودية ب " الذين هادوا"، وب "من كان هوداً" و "كونوا هوداً" و " كانوا هوداً" وسورتي الأنعام والنحل من السور المكيّة. وبناء على ذلك تكون جملة "الذين هادوا" قد نزلت قبل نزول لفظة "اليهود" في القرآن الكريم.

وقد عبر عن العبرانيين عامة ب "بني اسرائيل" في القرآن الكريم. عير عنهم في سور مكية وفي سور مدنية. ويلاحظ ان ورود هذا التعبير في القرآن الكريم، هو أكثر بكثير من ورود لفظة "اليهود" فيه.

ولما كانت فلسطين امتداداً طبيعياً للحجاز،كان من الطبيعي اتصال سكانها بالحجاز، واتصال سكان الحجاز بفلسطين، وذهاب جاليات يهودية إلى العربية الغربية،للاتجار وللاقامة هناك، خاصة بعد فتوح الدول الكبرى لفلسطين، واستيلائهاعليها، وهجرة اليهود إلى الخارج. فكانت العربية الغربية لاتصالها بفلسطين من الأماكن الملائمة المناسبة لهجرة اليهود اليها، واقامتهم فيها، ولا سيما عند مواضع المياه وفي الأرضين الخصبة العامرة. غير اننا لا نستطيع، كما قلت، التحدث عن هجرة اليهود هذه إلى هذه الأنحاء حديثاً علمياً معززاً بالكتابات وبالتواريخ.

ولم يترك يهود جزيرة العرب لهم أثراً مكتوباً يتحدث عن ماضيهم فيها. وكل ما عثر عليه منهم، نصوص معدودة، وجدت في اليمن، لا تفصح بشيء ذي بال عن اليهود واليهودية. كذلك لم يصل الينا ان أحداً من المؤلفين والكتبة العبرانيين ذكر شيئاً عن يهود الجاهلية. وليس لنا من تأريخ اليهود في جزيرة العرب إلا ما جاء في القرآن الكريم وفي الحديث وكتب التفسير والأخبار والسير.

فمادتنا عن تأريخ اليهودية في العربية، لا ترتقي إلى عهد بعيد عن الإسلام.

لقد ذهب بعض المؤرخين المحدثين إلى أن اليهود كانوا في جملة من كان في جيش "نبو نيد" يوم جاء إلى تيماء. فاًقاموا بها وبمواضع أخرى من الحجاز بلغت "يثرب". وأن هؤلاء اليهود أقاموا منذ ذلك الحين في تلك الأماكن واستوطنوا وادي القرى وأماكن أخرى إلى مجيء الإسلام. غير أن "نبونيد" لم يشر في أخباره المدونة إلى وجود اليهود في جيشه والى اسكانه لهم في هذه الأرضين كما أننا لم نعثر على كتابات تتحدث عن هذا العهد أو عن العهد الذي سبقه أو الذي جاء من بعده، لذلك فإننا لانستطيع أن نعزز هذا الكلام بنصوص وكتابات. وان كنا لا نريد نفي احتمال مجيء اليهود إلى هذه الديار في عهد "نبونيد"، أو في عهد "بخت نصر"، أو قبل العهدين.

نعم، لقد عثر على عدد من الكتابات النبطية في الحجر وفي مواضع أخرى من أرض النبط وردت فيها أسماء عبرانية تشير إلى أن أصحابها من يهود، ويعود بعضها إلى القرن الأول للميلاد، ويعود بعض آخر إلى ما بعد ذلك مثل الكتابة التي يعود عهدها إلى سنة 307 ميلادية، وصاحبها رجل اسمه "يحيى بر شمعون" اي "يحيى بن شمعون". غير أن هذه الكتابات شخصية، ولا تفصح بشيء ذي بال عن عقيدة أصحابها، ولا عن تأربخهم في هذين الأرضين.

وقد ذهب اليهود إلى العربية الشرقية، ذهبوا اليها من العراق، فسكنوا في مواضع من سواحل الخليج، وتاجروا مع أَهل هذه البلاد ومع باطن الجزيرة. وقد ساعدتهم بعض الحكومات على للذهاب اليها. وقد كانت ليهود العراق تجارات مع أهل الخليج، كما يفهم ذلك من مواضع من التلمود.

و يتبين من روايات المؤرخ اليهودي "يوسفوس فلافيوس" Iosephos Flavius ان اليهودية كانت قد وجدت لها سبيلاً بين العرب. وان بعض ملوك مملكة "حدياب" Adiabene كانوا قد دخلوا فيها. ويذكر المؤرخ "سوزومين" Souzomenos ان اليهود كانوا ينظرون إلى العرب الساكنين شرق الحد العربي Limes Arabicus على انهم من نسل اسماعيل، وانهم كانوا يرون انهم من نسل اسماعيل وابراهيم، فهم من ذوي رحمهم، ولهم بهم صلة قربى. وكانوا يرجون لذلك دخولهم في دينهم، واعتناقهم دين ابراهيم جد اليهود والعرب. وقد عملوا على تهويد اولئك العرب.

ويظهر من مواضع من التلمود ان نفراً من العرب دخلوا في اليهودية، وانهم جاءوا إلى الأحبار، فتهودوا أمامهم. وفي هذه المرويات "التلمودية"، تاًييد لروايات أهل الأخبار التي تذكر ان اليهودية كانت في حمير، وبني كنانة، وبني الحارث بن كعب، وكندة، وغسان. وذكر "اليعقوبي." ان ممن تهود من العرب "اليمن بأسرها. كان تُبّع حمل حبرين من أحبار يهود إلى اليمن، فاًبطل الأوثان، وتهود من باليمن، وتهود قوم من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير. وتهود قوم من بني الحارث بن كعب وقوم من غسان وقوم من جذام".

وقد ذكر علماء التفسير في تفسيرهم الاية: )لا اكراه في الدين. قد تبين الرشد من الغي(،أنها نزلت في الأنصار. كانت المرأة المقلات في الجاهلية تنذر إن عاش لها ولد أن تهوده، فتهود قوم منهم. فلما جاء الله بالاسلام أرادوا اكراههم عليه، فنهاهم اللّه عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام. أو أنهم لما يقوا،على يهوديتهم، وأمر اليهود بالجلاء، وفيهم منهم، شق على آبائهم ترك أبنائهم يذهبون مع اليهود، فقالوا:"يا رسول الله أبناؤنا واخواننا فيهم.. فسكت عنهم رسول الله، صلى الله عليه فسلم، فأنزل الله تعالى ذكره:)لا إكراه في الدين قد تبنن الرشد من الغيّ...( فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،قد خيرّ أصحابكم، فإن إختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم". وذكر العلماء أيضاً ان ناساً من الأنصار كانوا مسترضعين في بني قريظة وغيرهم من يهود، فتهودوا، وأن من الأنصار من رأى في الجاهلية أن اليهودية أفضل الأديان، فهودوا أولادهم، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه، أرادوا اكراه أبنائهم الذين تهودوا على الدخول فيه، فنزل الوحي بالآية المذكورة. فقد كان اذن بين يهود جزيرة العرب، عرب دخلوا في دين يهود.

وذكر أهل الأخبار أن "جبل بن جوال بن صفوان" الثعلبي، من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، كان يهودياً فأسلم. فهو عربي، يظهر أنه أو أهله قبله قد تهودوا، فكان على دين يهود، وعاش مع "بني قريظة"، حتى اعتنق الإسلام. وذكروا أسماء آخرين كَانوا من متهودة الجاهليين.

ويرى بعض المؤرخين اليهود أن يهود جزيرة العرب كانوا في معزل عن بقية أبناء دينهم وانفصال،وأن اليهود الاخرين لم يكونوا يرون أن يهود العربية مثلهم في العقيدة،بل رأوا أنهم لم يكونوا يهوداً، لأنهم لم يحافظوا على الشرائع الموسوية ولم يخضعوا لأحكام التلمود. ولهذا لم يرد عن يهود جزيرة العرب شيء في أخبار المؤلفين العبرانيين.

وعندي ان عدم ورود شيء عن يهود الحجاز في أخبار المؤلفين العبرانيين لا يمكن ان يكون دليلاً على عزلة يهود الحجاز عن بقية اليهود. فقد أهمل غيرهم أيضاً ولم يشر اليهم، لأن التأليف والنشاط الفكري. عند العبرانيين كانا قد تركزا في هذه العهود على المستوطنات اليهودية في العراق وعلى فلسطين، وعلى "طبريا" بصورة خاصة، ولم تشتهر الجاليات اليهودية التي انتشرت في مواضع أخرى بالتأليف، فكان من الطبيعي ان تنحصر أخبار اليهود في هذا العهد فىِ هذين القطرين. ولهذا لم يشر إلى يهود الحجاز والى يهود بقية جزيرة العرب. ثم إن الحجاز على اتصال بفلسطين، وفلسطين جزء من الحجاز متمم له جغرافباً، وهو متصل بفلسطين منذ القدم، وفلسطين منفذه التجاري، وميناء "غزة" من المواضع التي كان يقصدها تجار الحجاز للاتجار،والحركة مستمرة دوماً بين فلسطين والحجاز، وقد كان تجار اليهود من أهل الحجاز يتاجرون مع بلاد الشام وفي جملتها أرض فلسطين، فلا يعقل بالطبع ان يصير يهود الحجاز في عزلة عن يهود فلسطين،والا يكون بين اليهودين اتصال. أما من ناحية الآراء الدينية والاعتقادية، فقد يكون بين اليهودين بعض الاختلاف، فقد وقع اختلاف في الآراء بين أحبار يهود العراق وبين أحبار يهود فلسطين، فلا يستبعد اذن رأي من يقول بوجود اختلاف في وجهة نظر يهود فلسطين بالنسبة ليهود الحجاز، إذ قد يكون يهود الحجاز ويهود جزيرة العرب قد تاًثروا بالعرب الذين،نزلوا بينهم فاضطروا إلى التخفيف من التمسك يشعائر دينهم، لا سيما وان من بين يهود جزيرة العرب يهود متهودون، كانوا في الأصل من أدوم ومن النبط ومن العرب، دخلوا في اليهودية لعوامل متعددة،فلم يكونوا لذلك على سنّة اليهود الأصيلين في المحافظة على شريعتهم محافظة شديدة تامة.

وقد انتشر اليهود جماعات جماعات استقرت في مواضع المياه والعيون من وادي القرى وتيماء وخيبر إلى يثرب، فبنوا فيها الآطام لحماية أنفسهم وأرضهم وزرعهم من اعتداء الأعراب عليهم. وقد أمنوا على أنفسهم بالاتفاق مع رؤساء القبائل الساكنة في جوارهم على دفع إتاوة لهم، وعلى تقديم الهدايا اليهم لاسترضائهم. وكان من شأنهم أيضاً التفريق بين الرؤساء وإثارة الشحناء بين القبائل حتى لاتصفو الأحوال فيما بينها وتلتئم ولئلاء يكون اتفاقها والتئامها خطراً يتهدد اليهود.

وليس الذى يرويه أهل الأخبار عن إرسال موسى جيشاً إلى الحجاز،واستقرار ذلك الجيش في يثرب بعد فتكه بالعماليق وبعد وفاة موسى، ثم ما يذكرونه عن هجرة داوود مع سبط يهوذا إلى خيبر وتملكه هناك ثم عودته إلى اسرائيل وأمثال هذا إلا قصصاً من هذا النوع الذي ألفنا قراءته في كتب أهل الأخبار، لا أستبعد أن يكون مصدره يهود تلك المنطقة أو من أسلم منهم، لإثبات انهم ذوو نسب وحسب في هذه الأرضين قديم، وانهم كانوا ذوي باًس شديد، وأن تأريخهم في هذه البقعة يمتد إلى أيام الإنبياء وابتداء اسرائيل، وأنهم لذلك الصفوة المختارة من العبرانيين.

وقد زعم أهل الأخبار، ان العمالقة كانوا أصحاب عز وبقي شديد، وكانوا ينزلون الحجاز في جملة ما نزلوا من أماكن في ايام موسى. وكان منهم: بنو هف وبنو سعد وبنو الأزرق وبنو مطروق. وملكهم إذ ذاك رجل منهم اسمه "الأرقم"، ينزل ما بين تيماء وفدك. وكان سكان يثرب من العمالقة وكذلك سكان بقية القرى. فلما تغلب عليهم العبرانيون انتزعوا منهم مساكنهم، وأقاموا في مواطنهم في الحجاز.

وقد أخذ أهل الأخبار ما رووه عن دخول اليهود إلى يثرب في ايام موسى، وما ذكروه عن ارساله جيشاً إلى هذه المنطقة، ثم ما رووه عن سكنهم القديم في أطراف المدينة وفي أعالي الحجاز، من سفر "صموئيل الأول" من التوراة. وقد حسب اهل الأخبار العمالقة من سكان يثرب القدماء، ومن سكان أعالي الحجاز، فزعموا ان تلك الحروب قد وقعت في هذه المنطقة، وان اليهود قد سكنوها لذلك منذ ايام موسى. وقد أخذ الأخباريون رواياتهم هذه من اليهود، وممن دخل منهم في الإسلام.

ويري بعض الأخباريين أن ابتداء أمر اليهود في الحجاز ونزولهم وادي القرى وخيبر وتيماء ويثرب إنما كان في أيام "بخت نصر"، فلما جاء "بخت نصر" إلى فلسطين، هرب قسم منهم إلى هذه المواضع واستقروا بها إلى مجيء الإسلام. وليس في هذا الخبر ما يحملنا على استعباده، فهروب اليهود إلى اعالي الحجاز ودخولهم الحجاز أمر سهل يسير، فالأرض واحدة وهي متصلة والطرق مفتوحة مطروقة، ولا يوجد أي مانع بمنع اليهود أو غير اليهود من دخول الحجاز.

لا سيما وأن اليهود كانوا خائفين فارين بانفسهم من الرعب، فهم يبحثون عن أقرب ملجأ اليهم يحميهم من فتك ملك بابل بهم. وأقرب مكان مأمون اليهم هو الحجاز.

اما ما ورد في روايات أهل الأخبار عن هجرة بعض اليهود إلى أطراف يثرب وأعالي الحجاز على أثر ظهور الروم على بلاد الشام وفتكهم بالعبرانيين وتنكيلهم بهم مما اضطر ذلك بعضه إلى الفرار إلى تلك الأنحاء الامنة البعيدة عن مجالات الروم، فإنه يستند إلى أساس تأريخي صحيح. فالذي نعرفه أن فتح الرومان لفلسطين أدّى إلى هجرة عدد كبير من اليهود إلى الخارج، فلا يستبعد أن يكون أجداد يهود الحجاز من نسل أولئك المهاجرين.

وكان يقيم ب "مقنا" عند ظهور الإسلام قوم من اليهود اسمهم "بنوجنبة"، وقد كتب اليهم الرسول والى أهل "مقنا" يدعوهم إلى الإسلام، أو إلى دفع الجزية. وكتب إلى قوم من يهود اسمهم "بنو غاديا"، والى قوم آخرين اسم "بنو عريض".

ومن هؤلاء المهاجرين علي رأي الأخباربين بنو قريظة وبنو النضير وبنو بهدل. ساروا إلى الجنوب في اتجاه يثرب، فلما بلغوا موضع الغابة، وجدوه وبيّاً، فكرهوا الاقامة فيه، وبعثوا رائداً أمروه ان يلتمس، لهم منزلاً طيباً، وأرضاً عذبة، حتى إذا بلغ "العالية"، وهي بطحان ومهزور واديان من حرة على تلاع أرض عذبة. بها مياه وعيون غزيرة، رجع اليهم بأمرها، وأخبرهم بما راه منها، فقرّ رأيهم على الاقامة فيها. فنزل بنو النضير ومن معهم على بطحان، ونزلت قريظة وبهدل ومن معهم على مهزور، فكانت لهم تلاعه وما سقي من بعاث وسموات.

وسكن اليهود يثرب. سكنها منهم بنوعكرمة وبنو ثعلبة وبنومحمر وبنو زعورا وبنو قينقاع وينو زيد وبنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل وبنو عوف وبنو القصيص وبنو ماسلة، سكن هؤلاء المدينة واطرافها، وكان يسكن معهم من غير بني اسرائيل بطون من العرب، منهم: بنو الحرمان حي" من اليمن، وبنو مرثد حي من بلَيّ، وبنو نيف وهم من بلي أيضاً، وبنو معاوية حي من بنيُ سليم ثم من بني الحرث بن بهثة، وبنو الشظيّة حي من غسان. وظل اليهود أصحاب يثرب وسادتها، حتى جاء الأوس والخزرج، فنزلوها واستغلوا الخلافات التي كانت قد وقعت بين اليهود، فتغلبوا عليهم، وسيطروا على المدينة،وقسموها فيما بينهم، فلم يبق من يومئذ عليها سلطان.

وتذكر روايات أهل الأخبار أن مجيء الأوس والخزرج إلى يثرب كان بعد حادث سيل العرم. جاؤوا اليها لفقر حالهم، والتماساً لوطن صالح جديد، وأنهم حينما نزلوها لم يكن لهم حول ولا قوة. ولذلك قنعوا بالذي حصلوا عليه من أرض ضعيفة موات، ومن رزق شحيح. أما المال والثروة والملك والجاه، فلليهود. بقوا على ذلك أمداً حتى إذا ما ذهب مالك بن العجلان، وهو منهم، إلى أبي جبيلة الغساني رئيس غسان يومئذ، ونزل عنده، شكا لأمير غسان سوء حال قومه وما هم عليه من بؤس وضنك. فوعد أبو جبيلة أن يأتي على رأس جيش من قومه لمساعدته، على أن يقوم بعد عودته ببناء حائر عظيم، يعلن أنه بناه لاستقبال الأمير فيه، وأن يطلب من اليهود الخروج لاستقباله والتشرف بزيارته في ذلك الحائر، فإن فعلوه، فتك بهم وأبادهم. فلما تمّ البناء، ووصل الأمير في الأجل الموقوت، ودخل المدعوون رؤساء اليهود الحائر، فتكت عساكر أبي جبيلة بهم وأهلكتهم، وتمت الغلبة من يومئذ للأوس والخزرج، وعادأبو جبيلة الى مقر ملكه.

غير ان اليهود ظلوا مع هذه الغلبة يتهاترون مع الأوس والخزرج وبعترضونهم ويتناوبونهم، فعمد مالك بن العجلان الى الحيلة، فتظاهر انه يريد الصلح معهم، وانه عزم على تسوية العداوات وطمس الحزازات، وانه لذلك يدعو رؤساء يهود إلى طعام، ليتفاوضوا مع سادات قومه في أمر الصلح. فلما حضر رؤساء يهود،فتك بعشرات منهم ممن استجاب لدعوته، وفرّ أحدهم ليخبر قومه بما حدث، وحذر أصحابه الذين بقوا، فلم يأت منهم أحد.

"فلما قتل مالك من يهود من قتل، ذلوا،.وقلّ امتناعهم، وخافوا خوفاً شديداً، وجلعوا كلما هاجمهم أحد من الأوس والخزرج بشيء يكرهونه لم يمش بعضهم لبعض كما كانوا يفعلون قبل ذلك، ولكن يذهب اليهودي إلى جيرانه الذين هو بين أظهرهم،فيقول: انما نحن جيرانكم ومواليكم، فكان كل قوم من يهود لجأوا إلى بطن من الأوس والخزرج يتعززون بهم" ومنذ ذلك الزمن لم يبق لليهود على هذه الأرضين سلطان.

وورد في رواية أخرى ان "مالك بن عجلان"، كان من الخزرج، وكان سيد قومه يومئذ، وكان على اليهود رجل منهم اسمه "الفَطيون" ملك عليهم، واستبد يأمر الناس، وكان يهودياً ومن بني ثعلبة، وكان امرأ سوء فاجراً، قرر الا تدخل امرأة على زوجها إلا بعد دخولها عليه. فاغتاظ مالك من فعل الفَطيون ومن استذلاله للعرب، ولما كان زفاف اخته لزوجها، وكان لا بد من ادخالها على "الفطيون" أولاً ليستمتع بها، كبر ذلك عليه، فدخل معها في زي امرأة، فلما أراد "الفطيون" الخلو بها، وثب مالك عليه وعلاه بسيفه وقتله، وخلّص قومه منه، وفرّ عندئذ إلى ابي جبيلة ملك غسان.

وتذكر هذه الرواية أن "أبا جبيلة" لم يكن من غسان،بل كان من الخزرج، ُوكان عظيماً ذا منزلة كبيرة في الناس، حتى صار ملكاً على الغساسنة، ويرجح رواتها أنه لم يكن ملكاً على آل غسان، بل كان مقرباً عند ملكهم، عظيم الحظوة لديه. ودليلهم على ذلك عدم اعتراف الغساسنة بوجود ملك عليهم اسمه "عبيد بن سالم بن مالك بن سالم"،وهو اسم "أبو جبيلة" المذكور. ويذكرون أن "الرمق بن زيد الخزرجي" مدحه بشعر قاله فيه.

وتذكر رواية ان الفطيون اسم عبراني، واسمه "عامر بن عامر بن ثعلبة بن حارثة"، وكان تملك بيثرب. فلما قتل خرج مالك بن العجلان، حتى قدم على "أبي جبيلة" ملك غسان، فأعلمه غلبة يهود على يثرب وفعله بهم، فقدم "أبو جبيلة" يثرب، ثم صنع طعاماً، ومكن الأوس والخزرج ممن دعاهم إلى الطعام من قتل مائة من أشراف اليهود، فقويت الأوس والخزرج عليهم.

وجاء في رواية أخرى، أن "مالك بن العجلان"، إنما فرّ إلى "تبع"،بعد قتله "الفطيون" فأستصرخه على اليهود،فجاء حتى قتل ثلثمائة وخمسين رجلاً غيلة من سادات يهود ب "ذى حرض"، ولما أدبهم رجع إلى أرضه اليمن.

أما مالك بن العجلان،فقد صوره اليهود شيطاناً ملعوناً، وصوروه في بيعهم وكنائسهم ليلعنوه كلما دخلوا ورأوه، وذكروه في شعرهم في أقبح هجاء قالوه. وقد كان بين يهود يثرب قوم يقال لهم "بني الفطيون" بقوا حتى جاء الرسول إلى بثرب. فأجلاهم في السنة الثالثة من الهجرة. وذكر "ابن دريد" أن بعضاً من " بني الفطيون" الذين هم من نسل "الفطيون" ملك يثرب، قد شهد "بدراً" واستشهد بعضهم يوم اليمامة. وذكر أن نسب "الفطيون" في غسان. وان من ولد الفطيون: "ابو المقشعر" واسمه "أسيد بن عبد الله".

وقد فسّر أهل الأخبار كلمة "الفطيون" ب "مالك"، وقالوا إنها تقابل "النجاشي" عند الحبشة، و "خاقان" عند الترك. وذكروا أسماء نفر ممن كانوا يلقبون بالفطيون.

ويفهم من روايإت الأخباريين ان يهود الحجاز كانوا قبائل وعشائر وبطوناً، منهم: بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع، وبنو عكرمة، وبنو محمر، وبنو زعورا، وبنو زيد، وبنو الشظية، وبنو جشم، وبنو بهدل،وبنو عوف، وبنو القصيص "العصيص"، وبنو ثعلبة. غير انهم لم يكونوا أعراباً، اي بدواً يتنقلون من مكان إلى مكان، بل كانوا حضراً استقروا في الأماكن التي نزلوا فيها، ومارسوا مهن أهل المدر، كل جماعة مستقلة تحمل اسماً من تلك الأسماء التي ذكرها الأخباريون.

وقد عرف بنو قريظة وبنو النضير من بين اليهود ب "الكاهنين"، نسبوا ذلك إلى جدهم الذي يقال له "الكاهن". و "الكاهن" هو الكاهن بن هارون بن عمران على زعم بعض أهل الأخبار. فهم على هذه النسبة من أصل رفيع ومن نسب حسيب، يميزهم عن بقية طوائف يهود. ولهذا كانوا يفتخرون بنسبهم هذا، ويرون لهم السيادة والشرف على من سواهم من اخوانهم في الدين. ويرى "نولدكه" احتمال كون بني النضير وبني قريظة من طبقة الكهّان في الأصل. هاجروا من فسطين على أثر الحوادث التي وقعت فيها، فسكنوا في هذه الديار. وهناك جملة عشائر وأسر يهودية تفتخر بإلحاق نسبها بالكاهن هارون شقيق موسى النبي.

كذلك يرجع "أوليري" كاًمثاله من المستشرقين أصل بني قريظة وبني النضير إلى اليهود، ويرى انهم غادروا ديارهم وجاءوا إلى هذه المنطقة في الفترة الواقعة ما بين خراب الهيكل في عام 70 للميلاد وتنكيل "هدريان" باليهود في عام 123 للميلاد.

ويرجع بعض بقية يهود جزيرة العرب نسبهم إلى الكاهنين والى الأسباط العشرة. كذلك، فيدعون انهم من تلك الأسباط المفقودة، وانهم من نسل قدماء اليهود.

وقد كانت منازل بني النضير حينما غزاهم الرسول في وادي بطحان وبموضع البوُيرة. ووادي بطحان،.هو أحد أودية يثرب الثلاثة، وهي: العقيق وبطحان وقناة. وهو واد فيه مياه غزيرة وعيون، اتخذ به اليهود الحدائق والآطام. وقد كان موضع البوُيرة عامراً كذلك، وهو من تيماء، فيه نخل وزرع وأشجار. وقد غزاهم الرسول بعد ستة أشهر من غزوة أُحد، فأحرق نخلهم وقطعع زرعهم وشجرهم لتطاولهم على المسلمين. ومن ساداتهم: حيي بن أخطب، وأخوه ياسر بن اخطب، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع، وهو ابو رافع الأعور، والربيع بن أبي الحقيق. وعمرو بن جحاش.

ومن بني النضير، كعب ين الأشرف، وكان معاصراً للرسول، وكان صاحب لسان ونفوذ. أبوه من طيء على رواية، ومن بني النضير على رواية أخرى. أما أمه فهي من بني النضير بإجماع الرواة. توفي أبوه - على رأي من يقول إنه من طيء - وهو صغير، فحملته أمه إلى أخواله، فنشأ فيهم، وقال الشعر عندهم، وساد. ولما جاء الرسول إلى يثرب، كان كعب فيمن ناصب الرسول العداء فعلاً وقولآ، فهجا الرسول، وهجا أصحابه، وظل هذا شأنه بالرغم من محاولة المسلمين استصلاحه واسترضاءه. حتى جنى عليه لسانه، فأهدر النبي دمه، فذهب اليه نفر من المسلمين، فاقتحموا داره وقتلوه. وقد كانت له مناقضات مع حسان بن ثابت وغيره في الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج.

وكان قد ذهب إلى مكة، فحرض قريشاًعلى الرسول، ولما عاد إلى موضعه،ألب المشركين من أهل يثرب عليه. ويرثا قتلى اقليب، فقتله المسلمون كما ذكر ت.

وكانت لبني قريظة حصون، يتحصنون بها وقت الخطر، ولهم آبار، ومنهم "محمد بن كعب القرظي". والزبير بن باطان بن وهب، وعزال بن شمويل، وكعب بن أسد، وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو بن سكينة.

وكان بنو قينقاع أول اليهود الذين ناصبوا الرسول العداء، وكانوا يسكنون في أحياء يثرب، وكانوا أغنياء على غير وفاق ووئام مع بقية أبناء قومهم بني قريظة وبني النضير، وقد اشتركوا في يوم بعُاث. ووقعت بينهم وبين بني النضير وبني قريظة معارك فتك فيها ببني قينقاع، وأصيبوا بخسائر كبيرة اضطرتهم على ما يظهر إلى الالتجاء إلى يثرب والإقامة فيها في حي واحد من المدينة.

ويرى "أوليري" احتمال كون بني قينقاع من أصل عريي متهود، أو من بني أدوم.

وقد تكون بعض القبائل اليهودية التي ذكر أسماءها الأخباريون قبائل يهودية حقاً، أي من الجماعات اليهودية التي هاجرت من فلسطين في ايام القيصر "طيطوس" "Titus"، أو "هدريان" Hadrian""، أو قبل ايامهما، أو بعدها، ولكن بعضاً آخر منها، لم يكن من أصل يهودي، انما كانت قبائل عريية دخلت في دين يهود، ولا سيما القبائل المسماة باسماء عربية أصيلة. ولبعض هذه الأسماء، صلة بالوثنية تشعر انها كانت على الوثنية قبل دخولها في دين يهود. والظاهر انها تهودت إما بتأثير التبشير، وإما باختلاطها ودخولها في عشائر يهودية جاورتها فتأثرت بديانتها. وقد ذكر البكري ان "بنى حشنة بن عكارمة"، وهم من بليّ قتلوا نفراً من بني الربعة، ثم لحقوا بتيماء "فأبت يهود ان يدخلوهم حصنهم وهم على غير دينهم، فتهودوا، فاًدخلوهم المدينة. فكانوا معهم زماناً، ثم خرج نفر إلى المدينة، فاظقر الله الإسلام، وبقية من أولادهم بها". وهنالك بطون أخرى عربية الأصل كانت على دين يهود.

وقد اشتهر يهود خيبر من بين سائر يهود الحجاز بشجاعتهم. وخيبر موضع غزير المياه كثيره، وقد عرف واشتهر بزراعته وبكثرة ما به من نخيل. وعند اجلاء اليهود عن خيبر، تفرقوا فذهب بعض منهم إلى العراق، وبعض آخر إلى الشام، وبعض منهم إلى مصر. وقد بقوا في كل هذه المواضع متعصبين لوطنهم القديم خيبر، ينادون بشعارهم الذي كانوا ينادون به قبل الإسلام، وهو: "يا آل خيبر".

وقد اشتهرت "خيبر" وعرفت بالحمى. حتى نسبت اليها، فقيل لها "حمى خيبرية". وكان من أساطيرهم إذ ذاكِ، أن من أراد دخولها فعليه بالتعشير ليتخلص منها. وكان من أوابدهم فيما يزعمون أن الرجل إذا ورد أرض وباء ووضع يده خلف اذنه، فنهق عشر نهقات نهيق الحمار، ثم دخلها أمن من الو باء.

وزعم أن يهود خيبر هم من نسل "ركاب" المذكور في التوراة، وأن "يونادب"،Jonadab "جندب" ابنه: تبدى مع أبنائه ومن اتبعه، وعاش عيشة تقشف وزهد وخشونة، وأن نسلهم هاجر بعد خراب الهيكل الأول إلى الحجاز حتى بلغوا خيبر، فاستقروا بها، واشتغلوا بزراعة النخيل والحبوب، وانهم اقاموا فيها قلاعاً وحصوناً تحميهم من غارات الأعراب عليهم. ذكر بعض الأخباريين أنها ولاية من سبعة حصون، منها: حصن ناعم، والقموص حصن ابن أبي الحقيق وهو أقواها وأعزها وقد أقيم على مرتفع من الأرض حماه وعزز دفاعه، وحصن الشق، وحصن النطاة، وحصن السلالم، وحصن وجده، وحصن الوطيح، وحصن الكتيبة "الكثيبة". وقد أخرجوا منها وأجلوا عنها زمان عمر بن الخطاب.

وقد زعم بعض الأخباريين ان خيبر لفظة عبرانية، وان معناها الحصن في عربيتنا. وزعم بعض آخر انها نسبة إلى رجل اسمه "خيبر بن فاتيه بن مهلاييل"، سميت خيبر باسمه، لأنه كان أول من نزلها. وذهب "وايل" Weil، إلى ان اللفظة لفظة عبرانية، وهي بمعنى مجموعة مستوطنات. أما "دوزي"، فقد أخذ بالرواية العربية، فزعم ان "خيبر"، كناية عن جماعة من اليهود هاجرت في أيام السبي من فلسطين الى هذا الموضع، وهي من نسل "شفطيا بن مهللئيل" من "بني فارص". وان "فاتيه"، هو تحريف "شفطيا" Shaftja المذكور في سفر "نحميا" من أسفار التوراة، وهو ابن "مهللئيل"، الذي هو "مهلاييل" عند أهل الأخبار. وزعم ان زمان هجرة هذه الجماعة يتناسب تماماً مع الرواية القائلة ان هجرة اليهود إلى جزيرة العرب كانت، في ايام "بخت نصر".

وذهب المستشرقون ان كلمة "خيبر"، كلمة عبرانية الأصل "خيبر" Kheber ومعناها الطائفة والجماعة. وذهب بعضهم إلى ان معناها الحصن والمعسكر. وهي من أقدم المواضع التي لجاً اليها اليهود في الحجاز.

ومن الصعب تعيين الزمن الذي هاجر فيه اليهود إلى هذا الموضع. لقد رجع بعضهم ذلك إلى ايام هجوم الرومان على فلسطين. غير ان من الجائز ان تكون هجرتهم اليها قد وقعت قبل ذلك، ومن الجائز ان تكون في اثناء السبي واستيلاء البابليين على القدس، وقد يجوز ان يكون قوم منهم قد جاءوا مع "نبونيد" ملك بابل إلى تيماء حين اتخذ "تيماء" عاصمة له. فهاجر قسم منهم إلى خيبر والى نواح أخرى من الحجاز.

وأقدم إشارة كتابية ورد فيها اسم خيبر، نص: حرّان اللجاة، ويرجع تأريخه إلى سنة أربع مئة وثلاث وستين من الأندقطية الأولى، وتقابل سنة 568 للميلاد. وقد ورد فيه: "بعد مفسد خيبر بعم". أي بعد خرب خيبر بعام. وهو يشير إلى غزو هذا الموضع أنزل به خسائر كبيرة، ولأهميته وفداحته في نفوس أهله أرخوا بوقوعه. ويعود النص المذكور المدون باليونانية والعربية إلى "شرحيل بن ظلمو" "شراحيل بن ظالم"، وقد دونه لمناسبة بنائه "مرطولاً"، فأرخ بتاريخ خيبر المذكور. وهو يشير إلى غزوة قام بها أحد أمراء غسان على خيبر.

وقد وجدت كتابات بحروف المسند وكتابات نبطية في خيبر، هي أقدم عهداً من نص "حر"ان اللجاة"، يفهم منها بوجود سكن في هذه الأرضين يعود بعضه إلى ما قبل الميلاد. ولم تكتشف تربة خيبر حتى الان، وكل ما عثر عليه من عاديات فيها هو من النوع الذي وجد ظاهرأ على سطح الأرض، وليس بمستبعد أن يعثر فيها على كتابات قد تكشف عن تأريخ هذه البقعة.

ولما بلغ أهل تيماء ما حدث لإخوانهم في خيبر ووادي القرى، وفدك، قبلوا الجزية، وصالحوا الرسول في سنة تسع للهجرة، فضمن بذلك لهم حرية بقائهم في دينهم. وعلى تيماء كان يشرف حصن السموأل "الأبلق الفرد". وقد نعتت تيماء في بعض الأشعار بتيماء اليهود.

وتيماء من المواضع القديمة. وقد مرّ إلحديث عنها في أماكن من هذا الكتاب.

وقد سبق أن قلت بأن الملك "نبو نيد" قد أقام زماناً فيها.، حيث اتخذها عاصمة له. وهي في موقع حسن، وملتقى طرق هامة يسلكها التجار. وقد استبد بها اليهود فأقاموا بها وجعلوها من أهم مستوطناتهم في الحجاز. استغلوا إرضها فزرعوها، واستنبطوا الماء من الآبار بالإضافة إلى واحتها ذات المياه العذبة الغزيرة التي كان لها الفضل في تكوين هذا الموضع واعماره. وقد ذكرت في شعر "امرىء القيس"، وفيها كان حصن السموأل بن عادياء المذكور في قصص امرىء القيس الشاعر.

ويرى بعض المستشرقين ان "شمعون التيماني" Simeon of Temanite المذكورفي التلمود والمدراش، هو من أهل "تيماء". ولا يستبعد ان يكون من بين أهل هذه المدينة من حصل على شهرة في العلم بفقه اليهود وبأحوال دينهم. فان مركزها وموقعها يجعل من السهل على سكانها الوصول إلى فلسطين وبقية بلاد الشام وأخذ العلم من علماء تلك البلاد.

وقد عثرالرحالة "اويتنك" Euting على كتابة مدونة بقلم بني إرم تعود إلى عهد كان الفرس قد استولوا فيه على هذا المكان، تتحدث عن أهمية تيماء ورقيها في هذا الهد. ولا يستبعد العثور على كتابات عديدة اذا ما قام العلماء بالتنقيب عنها في باطن الأرض، فإن موضعاً مثل هذا الموضع لا بد ان يكون غنياً بالكتابات والآثار. وقد وجد "أويتنك" آثار معبد قديم، وآثار مواضع عتيقة اخرى ترجع إلى ما قبل الإسلام. ووجد "جوسن" Jaussen و "سافينه".Savignac آثار مقابر على تلال من النوع الذي يطلق عليه الاثاريون اسم "تمولي" Tumuli، ومرقاة مدرجة تؤدي إلى بناء مربع لعله معبد من معابد القوم بني على هذا التل.

ولا توجد اليوم بقية للابلق الفرد، الذي افتخر السموأل وآل السموأل به، وكذلك يهود تيماء. وليس بمستبعد ان يكون ذلك الحصن من بقايا قصر "نبونيد" أو من بقايا قصر رجاله، أو من بقايا أبنية غيره ممن نزل هذا المكان. وقد يكون بناء أقامه السموأل وبناه بحجر تلك الأبنية القديمة. وقد اكسب قصر السموأل، هذا الموضع شهرة، وأكسبه خبر وفاء السموأل شهرة كذلك على النحو المذكور في كتب الأدب والأخبار.

وفدك موضع آخر من المواضع الذي غلب عليه اليهود. وسكانه مثل أغلب يهود الحجاز مزارعون عاشوا على الزراعة كما اشتغلوا بالتجارة وببعض الحرف التي تخصص فيها اليهود مثل الصياغة والحدادة والنجارة. والموضع من المواضع القديمة التي يعود عهدها إلى ما قبل الإسلام، وقد ذكره الملك "نبونيذ" في جملة المواضع التي زارها والتي. خضعت لحكمه في الحجاز. وكان رئيس فدك عند ظهور الإسلام وهجرة الرسول إلى يثرب يوشع بن نون.

ووادي القرى، هو من المواضع التي غصت باليهود، فكان أكثر أهله منهم. وقد كان يهوده من المزارعين، وقد حفروا به الآبار، وتحالفوا مع الآعراب، وعاشوا معهم متحالفين. يعملون بالزرع. وقد غزاهم الرسول مرجعه من خيبر سنة سبع للهجرة، على أثر اصابة "مدعم الأسود" مولى الرسول بسهم غارب قتله. وهو مولى مولد من "حسمى"، كان أهداه "رفاعة بن زيد الجذامي" أو "فروة بن عمرو الجذامي" إلى الرسول.

وكان بين أهل مقنا وأيلة في ايام الرسول قوم من اليهود كذلك، وكذلك أهل بقية القرى الواقعة في أعالي الحجاز وعلى ساحل البحر، وقد صالحوا الرسول على الجزية، وبذلك ضمنوا لهم البقاء في هذه الأنحاء. ومن هؤلاء اليهود "بنو جنبة"، وهم يهود ب "مقنا"،و "بنو غاديا"، و"بنو عريض". وكان بالطائف قوم من اليهود طردوا من اليمن ويثرب، فجاءوا اليها ولم تكن قد أسلمت بعد، فاًقاموا بها للتجارة. فلما صالح أهل الطائف الرسول - على ان يسلموا ويقرهم على ما في أيديهم من أموالهم وركازهم، واشترط عليهم ألا يربوا ولا يشربوا الخمر وكانوآ أصحاب ربا - وضعت الجزية على يهودها، وبقوا فيها، ومن بعضهم ابتاع معاوية أمواله بالطائف.

ويظهر انه لم تكن لليهود جاليات كبيرة في جنوب المدينة حتى اليمن، لعدم إشارة أهل الأخبار اليهم، وان كنت لا أستبعد وجود أفراد وأسر منهم في مكة وفي عدن وفي المدن التي اشتهرت بالتجارة كبعض موانىء البحر الأحمر وموانىء سواحل العربية الجنوبية. غير ان وجودهم في هذه المواضع، لم يكن له أثر واضح مهم، فلم يتجاوز محيط التجارة والاتجار وقد ذهب بعض المستشرقين، استناداً إلى دراسة أسماء يهود الحجاز عند ظهور الإسلام، ان اولئك اليهود لم يكونوا يهوداً حقاً، بل كانوا عرباً متهودين، تهودوا بتأثير الدعاة اليهود. ولكن الاستدلال من دراسة الأسماء على أصول الناس، لا يمكن ان يكون حجة للحكم على أصولهم وأجناسهم. فالفرس والروم والهنود وغيرهم ممن دخل في الإسلام، تسموا بأسماء عربية، وبعضها أسماء عربية خالصة. وتسمياتهم هذه لا تعني ان من تسمى بها كان عربي الأصل. ثم إن كثيراً من اليهود في الغرب وفي أمريكة وفي البلاد العربية والاسلامية، سموا أنفسهم بأسماء غير عبرانية، ولكنهم كانوا وما زالوا على دين يهود.

فالأسماء وحدها لا تكفي في اعطاء رأي علمي في تعيين الأصول والأجناس، ولا سيما في المواضع الكائنة على طرق التجارة والمواصلات وفي الأماكن التي يكثر فيها الاختلاط.

وللمستشرق "ونكلر" رأي في هذا الموضوع، خلاصته: ان اولئك اليهود لو كانوا يهوداً حقأَ هاجروا من فسطين إلى هذه المواضع، لكانت حالتهم وأوضاعهم ومستواهم الاجتماعي على خلاف ما كان عليه هؤلاء اليهود. كانت حالتهم أرقى وأرفع من الحالة التي كانوا عليها، إذ لا يعقل، على رأيه، وصول جماعة إلى ذلك المستوى الاجتماعي الذي كان عليه يهود جزيرة العرب لو كانوا من بلاد مستواها الثقافي والمدني أرقى من مستوى من هو دونهم كثيراً في شؤون الحياة. ومستوى الحياة في جميع نواحيها، في فلسطين، أرقى وأرفع من مستواها في الأماكن التي وجد فيها اليهود من بلاد العرب، فهم على رأيه عرب متهودون، لا يهود مهاجرون.

غير أن هنالك من يؤاخذ ونكلر على هذا الرأي، لأن رأيه لا يمكن ان ينطبق على من ترك دياره وهاجر، واستقر في موطن جديد لأمد طويل، لأن الأوضاع المحيطة بالوطن الجديد سرعان ما تؤثر في المهاجرين، ولا سيما إذا كانوا جماعات صغيرة أو جماعات ليست ذات بأس شديد، فتجعلها تنصاع للمحيط الذي نزلت به بعض الإنصياع، فتفقد بعض خصائصها، لتكتسب خصائص المجتمع الجديد. ثم إن اليهود الذين نزلوا في الحجاز كانوا يختلفون مع ذلك عمن كان في جوارهم أو بينهم، إذ كانوا يشتغلون بالزراعة ويمتهنون بعض المهن التي يأنفها العربي الأصيل، كما أنهم كانوا لا يرغبون في القتال، ولا يميلون إلى الغزو والحروب، ولم يشتركوا إلا اضطراراً وإلا بإلحاح المصالح الضرورية فيها، وهم يختلفون في هذه الناحية من الأعراب.

ويلاحظ أن يهود الجاهلية لم يحافظوا على يهوديتهم وعلى خصائصهم التي يمتازون بها ويحافظون عليها محافظة شديدة، كما حافظوا عليها في الأقطار الأخرى. فأكثر أسماء القبائل والبطون والأشخاص، هي أسماء عربية، والشعر المنسوب إلى شعراء منهم، يحمل الطابع العربي، والفكر العربي. وفي حياتهم الاجتماعية والسياسية لم يكونوا يختلفون اختلافاً كبيراً عن العرب، فهم في أكثر أمورهم كالعرب. فيما سوى الدين. ولعل هذا بسبب تأثير العرب المتهودة عليهم، وكثرتهم بالنسبة إلى من كان من أصل يهودي، مما سبب تأثيرهم،وهم ذوو أكثرية، في اليهود الأصيلين الذين أثروا فيهم فأدخلوهم في دينهم، فأثروا هم فيهم، وطبعوهم بطابع عربي.

وقد عاش اليهود في جزيرة العرب معيشة أهلها، فلبسوا لباسهم، وتصاهروا معهم، فتزوح اليهود عربيات، وتزوّ ج العرب يهوديات، ولعلّ كون بعض يهود من أصل عربي، هو الذي ساعد على تحطيم القيود التي تحول بين زواج اليهود بالعربيات وبالعكس. والفرق الوحيد الذي كان بين العرب واليهود عند ظهور الإسلام هو الاختلاف في الدين. وقد تمتع اليهود بحرية واسعة لم يحصلوا عليها في أي بلد آخر من البلاد التي كانوا بها في ذلك العهد.

ومن الأسماء التي قد تكون من أصل عبراني "زعورا"، وهو اسم عبراني متأثر بلهجة بني إرم، و "يساف"، وقد يكون من "يوسف"، و "نبتل" وقد يكون من نفتالي" Naftali، وأسماء أخرى لم تتمكن من المحافظة على أصلها العبراني، فتأثرت بخواص اللسان العربي. وليس بين أسماء البطون اليهودية الأحد عشر، التي كانت في الحجاز في أيام ظهور الإسلام، اسم تظهر عليه الملامح العبرانية غير الاسم الذي ذكرته وهو "زعوراء".

وكانت يثرب عند هجرة الرسول اليها، في أيدي أصحابها الأوس والخزرج، لهم السيطرة والسلطان، ولليهود آطامهم وقلاعهم في خيبر وفي تيماء وفي بعض قرى وادي القرى وفي أعالي الحجاز، يتاجرون، ويزرعون،ويقرضون الأموال بالربا الفاحش للاعراب، ويحترفون بعض الحرف مثل الصياغة، وهي حرفة اشتهروا بها منذ القديم، ويعقدون الأسواق ليقصدها الأعراب للامتيار.

ولكن اليهود مع ما كان لهم من قلاع واطام وقرى عاشوا فيها متكتلين مستقلين لم يتمكنوا من بسط نفوذهم وسلطانهم على الأرضين التي أنشأوا مستوطناتهم فيها، ولم يتمكنوا من انشاء ممالك وحكومات يحكمها حكام يهود، بل كانوا مستقلين في حماية سادات القبائل، يؤدون لهم إتاوة في كل عام مقابل حمايتهم لهم ودفاعهم عنهم ومنع الأعراب من التعدي عليهم. وقد لجأوا إلى عقد المحالفات معهم، فكان لكل زعيم يهودي حليف من الأعراب ومن رؤساء العرب المتحضرين.

وقد كان اليهود يخضعون في نظامهم السياسى والاجتماعي لرؤسائهم وساداتهم، يدفعون لهم ما هو مفروض عليهم أداؤه في كل سنة. وهؤلاء السادة هم أصحاب الآطام والحصون والأرض. ولمن يشتغل في الأرض تسديد ما عليه لصاحبها في مقابل استغلاله لها. وقد إعتنوا عناية خاصة بزراعة النخيل. وعرفت القطعة من الأرض المزروعة نخلاً عندهم ب "الصورين" "الصور". ولما كانت الأرضون المزروعة واسعة، كانت خارج الاطام والحصون، يحميها حراسها والمشتغلون بها أيام ثمرتها. وأما في أيام الغزو والحروب، فقد كانت معرضة لهجوم المهاجمين. وهذا ما كان يعرض أعظم غلة اليهود للخطر، ولهذا شق عليهم كثيراً،وانهارت مقاومتهم حين أمر الرسول بقطع النخل وتحربقه،وأخذوا يلتمسون منه وقف ذلك.

ويتولى الأحبار الأمور الدينية وتنفيذ الأحكام والنظر فيما يحدث بين الناس من خصومات. يقيمون لهم الصلوات وبقية شعائر دينهم، ويعلمونهم في بيوت ا لمدارس.

وقد أدى التنافس بين سادات يهود إلى نشوب معارك بينهم في الجاهلية. وقد أشار اليها القرآن الكريم وأنّبهم على ذلك. واضطرت بنو قينقاع بسبب ذلك وبضغط بني النضير وبني قريظة الى الالتجاء إلى أحياء يثرب والى محالفة الخزرج، وفي مقابل ذلك تحالفت بنو النضير وبنو قريظة مع الأوس، فصاروا فرقتين: فرقة مع الخزرج، وفرقة مع الأوس.

وفي تاًنيب يهود، لتخاصمهم وتنابذهم واخراجهم بعضهم بعضاً من ديارهم وأسٌر بعضهم بعضاً وافتداء الأسرى كالذي وقع بين بني قينقاع وبني النضير، نزل الوحي: )وإذ أخذنا ميثاقكم، لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون انفسكم من دياركم، ثم أقررتم و أنتم تشهدون، ثم أنتم هؤلاء تقتلون انفسكم، وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان. وإن يأتوكم أسرى، تفتدوهم وهو محرم عليكم اخراجهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ? فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويومَ القيامة يردّون إلى أشد العذاب، وما الله بغافلٍ عما تعملون (. أنبهم لأنهم فعلوا فعل المشركين والأعراب، مع انهم أهل دين واحد وكتاب. أما المشركون فلا لوم عليهم، لأنهم لم يكونوا على دين، وليس لهم كتاب ياْمرهم وينهاهم.

وفي المعارك والخصومات التي تقع بين يهود، كانوا يؤدون الدية. وهي على ما يظهر من روايات أهل الأخبار مختلفة، وغير متكافئة. فكان بنو النضير يؤدون الدية كاملة لشرفهم في يهود، أما بنو قريظة، فكانوا يؤدون نصف الدية. وفي خلاف في أداء الدية وقع بينهم، التجأوا إلى الرسول للحكم بين، فذكروا له هذا الاختلاف، فحكم بالدية متساوية. وفي هذا الحكم نزلت الاية: )سماعون للكذب، أكّالون للسحت، فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين (. ذكر علماء التفسير عن "ابن عباس" أنه قال: "كانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلاً من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة ودى مائة وسق من تمر، فلما بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قبل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقالوا: ادفعوه الينا لنقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي، صلى الله عليه وسلم، فنزلت: )وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط. النفس بالنفس، ونزلت أفحكم الجاهلية يبغون (.

وذكر علماء التفسير في تفسيرهم للايات المتقدمة، ان أحبار اليهود لم يكونوا يحكمون بالحق فيما بين الناس، كانوا يحابون ويتحزبون ويحكمون بالباطل وياًكلون "السحت" أي الرشا، جزاء حكمهم بالباطل. وكانوا يتساهلون في تطبيق أحكام الشريعة مع الشريف لشرفه، ويتشددون مع الدنيء لدناءته وفقر حاله. ولا يراعون التساوي في أخذ الديّات. "كان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي وحموا وجه الشريف وحملوه على البعير، أو جعلوا وجهه من قبل ذنب البعير. وإذا زنى الدنيء بالشريفة: رجموه". و كان هذا شانهم " إلى ان زنى شاب منهم ذو شرف، فقال بعضهم لبعض لا يدعكم قومه تّرجمونه، ولكن اجلدوه ومثلوا به، فجلدوه وحملوه على حمار أكاف وجعلوا وجهه مستقبل ذنب الحمار. إلى ان زنى آخر وضيع ليس له شرف، فقالوا ارجموه. ثم قالوا فكيف لم ترجموا الذي قبله، ولكن مثل ما صنعتم به فاصنعوا بهذا"، واختلفوا فذهب فريق منهم إلى الرسول، فحكم بينهم بما جاء بحكم التوراة.

وذكر ان "حيي بن أخطب" كان قد حكم ان للنضري ديتان وللقرظي دية، لأنه كان من النضير.

وذكر أهل الأخبار انه كان لليهود حكام يحكمون بينهم، ويقيمون حدودهم عليهم. فلما جاء الرسول إلى يثرب، صار اليهود يعترضون على عدالة حكم بعضهم، ولا يرضون بتنفيذ أحكامهم عليهم. فكان الحكام أو هم يذهبون إلى الرسول لكي يحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون وفق شريعتهم.

وكان جلّ اعتماد اليهود في هذه المنطقة عند ظهور الإسلام على التجارة، ومعاطاة الربا والزرع، وبعض أنواع الصناعة: كالصياغة، وتربية الماشية والدجاج، وصيد الأسماك في أعالي الحجاز على ساحل البحر الأحمر. واشتهروا بالاتجار بالبلح وبالبر والشعير والخمر، وكانوا يجلبون الخمر من بلاد الشام. وكانوا يبيعون بالرهن، يرهن المشترون بعض أمتعتهم عندهم ليستدينوا منهم ما يحتاجون اليه. وقد ورد ان الرسول رهن درعاً له عند يهودي من أهل يثرب في مقابل شعير كان به حاجة شديدة اليه، ومن الصناعات التي اشتغل بها اليهود، النسيج وهو من اختصاص نسائهم على الأكثر، والصياغة وقد اختص بها بنو قينقاع، والحدادة، وهي صناعة يإنف منها العرب ويزدرونها ويرونها من الحرف الممقوتة الحقيرة.

ولم يكن من مصلحة اليهود، وهم أهل زرع وضرع ومال وتجارة وأرض ثابتة وقصور وآطام، أن يشتركوا في الحروب أو يشجعوا وقوعها في ديارهم وفي جوارهم، بل كان من مصلحتهم أن يعمّ الاستقرار البلاد التي يقيمون فيها، ليعيشوا عيشة هنيئة، وليبيعوا ما عندهم من الأعراب وليشتروا منهم ما عندهم من سلع وليقبضوا أموالهم منهم والأرباح التي استحقت على تلك الأموال.

وفي النزاع الذي يقع بين القبائل، لم يكن من مصلحتهم تأييد حزب على حزب، خوفاً من الوقوع في أخطاء تجر عليهم أخطاراً ومهالك هم في غنى عنها وفي ماًمن من شرًها. ثم إنهم بتحزبهم لطرف يغضبون الطرف الاخر، فيضمر عندئذ شرأَ لهم، فيخسرون بذلك مشترياً وبائعاً. وهم أناس اصحاب سوق وتجارة. غير ان الظروف كانت تكرههم في بعض الأحيان على الاشتراك في الحرب، وعلى إثارة الحرب أيضاً متى وجدوا في إثارتها فائدة لهم ومصلحة ترتجى كاًن ينهكوا العدوّ بحرب مع عدو آخر بإيقاع الفتنة وإشعال النيران، كما أوقعوا بين الأوس والخزرج، لإضعاف الطرفين معاً، حتى لا تبقى لهم قوة تهددهم وتكون خطراً عليهم.

وفي يوم بعاث استعان الأوس ببني قريظة والنضير،فبلغ ذلك الخزرج فأرسلوا اليهم يحذرونهم من سوء عاقبة الإشتراك في هذا النزاع،فتوقفوا، غير أنهم عادوا فعاونوا الأوس، وانضم اليهم بنو النبيت. فلما كسب الأوس الحرب، كسب بنو قريظة والنضير والنبيت غنائم من الخزرج، وخرجوا في هذا اليوم منتصرين بانتصار الأوس.

ويذكر أهل السير والأخبار: ان يهود يثرب كانوا اذا تضايقوا من الأوس والخزرج هددوهم. بقرب ظهور نبي يستعلون به عليهم. ففي رواية عن بعض الصحابة انهم قالوا: "كنا قد علوناهم في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهك كتاب، فكانوا يقولون لنا: إن نبياً يبعث الان نتبعه، قد أطل زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم". ولما ذكّرهم معاذ بن جبل وبشر بن البرّاء بن معرور ونفر آخرون بدعواهم تلك، وبظهور النبى العربي بقولهم، لهم: "يا معشر يهود، اتقوا الله، واسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل شرك، وتخبروننا انه مبعوث وتصفونه لنا بصفته"، فكان جواب يهود لهم ما جاء على لسان سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره لكم. وقد أشير إلى ذلك في القرآن الكريم: ) ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا. فلما جاءهم ما عرفوَا، كفروا به، فلعنة الله على الكافرين(. واستفتاح اليهود على المشركين، هو للتفريج عن أنفسهم ولتخويف الأوس والخزرج ولاعتقادهم حقاً بظهور مسيح منهم، أي من بني اسرائيل. ولهذا أنكروا نبوة الرسول، وأبوا التسليم بها، لأنه لم يكن منهم، ولأن النيوة لا تكون - على رأيهم - إلا في بني اسرائيل.فكيف يصدقون بنبي عربي من الأميين "نبيَ اموت ها عولام "Nebi'e Ummot ha -'Olam.

يهود اليمن

والموضع الثاني الذي عششت فيه اليهودية وباضت، هو اليمن. ففي هذه الأرض من جزيرة العرب ظهر اليهود فيها ظهوراً واضحأَ، وصارت اليهودية ديانة البلاد الرسمية. أما كيفية مجيئها وانتشارها هناك، ومتى كان ذلك، فليس لدينا علم واضح دقيق عن ذَلك. ويزعم أهل الأخبار ان تبعاً، وهو التبع "تبّان اسعد ابو كرب"، اهتدى إلى هذه الديانة عند اجتيازه بيثرب وهو عائد إلى اليمن من حرب قام بها في الشمال وفي ايران، وذلك بتاًثير بعض الأحبار عليه، ومنذ ذلك الحين صارت هذه الديانة ديانة رسمية للبلاد.

وتجعل بعض روايات الأخباربين اسم هذا التبع "تبع بن حسان " أو "حسان"، وهو "تبع الأصغر"، أو "أبو كرب بن حسان بن اسعد الحميري" أو غير ذلك. وتزعم ان حبرين من أحبار اليهود من بني قريظة عالمين راسخين في العلم، هما اللذان هديا التبع إلى اليهودية، وأبعداه عن عبادة الأوثان.

وقد يكون لهذه الروايات شيء من الصحة، غير أني أرى ان دخول اليهوديه إلى اليمن مردّه ايضاً إلى اتصال اليمن من عهد قديم بطرق القوافل التجارية البحرية والبرية ببلاد الشام. وفي قصة سليمان وملكة سبأ إشارة إلى تلك الصلات، والى هجرة جماعات من اليهود إلى هذا القطر عن طريق الحجاز، بعوامل متعددة، منها: التجارة والهجرة إلى الخارج،. وهروبهم من اضطهاد الرومان لهم، وعوامل أخرى جعلتهم يتجهون من الحجاز إلى اليمن، فأقاموا هناك.

وأما يهود اليمن المحدثون فإن أحبارهم ورجال العلم والفهم منهم يرجعون وجودهم في اليمن إلى أيام السبي، أي إلى ايام "بخت نصر"، وهم يزعمون أنهم بقوا في اليمن منذ ذلك الحين ولم يعودوا إلى فلسطين. وقد غادروا اليمن بعد التقسيم.

وقد أشار حبر يسمى "ربي عاقبة" "رباي عقيبة"Rabbi'Aqiba، في حوالى سنة "130 م"، إلى زبارته لملك عربي كوشي "مليخ عرابيم" كانت زوجته كوشية كذلك، وإلى تحدثه معه. ويراد ب "كوش" الأحباش غير ان بعضهم كان يقصد بها العربية الجنوبية،كذلك. ولا يستبعد ان يكون مراد الحبر بذلك اليمن،أو منطقة أخرى من العربية الجنوبية كان الحبش قد استولوا عليها. وربما قصد منطقة افريقية ساحلية كان يحكمها ملك عربي في ذلك الوقت.

وتدل رحلة "ربي عقيبة" R.Aqiba هذه إلى اليمن على وجود يهود فيها، إذ لا يعقل سفره هذا إلى تلك البقعة النائية وتجشمه مشقته، لو لم تكن هناك جالية يهودية فيها. وقد يجوز ان تكون سفرته إلى اليمن مجرد سفره استطراق وعبور، لغاية الذهاب من اليمن إلى الحبشة، ولكني لا أستبعد مع ذلك وجود اليهود في اليمن في هذا العهد، إذ كان "أوليوس غالوس" قد جاء بجمع منهم معه في حملته على اليمن، فيجوز ان يكون بعضهم قد فضّل البقاء في اليمن والسكن فيها لطيبها ولخصب أرضها وتعبهم من السفر، ففضلوا لذلك البقاء على الرجوع وتحمل المشقات والجوع والعطش والهلاك. وقد هلك بالفعل القسم الأكير من رجال الحملة بسبب صعوبة الطريق والحر الشديد والجوع والعطش.

وقد عثر على كتابة من كتابات القبور في "بيت شعا ريم" Beth She'arim في جنوب شرقي حيفا، ورد فيها:"منحم قولن حميرن" Mnhm Kwin hmyrn اي "مناحيم قيل حمير". والموضع الذي وجدت هذه الكتابة فيه، هو مقبرة من مقابر كبار الأحبار، وقد وجدت معها كتابات أخرى، تشير إلى أسماء أحبار معروفين، قبروا فيها. لذلك فإن "مناحيم" "قيل حمير" هو يهودي، قد كان جاء إلى فلسطين للزيارة أو للاتصال بعلماء اليهود الذين كانوا قد تجمعوا في "بيت شيعا ريم"،. فمرض ومات هناك. ودفن في مقبرة هذا الموضع. ويرجع الباحثون تأريخ الكتابة المذكورة إلى حوالى سنة "200 م".

واستدل بعض المستشرقين بنص دوّ نه "شرحبيل يعفر بن أبي كرب اسعد"على سد مأرب، وردت فيه جملة "بعل سمن وارضن"، أي "رب المسماء والأرض" على تهوده بحجة ان هذه العبارة تشير إلى التوحيد الخالص، والتوحيد الخالص هو عقيدة يهود.

وقد ذكر المؤرخ النصراني "فيلوستورجيوس"Philostorgius في حوالى سنة425 م، ان أهل سبأ كانوا يتبعون في "السبت" سنة "ابراهيم"، ولكنه ذكر أيضاً انهم كانوا يعبدون الشمس والقمر ومعبودات أخرى، وان بعضاً منهم كان على دين يهود،وانه قاوم رسالة "ثيوفيلس" Theophilus الذي أرسله القيصر قسطنطين "ه 340 - 361 م" للتبشبر بين الحميريين. وذكر المؤرخ "ثيودور لكتور" Theodorus Lecrtor، وهو من رجال النصف الأول للقرن السادس للميلاد، ان الحميريين كانوا في بادىء أمرهم على دين يهود، دخلوا فيه في ايام ملكة سبأ المعروفة بقصتها مع سليمان، بدعونها اياهم إلى هذا الدين. ولكنهم كما يقول هذا المؤرخ عادوا فارتدوا إلى الوثنية، ثم دخلوا بعدئذ في النصرانية في ايام القيصر "أنسطاس" Anstasius"491 - 518م". ولم يشر هذا المؤرخ إلى وجود اليهودية بين الحميريين، كما انه لم يشر ولا المؤرخ الآخر إلى تهود احد من ملوك حمير.

ويفهم من الجمل: "وان اليهود الكائنين في طبرية يرسلون سنة فسنة وقتاً فآخر كهنة منهم إلى هناك لإثارة السجس بين نصارى الحميريين. فلو كان الأساقفة نصارى وليسوا بشركاء لليهود، ويودّون ان تستقيم النصرانية، لرغبوا إلى الملك وعظمائه، ليلقوا القبض على رؤساء كهنة طبرية و بقية المدن،ويلقوهم في السجن. ولا نقول هذا لنجازي سيئة بسيئة، بل ليتوثقوا منهم بكفلاء حتى لا يعودوا يرسلون رسائل وأشخاصاً وجيهين إلى ملك الحميريين، فيصب صاعقة الأرزاء على شعب المسيح في حمير..."،وهي جمل اقتبسها من رسالة "شمعون" عن تعذيب نصارى نجران، ان يهود اليمن لم يكونوا بمعزل عن يهود فلسطين، بل كانوا على اتصال بهم، وان أحبار طبرية كانوا يرسلون رجالا منهم إلى اليمن ومعهم أموال ووجوه إلى يهودها وملكها وكبارها للتأثير فيهم ولتوثيق صلاتهم وروابطهم بهم، وقد نسب شمعون إلى أحبار طبربة، انهم كانوا يحرضون ملك حمير ويهود حمير على الضغط على نصارى اليمن وعلى اضطهادهم انتقاما منهم،فطالب الحكومة والنصارى على الضغط على يهود فلسطين وعلى أحبار طبرية بصورة خاصة، ليكتبوا إلى يهود حمير بالكف عن التحرش بنصارى اليمن، وعن تهديدهم بانزال العقوبات بهم انتقاما منهم إن لم يسدوا لهم النصح.

وورد في أخبار الشهداء الحميربين: أن أحبارا من فلسطين من "طبريا" Tiberias،كانوا قد جاؤوا أخوانهم في الدين يهود اليمن وسكنوا معهم. ومعنى هذا أن الصلات بين يهود اليمن وجهود فلسطين كانت موجودة، وأن يهود اليمن لم يكونوا بمعزل عن يهود فلسطين، ويجب أن يقال مثل ذلك عن يهود الحجاز، اذ لا بد وأن يكون ليهود الحجاز اتصال بيهود فلسطين وبيهود اليمن. وكيف لا يكون لهم اتصال بهم، وهم جيران فلسطين ولهم تجارات معهم، ثم إنهم على طريق اليمن وفلسطين، فإذا أراد يهود فلسطين الذهاب إلى اليمن، أو يهود اليمن الذهاب إلى فلسطين فلا بد من المرور بأرض يهود الحجاز والنزول بهم.

وقد عثر في اليمن على نص مكتوب بالمسند، وردت فيه كلمة "يسرائيل "و "رب يهود". ويدل هذا على أن صاحبه كان على دين يهود. عثر عليه المستشرق "كلاسر" ونشره المستشرق "ونكلر"، وهذا هو: "تبرك سم رحمنن ذ بسمين "سمن" ويسر ال والهمو رب يهود. ذ هرد عبد همو وشحرم وامهوبم "?" وحشكهتو شمسم واولدهمو ذمم "?" وابشعر ومار وكل ابهه".

وأما كتابته بلهجتنا، فعلى هذا المنوال: "تبارك اسم الرحمان الذي في السماء واسرائيل وإلهه رب يهود الذي ساعد عبده شحراً وأمه بم "?" وزوجته شمساً واولاده ذمم "?" وأبشعر ومئاراً وكل أهله "بيته".

غير أن من الباحثين من يشك في صحة نقل هذا النص نقلاً صحيحاً تاماً، ولم يتأكد من صحة نقل كلمة "اسرائيل".

واليهودية وإن ضعفت في اليمن بدخول الحبشة فيها، بقيت مع ذلك محافظة على كيانها، فلم تنهزم، ولم تجتث من أصولها، وبقيت قائمة في هذد البلاد في الإسلام كذلك فلم يجل أهلها عنها كما أجلي أهل خيبر، وظلت بقيتهم هناك إلى سُنيات قريبة حيث غادروها على أثر حوادث فلسطين.

وقد كانت "نجران" من المستوطنات المهمة التي نزل بها اليهود في اليمن. وهي مكان خصب، وقد عاش اليهود فيها مع غيرهم من العرب من نصارى وعبدة أصنام.

ووجد اليهود في مواضع أخرى من جزيرة العرب. وجدوا في العربية الشرقية وفي نجد وفي مواضع من العربية الجنوبية. ولما ارتد "بنو وليعة" والأشعث بن قيس بن معديكرب بن معاوية الكندي، وتحصن "الأشعث" في النجير"، وهو حصن لهم، كانت فيه امرأة من يهود، عرفت بشماتتها بوفاة الرسول، اسمها "هند بنت يامين" اليهودية. مماْ يدل على وجود اليهود في هذا المكان. وكان بالبحربن قوم من اليهود، صالحوا المسلمين مثل النصارى على دفع الجزية عن رؤوسهم. وقد كتب "المنذر بن ساوى" العبدي، يخبر الرسول أن بأرضه يهود ومجوس، فكتب اليه الرسول: "من أقام على يهودية، أو مجوسية فعليه الجز ية".

الفصل السابع والسبعون
اليهود والأسلام

ويتبين من القرآن الكريم، ان اتصال الرسول باليهود اتصالاً مباشراً إنما كان في يثرب. أما في مكة،فلم يكن لليهود فيها شأن يذكر، لذلك لا تجد في الايات المكّية ما نجده في الآيات المدنية،ولا سيما المتاًخر منها، من تقربع لليهود وتوبيخ لهم، لوقوفهم موقفاً معادياً من الإسلام، واتفاقهم مع المشركين في معارضة الرسول ومقاومته. وقد بدأ اليهود يعارضون الرسول والإسلام، حينما طلب اليهم الدخول في الإسلام والإبمان برسول اللّه، وحينما تبين لهم أن الأمر سيفلت من أيديهم، وأن الرسول ليس كبقية رجال قريش أو غير قريش سهل الانقياد مطواعاً لهم، وأن تعاليم الإسلام ستفسد العرب عليهم، ولا سيما بعد تحريم الربا. والربا مورد مهم كان يدر ربحاً عظيماً على يهود، لهذا وجدوا مصلحتهم في معارضته ومقاومته وفي الاتفاق مع المشركين عليه.

ويظهر أنه لم يكن لليهود نفوذ كبير ولا جاليات كبيرة في مكة. فلو كان لهم نفوذ فيها أو راي مسموع، لسمعنا به كما سمعنا بخبرهم في يثرب، ولكان لهم حيّ خاص بهم، ومكانة بين رجال قريش، كالذي كان عليه يهود يثرب في اتصالهم بالأوس والخزرج. ولأشير اليهم في السور المكية، على نحو ما أشير اليهم في السور المدنية، ثم لما ضطر رجال قريش للذهاب الي يثرب مراراً، لاستشارتهم في أمر سلوكهم مع المسلمين، ولما جاء سادات يهود يثرب إلى مكة، لتحريض اهلها على مقاومة الرسول، ولعقد حلف معهم عليه.

وقد أمل المسلمون ان يساعد اليهود الإسلام على الوثنية وان يقفوا منه موقف ود أو حياد، ذلك بأنهم أصحاب كتبُ منزلة ودين توحيد، والاسلام قريب منهم، وقد اعترف بالأديان السابقة له، ونزه الأنبياء والمرسلين، وهو دين توحيد كذلك. ثم إن الرسول تودد اليهم حين دخوله يثرب،وأمنهم على أموألهم وأنفسهم، وزارهم وطمأنهم، ثم تعاهد معهم في صحائف كتبت لهم، فيها العهد بالوفاء لما اشترط لهم، ما داموا موفين با الوعد وبالعهد وقد طلب إلى جميع المسلمين الوفاء بما جاء فيها، ومنعوا من التجاوز والتطاول على من في يثرب من يهود. وجعل لليهود نصيبأَ في المغنم إذا قاتلوا مع المسلمين كما شرط عليهم النفقة معهم في الحروب.

ولم تكن علاقات اليهود مع المسلمين سيئة في الأيام الأولى من مجيء الرسول إلى يثرب. رأت جمهرة يهود ان الإسلام دين اعترف بالأنبياء، وانه دين توحيد وانه في جملة أحكامه قريب من أحكام ديانتهم وقواعدهم،وانه يناهض الأوثان، وقد أشاد بفضل بني اسرائيل وبتفوقهم على غيرهم بظهور الأنبباء من بينهم، ثم إن قبلته إلى القدس، وقد تسامح معهم فأباح للمسلمين. طعام أهل الكتاب.

وهو دين اعترف بأبوة ابراهيم للعرب، وجعل سنته سنة له. وقد تسامح معهم وحفظ ذممهم، فلم ترَ في انتشاره بين أهل يثرب ما يضيرهم شيئاً أو يلحق بهم أذى، ولذلك أظهرت استعدادها لعقد حلف سياسى معه ووقوفها موقف ود منه أو موقف حياد على الأقل، على ألا يطلب منها تغيير دينها وتبديله والدخول في الاسلا م.

ولما دخل أهل يثرب في الإسلام أفواجاً، وتوجه المسلمون إلى اليهود يدعونهم إلى الدخول فيه والى مشاركتهم لهم في عقيدتهم باعتبار أنهم أهل دين يقول بالوحي ويؤمن بالتوراة، و برسالة الرسل،فهم لذلك أولى بقبول هذه الدعوة من الوثنيين، أدركت جمهرتهم ان الإسلام إذا ما استمر على هذا المنوال في المدينة من التوسع والانتشار ومن توجيه دعوته إلى اليهود أيضاً، فسيقضي على عقيدتهم التي ورثوها وهي عقيدة لا تعترف بقيام نبىّ من غير بني اسرائيل، ولا بكتب غير التوراة والكتب التي دونها علماؤهم، ثم هم يرون ان النبوة قد ختمت ولن يكون المسيح إلا منهم، فكيف يعتقدون بنبي عربي وهو من الأميين ? وقد رفض اليهود الدخول في الإسلام، وأبوا تغيير دينهم، ودافعوا عن عقيدتهم وتمسكوا بها، ورفضوا التسليم بما جاء في رسالة الرسول من أن الرسول نبي أرسل للعالمين كافة وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن القرآن كتاب مصدق من الله، وأن أحكامه مؤيدة لما جاء في التوراة ناسخة لبعضها. وقد جادلوا في ذلك، وانبرى أحبارهم للدفاع عن عقيدتهم ولمجادلة من يأتي اليهم من المسليمن لاقناعهم في الدخول في الإسلام. وفي القرأن الكريم صور من جدلهم هذا ومن محاجّتهم الرسول في دعوته، كما نجد مثل ذلك في الحديث النبوي وفي كتب السير.

ويتبين من نتائج دراسة صور هذا الجدل والخصام الذي وقع بين اليهود والمسلمين، وهو خصام مهم خطير، أن الخصومة كانت في مرحلتها الأولى رفض لدعوة الرسول إياهم للدخول في الإسلام، وتمسكأَ شديداً بعقيدته وبدينهم وبما ورد عندهم من أن النبوة قد بدأت وانتهت في بني اسرائيل، ثم تطورت واشتدت عنفاً وقوة لما تبين لهم أن الإسلام يرفض نظريتهم هذه، وأنه قد حرم أموراً ستؤثر في مستقبلهم، وقد ألف بين قلوب أهل يثرب وأوجد منهم كتلة واحدة، وأنه سيحدّ من سلطانهم لامحالة، وأن ملكهم سيزول، فوسعوا مقاومتهم، واتصلوا بمن وجدوا فيه حقداً وبغضاً للرسول، وبمن تأثر سلطانه بدخول الإسلام في يثرب من أهلها، ثم لما وجدوا أن كل ذلك غير كاف، تراسلوا مع أعداء الرسول في خارج يثرب من قريش. لتوحيد خططهم معهم، ولجملهم على مهاجمة المسلمين في مدينتهم ومعقلهم قبل أن يستفحل أمرهم ويقوى مركزهم،فيعجزون جميعاً هم وأهل مكة عن التغلب عليهم والقضاء على الإسلام.

وهكذا بدأت خصومة اليهود للاسلام خصومة فكرية، هم يرفضون الاعتراف بنبوة الرسول، وباًن دعوته موجهة إليهم، ويرفضون نبوة في غير بني اسرائيل، والرسول يدعوهم إلى الايمان بالله والى الدخول في دعوته المبنية على الايمان بالله رب العالمين، رب العرب وبني اسرائيل والعجم، وعلى الايمان بنبوته وبنبوة الأنبياء السابقين، ثم تطورت هذه الخصومة إلى معارك وحروب، والحروب كما نعلم تبدأ نزاعاً في الآراء وألأفكار ثم تتحول الى صراع ونزاع وقتال.

ومن أشهر سادات يهود الذين وقفوا موقفاً معادياً من الرسول، وعارضوه معارضة شديدة، وصمموا على الايقاع به، حيي بن أخطب، وأخواه ياسر بن أخطب وجُدىَّ بن أخطب، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقق، وسلام بن الربيع بن أبي الحقيق، وهو أبو رافع الأعور الذي قتله أصحاب الرسول يخيبر، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وعمرو بن جحاش، وكعب بن الأشرف، والحجاح بن عمرو حليف كعب ين الأشرف، وكردم بن قيس حليف كعب بن الأشرف، وكل هؤلاء من بني النضير، وعبدالله بن صوري الأعور، وابن صلوبا، وهما من بني "ثعلبة بن الفطيون"، وزيد ابن اللعيث "اللعيب"، وسعد بن حنيف، ومحمود بن سيحان "سبحان"، وعزير بن أبي عزير، وعبدالله بن صيف "ضيف"، وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفنحاص، وأشيع، ونعمان بن أضنا "أمنا ?"، وبحري ابن عمرو، وشاس بن عدي، وشاس بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان ابن عمرو، وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد، ونعمان بن أبي أوفى أبو أنس، ومحمود بن دحية، ومالك بن الصيف "الضيف"، وكعب بن راشد، وعازر، ورافع بن أبي رافع، وخالد، وإزار بن أبي إِزار "آزر بن أبي أزر"، ورافع بن حارثة، ورافع بن حريملة، ورافع بن خارجة، ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وكل هؤلاء من يهود بني قينقاع.

أما الذين حاربوا الإسلام من بني قريظة، فكانوا: الزبير بن باطا بن وهب، وعزّال بن شمويل "سموال"، وكعب بن أسد، وهو صاحب عقد بني قريظة الذي نقض عام الأحزاب، وشمويل بن زيد، ونافع بن أبي نافع، وأبونافع، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن رميلة "زميلة"، وجبل بن أبي قشير، ووهب بن يهوذا.

أما من بقية بطون يهود، فكانوا: لبيد بن أعصم،وهو من يهود بني زريق، وكنانة بن صورياء "صوريا"، وهو من بني حارثة، وفردم "قردم" بن عمرو، وهو من يهود بني عمرو بن عوف، وسلسلة بن برهام، وهو من يهود بني النجار.

ويظهر من أقوال علماء التفسير في تفسير لفظة "الطاغوت" الواردة في القرآن الكريم، أن "كعب بن الأشرف"، كان من أبرز سادات اليهود في أيام الرسول. فقد كانوا يتحاكمون اليه ويأخذون برأيه، وكان المقدم عندهم وعند الأوس والخزرج، حتى أن الأنصار كانوا يتحاكمون اليه.

ونجد في القرآن أمثلة من أسئلة وجهها اليهود إلى الرسول لاخراجه ولإظهار فساد دعوته بزعمهم. سألوه ان يأتي لهم بمعجزة، إِذ قالوا له: "إن الله عهد الينا ألا نؤمن لرسول حتى يؤتينا بقربان تأكله النار"، فنزل الرد عليهم: )قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم، فلِمَ قتلتموهم إن كنتم صادقين(. "نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا، وفنحاص بن عازورا، وجماعة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: له: أتزعم أن الله أرسلك الينا، وأنه أنزل علينا كتاباً عهد الينا فيه ألا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار،فإذا جئنا به صدقناك، فأنزل الله هذه الآية". وسألوه "أن يصعد إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتاباً مكتوباً فيما يدعيه على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة". وساًلوه أسئلة عن أشياء مذكورة في التوراة، وسألوه عن أشياء أخرى محرجة عديدة،وأوحوا إلى غيرهم من المشركين باسئلة مماثلة ليلقوها على الرسول لامتحانه وإحراجه، وقد نزل الوحي بالرد، عليهم، وبتأنيهم على اقوالهم هذه،وبتذكيرهم بما قام به أجدادهم إوأسلافهنم في مقام أنبيائهم من عدم التصديق برسالتهم ومن الطعن بهم ومن إصرارهم على عبادة الأوثان والكفر بالتوحيد.

ووقع جدل بين المسلمين وبين سادات يهود، أثار نزاعاً بين الطرفين. دخل أبو بكر " بيت المدراس، فوجد من يهود ناساً كثيراً قد اجتمع إلى رجل منهم يقال له "فنحاص" كان من علمائهم وأحبارهم ومعه حير يقال له: أشيع. فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم، فوالله انك لتعلم ان محمداً رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والانجيل. قال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وانه الينا لفقير، وما نتضرع اليه، كما يتضرع الينا وإنا عنه لأغنياء. ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا، كما يزعم صاحبكم. ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنياً عنا ما اعطانا الربا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال:. والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك ". ووقع مثل ذلك في مناسبات أخرى، جعل اليهود يحقدون على المسلمين.

وعمد اليهود إلى استغلال الأحقاد والبغضاء الكمينة التي كانت كامنة في نفوس اهل يثرب من الأوس والخزرج من ايام الجاهلية، فأثاروها، كما استفادوا ممن كان بينهم وبين رجال من المسلمين من الحلف والجوار في الجاهلية للاحتماء بهم وللاتقاء بهم مما قد يلحق بهم من أذى في اثارة الفتنة.

وفي عهد "عمر" أمر بإجلاء اليهود ممن لم يكن لديهم عهد من رسول الله.

أما من كان له عهد منه، فقد بقي في وطنه وعلى دينه بالشروط التي ذكرت في الصحف. وقد كان في يثرب نفر من اليهود عاشوا فيها في زمن الرسول حتى بعد اجلاء بني النضير وبني قريظة وبعد غزوة خيبر. وقد ورد في رواية أن النبي لمّا أمر أصحابه بالتهيؤ لغزوة خيبر، شقّ ذلك على من بقي بالمدينة من يهود. ولما مرض عبدالله بن أبي، كان اليهود في جملة من التفّ حول سريره في مرضه الذي هلك فيه، ثم كانوا في جملة من شيعه إلى قبره ومن نثر التراب على رأسه حزناً على فراقه. وقد بقيت اسر يهودية في وادي القرى وفي تيماء قروناً عديدة بعد صدور أمر عمر بالإجلاء، بل ورد ان عدداً منهم عاش في المدينة أيضأَ.

. وقد كانت اليهودية قانعة بما أوتيت، وبما كسبته من مواطن وتجارة، إن وجدت سبيلاً إلى اقناع سادات القبائل والأمراء والملوك بالتهود وبالدخول في دعوتها، فذلك خير وتوفيق. وإن لم تجد في هؤلأء ميلاً إلى اليهودية، رضيت منهم باكتساب العطف والحماية ورعايتهم في تحصيل ديونهم والأرباح التي يحصلون عليها من الربا، وبالسماح لهم بالتجارة والبيع والشراء، وهو ما يصبو اليه كل يهو دي.

لذلك نستطيع ان نقول ان اليهودية كانت من ناحية التبشير عند ظهور الإسلام جامدة خامدة، لا يهمها نشر الدين بقدر ما تهمها المحافظة على الحياة وعلى المركز الذي توصلت اليه وعلى تجارتها التي تعود عليها بمال غزير. فكانت لهذا لا تهتم بحركة إلا إذا وجدت فيها فائدة لها، ومنفعة ترتجى منها، ولا تحارب رأياً إلا إذا وجدت انه سيكون خطراَ عليها، فحاربت النصرانية في اليمن لمّا وجدت الروم يسيرون على سياسة معادية لليهود، وان النصرانية مهما كانت كنيستها هي فرع من شجرة واحدة هي الشجرة التي يقدسها الروم، فامتداد اي فرع منها إلى اليمن، كفيل بالحاق الأذى الذي لاقاه اخوانهم من البيزنطين بهم. وحاربت الإسلام بعد هجرة الرسول إلى المدبنة، لمّا تبين لها انه يدعو إلى رب العالمين، وانه لم يكن على ما ظنته حينما سمعت بدعوة الرسول وهو في مكة، من انه سيخضع لها، أو سيميل اليها، فتستفيد منه على الأقل، فلما وجدت الأمر غير ما ظنت، عندئذ خاصمته وانضمت إلى المشركين في محاربة الإسلام.

ولسنا نجد بين القبائل العربية يهوداً وفدوا اليها وأحباراً سكنوا بينها لاقناعها بمختلف الوسائل والطرق للدخول في دين يهود. نعم لم يفعل اليهود هذا كمافعله ألنصارى، ولهذا انحصرت سكنى اليهود عند ظهور الإسلام في هذه المواضع الخصبة وطرق المواصلات والتجارة البرية والبحرية من جزيرة العرب، وانحصر عملهم في التجارة وفي الربا وفي الزراعة وفي بعض الصناعات التي تخصصوا بها.

وهي أمور جعلت لهم نفوذاً عند سادات القبائل والأمراء والملوك.

وقد كانت لليهود مواضع يتدارس فيها رجال دينهم أحكام شريعتهم، وأيامهم الماضية، وأخبار الرسل والأنبياء، وما جاء في التوراة والمشنا، وغير ذلك. عرفت بين الجاهليين ب "المدراس" و "بيت المدراس" "والمدراش". وأطلق الجاهليون على الموضع الذي يتعبد اليهود فيه "الكنيس" و "كنيسة اليهود" تمييزاً لهذه الكنيسة عن "الكنيسة" التي هي لفظة خاصة بموضع عبادة النصمارى. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الكنيسة كلمة معربة من "كنشت" وهي لليهود، والبيعة للنصارى. وذهب بعض آخر إلى أنها متعبد الكفّار مطلقاً. وقد أخذ الجاهليون مصطلح "المدراس" من العبرانيين، من لفظة "مدراش" Midrash التي هي من أصل "درش"Darash التي تقابل "درس" في العربية، وتؤدي هذه الكلمة المعنى المفهوم من لفظة "درس" العربية تمام الأداء. ويقصد بالمدراش درس نصوص التوراة وشرحها وتفسيرها وإيضاح الغامض منها وأسرارها وامثال ذلك، وينهض بذلك المفسر الشارح "درشن" Darshan، ولكل طريقة واسلوب. وقد نجمت عن هذه الدراسة ثروة أدبية ودينية طائلة للعبرانيين. نتجت من اتباع جملة طرق في الشرح والتفسير، منها "مدراش هلاخه" Midrash Halachah و "مدراش هاكاده " Midrash، Haggadah، وتختلف هذه في كيفية اتباع طرق العرض والشرح والتفسير.

ولم يكن المدراس "المدراش" موضع عبادة وصلوات حسب، بل كان إلى ذلك دار ندوة ليهود يجتمعون فيه في أوقات فراغهم لاستئناس بعضهم ببعض وللبحث في شؤونهم، وللبت في القضايا الجسيمة الخطرة على اختلاف درجاتها.

فهو اذن مجمع الأحبار ومجمع الرؤساء والسادات وأصحاب الشرف فيهم، واليه كان يقصد الجاهليون حين يريدون أمراً من الأمور أو الاستفهام عن شيء يريدون الوقوف عليه، والية ذهب الرسول وكبار المسلمين لمحادثة يهود ومجادلتم فيما كان يحدث بينهم من خلاف أو من أمر يريدون البت فيه. ويقال انهم عرضوا أمام الرسول كتبهم، فكان يقرأها له بعضهم ممن دخل في الإسلام كعبدالله بن سلام أو بعض المسلمين ممن كان له علم وفهم في العبرانية لغة يهود.

قال "ابن عباس": "دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيت المدراس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن سرو، والحارث بن زبد: على أي دين أنت يا محمد ? فقال على ملة ابراهيم ودينه. فقالا: فإن ابراهيم كان يهودياً. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلموا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم، فأبوا عليه". ويظهر ان هذا المدراس كان من بيوت مدراسهم بيثرب.

وعرفت مساجد اليهود، أي المواضع التي كان يصلّون بها، بالمحاريب جمع محراب. وقد جاءت الاشارة اليها في بيت شعر منسوب إلى "قيس بن الخطيم". أما في النصرانية، فقد خصصت الكلمة بصدر الكنائس، وذلك على ما يفهم من الكلمة في الإسلام.

وعرف علماء اليهود ورجال دينهم ب "الأحبار" جمع "الحبر" وب "الربانيين" وقد وردت الكلمتان في القرآن الكريم". وللاسلاميين آراء في أصل "الحبر"، وهم يذكرون أن من معانيها العالم، والرجل الصالح. واللفظة من الألفاظ المعرية عن العبرانية أصلها "حبر" Haber وجمعها حبريم Habarim، ومعناها "الرفيق" Camrade و associate، وكانت ذات مدلول خاص ومعنى معين. وقد أطلقت في العهد التلمودي على العضوية في جمعية معينة، فاًطلقت في العصر الأول والثاني للميلاد على من كان من "الفروشيم"، وهم شيعة يهودية أقسمت على نفسها بمراعاة النصوص الدينية "اللاوية" على نحو ما نزلت وعلى نحو ما يفعله اللاويون.

وللفظة "حبر" أهمية كبيرة عند اليهود، فإنها تشير إلى العلم والمعرفة، وان كانت لا تصل إلى درجة "رابي" "ربي" Rabbi. ولا تزال مستعملة عندهم فيمن درس الشريعة اليهودية والعلوم الشرعية وتقدم فيها وأتقن الأحكام، وقضى بين الناس، غير أنها دون درجة Rabbi. فهي في العبرانية بمعنى عالم ولكن دون المعنى المفهوم في العربية عند علماء اللغة الاسلاميين، فهذا المعنى هو في مقابل لفظة Rabbi أي "ربّان" لا "حبر".

وقد وردت لفظة "حبر" في شعر للشماخ: كما خطّ عبرانية بـيمـينـه  بتيماء حبر ثم عرض أسطرا 

أما "الربانيون"، فهم العلماء بالحلال والحرام والأمر والنهي، على رأي بعض العلماء الاسلاميين. وقال بعض آخر: الربّان العالم الراسخ. في العلم والدين، أو العالم العامل المعلّم، أو العالي الدرجة في العلم. وفرّق بعضهم بين الربانيون وبين الأحبار باًن جعل الأحبار أهل المعرفة بأنباء الأمم وبما كان ويكون، وذهبوا إلى انها من الألفاظ المعربة العبرانية أو السريانية. وهي من الألفاط التي وردت في القرآن الكريم في اثناء الكلام على علماء يهود.

ويتبين من القرآن الكَريم انه قد كان للأحبار والربّانيين نفوذ عظيم على ا اليهود، فكانوا يطيعون أوامرهم ويفعلون ما يأمرونهم به، وان غالبيتهم لم تكن تفقه شيئاً ولا تعرف من أحكام دينها إلا ما يقوله لهم اولئك الأحبار. وبعض هؤلاء الأحبار هم من المقيمين في جزيرة العرب في المواطن التي أقامت فيها يهود،. وبعض منهم كان ياًتي إلى يهود العرب من. فلسطين: ولا سيما من "طبرية" التي اكتسبت شهرة عظيمة بعد خراب القدس "اورشليم" حيث استقر فيها "السنهدريم" وغدت مركراٌ عظيماً للعلوم عند اليهود، وفيها جمعت "المشنه" "المشنا" Mishna و "الماسورة" الكتاب الذي يبين كيفية تحريك كلمات التوراة.

وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من رجال يهود ممن أدركوا الإسلام، ذكر عنهم انهم كانوا أحباراً، وانهم كانوا أصحاب علم بالتوراة وبكتب الأنبياء.

وفي مقدمة من ذكروا، عبدالله بن صوري الأعور، قالوا:.انه لم يكن بالحجاز في زمانه من كان أعلم بالتوراة منه، وانه كان من بني ثعلبة بن الفطيون. ويقولون: إن الفطيون كلمة تقال لمن يلي امر اليهود وملكهم، كما ان النجاشي تقال لمن يلي ملك الحبشة.

وذكر "القلقشندي" أن المشهور من ألقاب أرباب الوظائف عند اليهود ثلاثة ألقاب: الأول الرئيس، وهو القائم فيهم مقام البطرك في النصارى، والثاني الحزّان، وهو فيهم بمثابة الخطيب يصعد المنير ويعظهم، والثالث الشَّيلحصبور، وهو الإمام الذي يصلي بهم.

وقد أطلق القرآن الكريم على أسفار اليهود، أي كتبهم المقدسة "التوراة".

وعرفت بهذه التسمية في الحديث وفي كتب التفسير، وصارت علماً لها في الإسلام. كذلك أطلقت هذه اللفظة على معابد اليهود، ولم يعرف ورودها في الشعر الجاهلي خلا بيتاً ينسب إلى شاعر جاهلي يهودي اسمه "سماك".

ولعلماء اللغة الإسلاميين آراء في أصل كلمة "التوراة"، حتى ذهب بعضهم إلى أنها عربية. ولكن ذوي اكثريتهم ترى أنها عبرانية، لأن لغة موسى كانت العبرانية، وبهذه اللغة نزلت التوراة. ثم هم يختلفون في تعيين حدود التوراة، فيرى بعضهم أنها خمسة أسفار، ويرى بعض آخر أنها أكثر من ذلك، وأنها تشمل الزبور ونبوة أشعيا وسائر النبوات، لا يستثنى إلا" الأناجبل.

وليس في القرآن الكريم تحديد لإسفار التوراة، ولكن اقتران لسم موسى بها في بعض الموارد منه يشير إلى ان المراد بها ما يقال له ب "الأسفار الخمسة" Pentateuch عند الغربيين. وهذه الأسفار الخمسة هي الأسفار المُنزلة المكتوبة التي نزلت على موسى على رأي قدماء العبرانيين. ثم توسعوا في مدلول اللفظة فيما بعد، فاًطلقوها على جميع الأسفار التي يقال لها العهد القديم. وأطلقتها بعض الفرق على غيرها من الأسفار مثل الأنبياء "نبيم" Nebiim، والكتب "كتوبيم" Kettubim.

وقد أورد القرآن في مخاطبة يهود وتقريعهم قصصاً عن الأنبياء والمرسلين والأمم القديمة، منه ما هو مذكور عندهم في الأسفار الخمسة،ومنه ما هو وارد عندهم في "الهكاده" وفي "المشنه". ولما كان في احتكاك الإسلام بيهود كان لأول مرة في منطقة يثرب، صارت معظم الاشارات الواردة في القرآن الكريم إلى التوراة في السور المدنية لمخاطبة الوحي لهم، وتوجيه الكلام مباشرة اليهم، ولم ترد تلك التسمية في الايات المكية إلا في موضع واحد هو في سورة الأعراف.

والمراد من "الكتاب" الذي أنزل على موسى، والمذكور في مواضع من القرآن الكريم التوراة، أي هذه الأسفار الخمسة التي نتحدث عنها. وهو تعبير قرآني لا نستطيع أن نقول إنه كان من مصطلحات الجاهليين، كما أننا لا نستطيع نفي ذلك، إذ يجوز أن يكون الجاهليون. قد أطلقوه على تلك الأسفإر، أو على العهد القديم كله، بمعنى هذه الأسفار وبقية مما ورد فيها من أخبار الأيام والملوك و الأنبياء.

وقد ورد في الأخبار عن "أبي هريرة"، أنه "كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله".

وقصد بعبارة أهل الكتاب، اليهود، لأنهم أصحاب كتاب موسى، وبينهم كان نزوله، ولذلك عرفوا به. ويظهر من خبر أبي هريرة هذا ومن أخبار أخرى في هذا المعنى ان اليهود كانوا يقرؤون على المسلمين كتبهم وهي بالعبرانية، ثم يفسرونها لهم بالعربية، وذلك في أيام حياة الرسول.

اما الزبور والزبر، فقد وردتا في القرآن الكريم. ويراد ب "الزبر" في بعض الآيات مثل: )وانه لفيُ زبر الأولين( الكتب المُنزلة القديمة. وقد وردت الكلمتان في بعض الشعر المنسوب إلى الجاهليين كامرىء القيس والمرقش الأكبر وأمية بن أبي الصلت. وذكر علماء اللغة ان معنى زبر كتب ونقش. ويرى بعض المستشرقين احتمال.كونها من الكلمات العربية الجنوبية. ويرى بعض آخر إنها من أصل "مزمور" Mazmor العبراني. و "مزمور"Mazmor في اللهجة السريانية، و "مزمور" Mazmur في الحبشية. أخذت الكلمة وأجري عليها بعض التغيير حتى صارت على هذا الشكل.

وقد وردت لفظة "الزبور" مفردة في موضعين من القرآن الكريم، في سورة النساء وفي سورة الأنبياء. أما في الموضع الأول، فقّد ورد فيه: )وآتينا داوود زبوراً (، ومعنى هذا أن زبوراً أو كتاباً من الكتب المنزلة نزل على داوود. أما الموضع الثاني، فقد أشير فيه إلى "زبور" معرف بأداة التعريف "ال": )ولقَد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الأرض يرثها عبادي الصالحون(. ولكن لم يضف إلى اسم نبي من الأنبياء، كما رأينا في الموضع السابق. وفد فسر بعض المفسرين كلمة "الزبور" في هذا الموضع بمعنى الكتاب وكتب الله المنزلة، أي على التعميم لا التخصيص.

ويراد بالزبور ما يقال له "المزامير" في الترجمات العربية للتوراة، و Psalms في الانكليزية، من أصل Psalmos اليونانية التي هي ترجمة لفظة "مزمور" Mizmor العبرانية، ومعناها المدائح والأناشيد. وهي أناشيد شعرية تُرَنّم في حمد الإله وتمجيده، ولذلك قيل لهذه المزامير "تحلّيم". tehillim في العبرانية. وtillim على سبيل الاختصار، و tillin في لهجة بني إرم.

وقد "قال أبو هريرة: الزبور ما أنزل على داوود، من بعد الذكر من بعد التوراة". وذكر بعض العلماء ان الزبور خص بالكتاب المنزل على داوود. وقد ذهب الشعبي إلى ان الزبور، الكتاب المنزل على داوود، أما الذكر فما نزل على موسى. وذهب آخرون مذاهب أخرى في تفسير المراد من الزبور ومن الذكر. ولكن الرأي الغالب ان المراد من الزبور، مزامير داوود. وذلك لنص القرآن على ذلك.

وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود اختلاف بين بني اسرائيل في فهم كتاب اللّه وتفسيره، وأنهم انقسموا لذلك شيعاً وأحزاباً. ولا يستبعد أن يكون هذا الاختلاف شاملاً ليهود الحجاز أيضاً، كأن يكون أحبارهم قد ساروا في اتجاهات مختلفة في التفاسير وفي شرح الأحكام وكان أصحابهم يتعصبون لهم ويتحزبون، على نمط الأعراب في عصبيتهم لقبائلهم، وفي اتباع أقوال ساداتهم دون تعقل وتفكير. أما مواضع الاختلاف ومواطن الفرقة التي كانت تفرق فيما بينهم، فلا نعرف اليوم من أمرها شيئاً، لأنها لم تدون ولم تذكر، ولم يشر القرآن اليها، ولكنها على كل لا تخرج ولا شك عما نعرفه من خلاف في أوجه النظر في المسائل المعروفة حتى اليوم في أمور الفروع.

ونحن لا نستطيع أن نتصور أن سواد يهود الجاهلية كانوا على علم بالكتابة وبالقراءة ثم بأحوال دينهم وأموره. وفي القرآن الكريم أن هذا السواد كان جاهلا ليس له علم ولا خبر باًمور دينه وشريعته، وأنه مقلد تابع لما يقوله له أحباره وربّانيوه. فكل ما كانوا يقولونه له، كانوا يرونه حقاً وعلماً. مع ان من بين أولئك من كان دجّالاً ليس على درجة من دراية وعلم، ومن كان ينطق بالباطل ولا يخشى الكذب، لينال بذلك كسباً ومالاً، وأنه كان لهؤلاء على أتباعهم ومقلّديهم سلطان عظيم.

وقد تعرض "ابن خلدون" لموضوع علم اليهود العرب وثقافتهم، فقال: "ذا تشوقت العرب إلى معرفة شيء مما تتشوق اليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبد الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يساًلون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم. وهم أهل التوراة من اليهود، ومن تبع دينهم من النصارى.

وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية.

فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك". فغالبية يهود جزيرة العرب في الجاهلية، هم في مستوى، يعد،دون مستوى يهود البلاد الأخرى، بسبب تبدّيهم وانقطاعهم عن غيرهم من اليهود.

وقد كانت لليهود مدارس تدارسوا فيها أحكام شريعتهم، وكان لهم أحبار وحاخامون علموهم أمور دينهم. ذكر أهل الأخبار انهم كانوا يكتبون بالعرانية أو بالسريانية، وذلك لاختلاف أهل الأخبار في تعيين تلك اللغة، وعدم تمكنهم من التمييز بينهما. وفي كتب الأخبار والتواريخ اشارات إلى اتصال بعض رجال مكة ويثرب باليهود والاستفسار منهم عن أمور الرسل والأنبياء و الماضين وعن بعض الأحكام. وفيها قصص اسرائيلي وجد له سبيلاً الىالعربية، يرويه القصاصون عن الرسل والاْنبياء، وأساطير لا يشك في كونها اسرائيلية الأصل. كما نجدألفاظاً عبرانية لاشك في أصلها وجدت لها سبيلاً إلى عربية الجاهليين بسبب اتصال اليهود بهم، واستعمالهم اياها، فتأثر بهم الجاهليون وأخذوها منهم واستعملوها أيضاً فصارت من المعربات.

وينسب إلى الشاعر "الأسود بن يعفر" بيت شعر هو: سُطورُ يهوديين في مهرقيهمـا  مُجيدين من تيماء أو أهل مدين 

واذا صحت نسبة هذا البيت اليه، يكون قد تعرف على يهوديين اثنين، وجدهما يجيدان الكتابة، وقد كتبا على المهارق. ولم يكن الشاعر على علم أكيد بموطنهما، فلم يدرِ اذا كانا من أهل تيماء أو من أهل مدين.

ولتعبير "مجيدين" أهمية خاصة، إذ يشير إلى تمييزه بين الكتابة الجيدة والكتابة الرديئة، والى وجود مصطلح "مجيد" عند الجاهليين، يطلقونه كما نطلقه اليوم على من يجيد الكتابة ويتقنها.

ولما كانت اللغة العبرانية لغة الدين عند العبرانيين، وبها نزل الوحي على موسى، فلا بد أن يكون لعلمائهم ورجال دينهم في جزبرة العرب علم بتلك اللغة وفقه بها. ولكن هذا لا يعني ضرورة كونهم كعلماء طبرية أو قيصرية في فلسطين أو بعض المواضع التي اشتهرت بعلمائها في التلمود"بالعراق، ولست أستبعد أن يكون لهم علم بلغة بني إرم أيضاً، لأن هذه اللغة كما نعلم كانت لغة العلم والثقافة قبل الميلاد وبعده، وبها كتبت كتب عدة من التلمودين، ثم إنها انتشرت بين سواد الناس حتى صارت لغة سواد يهود يتكلمون بها ولو برطانة وبلهجة خاصة هي اللهجة التي يمتاز بها سواد اليهود في كل قطر يعيشون فيه.

أما سواد يهود جزيرة العرب في الجاهلية: فلا أظن أنهم كانوا يتكلمون العبرانية أو لغة بني إرم، إنما أرى أنهم كانواّ يتكلمون لهجة من هذه اللهجات العربية. اًعني لهجة العرب الذين كانوا يعيشون بينهم وينزلون بين أظهرهم، ولم يرد في الأخبار ما يفيد أنهم كانوا يتحادثون بالعبرانية، بل الذي ورد أن عامتهم لم تكن تعرف تلك اللغة، وأن الخاصة منهم والمزاولين لحرفة الكتابة والسحر كانوا يعرفونها ويكتبون بها، وبها يعوذون أنفسهم وغيرهم من الناس. وكانوا يفسرون التوَراة والتلمود والكتب المقدسة لسواد الناس من العبرانية إلى العريية،لأنهم لم يكونوا يعرفون العبرانية، لا سيما وقد كان بينهم عرب متهودة. ولم يظهر في يهود جزيرة العرب من حاز على شهرة في العلم والفقه والتأليف والخطابة على نحو ما ظهر بين يهود العراق أو فلسطين أو مصر، وإلا لاشتهر أمره وذاع خبره، كما ذاع خبر علماء يهود بابل وفلسطين ومصر. ولا يمكن ان تكون عزلتهم عن بقية يهود الأقطار المذكورة سبباً كافياً في تعليل عدم شيوع اسم أحد من هؤلاء، إن قضية عزلتهم عن بقية اخوانهم في الدين، هي نفسها تحتاج إلى سند يثبت وجود تلك العزلة. فمواضعهم في أعالي الحجاز، على اتصال ببلاد الشام، وهي لا تبعد كثيراً عن مساكن اخوانهم في فلسطين. ثم انهم كانوا على اتصال مستمر بهم بالتجارة، وقد كانوا يشترون حاصل بلاد الشام من خمور وحبوب وما شاكل ذلك، وينقلونه إلى يثرب، يذهبون اليها للتعامل والاتجار، فكيف يكون يهود جزيرة العرب في معزل عن غيرهم مع وجود الأسفار والتجارة لا سيما ان احبار "طبرية" كانوا ياتون إلى يهود اليمن ليلقنوهم أمور الدين، ولا يستبعد ان يكون من بين اولئك الأحبار من ذهب إلى يهود يثرب أو خيبر أو تيماء.

فالقضية على ما يظهر، ليست قضية عزلة يهود جزيرة العرب عن بقية يهود وانفصالهم بذلك ثقافيأَ وعلمياً عن بني دينهم انفصالاً يؤثر في مستواهم الثقافي والعلمي، فيجعلهم دون غيرهم من اخوانهم في العلم والثقافة، انما يظهر ان هنالك جملة عوامل حالت دون نبوغ أحد فيهم. فيهود جزيرة العرب مهما قيل عنهم وعن رقيهم وارتفاع مستواهم عن مستوى من كان في جوارهم، لم يكونوا في ثقافتهم وفي مستواهم إلاجتماعي أرقى من الفلاحين وسكان القرى وما اليها في العراق او فلسطين أو مصر، كما ان حالتهم المادية لم تكن على مستوى عالٍ بحيث يمكن ان تقاس بالأحوال المادية التي كان عليها اليهود الآخرين في الأرضين المشار اليها، أو أصحاب تلك الأرضين من غير يهود. ثم ان عددهم مهما قيل فيه، لم يكن كبيراً. وقد رأينا ان رجالهم المحاربين لم يكونوا يتجاوزون كلهم في الحجاز كله بضعة آلاف، وفي مثل هذا العدد والظروف والأحوال لا يمكن بالطبع ان تتوفر الامكانيات المساعدة على البحث والتتبع والتعمق في العلم.

وقد عرف يهود يثرب بمعرفتهم السحر والاتقاء منه، وبعلمهم بالتعاويذ، فكان المشركون يلجؤون اليهم إذا احتاجوا إلى السحر أو اذا اعترضتهم مشكلات يرون أنها لا تحل إلا بقراءة التعاويذ عليها. وقد ذكر المفسرون أن اليهود عملوا السحر للنبى، عمله رجل اسمه "لبيد بن الأعصم" أو بناته وهو من يهود يثرب.

وقد اشير إلى سحر اليهود في الحديث.

وقد لجأ العرب إلى اليهود يأخذون منهم الرقى والتعاويذ. فقد ورد في الأخبار"أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها، فقال ابو بكر: أرقيها بكتاب الله. يعني: بالتوراة والانجبل 000"   

وقد حافظ يهود جزيرة العرب على حرمة السبت، ويوم السبت من الأيام المقدسة التي يجب مراعاة حرمتها مراعاة تامة، فلا يجوز ليهودي الاشتغال فيه، والقيام ببعض الأعمال. ومن خالف حرمة هذا اليوم ودنسه بالإشتغال فيه يكون قد ارتكب جرماً عظيماً.

وقد وردت إشارات إلى يوم السبت في مواضع من القرآن الكريم، في معرض الكلام على بني اسرائيل، واشير في بعضها إلى أخذ موسى العهد منهم بوجوب مراعاة حرمة هذا اليوم، والى نقضهم له وعدم مراعاتهم جميعاً لهذا العهد، والى أنهم اعتدوا فيه. وفي هذه الإشارات دلالة على أن من اليهود عامة من خالف حرمة هذا اليوم، فلم ينفذ ما ورد في أحكام شريعته عنه. ولكن هذا عام غير خاص بيهود العرب الجاهليين، وإنما يشير إلى خروج بعض بني اسرائيل على أحكام دينهم وعدم مراعاتهم لها، وهذا اليوم من أقدس الأيام في نظرهم.

وقد وقف العرب الذين كانوا على اتصال باليهود على بعض أحكام دينهم مثل: الرجم بالنسبة للزنا، واعتزال النساء في المحيض. فذكر العلماء ان حكم الإسلام في الحيض " اقتصاد بين افراط اليهود الاخذين في ذلك باخراجهن من البيوت، وتفريط النصارى. فانهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض"، ومثل الدعاء إلى الصلاة عند اليهود بالنفخ في "الشبور"، وذلك كما تحدثت عنه في موضع آخر، ومثل صوم "عاشوراء" وأعيادهم، ومثل الصلاة وأوقاتهم عندهم.

واستعمل يهود يثرب "القرن" في معابدهم، لاعلان صلواتهم وأعيادهم واعلان احتفالاتهم والحوادث المهمة التي قد تقع لهم. وقد كانوا يستعملون آلتين، يقال لاحداهما ال "شوفار" Shophar ومعناها القرن، ويقال للاخرى القرن، وتصنع من القرون كذلك. ولذلك اختلط الاْمر بينهما. والظاهر انهما كانتا تختلفان في نوع قرون الحيوانات التي تتخذان منها.

وقد اختلف يهود جزيرة العرب عن الجاهليين في الأمور التي حرمتها شريعتهم عليهم في مثل المأكولات، كما اختلفوا عنهم في عبادتهم وفي اعتقادهم بوجود إلهَ واحد، هو "إله اسرائيل"، وفي أمور عقائدية أخرى، واختلفوا عنهم في بعض العادات والمظإهر الخارجية، فكان اليهود مثلاً يسدلون شعورهم، اًما المشركون فكانوا يفرقون رؤوسهم. ورد عن ابن عباس: "أن النبي، صلى الله م عليه وسلم، كان يسدل شعره وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق النبي،صلى الله عليه وسلم،رأسه". ولا يستبعد اختلافهم عنهم في لبس بعض الملابس التي لم تكن مألوفة عند الجاهليين. وقد ظهر بين اليهود شعراء، نظموا الشعر بالعربية وعلى طريقة العرب في. نظم الشعر. منهم السموأل المشهور، و "كعب بن الأشرف" وسمّاك اليهودي، وسأتكلم عنهم في أثناء حديثي عن الشعر.

لم يسلم من يهود في ايام الرسول غير عدد قليل من المتبينين منهم. مثل: عبدالله بن سلام، ولم يتعاون معه غير عدد قليل منهم مثل يامين بن عمير بن كعب النضري، ويامين بن يامين الاسرائيلي، ومخيريق، وكان رجلاً غنياً صاحب نخيل، وهو أحد بني ثعلبة بن الفطيون، حث قومه على مساعدة الرسول ومعاونته في غزوة أحد. وكان الرسول قد طلب مساعدتهم لوجود صحيفة بينه وبينهم. فلما اعتذروا له بالسبت، خالفهم مخيريق قائلاً لهم: لا سبت لكم، وقاتل معه حتى قتل، فقال الرسول: مخيريق خير اليهود. وقد وصف بالعلم، وذكر انه كان حبراً عالماً فيهم. آمن بالرسول وجعل ماله له، وهو سبعة حوائط فجعلها الرسول صدقة.

أما عبدالله بن سلام، فكان يدعى، وهو في يهوديته، الحصين بن سلام بن الحارث. وسلام اسم والده. فلما أسلم سمّاه رسول الله "عبدالله"، وهو من بني قينقاع، أسلم والرسول في مكة لم يهاجر بعد، وذلك في رواية من الروايات. وأسلم بعد الهجرة على أكثر الروايات. ذكر انه كان شريفاً في قومه، سيداً، صاحب نسب وحسب، وانه كان حبراً عالمأَ. فلما أسلم، نبذه قومه، وتحدثوا فيه. وقد نزلت فيه بضع آيات.

أما أنه كان حبراً من الأحبار، عالماً في شريعتهم، فلا يمكن البت فيه، فقد جرت عادة أهل الأخبار على إطلاق كلمة "الحبر" على نفر ممن أسلم من يهود في أيام الرسول، كما أطلقت على نفر ممن أسلم بعده، مثل كعب الذي عرف بكعب الأحبار. ولا يمكن في نظري البت في درجات علم أمثال هؤلاء وفي مقدار فهمهم للتوراة ولكتب يهود إلا بجمع ما نسب اليهم من قول،ودراسته. عندثذ نستطيع أن نحكم على علمهم إن كان لهم علم بأحكام ديانة يهود وبالعالم وبها كان يتدارسه علماء ذلك العهد. ورأيي أن هذه الدرجات إنما منحها لهم بعض ذوي ا القلوب الطيبة من المسلمين الأولين، لما رأوه فيهم، ولما سمعوه منهم من أقوال نسبوها إلى الأنبياء والعلماء والى كتب الله القديمة، ولم يكن لهم بطبيعة الحال علم بها، لعدم وقوفهم على ما كان يتداوله الأحبار، فعجبوا من علمهم هذا، ومن إحاطتهم بأحوال الماضين، فعدّوهم أحباراً لهم في قومهم علم ورأي. وقد تساهل بعضهم في ذلك لظنه أن في منح هؤلاء أمثال هذه النعوت مما يفيد الإسلام، إذ يعني هذا تقدير أولئك الأحبار أصحاب العلم الأول له، وان تقديرهم هذا شهادة مزكية له. وقد يكون لهم نصيب أيضاً في منحهم هذه الدرجة لأنفسهم للتباهي وللتصدر بذلك بين المسلمين.

وقد نسب أهل الأخبار أقوالاً لابن سلام، نجد بعضها في كتب التفسير والحديث، ونجد بعضها في كتب السير و الأخبار. لبعضها طابع إسرائيلي، فهو من القصص المعروفة بالإسرائيليات، ولبعضها طابع الأقاصيص،. قد يكون "ابن سلام" صاحبها ومرجعها، وقد يكون غيره قد نسبها اليه.

وقد كان له ابنان، هما يوسف ومحمد، رويا عنه الحديث. وقد كنّي بأسم ولده يوسف، فعرف بأبي يوسف. ويعد يوسف من الصحابة، وله حديث عن الرسول، ويقال إن الرسول هو الذي سماه يوسفَ، وقيل ليست له صحبة. وقد روى عن جماعة من الصحابة.

وقد أسلم يامين بن يامين الاسرائيلي، على أثر إسلام عبدالله بن سلامْ.

وأما يامين بن عمير بن كعب، أبو كعب النضري، فهو من بني النضير. وقد ساعد اثنين من فقراء أصحاب رسول الله على تجهيزهما بشيء من التمر ليتمكنا بذلك من الالتحاق بالجيش الذي سار في السنة التاسعة من الهجرة لغزوة تبوك. أسلم فأحرز ماله من بني النضير، ولم يحرز ماله من بني النضير غيره وغير أبي سعيد بن عمرو بن وهب، فأحرزا أموالهما. وذكر أن النبي قال ليامين: ألم ترَ إلى ابن عمك عمرو بن جحاش وما همّ به من قتلي ? وكان أراد أن يلقي على النبى رحى فيقتله. فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله.

وكان فيمن أسلم من بني قريظة "كعب بن سليم القرظي"، وهو من سبيهم فيَ الإسلام، ويعد في الصحابة، ولكن لا تعرف له رواية، وهو والد محمد بن كعب القرظي المعروف بروايته عن أحداث يهود مع النبي، وعن بعض أخبار بني اسرائيل. وله روايات في حديث الرسول عن بعض الصحابة، ويعد من التابعين. يقال: انه ولد في حياة الرسول، وتوفي ما بين سنة ثمان ومئة وسنة عشرين ومئة. وقد عدّه علماء الحديث في طبقة الثقات الورعين.

وفيمن أسلم من يهود بني قريظة رفاعة القرظي،وهو رفاعة بن سموأل "سموال"، وقيل: رفاعة بن رفاعة القرظي من بني قريظة، وهو خال صفية زوجة النبي، لأن أمها برة بنت سموأل "سموال"، أما أبوها، فهو "حيى بن أخطب" من رؤساء يهود، وكان من كبار المعارضين له، وهو من بني النضير.

ويعدّ "زيد بن سَعٌية" "سعنة" في طبقة الصحابة، ويقال انه كان أحد أحبار اليهود الذين أسلموا، وانه كان أكثرهم علماً ومالاً، وقد شهد مع النبي مشاهد كثيرة، وتوفي في غزوة تبوك مقبلاً إلى المدينة.

ويعدّ "عطية القرظي" من الصحابة كذلك، كان صغيراً حين غزا النبي بني قريظة، ولذلك لم يقتل، فاسلم، وصحب النبي.

ولم يظهر من يهود اليمن في الإسلام ممن عرفوا برواية الإسرائيليات سوى رجلين، هما: كعب الأحبار، ووهب بن منبه. فأما كعب الأحبارر، فقد ادرك زمن الرسول، غيرأنه لم يره، ولم يدخل في الإسلام إِلا في ايام أبي بكر أو عمر، وهو أبو اسحاق كعب بن ماتع بن هينوع "هيسوع"، وقد عرف بين المسلمين بكعب الأحبار وبكعب الحبر من باب التعظيم والتقدير لعلمه. وقد أتاه هذا اللقب من علمه بالشريعة وبكتب الأنبياء وباخبار الماضين، وهو علم لا نستطيع أن نحكم على درجته ومقدار بعده أو قربه من العلم الذي كان منتشراً بين أحبار ذلك العهد ما لم نقف على الأقوال الصحيحة التي صدرت عن ذلك الحبر. أما هذا المروي عنه والمذكور في تفسير الطبري وفي تاًريخه وفي كتب من كان يعنى بجمع القصص ولا سيما قصص الرسل والأنبياء،فليس في استطاعتنا التصديق بأنه كله صادر من فم كعب، إذ يجوز أن يكون من رواية أناس آخرين ثم حمل على كعب.

ولم ينسب أحد إلى كعب مؤلفاً،وكل ما نسب اليه فهو مما ورد عنه بالمشافهة والسماع. وهو بين صحيح بمكن أن يكون قد صدر منه، وبين مشكوك في أمره وضع عليه، وفيه ما هو اسرائيلي صحيح، أي انه مما هو وارد في التوراة أو في التلمود أو في الكتب الاسرائيلية الأخرى وفيه ما هو قصص اسرائيلي نصراني، وما هو محض افتعال وخلط. وبالجملة، إن هذا الوارد عنه يصلح أن يكون موضوعاً لدراسة، لمعرفة أصوله وموارده والمنابع التي أخذت منه. وعندئذ يمكن الحكم على درجة أصله ونسبه في علم بني اسرائيل، وامكان صدوره من كعب أو من غيره، ومقدار علم كعب ووقوفه على الإسرائيليات.

وأما وهب بن منبه، فيعدّ من التابعين، ويعد مرجعاً مهما في القصص الاسرائيلية ويقال انه حصل على علمه من كتب الأولين، وإن أخاً له كان يذهب إلى الشام للتجارة فيشتري له الكتب ليطالعها، وانه كان على علم غزير بأحوال الماضين، وكان ملماً بجملة لغات. وإذ كان وهب من المتأخرين وكان نشاطه في الحركة الفكرية في الإسلام لا في الجاهلية، لم نجعل له في هذا الموضع مكاناً، انما مكانه في الأجزاء المتعاقبة بتأريخ الإسلام.

هذه قصهْ يهود جزيرة العرب قبل الإسلام، قصة لا تستند إلى مؤلفات تأريخية كتبت في تلك الأيام، ولا إلى نصوص جاهلية عربية أو أعجمية لها علاقة بيهود كتبت في ذلك العهد، ولكن استند، في أكثر ما حكيناه،إلى موارد اسلامية، ذكرتهم وأشارت اليهم لمناسبة ما وقع بينهم وبين الرسول من خلاف، وقد ورد شيء كثير بحقهم في القرآن الكريم وفي الحديث وفي الأخبار ولا سيما اخبار الغزوات، يتعلق معظمه بأمر الخصومة التي وقعت بينهم وبين النبي عند قدومه يثرب، فهو لا صلة له لذلك إلا بما له علاقة بهذه الناحية. وما ورد عنهم إذن هو من مورد واحد وطرف واحد. أما الطرف الثاني من أصحاب العلاقة بهذا التأريخ والشأن، وأعني بهم اليهود، فلا صوت لهم فيه، ولا رأي. فلم تصل الينا منهم كتابة ما عنهم في علاقتهم بالاسلام. كذلك لم تصل الينا كتابة أو رواية أو خبر عن أولئك اليهود في الموارد التأريخية التي دونها غيرهم من مؤرخي يهود وكتابهم عن علاقة يهود جزيرة العرب بالاسلام، وعن اجلاء يهود الحجاز من مواضعهم إلى بلاد الشام، لافي العربية ولا في العبرانية ولا في بقية اللغات، مع ما لهذا الحادث من خطر في تأريخ اليهود في جزيرة العرب. ولعل الأيام تكشف لنا عن موارد في العبرانية أو في لغة بني إرم تذكر أحوال يهود جزيرة العرب قبل الإسلام وعند ظهوره، وتكشف عن اثار يهود في المواضع التي كانوا يسكنونها في الحجاز، فتبتّ في أمور كثيرة عن حياة هؤلاء. وليس احتمال عثورنا على مثل هذه الاثار ببعيد، فلا بد ان يعثر حجر من الحجارة المكتوبة التي توضع فوق القبور، فنعرف منه ما لغة الكتابة التي كان يستعملها أولئلك اليهود، أهي العبرانية، أو العربية، أو لغة بني إرم، أو أبجدية من الأبجديات المشتقة من القلم المسند ? وقد يعثر على نصوص أطول من هذه النصوص التي توضع على القبور، تكشف النقاب عن أمور أخرى مهمة تفيدنا في معرفة أحوال اليهود ببلاد العرب قبل الإسلام.

وما دمنا لا نملك نصوصاً يهودية جاهلية، ولا نصوصاً عربية جاهلية تتعرض ليهود، فليس في وسعنا إذن أن نتحدث باطمئنان عن أثر اليهود في الجاهليين أو أثر الجاهليين في اليهود. لقد تحدث عدد من المستشرقين عن أثر اليهود في الجاهليين، فزعموا أن لليهود أثراَ عميقاً فيهم، فالختان مثلاً هو أثر من آثار يهود في العرب، وشعائر الحج عند الوثنيين أكثرها هي من اسرائيل، فالطواف حول البيت يرجع أصله إلى بني اسرائبل، ذلك أن قدماءهم كانوا يطوفون حول خيمة الإلَه "يهوه" إله اسرائيل ومنهم تعلمه الجاهليون واتبعوه في طوافهم بالبيت. والاجازة بعرفة يهودية كذلك، لأن الذي كان يجيز الحجاج بعرفة فيأمر الحجيج بالرمي بعد أن يلاحظ الشمس، وقت الغروب يعرف ب "صوفة"، وصرفة تسمية عبرانية لها علاقة وصلة بهذه الوظيفة وظيفة مراقبة غروب الشمس وتثبيت وقته، فالإجازة اذن عبرانية الأصل. و "منى" صنم من أصنام اسرائيل،ووادي منى على اسم هذا الصنم الإسرائيلي، وأسماء أيام الاسبوع هي تسميات أخذت من يهود، ولفظة "المدينة" التي تطلق على يثرب، أطلقها اليهود على هذا الموضع قبل الإسلام، وقد أخذوها من الإرمية، لتميز هذا المكان عن "وادي القرى". وأشياء أخرى عديدة من هذا القبيل.

وقد غالى بعض اليهود في تقدير يهود جزيرة العرب، فذهب إلى أن أولئك اليهود جلهم إن لم يكونوا كلهم كانوا يحسنون قراءة الكتاب المقدس، بدليل اطلاق القرآن الكريم عليهم "أهل الكتاب". وقد فاته أن عبارة "أهل انكتاب" لا "تعني أهل الكتابة، بمعنى أنهم كانوا أصحاب علم بالكتابة، وإنما المراد من ذلك أهل كتاب منزل سماويّ. ويدخل في ذلك النصارى أيضاً لوجود كتاب سماوي لديهم كذلك هو الانجيل. وقد رأيت أن القرآن الكريم قد وصف بعضى الأحبار بالعلم، كما رمى أكثرهم بالجهل. أما السواد الأعظم منهم، فقد جعلهم عامةً تتبع أقوال رجالها، فلا علم لها ولا معرفة بأمور الماضين أو الحاضرين.

وأنا لا أريد هنا أن أجادل في نفي هذه الأمور، أو اثباتها، فأخذ الشعوب واقتباسها بعضها عن بعض، من القضايا التي لا يمكن أن ينكرها إلا المعاندون الجاهلون المتعصبون. وقد رأيت ان ابن الكلبي وغيره من قدامى الأخباريين قد أشاروا إلى أن أصل بعض الأصنام عند العرب هو من الشمال،استورد في مناسبات أشاروا اليها، كما أن التنقيبات الأثرية قد أثبتت وجود صلات فكرية بين جزيرة العرب وبين العالم الخارجي، وأن ما يزعمه القائلون بعزلة الجاهليين عن بقية العالم هو هراء لا يستند إلى دليل. ولكني في هذه الأمور من الحذرين. أكره الجزم في بشيء من غير برهان قاطع ودليل محسوس. فكلام أهل الأخبار، أكثره مما لا يمكن الاعتماد عليه، وقد رأينا طبيعة أكثره ونوعه. ثم إن الكثير مما له علاقهّ بيهود وبالدين هو مما أخذ من أهل الكتاب في الإسلام أو من أفواه مسلمة أهل الكتاب. فهو متأخر عن الجاهلية، فلا يمكن أن يشمل الجاهليين من اهل الكتاب ومن وثننين. وعلينا الان التمييز بين هذا الذي أدخل بين العرب بعد أيام الجاهلية وبين ذلك الذي كان معروفاً عند الجاهليين وقد ورد عنهم، وذلك لنتمكن من ابداء رأي في هذه القضايا المعقدة.

ثم إن العرب كانوا شعباً سامياً، كاليهود في اصطلاح العلم،وتشترك البطون السامية في كثير من أصول التفكير والعقيدة، ومعنى هذا ان ما تجده عند يهود قد يكون عند العرب وعند غيرهم ممن يدخلهم المستشرقون في هذه الزمرة. فلم كل شيء ليهود، ونحكم على ان الجاهليين قد أخذوه منهم، ولا نقول إن هذا من فلك التراث القديم الموروث ? أنا لا أقول ذلك متأثراً.بدافع من للعصبية، انما أقول ذلك لأني أدين بفكرة هي ان الاستعجال في اصدار الأحكام بغير دليل خطأ فاحش لا يجوز لانسان يشعر بانسانيته اًن يوقع نفسه فيه.

هذا ولا بد بالطبع من ان يتأثر الجاهليون المجاورون لليهود بعض للتأثر بهم، بأن يأخذوا منهم بعض الأشياء ويتعلموا منهم بعض الأشياء التي تنقصهم. والتي هم في حاجة ماسة اليها. فذلك أمر لا بد منه. بهما ولا بد وان يكون اليهود قد اقتبسوا أشياء من جيرانهم العرب، وعملوا على محاكاتهم في حيانهم الاجتماعية، لاسيما ويينهم يهود من أصول عربية.

الفصل الثامن والسبعون
شعر اليهود

واللغة التي كان يتكلم بها اليهود، هي اللهجات العربية التي كان يتكلم بها أهل المناطق التي ينزلونها. ولتكلم اليهود في كل قطر بحلون فيه بشيء من الرطانة، لا يستبعد أن تكون لغتهم العربية التي كانوا يتكلمون بها عربية. تشوبها الرطانة العبرانية. ولكن هذا لا بمنع من وجود أناس فيما بينهم كانوا يتكلمون ويكتبون بالعبرانية، ولا سيما أنهم كانوا يستعملون العبرانية في دراسة أمورهم الدينية وفي كتابة النشرات والتعاويذ، كما كانوا يستعملونها في السحر. وقد وردت إشارات إلى ذلك في كتب الحديث. وقد ورد أيضاً أنهم كانوا يعلمون أطفالهم العبرانية في الكتاب.

ويروي رواة الشعر شعراً جاهلياً زعموا ان قائليه هم من يهود. وأكثره ابيات لشعراء لا نعرف من امرهم شيئاً، لعلها بقايا قصاثد. أما القصائد، فينسب أكثرها إلى السموأل بن عادباء صاحب حصن الأبلق في تيماء، وصاحب قصة الوفاء المشهورة. وهذا الشعر المنسوب إلى اليهود، لا يختلف في طريقة نظمه وفي تراكيبه ونسقه عن شعر الشعراء الجاهليين، ولا نكاد نلمس فيه أثراً لليهودية ولا للعبرانية. فالفاظه عربية صافية نقية مثل ألفاظ أهل الجاهلية، وأفكاره على نمط أفكار الجاهليين. ويصعب ان تجد فيه أثراً للتوراة والتلمود، مما يحملنا على التفكير في صحة هذا الشعر وفي درجة تعمق صاحبه وتفهمه لدين يهود.

ومن الشعراء الذين روى الأخباريون شيئاً من شعرهم بعد للسموأل: "أوس ابن دنن"، وهو من بني قريظة، و "كعب بن سعد القرظي"، و "سارة القريظية"، و "سعية بن غريض بن عادباء" "شعية ين غريض بن عادباء"، و "الربيع بن أبي الحقيق"، و "أبو الديال" "أبو الزناد"، وله شعر في رثاء يهود تيماء الذين أجلاهم الرسول و "شريح بن عمران"، و "كعب ابن الاشرف"، و "أبو رافع اليهودي".

وروى ان "جعفر ين محمد الطيلسي" جمع أشعار اليهود في ديوان، ويظهر انه أخذ ذلك من كتاب للسكري. ويقال إن الموفق بالله أخا الخليفة المعتمد العباس طلب من الوزير اسماعيل بن بلبل" ان يقدم اليه ديواناً في شعر اليهود، فطلب الوزير من العالم اللغوي الأديب "المبردّ" ان يقدم اليه ديواناً في شعر يهود، فاًخبره المبرد انه لا يعرف شعراً لليهود. فطلب الوزير من العالم "ثعلب" ان يقدم اليه ما عنده من شعر لليهود، فأجابه ان لديه ديواناً من شعرهم، فقدمه اليه.

وقد كانت بين المبرد" وثعلب خصومة شديدة ومنافسة عنيفة، فلعل هذا الخبر هو من مرويات الجماعة المتعصبة لأحد الطرفين في الطعن في أحدهما والحط من شأنه، فقد تحزّب طلاب العلم وانقسموا جماعتين، كل جماعة كانت تنتصر لصاحبها، إذ لا يعقل ألا يكون للمبرد علم بشعر لليهود، وقد ذكر من سبقه مثل أبي تمام في حماسته والجمحي في طبقات الشعراء كما ورد في الأصمعيات شعراً لهم، كما ان في كتابه الكامل، نتفاً من شعرهم، أو لعل إنكاره لشعرهم بمعنى ان أكثر ما نسب اليهم من شعر هو في نظره مزيف مصنوع، ولهذا لم يُعن بجمع ما ورد عنهم، ولا يمكن ان يكون ديواناً في شعر يهود.

والشعراء اليهود الذين ذكرهم إلجمحي في كتابه، "طبقات الشعراء"، هم: السموأل بن عادباء، والربيع بن أبي الحقيق، وهو من "بني النضير"، وكعب بن الأشرف، وشريح بن عمران، وشعبة بن غريض "شعية بن غريض" وأبو قيس بن رفاعة، وأبو الذيال، ودرهم بن زيد. وقد ذكر لهم أبياتاً مما قالوه من الشعر.

والسموأل، وهو من سادات يهود الحجاز ومن أثريائهم وملاكهم، أحسن الشعراء اليهود حظاً في الخلود. بقيت أشعاره َ وحفظت قصائده، ولم يبخل علماء الشعر عليه، فجمعوا شعره في ديوان. ولم يشأ الزمان أن يبخل عليه فهيأ له من طبعه. ولا تزال تلك القصة: قصته مع مخلفات امرئء القيس مضرب الأمثال. وصير هذا الشاعر الملاك المرابي مثلاً وقدوة للاوفياء، فضرب به المثل وقيل: أوفى من السموأل، ولعل القصيدة المبتدئة بهذه الأبيات: وفيت باًدرع الكندي، إنـي  إذا ما ذمً أقـوام وفـيت

وأوصى عادياً يومـاً بـأل  اّ تهدمَ يا سموأل ما بنيت

بنى لي عادياً حصناً حصينا  وماء كلما شئت استقـيت

هي التي خلدت هذه القصة، وصيرت لها فروعاً وذيولاً، وهي قصة تجعل الكندي المقصود بها هو الشاعر الشهير امرأ القيس وهي التي خلدت اسم صاحب ذلك الحصن.

ونجد هذه القصة في قصيدة "للاعشى، يقال إنه قالها مستجيراً بابن السموأل شريح، ليفكه من أسره، وكان قد وقع أسيراً في يد رجل كلبي كان الأعشى قد هجاه، ثم ظفر به الكلبي، فأسره وهو لا يعرفه، فنزل بشريح بن السموأل وأحسن ضيافته، فلما مرّ بالأسرى، قال الاعشى أبياتأَ يمدحه فيها، ويمدح اباه، ويذكر كيف أن أباه اختار أدراع اإلكندي، وأبى إلا أن يسلمها إلى آله وذويه، على "أن يسلمها إلى آسري ابنه إذا أطلقوه. وهي أبيات نجته من أسر الكلبي، ففر منه بعد أن وهبه لشريح وهو لا يعرف به. فلما عرف به، ندم. ولكن ندمه هذا لم يفده شيئا لانه جاء بعد فوات الوقت.

ويروي الأخباريون ورواة الشعر أشعاراً أخرى للاعشى قالها في مدح السموأل وفي وصف حصنه وفي سرد قصة وفائه، تجد فيها مصطلحات وجملا وكلمات ترد أيضاً في الشعر المنسوب إلى السموأل. وهذا ما يحملنا على التفكير في كيفية حدوث ذلك ووقوعه. هل حدث دْلك لوقوف الأعشى على شعر السموأل واقتباسه منه، باعتبار أن السموأل أقدم عهداً منه أم حدث بتوارد الخواطر والمعاني فهو من قبيل المصادفة ليس غير، ام صنع فيما بعد على لسان السموأل بعد شيوع هذا الشعر المنسوب إلى الأعشى صاحب الأبلق الفرد، ام الشعران مصنوعان صنعا في الإسلام ووضعا على لسان الرجلين ? وبالجملة ان أكثر ما ينسب إلى السموأل، هو من النوع المصنوع الذي شك فيه، وبعضه مما نسب إلى غيره من الشعراء.

أما جامع شعر السموأل في ديوان، فهو ابراهيم بن عرفة الملقب بنفطويه 323-324ه، من مشاهير علماء العربية: وبعض ما هو مذكورفي هذا الديوان، مثل قصيدته الشهيرة: اذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه  فكـل رداء يرتـديه جـمــيل

مذكور في حماسة أبي تمام، وبعضه من مرويات الأصمعي ولم يذكر نفطويه جامع الديوان سنده في رواية هذا الشعر. وهذا السند مهم جداً عند المؤرخ للوقوف على كيفية حصول هذا العالم على شعر السموأل، ولمعرفة صحة نسبته اليه.

وفي الشعر المنسوب إلى السموأل جزء منحول مصنوع، وضع عليه، وجزء منسوب إلى غيره، وقد أشار اليه العلاء. ونحن أذا قمنا بغربلته وتنقيته نجد أقله له.وأكثره لغيره،. قد يكون من صنعة شاعر آخر، وقد يكون من وضع وضَعَة الشعر ومفتعليه. ثم اذا فحصنا هذا القليل الذي بتفق أهل الأخبار على انه له، لا نجد فيه ما يشير إلى وجود أثر لدين يهود في هذا الشعر.

وقد استدل الأب "شيخو" على نصرانية ذلك الشاعر، من قصيدة نسبت الى السموأل، ورد فيها شيء من القصص الديني، والأب شيخو لا يكتفي بنصرانية للسموأل وحده، بل يرى ان للنصرانية هي ديانة جميع الشعراء الجاهليين، ولهذا ألف فيهم كتابه "شعراء النصرانية" وتحدث فيه عنهم على انهم نصارى مؤمنون بدين المسيح. وقد فاته شيء واحد لا أدري كيف عزب عن باله، عفا الله عنه، هو: تعيين " مذههبم في النصرانية، ونصه على ترهبهم وتنسكهم ولبسهم المسوح على طريقة الرهبان.

ومن القصائد المنسوبة إلى السموأل، قصيدة مطلعها: الا أيها الضيف الذي عاب سادتي  ألا اسمع جوابي لست عنك بغافل 

ختمها بهذا البيت: وفي آخر الأيام جاء مسيحنـا  فاًهدى بني الدنيا سلامَ التكامل 

وهي قصيدة تختلف في أسلوب نظمها وفي العرض العام عن طرق النظم المألوفة في الشعر قبل الإسلام، والشعر المنسوب إلى السمواْل. وقد وردت فيه كلمة "رحمانهم" وأشير فيها إلى قصة ابراهيم الخليل، والذبيح ابنه، والى تسميته باسرائيل، ثم إلى الأسباط. وقصة بني اسرائيل مع فرعون مصر. وفد أغرق الله فرعون في البحر. والى القدس والطور، وأمثال ذلك.

وهذه القصيدة هي رد لأقوال رجل يظهر أنه عاب بني اسرائيل، وتهجم عليهم، فأثار هذا التطاول صاحب هذه الأبيات فنظمها في الردّ عليه، وفي الفخر بقومه، مستشهداً على ذلك بالقصص الوارد في التوراة عن بني اسرائيل وعن الأنبياء: ابراهيم وإِسحاق ويوسف، وختمها بالبيت الذي روبته منها عن مجيء المسيح، وقد دعاه ب "مسيحنا" لأن المسيح من اليهود. ذكر المسيح فيها بعد حديثه عن موسى وتكليم الربّ له على جبل الطور، وهو انتقال فجائي غريب ليست له صلةٌ ما بالأبيات المتقدمة.

والحوادث المذكورة في هذه القصيدة والاستشهادات التي استشهد بها الشاعر، وإن كانت مما هو مذكور في "الكتاب المقدس." بجزءيه، تدل على أن ناظمها قد استعان في نظم المصطلحات التي استعملها وطريقة تعبيره عن الحوادث بالقرآن الكريم، وبالقصص الوارد في كتب سير الرسل والأنبياء، وأن الغاية من نظَمها هو إثبات مجيء المسيح، وقد جاء وشهادة شاعر يهودي مفيدة ولا شك في هذا الباب.

ولم ترد هذه القصة في ديوان السموأل ولا في كتب الأدب القديمة. وعدم ورودها في تلك الموارد، دليل بالطبع على أنها مما وضع بعد تدوين شعر السموأل في الديوان المنسوب اليه وفي كتب الأدب القديمة، وأن هذه القصيدة هي من للشعر المصنوع المتأخر بالنسّبة إلى بقية ما نسب اليه.

وللسموأل آراء دينية تراها في هذا الشعر المنسوب اليه، في بعضه إقرار بالبعث والحساب، وأن المليك وهو الرب يجازي الإنسان على ما قام به وما فعله من خير أو شرّ، وأن اللّه قد قدّر كل شيء وقضى به، وان كل ما قدره كائن ولكل رزقه وان الإنسان ميت من يوم يولد، وفيه جرثومة الموت،ولد من ميت، ثم يموت،ثم يبعث تارة أخرى للحساب والكتاب،ولكل أجل.

وفي قصيدة تائية: نطفة ما منيت يوم منـيت  أمرت أمرها وفيها بريت 

كنّها اللّه في مكانٍ خفـي  وخفيّ مكانها لو خفـيت

وهي فىِ كيفية نشوء الإنسان منَ منيُ يمنى، وهي فكرة يظهر ان صاحب هذا الشعر اقتبسها من القرآن الكربم، نظراً لمظهر التأثر به في تعبيره عن كيفية خلق الإنسان. وقد تطرق في هذه القصيدة إلى ما ذكرته من اعتقاده بالموت وبالبعث بعده وبالحساب والثواب والعقاب، والى سليمان والحواري، يحيى وبقايا الأسباط أسباط يعقوب دارس التوراة والتابوت. والى انفلاق البحر لموسى وأشار إلى طالوت وجالوت. والاشارات الموجزة هذه، وإن كانت لقصص موجود في التوراة، لم يعتمد الشاعر عليها، بل اعتمد على القرآن الكريم. ف "طالوت مثلاً غير مذكور في التوراة، انما ذكر في القرآن الكريم. وهو اسم الملك "شاؤول" في التوراة. وفي أخذ الشاعر بهذه التسمية القرآنية التي لا وجود لها في التوراة دليل على انه وضع شعره بعد نزول القرآن، أي في الإسلام. وأما "جالوت" فلفظة وردت في كتاب الله كذلك، وهي تقابل Galiath في العهد القديم. ويلاحظ ان صاحب القصيدة قد أخذ مصاب "جالوت" من القرآن الكريم، كما انه سار على نهجه في ذكر طالوت وجالوت، وهو ينفرد بذلك عن التوراة، وشعر فيه هذه المصطلحات وهذه المعاني، لا يمكن أن يكون شعرا يهوديا جاهليا، بل لا بد أن يكون من الشعر المصنوع المنظوم في الإسلام.

فليس في شعر السموأل إذن شيء خاص من الأشياء الني انفردت بها يهود، وهذا الفخر الذي نراه في اسرائيل وفي الأسباط هو فخر يقوم على نمط فخر القباثل بقبائلهم، وليس شيئاً فن دين. ثم إن بنا حاجةً إلى اثبات أنه من نظم السموأل حقاً، وأنه ليس من نظم إنسان آخر قاله على لسان السموأل في مدح اليهود وفي الفخر بهم. ولا عجب أن يقوم إنسان بوضع شعر على لسان السموأل أو غيره من الشعراء الجاهليين، فكتب الأدب مليئة بشواهد تذكر أسماء قصائد منتحلة، وضعت. على ألسنة شعراء جاهليين، وأسماء من انتحل ذلك الشعر. ولم يكن انتحال ذلك الشعر عملاً سهلاً، إذ لا بد له من قدرة وعلم ومعرفة بأساليب شعر الماضين. وقد كان حمّاد الراوية، وهو أديب كبير وراوية شهير، على رأست طبقة المنتحلين الوضاعين للشعر.

واشهر للقصائد والأشعار المنسوبة إلى للسموأل، للقصيدة المقولة في الفخر التي مطلعها: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه  فكـل رداءً يرتـديه جـمــيل

وهي قصيدة شهيرة معروفة تعد نموذجاً في الفخر والحماسة وفي حسن النظم، ولذلك تحفظ في المدارس حنى اليوم، ويضيف اليها بعض العلماء هذا الييت: هو الأبلق الفرد الذي سارذكره  يعز على من رامه ويطـول

وبعض العلماء يزيد عليها وينقص منها أبياتاً أخرى. وهي مع ذلك مما يعزوه بعض العلماء إلى شعراء آخرين، فعزاها بعضهم إلى عبد الملك بن عبد الرحيم الحارني، أو عبدالله بن عبد الرحمان، وقيل ابن عبد الرحيم الأزدي، وهو شاعر شامي إسلامي.

وينسب بعض الرواة القصيدة المذكورة إلى شاعر إسلامي آخر يسمى "دكن" الراجز، فترى من هذا مبلغ الاختلاف في صحة نسبة هذه القصيدة إلى السموأل.

ولم يرد في ديوان السموأل. ولا في بعض الكتب الأخرى البيت المتقدم، وأعني به قوله: هو الأبلق الفرد الذي ساز ذكره  يعزّ على من رامـه ويطـول

ولعدم وروده في ديوانه أهمية بالطبع، إذ يجوز ان تكون هذه الزيادة متعمدة لثابات انها من شعر السموأل حقاً، وآية ذلك " ورود "الأبلق الفرد" في هذه القصيدة، وليس هناك حصن اشتهر وعرف بهذه التسمية غير هذا الحصن.

وينسب إلى السموأل قوله معتذراً لرجل من ملوك كندة: وإن كنت ما بلغت عني فلامني  صديقي وحزت من يدي الأنامل 

وقد ذكر هذا البيت، وكذلك بيت آخر معه في ديوانه. غير ان بعض العلماء ينسبها إلى معدان بن نجواس بن فروة السكوني.

ولللاخباريين روايات تختلف بعض الاختلاف في اسم والد السموأل فمنهم من جعله عادباء، ومنهم من دعاه أوفى، ومنهم من سهاه حيّان، "حسان"، ومنهم من قال له "السموأل بن غريض بن عادبا". وهم يقولون انه يهودي، ويقولون أحياناً انه من غسان، وغسان بالطبع ليست من يهود. ومنهم من قال ان والده من يهود، أما أمه فكانت من غسان. فهو اذن ذو نصفين - اذا صح التعبير - نصف يهودي، ونصف اخر عربي. ثم هم يذكرون انه كانت له صلات وثيقة بأمراء غسان، ولصلته هذه بهم قصد امرؤ القيس، طالبا وساطته له عند الحارث بن أبي شمر الغساني، ليوصله إلى قيصر، فينال بمساعدته حقه من خصومه 0 اًما نحن، فلا يهمنا من أمر السموأل في هذا المكان شيء، وكل ما يهمنا هو ما له صلة بدين اليهود، وعقيدة يهود الجاهلية في الحجاز. ويستشهد الذين يذكرون ان اسم والد السموأل هو "عاديا" ببيت شعر نسبوه إلى السموأل هو: بني لي عاديا حصنا حصينا  وعيناً كلما شئت استقـيت

فقالوا أن أباه "عاديا" اليهودي، وهو باني ذلك الحصن.

وقد جعل "ابن دريد" نسب "السموأل" في "بني غسان"، وجعل عمود نسبه على هذا النحو: "السموأل بن حيّا بن عادياء بن رفاعه بن الحارث،بن ثعلبه بن كعب".

ولا يستبعد بعض المستشرقين.احتمال كون السموأل من اصل عربي، هو من غسلن. تهود في جملة من تهود من العرب، لا سيما أن في منطقة يثرب أحياء نص على أصلها العربي، دخلت في هذا الدين. وقد ذهب بعضهم إلى احتمال وجود رجلين بهذا الاسم: رجل غساني عربي، وأخر يهودي.

وفي هذا البيت المنسوب إلى الأعشى: أرى عاديا لم يمنع الـمـوت  ما له وفرد بتيماء اليهودي أبلق 

ما يشير إلى يهودية السموأل، وهو يشير أيضاً إلى غنى عادياء وكثرة ماله. وقت عرف حصن السموأل بالأبلق، وبالأبلق الفرد، وهو حصن مشرف على تيماء، وقد ذكر الأخباريون أنه إنما دعي بالأبلق لأنه كان في بنائه بياض وحمرة. وكان أول من بناه عادياء أبو السموأل. وقد ذكر ياقوت الحموي أن موضعه على رابية فيها"آثار أبنية من لين لا تدل على ما يحكى عنه من العظمة والحصانة، وهو خراب ولست أرى أن الأبلق أو الأبلق الفرد هي تسمية ذلك الحصن، إنما هي صفة له، أخذت من البيت: هو الأبلق الفردالذي سار ذكره  يعز على من رامه ويطـول

وهو بيت ينسب قوله إلى السموأل. ومن أبيات أخرى تنسب إلى الأعشى. وورد في أبيات منسوبة إلى الأعشى ان باني الأبلق هو "سليمان"، قال: ولا عاديا لم يمنع الموت ما له  وحصن بتيماء اليهودي أبلق

بناه سليمان بن داوود حقبة له  أزجٌ عال وطيء مـوثـق

يوازي كبيدات السماء ودونـه  بلاط وداراتً وكلس وخندق

ولكن هذا البيت يناقض ما ينسب إلى السموأل من شعر فيه ان باني ذلك الحصن، هو أبوه "عاديا" "عادياء". ولست أستبعد ان يكون أكثر هذا الشعر من الشعر المصنوع في الإسلام. وأما نسبة بناء الحصن إلى سليمان، فهي من الأمور الماًلوفة التي رواها أهل الأخبار عن أبنية. سليمان قي جزيرة العرب. وردت من أساطير روجها اليهود بين العرب في الجاهلية وفي الإسلام عن عظمة سليمان وبنائه الأبنية العظيمة. وقد خصصوا سليمان دون سائر رجال اليهود بالبناء، لبنائه الهيكل الذي أدهش العبرانيين ولا شك، ولم يكن لهم عهد بمثل هذا العهد من قبل. ومن يدري، فلعل هذه الأبيات المنسوبة إلى الأعشى هي من عمل أناس في الإسلام كلفهم اليهود صنعها، للتفاخر والتباهي بمآثرهم الماضية، انها حقاً من قول الأعشى، صنعها لليهود بعد ان فك شريح أسره وأعطاه شيئاً من المال، والمال مالك لكل لسان.

وزعم أهل الأخبار ان الملكة "الزباء" قصدت هذا الحصن، وحصن مارد، فعجزت عنهما، فقالت: "تمرد مارد وعزّ الأبلق"، فسيرته العرب مثلاً لكل عزيز ممتنع. و " مارد" حصن بدومة الجندل.

ونحن إذا تتبعنا الشعر المنسوب إلى السموأل، نجد معظمه كما قلت منتحلاً موضوعاً، صنع فيما بعد. وإذا تتبعنا سيرة هذا الشخص وما قيل فيه، نجد أكثره مما لا يستطيع الثبات للنقد. ولعل هذا هو الذي حمل بعض المستشرقين على الشك لا في شعر السموأل وحده، بل في شخصية السموأل نفسها، فذهبوا إلى أنها من اختراع أهل الاخبار، اخترعوها لما سمعوه من قصص مذكورة في التوراة عن "صموئيل".

وقد نسب بعض المستشرقين بقاء شعر السموأل وعدم ذهابه في الإسلام إلى أهله الذين دخلوا في الإسلام، ويقوا في أماكنهم من تيماء، فلم يكن من الهين عليهم نبذ شعره وتركه، ولهذا حافظوا عليه، فكانت محافظتهم هذه عليه سبب بقائه حتى اليوم.

وقد ذكر الأخباريون أسماء ثلاثة أولاد للسموأل. أولهم شريح الذي مر ذكره. وثانيهما حوط، وثالثها منذر. ولا نعرف من أمرهما غير الاسم. وبظن أن حوطا هو الذي وقع في الأسر فذبح.

أما "سعية بن غريض" "شعية بن غريض بن السموأل" "شعبة"، فهو أخو السموأل على رواية لأبي الفرج الاصبهاني، جعلت اسم والد السموأل: "غريض بن عادياء"،وهو حفيده على رواية أخرى. وقد أورد له الاصبهاني جملة ابيات في أثناء كلامه على السموأل.. ويذكر أنه كان غنياً صاحب أملاك وأموال، يعقد المجالس، وينادمه قوم من الأوس واالخزرج، وأن بعض ملوك اليمن أغار عليه فانتصف من ماله حتى افتقر ولم يبق له مال، ثم عاد اليه حاله، وأنه عاش طويلا إلى أيام معاوية، وانه دخل في الإسلام، وأن معاوية رآه يصلي في المسجد الحرام، فطلب حضوره، وسأله عن شعر ابيه الذي يرثي به نفسه، فأنشده قصيدته: يا ليت شعري حين أندب هالكا  ماذا تؤبنني بـه أنـواحـي

ويذكر رواة هذا الخبر ان "سعية" كان شيخاً طاعناً في السن يومئذ. وانه لم يكن يرى حقاً لمعاوبة في الخلافة، ولذلك لم يقبل ان يسلم عليه بالخلافة، وانه أجاب أجوبة فيها خشونة وجفاء، وان الخليفة كف أصحابه من الإساءة اليه قائلاً لهم: قد خرف الشيخ، فأقيموه. فاًخذ بيده فأقيم.

والقصيدة المذكورة ينسبها بعض الرواة إلى السموأل،وهذه النسبة تجعل السموأل أبا لسعية لا أخاً له. أما اذا جعلناها من شعر غريض "عريض"، والد سعية، فلا يكون هناك إشكال ما من ناحية نسبة القصيدة، غير ان علينا حينئذ جعل "سعية" "شعية" حفيدا للسموأل، في رواية من جعله "شعية بن غريض بن السموأل". باضافة ولد اخر على أولاد السموأل، اسمه "غريض" "الغر يض".

وذكر البحتري في "حماسته" اسم شاعر يهودي آخر، هو: عريض بن شعبة، ونسب اليه هذا الشعر: ليس يعطى القوي فضلاً من الرز  ق ولا يحرم الضعيف الخبـيث

بل لكلّ رزقه ماقـضـى الـل  ه ولو كد"نفسه المـسـتـمـيت

وهو من شعر السموأل نفسه على رواية بعض الاْخباريين، يرروونه له مع شيء من الاختلاف.

أما "الربيع بن أبي الحقيق"، فهو من بني قريظة على رواية، أو من بنْي النضير على رواية أخرى. وقد اشترك في يوم بعاث، وعاصر النابغة الشاعر الشهير، وخلف جملة أولاد ناصبوا الرسول العداء.

ومن بقية شعراء يهود: "أوس بن دنى" م ن قريظة، و "كعب.ن الأشرف"، و "سمّاك اليهودي". وهو شاعر قوي في ردهء لى المسلمين عنيف.

وكان "كعب بن الأشرف" رجلاً شاعراً يهجو النبي وأصحابه ويحرض عليه ويؤذيهم. خرج إلى مكة ونزل على "المطلب بن أبي وداعة السهمي"، بعد معركة "بدر" وجعل يحرض على رسول الله وينشد الاشعار ويبكي اصحاب القليب. فكان حاصل هجائه القتل.

وكان "ابو عفك" اليهودي ممن يحرض على رسول اللّه ويقول الشعر، وكان شيخاً كبيراً. فقتل لتحريضه على رسول الله وقوله الشعر فيه.

الفصل التاسع والسبعون
النصرانية بين الجاهليين

ولم تكن اليهودية، الديانة السماوية الوحيدة التي وجدت لها سبيلاَ إلى جزيرة العرب، بل وجدت ديانة سماوية أخرى طريقاً لها إلى العرب، هي الديانة النصرانية. وهي ديانة أحدث عهدأ من الديانة الأولى، لأنها قامت بعدها، ونشأت على أسسها ومبادئها، ولكنها كانت أوسع أفقاً وتفكيراً من الأولى. فبينما حبست اليهودية نفسها في بني اسرائيل، وجعلت إلهها إلَه بني اسرائيل شعب الله المختار، جعلت النصرانية ديانتها ديانة عالمية جاءت لجميع البشر. وبينما قيّدت اليهودية أبنائها بقيود تكاد تضبط حركاتهم وسكناتهم، وفرضت عليهم فروضاً ثقيلة، نجد النصرانية أكثر تساهلاً وتسامحاً، فلم تقيد أبنائها بقيود شديدة، ولم تفرض عليهم أحكاماً اشترطت عليهم وجوب تنفيذها. وقد قام رجال الدين النصارى منذ أول نشأتها بالتبشير بها،وبنشرها بين الشعوب، وبذلك تميزت عن اليهودية التي جمدت، واقتصرت على بني اسرائيل.

ولفظة "النصرانية" و "نصارى" التي تطلق في العربية على أتباع المسيح، من الألفاط المعربة.يرى بعضى المستشرقين أنها من أصل سرباني هو: "نصرويو" Nosroyo، "نصرايا" Nasraya، ويرى بعض آخر أنها من Nazerenes التسمية العبرانية التي أطلقها اليهود على من اتبع ديانة المسيح. وقد وردت في العهد الجديد في "أعمال الرسل" حكاية على لسان يهود. وبرى بعض المؤرخين أن لها صلة "بالناصرة" التي كان منها "يسوع" حيث يقال: "يسوع الناصري" أو أن لها صلة ب "الناصريين" Nasarenes=Nazarenesاحدى الفرق القديمة اليهودية المتنصرة. وقد بقي اليهود يطلقون على من اتبع ديانة المسيح "النصارى"، وبهذا المعنى وردت الكلمة في القرآن الكريم، ومن هنا صارت النصرانية علماً لديانة المسيح عند المسلمين.

ولعلماء اللغة الاسلاميين آراء في معنى هذه الكلمة وفي أصلها، هي من قبيل التفسيرات المألوفة المعروفة عنهم في الكلمات الغريبة التي لا يعرفون لها أصلاً. وقد ذهب بعضهم إلى أنها نسبة إلى الناصرة التي نسب اليها المسيح. وزعم بعض منهم أنها نسبة إلى قرية يقال لها "نصران"، فقبل نصراني وجمعه نصارى. وذكر أن "النصرانة" هي مؤنث النصراني.

ولم أعثر حتى الآن على نص جاهلي منشور وردت فيه هذه التسمية. أما في الشعر الجاهلي، وفي شعر المخضرمين، فقد ذُكر ان أمية بن أبي الصلت ذكرهم في هذا البيت: أيام يلقى نصاراهم مسيحهم  والكائنين له وداً وقربانـا

وذكر ان شاعراً جاهلياً ذكر النصارى في شعر له، هو: اليكَ تعدو قلقا وضينـهـا  معترضاً في بطنها جنينها

مخالفاً دين النصارى دينها 

وذكر ان جابر بن حُنىّ قال: وقد زعمت بهراء ان رماحـنـا  رماح نصارى لا تخوض إلى دم 

وان حاتماً الطائي قال في شعر له: ومازلت أسعى بين نابٍ ودارة  بلحيانَ حتى خفت أن أتنصرا

وان " طخيم بن أبي الطخماء" قال في شعر له في مدح بني تميم: وإني وإن كانوا نصارى أحبهّم  ويرتاح قلبى نحوهم ويُتَـوَّق

وان حسان بن ثابت قال: فرحت نصارى يثرب ويهودها  لما توارى في الضريح الملحد 

غير ان هذه الأبيات وأمثالها إن صح انها لشعراء جاهليين حقاً،هي من الشعر المتأخر الذي قيل قبيل الإسلام. أما قبل ذلك، فليس لنا علم بما كان العرب يسمّون به النصارى من تسميات.

والذي نعرفه أن قدماء النصارى حينما كانوا يتحدثون عن أنفسهم كانوا يقولون "تلاميذ" Discipies، و "تلاميذ المسيح"، ذلك أنهم كانوا ينظرون،إلى المسيح نظرتهم إلى معلم يعلمهم وكذلك نظروا إلى حوارييه، فورد "تلاميذ يوحنا" وقصدوا بذلك النصارى. وهذه التعابير من أقدم التعابير التي استعملها النصارى للتعبير عن أنفسهم.

كذلك دعا قدماء النصارى جماعتهم ب "الاخوة" وب "الاخوة في الله" Brethren in Lord للدلالة على الجماعة، وب "الأخ" للتعبير عن المفرد، ذلك لأن العقيدة قد آخت بينهم، فصار النصارى كلهم اخوة في الله وفي الدين. ثم تخصصت كلمة "الأخ" برجل الدين. ودعوا أنفسهم "القديسين" Saintsوالمؤمنين والمختارين الأصفياء والمدعوّ ين، ويظهر أنها لم تكن علمية، وإنما وردت للأشارة إلى التسمية التي تليها.

وقد كنى عن مجتمع النصارى ب "الكنيسة" Ecclesia وتعني "المجمع"في الاغريقية، بمعنى المحل الذي يجتمع فيه المواطنون. فكنى بها عن المؤمنين وعن الجماعة التابعة للمسيح. كما عبر عن النصارى ب "الفقراء" وب "الأصدقاء".

وقد عرف النصارى ب Christians نسبة إلى Christos اليونانية التي تعني "المسيح" Messiah، أي المنتظر المخلص الذي على يديه يتم خلاص الشعب المختار. ويسوع هو المسيح، أي المنتظر المخلص الذي جاء للخلاص كما جاء في عقيدة أتباعه، ولذلك قيل لهم اتباع المسيح. فأطلقت عليهم اللفظة اليونانية، وعرفوا بها، تمييزاً لهم عن اليهود. وقد وردت الكلمة في أعمال الرسل وفي رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتوس.

أما في القرآن الكريم وفي الأخبار، فلم ترد هذه اللفظة اليونانية الأصل. ولهذا نجد ان العربية اقتصرت على إطلاق "نصارى" و "نصراني" و "نصرانية " على النصارى تمييزاً لهم عن أهل الأديان الأخرى. أما مصطلح "عيسوي" و "مسيحي"، فلم يعرفا في المؤلفات العربية القديمة وفي الشعر الجاهلي، فهما من المصطلحات المتأخرة التي أطلقت على النصارى. وقد قصد في القرآن الكريم ب "أهل الأنجيل"2 النصارى، إذ لا يعترف اليهود بالانجيل. وقد أدخل علماء اللغة اللفظة في المعربات.

وأهم علامة فارقة ميزت نصارى عرب الجاهلية عن العرب الوثنيين، هي أكل النصارى للخنازير، وحملهم الصليب وتقديسه. ورد ان الرسول قال لراهبين أتياه من نجران ليبحثا فيما عنده: "يمنعكما عن الإسلام ثلاث: أكلكما الخنزير، وعبادتكما الصليب، وقولكما لله ولد". وورد انه رأى "عدي بن حاتم الطائي" وفي عنقه صليب من ذهب، لأنه كان على النصرانية.

وورد في شعر ذي الرمة: ولكن أصل امرىء القيس معشرٌ  يحل لهم أكل الخنازيروالخمـر

يريد انهم نصارى في الأصل،فهم يختلفون عن المسلمين في أكلهم لحم الخنزير وفي شربهم الخمر.

وفد أقسم النصارى بالصليب. هذا "عدي بن زيد" يحلف به في شعر ينسب اليه،فيقول: سعى الأعداء لا يألون شراً  عليك ورب مكة والصليب 

ليس في استطاعتنا تعيين الزمن الذي دخلت فيه النصرانية إلى جزيرة العرب.

وتحاول مؤلفات رجال الكنائس رد ذلك التاريخ الى الأيام الأولى من التأريخ النصراني، غير اننا لا نستطيع اقرارهم على ذلك، لأن حججهم في ذلك غير كافية للاقناع. ولذلك، فليس من الممكن تثبيت تأريخ لانتشارها في هذه الأماكن في الزمن الحاضر، وليس لنا إلا التفتيش عن أقدم الوثاثق المكتوبة للوقوف عليها بوجه لا يقبل الشك ولا التأويل. ونحن أمام بحث علمي، يجب ان تكون العاطفة بعيدة عنه كل البعد.

واذا كانت اليهودية قد دخلت جزيرة العرب بالهجرة والتجارة، فإن دخول النصرانية اليها كان بالتبشير وبدخول بعض النساك والرهبان اليها للعيش فيها بعيدين عن ملذات الدنيا، وبالتجارة،وبالرقيق ولا سيما الرقيق الأبيض المستورد من أقطار كانت ذات ثقافة وحضارة. أما هجرة نصرانية كهجرة يهود إلى الحجاز أو اليمن أو البحرين، فلم تحدث، ذلك لأن النصرانية انتشرت في انبراطورية الروم والساسانيين بالتدريج،ثم صارت ديانة رسمية للقياصرة والروم وللشعوب التي خضعت لهم، فلم تظلّ النصرانية أقلية هناك، لتضطر إلى الهجرة جماعة وكتلة الى بلد غريب. لذلك كان حديثنا عن نصارى العرب من حيث الأصل والأرومة، يختلف عن حديثنا عن أصل يهود اليمن أو الحجاز.

وبفضل ما كان لكثير من المبشرين من علم ومن وقوف على الطب والمنطق ووسائل الإقناع وكيفية التاثير في النفوس، تمكنوا من اكتساب بعض سادات القبائل فأدخلوهم في دينهم،أو حصلوا منهم على مساعدتهم وحمايتهم. فنسب دخول بعض سادات القبائل ممن تنصر إلى مداواة الرهبان لهم ومعالجتهم حتى تمكنوا من شفائهم مما كانوا يشكون منه من أمراض. وقد نسبوا ذلك إلى فعل المعجزات والبركات الإلهية، وذكر بعض مؤرخي الكنيسة أن بعض أولئك الرهبان القديسين شفوا بدعواتهم وببركات الربّ النساء العقيمات من مرض العقم فأولدن أولاداً، ومنهم من توسل الى الله أن يهب لهن ولداً ذكراً، فاستجاب دعوتهم، فوهب لهم ولداَ ذكراً، كما حدث ذلك لضجعم سيد الضجاعمة، اذ توسل أحد الرهبان الى الله أن يهب له ولداً ذكراً، فاستجاب له. فلما رأى ضجعم ذلك، دخل في دينه وتعمد هو وأفراد قبيلته. ومنهم من شفى بعض الملوك العرب من أمراض كانت به مثل "مارايشو عزخا" الراهب. ذكروا أنه شفى النعمان ملك الحيرة من مرض عصبي ألم به، وذلك بإخراجه الشيطان من جسده.

وفي تواريخ الكنيسة قصص عن امثال هذه المعجزات المنسوبة إلى القديسين، كالتي نسبوها إلى القديس "سمعان العمودي" "المولود نحو سنة 360 م" يذكرونها على انها كانت سبباً في هداية عدد من الأمراء وسادات القبائل إلى النصرانية،وبفضل تنصرهم دخل كثير من أتباعهم في هذا الدين. وكالتي نسبوها الى القديس "أفتميوس" الذي نصر بفضل هذه المعجزات جمعاً من الأعراب وأسكنهم في أماكن خاصة أنشأ فيها كنائس أطلق عليها في اليونانية ما معناه "المحلة" أو "المعسكر".

ولم يعبأ المبشرون بالمصاعب والمشقات التي كانوا يتعرضون لها، فدخلوا مواضع نائية في جزيرة العرب، ومنهم من رافقوا الأعراب، وعاشوا عيشتهم،وجاروهم في طراز حياتهم، فسكنوا معهم الخيام، حتى عرفوا ب "أساقفة الخيام" وب "أساقفة أهل الوبر"، وبأساقفة القبائل الشرقية المتحالفة وبأساقفة العرب البادية. وقد ذكر ان مطران "بصرى" كان يشرف على نحو عشرين أسقفاً انتشروا بين عرب حوران وعرب غسان وقد نعتوا بالنعوت الذكورة، لأنهم كانوا يعيشون في البادية مع القبائل عيشة أهل الوبر.

وقد دخل أناس من العرب بالنصرانية باتصالهم بالتجار النصارى وبمجالستهم لهم. روي ان رجلاً من الأنصار، يقال له "أبو الحصين"، كان له ابنان،فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما باعوا وأرادوا ان يرجعوا،أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما الى النصرانية،فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم.

ودخلت النصرانية جزيرة العرب مع بضاعة مستوردة من الخارج، هي تجارة الرقيق من الجنسين، فقد كان تجار هذه المادة المهمة الرابحة يستوردون بضاعتهم من أسواق عالمية مختلفة، ولكن أثمن هذه البضاعة وأغلاها هي البضاعة المستوردة من انبراطوريتي الروم والفرس، لمميزات كثيرة امتازت بها عن الأنواع المستوردة من إفريقية مثلاً. فقد كان صنفها من النوع الغالي الممتاز بالجمال والحسن والاتقان ثم بالابتكار وبالقيام بأعمال لا يعرفها من هم من اهل إفريقية. ومن الروميّات والصقليات والجرمانيات من صرن أمهات لأولاد عدوا من صميم العرب. وقد كان أكثرهن، ولا سيما قبيل ظهور الإسلام، على النصرانية. ومن بينهن من خلدت أسماؤهن لتتحدث للقادمين من بعدهم من الأجيال عن أصولهن في العجم وعن الدين الذي كنّ عليه.

وقد كان في مكة وفي الطائف وفي يثرب وفي مواضع اخرى من جزيرة العرب رقيق نصراني كان يقرأ ويكتب ويفسرللناس ما جاء في التوراة والأناجيل،ويقص عليهم قصصاً نصرانياً ويتحدث اليهم عن النصرانية، ومنهم من تمكن من اقناع بعض العرب في الدخول في النصرانية، ومنهم من أثر على بعضهم، فأبعده عن الوثنية، وسفه رأيها عندهم، لكنهم لم يفلحوا في ادخالهم في دينهم، فبقوا في شك من أمر الديانتين، يرون أن الحق في توحيد الله وفي اجتناب الأوثان، لكنهم لم يدخلوا في نصرانية، لأنها لم تكن على نحو ما كانوا يريدون من التوحيد وتحريم الخمر وغير ذلك مما كانوا يبتغون ويشترطون.

وقد أثرت الأديرة تاًثيراً مهماً في تعريف التجار العرب والأعراب بالنصرانية.

فقد وجد التجار في أكثر هذه الأديرة ملاجىء يرتاحون فيها ومحلات يتجهزون منها بالماء، كما وجدوا فيها أماكن للهو والشرب: يأنسون بأزهارها ويخضرة مزارعها التي أنشأها الرهبان، ويطربون بشرب ما فيها من خمور ونبيذ معتق امتاز بصنعه الرهبان. وقد بقيت شهرة تلك الأديرة بالخمور والنبيذ قائمة حتى في ايام الإسلام. ومن هؤلاء الرهبان ومن قيامهم بشعائرهم الدينية، عرف هؤلاء الضيوف شيئاً عن ديانتهم وعما كانوا يؤدونه من شعائر. وقد أشير إلى هؤلإء الرهبان الناسكين في الشعر الجاهلي،وذكر عنهم انهم كانوا يأخذون المصابيح بأيديهم لهداية القوافل في ظلمات الليل.

وقد كانت هذه الأديرة، وهي بيوت خلوة وعبادة وانقطاع إلى عبادة الله والتفكير فيه، مواطن تبشير ونشر دعوة. وقد انتشرت حتى في المواضع القصية من البوادي. واذا طالعنا ما كتب فيها وما سجله أهل الأخبار أو مؤرخو الكنائس عن أسمائها،نعجب من هذا النشاط الذي عرف به الرهبان في نشر الدعوة وفي اقامة الأديرة للاقامة فيها في مواضع لا تستهوي أحداً. وهي متقاربة عديدة في بلاد العراق وفي بلاد الشام. بل نجد لها ذكراً حتى في الحجاز وفي ونجد وفي جنوبي جزيرة العرب وشرقيها: تتلقى الاعانات من كنائس العراق والشأم ومن الروم، حتى تمكنت من التبشير بين أكثر القبائل. ولولا ظهور الإسلام ونزول الوحي على الرسول في الحرمين، لكان وجه العالم العربي ولا شك غير ما نراه ألآن. كان العرب على دين النصرانية وتحت مؤثرات ثقافية اجنبية، هي الثقافة التي اتسمت بها هذه الشيع النصرانية المعروفة حتى اليوم.

وقد ذكر "ابن قتيببة الدينوري": ان النصرانية كانت في ربيعهَ، وغسان،وبعض قضاعة. وقال "اليعقوبي": "وأما من تنصر من أحياء العرب، فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى، منهم عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وورقة بن نوفل بن أسد. ومن بني تميم: بنو امرىء القيس بن زيد مناة،ومن ربيعة:بنو تغلب، ومن اليمن:طيء ومذحج وبهراء وسليح وتنوخ وغسان ولخم".

وطبيعي أن يكون انتشار النصرانية في العرب ببلاد الشام واضحاً ظاهراً أكثر منه في أي مكان آخر. وأقصد ببلاد الشام ما يقصده علماء الجغرافيا العرب من هذا المصطلح. فقد كان لعرب هذه الديار علاقة مباشرة واتصال ثقافي بغيرهم من سكان هذه الأرضين الذين دخل أكثرهم في الديانة النصرانية، والذين صارت هذه الديانة ديانة بلادهم الرسمية بعد دخول الروم فيها واتخاذهم النصرانية ديناً رسمياً للدولة منذ تنصر أول قيصر من القياصرة، فكان من أولى واجبات الروم السعي في تنصير الشعوب الخاضعة لهم، لا تقرباً إلى الله وحده، بل لتمكين سلطانهم عليهم، واخضاعهم روحياً لهم. ولهذا كان من سياسة البيزنطيين نشر النصرانية بين أتباعها وفي الخارج وارسال، المبشرين والاغداق عليهم ومدهم بالأموال لنشر الدعوة وتأسيس مكاتب للتبشير، وبالفعلة لبناء الكنائس الفخمة الجميلة على طراز فني أنيق جميل غير معروف بين من سيبشر بهذا الدين بينهم. وبذلك تبهر عقولهم، فتشعر أن للدين الجديد مزايا ليست في دينهم، وأن معابده أفخم من معابدهم،ورجال دينه أرقى من رجال دينهم. وبذلك يأتون اليها. وللبهرجة والفخفخة أثر عظيم في كثير من الناس، فالعين عند أكثرالبشر، تقوم مقام العقل. وقد يكون ما قام به الأحباش في اليمن من انشاء الكنائس العظيمة فيها وتفننهم في تزويقها وتجميلها وفي فرشها بأفخر الرياش والفراش لصرف الناس عن الكعبة كما يزعم أهل الأخبار دليلاً على ما أقول.

وقد وجدت النصرانية لها سبيلاً بين عرب بلاد الشام وعرب بادية الشام والعراق. فدخلت بين "سليح"، و "الغساسنة"، و "تغلب"، و "تنوخ"،و "لخم"،و "إياد". وقد انتشرت بين عرب بلاد الشام بنسبة تزيد على نسبة انتشارها بين عرب بلاد العراق، وهو شيء طبيعي، فقد كانت بلادالشاًم تحت حكم البيزنطيين، وديانتهم الرسمية، هي الديانة النصرانية، وكانوا يعملون على نشرها وترويجها بين شعوب "انبراطوريتهم"، وبين الشعوب الأخرى،لا سيما الشعوب التي لهم مصالح اقتصادية معها. ففي نشر النصرانية بينهم وادخالهم فيها، تقريب لتلك الشعوب منهم، وتوسيع لنفوذهم السياسى بينهم،. وتقوية لمعسكرهم المناهض لخصومهم الفرس، أقوى دولة معادية لهم في ذلك الوقت.

ولهذا سعت القسطنطنية لادخال عربهم في النصرانية، وعملت كل ما أمكنها عمله للتأثير على سادات القبائل لادخالهم في دينهم، بدعوتهم لزيارة كنائسهم وبارسال المبشرين اللبقين اليهم، لاقناعهم بالدخول فيها، وبارسال الأطباء الحاذقين اليهم لمعالجتهم، وللتأثير عليهم بذلك في اعتناق النصرانية. كما دعوهم لزيارة العاصمة، لمشاهدة معالمها ولابهار عقولهم بمشاهدة كنائسها، والاتصال بكبار رجال الدين فيها، لتعليمهم أصول النصرانية. وأظهروا لهم مختلف وسائل المعونة والمساعدة إن دخلوا في ديانتهم، وبذلك أدخلوهم في النصرانية فصاروا اخواناً للروم في الدين.

نعم، دخل سادات القبائل والحكام العرب التابعون لهم في هذه الديانة، فصاروا نصارى، ولكنهم لم يأخذوا نصرانية الروم، بل أخذوا نصرانية شرقية مخالفة لكنيسة "القسطنطنية"،فاعتنقوها مذهباً لهم. وهي نصرانية عدت "هرطقة" وخروجاً على النصرانية الصحيحة "الأرثوذكسية" في نظر الروم. نصرانية متأثرة بالتربة الشرقية، وبعقلية شعوب الشرق الأدنى، نبتت من "التفكير الشرقي في الدين، ولهذا تأثرت بها عقلية هذه الشعوب فانتشرت بينها، ولم تجد لها اقبالاً عند الروم وعند شعوب أوروبة. وكان من جملة مميزاتها عكوفها على دراسة العهد القديم، أي التوراة، أكئر من عكوفها على دراسة الأناجيل.

والنصرانية التي شاعت بين عرب بلاد الشام، هي النصرانية اليعقوبية، أو المذهب اليعقوبي بتعبير أصح. وهو مذهب اعتنقه أمراء الغساسنة وتعصبوا له، ودافعوا عنه، وجادوا رجال الدين في القسطنطنية وفي بلاد الشام في الذب عنه.

فزعم مثلاً أن "الحارث بن جبلة" "ملك العرب النصارى" تغلب في مناظرة جرت له مع "البطريرك افرام" "526 - 545م" على "البطريرك" وأفحمه في جوابه. وكان افرام، وهو على مذهب "الملكيين"، قد قصده لاقناعه بترك المذهب "المنوفيزيتي" والدخول في مذهبه. ونسبوا إلى "المنذر بن الحارث" دفاعاً شديداً عن "المنوفيزيتية"،أي المذهب الذى كان عليه الغساسنة من مذاهب النصرانية، وذكروا أنه أنب "البطريرك دوميان" وهو في القسطنطنية على تهجمه على المنوفيزيتيين"، وعمل جهده في التقريب بين مذهبه ومذهب القيصر، واتصل بالقيصر "طيباريوس" "578 - 582م" ليعمل على بث روح التسامح بين المذاهب النصرانية وترك الحرية للافراد في دخول المذهب الذي يريدونه والصلاة في أية كنيسة يريدها النصراني.

ويظهر ان بعض الضجاعمة الذين كانوا يتولون حكم عرب الشام قبل الغساسنة كانوا على دين النصرانية. غير اننا لانستطيع ان نحكم على اي مذهب من مذاهب النصرانية كانوا. فذكروا ان "زوكوموس"، وهو "ضجعم" جد الضجاعمة تنصر على يد أحد الرهبان، وذلك ان هذا الرئيس كان متلهفاً إلى مولود ذكر، فجاءه هذا الراهب، وتضرع إلى الله ان يهبه ولداً ذكراً، فلما استجاب الله له تعمدّ وتبعته قبيلته.

وقد كان مشهد القديس "سرجيوس" في "الرصافة"، من أهم المزارات التي تقصدها المتنصرة من عرب الشام، مثل الغساسنه وتغلب. وقد تقرب إليه بعض ملوك ألغساسنة بتقديم الهدايا والنذور اليه وبتزيينه وبزيارته، وبالاعتناء بالمدينة وبصهاريجها تكربماً له، وتقرباً اليه، وظل هذا المزار مقصوداً مدة في الإسلام. وقد عدّ التغلبيون هذا القديس شفيعهم،جعلوا له راية حملوها معهم في الحروب، وكانوا يحملونها مع الصليب تبركاً وتيمناً بالنصر.

وكان حاضر "قنسرين" لتنوخ. أقاموا في طرفها هذا منذ زمن قديم، مذ أول نزولهم بالشأم. نزلوا في طرفها وتنصروا. فلما حاصر "أبو عبيدة" المدينة، دعاهم إلى الإسلام، فاسلم بعضهم، وأقام على النصرانية بنو سليح. كذلك كان في طرف قنسرين عشائر من طيء، نزلوا بها في الجاهلية على أثر الحروب التي وقعت فيما بينهم، واستدعت تفرقهم، فأقاموا عند قنسرين مع القبائل العربية الأخرى التي جاءت إلى هذا المكان.

وكان بقرب مدينة "حلب" حاضر يدعى "حاضر حلب" يجمع أصنافاً من العرب من تنوخ وغيرهم. فلما جاء "أبو عبيدة" إلى المدينة، صالح من فضّل البقاء منهم على دينه على الجزية، ثم أسلم الكثير منهم فيما بعد.

وتعد بهراء في جملة القبائل العربية المتنصرة عند ظهور الإسلام. تنصرت كما تنصرت غسان وسليح وتنوخ وقوم من كندة، وذلك لنزولها في بلاد الشام ولاتصالها بالروم.

وقد سكن قوم من "إباد" السواد والجزيرة، وسكن قوم منهم بلاد الشام، فخضعوا للغساسنة وللروم وتنصروا. وهم في جملة القبائل التي لم يأخذ علماء العربية اللسان عنها لمجاورتها اهل الشام، ولتأثرها بهم،وهم قوم يقرؤون ويكتبون بالسريانية، فتاثروا بهم، لروابط الاحتكاك والثقافة والدين.

وقد ترك لنا رجل من نصارى الشام نصاً قصيرأَ مؤرخاً بسنة "463" المقابلة لسنة "568" للميلاد، وهي غير بعيدة عن ميلاد الرسول جاء فيها: "نا شرحيل بر ظلمو بنيت ذا المرطول سنت 463 بعد مفسد خيبر بعم"،أي "أنا شراحيل بن ظالم بنت ذا المرطول بعد مفسد"خيبر" بعام". هوعلى قصره ذو أهمية عظيمة من الناحية اللغوية، إذ هو النص الجاهلي الوحيد الذي وصل الينا مكتوباً باللهجة التي نزل بها القرآن الكريم. وهو على ما أعلم النص الجاهلي الوحيد أيضاً الذي وصل الينا مكتوباً بصيغة المتكلم،فالنصوص الأخرى التي وصلت الينا والمكتوبة يمختلف اللهجات العربية مدوّ نة كلها بضمير الغائب. وهو أيضاً من النصوص العربية القليلة التي تركها النصارى العرب لمن بعدهم في بلاد الشام.

وقد استغل الروم العربَ المتنصرة بأن أثاروا في نفوسهم العواطف الدينية على المسلمين، حينما عزم المسلمون على فتح بلاد الشام وطرد البيزنطيين منها، وأغروا سادات القبائل بالمال وبالهدايا وبالوعود حتى اشتروهم فصاروا إلى جانبهم.

والمصالح الشخصية هي فوق كل مصلحة عند سادات القبائل، لا تعلوها عندهم مصلحة، فانضموا اليهم، وجاءوا بقبائلهم لتحارب معهم. ومن هذه القبائل العربية التي حاربت مع الروم، غسان. حاربوا معهم في معارك عديدة. ففي يوم اليرموك كانوا في صفوف الروم، وكان رئيسهم "جبلة بن الأيهم الغساني" في مقدمة الجيش الذي أرسله هرقل لمحاربة المسلمين. كان على رأس مستعربة الشام من غسان ولخم وجذام. وقد اشترك مع الروم في حروب أخرى ضد المسلمين.

وكانت "سليح" في جملة القبائل العربية المتنصرة التي حاربت المسلمين. ولما تقهقر الروم وانهزموا، دفعوا الجزية لاحتفاظهم بدينهم. وكذلك كانت عاملة ولخم وجذام في جملة القبائل المتنصرة التي ساعدت الروم، وآزرتهم. كانوا مع الروم مثلاً حين مجيء الرسول إلى "تبوك". وظلوا إلى جانبهم يؤيدونهم حتى تبين لهم أن النصر قد تحول للمسلمين، وأن الهزائم قد حالفت الروم، عندئذ انضمت في جملة من انضم من منتصرة العرب إلى المسلمين لمحاربة الروم.

وكادت قبيلة "تغلب " الساكنة غرب الفرات، أن تفر إلى بلاد الروم وتلحق بأرض الروم، لما غلب البيزنطيون على أمرهم وفتحت بلاد الشام والعراق أمام المسلمين. ولما خيرت بين البقاء على دينها ودفع الجزية وبين الدخول في الإسلام، أنفت من دفع الجزية، ورضيت بدفع ضعف الصدقة التي تؤخذ من المسلمين في كل سائمة وأرض.

وقد نزحت "إياد" إلى بلاد الروم ويقيت بها، ثم عاد جمع منها لاخراج القيصر إياهم، فنزلوا بلاد الشام والجزيرة وانضموا إلى اخوانهم في الجنس.

ويلي هؤلاء عربُ العراق، لاحتكاكهم بالنصارى ولانتشار النصرانية في العراق بالرغم من ان ديانة الحاكمين لهذا القطر كانت "ديانة أخرى، وان النصرانية لم تكن في مصلحة الفرس. غير ان الفرس لم يكونوا يبشرون بدينهم، ولم يكن يهمهم دخول الناس فيه، إذ عدت المجوسية ديانة خاصة بهم، وهذا مما صرف الحكومة عن الاهتمام بأمر أديان الخاضعين لها من غير أبناء جنسها، إلا اذا وجدتها تتعارض مع سياستها، وتدعو إلى الابتعاد عنها. ثم إن النصرانية التي انتشرت فيها لم تكن من النصرانية المتشيعة للروم، ولهذا لم تجد الدولة الساسانية من هذه الناحية ما يهدد سياستها بالأخطار، فغضت النظر عنها، وان قاومتها مراراً واضطهدتها، وفتك ملوكها بعدد من الداخلين فيها، أشارت اليهم كتب مؤرخوالكنيسة في تواريخهم عن الشهداء القديسين.

وقد أشار أهل الأخبار إلى تنصر بعض ملوك الحيرة،ونسيوا اليهم بناء الأديرة والكنائس، كما أشار إلى ذلك بعض مؤرخي الكنيسة. كالذي ذكروه عن "المنذر" وعن "النعمان بن المنذر". غير اننا لا نستطيع اقرار ذلك بوجه عام، ولا بد من التريث، إذ يظهر ان أكثر ملوك الحيرة كانوا على الوثنية وإذا كان كثير من ملوك الغساسنة قد دخلوا في النصرانية فان ظروفهم تختلف عن ظروف ملوك الحيرة. فقد كان الروم، وهم سادة بلاد الشام، على هذه الديانة، وكانوا يشجعون انتشار النصرانية ويسعون لها، ولهذا كان لهذه السياسة أثر في الغساسنة اصحاب الروم، وهم على اتصال دائم بهم بطبيعة حكمهم لبلاد الشام. أما في ا العراق، فلم تكن هذه الديانة ديانة رسمية للحكومة،انما انتشرت بفضل المبشرين، ولهذا انتشرت بين سواد الشعب،ولم تنتشر بين الملوك. ولم تضغط الحكومة الساسانيةعلى ملوك الحيرة للدخول في هذه الديانة.التي لم يكونوا أنفسهم داخلين فيها، فهي بالاضافة اليهم ديانة غريبة، لا يعنيهم موضوع انتشارها،ولا يهمهم موضوع انتشارها، ولا يهمهم شأنها ما دامت لا تتعارض وحكمهم في العراق.

وقد كان "هانىء بن قبيصة الشيباني، ممن كان على النصرانية، وهو من سادات "بني شيبان"، ومات وهو على هذا الدين. وكان في جملة من فاوض "خالد بن الوليد" باسم قومه على دفع الجزية للمسلمين.

ومن متنصرة العراق بنو عجل بنُ لجيم من قبائل بكر بن وائل. وقدعرف منهم "حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي" الذي سادهم في معركة ذي قار.

وقد حاربت "خالد بن الوليد"، وكان قائدها جابر بن بجير وعبد الأسود.

وكان منها في أيام بني أمية أبجر بن جابر. وهو والد حجّار. وقد بقي على نصرانيته في الإسلام.

وكان في الحيرة سراة نصارى اشتركوا مع سراة قريش في الأعمال التجارية مثل "كعب بن عدي التنوخي"، وهو من سراة نصارى الحيرة، وكان أبوه اسقفاً على المدينة، وكان هو يتعاطى التجارة، وله شركة في التجارة في الجاهلية مع "عمر بن الخطاّب" في تجارة البز، وكان "عقيداً " له، قدم المدينة في وفد من أهل الحيرة إلى النبي ورأى الرسول، فأسلم في رواية، ولم يسلم في رواية أخرى. ولما توفي الرسول، ثبت على الإسلام على رواية من صيره مسلماً في ايام الرسول. واشترك في جيش اليمامة الذي أرسله "أبو بكر"،ووجهه "أبو بكر" في رسالة إلى "المقوقس"، ثم وجهه "عمر" برسالة اليه في أيامه. وشهد فتح مصر.

وقد أخرجت مدينة الحيرة عدداً من رجال الدين، مثل مار إيليا وأصله من الحيرة، والقديس حنانيشوع، وهو من عرب الحيرة ومن عشيرة الملك النعمان، والقديس مار يوحنا، و "هوشاع" الذي حضر مجمع اسحاق الجاثليق عام 410 م، وشمعون الذي أمضى أعمال مجمع "يهبالا" الذي انعقد سنة 486 م، وشمعون الذي حضر مجمع "أقاق"، و "ايليا" المنعقد سنة 486 م وأمضى في سنة 97 4 م مجمع "اباي"، و "ترساي" الذي تحزب سنة 4 52م لنرساي الجاثليق ضد "اليشاع" و "افرام" و "يوسف"، وقد حضر مجمع "أيشوعياب الأرزني" الذي انعقد سنة585م، وشمعون بن جابر الذي نصرّ الملك النعمان الرابع في سنة 594على ما يذكره مؤرخو الكنيسة.

وقد كان "مار يشوعياب الأرزوني" Jesujab I.Arzunita المتوفي سنة 596.م من أصل عربي. درس الديانة في "نصيبين" Nisibis، ثم تقّدم فصار أسقفاً على " أرزون" Arzun، ثم ترقى حتى صار "بطريكاً" "بطريقاً " على النساطرة سنة580 م. وقد زار الملك "النعمان". وتوسط عند الروم لمساعدة "خسرو ابرويز" Chosroes Abruizus، ضد "بهرام" Varames -Beheram. وقد توفي في خيم "بني معدّ" "المعديين" Maadenes، ونقل إلى الحيرة فدفن في دير "هند" ابنة النعمانْ.

وقد عثر على آثار كنائس في خرائب الحيرة، وأشار أهل الأخبار إلى وجود الكنائس والبيع والأديرة في الحيرة. وذكر "ياقوت الحموي" أسماء عدد من الأديرة كانت بالحيرة أو بأطرافها وبالبادية، منها: "دير ابن برّاق " بظاهر الحيرة، و " دير ابن وضّاح" بنواحي الحيرة، وديارات ألأساقف، وهي جملة أديرة كانت بالنجف ظاهر الكوفة بحضرتها نهر الغدير، ودير الأسكون "وهو بالحيرة راكب على النجف وفيه قلألي وهياكل وفيه رهبان يضيفون من ورد عليهم". ودير الأعور، بظاهر الكوفة بناة رجل بن إياد يقال له الأعور من بني حذافة بن زهر بن إياد، ودير بني مرينا، بظاهر الحيرة عند موضع جفر الأملاك، ودير حنظلة، منسوب إلى حنظلة بن أبي عفراء بن النعمان، وهم عم إياس بن قبيصة، وكان من رهط "أبي زبيذ" الطائي، وكان من شعراء الجاهلية، ثم تنصر وفارق قومه، ونزل الجزيرة مع النصارى حتى فقه دينهم وبلغ نهايته، وبنى ديراً عرف باسمه، هو هذا الدير، وترهب حتى مات. ودير حنظلة بالحيرة،وهو منسوب إلى حنظلة بن عبد المسيح ين علقمة، ودير حنة، وهو بالحيرةّ كذلك بناه المنذر لقوم من تنوخ يقال لهم بنو ساطع، تقابله منارة عالية كالمرقب تسمى القائم، لبني أوس بن عمرو بن عامر، ودير السوا بظاهر الحيرة يتحالفون عنده، ودير الشاء، ودير عبد المسيح وهو بظاهر الحيرة بموضع الجرعة بناه عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة، ودير علقمة بالحيرة منسوب إلى علقمة بن عدي بن الرميك بن توب بن أسس بن دبي بن نمارة بن لخم، ودير قرة وهو دير بإزاء دير الجماجم بناه رجل اسمه قرة من بني حذافة ابن زهر بن إياد في أيام المنذر بن ماء السماء، ودير اللُجّ وهو بالحيرة بناه النعمان بن المنذر أبو قابوس، و "كان يركب في كل أحد اليه، وفي كل عيد، ومعه أهل بيته، خاصة من آل المنذر، عليهم حلل الديباج المذهبة، وعلى رؤوسهم أكاليل الذهب، وفي أوساطهم الزنانير المفصصة بالجوهر، وبين أيديهم أعلام فوقها صلبان، وإذا قضوا صلاتهم، انصرفوا إلى مستشرفه على النجف، فشرب النعمان وأصحابه فيه بقية يومه، وخلع ووهب، وحمل ووصل وكان ذلك أحسن منظر وأجمله".

ودير مارت "مارة" مريم. وهو دير قديم من أبنية آل المنذر بنواحي الحيرة بين الخورنق والسدير وبين قصر أبي الخصيب مشرف على النجف، ودير مار فايثون بالحيرة أسفل النجف، ودير مر عبدا بذات الأكيراح من نواحي الحيرة منسوب إلى مر عبدا بن حنيف بن وضاح اللحياني كان مع ملوك الحيرة، دير ابن المزعوق، وهو دير قديم بظاهر الحيرة، ودير هند الصغرى بنت النعمان بن المنذر المعروفة بالخَرقٌة، وكانت به قبور أهلها، بنته هند في ايام "خسرو أنو شروان" في زمنْ مار افريم الأسقف. وأما الدير إلمعروف بدير هند الأقدم، فنسب بناؤه إلى هند الكبرى، أم عمرو بن هند.

هذه أسماء اخترتها من بين أسماء أديرة أخرى كثيرة ذكرها "الشنابشتي"، وياقوت الحموي والبكري، لأن لها صلة بالحيرة وبما جاورها وبالعرب سكان هذه الأرضين. ونجد في بلاد الشام أديرة أخرى بناها عربها في تلك الديار قبل الإسلام. ونجد على تسميات بعضها الصبغة الإرمية كما في تسمية "مار افريم" "مار افرايم" و "مار عبدا" و "مار فايثون"، وغيرها. وكلمة "مار" من كلمات بني إرم، كما نجد الصبغة النصرانية للاعلام واضحة على بعضها كما في عبد المسيح وحنة ومارت مريم وأمثال ذلك، وهي من الأعلام التي اختصت بالنصارى. وذلك بسبب ان النصرانية كانت متاًثرة بثقافة بني إرم، وكانت تستعل اللغة الإرمية في الصلوات وفي تأدية الشعائر الدينية الأخرى. ولغة بني إرم هي لغة العلم عند النصارى الشرقيين، فكان من الطبيعي استعمال نصارى العرب لهذه اللغة في كنائسهم وبيعهم وأديرتهم وفي دراستهم للدين وما يتصل باللاهوت من علوم. ومن هنا استعمل كتاّبهم قلم بني إِرم في كتاباتهم، ومن هذا القلم تولد القلم النبطي المتأخر الذي تفرع منه القلم العربي الذي كتب به اًهل الحجاز عند ظهور الإسلام، فصار القلم الرسمي للمسلمين.

وقد نعت الرواة وأهل الأخبار العرب التي دانت بالنصرانية ب "العرب المتنصرة"، تمييزاً لها عن العرب الآخرين الذين لم يدخلوا في هذه الديانة، بل بقيت على اخلاصها ووفائها لديانة آبائها وأجدادها، وهي عبادة الأوثان. ومن القبائل التي يحشرها أهل الأخبار في جملة "العرب المتنصرة" غسان وتغلب وتنوخ ولخم وجذام وسليح وعاملة. ويلاحظ ان الأخباريين يطلقون على هذه القبائل أو على أكثرها "العرب المستعربة"، وهم لا يقصدون بذلك نسبها، لأن من بينها كما نعلم من هو من أصل قحطاني على حسب مذهب أهل الأنساب في نسب القبائل. وإنما يريدون من هذا المصطلح القبائل التي كانت قد سكنت ببلادالشام والساكنة في أطراف الانبراطورية البيزنطية وفي سيف العراق. من حدود نهر الفرات إلى بادية الشام، فهو يشمل إذن القبائل النازلة على طرفي الهلال الخصيب وفي طرفي القوس التي تحيط بحدود الانبراطوريتين. وخاصة تلك القبائل التي دانت بالنصرانية وتأثرت بثقافة بني إرم وبلهجتها، وذلك لظهور هذا الأثر فيها، وعلى لهجتها خاصة، مما حدا بعلماء اللغة أن يتحرجوا في الاستشهاد بشعرها في قواعد اللغة. والاستشهاد بشعر قبيلة لاثبات القواعد هو أوثق شاهد في نظر العلماءالتسليم بنقاوة لغة القبيلة التي يستشهد بشعرها وأصالتها.

"وجدت النصرانية بعد بلاد الشام والعراق لها مواضع أخرى دخلت اليها، هي أطراف جزيرة العرب، كالعربية الغربية والجنوبية والشرقية. وتفسير دخولها الى هذه الأرضين واضح، هو اتصالها بطرق القوافل البرية والبحرية في البلاد التي انتشرت فيها النصرانية، ومجيء التجار النصارى والمبشرين مع القوافل اليها. وتجار النصارى، لم يكونوا على شاكلة تجار يهود: كانوا يرون أن التجارة هي كسب مادي، ولكن التبشير مع التجارة ربح مضاعف، هو ربح في الدارين:.الدنيا والاخرة، فكانوا يغتنمون فرصة وجودهم في البلاد التي ينزلونها لنشر دينهم فيها ثم إن في انتشار دينهم بين سكان هذه المواضع التي يطرقونها كسباً لهم ولبلادهم، وأكثرهم من الروم. فإنهم يجدون بتنصر الغرباء، إخواناً لهم يرون رأيهم، ويعطفون عليهم. ثم إنهم سيفضلونهم في تعاملهم معهم على غيرهم، وسيتساهلون معهم ولاشك. ثم إنهم سيقربونهم بتنصيرهم من العالم النصراني، وممثل هذا العالم وحماته هم الروم.

وكان أهل دومة الجندل خليط، فهم نصارى، قال عنهم أهل الأخبار انهم "من عباد الكوفة". ويظهر من خبر أسر خالد للاكيدر ومجيئه به على رسول الله، ومن مصالحة الرسول له على الجزية، انه كان على النصرانية، إذ لاتؤخذ الجزية من مشرك.

أما "أيلة"، فكان اسم صاحبها في ايام الرسول "يحنة بن رؤبة" "يوحنا بن رؤبة" وهو نصراني كما يدل اسمه عليه، جاء إلى تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، وكان الرسول بها، فصالحه على الجزية وبقي في محله. وقد دعاه المسعودي "أسقف أيلة". وورد في محاضر بعض المجامع الدينية "أسقف أيلة ولشراة".

وكان في وادي القرى نفر"من الرهبان، كما ورد ذلك في شعر جعفر بن سراقة أحد بني قرة، وهو: فريقان: رهبان بأسفل ذي القرى  وبالشاًم عرافون فيمن تنصـرا

وتعد طيء من القبائل التي وجدت النصرانية سبيلاً اليها. وقد ورد ان "أحودما" "المغريان" تنقل بين طيء في سنة "870" لليونان المقابلة لسنة "559 " للميلاد. وقد كان عدي بن حاتم الطائي في جملة الداخلين في النصرانية من طيء.

ويذكر انه كان "ركوسيّاً"، وفد على الرسول، وأعلن إسلامه. غير ان هذا لا يعني ان النصرانية كانت هي الغالبة على هذه القبيلة، فقد كان قوم منها يتعبدون للصنم "الفلس"، أي على الشرك.

ولم يذكر أهل الأخبار شيئاً يستحق الذكر عن النصرانية في يثرب. وقد أشار القرآن الكريم في مواضع عديدة من الآيات المدنية إلى النصارى، غير ان تلك الاشارات عامة في طبيعة المسيح وفي النصرانية نفسها لا في نصارى يثرب وفي صلانهم بالاسلام. ثم إن أهل السير لم يشيروا إلى تصادم وقع بين النصارى والمسلمين ولا إلى مقاومة نصارى يثرب للرسول كالذي وقع بين يهود يثرب وللرسول، مما يدل على ان النصرانية لم تكن قوية في المدينة،وان جاليتها لم تكن كثيرة العدد فيها. غير ان هذا لا يعني عدم وجود النصارى في هذا الموضع الزراعي المهم. فكما كان في مكة رقيق وموالي يقومون بخدمة ساداتهم، كذلك كان في المدينة نفر منهم أيضا يقومون بمختلف الأعمال التي يعهد أصحابهم إليهم القيام بها. ولا بد ان تكون لهذه الطبقة من البشر مكانة في هذه المدينة وفي أي موضع آخر من جزيرة العرب. فقد كانت هذه الطبقة عموداً خطيراً من الأعمدة التي يقوم عليها نجيان الاقتصاد في ذلك العهد، فهي بالنسبة لذلك العهد الآلات المنتجة والمعامل المهمة لأساب الأموال وللسادة الأثرياء، تؤدي ما يطلب منها القيام به وما يراد منها إنتاجه بأجور زهيدة وبدقة ومهارة لا تتوفر عند الأحرار من العرب. ثم إن الأحرار مهما يلغ حالهم من الفقر والفاقة كانوا يأنفون من الأعمال الحرفية ونحوها مما يوكل إلى هذه الطبقة القيام به، لأنها في نظرهم من المهن المنحطة التي لا تليق بالرجل الحر مهما كان عليه من فقر وبؤس، ولهذا كان لا بد من الاستعانة بالموالي والرقيق للقيام بأكثر متطلبات حياة الإنسان.

ويفهم من بيت للشاعر حسان بن ثابت في قصيدة رثى بها النبي، وهو: فرحت نصارى يثرب ويهودها  لما توارى في الضريح الملجد 

أنه كان في يثرب نفر من النصارى كما كان بها قوم من يهود. وذكر أن النصارى كانوا يسكنون في يثرب في موضع يقال له: سوق النبط.

ولعل هذه السوق هي الموضع الذي كان ينزل فيه نبط الشام الذين كانوا يقصدون المدينة للاتجار في الحبوب، فصارت موضعاً لسكنى هؤلاء النصارى، ونسب إليهم. وقد ورد أن عمر بن الخطاب استعمل أبا زبيد الشاعر النصراني على صدقات قومه، وأن أبا زبيد هذا كان مقرباً من الخليفة عثمان بن عفان من بعده.

وقد كان "أبو عامر" الراهب، الذي تحدثت عنه أثناء حديثي عن الأحناف، ممن اعتنق النصرانية، ومن أهل يثرب. ويظهر أنه كان قد تمكن من إقناع بعض شباب الأوس من اعتناق دينه، بدليل ما ذكره علماء التفسير من أنه لما خرج من يثرب مغاضباً للرسول، وذهب إلى مكة، مؤيداً إياهم ومحرضأ لهم على محاربة الرسول أخذ معه خمسين أو خمسة عشر رجلاً من الأوس، على ما ذكره علماء التفسير، فلما أيس من نجاح أهل مكة في القضاء على الرسول فرّ إلى بلاد الشام على نحو ما ذكرت، ليطلب مدداً من الروم يعينه في زحفه على المدينة. وأنا لا استبعد احتمال وجود أناس آخرين من أهل يثرب كانوا قد دخلوا في النصرانية ودعوا اليها، واحتمال وجود مبشرين فيها، كانوا يسعون لادخال أهلها في دين عيسى، يؤيدهم ويمدّهم بالمال والمعونة الروم حكام بلاد الشام.

وكان بين سكاّن مكة عند ظهور الإسلام جماعة من النصارى هم من الغرباء النازحين اليها، لأسباب، منها: الرق، والاتجار، والتبشير، والحرفة.

فأما الرقيق، فمنهم الأسود والأبيض:الأسود من إفريقية، والأبيض من أوروبة، أو من أقطار الشرق الأدنى، وهم أعلى في المنزلة وفي السعر من النوع الأول، وهم بحكم قانون ذلك العهد وعرفه تبع لسادتهم وفي ملك يمينهم، يقومون بالأعمال التي توكل اليهم، ليس لهم التصرف إلا بأمرهم، فهم في الواقع بضاعة يتصرف بها صاحبها كيف يشاء، ليس لها صوت ولارأي، إن أبق المملوك قتل" أو أنزل به العقاب الذي يراه ويختاره صاحبه ومالكه.

وبين الرقيق الأبيض خاصة نفر كانوا على درجة من الفهم والمعرفة، يعرفون القراءة والكتابة، ولهم اطلاع في شؤون دينهم ومعارف ذلك العهد.. ولهذا أوكل اليهم القيام بالأعمال التي تحتاج إلى مهارة وخبرة وذكاء. وقد كان حالهم لذلك أحسن "من حال غيرهم من الأرقاء. ومنهم من كان يشرح لسادتهم أمور دينهم وأحوال بلادهم، ويقصون عليهم ما حفظوه ووعوه من أخبار الماضين وقصص الراحلين، وأكثرهم ممن كانت ألسنتهم لم تتروض بعد على النطق بالعربية، فكانوا يرطنون بها، أو يتلعثمون، ومنهم من كان لا يعرف شيئاً منها، أو لا يعرف منها إلا القليل من الكلمات.

ومن،هؤلاء رجل نصراني كان بمكة قيل. إن اسمه: سلمان: أو يسار، أو جبر، أو يعيش، أو بلعام، ادعى أهل مكة أنه كان هو الذي يلقن الرسول ما كان يقوله للناس من رسالته، وأنه هو الذي كان يعلمه. وقد أشير إلى قول قريش هذا في الاية: ) ولقد نعلم انهم يقولون إنما يعلمه بشر،،لسان الذي يلحدون اليه أعجميً، وهذا لسان عربي مبين(. ومن روى من المفسرين ان اسمه جبر، قال: إنه كان غلاماً لعامر بن الحضرمي، وأنه كان قد قرأ التوراة والانجبل، وكان الرسول يجلس اليه عند المروة إلى مبيعته، "فكانوا: والله ما يعلم محمداً كثيراً مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام الحضرمي".

ومن هؤلاء من زعم انه كان قيناً لبني الحضرمي، وانه كان قد جمع الكتب، وهو رومي، فكان رسول الله ياتي اليه ويجتمع به، فكان المشركون يقولون: انه يتعلم من هذا الرومي ! وذكر بعض الرواة ان "آل الحضرمي" كانوا يملكون عبدين، هما: جبر ويسار، فكانا يقرآن التوراة والكتب بلسانهما، فكان الرسول يمر عليهما فيقوم يستمع منهما. وقيل انهما كانا من أهل "عين التمر"، وانهما كانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرآن التوراة والانجيل، فريما مر بهما النبي، وهما يقرآن فيقف ويستمع.وأما من قال ان اسمه "يعيش"، فذكر انه كان مولى لحويطب بن عبد العزى. وأما من ذكر ان اسمه "بلعام"، فقال انه كان قيناً رومياً بمكة وكان نصرانياً أعجمي اللسان، " فكان المشركون يرون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين يدخل عليه وحين يخرج من عنده، فقالوا انما يعلمه بلعام". ومهما اختلف المفسرون في اسم هذا الرجل فإنهم اتفقوا على انه كان أعجمي الأصل، نصرانياً، يقرأ الكتب، وانه كان بمكة نفر من الموالي كانوا على دين النصرانية يقرأون ويكتبون.

والى هذا الشخص أو هؤلاء الأشخاص، أعني: يعيش ويقال عائش أو عدّاس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي وجبر مولى عامر، أشير في القرآن الكريم، في الآية: )وقال الذين كفروا: إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون". وقد ذكر المفسرون ان هؤلاء "كانوا كتابيين يقرأون التوراة، أسلموا، ركان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يتعهدهم، فقيل ما قيل".

وعرفت أسماء جملة رجال ونساء من هذا الرقيق الذي جيء به إلى مكة والى مواضع أخرى من جزيرة العرب. من هؤلإء نسطاس، ويقصد بذلك أنستاس، وكان من موالي صفوان بن أمية. و "مينا" "ميناس"، و "يوحنا" عبد" صهيب الرومى"، و "صهيب." نفسه لم يكن عربياً، انما كان من بلاد الشام في إلأصل، وهو رومي الأصل ولذلك قيل له "صهيب الرومي". وكان قد جاء مكة فقيراً لا يملك شيئاً، فأقام بها، ثم اتصل بعبدالله بن جُدعان الثري المعروف، و صار في خدمته، ولذلك قيل انه كان مولى من موالي عبدالله بن جدعان. وفي رواية انه كان من "النمر بن قاسط"، سقط أسيراً في الروم فباعوه، فاشترى منهم. وقد ورد في حديث: "صهيب سابق الروم"، فهذا يدل على انه من أصل رومي. وهو من أوائل المسلمين، يذكر انه حينما همَّ بترك مكة والذهاب إلى المدينة بعد هجرة الرسول اليها "قال له كفار قريش:أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد ان تخرج بمالك ونفسلك !! والله، لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي ? قالوا: نعم، قال: فإني جعلت لكم مالي"، وترك قريشاً ليذهب إلى الرسول.

وكان لبني مخزوم الأثرياء جملة جوار يونانيات، كما كان لدى العبّاس عم النبي جوار يونانيات، وأشير إلى وجود جوار فارسيات. وكان هذا الرقيق الأبيض ذكوراً وإناثاً من جنسيات متعددة، منهم من كان من أصل رومي، ومنهم من كان من عنصر أوروبي آخر، ومنهم من كان من الفرس أو من أهل العراق مثل نينوى وعين التمر، ومنهم من كان من بلاد الشام أو من أقباط مصر، وهم على النصراّنية في الغالب.

وفد كانت في مكة عند ظهور الإسلام جالية كبيرة كثيرة العدد من العبيد، عرفوا ب " الأحابيش". وبين هؤلاء عدد كبير من النصارى، استوردوا للخدمة وللقيام بالأعمال اللازمة لسراة مكة. وقد ترك هؤلاء الأحابيش أثرأ في لغة أهل مكة، يظهر في وجود عدد من الكلمات الحبشية فيها في مثل المصطلحات الدينية والأدوات التي يحتاج اليها في الصناعات وفي الأعمال اليدوية التي يقوم بادائها العبيد. وقد أشار العلماء إلى عدد من هذه الكلمات ذكروا أنها تعربت، فصارت من الكلام العربي. وقد أشاروا إلى ورود بعضها في القرآن الكريم وفي الحديث. ويشير أهل الأخبار إلى ورود بعض الرهبان والشمامسة إلى مكة. وقد كان من بينهم من يقوم بالتطبيب. وقد ذكر الأخباريون أن شماساً كان قد قصد مكة، فعجب الناس به، وقد سمّوا أحدهم به، هو عثمان بن الشّريد ين سويد ابن هرمي بن عامر بن مخزوم، فقالوا له: "شماس".

وذكر "اليعقوبي"، ان ممن تنصر من أحياء العرب، قوم من قريش من بني "أسد بن عبد العزى"، منهم "عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى". وقد ورد في بعض الأخبار انه قدم على قيصر، فتنصر، وحسنت منزلته عنده. وان قيصر ملكه على مكة. ومنحه براءة بذلك، واعترف به. وقد سبق ان تحدثت عنه في اثناء كلامي على مكة. وقد ذكرت ان من الصعب تصور بلوغ نفوذ القيصر هذا الحد من جزيرة العرب،فلم يتجاوز نفوذ الروم الفعلي في وقت ما من الأوقات أعالي الحجاز. ولكن ذلك لا يمنع من تقرب السادات وتزلفهمً إلى عمال الروم وموظفيهم في بلاد الشام، باظهار انهم من المخلصين لهم المحبين للروم، وانهم من كبار السادات ذوي المكانة والنفوذ، للحصول على مكاسب مادية ومعنوية منهم، تجعل لهم مكانة عند أتباعهم وجاهاً ومنزلة ونفوذاً على القبائل الأخرى. وقد كان الروم يعرفون ذلك معرفة جيدة، بفضل دراستهم لنفسية الأعراب، ووقوفهم على طبائع سادات القبائل، فكانوا يشجعون هذا النوع من التودد السياسي لكسب العرب وجرهم إلى جانبهم.

وعد "ورقة بن نوفل" في جملة المتنصرين في بعض الروايات، فقد ذكر انه "تنصر واستحكم في النصرانية، وقراً الكتب، ومات عليها".

وقد استدل "شيخو" من الخبر المروى عن الصور التيً قيل إنها صور الرسل، والأنبياء وبينها صورة المسيح ومريم، والتي ذكر أنها كانت مرسومة على جدران الكعبة، على أنها هي الدليل على أثر النصرانية بمكة. استدل على فكرته هذه بخبر خلاصته أن الرسول حينما أمر فطمست تلك الصور، استثنى منها صورة عيسى وامه مريم، وبخبر ثان ورد عن تمثال لمريم مزوّق بالحلي وفي حجرها عيسى، باد في الحريق الذي شب في عصر "ابن الزبير"، وبخبر ثالث عن امرأة من غسان قيل إنها "حجت في حاج العرب، فلما رأت صورة مريم في الكعبة، قالت: بأبي أنتِ وأمي: إنك لعربية. فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمحو تلك الصور، إلا ماَ كان من صورة عيسى ومريم".

وكان في الطائف نفر من الموالي كانوا على دين النصرانية، لم يتعرض سادتهم كسائر رجال الأماكن الأخرى من الحجاز لدينهم، فتركوهم على دينهم يقيمون شعائرهم الدينية على نحو ما يشاؤون. من هؤلاء "عدّ اس"، وكان من أهل نينوى، أوقعه حظه في الأسر، فبيع في سوق الرقيق، وجي به إلى الطائف فصار مملوكاً لعتبة وشيبة ابني ربيعة. وعند مجيء الرسول إلى الطائف عارضاً نفسه على ثقيف أهلها، كان هو في جملة من تكلم اليه. ومنهم الأزرق، ذكر أنه كان عبداً رومياً حداداً، وانه هو أبو نافع الأزرق الخارجي الذي ينتمي اليه الأزأرقّة. وهناك روايات تنفي وجود صلة لهذا الأزرق بالأزرق والد نافع المذكور.

وأما الحديث عن النصرانية في اليمن،فهو حديث غامض أوله، مبهم أصله، لا نعرف متى نبدأ به على وجه التحقيق. فليس لدينا نص بالمسند يشير إلى مبدأ دخول النصرانية العربية الجنوبية. وما لدينا من كتابات مما له بعض العلاقة بالنصرانية إنما دوّن في الحقبة المتأخرة من تأريخ اليمن، وفي أيام الحبشة في اليمن، وهو ساكت في الجملة عن المبدأ وعن المبشرين بالنصرانية في العربية الجنوبية. فليس لدينا من بين نصوص المسند في هذا.الباب عون ولا سند.

وليس لنا اذن إلاّ أن نفعل ما فعلناه بالنسبة إلى اليهودية، فنرجع إلى الموارد الإسلامية والنصرانية لنرى رأيها في هذا الباب.

وتزعم الموارد. الإسلامية ان الذي نشر النصرانية في اليمين رجل صالح من بقايا أهل دين عيسى اسمه "فيميون" "Phemion=Faymiyon، وكان رجلاً زاهداً في الدنيا مجاب الدعوة سائحاً ينزل القرى لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف فيها، وكان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان بناء يعمل الطين وكان يعظم الأحد: إذا كان الأحد لم يعمل فيه شيئاً. ففطن لشأنه في قرية من قرى الشام رجل من أهلها أسمه "صالح"، فأحبه واتبعه على دينه ورافقه. وانصرف ومعه صالح من ضواحي الشام حتى وطئا بعض أرض العرب، فعدا عليهما، فاختطفتهما سيارة من بعض العرب، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران. وأهلها من بني الحارث بن كعب من بني كهلان. وكانوا يعبدون الغزى على صورة نخلة طويلة بين أظهرهم. فابتاع رجل من أشرافهم "فيميون"، وابتاع رجل آخر صالحاً، وقد أعجب صاحب فيميون به، لما رآه فيه من صلاح وورع، فآمن بدينه، وآمن أهل نجران منذ ذلك الحين بالنصرانية لمعجزة قام بها "فيميون"، حينما دعا الله يوم عيد العزى ان يرسل عليها ريحاً صرصراً عاتية تخنى عليها. فأتت الريح عليها فجعفتها من أصلها فألقتها، فآمن بدينه أهل نجران. فمن هنالك كانت النصرانية بنجران. ويذكر الطبري ان أهل نجران كانوا يعيدون كل سنة، "إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه، وحليّ النساء. ثم خرجوا، فعكفوا عليها يوماً".

ويظن أن "فيميون" كلمة يونانية في الأصل حرفت من أصل Euphemion. وزعم أن "فيميون" عين أحد النجرانيين واسمه "عبدالله بن الثامر" رئيساً عليهم، وجعلهم تحت رعاية أسقف اسمه "بولس".

وقد ذكر "الأزرقي" أن أهل نجران كانوا من أشلاء سبأ "وكانوا على دين النصرانية على أصل حكم الانجيل، وبقايا من دين الحواريين، ولهم رأس يقال له: عبدالله بن ثامر".

وتذكر رواية اسلامية أخرى أن أهل نجران كانوا أهل شرك، يعبدون الأوثان وكان في قرية من قراها قريباً من نجران ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، وكان أحد رجال نجران واسمه "الثامر" يرسل ابنه "عبدالله" مع غلمان أهل نجران إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فكان يمر على صاحب خبمة بين نجران وتلك القرية، وقد أعجبه ما رآه من صلاته وعبادته وتقواه، فجعل يجلس اليه ويسمع منه حتى دخل في دينه، وصار يدعو اليه بين أهل بلده. فمن ثم انتشرت النصرانية في نجران، وظهرت على الوثنية.

وتذكر هذه الرواية، ان "عبدالله بن الثامر"، أخذ من ثم يبشر بالنصرانية، ويأتى بالمعجزات إذ يشفي المرضى "حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره، ودعا له فعوفي، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران. فدعاه فقال له: أفسدت عليّ أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك ! قال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح عن رأسه فيقع على الأرض، ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران، بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيُلقى فيها فيخرج ليس به بأس، فما غلبه، قال عبدالله بن الثامر: انك والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت ذلك سلطت علي فقتلتني، فوحد الله ذلك الملك، وشهد بشهادة عبدالله بن الثامر، ثم ضربه بعصاً في يده فشجّه شجة غير كبيرة، فقتله، فهلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبدالله بن الثامر".

ولم تصرح هذه الرواية التي يرجع سندها إلى "محمد بن كعب بن القرظي" وبعض أهل نجران، باسم الرجل الصالح الذي أخذ منه "عبداللّه بن الثامر" نصرانيته. وقد نبّه إلى ذلك الطبري، في اثناء سرده لها، فقال: "ولم يسموه باسمه الذي سمّاه به وهب بن منبه".

وقد صيرت بعض الروايات "عبدالله بن الثامر" في جملة من قتلهم "ذو نواس" من النصارى، غير ان "الطبري"، نبه إلى خطل هذا البعض، وبينّ ان "عبدالله" كان قد قتل قبل ذلك، قتله ملك كان قبله، هو كان أصل ذلك الدين.

وهناك قصة ذكرها "ابن اسحاق"، تزعم أن رجلاً حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجاته، فوجد عبداللّه بن الثامر تحت دفن منها قاعداً واضعاً يده على ضربة في رأسه ممسكآ عليها بيده، فإذا أخرت يده عنها انبعثت دماً، واذا أرسلت يده ردّها عليها،. فأمسك دمها،وفي يده خاتم، فأقر على حاله وردّوا عليه الدفن الذي كان عليه، وكان ذلك بأمر عمر بن الخطاب.

والظاهر أن النجرانيين، لم ينسوا رئيسهم "عبدالله بن الثامر" حتى بعد اسلامهم، فرووا عنه هذا القصص وصيروه على هذه الصورة التي روتها القصة.

ويظهر أنه قتل، فصير شهيداَ من الشهداء، لأنه قتل في سبيل دينه وفي سبيل نشره بين النجرانيين.

وزعم بعض الأخباريين أن الذي أدخل النصرانية ونشرها في الحميريين، هو التبع عبد كلال بن مثوب: أخذ التبع نصرانيته بزعمهم من رجل من غسان ذكروا أنه كان قد قدم عليه من الشام. فما علمت حمير بتنصر التبع وبتغيير دينه وإعراضه عن عبادتها، وثبت بالغساني فقتلته. وقد أشير الى تنصره في القصيدة الحميرية.

أما الرواية الأولى فتنسب الى "وهب بن منبه". وأما الرواية الثانية فتنسب الى "محمد بن كعب القرضي" والى بعض أهل نجران لم يصرح "ابن اسحاق" بذكر أسمائهم، فالروايتان اذن من مورد واحد هو أهل الكتاب. فوهب بن منبه من مسلمة يهود. وأما محمد بن كعب بن أسد القرظي المتوفي بين سنة 18 1 - 0 2 1 للهجرة، فهو من أصل يهودي كذلك، من قريظة حلفاء ألأوس، وقريظة يهود. وكان مثل وهب قاصأَ من القصاص يقص في المسجد. وقد جرّ قصصه.هذا عليه البلايا، فكان يقص في المسجد فسقط عليه السقف فمات.

وجدت أقوال محمد بن كعب القرظي سبيلها إلى تأريخ الطبري عن طريق سيرة ابن اسحاق، وهو طريق ابن حميد عن سلمة بن الفضل عن ابن اسحاق صاحب السيرة الذي أخذ منه بلا واسطة كما أخذ منه بالواسطة. أما الأخبار المروية عنه، فهي في سير الرسل والأنبياء، وفي انتشار اليهودية والنصرانية في اليمن، وفي الأمور التي تخص اليهود في الححاز. وكان من المقربين الى الخليفة عمر بن عبد العزيز، لأنه كانت له به معرفة سابقة قبل توليه الخلافة. فلما ولي الخلافة، كان يذهب اليه ويتحدث معه في الزهد وفي القصص الذي يحمل طايع الاسرائيليات وفي التفسير الذي اشتهر به.

فناقل النصرانية إلى نجران اذن رجل غريب جاء إلى البلد من ديار الشام على رواية "وهب بن منبه". ويرجع "أوليري" هذه الروابة إلى أصل يرى جذوره في السريانية. واسم هذا الرجل الصالح غير عربي بالطبع. فلعله من المبشربن الذين كانوا يطوفون بين ديار العرب للتبشير.

ولا يستبعد أن يكون المبشرون قد أدخلوا النصرانية إلى اليمن عن طريق الحجاز، فقد كانوا يتنقلون بين العرب لنشر هذا الدين. وليس بمستبعد أيضاً أن يكون قد دخل عن طريق الساحل أيضأَ مع السفن. فقد كان المبشرون يتنقلون مع البحارة والتجار لنشر النصرانية، وقد تمكنوا بمعونة الحكومة البيزنطية من تأسيس جملة كنائس على سواحل جزيرة العرب وفي سقطرى والهند. كما لا يستبعد أن يكون للمبشرين الذين جاؤوا من العراق كما تذكر بعض الموارد النصرانية السريانية دخل في نشر النصرانية في اليمن. و لا سيما نشر النسطورية في تلك البلاد.

وأما الموارد النصرانية، فإنها مختلفة فيما بينها في أول من أدخل النصرانية الى اليمن، فالموارد اليونانية ترى رأياً، والموارد السريانية ترى رأياً، والموارد الحبشية ترى رأياً آخر، يختلف عن الرأيين. وكل رأي من هذه الأراء الثلاثة يرجع شرف نشر النصرانية في اليمن اليه.

يحدثنا كتبة التواريخ الكنسية من اليونان أن القيصر "قسطنطين" الثاني أرسل في عام "354" للميلاد "ثيوفيلوس اندس"، Theophilus Indus، أي "ثيوفيلوس الهندي"، من جزبرة سرنديب أي سيلان إلى العربية الجنوبية للتبشير بالنصرانية بين الناس. وقد تمكن من انشاء كنيسة في عدن وأخرى في ظفار وثالثة في هرمز،وعين للمتنصرين رئيساً ثم رحل. وصارت ظفار في سنة 356م مقراً لرئيس اًساقفة يشرف على شؤون نصارى نجران وهرمز وسقطرى. وقد عثر على مقربة من خرائب ظفار على أعمدة من الطراز "الكورنثي" وعلى بقايا تيجانها وعليها نقوش صلبان يظهر أنها من مخلفات تلك الكنائس القديمة التي شيدت بمساعدة البعثات التبشيرية وفي أيام الحبشة في اليمن.

وزعم "فيلوستورجيوس" Philostorgius ان هذا الشعب الذي بشّر "ثيوفلوس" بين أفراده بالنصرانية، شعب هندي، وكان يدعى سابقاً باسم شعب "سبأ" نسبة إلى عاصمته سبأ ويعرف اليوم باسم حمير Homeritae. وقد توهم عدد من الكتبة "الكلاسيكيين" فحسبوا الحميريين من الهنود، كما ان بعضاً منهم ظنوا ان السبئيين من "الكوشيين" الحبش، والذي أوقعهم في هذا الوهم هو صلات هؤلاء بافريقية وبالهند، ولوقوع بلادهم على المحيط الهندي وعلى مقربة من افريقية.

وجاء في رواية أخرى ان القيصر"قسطنطين" الثاني أرسل "ثيوفيلوس" إلى ملك حمير Homeritae ونجاشي الحبشةAxume وذلك في عام "356"للميلاد. برسائل كتبها القيصر إلى الملكين. فلما أنهى مهمته لدى ملك حمير، انتهز هذه الفرصة فزار وطنه الهند، ثم عاد فذهب إلى الحبشة. وعاد منها فذهب إلى أنطاكية Antiochia ومنها إلى القسطنطنية. ويظهر من هذه الرواية ان مهمته هذه لم تكن مهمة دينية، انما كانت ذات طابع سياسي، الغاية منها ضم حمير والأحباش إلى معسكر البيزنطيين.

وقد كان من مصلحة الحكومة البيزنطية بعد دخول القيصر"قسطنطين"في النصرانية عام "313" م للميلاد واتخاذها ديانة رسمية للدولة، ان ينشر هذا الدين ويكثر أتباعه، لما في ذلك من فوائد سياسية ومصالح اقتصادية،فضلا عن الأثر العميق الذي يتركه هذا العمل في نفوس أتباعه المؤمنين مما يرفع من مكانة القياصرة في نفوس الشعب ويقوي من مراكزهم ونفوذهم على الكنيسة والرعية. وبمساعدة هؤلاء القياصرة تمكن المبشرون من انشاء ثلاث كنائس في "ظفار" و "عدن" و"هرمز".

ولم يكن يقصد "قسطنطين" كما يرى المستشرق "روسيني" من إرسال الوفد الذي ترأسه "ثيوفيلوس" إلى ملك حمير، هدفاً دينياً محضاً، وإنما أراد أن يعقد معاهدة تجارية مع الحميربين ويحقق له منافع اقتصادية وسياسية، بأن يحقق له التجارة البحرية، ويحرض اليمانيين على الفرس ويدخلهم في معسكره بدخولهم في النصرانية التي تجمع عندئذ بينهم وبين الروم.

وورد في رواية أخرى ان الحميربين Homeritae دخلوا في عهد"انسطاس" "انسطاسيوس" "491 - 8 1ه م" في النصرانية. وذكر أيضاً أنه كان في جملة من قصدوا القديس "سمعان العمودي" رجال من عرب حمير، وقد رآهم "تاودوريطس" في القرن الخامس للميلاد.

وأما الموارد السريانية، ومنها الموارد النسطورية، فتزعم أن تاجراً من أهل نجران اسمه "حنان" أو "حيّان"، قام في أيام "يزدجرد " الأول "399 - 420 للميلاد" بسفرة تجارية إلى القسطنطنية، ثم ذهب منها إلى الحيرة،وفيها تلقن مبادىء النصرانية ودخل فيها. فلما عاد منها إلى نجران، بشر فيها بالنصرانية حتى تمكن من نشرها بين حمير. وترجع تواريخ البطارقة هذه الحادثة إلى أيام بطرقة "معنى" Ma'na الموافقة لحوالى سنة"420" بعد الميلاد. وذكر أنه في عهد البطريق "سيلاس" Silas "505 - 523م"، هرب لاجئون من اليعاقبة Jakobiten الى الحيرة، غير أن النساطرة أجلوهم عنها،فذهب قسم منهم إلى نجران، فنشروا مذهبهم بين السكان.

وتشير الأخبار الكنسية أيضاً إلى أن رسولي الكلدان الأولين: "ادي" و "ماري" كانا قد سارا إلى بلاد العرب سكان الخيام. والى نجران وجزائر بحر اليمن. وجاء في المصحف الناموسي: "وبشر الجزيرة والموصل وأرض السواد كلها وما يليها من أرض التيمن كلها وبلاد العرب، سكان الخيام والى ناحية نجران والجزائر التي في بحر اليمن مارى الذي من السبعين".

وللحبش قصص عن انتشار النصرانية في نجران، خلاصتها: ان قديساً اسمه "ازفير" Azkir، أقام كنيسة ورفع الصليب وبشّر بالنصرانية في نجران، وذلك في ايام الملك "شرحبيل ينكف" ملك حمير، فاستاء من ذلك "ذو ثعليان" و "ذو قيفان"، وأرسلا رجالهما إلى المدينة لهدم الكنيسة وانزال الصليب والقبض على القديس، ففعلوا وألقوا به في غياهب السجن. وفي اثناء اقامته فيه هدى قوماً من السجناء إلى النصرانية بفعل المعجزات التي قام بها، فغضب الملك "شرحببل" عليه، وأرسل إلى القيلين اللذين كانا في نجران ان يرسلا اليه هذا الرجل الذي فتن الناس، فأرسل مخفوراً اليه. وفي اثناء اجتيازه الطريق إلى عاصمة الملك ظهرت منه معجزات خارقة، آمن بها عدد ممن رافقوه أو وقفوا على احواله وتعمّدوا على يديه. فلما وصل إلى "ظفار" عاصمة "شرحبيل"، انتهره الملك وحاجه في دينه وعرض عليه كتب "يهود"، ثم أغراه بالذهب والمال، فقال له القديس: "الذهب والفضة فانيان، أما كرستس ساكن السماء فباق". وقد حرضه عليه أحد الأحبار، فأمر الملك عندئذ بارساله إلى نجران لقتله. فلما بلغ المدينة، قتله اليهود، فمات شهيداً في سبيل دينه.

وتزعم الرواية الحبشية ان نصارى اليمن كانوا يرسلون بهداياهم إلى النجاشى بالضرائب يدفعونها اليه.

وذكر ان احد الاساقفة ممن كان في اليمن، كان قد اشترك في أعمال مجمع "نيقية" الذي انعقد سنة325 للميلاد. وإذا صح هذا الخبر، فإنه يعني ان النصرانية كانت قد وجدت لها سبيلاً إلى اليمن في القرن الرابع للميلاد.

يتبين من هذه الأخبار أن النصرانية لم تدخل العربية الجنوبية من طريق واحد، وإنما دخلتها من البر ومن البحر، دخلتها من البر من ديار الشام إلى الحجاز فاليمن، ومن العراق أيضاً مع القوافل التجارية المستمرة التي كانت بين اليمن والعراق. ودخلتها من البحر بواسطة السفن اليونانية ودخلتها مع الحبشة كذلك الذين كانوا على اتصال دائم باليمن وببقية العربية الجنوبية منذ أيام ما قبل الميلاد.

وقد كانت نجران أهم موطن للنصرانية في اليمن، ولعلها الموطن الوحيد الذي رسخت هذه الديانة فيه في هذه البلاد. وقد اشتهرت نجران بالحادثة التي وقعت فيها، حادثة تعذيب النصارى، وبما ذكره أهل الأخبار عن الكنيسة التي أنشأها الأحباش فيها وعرفت ب "كعبة نجران" عند الأخباريين كما عرفت ب "بيعة نجران" أيضاً. وفي رواية تنسب إلى ابن الكلبي "أنها كانت قبةّ من أدم من ثلاث مئة جلد، كان اذا جاءها الخائف أمن، أو طالب حاجة قضيت، أو مسترفد أرفد. وكانت لعظمتها عندهم يسمونها كعبة نجران، وكانت على نهر نجران، وكانت لعبد المسيح بن دارس بن عدي بن معقل، وكان يستغل من ذلك النهر عشرة آلاف دينار، وكانت القبّة تستغرقها". وكان ينفق عليها من غلّة ذلك النهر.

ووردفي رواية أخرى أنها كانت بناء بني على بناء الكعبة.وقد بناها بنو عبد المدّان بن الدياّن الحارثي، بنوها على بناء الكعبة، وعظموها مضاهاة لها.

وكان فيها أساقفة معتمون، وهم الذين جاؤوا إلى النبي، ودعاهم إلى المباهلة.

وتذكرنا قصة "ابن الكلبي" عن أصل كعبة نجران، وأنها كانت من أدم، بما نعرفه عن خيمة "يهوه" إله العبرانيين، وتعبد الاسرائيليين له فيها قبل بناء الهيكل، واعتقادهم أنها خيمة مقدسة، وبما نعرفه من خيم القبائل المقدسة، وذلك لأنها كانت بيوتاً توضع فيها الأصنام ويتعبد أفراد القبيلة بها، فإذا ارتحلوا إلى مكان جديد نقلوا خيمتهم معهم. والظاهر ان كعبة نجران المذكورة،إن صحت رواية ابن الكلبي، كانت من هذا النوع، خيمة مقدسة في الأصل وذلك قبل دخول أهل نجران في النصرانية، فلما دخلوها، لم تذهب عنها قدسيتها، بل حولوها إلى كنيسة، ثم بنوا بيعة في موضعها فيما بعد.

وفي رواية ان قُس بن ساعدة الايادي كان أسقفاً على نجران، وهي رواية تحتاح إلى سند موثوق به، وقد أخذ بها "شيخو" وأمثاله ممن يرجع كل شيء من هذا القبيل في الجاهلية إلى النصرانية.

وقد كانت نجران المركز الرئيس للنصرانية في اليمن عند ظهور الإسلام، لها نظام سياسى واداري خاص تخضع له، وعليها: "العاقب"، وهو كما يقول أهل السير: "أمير القوم، وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم،والذي لا يصدرون إلا عن رأيه"، و "السيد"، وهو "ثمالهم، وصاحب رحلهم ومجتمعهم"، و "الأسقف"، وهو " حبرهم، و إمامهم، وصاحب مدر اسهم". ويقصدو ن به رئيس نجران الديني الذي اليه يرجعون في أمور الدين. أما العاقب والسيد، فإليهما ادارة الجماعة، والإشراف على شؤونهم السياسية والمالية، وتدبير ما يحتاج المجتمع اليه من بقية الشؤون.

وقد صالح أهل نجران خالد بن الوليد، في زمن النبي، في السنة العاشرة من الهجرة، وبذلك دخل أكثر سكان المدينة في الإسلام. أما من بقي على دينه من النصارى، فقدفرضت عليه الجزية.

ويذكر أهل السير ان اسم عاقب نجران في ايام النبي، هو "عبد المسيح" رجل من كندة. وقد قدم على رأس وفد من أهل نجران إلى يثرب، فقابل الرسول، وتحدث معه. وكان معه "الأيهم" وهو سيد نجران يومئذ، وأبو حارثة بن علقمة احد بني بكر بن وائل، وكان أسقفهم وحبرهم وإمامهم يومئذ، وله مقام عظيم عندهم، "وقد شرف فيهم، ودرس كتبهم حتى حسن علمه بدينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه وموّ لوه، وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه وأجتهاده في دينه".

وإذا صح ما رًواه أهل الأخبار من أن عاقب نجران كان كندياً، وأن اسقفها كان من "بكر بن وائل"،فإن ذلك يدل على أن الرئاسة عند النصارى العرب، لم تكن تتبع العرف القبلي في الزعامة، وإنما كانت عن تنسيب واختيار، وأنا لا استبعد احتمال وجود مراجع دينية عليا، كانت هي التي تتولى النظر في ادارة الكنائس وفي تعيين رجال الدين وفي النظر في المشكلات التي تقع بين النصارى، أو بين النصارى وغيرهم، وفي أمر مساهمة النصارى العرب في المجامع الكنسية التي تنظر في المسائل العامة للطوائف.

ويرى بعض أهل الأخبار أن "السيد والعاقب أسقفي نجران اللذين أرادا مباهلة رسول الله" هما من ولد الأفعى بن الحصين بن غنم بن رهم بن الحارث الجرهمي، الذي حكم بين بني نزار بن معد في ميراثهم، وكان منزله بنجران.

ويذكر علماء اللغة، أن "العاقب" من كل شيء آخره، والعاقب السيد، وقيل الذي دون السيد، وقيل الذي يخلف السيد، وقيل: الذي يخلف من كان قبله في الخير كالعقوب. والذي أوحى اليهم بهذا التأويل والتفسير، ظاهرلفظة "عقب" في عربيتنا التي منها اشتقت لفظة "العاقب" على رأيهم، والصحيح أنها لفظة عربية جنوبية وردت في المسند، بمعنى "رئيس" وممثل قوم، أي رسول قوم، فورد "عقبت نشقم"، أي "رئيس" مدينة "نشق"، وبمعنى ممثل مدينة"نشق".

وذكر ان نصارى نجران، أرسلوأ العاقب والسيد في نفر لمحاججة رسول الله فيما نزل عليه في المسيح، من انه عبدالله، حيث كبر ذلك عليهم سماعه،فاخذوا يخاصمونه ويجادلونه فيه، وألحوا عليه بالجدل والخصومة، فدعاهم إلى الملاعنة، فامتنعوا ودعوا إلى المصالحة، فصالحهم. وانه إلى ذلك أشير في القرآن الكريم: ) فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم. فقل: تعالوا: ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساء كم وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين (.

وورد ايضاً انه لما بعث رسول الله وسمع به أهل نجران أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم منهم العاقب والسيد، و "مار سرجس"، و "مار يحز"، "فسألوه ما يقول في عيسى. فقال: هو عبد الله وروحه وكلمته. قالوا هم: لا، ولكنه هو الله نزل من ملكه، فدخل في جوف مريم، ثم خرج منها، فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت قط انساناً خلق من غير أب ? فأنزل الله، عز وجل، إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن فيكون".

وقد كان لنصارى اليمن كنائس أخرى غير كنيسة "نجران": فقد كانت لهم كنيسة عظيمة في "صنعاء"، هي "القليس" التي اكتسبت شهرة عظيمة في كتب الأخبار والتواريخ وهي كنيسة "أبرهة"، من أصل "اكلسيا"Ecclysia اليوناني بمعنى الكنيسة، وموضعها الآن جامع "صنعاء" على ما يظن. وقد أبدع الأحباش في تزيينها وتجميلها، وأنفقوا عليها مبالغ طائلة.

كما كانت لهم كنائس في "مأرب" و "ظفار". وقد عهد الأحباش بتدبير شؤون كنيسة "ظفار" إلى أسقف شهير يقال له "جرجنسيوس" "جورجيسيوس" "جرجيسيوس". وهو مؤلف كتاب شرائع الحميريين. وله مناظرات مع اليهود.

وقد بقيت النصرانية قائمة في اليمن في أيام الإسلام، ففي الأخبار الكنسية أن رئيس البطارقة النساطرة "طيموثاوس"، نصب في أواخر القرن الثامن للميلاد أسقفاً لنجران وصنعاء، اسمه "بطرس". وفي "الفهرست" لابن النديم، أنه التقى براهب من نجران يدعى حساّن، كان قد انفذه الجاثليق إلى الصين، ليتفقد مع خمسة أناسي من النصارى أحوال نصاراها، فعاد منها سنة "377" للهجرة، وأخبره بعجائب تلك البلاد. وذكر أنه في حوالي سنة1210 للميلاد كان في منطقة صنعاء خمسة أساقفة، وأسقف في مدينة زبيد وأسقف في نجران، وأنه كان في حوالى سنة 1250 للميلاد أسقف في عدن.

إن بقاء النصرانية في نجران وفي مواضع من اليمن وأنحاء أخرى من جزبرة العرب، وبقاء اليهودفي اليمن إلى زمن غير بعيد، يشير إلى أن ما ذهب اليه كثير من المؤرخين من إجلاء أهل الكتاب بأمر الخليفة "عمر" عن جزيرة العرب ثم بقية الخلفاء الذين ساروا على حكم: "لا يجتمع دينان في جزبرة العرب" فيه مبالغة. والظاهر أن الاجلاء كان قاصراً على المواضع التي تعرضت فيها جاليات أهل الكتاب فيها للاسلام بسوء. فطبق على جاليات يهود يثرب ومن كان يسكن إلى الشمال منهم، لوقوفهم موقفاً معادياً شديداً من الإسلام، ولعملهم في إثارة الفتن على المسلمين. ومن يدري فلعلهم،ولعل أهل الكتاب عموماً ساعدوا في قيام الردة وتشجيع المتنبين والمرتدين للقضاء على الخطر الذي زعموه، خطر ظهور الإسلام وانتشاره في جزيرة العرب وفي خارجها، وقيام دولة موحدة كبيرة فيها.

ومن يدري أيضاً، فلعل الروم والأحباش كانوا أيضأ في جملة من كان محرض أهل الكتاب على الدس للاسلام،وأن بعض من أعلن الردة مثل "النعمان الغرور" وهو نصراني، وغيره ممن ارتد معه من النصارى، كانوا قد تلقوا عوناً من الخارج، وهذا ما حمل الخليفة على اتباع قاعدة إجلاء الدساسين من اهل الكتاب مهما كان نوعهم عن جزيرة العرب لحماية الإسلام من خطر الفتنة ومن الردة، ولم تكن قواعده قد تركزت واستقرت استقراراً تاماً بعد.

إن الذي افهمه من سياسة إجلاء "عمر" لأهل الكتاب، هو ان ذلك الإجلاء كان خاصأَ بالجاليات اليهودية التي كانت تقيم فيما بين فلسطين ويثرب، وقاصراً عليها، بسبب وقوفها موقفاً معادياً من الإسلام، أما النصارى فلم تكن لهم جاليات هناك، فلم يقع أجلاء لهم فيها. ولكن "عمر" ومن جاء بعده لم يطبقوا الإجلاء على الأسر وألأفراد، بدليل ما نجده في أخبار أهل الأخبار من وجود أسر وأفراد من يهود ونصارى في يثرب وفي مكة وفي الطائف بعد وفاة عمر.

أما في غير الحجاز من بقية أنحاء جزيرة العرب، فلم يطبق قانون "عمر" على أهل الكتاب، بدليل دفع جالياتهم "الجزية" عن رؤوسهم في ايامه إلى وفاته، ثم في ايام من جاء بعده من الخلفاء. فكاًن الخليفة، قد طبق أمر الإجلاء على يهود الحجاز لخوفه من خطر بقائهم في مقر الإسلام وفي مدينة الرسول ومن احتمال عودة من هاجر منهم إلى أرضهم وتكتلهم من جديد، وإثارتهم من لم يكن قد تمكن الإسلام من قلبه بعد، فيقع للاسلام ما وقع في ايام الرسول من اتصالهم سراً بكفار قريش، ومن حدوث ردة جديدة، فقرر إجلاءهم جماعة عن تلك الديار.

النصرانية في بقية مواضع جزيرة العرب

وكان التجار الروم ينزلون سواحل العربية الجنوبية للتزود منها بالماء وبالطعام وللاتجار مع سكانها، ومنهم من أقام بها وقضى حياته فيها، وتعرب. وكان منهم من بشر بالنصرانية وعمل على نشرها بين السكان. ولعل الحكومة البيزنطية كانت ترسل المبشرين إلى هذه المواضع للتبشير، كذلك أرسل نصارى الحيرة المبشرين لنشر نصرانيتهم في العربية الجنوبيةّ. وبعد دخول هذه البلاد في الإسلام احتفظ قوم من النصارى بدينهم، مقابل دفع الجزبة للمسلمين.

وأما اليمامة، فكانت النصرانية قد وجدت لها سبيلاً بين قراها وقبائلها. ويظهر من شعر للاعشى مدح به "هوذة بن على" حاكمها عند مبعث الرسول، انه كان نصرانياً منّ على قوم من "تميم" ففك وثاقهم يوم أسروا،ويوم قتلوا وسط "المشقر"، ومنّ عليهم "يوم الفصح"، يرجو الإلهَ بما سدى وما صنعا.

وأما العربية الشرقية، فقد دخلت النصرانية اليها من الشمال، من العراق في الغالب. ولكن بعض الروم كانوا قد وجدوا سبيلهم اليها، فدخلوها من البحر أيضاً. فعششت في مواضع منها مثل البحربن، وقطر، وهجر، وبعض جزرالخليج. وكانت غالبية نصارى هذه الأرضين على مذهب نسطور آخذين هذا المذهب من نصارى الحيرة الذين كانوا على اتصال وثيق بهم، كما كان رجال دينهم يسافرون إلى هذه المنطقة للتبشير بها، فزرعوا فيها بذور مذهبهم، ونشروه بين من أقبل على النصرانية من العرب.

ومن رجال البحرين النصارى "الجارود بن عمرو بن حنش المعلى"1، قدم على النبي بالمدينة،فأسلم وأسلم معه أصحابه. وكان حسن الإسلام صلباً حتى هلك،وقد لام قومه ممن انضم الى "المنذر بن النعمان بن المنذر" الغرور، فارتد عن الإسلام وعاد إلى دينه الأول. وقد بقي إلى أيام "عمر" في أغلب الروايات والى خلافة عثمان في رواية. واشترك في حروب فارس، فقتل بها ب "عقبة الطين"، التي عرفت باسمه، فقيل لها عقبة الجارود، وذلك سنة احدى وعشرين في خلافة عمر، وقيل قتل بنهاوند مع النعمان بن مقرن. وقد رووا له شعراً. وكان ولده "المنذر بن الجارود" من رؤساء "عبد القيس" بالبصرة. وحفيده " الحكم بن المنذر" الذي مدحه "الأعشى الحرمازي" بشعر حسده الحجاج عليه.

الفصل الثمانون
المذاهب النصرانية

لقد أصيبت النصرانية بما أصيبت به أكثر الأديان من تشقق وتصدع وانفصام، فظهر فيها شيع وفرق، تخاصمت فيما بينها وتجادلت. وكان أكثر جدالها في موضوع طبيعة المسيح وعلاقة الأم بالابن، وفي موضوع النفس، وقدعقدت لذلك جملة مجامع كنسية للنظر في هذه الآراء والحكم على صحتها أو فسادها، وفي أمر اًصحابها، اجتمع فيها مندوبون من مختلف الأماكن وبينهم بعض ا الأساقفة العرب. غير انها لم تتمكن من القضاء على النزعات المختلفة، فظهرت فيها جملة مذاهب، حرمت المجامع أصحابها، وحكمت ببدعتهم وبخروجهم على التعاليم الصحيحة، وطلبت من بعضهم الرجوع إلى الدين الصحيح، غير ان منهم من أصر على رأيه، وتحزب له، وبشّر به، فوجد أنصاراً وأعواناً انتموا اليه وتسموّا به.

والواقع انه لم يكن من السهل على الداخلين في النصرانية فهم قضية معقدة كهذه القضية، وهي قضية فلسفية جدلية أكثر منها عقيدة دينيه. ولذلك كان من الطبيعي وقوع الاختلاف فيها، و تشتت آراء النصرانية بالقياس اليها، خاصة وهي حديثة عهد، وأكثر الداخلين فيها هم ممن دخلوا حديثاً في هذا الدين، وليس لهم الإدراك العميق والخيال الواسع لفهم موضوع كهذا الموضوع. ثم إن النصرانية ديانة عالمية، لم توجه لأمة خاصة من الأمم، وقد جاءت ككل الأديان بأحكام لا بد وان يختلف الناس في فهمها، لاختلاف المدارك والثقافات، وهذا الاختلاف في الفهم، يؤدي إلى ظهور المذاهب والشيع،والى تناحر هذه المذاهب، وادعاء كل واحد منها انه وحده على الحق، وان ما دونه على الباطل والهرطقة و الكفر.

لقد فتح "بولس الرسول" وأتباع المسيح الآخرون ميداناً واسعاً من الجدل في موضوع المسيح: هل المسيح إنسان، أو هو ربّ، أو هو من خلق الرب ? و هل هو والربّ سواء، أو هو منفصل عن الربّ? هذه الأسئلة وأمثالها مما يتصل بطبيعة المسيح شغلت رجال الكنيسة، وكتّلتهم كتلاً: كل كتلة ترى أن رأيها في الطبيعة هو الرأي الصواب، وأنه هو الدين الحق القويم، وأن ما دونه ضلال وباطل. فظهرت المذاهب: شرقية وغربية، وانقسمت الكنيسة على نفسها، فظهرت من الكنيسة الواحدة كنائس. ولا تزال تنشق، ويزيد عددها وتظهر أسماء جديدة لمذاهب لم تكن معروفة في النصرانية القديمة.

لقد كان الناصريون الأولون، وهي التسمية القديمة التي عرف بها النصارى، في فوضى فكرية. فلم تكن تعاليم المسيح مفهومة عندهم ولا مهضومة، وكانت تفاسير تلاميذه غير منسقة ولا مركزة تركيزاً يكفي لتوجيه الناصريين وجهة معينة واحدة. ثم إن تعقب اليهود والرومان للنصارى وتنكيلهم بهم، وخوف الناصري على حياته وعلى ماله إذا تظاهر بدينه: كل هذه كان لها أثر خطير في المجتمع النصراني الأول. ولولا جلد بعض التلاميذ وتفانيهم في الدعوة، وتركيزهم لتعاليمها وتبويبها وصقلها، لما كان للنصرانية ذكر باق حتى الان.

وليس في استطاعة أحد الزعمُ بأن هذه النصرانية التي تركّزت وتثبتت على هذه الصورة التي نشهدها،هي النصرانية التي جاء بها المسيح وكان عليها الناصريون، أي أقدم أتباع عيسى. فالنصرانية هي سلسلة تطورات وأفكار وآراء وضعها البارزون من الاباء، ثم إنها كأكثر الأديان تأثرت بمؤثرات عديدة لم يكن من الممكن على الداخلين فيها التخلص منها. فدخلت فيها وصارت جزءاً منها، مع أن بعضها مناهض ومناقض لمبادئ هذا الدين.

وتولد عن هذا الجدل ظهور "الآربوسية" أتباع "آريوس"، و"السبيلية" Sabellians وأتباع "الثالوث" Trinitarians ومذاهب أخرى نبعت من تلك البلبلة الفكرية التي أظهرها الاختلاف في طبيعة المسيح. ونظراً إلى ما أحدثته هذه الآراء اللاهوتية من انقسام وتفرق في صفوف النصارى، وما تركته من أثر خطير في الأحوال الداخلية للانبراطورية. عزم الانبراطور "قسطنطين" باني القسطنطنية على عقد مؤتمر للتوفيق بين هذه الآراء وتنسيقها، فعقد مجمع "نيقية" Nicaea حضره "آريوس" للدفاع عن نفسه وحضره جمع من الأساقفة المخالفين له لمحاكمته ولاثبات هرطقته وخروجه على الايمان الصحيح. وكانت النتيجة الوحيدة لهذا المؤتمر وضع بيان دقيق عن الثالوث، وآلحكم بفساد رأي آريوس وبخروجه على عقيدة النصرانية الصحيحة، ووضع تعريف للايمان الصحيح.

وعقب هذا المجمع الذي انعقد في سنة "325" للميلاد وحدد معنى النصرانية وأصولها، عدة مجامع عقدت للنظر في أمثال هذه المشكلات الخطيرة التي جابهت الكنيسة، عقد بعضها في القسطنطنية فعرفت بها، وعقد بعض آخر في "أفسوس""431 م" وفي "خلقدونيا" Chalcedon "451 م"، ولكنها لم تستطع ان تعيد الوحدة إلى الكنيسة، فانقسمت إلى عدة كنائس، وحدث الانفصال الأكبر في سنة "1054 م" حيث تجزأت الكنيسة الكبرى للانبراطورية إلى كنيستين: كنيسة غربية استعملت اللغة اللاتينية لغة رسمية لها، وكنيسة أرثوذكسية هي الكنيسة الإغريقية الأصلية، وذلك بسبب خلافات بسيطة ليس لها أثر خطير في جوهر العقيدة. أما الشرق، أي آسية وافريقية، فقد سبق نصاراه نصارى الغرب في تحطيم وحدة الكنيسة، فظهرت عندهم الكنيسة النسطورية والكنيسة اليعقوبية، في زمان مبكر سبق انفصال الكنيسة اللانينية عن الإغريقية بزمان طويل.

وقد وصلت الينا أسماء من حضر بعض تلك المجامع الكنيسية، واشترك في جدالها ومناقشاتها ووقع على قراراتها ومحاضرها، وبينها أسماء أساقفة بشروا بين العرب، وأساقفة يظهر أنهم كانوا من أصل عربي بدليل أسمائهم العربية الخالصة أو المنقولة إلى اليونانية والسريانية. وقد عرف بعضهم بأساقفة الخيام، لمرافقتهم للاعراب ومعيشتهم بينهم في الخيام معيشة الأعراب.

ومن أساقفة الأعراب أسقف عرف باسم "بطرس"، وقد وقع على أعمال مجمع "أفسوس" بصفة كونه "أسقف محلة العرب"، والأسقف "تاوتيموس أسقف العرب" الذي وقع على أعمال مجمع انطاكية الذي انعقد عام 363 للميلاد.

وقد كان بين أساقفة القدس في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس للميلاد، أسقف من أصل عربي، اسمه الياس "494- 513م".

فالأساقفة الذين كانوا يديرون أمور النصارى العرب ويبشرون بين القبائل الوثنية، أسهموا في الجدل الديني الذي قام أكثره على بحث موضوع طبيعة المسيح واشتركوا فيه، وبذلك نقلوا إلى العرب هذه الأبحاث اللاهوتية التي شغلت بال العالم المتمدن منذ القرن الأول للميلاد فما بعده، وكانت أهم مشكلات النصرانية يومئذ مشكلة شغلت بال المؤمنين، ثم بال الحكومة البيزنطية بعد تنصرها وبال أتباعها المؤمنين، وشغلت العالم الغربي حتى بعد عصر النهضة، مشكلة أطاحت برؤوس الالاف من الناس باسم الكفر والايمان، البدعة والحق. وكان في جملة ما أسهم فيه رؤساء أديرة اقليم العربية وضع رسالة مضمونها دستور الايمان، كتبها أولئك الرؤساء، ووجهوها الى يعقوب البرادعي، ردّوا فيها على رأي يحيى النحوي في تثليث الجوهر الفرد، وذلك بين السنتين 570و 578للميلاد. وقد وقعها 137 رئيساً ل 137 ديراً في اقليم العربية الممتد من شرقي بلاد الشام إلى الفرات.

ومن المذاهب النصرانية التي تدخل في حدود موضوعنا: المذهب النسطوري والمذهب اليعقوبي، وهما من المذاهب الشرقية، أي من المذاهب النصرانية التي ظهرت وانتشرت في الشرق، ووجدت لها مجالاً وانتشاراً في العراق وفي بلاد الشام ومصر والحبشة وجزيرة العرب.

أما المذهب النسطوري، فينسب ان البطريق "نسطوريوس" "نسطور" Nestorius من "جرمانيقية" Germanicia، و هي "مرعش" المتوفى سنة "450 م"، وله رأي ومقالة في طبيعة المسيح، فجعل للمسيح طبيعتين "اقنومين": أقنوم الإنسان يسوع، وأقنوم الله الكلمة، وذكر ان مريم هي بشر ولدت بشراً هو المسيح الذي هو إلَه من ناحيهَ الأب الإلَه فقط.

وتستند تعاليم نسطور وآراؤه إلى الجدل الذيَ أثاره من تقدمه من الأباء في موضوع طبيعة المسيح، والانشقاق الذي حدث نتيجة لهذا الجدل. وأكثر من أثر فيه وكو ن له رأياً في المسيح هو "ديودورس" Diodorus أسقف "طرسوس"Tarsus و "ثيودور المصيصي" "393 - 28 4 م" تلميذ "ديودورس".

وفي انطاكية وقف "نسطور" على آراء هذين العالمين، وكان قد ترهب وسكن هذه المدينة في عام "428 م" وتحمس لها وّبشر بها بين الناس، فأثار غضب رجال الكنيسة المعارضين لتلك الآراء، فصاروا ينددون به. وبما يقوله ويبشر به، وعدٌوه ملحداَ خارجا على تعاليم الكنيسة الصحيحة وعلى مبادىء الدين القويم.

ولنشاط "نسطور" في بث هذه الأفكار وعدم تراجعه عنها، طلب اليه المثول أمام مجلس اجتمع فيه كبار رجال الدين لمحاكمته عرف ب "مجمع أفسوس" انعقد في عيد العنصرة من عام "431 م"،وبعد محاكمات ومناظرات قرر المجتمعون الحكم بهرطقة هذه الآراء وبمخالفتها للمبادىء العامة التي تدين بها الكنيسة، وبذلك كان الحكم على نسطور وأتباعه بالضلال والإلحاد وبعزله من أسقفية القسطنطنية حكماً رسمياً. ومعنى ذلك مقاومة القائلين بهذه الآراء واضطهادهم والتضييق عليهم في حكومة لها كنيسة خاصة ترى أنها على الحق وأن ما دونها على عمى وضلال.

و كانت "الرها" Edessa أهم مركز ثقافي للنساطرة، ومن أهم معاقل الأدب السرياني. أمَّها كثير من طلبة العلم السريان للتثقف بها، ولا سيما في عهد الأسَقف "ايباس" Ibas "436-457 م" الذي انتخب أسقفاً لهذه المدينة بعد وفاة أسقفها "ر بولا" Rabbula في عام "436 م". ثم نالت "نصيبين" Nisibis مكانة كبيرة في النسطورية، خاصة بعد وفاة ايباس، وانتخاب "نونوس" Nounus أسقفاً للمدينة، وكان هذا متأثراً بالآراء البيزنطبة كارهاً للنسطورية، لذلك رأى النساطرة الانتقال عن "الرها" إلى أماكن أخرى لا أثر لنفوذ هذا الأسقف عليها، فكانت "نصيبن" الموقع المختار من بين هذه الأماكن، ونالت الحظوة عند رجالهم، واحتلت مكانة "الرها" في العلم.

ولكن الأسقف "نونوس" كان أسقفاً واحداً من عدد عديد من رجال الدين الرسميين الذين يمثلون كنيسة الروم، الكنيسة التي حكمت حكماً رسمياً بهرطقة "نسطور"، لذلك كان على النسطورية مواجهة الاضطهاد والمقاومة في أي مكان من الأماكن الخاضعة للروم، أو التابعة لكنيستهم، وللكنائس المعارضة لآراء نسطور. لذلك فكر النساطرة في حمل آرائهم ومعتقداتهم إلى بلد أملوا ان يتمتعوا فيه بحربتهم في ممارسة شعائرهم الدينية، لمعارضته للانبراطورية البيزنطية وتشجيعه كل حركة مناوئة لها، ثم لأن له حكومة ذات دين آخر بعيد عن النصرانية، فهي اذن لا تتدخل في أمور المذاهب النصرانية إلا إذا كانت مشايعة للروم، وليست النسطورية من هذه المذاهب.

وقد أظهر "الشاهنشاه" ملك الملوك، استعداده لحماية،النساطرة ومنحهم الحرية الدينية وحرية التبشير بمذهبهم بين رعاياه، كما أظهر رغبته في الاستفادة من علمهم ودرايتهم، فاختارهم للاعمال التي لم يكن فيها متخصصون من أتباعه، وسمح لهم بالتدريس وبتهذيب الناس وبتعليمهم الفلسفة اليونانية، ولا سيما فلسفة أرسطو والطب،وغدت "سلوقية" Seleucia على نهر دجلة قبالة العاصمة "طيسفون" مركزاً ثقافياً خطيراً ينافس "الرها" و "نصيبين"، وصار هذا المركر من أهم معاقل النسطورية والتبشير في العراق وفي سائر اًنحاء انبراطورية الفرس.

ومن هؤلاء النساطرة تعلم عرب بلاد العراق وعلى رأسهم أهل الحيرة النسطورية، ومن أهل الحيرة انتقلت إلى جزيرة العرب. ولما كانت السريانية هي اللغة الرسمية لهذه الكنيسة، صارت هذه اللغة بهذه الصفة لغة نصارى العرب، بها يرتلون صلواتهم في الكنيسة وبها يكتبون، وإن كانت بعيدة عنهم غير مفهومة لدى الأكثرية منهم. لقد كانت على كل حال لغة رجال الدين. وجلهّم من رجال العلم في ذلك الزمن. فهي عندهم لغة للدين وللعلم، كما كانت اللاتينية لغة للدين والعلم عند الرومان، والإغريقية لغة للدين والعلم عند اليونان، والعربية عند المسلمين.

وأنا حين أقول ان النسطورية كانت قد وجدت لها سبيلاً إلى أهل الحيرة، فدخلت بينهم، فأنا لا أقصد بقولي هذا ان أهل الحيرةَ كانوا جميعاً على هذا المذهب، أو انهم كانوا كلهم نصارى. فقد كان جلّ أهل الحيرة على دين أكثر ملوكهم، أي على الوثنية، اًما الذين اعتنقوا النصرانية، فهم العباديون، وبينهم قوم كانوا على مذهب القائلين بالطبيعة الواحدة، أي مذهب اليعاقبة، وبينهم من كان على مذهب آخر.

وقد تسربت النسطورية إلى العربية الشرقية من العراق وايران، فدخلت إلى "قطر" والى جزر البحرين وعمان واليمامة ومواضع أخرى. وورد في أسماء من حضر المجامع النسطورية اسم اسقف يدعى "اسحاق" اشترك في مجمع النساطرة الذي عقد سنة 576م، كما ذكر اسم أسقف آخر يدعى "قوسي" اشترك في مجمع سنة 676 م. وقد كانا أسقفين على "هجر". كذلك وردت أسماء أساقفة من النساطرة تولّوا رعاية شؤون أبناء طائفتهم في جزيرة "دارين" وفي جزيرة "سماهيج" وفي مواضع أخرى من الخليح، تولى بعضهم أعماله قبيل الإسلام وعند ظهوره، وتولى بعضهم رعاية شؤون أتباعه في أوائل عهد الإسلام.

ومن الحيرة انتقلت النسطوربة إلى اليمامة فالأفلاج فوادي الدواسر إلى نجران واليمن، وصلت اليها بالتبشير وبواسطة القوافل التجاربة، فقد كانت بين اليمن والحيرة علاقات تجارية وثيقة، وكانت القوافل التجارية تسلك جملة طرق في تنمية هذه العلاقات وتوثيقها. وقد قوي هذا المذهب ولا شك بعد دخول الفرس إلى اليمن، لما عرف من موقف رجاله من كنيسة الروم، ولما كان لأصحابه من نفوذ في بلاط "الشاهنشاه" ومن صداقته لهم.

وتعزو التواريخ النسطورية انتشار النصرانية في نجران إلى رجل اسمه "حسّان " أو "حنّان" أو "حيّان" " ذكرت أنه ذهب في أيام "يزدجرد" "399 - 420 م" إلى القسطنطنية للاتجار. فلما أنجز ما ذهب اليه، عاد الى وطنه سالكاً اليه طربق "الحيرة"، وهناك اتصل بنصاراها، ودخل في النصرانية ألتي استهوته. فلما بلغ نجران مدينته، نشط فيها بنشر الدعوة بين الناس حتى دخل فيها كثير منها ومن بقية حمير.

وقد ور د ان البطريق "تيموثيوس" Timotheos الأول "780 - 823 م" كان قد نصّب أسقفأ نسطوريأ على اليمن. وقد سعى الفرس لنشر مذهب النساطرة بين أهل نجران، كما سعوأ في تقوية الصلات بين الحيرة ونجران. واذا علمنا ان الفرس أنفسهم لم يكونوا على دين المسيح، عرفنا الأهداف السياسية البعيدة التي كانوا يبتغونها من هذا التقارب ومن نشر المذهب النسطوري في اليمن.

وقد بقيت النسطورية قائمة في اليمن في ايام الإسلام، ففي الأخبار الكنسية ان رئيس البطارقة النساطرة "طيموثاوس"، نصّب في أواخر القرن الثامن للميلاد أسقفاً لنجران وصنعاء، اممه " مار بطرس". وان أساقفة من النساطرة كانوا في مواضع متعددة من اليمن وفي عدن، وذلك في القرن الثالث عشر للميلاد.

أما اليعاقبة، فقد انتشر مذهبهم بين عرب بلاد الشام والبادية، وقد اصطدم هذا المذهب بالكنيسة الرسمية للبيزنطيين، واعتبرته من المذاهب المنشقة الباطلة، لذلك حاربته الحكومة، وقاومت رجاله. كما عارضه النساطرة، لاختلافه معهم في القول بطبيعة المسيح، وفي أمور أخرى، وهذا ما حمل النساطرة على الحكم بهرطقة اليعاقبة، كما حمل هذا الاختلاف اليعاقبة على الحكم بهرطقة النساطرة، حتى صار اختلاف الرأي هذا سببأ في وقوع معارك كلامية وجدل طويل عربض بين رجال المذهبين.

واليعاقبة Jacobite church، و يدعون ب "المنوفسيتيين" Monophystte=Monophysite أيضاً، أى القائلين بالطبيعة الواحدة، لقولهم إن للمسيح طبيعة واحدة وأقنوماً واحداً، فقيل لهم من أجل ذلك "أصحاب الطبيعة ألواحدة"، هم مذهب من مذاهب الكنيسة الشرقية، نسبوا إلى "يعقوب البرادعي" Jacabus Baradaeus ويسمى ب "جيمس" James أيضاً، المولود في حوالى سنة "500" للميلاد في مدينة "الأجمة" Tela=Tella من أعمال "نصيبين" في شرقي "الرها" Edessa والمتوفى سنة 578للميلاد. ولد في أسرة كهنوتية، وتتلمذ ل "ساويرس" الذي صار رئيساً على بطريركية أنطا كية في عام 514 للميلاد. ثم اضطر إلى مغادرة انطاكية الى مصر لاختلافه مع رجال الدين في هذه المدينة في طبيعة المسيح، إذ كان يقول بوجود طبيعة واحدة فيه، ومنه أخذ يعقوب رأيه هذا في المسيح.

وذهب "يعقوب" في حوالى سنة 528للميلاد إلى القسطنطنية، لحمل القيصرة "ثيودورة" Theodora علي التأثير في الكنيسة وحملها على الكف عن اضطهاد القائلين برأيه في طبيعة المسيح. وقد مكث في القسطنطنية خمسة عشر عاماً، وسعى سعياً حثيثاً في نشر مذهبه والتبشير به، وهذا ما أوقعه في نزاع مع بقية رجال الدين هناك لخروجه على تعاليم المجمع الخلقيدوني الذي عين التعاليم الثابتة في طبيعة المسيح.

وكان "يعقوب" أسقفاً على "الرها" Edessa في حوالى سنة "541م". وكان "الحارث بن جبلة" من المقدرين له، والمحبوبين عنده، لذلك كان ممن توسطوا لدى بلاط "القسطنطنية" للسماح له بالخروج منها، وللتوفيق بين آرائه وآراء الكنيسة البيزنطية، كما توسط "المنذر" لدى البيزنطيين للغرض نفسه.

وكان من جملة تلاميذ "يعقوب" والمبشرين بتعاليمه "أحودمة" "أحودمى" الذي اغتيل بأمر كسرى أنو شروان في 2 آب من سنة575م. وكان من المبشرين النشيطين، ذهب الى بني تغلب وبشّر بينهم، وقد عرف هؤلاء عند السريانيين بالأعراب سكنة الخيام، وأقام بينهم كهانأَ ورهباناً، وبنى لهم ديراً عرف فى السريانية ب "عين قنا" أي "عين الوكر" وديراً آخر بتكريت سمي "دير جلتاني". وكانت في ايامه أسقفيتان على العرب: أسقفية عرفت بأسقفية العرب، وأسقفية التغلبيين أو "السن" وكرسيها ب "عاقولا" "عاقول". وعاقولا هي موضع الكوفة. أما كرسي أسقفية العرب، فكان في الحيرة.

كذلك كان من تلاميذه "جيورجيوس" "جرجيس" و "غريغور"، وقد تمكنا بنشاطهما وتبشيرهما من نشر هذا المذهب في بلاد الشام وبين الأقباط و ا لأرمن.

وقد بذل "شمعون الأرشامي" Shem'on of Beth Arsham و "مراثا" Muratha جهداً كبيراً في نشر هذا المذهب بين أهل العراق،وصارت "تكريت" القاعدة الكبرى للمذهب اليعقوبي في العراق. بقيت محافظة على هذا المركز في ا لاسلام.

وقد دخل أكثر الغساسنة في هذا المذهب، وتعصبوا له، وطالما توسطوا لدى الروم في سبيل حملهم على الكف عن اضطهادهم والتنكيل بهم. ظلوا مخلصين لهذا المذهب إلى ظهور الإسلام. وقد نعت بعض ملوكهم بنعوت تدل على تنصرهم وتدينهم، مثل: المحبين للمسيح والمؤمنين. وقد وردت في بعض المخطوطات اشارة إلى كاهن نعت ب "كاهن ذي العزة والمحب للمسيح البطريق المنذر بن الحارث"، كما أنعم القياصرة على بعض ملوك الغساسنة بألقاب لا تمنح في العادة إِلا لمن كان على دين النصرانية.

وتذكر تواريخ اليعاقبة قصصاً عن بعض هؤلاء الملوك يشير إلى ذكائهم وتمسكهم في قواعد هذا المذهب وتعلقهم به، ودفاعهم عنه، وافحامهم بذكائهم وبعلمهم أيضاً لخصوم هذا المذهب من أصحاب المذاهب الأخرى ممن أرادوا اقناعهم بالخروج من المذهب اليعقوبي ونبذه، مع ميلهم إلى التوفيق بين المذاهب ومع الفرقة بين النصارى، كالذي ذكروه مع مناظرة وقعت بين البطريرك "البطريق" افرام "526 - 545م"، وهو من بطاركة الملكيين والحارث بن جبلة ملك الغساسنة وهو على اليعقوبية، وقد أفحم فيها الملك الحارث خصمه على ما يدعيه اليعاقبة بذكائه وبقوة بديهته وحجته، وكالذي رووه عن تعنيف المنذر بن الحأرث للبطريرك "دوميان" في أثناء زيارته للقسطنطنية، لتهجمه على اليعاقبة واثارته بهذا الهجوم الفرقة بين النصارى، وطلبه منه الاتفاق مع "فولا" بطريرك اليعاقبة على التآخي وتوحيد المساعي، وكالذي ذكروه عن هذا المنذر أيضاً من كتابته إلى القيصر "طيباريوس" للتدخل في حمل البطريرك والأساقفة على ايقاف حملاتهم على اليعاقبة، ولكي يسعى في اطلاق الحربة لجميع النصارى، وأن يصلي كل واحد منهم أينما شاء وحيثما شاء.

وكان لليعاقبة مشهد مقدس يحجون اليه للتبرك به والنذر له، هو مشهد القديس "سرجيوس" "سرجيس" في مدينة "سرجيوبوليس" Sergiopolis، و هي الرصافة. وكان عرب بلاد الشام اليعاقبة يتيمنون به، ويضعون صورته مع الصليب على راياتهم أملاٌ في الفوز في المعارك. والى هذا القديس أشار الشاعر الأخطل بقوله: لما رأونا والصليب طالعـاً  ومار سرجيس وموتاً ناقعا 

وأبصروا راياتنا لوامـعـاً  خلوّا لنا راذان والمزارعا

مما يدل على أن شهرة هذا القديس ظلت بين النصارى حتى في أيام الإسلام. وطالما قصد الأعراب كنيسة هذا القديس لتعميد أبنائهم هناك. وقد كانوا يعقدرن العقود عند قبره،ويقسمون الايمان عنده، دلالة على التشديد فيها وصدقهم في الوفاء. وكان أمراء الغساسنة يبالغون في تعظيمه والاحتفاء به، ويقصدونه للتبرك به، على عكس نصارى الحيرة الذين امتهنوا القبر في حروبهم مع الغساسنة، واعتدوا على المدينة. وقد كان نصارى الحيرة على مذهب "نسطور" في الأغلب، كما كانوا من الوثنيين، ولذلك لم تكن لسرجيوس في نفوسهم منزلة ومكانة. وقد أشار المؤرخ "يوسبيوس القيصري" "أويسبيوس"، الى رأي كان عند بعض نصارى العرب، خالفوا به مذهب الكنيسة إذ قال: "ونحو هذا الوقت فام آخرون في بلاد العرب منادين بتعليم غريب عن الحق. إذ قالوا إن النفس البشرية في الوقت الحاضر تموت وتبيد مع الجسد. ولكنهما يتجددان معاً يوم وقت القيامة". وليس في هذا الكلام كما نرى، أية اشارة إلى أولئك النصارى العرب، ولا إلى مواضع سكنهم. وكل ما يفهم منه ان خلافهم وقع في زمن قريب من زمنه، وانه كان في موضوع الروح.

وقد جودل القائلون بهذا الرأي، ونوقشوا في مجمع انعقد سنة "246 م"، عرف ب "مجمع العربية" Council of Arabia.

وقد كان ل "بولس السميساطي" Paul of Samosata، رأي في المسيح، حتى قيل انه رأى نفسه في منزلة المسيح، وقد حكمت الكنيسة عليه بالهرطقة، وحرمته، وأعلنت خلعه عن أسقفية "أنطاكية"، وكان من المقربين إلى الملكة "الزباّء"، لهذا لم تنفذ ما جاء في حكم الكنيسة عليه.

وذكر أهل الأخبار أن من بين فرق النصرانية، أو الفرق التي هي بين بين: بين النصرانية والصابئة دين يقال له "الركوسية"، وذكروا أن الرسول قال لحاتم الطائي: إنك من أهل دين يقال لهم الركوسية. ولكني أشك في صحة هذا الحديث، إذ كانت وفاة حاتم قبل مبعث الرسول، ولم يثبت أنه التقى به.

وهناك شيع عقائدها مزيج من اليهودية والنصرانية. وجدت سبيلها في جزيرة العرب، مثل "الابيونيين" Ebionites و "الناصربين" Zazarenes و "ا لكسا ئيين" Elkesaites.

أما "الأبيونيون" Ebionites، فجماعة من قدماء اليهود المتنصرين عرفوا بهذه التسمية العبرانية الأصل التي تعني "الفقراء"، لا يعرف عن كيفية ظهورهم ونشوء عقيدتهم على وجه صحيح أكيد، وكل ما يمكن أن يقال عن معتقداتها إنها مزيج من اليهودية والنصرانية، وإنها نصرانية بنيت على أسس ودعائم يهودية، فهي نصرانية يهودية في وقت واحد.

وقد ذهب بعض قدماء المؤرخين إلى انهم انما دعوا بهذه التسمية نسبة إلى مؤسس هذا المذهب المسمى "ابيون" Ebion. غير ان من الصعب اثبات صحة هذا الرأي. وهم يعتقدون بوجود الله الواحد خالق الكون، وينكرون رأي "بولس" الرسول في المسيح، ويحافظون على حرمة يوم السبت Sabbath وحرمة يوم الرب. وقد ذهب بعض قدماء من تحدث عنهم إلى انهم فرقتان بالقياس إلى مولد الابن المسيح من الأم العذراء. ويُعتقد أكثرهم ان المسيح بشر مثلنا، امتاز على غيره بالنبوة، وبأنه رسول الله، أرسله إلى الناس أجمعين. فهو رسوله ولسانه الناطق برسالته للعالمين. وهو نبي كبقية من سبقه من الأنبياء المرسلين. وقد آمن بعض منهم بعقيدة "العذراء" وولادتها للمسيح من غير اتصال ببشر، غير ان بعضاً آخر منهم، آمن بان المسيح ابن مريم من "يوسف" فهو بشر تمامأَ، وأنكر الصلب المعروف، وذهب إلى ان من صلب، كان غير المسيح، وقد شبه على من صلبه، فظن انه المسيج حقاً. ورجعوا إلى انجيل متى بالعبرانية "The Gospel of Mathew " وأنكروا رسالة "باولس" Paul على النحو المعروف عند بقية النصارى.

وأما "الناصريين" "Nazarenes"، فهم فرقة معارفنا عن أصلها وعن كيفية ظهورها قليلة كذلك. وأكثر ما نعرفه عنها مستمد مما كتبه عنها "أفيفانيوس" "Epiphanius" و "جيروم" "Jerome". وقد أدخلهم "أفيفانيوس" في جملة "الهراطقة" "Heratics"، وذكر انهم كانوا يقرأون النسخة العبرانية لانجيل متى، The Gospel of Mathew وانهم ظهروا في غور الأردن.

وقدا اعترفوا بألوهية المسيح "ابن الله"، قائلين انه ولد من العذراء مريم، واعترفوا برسالة القديس "بولس" كما حافظوا على ناموس موسى "Mosaic Law " "شريعة موسى"، وهم يرون ان ميلاد المسيح شيء خارق للعادة، وانه "المولود الأول من الروح القدس"، وان تعاليمه، هي متممة للرسالات السابقة ومكملة لها. وقد راعوا حرمة السبت، وما يختص بالأكل وبالختان.

وأما "الكسائيون" "Elkesaites"، ففرقة يظهر أنها ظهرت في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني للميلاد في وادي الأردن، ومعناها اللغوي "القوى الخفية"، في لغة بني إرم، و "المتخفون"، أو المتسترون تحت الكساء في لغتنا. وقد نبعت من اليهودية. وهي تنسب إلى رجل اسمه "Elkesai " "الكسائي" صاحب كتاب نسب اليه، ويحافظ الكسائيون على الختان وعلى حرمة السبت وعلى سائر أحكام الشريعة الموسوية، وينسب اليه أنه كان يرى تحريم أكل اللحوم. والظاهر ان ذلك من وضع المستخفين بتعاليمه. وإنما كان يحرم أكل ذبائح الوثنيين وما أهلَّ للاوثان. وقد حتم على"أتباعه التوجه إلى بيت المقدس في صلواتهم، ومنع التوجه إلى الشرق. وهو يعتقد بوجود إلَه واحد، وباليوم الاخر،وبملائكته. ويرى أن الشياطين هي النجوم الكائنة في المناطق الشمالية من السماء.

ومن أهم تعاليم "الكسائيين" الإغتسال،أو ما يقال له "التعميد" "Babtism " وذلك بالاغتسال في النهر أو في البئر لغسل الأدران من الأجسام وتطهيرها. ويسمي المغتسلُ "باسم الله العلي العظيم" "بسم الله الرحمن الرحيم"، ويستعمل الغسل في الشفاء من الافات كذلك، مثل عض الكلب المكلوب أو الحيوانات المؤذية واخراج الأرواح الشريرة من الجسم. ولذلك يمكن تسمية هذه الفرقة بالمغتسلة، لجعلها الغسل من أهم أركان الدين.

وللخبز والملح اهمية خاصه لدى أصحاب هذا المذهب، فهما بمثابة العهد عندهم.

وهم في ذلك على شاكلة يهود، حيث يتمثل العهد "Convenant" عندهم بالملح والخبز. ويقسمون بهما الايمان. وللايمان عندهم قدسية كييرة، فلا يجوز لأي إنسان كان أن يحنث بيمينه، وأن يخالف ما أقسم عليه، وإلا كان عقابه عند الله عظمياً.

والعرب من الذين يقيمون للقسم بالخبز والملح وزناً عظيماً عندهم. فكانوا يحلفون بهما كما يحلفون بالله وبأصنامهم. ولا يجوز الحلف كذباً بهما. ولا زال الناس يقسمون بالخبز والملح قسمهم بالمقدسات.

وقريب من مذهب "الكسائيين" في الاغتسال ما يذهب اليه الصابئون فيه. فللغسل لتطهير الجسم من الآثام الظاهرة والباطنة ومن الأرواح الشريرة مقام كبيرعند الصابئة، ولهذا نراهم يختارون السكنى عند الآبار والأنهار.

ووجدت فرقة عرفت ب "الفطائريين" "Collyridiens " بالغ أصحابها في عبادة مريم وفي تأليهها، وكانوا يقدمون لها نوعاً من القرابين أخصها أقراص العجين والفطائر، لذلك عرفوا بالفطائريين. وقد ذكرهم "أفيفانيوس" في كتاب الهرطقات.

وعلى عكس هؤلاء كان من دعوا ب " Antidicomariantes"، وهم الذين أنكروا على مريم دوامها في التبتل، فسموا لذلك بالمعادين لمريم.

وذكر أن فرعاً من الأريوسية، أي من أتباع "أريوس"، كان معروفاً بين العرب أطلق عليهم القديس "ايلاريوس" اسم "أقاقيين" نسبة إلى "أقاقيوس". كانوا يقولون إن المسيح ليس هو ابن الله، لأن من قال ذلك جعل لله زوجة.

وقد تحدث أهل الأخبار عن قوم قالوا لهم "الأريريسيون". ذكروا أنهم "فلاحو السواد الذ ين لا كتاب لهم. وقيل الاريسيون: قوم من المجوس، لا يعبدون النار، ويزعمون أنهم على دين ابراهيم... وقيل إنهم أتباع عبدالله ابن أريس رجل كان فيِ الزمان الأول قتلوا نبياً بعثه اللّه اليهم"، " وقال بعضهم في رهط هرقل فرقة تعرف بالأروسية.

الفصل الحادي والثمانون
التنظيم الديني

وكان لنصارى العرب تنظيمهم الخاص بدور العبادة وبالتعليم والإرشاد، وهو تنظيم أخذ من تنظيم الكنيسة العام، ومن التقاليد التي سار عليها آباء الكنيسة منذ أوائل ايام النصرانية حتى صارت قوانين عامة. فللكنيسة درجات ورتب،وللمشرفين عليها منازل وسلالم، وقد اقتبست هذه التنظيمات من الأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشت فيها النصرانية منذ يوم ولادتها، والتي وضعها رؤساؤها لنشر الديانة ولتنظيم شؤون الرعية، حتى صارت الكنيسة وكأنها حكومة من الحكومات الزمنية، لها رئيس أعلى، وتحته جماعة من الموظفين، لها ملابس خاصة تتناسب مع درجاتهم ومنازلهم في مراتب الحكومة، ولهم معابد وبيوت وأوقاف وسيطرة على أتباعهم، جاوزت أحياناً سيطرة الحكومات.

ومن الألفاظ التي لها علاقة بالدرجات والرتب الدينية عند النصارى لفظة"البطرك" و "البطريق". وقد وردت لفظة "البطريق" في شعر ينسب إلى "أمية بن أبي الصلت".

وقد ذهب علماء اللغة إلى ان "البطرك"، هو مقدم النصارى، وهو في معنى "البطريق" أيضاً. وقالوا أيضاً إن البطريق مقدم جيش الروم. و "البطرك" من أصل يوناني هو؛Patriakhis، "بثريارخيس"، ومعناه "أبو الآباء"، وذلك لأنه الأب الأول والأعلى للرعية، فهو أب الاباء ورئيس رجال الدين. اما لفظة البطريق، فإنها من أصل لاتيني، هو Patrikios، وهو يعني وظيفة حكومية وتعني درجة "قائد" في المملكة البيزنطية. فلا علاقة لها اذن بالتنظيم الديني للنصرانية.

وبين البطريق "البطرك" والأسقف منزلة يقال لشاغلها "المطران"، وقد عرف بأنه دون البطرك وفوق الأسقف. وقد وسمه "القلقشندي"، بأنه القاضي الذي يفصل الخصومات بين النصارى. واللفظة من الألفاظ المعربة عن اليونانية، أخذت من "متروبوليتيسى"، Mtropolitis، أي مختص بالعاصمة، أو المدينة. وقد ذكر علماء اللغة ان لفظة "المطران"، ليست بعربية محضة. والأسقف من الألفاظ التي تدل على منزلة دينية عند النصارى، وقد وردت في كتب الحديث. وقد ذكر بعض علماء اللغة انه انما سمي أسقف النصارى أسقفاً لأنه يتخاشع. واللفظة من الألفاظ المعربة المأخوذة عن اليونانية،فهي "ابسكبوس" " Episkopos، في الإغريقية، وقد نقلت منها إلى السريانية، ثم نقلت منها إلى العربية. وقد وردت في كتب التواريخ والسير، حيث ورد في شروط الصلح الني عقدما الرسول مع أهل في ان، شرط هو: "لا يغير أسقف عن أسقفيته ولا راهب عن رهبانيته.

والقس من الألفاظ الشائعة ببن النصارى، ولا تزال مستعملة حتى الآن. ويقال لها "قسيس" في الوقت الحاضر أيضاً. وهي من أصل آرامي هو، Gachicho، ومعناه، كاهن وشيخ ا. وقد جمعها "أمية بن أبي الصلت" على "قساقسة". وذكر بعض علماء اللغة أن القس والقسيس العالم العابد من رؤوس النصارى" وأن " أصل القس تتبع الشيء وطلبه بالليل. يقال تقسست أصواتهم بالليل، أي تتبعتها. وقد وردت لفظة "قسيسين" في القرآن الكريم: )ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى. ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون(. ويدل ذلك على أن موقف النصارى تجاه الإسلام كان أكثر مودة من موقف يهود. وقد نسب ذلك إلى القسيسين والرهبان.

وترد لفظة "شماس" في جملة الألفاظ التي لها معان دينية عند نصارى الجاهلية. وهي من الألفاظ الحية التي لا تزال تستعمل في هذا اليوم أيضاً. وتعد من الألفاظ المعربة عن السريانية. وهي "5 Chamacho، في الأصل، وتعني خادم،. ومنها البيعة. فهي اذن ليست من الوظائف الدينية الكبيرة، وإنما هي من المراتب الثانوية في الكنيسةْ. وقد ذكر بعض العلماء بأن الشماس يحلق وسط رأسه ويجعل شعره من جوانب رأسه على شكل دائرة، وهو الذي يكون مسؤولاً عن الكنيسة، ويكون مساعداً للقسيس في أداء واجباته الدينية، وفي تقديس القداس أيام الاحاد والأعياد. يعمل كل ذلك للتعبد، وليس لأخذ المال والتكسب.

وورد في كتاب رسول الله إلى سادة نجران: "لا يغير أسقف.عن سقيفاه، ولا راهب عن رهبانيته، ولا واقف عن وقفانيته". و يظهر من هذا الكتاب ان للواقف منزلة من المنازل الدينية " التي كانت في مدينة نجران. والظاهر انها تعني الواقف على أمور ا لكنيسة، أي الأمور الادارية والمالية والمشرف على أوقافها وأملاكها. فهو في الواقع.مسؤول اداري، اختصاصه الاشراف على الامور المتعلقة بامور الكنيسة واموالها اذ لا يعقل ان يكون الواقف بمعنى خادم البيعة الذي يقوم بالخدمة بمعنى التنظيف والاعمال البسيطة الاخرى اذ لا يعقل النص على مثل هذه الدرجة في كتاب صلح الرسول مع سادة نجران وقد ذكر بعض علماء اللغة الواقف خادم البيعة لأنه وقف نفسه على خدمتها ولا يعني هذا هذا التفسير بالضرورة الخدمة على النحو المفهوم من الخدمة في الاصطلاح المتعارف.

فقد كان الملوك.والسادات يلقبون أنفسهم ب "خادم الكنيسة" و "خادم ألمعبد"، أي بالمعنى المجازي. ولا يكون خادما صارفاَ وقته كله في تنظيف الكنيسة وفي القيام بالأعمال التي يقوم بها لخادم الاعتيادي.

وهناك لفظة أخرى لها علاقة بالكنيسة وبالبيعة وبالنواحي الادارية منها، هي لفظة "الوافه" و "الواقه". وقد عرفوا صاحبها ب "قيم البيعة التي بها صليب النصارى، وفي هذا المعنى ايضا لفظة "الواهف" حيث قالوا: "الواهف سادن البيعة التي فيها صليبهم و وقيمها كالوافه وعملهم الوهافة"،والوهفية والهُفيّة. والظاهر انها كلها في الأصل شيء واحد، وانما اختاف علماء اللغة في ضبط الكلمة، فوقع من ثم هذا الاختلاف بينهم الوظيفة إذن هي بمنزلة الخازن القيم على شؤون الصليب، يحفظه من السرقة، ويضعه في خزانة أمينة"، فإذا حانت أوقات العبادة وضعه في موضعه. فالصليب ثمين،فيه ذهب في الغالب، لذلك يكون هدفاً للسراق.

ويلاحظ أن علماء الحديث والتأريخ والسير، ليسوا على اتفاق فيما بينهم في تدوين نص كتاب الصلح الذي أعطاه الرسول لأهل نجران، إذ تراهم يختلفون في ضبط نصه: وفي جملة ما اختلفوا فيه جملة: "ولا واقه من وقاهيته"، فقد كتبوها بصور شتى كما رأيت، كما كتبوا. النص بأشكال متباينة، مما يدل على أن الرواة قد اعتمدوا على نسخ متعددة للكتاب، وعلى أن أهل نجران كانوا قد نسخوا منه نسخاً، تحرفت نصوصها بالاستنساخ، لعدم تمكن الناسخ من ضبط العبارات ضبطا صحيحاً. فلما دون العلماء صورة النص تباينوا في تدوينه، وأوجدوا لهم تفاسير للفظة "واقف" و "وافه" و "واقه"، وهي لفظة واحدة في الأصل، قرأها النساخ ثلاث قراءات.، فظهرت وكأنها ألفاظ مختلفة. وحاروا في تعليل المعنى، فقال بعضهم الوافه: قيم البيعة بلغة أهل الجزيرة، وقال بعض آخر بلغة أهل الحيرة، وقال بعض: كلها في معنى واحد. وهناك مصطلحات دينة أخرى استعملها النصارى للدلالة على درجات رجال دينهم، مثل "بابا"،وهي كلمة "رومية" وهو أعلى مرجع في نظر النصارى "الكاثوليك"، و "والجاثليق"، وهو رئيس أساقفة بلد ما، والأعلى مقاماً بينهم، وقد أطلقت اللفظة على رئيس نصارى بغداد في العهد العباسي وهي من أصل يوناني هو "كاثوليكوس"،، Katholikos ومعناه عامْ. والساعي من الألفاظ التي تتناول المنازل والدرجات عند النصارى، وتشمل اليهود أيضاً. ويقصد بها الرئيس المتولي لشؤون اليهود أو النصارى، فلا يصدرون رأياً إلا بعد استشارته، ولا يقضون أمراً دونه. وقد ورد في حديث حذيفة في الأمانة:".إن كان يهودياً أو نصرانياً ليردنه على ساعيه".

ولفظة "بابا" وما بعدها، هي من الألفاظ التي شاع استعمالها في العربية في الإسلام، وليس لدينا ما يفيد استعمالها بين الجاهليين.

وذكر علماء اللغة أن من الألفاظ المعروفة بين النصارى لفظة "العسطوس"، و يراد بها القائم بأمور الدين، وهو رئيس النصارى.

أما "الراهب"، فهو المتبتل المنقطع إلى العبادة. وعمله هو الرهبانية. وقد ذكر بعض علماء، اللغة ان الرهبانية غلوٌ في تحمّل التعبد من فرط الرهبنة. وقد ذكرت الرهبانية في القرآن الكريم، وذكرت في الحديث. وقد نهى عنها الإسلام: ) لا رهبانية في الإسلام (. وقد ندد القران الكريم في كثير من الأحبار والرهبان، فورد: )إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل(. ويظهر من ذلك ان جماعة منهم كانت تتصرف بأموال الناس التي تقدم إلى الأديرة و البيع، فيعيشون منها عيشة مترفة، لا تتفق مع ما ينادون به من التقشف والزهد والعبادة. كما ان منهم من عاش عيشة رفيهة وبطر، فتكبر عن الناس وترفّع، حتى جعلوا أتباعهم يحيطونهم بهالة من التقديس والتعظيم، إلى درجة صيرتهم أرباباً على هذه الأرض. فتقربوا اليهم وقدّسوهم قدسية لا تليق إلا للخالق. ) اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون اللّه ْ(. ذلك انهم كانوا يحلّون لهم ما حرم اللّه فيستحلونه ويحرّمون ما أحل الله لهم فيحرمونه. أما انهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه واذا حرموا عليهم شيئاً أحله الله لهم حرموه، فذلك كانت ربوبيتهم. وكانوا يطيعونهم طاعة عمياء، ويأخذون عنهم،ويقدسونهم، ويقبلون أيديهم ولا يعصون أمراً لهم. وذكر ان "عدي بن حاتم" الطائي، قال لرسول الله لما سمعه يقرأ: )اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله(، " يا رسول الله ! إنّا لسنا نعبدهم. فقال: أ ليسو يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله، فتحلونه قال: قلت بلى. قال فتلك عبادتهم". ويظهر من روايات أهل الأخبار، أن من الرهبان من بالغ في الترهب وفي الزهد، فخصى نفسه ووضع السلاسل في عنقه أو في يديه أو رجليه ليحبس نفسه، وامتنع عن المأكل والأطايب، مكتفياً بقليل من الماء وبشيء من الخز الخشن، وأن منهم من امتنع عن الكلام وصام معظم أوقاته، وابتعد عن الناس متخذا من الكهوف والجبال والمواضع النائية الخالبة أماكن للتأمل واتعبد. وذلك كما يظهر من نهي الرسول عن الرهبنة و الرهابنة، وحمل الإسلام عليها. لأنها تبعد الناس عما أحل اللّه وقد عوض الإسلام عنها بالجهاد في سبيل الله.

ومن عادات الرهبان وتقاليدهم التي وقف عليها أهل الجاهلية، الامتناع عن أكل اللحوم والودك، أبداً أو أمداً، وحبس النفس في الأديرة والصوامع، والكهوف، والاقتصاد على أكل الصعب من الطعام والخشن من الملبس، ولبس السواد والمسوح. وهي عادة انتقلت الى الأحناف أيضاً والى الزهّاد من الجاهليين الذين نظروا نظرة زهد وتقشف إلى هذه الحياة. كما كانوا لا يهتمون بشعورهم فكانوا يطلقونها ولا يعتنون بها ولذلك كانت شعورهم شعثاً. وعبّر عن الراهب بالأشعث، لأنه كان يطلق شعر رأسه ولا يحلقه ولا يعتني به.

ومن الرهبان من ساح في الأرض، فطاف بلاد العرب وأماكن أخرى،وهام على وجهه في البوادي وبين القبائل، لا يهمه ما سيلاقيه من أخطار ومكاره، ومنهم من ابتنى له بناءً في الفيافي وفي الأماكن النائية، واحتفر الآبار وحرث البقول، وعاش عيشة جماعية، حيث يعاون بعضهم بعضاً في تمشية أمور الدير الذي يعيشون فيه. ومنهم من عاش في قلل الجبال، بعيداً عن المارة والناس.

قال الشاعر: لو عاينت رهبان دير في القلل  لانحدر الرهبان يمشي وينزل

وقد وقف بعض أهل الجاهلية على أخبار هؤلاء الرهبان وعرفوا بعض الشيء عنهم، وبهم تأثر بعض الحنفاء على ما يظهر فأخذوا عنهم عادة التحنث والتعبد والانزواء والانطواء في الكهوف والمغاور والأماكن النائية البعيدة للتنسك والتعبد مبتعدين بذلك عن الناس منصرفين إلى التأمل والتفهم في خلق هذا الكون دون أن يدخلوا النصرانية.

وقد نهى الرسول بعض الصحابة مثل "عثمان بن مظعون"،وهو من النصارى في الأصل من تقليد الرهبان في الاخصاء وفي الاقناع عن الزواج ومن التشدد في أمور أحلها الله للناس. ويظهر أن هذا التشدد إنما جاء به وإلى أمثاله من وقوفهم على حياة الرهبان وعلى رأيهم وفلسفتهم بالنسبة لهذه الحياة. وفي حق هؤلاء نزلت الآية: ) يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين(. وذكر أن الرسول لما سمع بابتعاد "عثمان" من أهله، دعاه، فنهاه عن ذلك. ثم قال: "ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم ألا اني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني. فنزلة الآية: )يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا(. يقول لعثمان لا تجب نفسك،فإن هذا هو الاعتداء. وورد في الحديث: "لا صرورة في الإسلام"، والصرورة التبتل وترك النكاح، أي ليس ينبغي لأحد أن يقول لا أتزوج، لأن هذا ليس من أخلاق المسلمين، بل هو من فعل الرهبان. وهو معروف في كلام العرب. ومنه قول النابغة: لو أنها عرضت لأشمط راهب  عبد الإله صرورة متعـبـد

يعني الراهب الذي ترك النساء.

وقد أشير إلى الرهبان في شعر امرىء القيس، اذ أشار فيه إلى منارة الراهب الذيّ يمسي بها يتبتل فيها إلى الله، وعنده مصباح يستنير بنوره. كما أشار فيه اليه وهو في صومعته يتلو الزبور ونجم الصبح ما طلعا، دلالة على تهجده وتعبده في وقت لا يكون الناس فيه نياماً. كما أشير الهم في شعر شعراء جاهليين اخرين مثل "النابغة الذبياني"، الذي أشار إلى ركوع الراهب يدعو ربه فيه ويتوسل اليه. كما أشار إلى موقف الراهب من رؤية امرأة جمِيلة، وكيف سيرنو اليها حتى وان كان راهباً اشمط. وقد أشار إلى "ثوبي راهب الدير" والى الحلف بثوبيه.

وورد في الشعر ما يفيد بانقطاع الرهبان في الأماكن الصعبة القصيّة مثل قلل الجبال وذراها، حيث لا يأتيهم الناس، فيعيشون في خلوة وانقطاع عن البشر. ومن الأماكن التي اشتهرت بوجود الرهبان فيها أرض مدين. ووادي القرى ومنازل تنوخ وصوران وزبدْ.

وقد سبح الرهبان ورجال الدبن، اللَه، في الكنائس وفي الاديرة بألحان عذبة جميلة، ورتلوا الزبور والأسفار المقدسة الأخرى. وقد عرف الجاهليون ذلك عنهم، وأشاروا الى ذلك في شعرهم، وربما كان بعضهم يحضر تلك التراقي ويستأنس بها على الرغم من وثنيته وعدم اعتقاده بالنصرانية.

ويقال للراهب الزاهد، الذي ربط نفسه عن الدنيا الربيط. وقيل له: الحبيس. وذكر أن الربيط، هو المتقشف الحكيم وأن الحبيس هو اللذي حبس نفسه في سبيل الله، فقبعوا في الأديرة وابتعدوا عن الناس. فصاروا كالحبساء.

ويقال للراهب: المقدسي. والمقدس الراهب. وصبيان النصارى يتبركون به،ويتمسحون بملابسه تبركاً. كما قيل له: المتعبد، و الأعابد ونسب الى امرئ القيس هذا البيت: فأدركنه يأخذن بالساق والنسا كما  شبرق الولدان ثوب المقدسـي

ويروى المقدس، وهو الراهب ينزل من صومعته الى بيت المقدس، فيمزق الصبيان ثيابه تبركا به.

وأما "النهامي"، فهو صاحب الدير، أو الراهب في الدير.

ومن الألفاظ التي شاعت بين النصارى ووصل خبرها إلى الجاهليين، لفظة: "الأبيل"، وقد اتخذوهها للدلالة على رئيس النصارى. وذكر بعض أهل الأخبار انها تعني أيضاً "المسيح"، وقد كانوا يعظمون الأبيل فيحلفون به كما يحلفون بالله. وهي من الألفاظ المعربة عن السريانية "كابيلو" Abilo، و معناها في السريانية الزاهد والناسك والراهب. وكانوا يتخذون عادة رؤساءهم من الرهبان المتبتلينْ. وقد وردت لفظة "الأبياط" في الشعر الجاهلي، في شعر: الأععشى وفي شعر عدي بن زيد. وورد "أبيل الأبيلين"، وأريد بذلك المسيح. وذكر ان "إلابيل" هو صاحب الناقوس، والراهب أيضا. وان "الأببلي"، هو صاحب الناقوس. و "ا الأيبل"، العصا التي يدق بها الناقوس. قال الأعشى: وما أيبلي عـلـى هـيكـل  بناه وصلب فـيه وصـارا

يراوح من صلوات الملـيك  طوراً سجوداً وطوراً جؤارا 

يعني بالجؤار الصياح. إما بالدعاء وإما بالقراءة.

والساعور من أسماء المسيح وهو من أصل "سوعورو" Soouro، بمعنى زائر. وتطلق اللفظة على من يزور القرى ويطلع على أحوالها وذلك بأمر من الأسقف. وذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن السريانية،وأن الأصل "ساعورا"، ومعناه متفقد المرضى، وتطلق اللفظة على مقدم النصارى في معرفة علم الطب.

و يقال لخادم البيعة: الجلاذي. وذكر أن "الجلذي" الراهب والصانع والخادم في الكنيسة. قال ابن مقبل صوت النواقيس فيه ما يفرطه  أيدي الجلاذيّ جون ما يغضبناْ 

و "الكنيس" و "الكنيسة" موضع عبادة اليهود والنصارى، فهما في مقابل "المسجد والجامع" عند المسلمين. والكلمة من الألفاظ المعربة عن الآرامية، وتعني لفظة، Knouchto "كنشتو" "كنشت" في السريانية، اجتماع، ومجمع وأطلقت بصورة خاصة على كنيس اليهود. ولهذا نجد العرب يطلقونها على معبد اليهود كذلك. ويقال في العبرانية للكنيس "كنيستا"،بمعنى محل الصلاة. ونجد الكتب العربية تفرق بين موضع عبادة اليهود وموضع عبادة النصارى، فتطلق الكنيس" على موضع عبادة اليهود و"ا!كنيسة" على موضع عبادة النصارى. وقد ذهب بعض علماء اللغة، إلى أن الكنيسة، هي متعبد اليهود، وأما "البيعة"،، فهي متعبد النصارى. وقد عرف علماء اللغة العرب، أنها من الألفاظ المعربة فقالوا:وهي معربة،أصلها كنست.

وقد زوّق النصارى كنائسهم، وجملوها، وزينِّوها بالصور وبالتماثيل ووضعوا الصلبان على أبوابها وفي داخلها. ووضعوا بها المصابيح لإنارتها في الليل وكانوا يسرجون فيها السرج، وجعلوا بها النواقيس، لتقرع، فترشد المؤمن بأوقات الصلوات، ولتشير اليهم بوجود مناسبات دينية، كوفاة، أو ميلاد مولود، أو عرس وأمثال ذلك. ومن اللكنائس التي اكتسبت حرمة كبيرة عند النصارى العرب: كنيسة القيامة، وكنيسة نجران، وكنيسة الرصافة. وقد أشير في شعر للنابغة إلى "صليب على الزوراء منصوب"، أي على كنيسة.

والتمثال الشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق اللّه، أي من انسان أو حيوان أو جماد. وأدخل العلماء الصور في التماثيل. وقد كانت الكنائس مزينهْ بالتماثيل والصور، نمثل حوادث الكتاب المقدس وحياة المسيح. ونظراً إلى محاربة الإسلام للاصنام، والى كل ما يعيد إلى ذاكرة الإنسان عبادة الأصنام والصهور، وا النهي عنها في الإسلام. جاء في الحديث: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون".

وقد كان الروم يمدون الكنائس والمبشرين بالمال وبالفعلة وبالمساعدات المادية لبناء الكنائس والأديرة. والكنائس والأديرة وإن كانت بيوت تقوى وعبادة كانت بيوت سياسة ودعوة وتوجبه. ونشر النصرانية مهما كان مذهبها ولونها مفيد للروم، فالنصراني مهما كان مذهبه لا بد ان يميل إلى اخوانه في العقيدة والدين، فقي انتشار النصرانية فائدة من هذه الناحية كبيرة للبيزنطيين.

وفي العربية لفظة أخرى للكنيسة، الا أنها لفظة خصصت بكنيسة معينة،و الكنيسة التي بناها أبرهة بمدينة صنعاء، واللفظة هي: "القُلّيس". وللاخباريين اراء في معناها وفي أصلها، بنيت على طريقتهم الخاصة في ايجاد التفاسير للكلمات القديمة من عربية ومن معربة، التي لا يعرفون من أمرها شيئاً. وهي لذلك لا تفيدنا شيئاً. والكلمة أعجمية الأصل، عربت، وشاع استعمالها، حتى ظن انها اسم تلك الكنيسة. أخذت هذه اللفظة من أصل يوناني هو "أكليسيا" "Ekklesia، ومعناه في اليونانية المجمع، أي الكنيسة. والظاهر أن أهل صنعاء سمعوا اللفظة من الحبش. حينما كانوا يذهبون إلى الكنيسة، فصيروها اسم علم على هذه الكنيسة ولم يدروا أنها تعني الكنيسة، أي موضع عبادة. والصوامع والبيع هما من الألفاظ الي استعملها الجاهليون للدلالة. على مواضع العبادة عند النصارى. وقد ذهب العلماء إلى أن البيعة من الألفاظ المعربة أخذت من السريانية. وأصل اللفظة في السريانية، هو "بعتو" بمعنى بيعة، وقبة، لأنها كانت قبة في كثير من الكنائس القديمة. وقد استعملت في الحبشية كذلك ولذلك ذهب بعضهم إلى أنها من الحبشية. وقال علماء اللغة العرب: الصومعة كل بناء متصمع الرأس،، أي متلاصقه، والأصمع اللاصقة اذنه برأسه. وقد أشير إلى "البيع" في القران: )ولولا دفع الله الناس، بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع (. وقد ذهب بعض علماء اللغة، إلى أن البيعة متعبد اليهود. ولكن اغلبهم على انها متعبد النصارى.

وقد وردت لفظة "بيعة".في نص "أبرهة" الشهير الذي دوّنه على سد مأرب. ففي هذا النص جملة: "وقدس.البيعة"، أي "وقدس البيعة". وذكر ان لفظة "البيعة" قد وردت في شعر ينسب إلى ورقهّ بن نوفل، حيث زعم انه قال: أقول إذا صليت في كل بـيعة  تباركت قد أكثرتَ باسمك داعياً 

كما ذكر انها وردت في كلام أناس من الجاهليين والمخضرمين. وقد أشير إلى ورودها في الشعر الجاهلي وفي بعض الأخبار المنسوبة إلى الجاهليين. وردت في شعر منسوب إلى "عبد المسيح بن بقيلة"، و هو كما يظهر من اسمه من النصارى. ووردت في بيت منسوب إلى لقيط. بن معبد، وفي شعر يحسب إلى الزبرقان بن بدر التميمي. ولا بد،ان تكون هذه الكلمة من الكلمات المألوفة عند الجاهليين المتنصرين، وعند غيرهم ممن كانوا على الوثنية، غير انهم كانوا على اتصال بالنصارى، ذلك لأنها من الألفاظ الشائعة المعروفة عند النصارى وقد كانت البيع منتشرة في المدن وفي القرى والبوادي، وطالما قصدها الأعراب للاحتماء بها من الحر والبرد وللاستعانة برجالها لتزويدهم بما عندهم من ماء أو زاد أو للتنزه بها واحتساء الشراب.

والصومعة من أصل حبشي هو"صومعت"على رأي بعض المستشرقين وقد خصصت ب "قلاية" الراهبْ. أي مسكن الرهبان. وبهذا المعنى وردت في القران. ويقول علماء اللغة، أنها على وزن فوعلة، أي صومعة، لأنهي دقيقة الرأس. وهي صومعة النصارى. وذكر بعض منهم أن الصومعة كل بناء متصمع الرأس، أي متلاصقة. وقد سميت صومعة لتلطيف أعلاها. ويدل ورود هذه اللفظة بصورة الجمع في القرآن الكريم، على وقوف الجاهليين على الصوامع ووجودها بينهم. وقد كان الرهبان قد ابتنوا الصوامع وأقاموا بها للعبادة بعيدين في مختلف انحاء جزيرة العرب، ومنها الحجاز. وقد وقف الجاهليون عليها، ودخلوا فيها. أما تجارهم ممن قصد بلاد الشام والعراق، فقد رأوا في طريقهم إلى تلك الأرضين، وفي تلك الارضين بالذات، حيث انتشرت فيها النصرانية صوامع كثيرة. وتجد في كتب الأخبار أمثلة عديدة تشير إلى دخول تجار مكة الصوامع في بلاد الشام وفي وادي القرى، للحصول على ملجأ أو عون. والقلاّية، وهي كالصومعة، يتعبد فيها الرهبان، وهي من الألفاظ المعربة، عربت من أصل يوناني هو "Kelliyon "ومعناه غرفة راهب أو ناسك. ومن هذا الأصل انتقلت اللفظة إلى السريانية فصارت "قلّيتا"، فانتشرت بين نصارى بلاد الشام بصورة خاصة ثم بقية النصارى، منها دخلت العربية. وقد عرف علماء العربية انها من الألفاظ المعربة، فقالوا: هي تعريب كلاذة، وهي من بيوت عباداتهم، أي عبادات النصارى. وقد وردت في الحديث، كما ورد ذكرها في صلح عمر مع نصارى الشام، حيث كتبوا له كتاباً: إنّا لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا قلية. والظاهر ان النصارى توسعوا في المعنى، فأطلقوها على المنازل التي يسكنها الرهبان، ثم توسعوا فيها فأطلقوها على دور المطارنة والبطارقة، وأصلها بمعنى الأكواخ.

ولفظة "الدير" هي من الألفاظ النصرانية الشهيرة المعروفة بين العرب. وهي أكثر اشتهاراً من الألفاظ الأخرى التي لها علاقة بمواضع العبادة أو السكن عند النصارى، وذلك لانتشارها ووجودها في مواضع كثيرة من العراق وبلاد الشام وجزيرة العرب. ولمرور ااتجار وأصحاب القوافل والمارة بها، واضطرارهم إلى الاستعانة بأصحابها وباللجوء اليها في بعض الأحيان. كما كانت محلاً ممتازاً للشعراء ولأصحاب الذوق والكيف،حيث كانوا يجدون فيها لذة ومتعة تسر العبن والقلب، من خضرة ومن ماء بارد عذب ومن خمر يبعث فيهم الطرب والخيال، ولذلك أكثر الشعراء في الجاهلية والاسلام من ذكر الأديرة في شعرهم. حتى الشعراء النصارى مثل "عدي بن زيد العبادي"، يترنم في شعره بذكر الدير، لأنه نادم فيه "بني علقما"، وعاطاهم الخمر ممزوجة بماء السماء.

ولفطة "الدير" هي مثل أكثر الألفاظ النصرانية من الألفاظ المعربة. عربت من أصل سرياني، هو "دير" Dayr ""، بمعنى دار، أي بيت الراهب. ومسكنه، ولا سيما المحصن، ثم خصوا بها مسكن الرهبان. وقد عرف علماء العربية أن الدير هو مسكن النصارى، يتعبد فيه الرهبان ويسكنون به، وقد ذكر "ياقوت الحموي" أن الدير بيت يتعبد فيه الرهبان، ولا يكاد يكون في المصر الأعظم، وإنما يكون في الصحاري ورؤوس الجبال، فإن كان في المصر الأعظم فإنه كنيسة أو بيعة غير أن الأديرة تكون في كل مكان، تكون في القرى وتكون في المدن كما تكون في البوادي وفي رؤوس الجبالْ.

و "الديراني"، صاحب الدير، وقد ذكر بعض العلماء أن الديراني صاحب الدير الذي يسكنه ويعمره. نسب على غير قياس. ويقال للرجل اذا رأس أصحابه هو رأس الدير.

ولا تقتصر الأديرة على الرجال، فللراهبات أديرة أيضاً. ويقضي أصحاب الأديرة وقتهم في الزهد والتقشف والعبادة. والقيام بالأعمال اليدوية التي يوكلها رئيس الدير اليهم. وقد عرف الراهب المعتكف بالدير ب "الديراني" و"الديرانية"، هي الراهبة. وقد عرفت أديرة الراهبات ب "أديرة ألعذارى" كذلك.

واذ كان لهذه الأديرة حرمة في نفوسهم، فقد كانوا يعقدون فيها عقودهم ويحلفون بها على نحو ما كان يفعله الوثنيون في.معابدهم حيث كانوا يقسمون الايمان ويتعاقدون أمام الأوثان، فكان للنصارى في الحرة دير السوا، وفي هذا الدير كانوا يتناصفون ويحلفون بعضهم لبعض على الحقوق.

وفي الارامية لفظة هي "عمرو" Oumro، و قد صارت "العمر" في العربية. ويراد بها البيعة والكنيسة والدير ودار. وقد وردت في شعر "المتلمس"، حيث جاء: أ لك السد يرُ وبارق ومبايض ولك الخورنق 

والعمر ذو الأحساء واللذات من صاع وديسق 

وعرفت العربية لفظة "الكرح"،. و "الأكيراح"،وقد عرفها علماء العربية بقولهم: "الأكيراح: بيوت ومواضع تخرج اليها النصارى في بعض أعيادهم". واللفظة من أصل سرياني هو "كرحو" "Kourho "، بمعنى كوخ، ومسكن حبيس، وبيت ناسك وراهبْ. وذكر ياقوت الحموي: ان " الأكيراح بيوت صغار تسكنها الرهبان الذين لا قلالي لهم". هناك دير اسمه "الأكيراح"،ورد في شعر لأبي نؤاس، ويقع بظاهر الكوفة كثير البساتين والرياحين، وبالقرب منه ديران، يقال لأحدهما دير عبد، وللآخر دير هند.

والمحراب من الألفاظ التي استعملها النصارى في أمور دينهم كذلك،إذ أطلقوها على صدر كنائسهم. وقد استعملت في الإسلام أيضاً،حيث يشير إلى القبلة، ويؤم الإمام فيه المصلّين. وقد ذكر بعض علماء اللغة، ان محاريب بني اسرائيل مساجدهم التي كانوا يصلون فيها. وقد وردت لفظة المحراب في أشعار بعض الجاهليين. كما وردت في القرآن الكريم، وفي الشعر الجاهلي. وذكر علماء التفسير أن المحراب كل موضع مرتفع. وقيل الذي يصلي فيه: محراب، وذكروا أن المحاريب دون القصور، وأشرف بيوت الدار. قال عدي ابن زيد العبادي: كدمى العاج في الـمـحـاريب أو  كالبيض في الروض زهره مستنير 

وذكر علماء العربية لفظة "التامور" "التأمور"، في جملة الألفاظ المتعلقة بالرهبان والرهبنة. وقد عرفها بعضهم بأنها صومعة الراهب وناموسه.

وذكر أن "القوس"، بمعنى الدير والصومعة أو موضع الراهب. أو معبد الراهب. وذكر أن أصل الكلمة من الفارسية.

وذكر أن "الغربال"، هو مكان أيضاً من أمكنة الرهبان، وأنه كهيئة الصومعة في هندسة بنائه وارتفاعه. وأنه كل بناء مرتفع. ويظهر أنها من الألفاظ المعربة.

والاسطوانة، وهي السارية من الألفاظ النصرانية التي وقف عليها الجاهليون. وقد اتخذها العرب بمعنى العمود الذي كان يتعبد فوقه بعض الرهبان المعروفين بالعموديين Stylites. وقد أشير إلى "اسطوان" في شعر نسبوه إلى "ذي الجدن". وفسرت لفظة "الاسطوان"، و "الاسطوانة"، بأنها موضع الراهب المرتفع.

و "المنهمة" مسكن النّهام،والنهامي،هو الراهب. وأما المنهمة فموضع الراهب.

ووردت في شعر للأعشى لفظة "الهيكل". إذ قال: وما أيبلى على هيكـل  بناه وصلب فيه وصارا 

ويذكر علماء اللغة، ان الهيكل: بيت النصارى فيه صورة مريم وعيسى، وربما سميّ به.ديرهم. وان الهيكل:العظيم واستعمل للبناء العظيم، ولكل كبير، ومنه سمي بيت النصارى الهيكل. واللفظة من الألفاظ المعربة، وهي ترد في العبرانية "هيكل" وفي الآرامية "هيكلو". وتعني في اللغتين المعبد الكبير ومعبد الوثنيين.

وقد كان الرهبان وبقبة رجال الدين وكذلك الأديرة والكنائس يستعملون المصابيح. والقناديل للاستضاءة بهما. ويعبر عن المصباح بالسراج كذلكْ. وقد تركت مصابيحهم وقناديلهم أثراً ملحوظاً في مخيلة الشعراء فأشير اليها في شعر "مزرد بن ضرار الذبياني" حيث قيل انه قال: كأن شعاع الشمس في حجراتها  مصابيح رهبان زهتها القنادل

وذكر علماء اللغة ان الزيت الذي له دخان صالح ويوقد في الكنائس،، هو "1لسليط".

ولفظة: قنديل من الألفاظ ألمعربة، أصلها يوناني هو Candela. وقد دخلت إلى العربية قبل الإسلام، عن طريق الاتصال التجاري بين جزيرة العرب ببلاد الشام.

وكان النصارى العرب يتقربون إلى رجال دينهم ويتبركون بهم ويحترمونهم حتى قيل إن الصبيان منهم كانوا إذا رأوا الراهب ينزل ليذهب إلى بيت المقدس أو غيره خرجوا له فتمسحوا به ولثموا ثيابه، حتى يمزقوا ثيابه. والى ذلك أشير كما يقول أهل الأخبار في شعر امرىء القيس: فأدركنه يأخذن بالساق والنـسـا  كما شبرق الولدان ثوب المقدس 

ولبس رجال.الدين ملابس خاصة لتميزهم عن غيرهم، غلب عليها السواد. وقد اختصت لفظة "المسح" و "المسوح" بالملابس التي كان بلبسها الزهّاد و الرهبان.

ومن أهم العلامات الفارقة التي ميزت معابد النصارى عن معابد اليهود والوثنيين: "الناقوس"، الذي ينصب فوق سطوح الكنائس وفي منائرها، للاعلان عن أوقات العبادات ولأداء الفروض الدينية، وهو عند الجاهليين خشبة طويلة يقرع عليها بخشبة أخرى قصيرة يطلقون عليها لفظة "الوبيلة" و "الوبيل". وهو في مقابل البوق عند يهود يثرب، أذا أرادوا الاعلان عن موعد العبادة. وقد عرف هذا البوق بين عرب يثرب ب "القنع" أيضاً، وب "الشبور". وقد ذكر علماء اللغة ان الشبور "شيء يتعاطاه النصارى بعضهم لبعض كالقربان يتقربون به. وقال بعضهم: هو القربان بعينه " وذكروا ان الشبور شيء ينفح فيه، فهو البوق عند اليهود، وهو معرّب وأصله عبراني.

وقد وردت كلمة "الناقوس" في الشعر الجاهلي. وردت في بيت للشاعر المتلمسْ، وفي شعر للمرقش الأكبر، وللاعشى، وللاسود بن يعفر. وقد أشير في هذه الأبيات إلى قرع النواقيس بعد الهدوء إيذاناً بدنو الفجر وحلول وقت الصلاة.

وقد كانت هذه النواقيس في القرى وفي الأديرة، يقرعها الرهبان والراهبات و القسيسون. وقد أدخل بعض علماء اللغة هذه الكلمة في جملة الألفاظ المعربة التي دخلت العربية من أصول أعجميةْ. واللفظة من أصل "سرياني" هو "ناقوشا"،

اعياد النصارى

وقد ذكر أهل الأخبار أسماء أعياد نصرانية ترجع أصول تسميتها في الأكثر إلى لغة بني إرم، و يظهر أن أولئك الأخباريين تعرفوا عليها في الإسلام باختلاطهم وباتصالهم بالنصارى، إذ لم يشيروا إلى ورود أكثرها في الشعر الجاهلي، ومن عادتهم أنهم إذا عرفوا شيئاً كان معروفاً عند الجاهليين جاءوا ببيت أو أبيات يستشهدون بها على ورودها عند الجاهليين.

ومن الأعياد التي ورد فيها شاهد في الشعر الجاهلي، "السباسب"، وهو "يوم السعانين" و "الشعانين". وقد وردت كلمة السباسب في بيت للنابغة قاله في عيد السعانين عند بني غساّن، هو: رقاق النعال طيب حجزاتهـم  يحيون بالريحان يوم السباسب 

و."السعانين" و "الشعانين" من أصل عبراني "هو شعنا". وقد وردت هذه الكلمة في صحيفة صلح "عمر" مع نصارى الشام، وردت معها لفظة أخرى من الألفاظ النصرانية كذلك هي "الباعوث"، و هي رتبة تقام في اليوم الثاني من عيدَ الفصح، وصلاة لثاني عيد الفصح في بعض الطوائف. وقد ذكرها علماء اللغة في جملة الألفاظ المعربة، والإرمية الأصل، وجعلها بعضهم "الباعوث". وذكروا انها "استسقاء النصارى"، وان "عمر" لما صالح نصارى الشام، كتبوا له ان لا نحدث كنيسة ولا قلية ولا نخرج سعانين ولا باعوثا.

و "خميس الفصح" من أعياد النصارى كذلك. وهو بعد السعانين بثلاثة أيام، وكانوا يتقربون فيه بالذهاب إلى الكنائس والبيع..

وقد أشير إلى عيد "الفصح" في بيت للاعشى يمدح فيه "هوذة بن علي" لتوسطه لدىَ الفرس بالافراج عن مئة أسير من أسرى بني تميم هم الفرس بقتلهم، وذلك لمناسبة يوم الفصح. وقد كان نصارى الجاهلية يحتفلون به، فيوقدون المشاعل، ويعمرون القناديل، و يضيئون الكنائس بالمسارج ويقصدونها للاحتفال بها، حتى قيل للقنديل الذي يعمر لهذا اليوم "قنديل الفصح".

وقيل لاجتماع النصارى واحتفالهم "الهنزمن"، و ذكر أن هذه اللفظة من أصل فارسي هو "هنجمن" أو "أنجمن"، ومنها دخلت إلى السريانية فأطلقت على اجتماع النصارى واحتفالهم وتعييدهم.

وقد أشار امرؤ القيس في بعض شعره إلى عيد النصارى، ولبس الرهبان فيه ملابس طويلة ذات أذيال.

وكانت الكنائس والأديرة والأضرحة والمقابر الأماكن التي يقصدها النصارى في أعيادهم. فتكون موضع تجمع ولقاء. كانوا يقصدونها للتقرب إلى الرب وللصلوات له. وللتوسل اليه بان يمن عليهم ويبارك فيهم. وكانوا يقصدون المقابر اظهاراً لشعورهم بأن موتاهم وان فارقوهم وليتعبدوا عنهم، غير انهم لا زالوا في قلوبهم. وأيام الأعياد من أعز الأيام على الإنسان،. لذلك فهي أجدر الأيام بأن تخصص لزيارة بيوت الأرباب وبيوت الموتى: القبور.

الفصل الثاني والثمانون
اثر النصرانية في الجاهليين

وإذا لَنا قد حُرمنا من الموارد الأصلية الني يجب أن نستعين بها في معرفة أثر النصرانية عند نصارى الجاهلية والجاهليين، فإن في الشعر المنسوب إلى بعض نصارى الجاهلية مثل عدي بن زيد العبادي والى بعض الشعراء ممن كان لهم اتصال بالنصارى مثل الأعشى، فائدة في تكوين صورة يتوقف صفاؤها ووضوحها وقربها أو بعدها من الواقع والحق على مقدار قرب ذلك الشاعر من الصدق والصواب والواقع والافتعال.

وعدي بن زيد هو أشهر من وصل الينا خبره من شعراء النصارى الجاهليين. هو من العباديين، أي من نصارى الحيرة، ونلك عرف بالعبادي وكان من أسرة اكتسبت نفوذاً واسعاً ونالت حظاً كبيراً عند الفرس وعند ملوك الحرة، فكان لها أثر خطير في سياسة عرب العراق في ذلك الزمن. ولما كانت السياسة ارتفاعاً وهبوطاً، سعادة وشقاء، لاقى عدي منها الاثنين: ارتفع حتى بلغ أعلى المنازل، ثم انخفض حتى تلقاه قابض الأرواح وهو في سجنه فقضى عليه بعد أن ترك أثراً خطيراً في سياسة الحيرة وفي تقرير مصير الملك فيها. وعدي، على ما يذكر أهل الأخبار، من أهل اليمامة في الأصل: هاجر أحد أجداده من اليمامة إلى الحيرة بسبب دم اهرقه هناك، فخاف على نفسه من الثأر، ولم يجد محلاٌ أصلح له وآمن مقاماً من الحيرة، لوجود".أوس بن قلام" أحد رؤساء بني الحارث بن الكعب فيها وهو من اصخاب الجاه والنفوذ وبينه وبين اوس نسب من النساء، وهو نسب يضمن له الحماية والعيش بسلام، فجاء إلى الحيرة وأقام بها حيث أكرمه أوس وقربه إلى آل لخم، واكتسب منزلة عالية عند ملوك الحيرة، انتقلت من بعده إلى أبنائه الذين كوّنوا لهم صلات وثيقة مع آل لخم ومع ملوك الفرس، بما كان لهم من علم وذكاء ومن سياسة. ويذكر الأخباريون أن جدّ عدي قد تعلم الكتابة في الحيرة، فصار من أكتب الناس فيها، وأنه لذلك انتخب كاتباً لملك الحيرة، واتصل بحكم وظيفته المهمة هذه بدهاقين الفرس، وأنه لما توفي أوصى بابنه زيد والد عدي إلى واحد منهم يعرف ب "فروخ ماهان" فأخذه هذا إلى بيته، ورباه مع ولده. فتعلم عندهم الفارسية، وحذقها وكتب بها وبرز، وكان قد، حذق الكتابة بالعربية كذلك، فأوصله الدهقان الى كسرى، "لعلمه هذا باللغتين ولذكائه، فعينه في وظيفة مهمة لم يكن الفرس يعينون لها أحداً من غيرهم هي وظيفة البريد. وقد مكث في هذه الوظيفة زماناً جعلته يكتسب منزلة محترمة عند عرب الحيرة والفرس.

وعني زيد بتربية ولده عدياً: أرسله إلى الكتاب ليتعلم به العربية. فلما برع فيها، أرسله الى كتاب الفارسيه حيث تعلم مع أبناء المرازبة فنون القول والكتابة، ثم تعلم الرماية ولعب الفرس حتى صار من المبرزين فيها. وقد قربه علمه وعقله من آل لخم ومن الفرس، حتى وصل الى مناصب عالية جعلت لقوله أهمية كبيرة حتى في "تثبيت ملك ملوك الحيرة.

وقد أرسله "هرمز بن أنو شروان" في سفارة مهمة إلى القيصر "طيباريوس" فأدّاها على خير وجه. وعاد فأقام أمداً بالشام، ووقف على ما كان فيها من علم،ومعالم. وقد زادت هذه الأسفار بالطبع في سعة أفقه وفي ثقافته. ثم عاد إلى الحيرة، فوجد والده قد توفيَ بعد ان صار المهيمن الحقيقي على البلاد. وزار كسرى ليقدم اليه هدايا قيصر. وارتفع نجمه في البلاطين. وتزوج هنداً بنت الملك النعمان. غير ان تقدمه هذا أوجد له خصومة شديدة من منافسيه "بني مرينا" وهم نصارى مثله ومن أهل الجاه والحسب، فأغرى خصمه ومنافسه العنيد "عدي بن مرينا" قلب النعمان عليه. وكان عدي بن زيد صاحب الفضل في حصول النعمان على التاج وظل ابن مرينا يعمل في الخفاء للقضاء على عدي حتى تمكن من ذلك، إذ سجنه النعمان، ثم أمر فاغتيل وهو في السجن.

و ذكر ان "كسرى" جعله كاتباً على ما يجتبى من الغور، وكان هو سبب ملك النعمان بن المنذر.

والذي يهمنا في هذا الموضع من أمر عدي هو مدى وقوف عدي على النصرانية ومبلغ تسربها في نفسه وفي نفوس أهل الحيرة. أما النواحي الأخرى من حياته، فليس لها محل في هذا المكان. وشعر عدي و اضرابه من العباد بين هو سندنا الوحيد الذي نستخرج منه رأينا في النصرانية عند عدي وعند اخوانه العباديين.

والشعر المنسوب إلى عدي أقرب إلى نفوسنا وأسهل علينا فهماً من الشعر المنسوب إلى بقية الجاهليين، معانيه وألفاظه حضرية متحررة من الأساليب البدوية التي يميل إلى استعمال الجزل من الكلمات، وهو يخالف مذاهب أولئك الشعراء في كثير من الأمور. ولهذا " كانت الرواة لا تروي شعر أبيُ دؤاد ولا عدي بن زيد لمخالفتهما مذاهب الشعراء"، و "لأن ألفاظه ليست بنجدية". وقد ورد في شعره بعض المعربات مما يدل على أثر الفارسية والإرمية فيهْ. وكثير من شعره هو في الزهد، وفي التذمر من هذه الدنيا التي لا تدوم حالها على حال، وفي تذكير الأحياء بنهاية الأموات بالرغم مما أقاموه وشيّدوه من أبنية ضخمة وقصور شاهقة. وهذا الشعر يتناسب مع ما يذكره أهل الأخبار عن حياة هذا الشاعر،وتألق نجمه وبلوغه أعلى المراتب ثم سقوطه فجأة ودخوله السجن واغتياله فيه.

وفي شعره قصائد في القيان وفي الخمر تتحدث عن الحياة التي قضاها قائلها، وهي حياة لذيذة ولكنها لا تدوم بالطبع إلى الأبد، ولا بد لها ان تزول ثم تنتهي بما يوجب الأسف عليها والألم والتوجع من فنائها ومن ذهاب تلك الأيام.

أما صميم الديانة والآراء النصرانية الخاصة.، وهي ضالتنا في هذا الفصل وهدفنا الذي نقصده، فلا تجد منها في شعره الموثوق بصحته شيئاً كثيراً. ونحن لا نستطيع بالطبع ان نلوم عديّاً على ذلك، فعدي كما نعلم رجل شعر وسياسة،وليس برجل دين ولا كهانة فيتعمق في شعره بإيراد تواريخ الأنبياء والأوامر والنواهي الإلهية الواردة في التوراة والانجيل. ولم يذكر أحد من الاخباريين عنه انه كان كاهناً أو قسيساً فنأمل منه التطرق في شعره إلى موضوعات اللاهوت والكهنوت. فما نجده في شعره عن النصرانية هو من حاصل المناسبات والظروف، وليس من حاصل بحث متعمد قصد به البحث في الدين من أجل الدين.

ولو كان عديّ قد تعرض للنصرانية عنده وبين قومه لأفادنا ولا شك كثيراً. وما زلنا في الواقع فقراء في ناحية علمنا بمبلغ فهم أهل الحيرة وغير أهل الحيرة من نصارى العرب في الجاهلية لأحكام النصرانية وقواعدها، ومقدار رسوخها في نفوس أولئك النصارى ولا سيما الأعراب منهم. ولكن عذره كما قلت بينَ واضح، وليس لنا أن نلومه. وما جاء به عن النصرانية في شعره على كل حال مفيد، أفادنا ولا شك. فلنكن قنوعين غير طامعين، مكتفين مما أورده عدي عنها في شعره، ولننظر إلى المستقبل، فهو أملنا الوحيد، فنجده يكشف عن مصادر كتابية مطمورة، يبعثها من قبورها المغمورة بالأتربة المتراكمة، وعندئذ تكون أمام المؤرخ ثروة تغنيه،يستطيع أن يظهرها العشاق للمولعين بمعرفة أحوال الماضين. وقد ورد في قصيدة قيل انه نظمها في معاتبة النعمان على حبسه بيت فيه قسم برب مكة والصليب: سعى الأعداء لا يألون شراً  عليك ورب مكة والصليب 

وهذا البيت يدعو إلى التأمل والتفكير، فرجل نصراني يؤمن بعيسى وبالصليب،لا يمكن أن يقسم برب مكة. فمكة كما نعلم مجمع الأصنام والأوثان وكعبة الوثنية في الجاهلية، فكيف يقسم بربها رجل نصراني يرى الأوثان والوثنية رجساً من عمل الشيطان وكفراً. بل لو فرضنا اًنه أقسم بمكة وبرب مكة على سبيل مجاراة العرب الوثنين وتقرباً إلى الملك النعمان، فليس لدينا دليل مقنع يفيد أن وثنيي الحيرة كانوا يؤمنون برب مكة. ولم يذكر أحد من أهل الأخبار ان أصنام أولئك الوثنيين كانت بمكة، وأن أهل الحيرة كانوا يزورون مكة ويحجون الى "رب البيت" في جملة من كان يحج اليه من العرب. ولم يرد في روايات أهل الأخبار ان الملك "النعمان" كان وثنياً مؤمناً بقدسية مكة وأنه حج اليها حتى نذهب إلى الفرض بأن عدياً، إنما أقسم بمكة، مجاراة لهذا الملك، بل الوارد فيها أنه كان على دين النصرانية، وانه كان مؤمناً بهذا الدين، يزور الأديرة ويحضر الصلوات ورجل على هذا النحو من التدين لا يمكن بالطبع أن يحفل يقسم ببيت من بيوت الأصنام. ثم أن مصطلح "رب مكة"، هو مصطلح اسلامي، أخذ من عقيدة التوحيد في الإسلام، فقيل: "رب البيت" و "رب هذا البيت".

لقد اتخذ الأب "شيخو" هذا البيت دليلاً على انتشار النصرانية في مكة وعلى تنصر أحياء منها، وعلى ان النصرانية قديمة فيها، بل يكاد يفهم من قوله ان البيت هو في الأصل كنيسة بنيت بعد المسيح بعهد قليل: بناها النصارى الذين جاءوا إلى هذه المدينة وسكنوها، وان صور الأنبياء وصورة عيسى وأمه مريم التي ذكر الاخباريون انها كانت مرسومة على جدار الكعبة والتي أمر الرسول بطمسها ومحو معالمها هي دليل على أثر النصرانية في مكة، ولهذا كان النصارى لجاهليون يحجون اليها ويقدسونها، ولهذا السبب أقسم عدي بها، وأقسم الأعشى بها كذلك حيث قال: حلفت بثوبي راهب الدير والتـي  بناها قصيٌ والمضاض بن جرهم 

وذكر ان من شعر "عدي" هذا البيت: كلا يميناً بذات الودع لو حدثت  فيكم وقابل قبر الماجد الزارا

وقد اختلف العلماء في مراده ب"ذات الودع"، فذهب بعض منهم إلى ان "ذات الودع" الأوثان، أو وثن بعينه، وقيل سفينة نوح، وكان يحلف بها، وكانت العرب تقسم بها، وتقول: بذات الودع. وقبل الكعبة، لأنه كان يعلق الودع في ستورها.

ولم يرد في شعر عدي شيء ما يتحدث عن عقيدة التثليث، أي الايمان بالثالوث. وكل ما ورد فيه هو الاشارة إلى عقيدة بوجود رب واحد هو "الله". وهو رب مستجيب مسبّح خلاق. وهذا الرأي اسلامي كما هو معلوم، وقريب من عقيدة الحنفاء.

ووردت في بيت شعر وجهه إلى النعمان كلمة "أبيل"، وأبيل اسم للمسيح، ويطلق على حبر النصارى أيضاً،ومعناها الناسك والزاهد. وهي من أصل سريانى، من فعل "ابل" بمعنى ناح وبكى على خطاياه،ولذلك قصد بها الناسك والراهب. وقد دعا الأعشى ضارب الناقوس: الأبيل.

ونسب لعدي هذا البيت: وأهبط الله إبليسـاً واوعـده  ناراً تلهب بالأسعار والشرر 

ولم ترد كلمة "ابليس" في شعر منسوب لشاعر جاهلي آخر، إنما وردت كلمة "شيطان" في شعر منسوب إلى أميّة بن أبي الصلت.

ونسب إلى عدي هذا البيت: ناشدتنا بكتاب اللّه حرمتنا  ولم تكن بكتاب الله تقتنع 

ويظهر من دراسة الشعر المنسوب لعديّ أنه كان على مذهب القائلين بالقضاء والقدر. فكل كائن خاضع لحكم القدر، يفعل به ما يشاء، ليس في إمكانه ردّ شيء مقدر كائن عليه. وقد رسخت هذه العقيدة في نفس عدي ولا شك بعد أن زجّ به في السجن، وأصبح وحيداً لا يدري ما الذي سيصنع به. وهي عقيدة يسلم بها أكثر من يقع في مثل هذه الظروف، لأنها تفرج عن النفس، وتخفف بعض التخفيبف عما ينتاب المرء وهو في هذه الحالة من هموم وأحزان. والإيمان بالقدر وبأن الإنسان مسير مجبر،عقبدة لها صلة كبيرة بالظروف الاجتماعية وبالأحوال التي تحيط بالانسان، وهي لبست من الآراء الدينية الخالصة.

ونسبت لعدي أبيات فيها حكايات من العهد العتيق، مثل هذه الأبيات وهي في مبدأ الخلق: اسمع حديثاً لكي يومهاً تجاوبـه  عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا 

أن كيف أبدى إ له الخلق نعمتـه  فينا وعـرفـنـا آياتـه الأولا

كانت رياحاً وماءً ذاُ عـراثـيه  وظلمة لم يدع فتقا ولا خـلـلا

فأمر الظلمة السوداء فانكشفـت  وعزّل الماء عما كان قد شغلا

وبسط الأرض بسطاً ثم قدرهـا  نحت السماء سواء مثل ما فعلا

وجعل الشمس مصراً لاخفاء بـه  بين النهار وبين الليل قد فـصـلا

قضـى لـسـتة ايام خـلائقــه  وكان آخر شيء صوّر الرجـلا

دعاه آدم صوتاً فاسـتـجـاب لـه  بنفخة الروح في الجسم الذي جبلا 

وطابع هذا النظم وأسلوبه يفصحان انه نظم من النوع التعليمي الديني،لا أدرى أكان شاعرنا يعترف به وينسب إلى نفسه ? أما أنا، فلا أرى انه لشاعر عربي عاش قبل الإسلام.

ونجد فىِ شعر "عدي" نزعة من نزعات التصوف والتأمل، جاءت اليه من الأوضاع التي أحاطت به، من وشايات، ومن غضب الملك عليه ومن سجن، بعد ان كان السيد المهيمن. حتى صار الدهر عنده حالاً بعد حال. لا يدوم صفاؤه لأحد، فلا يركن أحد اليه،.ولا يغتر إن وجد نفسه في أعلى عليين، فقد يسقط غداً إلى أسفل سافلين.

وهناك شاعر آخر اسمه "الملمس بن عبد المسيح" يدل اسم أبيه على أنه كان نصرانياً، غير أن هناك رواية أخرى تذكر ان اسم والده "عبد العزُى". وعبد للعزُى من أسماء الوثنين كما هو معروف. تم اننا لا نجد في شعره ما يشير إلى آراء وعقائد نصرانية يمكن أن يستنبط منها أنه كان نصرانياً. ورجل يحلف في شعره باللات والأنصاب لا يعقل أن يكون نصرانياً.

أما الأعشى، فهو شاعر عاش في الجاهلية، وأدرك أيام الرسول. ومدحه بقصيدة جميلة مشهورة، جعلت أبا سفيان يحرض قومه على ارضائه خوفاً من ان يسلم و.من أن ينظم شعراً آخر في مدح الرسول وفي ذم قريش، فجعل له مائة من الإبل جمعها من قومه على أن يرجع ويؤجل أمر إسلامه عاماً. فرجع إلى بلدته "منفوحة" باليمامة، وكان قد ولد بها، فمات بها بعد حين وعرف قبره بين الناس أمداً.

وكان الأعشى كما يروي أهل الأخبار جوابا في الآفاق، عرف الحيرة ونادم ملوكها، وزار النجاشي في أرضه، وتجول في أرض النبيط وأرض العجم. وتنقل في أرجاء اليمن وفي حضرموت وعمان وبلاد العراق وبلاد الشام ومتع نظره بالآثار القديمة واتخذها عبرة للمعتبرين. وقد وسعت هذه الأسفار آفاق نظره وعرفته على شعوب متعددة وعلى آراء ومعتقدات متنوعة. ومنها هذه النصرانية التي نبحث فيها.

وقد حمله اختلاطه بالنصارى العرب على الاشارة إلى بعض طقوسهم وأحوال عباداتهم في شعره. وإلى ان يشير إلى قصص معروف بين أهل الكتاب، وارد بينهم، فذكره في شعره. فتراه يتحدث عن حمامة نوح وعن أخبار سليمان وعن جنّ سليمان وعن المباني القديمة العادية المنسوبة اليه، كما تراه يشير إلى عادة النصارى في الطواف حول الصليب أو تمثال المسيح. ثم تراه يشير إلى الصليب نصبه الراهب في الهيكل بعد ان زينه بالصور.

وفي الشعر المنسوب اليه إقرار بإلَه واحد كريم، ونهي عن عبادة الأوثان ومن التقرب منها ه،وفيه ان الرب يكفي الإنسان ويرعاه ويساعده في حله وفي ترحاله، وان الإنسان عبده. وان الفناء واقع على كل امرىء،. وليس أحد في هذه الدنيا بخالد، ولو كان الخلود لأحد لكان لسليمان. وفيه حديث عن البعث والحساب يوم الدين.

ونجد في شعره معرفة بنوح وبسفينته، أشار إلى نوح في مدحه إباسا حب ث خاطبه بقوله: جزى الإله إياساً خير نعمـتـه  كما جزى المرء نوحا بعدما شابا 

في فلكه اذ تبداها ليصنـعـهـا  وظل يجمع الواحـا و ابـوابـا

فهل أخذ الأعشى رأيه هذا عن نوح من أهل الجزيرة ? وهل كان في ذلك قاصداْ متحدثاً مخاطباً رجلاً نصرانياً يعرف الحكاية والموضوع ? أو كان متحدثاً عن نوح حديث من يدين به ويعتقد، فهو رأيه ودينه. الواقع أن البت في ذلك أمر لا أراه ممكناً ما لم تتجمع لنا موارد تأريخية كثيرة، ليتمكن المرء من استنتاج رأي واضح في أمثال هذه الموضوعات المعقدة، التي لم تدرس مظانها المدوّنة، ولم تنتقد حتى الان.

وقد ذهب "كاسكل" "Caskel" إلى ان "الأعشى" كان نصرانيا. وذهب الأب "شيخو" هذا المذهب أيضاً، وجوّ ز "بروكلمن" تنصره، لكن ذهب إلى انه لم يكن متعمقا في النصرانية. وقد استدل "كاسكل" على نصرانيته من بيتين في ديوانه، ومن بيت آخر ورد في قصيدة أخرى، لا يمكن في الواقع ان يكون دليلا على نصرانية قائله.

وذكر انه كان قدرياً، روى روايته "يحيى بن متى" وهو من عباد الحيرة، انه أخذ مذهبه هذا في القدر من العبادبين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك. وقد استشهدوا على قوله هذا في للقدر بهذا البيت: استأثر الله.بالوفاء وبالعد  ل وولى الملامة الرجلا 

وقد راجعت شعر "الأعشى"، فلم أتمكن من استنباط رأي منه يدل على مقدار علمه بالنصرانية وعلى مدى تعمقه أو تعمق غيره من النصارى بدينهم. فما ذكره مما له علاقة بالنصرانية، هو شيء عام، يأتي بخاطر كل شاعر ذكي جوّ اب في الآفاق، له احتكاك واتصال بالنصارى أو بغيرهم، وهو لا يصلح ان يكون دليلاً على عقيدة ودين وفهم لذلك الدين.

وفي شعر "الجعدي" كلام عن سفينة نوح، ذكر أنه قال: يَرْ فعُ، بالقار والحديد من ال  جوز، طوالاً جذوعها،ُ عمما 

والنابغة الجعدي، مخضرم، يقال إنه كان مثل الحنفاء، أنكر الخمر والميسر، وهجر الأزلام والأوثان. وكان ممن فكر في الجاهلية، وأنكر الخمر والسكر، وهجر الأزلام واجتنب الأوثان، وذكر دين ابراهيم. وقد لقي الرسول، وأسلم وأنشده من شعره. وذكر أنه هو القائل القصيدة التي فيها: الحمد للهِ ربي لا شريك له  من لم يقلها فنفسه ظلمـا

على نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وقد قيل إنها لأمية، لكن صححها حماد الراوية.

ونجد في شعراء آخرين من غيرمن ذكرت ألفاظا وكلمات كانت معروفة عند النصارى وإشارات إلى عباداتهم وعاداتهم، وردت.في شعر "النابغة الذبياني" ولبيد، وامريء القيس، و أوس بن حجر وآخرين غيرهم ممن طافوا في الارضين وارتحلوا فوقفوا على بعض أحوال النصارى فأشاروا اليها في شعرهم.

ونجد في شعر "الأفوه الأودي" وهو صلاءة بن عمرو، تسجيلاً لأبناء نوح. سجلهم مع من سجل أسماءهم من ملوك التبابعة ممن دانت لهم الأنام، فنجده يقول: ولما يعصها سام وحـام  ويافث حيثما حلت ولام 

ولا أدري إذا كان هذا ا!بيت من نظم شاعر جاهلي، هو الأودي، أو من نظم شخص آخر نظمه على لسانه في الإسلام. ولكني لا أستبعد بالطبع أن يكون خبر أولاد نوح الثلاثة. وهم: سام ويافث وحام، قد عرف عند العرب النصارى وعند من كان على احتكاك واتصال بهم.

ونجد في بيت شعر ينسب لأفنون التغلبي ذكراً لولد آدم. وورود آدم في هذا البيت، إن صح انه من شعر ذلك الشاعر الجاهلي، دليل على وقوف هذا الشاعر على قصة آدم وانحدار البشر من نسله. ولا يستبعد ان يكون اذن قد وقف عليها باختلاطه ببني قومه تغلب، وقد كان قسم كبير منهم قد دخلوا في النصرانية. ولا يستبعد أيضاً ان يكون بعض الوثنيين قد وقفوا أيضاً على قصة الخلق كما وردت في الديانتين من اختلاطهم بأهل الكتاب واتصال بهم.

وقد وردت، في بيت اخر من قصيدة يقال انه قالها في رثاء نفسه، لفظة "الله" في شكل يفهم منه انه كان يدين بالتوحيد، وان الآجال كلها بيد الله، وأشار في بيت أخر إلى عاد وإرم ولقْمان وجدن.

وأشير في أشعار بعض الجاهلين الى تعبد النصارى وصلواتهم سجداً وقياماَ، وهؤلاء الذين أشير اليهم من الرهبان والناسكين الذين كانوا قد اعتكفوا في الِصوامع وفي البيع والأديرة النائية يعبدون الله، ويدعون إلى الرب تقرباً وخشية، ومنهم من ترك السجود أثراً في جباههم. وقد اطلقوا على صلواتهم هذه اسم "الصلاة". وهي من الألفاظ التي أخذها أولئك النصارى من "بني إرم". وعرفت المواضع التي كانوا يسجدون فيها بالمساجد، والمسجد هو الموضع الذي يتعبد فيه.

وقد كان الركوع من العادات المعروفة عند الأحناف والنصارى، و "كانت العرب في الجاهلية تسمى الحنيف راكعاً إذا لم يعبد الأوثان، ويقولون: ركع إلى الله". وأما إحناء الرؤوس، فكان للتعظيم، ولذلك حنوا رؤوسهم في الكنائس ولرؤسائهم على سبيل الاحترام و التعظيم. وقد كانوا يبجلون رؤوسهم وسادتهم كثيراً، ولذلك نزل الوحي بتأنيبهم وتقريعهم، إذ جعلهم هذا الاحترام في مصاف الآلهة والأرباب.

وتلحق بالصلاة التسابيح، أي ذكر الله وتقديس اسمه، وقد كان من عادة الرهبان التسبيح بعد الصلاة، ولا سيما في الضحى و العشي.

وقد كان رجال الدين، ولا سيما الرهبان منهم، يقومون بالفروض الدينية فرادى وجماعة، فيرتلون المزامير والأدعية بنغمات وألحان شجية. وقد عرف ترتيل القسيسين "الهينم"،وذلك في حالة النغم بخفوت الصوت. وإذا طرب القس في صوته خفياً قيل لذلك "الزمزمة".أما إذا تغنى، فيقال لذلك الشمعلة. وقد قيل للمتغنين في تلادة الزبور "المتشمعل". وورد: "شمعلة اليهود:. قراءتهم، إذا اجتمعوا في فهرهم". وأما إذا أطلق صوته بالدعاء فيقال لذلك الجأر. واللحون من الكلمات التي أطلقت على ترتيل أهل الكتاب لكتبهم المقدسة. فقد كانوا يقرؤون التوراة والانجيل في المحافل باللحن. وقد أشير إلى ذلك في بعض الأحاديث. أما إذا ردد الشخص نغمات الانجيل في حلقه، فكانوا يقولون له الترجيع، ومنه قولهم: رجع الانجيل.

و "التصبيغ" من الألفاظ التي كانت تدل على معنى خاص عند النصارى،هو التعميد. وقد عرفه الجاهليون. وذكر علماء اللغة ان الصبغة الدين والملة والشريعة والفطرة والختانة. "اختتن ابراهيم، صلوات الله عليه، فهي الصبغة.

فجرت الصبغة على الختانة. وصبغ الذمي ولده في اليهودية أو النصرانية صبغة قبيحة، أدخله فيها". و " كانت النصارى تغمس أبناءها في،ماء المعمودية ينصرونهم". وقد صالح عمرُ بني تغلبَ بعدما قطعوا الفرات قاصدين اللحاق بأرض الروم، على ألا يصبغوا صبياً ولا يكرهوه على دينهم، وعلى ان عليهم الصدقة مضعفة. وعرفوا "المعمودية" بقولهم: "لفظ معمودية معرب معموذيت بالذال المعجمة، ومعناها الطهارة. وهو ماء أصفر للنصارى يقدس بما يتلى عليه من الانجيل، يغمسون فيه ولدهم معتقدين انه تطهير له كالختان لغيرهم".

وقد كان نصارى الجاهلية يعمدون أولادهم، يأخذونهم أطفالاً إلى الكنائس لتعميدهم على نحو ما يفعل سائر النصارى. وقد قيل له: التغميس والتصبيغ.

والصوم من الأحكام الدينية المعروفة عند اليهود والنصارى، وقد أشير إليه في شعر لأمية بن أبي الصلت وفي بيت ينسب إلى النمر بن تولب. وقد عرف أهل الجاهلية ان اليهود كانوا يصومون، وقد أشير إلى صومهم في عاشوراء في اثناء الكلام على فرض الصوم على المسلمين بصيامهم شهر رمضان، ولابد أن يكون للجاهليين علم بصوم النصارى كذلك، وذلك نتيجة لاتصالهم بهم واختلاطهم معهم.

ومن المصطلحات النصرانية "الحواريون"، وقصد بها رسل المسيح.و قد وردت اللفظة في مواضع من القرآن الكريم. ووردت لفظة "الحواري" في بيت ينسب إلى "ضابىء بن الحارث بن أرطاة البرجمي". وقد رجعَ بعض الباحثين أصل هذه اللفظة إلى لغة بني إرم ورجعها اللغويون إلى أصل عربي هو "حور"، وذهب آخرون إلى أنها من أصل حبشي.

والصليب،. من أهم المصطلحات المعروفة عند النصارى، لاعتقادهم بصلب المسيح عليه، حتى صار رمزاً للنصرانية. وصاروا يعلقونه على أعناقهم تبركا وتيمنا به، وينصبونه فوق منائر كنائسهم وقبابها، ليكون علامة على متعبّد النصارى. وقد أقسموا به. وقد عرف المسلمون تمسك ا!نصارى به، واتخاذهم له شعاراً،، حتى كان بعضهم يرسمه على. جبهته، وكانوا يلثمونه ويتمسحون به تبركا، و.يزينون صدورهم به.

وذكر علماء اللغة "الشبر" على أنه من المصطلحات الشائعة بين النصارى. وهو على حدّ تعريفهم له: "شيء يتعاطاه النصارى بعضهم لبعض كالقربان،يتقربون به، أو القربان بعينه"، وذكروا أيضاً أن "الشبر" الانجيل والعطية والخير. ومن ذلك قول عديّ: لم أخفه والذي أعطى الشبر 

ويظهر من كتب الحديث ان أهل الكتاب كانوا يخالفون المشركين في بعض عاداتهم: كالذي ورد عن عبد الله بن عباس من "ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أها الكتاب يسدلون رؤوسهم. وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء. ثم فرق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه". وكالذي ورد من ان أهل الكتاب كانوا يخالفون الجاهليين في كيفية التحية عند ملاقاة أحدهم الاخر، وان الرسول أقر المصافحة.

وقد أطلقت لفظة "المصاحف" في شعر ينسب إلى امرىء القيس على أسفار النصارى، وهو قوله: "كخطّ زبور في مصاحف رهبان". والكلمة على رأي بعض علماء الساميات والنصرانيات من أصل حبشي، ومفردها "مصحف". وصحف بمعنى كتب. وقد وردت لفظة "صحيفة" في بيت ينسب إلى "لقيط ا لإيادي".

والمجلة من الألفاظ المعروفة بين الجاهلين. وقد اشتهرت في العربية باقرانها باسم "لقمان"، فقبل: "مجلة لقمان". وأطلقت عند العبرانيين على أسفار الكتاب المقدس على سبيل التخصيص أحياناً وعلى باب التعميم في بعض الأحيان. وقد وردت في شعر للنابغة، هو: مجلتهم ذات الإلـهَ ودينـهـم  قويم فما يرجون غير العواقب 

وقصد بها كتاب النصارى، فقد مدح به الغساسنة، وهم على دين المسيح.

و قصد بالسفر وبالأسفار الكتاب والكتب من التوراة والإنجيل، وكلمة "سفر" بمعنى كتاب. وكانت النصارى تقرأ كتبها. من الصحف، وتفسر للمستمعين ماجاء فيها من مشكل.

ولفظة "جهنم" من الألفاظ المعروفة عند اليهود والنصارى. وهي تعني الموضع الذي يكون فيه العذاب بعد الحشر، فيخلد فيه أصحاب الآثام والمعصية. واللفظة من أصل عبراني على رأي المستشرقين وعلماء الساميات هو "جحينوم" "جهينوم" "Gehinnom، أي "وادي حينوم"، "Hinnom"،. وهو وادِ يدور حول القدس نحو أربعة كبلومترات، ويعرف اليوم باسم "وادي الربابي"، وقد كان اليهود الوثنيون يقربون في موضع منه يسمى "توفيث" " "Topheth"، الصبيان قرابين للالهَ "ملوخ"، "Moloch"="Molech"، يقدمونها ذبائح محروقة إِكراماً له، ثم صار هذا الموضع محلا ترمى فيه أقذار المدينة وجثث الحيوانات، وتحرق هناك لئلا تنتشر منهاْ الأوبئهَ، و صار الموضع رمزاً للجحيم، ومنه أخذت لفظة "جهنه"، "Gehenna"، التي هي جهنم، الموضع الذي يعاقب فيه المجرمون بعد الموت.. وهو موضع يقع تحت الأرض، واسع جداً، وأكبر حجماً من الأرض. يلقى فيه الآثمون جزاء إثمهم في الدنيا ومخالفتهم شريعة الرب.. فيبقون فيه يعذبون. وقد اختلف في موضوع أبدية التعذيب وبقاء وجهنم، فمنهم من رأى أن جهنم خالدة، وأن العذاب أبدي، ومنهم من ذهب إلى أنها ترفع بعد انتهاء التعذيب.

وقد وردت لفظة جهنم في مواضع متعددة من شعر أمية بن اْبي الصلت،كما ورد فيه وصفها وكيفية التعذيب فيها،. ولمعرفة أصل هذا الشعر: هل هو من شعر امية حقاً، أو من شعر آخرين وضعوه على لسانه، لا بد من دراسته ومقارنته بما جاء في الإسلام عن وصف جهنم وكيفية التعذيب فيها. وهناك رواية تنفي ورود لفظة جهنم في أي شعر جاهلي خلا هذا الشعر المنسوب إلى أمية بن أبي الصلت، ويلاحظ انه ذكر "عدن" مع جهنم.

ولم أجد في أشعار الجاهليين ذكراً للانجيل، إلا في الشعر المنسوب إلى "عدي بن زيد العبادي". وربما في شعر عدد قليل آخر من الجاهليين، لم أقف عليه. غير ان عدم ورود اللفظة كثيراً في هذا الشعر، لا يدل على عدم معرفة الجاهلين لها، ودليلنا على ذلك ورودها في مواضع من القرآن الكريم. وورودها فيه دليل على وقوف الجاهلين عليها واستعمالهم اياها، وأصلها من اليونانية، وقد وقف العرب عليها من السريانية أو من الحبشية. وقد ذكرت فيما سبق ان نفراً من أهل الكتاب كانوا قد أقاموا بمكة وكانوا يقرأون التوراة والانجيل بألسنتهم، فلا يستبعد اذن وقوف بعض الجاهليين، ولا سيما المثقفين منهم وأصحاب التجارات الذين كانوا يقصدون الحيرة وبلاد الشام ونجران للتجارة وكان لهم اتصال وثيق بنصارى هذه الأرضين على الانجيل وعلى الكتب الأخرى التي كان يستعملها رجال الكنيسة لافهام الناس أمور الدين.

ويظهر من بعض روايات الأخباريين أن بعض أهل الجاهلية كانوا قد اطلعوا على التوراة والانجيل، وأنهم وقفوا على ترجمات عربية للكتابين. أو أن هذا الفريق كان قد عرب بنفسه الكتابين كلاّ أو بعضا، ووقف على ما كان عند أهل الكتاب من كتب في الدين. فذكروا مثلاً أن "ورقة بن نوفل" "كان يكتب الكتاب العبراني، ويكتب من الانجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ": وقالوا: "وكان امرؤ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الانجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب". وذكروا مثل ذلك عن "أمية بن أبي الصلت"، فقالوا إنه كان قد قراً الكتب المقدسة، وقالوا مثل ذلك عن عدد مهن الأحناف.

وإذا كانت هذه الروايات صحيحة، فإنها تدل على أن الجاهليين كانوا قد وقفوا على ترجمة العهدين. ويرى بعض المستشرقين احتمال ترجمة العرب للكتاب المقدس قبل الإسلام وعند ظهوره،ترجمة من اليونانية على الأرجح. وقد استندوا في ذلك إلى خبر ذكره "ابن العبري"، Barkebraeus""، يفيد أن البطريق "المنوفيزيتي" المدعو "يوحنا".، "Monophysite Patriarch Johannes" كان قد ترجم الكتاب المقدس إلى أمير عربي اسمه "عمرو بن سعد" " وذلك بين سنتي "631" و "640" للميلاد، والى اًخبار أخرى تفيد أن بعض رجال الدين في العراق كانوا قد ترجموه إلى العربية وذلك قبيل الإسلام وعند ظهوره. ولا يستبعد وجود ترجمات للكتاب المقدس في الحيرة، لما عرف عنها من تقدم في الثقافة وفي التعليم، ولوجود النصارى المتعلمين فيها بكثرة. وقد وجد المسلمون فيها حينما دخلوها عدداً من الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة وتدوين الأناجيل، وقد برز نفر منهم، وظهروا في علوم اللاهوت. وتولوا. مناصب عالية في سلك الكهنوت في مواضع أخرى من العراق، فلا غرابة اذا ما قام هؤلاء بتفسير الأناجبل وشرحها للناس للوقوف عليها. وقد لا يستبعد تدوينهم لتفاسيرها أو لترجمتها، لتكون في متناول الأيدي، ولا سيما بالنسبة إلى طلاب العلم المبتدئين. وقد لا يستبعد أيضاً توزيع بعضهم هذه ااترجمات والتفاسير إلى مواضع أخرى لقراءتها على الوثنيين وعلى النصارى للتبشير.

ونجد في كتب الاخباريين وفي كتب قصص الانبياء وفي القصص المدونة عن الماضين قصصاً وأمثلة وكلاماً يرجع أصله إلى بعض أسفار التوراة اوِالى الأناجيل، غيرْ اننا لا نستطيع ان نؤكد ان هذا المدون قد نقل عن الجاهليين، وان أهل الجاهلية كانوا يعرفونه، وانه ليس مما قصه أهل الكتاب أو مسلمة أهل الكتاب مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه على المسلمين، فدخل بينهم. ثم إن القصص أكثره من "التلمود" و "المشنا" والكتب غير القانونية، روي بشكل فيه بعدٌ في بعض الأحيان عن هذا المدون المعروف، وهو يفيدنا من هذه الناحية كثيراً في الحكم على مدى معرفة العرب بعلم أهل الكتاب.

وللاسماء أهمية كبيرة في تعيين مبلغ أثر لليهودية والنصرانية في الجاهليين. وإذا كانت أسماء الوثنيين قد ساعدت "ولهوزن" في الكشف عن أسماء أصنام وأوثان لم ترد في كتاب الأصنام.لابن الكلبي ولا في كتب الأخباريين الأخرى، وساعدت في الكشف عن مدى تغلغل الوثنية في نفوس أهل الجاهلية، فإن للأسماء لليهودية أو الأسماء النصرانية التي تسمى بها أهل الجاهلية والتي وصل خبرها. للينا أهمية كبيرة في الافصاح عن مدى تأثر الجاهليين بالديانتين. وليس من اللازم أن تكون هذه الاّسماء أسماء أناس كانوا على دين يهود، أو على دين النصرانية، فالأسماء وإن كان لها ارتباط في الغالب بأديان حامليها غير أنها لا تكون دائماً دليلاً على دين أصحابها، فلبيئة ولبعض العادات والاعتقادات دخل في اختيار الأسماء. وعلى ذلك فإن ما سنذكره من أسماء لا نذكرها على أن أصحابها كانوا يهوداً أو نصارى حتماً، وإنما نذكرها على سبيل الإشارة إلى أن بعض الجاهليين كانوا يحملون أسماء هي في الغالب من اسماء اليهود والنصارى.

وفي طليعة هذه الأسماء التي يجب ان نذكرها، الأسماء للواردة في التوراة والانجيل، فهي أسماء عبرانية ونصرانية معروفة، وبها تسمى.كثير من اليهود والنصارى. ودخولها بين الجاهليين العرب دليل على وجود بعض تلك المسميات بينهم، وتسمى أهل الجاهلية بتلك الأسماء.

ومن جملة تلك الأسماء: آدم وقد دعي يه آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. قُتل في الجاهلية، وهو الذي وضع النبي دمه يوم فتح مكة. وقد جاء "ابن دريد" بتفسير لهذه التسمية فذكر انها من الأدمة أو بمعنى الطويل القامة ذي العنق الناصع، ولم يشير إلى وجود علاقة لها باسم آدم أبي للبشر. غير أني لا أستبعد احتمال أخذها من التسميات التي كانت بين لليهود أو النصارى عند الجاهلين. غير اننا لا نعرف من أمثال هذه التسميات غير عدد قليل محدود بحيث لا يمكن ان نتخذها قاعدة لبناء حكم عليها في ورود هذه التسمية عند الجاهلين.

وأكثر من هذه التسمية شيوعاً اسم "ابراهيم"، ومن جملة من تسمى بها: ابراهيم جد عدي بن زيد بن حمان بن زيد بن أيوب من بني امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم. فولد أيوب ابراهيم وسلم وثعلبة وزيد. منهم عدي بن زيد ابن حمان بن زيد بن ايوب بن مجروف الشاعر. ومنهم مقاتل بن حسان بن ثعلبة ابن أوس ين ابراهيم بن أيوب، الذي نسب اليه قصر مقاتل. وقال ابن الكلبي: لا أعرف في الجاهلية من العرب أيوب وابراهيم غير هذين، وإنما سميّا بهذين الاسمين للنصرانية.

وممن سمي بابراهيم: ابراهيم بن كتيف النبهاني، وهو شاعر قديم،وابراهيم الأشهلي، وابراهيم بن الحارث بن خالد التيمي القرشي، وأبو رافع ابراهيم القبطي، وهو من موالي الرسول، وابراهيم بن عباد الأوسي، وابراهيم بن قيس بن حجر بن معد يكرب الكندي،وابراهيم النجّار وهو الذي صنع المنبر لرسول الله. وأكثر هؤلاء هم من الذين عاصروا الرسول وكانوا من صحابته. ويجب ألا ننسى أن الرسول سمى ابنه الذي توفي صغيراً في حياته ابراهيم.

وعرف من الصحابة رجل اسمه "إِسحاق الغنَوَي"، وعرف ثلاثة صحابيين باسم "اسماعيل". وأما "أيوب"، فقد عرف به "أيوب بن مجروف" جد عدي بن زيد العبادي، وأيوب بن مكرز، كما تكنى به أبو أيوب خالد ابن زيد الأنصاري من الصحابة، وهو الذي نزل عليه الرسول يوم مقدمه إلى يثرب مهاجراً من مكة.

واسم "داوود" من الأسماء التي وردت في جملة أسماء ملوك بني سليح، فذكر منهم "داوود اللثق". وأظن ان لفظة "دؤاد" التي كني بها الشاعر الجاهلي أبو دؤاد الإيادي هي من داوود، وإنْ ذهب المفسرون فيها مذهباً آخر فقالوا انها من الدُود والدوادة والدودة وأمثال ذلك. وعرف شاعر آخر باسم داوود بن حمل الهمداني، ومن الأنصار.رجل اسمه داوود. بن بلال وصحابي اسمه داوود بن سلمة الأنصاري.

وقد عرف داوود في الشعر الجاهلي بنسجه الدروع حتى ضربت بدروعه عندهم المثل. وهي في نظرهم دروع قوية ممتازة، صنعها كل من الحديد الذي كان يلين بين يديه. وقد تكرر ورود ذلك في أشعار جملة شعراء، مما يدل على انها كانت معروفة بين الجاهليين مشهورة. هذا ولا بد ان يكون لذلك أصل بعيد ظهر من قصص بني اسرائيل عن داوود وعن ملكه وحروبه وتغلبه على خصومه، هذا القصص الذي جعل من داوود رجلاً لا يستطاع التغلب عليه بفضل الحديد الذي لان بين يديه، فصار دروعاً لا تمضي فيه سيوف المقاتلين.

ولم يخل شعر الأعشى من اسم داوود، فورد في مناسبة التحدث عن حوادث الزمان واعتداء الدهر على الإنسان، وتبدل الأيام، كما في موضع آخر في كلامه على الدروع. أما عبيد الأبرص، فقد ذكره في أثناء كلامه على طول العمر.

وعرف "سليمان" في أبيات للنابغة قالها في مدح النعمان ملك الحيرة بتسخيره الجنّ لبناء تدمر. وعرف بمثل ذلك وببنائه الأبنية الفخمة وبسعة ملكه في شعر لشعراء آخرين. واذا كان ما نسب إلى أولثك الشعراء صحيحاً، كان رأيهم هذا في سلمان بتأثير ما كان يقصه أهل الكتاب على الجاهلين من قصص وارد في العهد القديم، في سفر الملوك الثالث وأخبار الأيام الثاني عن ملكه وعجيب أبنيته.

وقد ورد اسم سليمان علماً لجملة رجال، عاشوا في الجاهلية وفي أيام الرسول،فهناك حاكم من حكام العرب المعروفين في الجاهلية اسمه "سليمان بن نوفل".

وهناك جملة من الصحابة عرفوا بسليمان. ومن هذه اللفظة نشأت الأسماء: سلمان وسلام، وسُليم، كما يتبين ذلك من أبيات للأسود بن يعفر والخطيئة والنابغة. وعرف بسلمان رجل من نصارى بني عجل اسمه سلمان العجلي.

وهناك طائفة لأسماء نصرانية خالصة تسمى بها نفر من الجاهلين قبل الإسلام،مثل: عبد المسيح، وعبد ياسوع، وعبد يسوع، وعبد يشوع، وايشوع، وأبجر. وقد عرف بأبجر عدد من ملوك الرها، كما عرف بها أبجر بن جابر سيد بني عجل، وأفريم، و بولس، وجرجس، وجريج، ورومان، ورومانوس، و سرجس، و سمعا ن، وشمعون، و نسطا س، و حنين،، و "حنيناء" و "يحنة". ومن أسماء النساء: مارية، ومريم، وحنة، ومن بين هذه الأسماء ما كانت خاصة بطبقة الموالي الذين جلبوا من الخارج، وبيعوا في أسواق النخاسة، فحافظوا على أسمائهم القديمة التي تشير إلى أصولهم في النصرانية.

ونرى ورود "عبد المسيح" بين أسماء أهل الحيرة بصورة خاصة، ورد علماً لأناس معروفين جداً بينهم، وكانوا عليهم زعماء، مثل عبد المسيح بن عمرو ابن قيس بن حياّن بن بقيلة، وكان في جملة من خرج لملاقاة خالد بن الوليد للاتفاق معه على شروط الصلح. وعادة جعل المرء نفسه عبداً لإلَه أو لشخص مقدس، كما في هذه التسمية، لم تكن من العادات الخاصة بالنصارى، فقد رأينا أن أكثر الجاهلين كانوا يجعلون أنفسهم عبداً لإلهَ من الالهة، ثم يتخذون ذلك تسمية لهم، مثل عبد العزى، وعبد يغوث، وعبد ودّ، وأمثال ذلك. فلما كانت النصرانية،تبرأ من تنصر من اسم الآلهة الوثنية،وأحلوا محلها اسم المسيح.

وكان اسم والد حنظلة صاحب دير حنظة الذي بأرض بني علقمة بالحيرة "عبد المسيح."، ويذكر الأخباريون أنهم وجدوا على صدر الدير كتابة مكتوبة بالرصاص على ساج محفور: "بني هذا الهيكل المقدس، محبة لولاية الحق والأمانة، حنظلة بن عبد المسيح، يكون مع بقاء الدنيا تقديسه، وكما يذكر أولياؤه بالعصمة، يكون ذكر الخاطىء حنظلة".

غير ان هذه الأسماء اليهودية الأصل أو النصرانية قليلة الاستعمال، فلم تكن مستعملة بنطاق واسع. وأكثر من تسمى بها، هم من الموالي والأرقاء، أو من العرب الذين كانوا على أطراف العراق وبلاد الشام، وممن تأثر بالمؤثرات الثقافية الأعجمية، أو ممن كان على يهودية أو نصرانية، فتسمى بأسماء محببة أو مباركة في هاتين الديانتين.

وأهل نجران، هم الذين كانوا يجادلون الرسول في طبيعة المسيح، فلم يكن بمكة أو بيثرب قوم منهم يستطيعون مجادلته في أمور الدين. وقد ذكر بعض المفسرين ان أهل نجران كانوا أعظم قوم من النصارى جادلوا الرسول في عيسى. جاؤوا إلى الرسول، فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا? فقال: من هو? قالوا:، عيسى تزعم انه عبد الله. فقال: أجل انه عبد الله. قالوا: فهل رأيت مثل عيسى أو أنبئت به، ثم خرجوا من عنده غاضين. وقالوا إن كنت صادقا، فأرنا عبداً يحيي الموتى ويبرىء الأكمه، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، فلما عادوا قال رسول الله: مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب،ا ثم قال له:كن فيكون.

وقد جادل بعض النصارى رسول الله في أمور الدين، ثم أسلموا. ونظراً لقلة عددهم بيثرب، لم يقاوموه هنا كما قاومه اليهود.

وطبيعي أن يتأثر نصارى الجاهلية بلغة بني إرم، فيستعملوا المصطلحات الدينية التي كانت شائعة في الكنيسة، وهي مصطلحات إرمية الأصل في الغالب: فقد كانت لغة بني إرم لغة العلم والدين عند النصارى الشرقيين. بها يقيمون طقوسهم الدينية " ومنها يترجمون الأناجيل إلى أتباعهم النصارى ا لعرب،. فدخلت بذلك إلى العربية ألفاظ إرمية ذات معان خاصة. ومنها. الألفاظ التي تكلمنا عنها وألفاظ أخرى عديدة لم نتطرق اليها، لعدم وجود صلة لها بهذا الموضوع، وخشية الإطالة والخروج على صلب الموضوع. وهناك مصطلحات يونانية ولاتينية وحبشية، لها صلة بالدين وبالمجتمع دخلت العربية أيضاً عن طريق النصرانية، ظهر أثرها في نصارى بلاد الشام والعربية الغربية خاصة، بتأثير الاحتكاك المباشر والتبشير.

وقد عني بعض الباحثين بجمع المصطلحات الدينية المعروفة عند أهل الكتاب في الجاهلية والتي أقرها الإسلام على نحو ما كانت تعرف به، أو أعطاها معنى خاصاً، ومن بينها عدد كبير ورد في القرآن الكريم. و لما كانت غالبية العرب على الوثنية، وهي ديانة بسيطة قليلة الشعائر بالنسبة إلى اليهودية والنصرانية، لذلك كانت هذه المصطلحات شائعة معروفة بين أهل الكتاب من الجاهليين، وقد نقلوها من اللغات الدينية التي كتب بها علماء أهل الكتاب، فهي في الغالب من أصل سرياني أو عبراني أو يوناني أو حبشي.

وقد جمع الأب "شيخو" في كتابه: "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية" الألفاظ الخاصة بأهل الكتاب من الأبيات الواردة في دواوين شعراء الجاهلية وفي كتب الأدب، وهي أبيات منها ما أجمع الرواة و أهل الأخبار على نسبتها إلى اولئك الشعراء، ومنها ما ورد عند بعض الرواة والاخباريين ولم يرد في دواوين أولئك الشعراء، ليجعل من تلك الألفاظ دليلاً على أثر النصرانية.في الجاهليين، وعلى مدى تغلغلها بينهم. وهو حكم لا يمكن أن يكون سليماً، إلا بعد ثبوت صحة نسبة تلك الأبيات إلى الجاهليين.

وقد كان للنصرانية أثر مهم في نشر الكتابة العربية، المأخوذة عن الإرمية،بين الجاهليين، الكتابة التي تولد منها قلمنا الذي نكتب به في الوقت الحاضر.وقد وجد المسلمون في فتحهم للعراق مدارس عديدة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة،كما أن تجار مكة ويثرب الذين كانوا يقصدون الشام والعراق وجدوا الضرورة تحتم عليهم تعلم هذا الخط، فتعلّموه. ولما نزل الوحي كتب كتابه به، فصار قلم المسلمين. كما سأتحدث عن ذلك في موضوع الخط عند الجاهليين.

ولم يترك رجال الدين من النصارى العرب. لنا أثراً كتابياً ينبىء عن مدى اشتغالهم في علم اللاهوت وفي العلوم الأخرى،غير أن هذا لا يعني أن النصارى العرب لم يزجوا علماء دين منهم، ولم يعطوا النصرانية رجلاً منهم يخدمها ويقف حياته الروحية عليها، ففي قوائم أسماء من حضروا المجامع الدينية التي عقدت للنظر في الأمور الجدلية وفي القضايا التي تخص مبادئ الدين أسماء رجال تنبئ أنهم كانوا عرباً، وقد دونت في محاضر تلك المجالس أسماء المواضع التي مثلوها من بلاد العرب، كما أن بين رجال الدين الكبار الذين نبغوا في العراق من كان أصله من الحيرة، وإذ كانت غالبية سكان هذه المدينة من العرب، فلا يستبعد أن يكون من بين هؤلاء العلماء النصارى الحيريين من كان من أصل عربي.

لقد كانت النصرانية عاملاً مهماً بالطبع في ادخال الآراء الإغريقية والسريانية إلى نصارى العرب،فقد كانت الكنيسة مضطرة إلى دراسة الإغريقية ولغة بني إرم،لما للغتين من قدسية خاصة نشأت من صلتهما بالأناجيل. وقد كان أثر الإرمية أهم في الكنيسة الشرقية من الإغريقية، لكونها لغة الثقافة في الهلال الخصيب في ذلك العهد. ولهذا وجدنا معظم التعابير والمصطلحات الدينية عند نصارى الشرق هي من هذه اللغة، ومنها أخذها النصارى العرب، فصارت عربية، وقد كان السريان قد نقلوا بعض مؤلفات اليونان واللاتين إلى لغتهم، ولا أستبعد نقلهم بعض تلك المؤلفات، ولا سيما الدينية منها، من هذه اللغة الى اللغة العربي، وذلك قبل الإسلام، أو ترجمتها ترجمة شفوية لطلاب العلم مكن العرب ممن كانوا لا يفقهون لغة بني إرم،أو لا يلمّون بها إلماماً صحيحاً. وإذ كانت هذه اللغة لغة مقدسة ولغة الكنيسة الرسمية، وكان أكثر رجال الدين من بني إرم،فقد كانت هذه اللغة اللغة المقررة في الكنيسة، بها يدرس ويتباحث رجال الدين وان كانوا عرباً،على تحو ما يفعله رجال الدين الأعاجم الذين يدرسون العربية بعلومها المختلفة ليتفقهوا بذلك في الدين، والعربية هي لغة الدين الاسلامي،وكما يفعل رجال الدين الكاثوليك أيضاً في دراستهم اللاتينية وتبحرهم بها لأن اللاتينية هي لغة النصرانية عند الكاثوليك.

وكان للنصرانية أثر آخر في نصارى عرب الجاهلية، هو أثرها فيهم من ناحية الفن، إذ أدخلت النصرانية بين العرب فناً جديداً في البناءة هو بناء الكنائس والأديرة والمذابح والمحاريب والزخرفة، كما أدخلت النحت والتصوير المتأثرين بالنزعة النصرانية. ولدخول أكثر هذه الأشياء لأول مرة بين الجاهليين، استعملت مسمياتها الأصلية اليونانية أو الإرمية في اللغة العربية، بعد ان صقلت وهذبت، حتى اكتسبت ثوباً يلائم الذوق العربي في النطق. وستكشف الحفريات في المستقبل عن مدى تأثر النصارى العرب الجاهليين بالفن النصراني المقتبس عن الروم أو عن بني إرم والأحباش.

الفصل الثالث والثمانون
المجوس والصابئة

يقصد الأخباريون بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة: الخير والشر، فيزعمون أن الخير من فعل النور وأن الشر من فعل الظلمة، وهم يعلمون أن المجوس من الفرس وانهم عبدة النيران.

وفي القرآن الكريم ذكر للمجوس. وقد ورد ذكرهم في موضع واحد منه:   

)إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس، والذين أشركوا،إن الله يفصل بينهم يوم القيامة، إن الله على كل شيء شهيد(. وفي ذكرهم في القرآن الكريم دليل كاف على معرفة أهل الحجاز بهم، ووقوفهم عليهم. وكيف لا يكون لهم علم بهم ووقوف عليهم، وقد كان لأهل مكة اتصال وثيق بالحيرة كما كان لأهل الحجاز اتصال باليمن ? وقد كان المهيمن على اليمن الفرس عند ظهور الإسلام، حيث طردوا الأحباش وأخذوا محلهم، وقد كان هؤلاء الفرس على المجوسية، ثم إنه كان في حضرموت وفي العربية الشرقية أناس منهم أقاموا هناك. وقد كان وكلاء الأكاسرة على هذه الأماكن منهم، وهم على دين المجوسية. وقد أشير إلى وجودهم في أخبار الفتوح،حيث دفع الجزية من أبى منهم الدخول في الإسلام. والظاهر أن هؤلاء كانوا مقيمين فيها من أمد طويل بدليل ورود جملة في أخبار الفتوح تفيد ذلك، وهي: "وأسلم معهما جميع العرب وبعض العجم " فأما أهل الأرض من المجوس واليهود والنصارى، فإنهم صالحوا العلاء".

ويروي أهل الحديث حديثين يذكرون ان الرسول قالهما هما: "كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يمجسانه"،أي يعلمانه دين المجوسية. وحديث " القدرية مجوس هذه الأمة". وفي هذين الحديثين ذكر للمجوس. ولعلماء الحديث كلام عليهما. ولا سيما على الحديث الثاني، وفيه تعريض بالقدرية، أسلاف المعتزلة.

وكلمة "مجوس" من الكلمات المعربة، عربت عن لفظة "مغوس" " Maghos"، الفارسية التي تعني "عابد النار" وهي من الألفاظ التي دخلت إلى اليونانية كذلك، حيث وردت لفظة Magi، فيها، وهي جمع "مجوس" " Magus". وقد دخلت إلى لغة "بني إرم".أيضاً. ولا ندري اليوم على وجه صحيح من أي طريق دخلت لفظة "مجوسي" و "مجوس" إلى العربية، عن الفرس أنفسهم، أو عن اليونانية أو عن طريق لغة "بني إرم" ! وقد عرف علماء اللغة بأن لفظة "مجوس" من الألفاظ المعربة. وقد ذهبوا إلى انها معربة عن الفارسية القديمة. ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في أصل اللفظة وفي بيان معناها، وذهبوا في ذلك مذاهب، وبعض هذه التفسيرات والتأويلات مفتعل يدل على عدم وقوف أصحابها على جلية الموضوع.

ويريد الأخباريون بالمجوسية عبادة النار. واذا صح ما ورد في شطر بيت منسوب إلى الشاعر الجاهلي "التوأم اليشكري" المعاصر لامرىء القيس،هو: "كنار مجوس تستعر استعاراً"،فإن فيه دلالةً على ان هذا الشاعر هو وامرأ القيس كانا على علم بنار المجوس،،انها كانت تستعر دائماً، وربما كانا على علم ببعض تعاليمها أيضاً.

وفي أخبار أهل الأخبار ما يفيد بتمجس بعض العرب، فورد أن " المزدكية والمجوسية في تميم". وورد أن "زرارة بن عدس" وابنه "حاجب بن زرارة"، وهما من سادات تميم كانا قد اعتنقا المجوسية،واعتنقها أيضاً "الأقرع بن حابس" و "أبو الأسود"، جدّ "وكيع بن حسان". وقيل إن أشتاتاً من العرب عبدت النار، سرى اليها ذلك من الفرس والمجوس.

وكان مجوس اليمن، من الفرس الذين أرسلهم كسرى لطرد الحبش من اليمن، فهم وأبناؤهم كانوا على هذا الدين، دين الانبراطورية الفارسية. ولما ظهر الإسلام، نبذ هؤلاء المجوسية واعتنقوا الإسلام.

وأما مجوس عُمان وبقية أنحاء العربية الجنوبية، فقد كانوا من الفرس كذلك: من تجار ومن مقيمين من بقية الفرس الذين كانوا قد استولوا على هذه الأرضين. وعند ظهور الإسلام لم يكن لهم نفوذ سياسي فقد كان سادات القبائل قد كوّنوا مشيخات فيها، واستقلت في إدارة شؤونها، غير أن المجوس بقوا فيها، وعند دخول أهلها في الإسلام، ودخول البلاد في دين الله،دفع بعض أولئك المجوس الجزية، ودخل الباقون في الإسلام. شأنهم في ذلك شأن اليهود والنصارى المقيمين في هذه الأرضين.

وأما مجوس البحرين، فقد كانوا أكثر عدداً وأكثر نفوذاً من اخوانهم في عُمان، لقرب هذه الأرضين من انبراطورية الساسانيين،ولهجة الفرس من السواحل المقابلة ومن طريق الأبلة الساحلي. وقد عثر المنقبون على قبور عديدة تعود اليهم ؛ وعلى آثار لمعابدهم في العربية للشرقية. وكان على "هجر"، حين أبلغ الرسول دعوته اليها، رجل من الفرس اسمه "سيبخت مرزبان."، وقد أسلم وأسلم معه قوم من قومه، ودفع الجزية من فضّل البقاء منهم على دينه، شأنهم في ذلك شأن أهل الكتاب. وذكر ان الرسول كتب إلى "مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا أخذت منهم الجزية، وبأن لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم".

وكان باليمامة قوم من المجوس، عاشوا في قراها ومواضعها، اشتغلوا بالزراعة وبالتعدين. وأرض اليمامة أرض غنية، وهي "ريف" أهل مكة، وعليها اعتمادهم في الحصول على الحبوب. كما عرفت بوجود المعادن بها، فسهّل أهلها دخول المجوس اليها، للاستفادة منهم في استغلال الأرض وفي للتعدين.

هذا ولم نسمع بدخول أحد من ملوك الحيرة، أو الأمراء الذين عينهم الفرس على العرب في المجوسية مع علاقتهم بالفرس واتصالهم الوثيق بهم، ووجود للفرس في أرضهم وفي عاصمتهم، بينما نجد بعضاً منهم وقد دخل في النصرانية. ولعل ذلك بسبب عدم ميل الفرس إلى ادخال أحد من الغرباء عنهم في دينهم والى عدّهم المجوسية ديانة قومية خاصة بهم، فلا يهمهم دخول أحد من غيرهم فيها. هذا ولا أجد صلة بين "الأسبذية" التي زُعم انها ديانة قوم كانوا يعبدون الخيل بالبحرين، عرفوا ب "الأسبذيين"، وبين "بني دارم"،وكونهم كانوا على هذا الدين. فقد كان أحدهم وهو "المنذر بن ساوى" أسبذياً، ولم يكونوا كلهم. قيل أنه نسب إلى قرية بهجر يقالَ لها "الأسبذ"،وقيل إلى الأسبذيين،ولا صلة لهذه الأسبذية بالمجوسية، أو إلى ديانة دخلت من فارس إلى البحرين. وقد تحدثت في مكان آخر عن وجود قوم من العرب قدسوا "الحصان". ورأيي أن المراد من "الأسيذية" الفرسان. وأن "المنذر بن ساوى" كان "أسبذاً" أي بدرجة فارس، وهي من درجة الشرف والرفعة في الجيش الساساني.

ويذكر علماء اللغة في معرض كلامهم على معنى لفظة "الزمزمة" ان من عادة المجوس الزمزمة عند الابتداء بالأكل، أي قراءة شيء من كتبهم الدينية قراءة خافتة على المأكول تقديساً وشكراً له. وقد نهى الخليفة عمر عن الزمزمة،لأنها من علائم المجوس.

وقد عرف عالم المجوس ورئيسهم الروحي عند العرب ب "الموبذ" و "الموبذان"، وعرف كبيرهم بى "موبذان موبذ" ؛وجعل بعض العلماء "الموبذان" بمنزلة قاضي القضاة للمسلمين، والموبذ بمنزلة القاضي. وتعني "موبذان موبذ" الموبذ الأعظم. وقد اكتفي أحياناً بلفظة "موبذان" للتعبير عن "موبذان موبذ". وقد فسر المسعودي لفظة "الموبذ" بمعنى حافظ الدين. ورجع أصلها إلى "مو" بمعنى "دين" في رأيه، و "بذ" يمعنى "حافظ". ورأى "اليعقوبي" أن "الموبذان" بمعنى عالم العلماء. والموبذ هي من الألفاظ المعربة عن الفهلوية، فهي من أصل فهلوي هو Magupat، بمعنى عظيم المجوس، ويتمتع هذا الرئيس الديني الأعظم بسلطات دينية واسعة. وقد أطلق السريان على.الموبذ جملة "ريش مكوشي" Resh Magushi و, Resh "dam,gushi"أي "رئيس المجوس"، و "مكوش" تعني "المجوس".

وترد في العربية لفظة أخرى، لها صلة بالمجوسية،هي "الهربذ"، و "الهرابذة". ذكر علماء اللغة أن "الهرابذية: المجوس، وهم قومة بيت النار التي للهند... وقيل عظماء الهند أو علماؤهم". وذكروا ان "الهربذي مشية فيها اختيال، كمشي الهرابذة، وهم حكام المجوس. قال امرؤ القيس: مشى الهربذي في دفه ثم فرفرا

واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية. من أصل "هور" و "بت"، بمعنى رئيس خدام النار. والموكل على خدمة النار في المعبد.

وقد ذكر "الألوسي"،أن صنفاً من العرب عبد النار، وقال عنهم: "وهم أشتات من العرب، وكأن ذلك سرى اليهم من الفرس و المجوس. ولم يذكر أسماء هؤلاء الأشتات. ولم يتحدث عن طريقة تعبدهم للنار. ولكننا نستطيع أن نجد في "نار الاستمطار" وفي "نار التحالف" وفي النيران الأخرى التي يذكر أسماءها أهل الأخبار دلالة على وجود فكرة تقديس بعض العرب للنار. وقد حبب الإسلام هذه النيران.

فقد ذكر أهل الأخبار ان العرب كانت في الجاهلية الأولى، اذا احتبس عنهم المطر، ويئسوا من نزوله، يجمعون.البقر ويعقدون في أذنابها وعراقيبها السلعَ والعشرَ ويصعدون بها في الجبل الوعر، ويشعلون فيها النار، ويزعمون ان ذلك من أسباب المطر، قال الشاعر "الورل" الطائي: أ جاعلٌ أنتَ بيقوراً مسلّعة  وسيلة منك بين الله والمطر 

وقد أشير إلى هذه النار في شعر ينسب الى أمية بن أبى الصلت. ويسمونها بنار الاستسقاء وبنار الاستمطارْ.

وذكروا ناراً أخرى قالوا لها: "نار التحالف" و "نار المهول". وقالوا ان العرب كانوا لا يعقدون حلفاً إلا عليها، وكانوا اذا اختصموا في شيء،واتفقوا على اليمين، حلفوا على النار. ولهذا قيل لها "نار التحالف". وطريقتهم في ذلك أن المتحالفين أو المتخاصمين يحفرون أمام نار يوقدونها، ثم يلقون عليها ملحاً وكبريتاً. وعندئذ يذكرون منافع هذه النار ويدعون بالحرمان من خيرها على من ينقض العهد ومحل العقد.وفي حالة الحلف واليمن يقول صاحب النار للحالف: "هذه النار قد تهددتك،فإن كان مبطلاً نكل، وان بريئاً حلف، ولذلك قيل لها " نار المهول". وذكروا أيضاً أن هذه النار كانت معروفة في اليمن، مستعرة دائماً، ولها سادة سدنة و قيّمون يطرحون الملح والكبريت في النار، أما السدنة فيقومون بأخذ اليمين. وكان سادنها إذا أتى برجل ليحلف، هيبوه من الحلف بها، وخوّفوه من الكذب. وقد عرفت هذه النار ب "نار التحاليف" كذلك. وقد أشار اليها الكميت بقوله: همُ خوّفوني بالعمى هوّة الردى  كما شب نار الحالفين المهوّل

كما أشار اليها شاعر آخر هو أوس،إذ قال: إذا استقبلته الشمس صد بوجهه  كما صدّ عن نار المهوّل حالف 

وذكر "الجاحظ" أن العرب " يقولون في الحلف: الدّم، الدّم، والهدم الهدم، لا يزيده طلوع الشمس إلا شداً، وطول الليالي إلا مداً، ما بل البحر صوفة، ومما أقام رضوى في مكانه، إن كان جبلهم رضوى.

"وكل قوم يذكرون جبلهم، والمشهور من جبالهم. وربما دنوا منها حتى تكاد تحرقهم".

بل زعم بعض أهل الأخبار ان حمير كانت تحتكم إلى نارَ كانت باليمن تحكم بينهم فيما كانوا يختلفون به. تأكل الظالم ولا تضر المظلوم. فلما اعتنق التبع "تبان أسعد"، ديانة يهود، وطلب من قومه الدخول فيها، أبوا عليه ذلك، وطلبوا منه الاحتكام إلى تلك النار في قصة يذكرونها في سبب تهود بعض حمير. وللعرب نار السعالى والجن والغيلان. ذكروا ان الغيلان توقد بالليل النيران للعبث والتخييل واضلال السابلة. وانها ترفع للمثقفر فيتبعها فتهوى به الغول. وأورد أهل الأخبار شعراً في ذلك منه شعر ل "عبيد بن أيوب"، المعروف ب "أبي مطراب"،وكان يزعم انه يؤاكل الظباء والوحش ويرافق الغول والسعلاة،ويبايت الذئاب والأفاعي.

وذكر اهل الأخبار قصة عن "خالد بن سنان العبسي" النبي العربي الذي منحه بعضهم في الإسلام جملة "عليه السلام" بأعتبار انه من انبياء الله،قد يكون لها صلة بعقيدة عبادة النار عند العرب. إذ ذكروا ان ناراً ظهرت "بالبادية بين مكة والمدينة في الفترة، فسمتّها العرب بداً، وكادت طائفة منهم ان تعبدها مضاهاة للمجوس. فقام خالد هذا، فاًخذ عصاه، واقتحم النار يضربها بعصاه، حتى أطفأها الله تعالى، ثم قال: إني ميت، فإذا أنا مت، وحال الحول،فارصدوا قبري. فإذا رأيتم حماراً عند قبري، فارموه واقتلوه، وانبشوا قبري، فإني محدثكم بكل ما هو كائن. فمات. فلما حال الحول،رأوا الحمار فقتلوه،وأرادوا نبشه، فمنعهم أولاده، وقالوا: لا نسمى بني المنبوش". وقد عرفت تلك النار ب "نار الحرتين". وذكر انها كانت ببلاد عبس، فإذا كان الليل تضيء نار تسطع وفي النهار دخان مرتفع. وربما بدر منها عنق فاًحرق من مرّ بها. فحضر خالد بن سنان. النبي،فدفنها،فكانت معجزة له. ويظهر ان حرة، كانت في تلك المنطقة، ثم خمدت فنسب الناس خمودها إلى "خالد بن سنان".

وللجاهليين استعمالات أخرى للنار، فكانوا إذا خافوا شرّ رجل، وتحوّل عنهم أوقدوا خلفه ناراً،ليتحول شرهم معه. ويقولون: "أبعده الله واسحقه وأوقد ناراً في أثره"، يقولون ذلك لكراهيتهم له، ويتمنوّن الموت له.

وتعرف هذه النار ب "نار الطرد". وذكر أن العرب تدعو على العدو فتقول: ابعد الله داره وأوقد ناراً اثره.

ولا بد أن يكون للنار الموقدة على المزدلفة صلة ما بعقائد الجاهليين القديمة قي النار. وينسب الأخباريون هذه النار إلى "قُصي ين كلاب"، يقولون إنه أوقدها على المزدلفة حتى يراها من دفع من عرفة في أيام الحج. وقد بقي الناس يوقدونها إلى الإسلام.

ومن نيران العرب، نار الغدر، وتوقد بمنى أيام الحج على أحد الأخشبين،جبلي مكة: أيي قبيس وقُعَيقعان،أو أبو قبيس والأحمر. فإذا استعرت، صاح موقدها: هذه غدرة فلان، ليحذره الناس، وليعلموا ان فلاناً قد غدر بجاره.

وأما "نار السلامة"، فهي التي توقد للقادم من سفر سالماً غانماً، وقد عرفت لذلك ب "نار المسافر" أيضاً". و "نار السليم"، هي النار التي توقد للملدوغ وللمجروح ولمن ضرب بالسياط ولمن عضه الكلب الكَلِبُ،ويقولون إنها إنما توقد لكي لا يناموا، فيشتد بهم الأمر ويؤدي إلى الهلاك.

وأما "نار الحرب"، فهي النار التي كانوا اذا أرادوا حرباً، وتوقعوا جيشاً عظيماً، وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلاٌ على جبلهم ناراً، ليبلغ الخبر أصحابهم. واذا جدوا في جمع عشائرهم اليهم أوقدوا نارين.

ونار الصيد، هي نار توقد للظباء وللحيوانات الأخرى، فتغشاها اذا نظرت اليها.

ونار الأسد، وهي نار توقد اذا خافوا الأسد، لينفر عنهم، فإن من شأنه النفار عن النار، يقال انه اذا رأى النار حدث له فكر يصده عن قصده،ويشغله عن السابلة. ويقولون إن الضفدع اذا رأى النار تحير وترك النقيق.

ونار الفداء، وكان الملوك منهم، إذا أسروا نساء قبيلة، خرجت اليهم السادة منهم للفداء أو الاستيهاب،فيكرهون ان يعرضوا النساء نهاراً فيفتضحن أو في ا!ظلمة فيخفى قدر ما يحبسونه لأنفسهم من الصفي، فيوقدون النار لعرضهن.

ونار القرى، هي من أعظم مفاخر العرب، وهي النار التي ترفع للسفر،ولمن يلتمس القرى، فكلما كان موضعها أرفع كان أفخر. وهي نار مذكورة على الحقيقة لا على المثل. وعرفت عندهم ب "نار الضيافة" وب "نار الأضياف" أيضاً. وقد ذكر أهل الأخبار انهم ربما يوقدونها ب "المندلى"،ليهتدي اليها العميان. فالمندلى خشب ذو رائحة طيبة، تفوح منه اذا أحرق، فتشم من مسافة بعيدة. وذكر انهم كانوا يوقدونها في ليالي الشتاء، خاصة لحاجة الناس إلى القرى في ذلك الوقت. وكلما كانت النار مرتفعة ضخمة،كانت أفخر لصاحبها. وقد أشير اليها في الشعر.

ويطلق العرب على كل نار تراها العين لا حقيقة لها عند التماسها،نار الحباحب،ونار أبي الحباحب. وقد ذكر "الجاحظ" أنه لم يسمع في أبي حباحب شيئاً. ولهم قصص عن شخص زعموا أنه كان يعرف ب "أبي حباحب"،وكان رجلاً في سالف الدهر بخيلاَ لا توقد له نار بليل، مخافة أن يقتبس منها نار، أو يراها الضيفان فيفدون اليه، فإن أوقدها ثم أبصرها مستضيئ أطفأها، فضربت العرب به المثل في البخل، فقالت: "أخلف من نار أبي حباحب". وذكر أن "أبا الحباحب" رجل كان لا ينتفع بماله لبخله فنسبوا إليه كل نار لا ينتفع بها. ومن النيران الأخرى: نار البرق، ونار اليراعة،ونار الخلعاء والهراب،ونار الوسم،وهي النار يسم بها الرجل منهم أبله. فيقال له: ما سمة إبلك فيقول كذا.

وقد ذكر علماء اللغة أن العرب استعملوا النار في معنيين: معنى حقيقي، ومعنى مجازي. وقصدوا بالنيران الحقيقة، النيران التي كان يوقدها العرب حقاً، وحصروها في أربعة عشر ناراً أو أكثر من ذلك، أو أقل. وقصدوا بالنيران المجازية، استعمال الكلمة في معان مجازية، مثل قولهم نار الحب ونار المعدة، ونار الحُمى،ونار الشوق.

الصابئة

ونجد في القرآن الكريم اشارة إلى الصابئين، وقد ذكروا بعد اليهود والنصارى في موضع من سورة البقرة،.وذكروا وسطاً بين اليهود والنصارى في موضع من سورة المائدة وفي سورة الحج. ويظهر ان معارف أهل الأخبار عنهم نزرة،فليس لديهم شيء مهم مفيد يفيدنا عن عقائد أولئك الصابئة وآرائهم.

وقد ربط أهل الأخبار بين هؤلاء الصابئة المذكورين في القرآن وبين صابئة حرّان وصابئة العراق، وجعلوهم طائفتين في الأصل: طائفة هم صابئة حنفاء وهم في نظرهم أصحاب ابراهيم ممن كان بحرّان وممن كان على دعوته، وصابئة مشركون وهم من فسدوا من الصابئة فأشركوا واعتقدوا بالكواكب.

ولكن الذي يفهم من القرآن الكريم ان الصابئة جماعة كانت على دين خاص، وانها طائفة مثل اليهود والنصارى، آي ان الكلمة مصطلح ولها مدلول معين مفهوم. فما ذهب اليه المفسرون من هذا التعريف للصابئة ومن هذا التقسيم، انما تكوّن عندهم في الإسلام، بعد وقوفهم على أحوال الصابئة واتصالهم بهم. ويفهم من المواضع التي ورد فيها ذكرهم في القرآن الكريم، ومن ورود اسمهم مع اليهود والنصارى فيه، انهم كانوا يعبدون إلهاً، ويتوجهون في دينهم اليه. ولا استبعد أن يكون من بين سكان مكة أناس كانوا من الصابئة، جاءوا اليها تجاراً من العراق، أو جاء بهم الحظ اليها، حيث أوقعهم في سوق النخاسة، فاشتراهم تجار مكَة وجاءوا معهم إلى مدينتهم، وعرفوا منهم أنهم صابئة.

ونحن إذا ما تتبعنا ما ورَد عن لفظة صبأ و صابئ في الموارد الاسلامية نرى أن هذه الموارد تفسر لفظة صبأ بمعنى خرج من شيء إلى شيء، وخرج من دين إلى دين غيره. وتذكر أن قريشاً كانت تسمي النبي صابئاً،والصحابة الصباة. أي الخارجين على دين قومهم. وهي تستعمل لفظة الصابئة في كثير منّ الأحوال في معنى حنفاء، كالذي نراه في ربطهم ابراهيم بهاتين الديانتين، وعدّهم قدماء الصابئة في جملة الحنفاء، فإن هذا يدل على أن المراد من الصابئة بين العرب عند ظهور الإسلام هم المنشقون الخارجون على ديانة قومهم، أي على عبادة الأوثان والمنادين بالتوحيد. وأما ما نراه من إطلاق الصابئة على الصابئة المعروفين في الإسلام، فإنما حدث في الإسلام.

واطلاق قريش لفظة الصابئ والصباة على المسلمين بدلاً من تسميتهم بمسلمين قضية مهمة جداً، يجب الاهتمام بها، وفي الأخبار أمثلة كثيرة على ذلك. فقد ذكرت كتب الحديث والسير واللغة أن قريشاً دعت النبي صابئاً، وفي جملة من دعاه بذلك عمر قبل اسلامه، ثم رميُ عمر بها بعد إسلامه أيضاً. ولما أسلم أبو ذر الغفاري،انهال عليه أهل مكة بالضرب، لأنه صبأ وفتن وخرج عن دينهم. ولما أرادت زوج مطعم بن عديّ خطبة ابنة أبي بكر إلى ابنها، ذكرت له أنها تخشى أن يؤثر على ولدها، فيكون من الصباة. وقد كانت لفظة الصباة والصُّيّاء بمعنى مسلمين عند المشركين،ففي معركة حنين نجد "دريد بن الصمّة" يخاطب أحد رؤوس القوم ويقول له في جملة ما قاله: "ثم ألق الصُباء على متون الخيل". ولما أرسل بنو عامر لبيداً إلى النبي ليرى خبره وعلمه، أسلم، وأصابه وجع هناك شديد من حمّى، فرجع إلى قومه بسبب تلك الحمّى، وجاءهم بذكر البعث والجنّة والنار، فقال صرافة بن عوف بن الأحوص: لَعـمَـــرُ لـــبـــيد إنـــه لابـــن أمـــه  ولـكـن أبـوه مـسـه قـــدم الـــعـــهـــد

دفـعـنـاك فـي أرض الـحـجـاز كــأًنـــمـــا  دفـعـنـاك فـحـلاً فـوقـه قـرع الــلـــبـــد

فعـالـجـت حــمـــاه وداء ضـــلـــوعـــه  وتـرنـيق عـيش مـسـه طـرف الــجـــهـــد

وجـئت بـدين الـصــابـــئين تـــشـــوبـــه  بألـواح نـجـد بـعـد عـهـدك مــن عـــهـــد

وإن لنا داراً زعمت ومرجعاً وثم إياب القارضين وذي البرد 

فكان عمر يقول: "وايم الله إياب القارضين وذي البرد". فقصد الشاعر بجملة "دين الصابئين " الإسلام، فالصابئون في نظر المشركين هم المسلمون. ولما ذهب سعد بن معاذ إلى مكة، أنبه أبو جهل على قدومه اليها بعد إن دخل في دين الصابئين. ولما قدم خالد بن الوليد على بني جذيمة،نادوه بأنهم صبأوا، أي دخلوا في الإسلام. ويلاحظ ان الوثنيين أطلقوا هذه التسمية على كل من أسلم، وعلى كل من شكّوا فيه ورأوا انه ميال اليهم،فكانوا يرمونه بهذه التهمة. أما المسلمون، فلم يرتاحوا اليها. والظاهر انها كانت سبةّ بالنسبة اليهم في ذلك العهد، بدليل انهم كانوا يكذبون من كان يطلقها من المشركين عليهم ويردّ عليهم ردأَ شديداً، فلما نادى جميل بن معمر الجمحي في قريش: ألا، ان ابن الخطاب قد صبأ، وذلك حين دخل في الإسلام، وشهد بذلك أمام النبي، نادى عمر من خلفه: كذب، ولكني أسلمت، وقالت قريش: صبأ عمر?. ولا بد ان يكون لتكذيب عمر وغيره للوثنيين لتسميتهم المسلمين بهذه للتسمية من سبب. وهو سبب يشعر ان أهل مكة انما أطلقوها عليهم إهانة لهم وازدراء لشأنهم وعلى سبيل السبة، لأنها كانت سبة عندهم وذلك قبل الإسلام. وإلا لما انزعج المسلمون منها، وردّوا على قريش بسببها رداً قبيحاً. وقد رأيت ان المسلمين كانوا يفتخرون باطلاق الحنيفية عليهم، وانهم كانوا يرون ان الحنفاء هم سلف المسلمين، وان ابراهيم كَان حنيفاً وكان اول المسلمين.

فالصابئون اذن هم أولئك الخارجون على عبادة قومهم المخالفون لهم في ديانتهم شأنهم في ذلك في نظر قريش شأن من يسميهم المسلمون في ايامنا بالملحدين أو الهدامين، أو أي مصطلح آخر يراد به الرمي بالخروج على مثل المجتمع القائم وتقاليده، وذلك ازدراء بهم، وتنفيراً للناس عنهم.

الفصل الرابع والثمانون
تسخير عالم الارواح

للعالم الخفي، وأقصد به عالم الأرواح وكل ما لا تراه العين ويدركه الحس من قوى طيبة أو خبيثة، أثر خطير في عقائد أهل الجاهلية، وفي عقائد الشعوب القديمة، وفي أنفس كثير من الناس حتى اليوم، إذ يشغل ذلك العالم في الواقع جزءاً خطيراً من الدين ومن حياة الناس عامة.. فهناك صلوات وشعائر وأدعية مكتوبة وغير مكتوبة تتلى وتقال وتقرأ للسيطرة على ذلك العالم، وللانتفاع منه، ولتسخيره في سبيل خير الإنسان ومصلحته، ولتجنب أذى النوع الخبيث منه. واذا تأملنا هذه الاعتقادات، عند الجاهليين، وجدنا انها قد كونت الجزء الأكبر من عقيدتهم وديانتهم، وانها والذبائح من الأصول التي ارتكزت عليها ديانات العرب قبل الإسلام.

والواقع ان الاعتقاد بالأرواح يشغل جزّءاً كبيراً من فناء الدين عند الجاهليين، وإن بدا لنا انه شيء لا علاقة له بالدين. فنحن حين البحث في موضوع العقيدة والدين عند أهل الجاهلية، لا نتحدث بالطبع عن العقيدة والدين بالنسبة إلى معتقداتنا وبالنسبة الى تفكير الإنسان في القرن العشرين، وانما نتحدث عن رأي أناس عاشوا قبل الإسلام، وعن جماعة أدركت الإسلام: كانت الأرواح في نظرها أكثر اثراً في حياة الفرد من أثر الالهة فيه. فتقرب وتوسل اليها أكثر من تقربه وتوسله إلى الهته التي كان يرى ان بيدها مفتاح سعادته وشقائه. وآية ذلك كثرة الكلمات والمصطلحات الجاهلية المتعلقة بها، وما ورد في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي والأخبار من أثر الجن في نفوس القوم، حتى تصوروهم آلهة وشركاء للأرباب في ادارة دفة هذا الكون.

هذا، ونحن إن ذكرنا الأرواح، فإننا لا نقصد المعنى المفهوم منها في رأينا، بل نقصد هذا المعنى وشيئاً آخر أعم وأوسع منه،معنى يشمل ايضاً بعض الأحجار والأشجار والآبار والكهوف وأمثال ذلك من أشياء تصور أهل الجاهلية أنها تكمن فيها قوة خارقة تستطيع التأثير في حياة الناس، فتقربوا اليها بالزيارات والقرابين وبالتضرع والتوسل والأدعية لقدسيتها ولتلك القدرة العجيبة التي فيها، فهي من حيث النفع أو الضرر كالأرواح: لوجود قوى خارقة غير منظورة فيها، هي من الأرواح، فتقرب اليها الإنسان لذلك، لغرض الاستفادة منها أو دفع أذاها وطبيعة الأرواح، طبيعة غير مرئية ولا منظورة، هي لطيفة خفيفة مستورة.

إنما يجوز لبعضها الظهور في صورة أشباح، والتجسم على هيأة الأجساد. ثم انها على طبيعتين: شريرة وخيرة، خبيثة وصالحة. من الطبيعة الأولى الشياطين وبعض أنواع الجن، ومن الطبيعة الثانية الملائكة والشطر الثاني من الجن. وأثر الخبيث من الأرواح أوضح وأكثر في عقلية أهل الجاهلية من أثر الفريق الصالح. وهو شيء منطقي مفهوم، فالإنسان إلى الشر أقرب منه إلى الخير، ذلك اْن من طبع الخير عدم إلحاق الأذى بالغير، فلا يخشى منه. أما الشرْير، ففي طبعه إلحاق الضرر والأذى بكل واحد، وفي كل لحظة يراها، لذلك التفتت اليه الأنظار حذراً منه، وخشية من مكره، وتقرّبت وتوددت اليه، لا حباً، ولا تقرباً اليه لأنه جدير به، بل انما تملّقاً وتزلفاً لإبعاد شره، وأمن جانبه على نمط ما يفعله الناس تجاه الأقوياء من الأشرار حيث يتقربو ن اليهم أو يبتعدون عنهم طمعاً ورهبة تمشية لأمور معاشهم، لا حباً لهم واخلاصاًَ لاستحقاقهم ذلك الحب والاخلاص.

وقد ذكر "الجاحظ" ان الأعراب تجعل الخوافي والمستجنّات جنسين يقولون جن " وحن". وقصد ب "الخوافي" الأرواح.، لأنها لا ترى. وذكر غيره ان "الحن"، حي من الجن، كانوا قبل آدم، يقال منهم الكلاب السود البهم، يقال كلب حني أو سفلة الجن وضعفاؤهم او كلابهم ومنه حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، الكلاب من الحن، وهي ضعيفة الجن، فإن كان عندكم طعام فالقوا لهن، فإن لهن أنفساً، أي تصيب بأعينها". وذكر ان "الحن" خلق بين الجن والانس.

وذكر "الجاحظ" أيضاً أن بعض الناس يضم الجنّ على قسمين، فيقول: هم جنّ و "حن.".ويجعل "الجن" أضعفها. وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى أن "الحن"، هم كلاب الجن و سفلتهم، وشر أنواع الجن. ويجعلون الجن فوق الحن.

ويقال للجنّ الجان، و "الجنة" كذلك. و "الجان" اسم جمع للجن على رأي بعض علماء اللغة. وقد ورد في مقابل "الإنس" في القرآن الكريم، ) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان له(، وصيره اسم أبي الجن بعض العلماء، أي في مقابل ادم أبي البشر. وقد ذهب بعض المستشرقين الى ان كلمة "الجن" من الكلمات المعربة، وذهب بعض آخر الى انها عربية. وأرى انها من الكلمات السامية القديمة، لأن الايمان بالجن من العقائد القديمة المعروفة عند قدماء الساميين وعند غير الساميين كذلك. والجن قوم مستترون، وكلمة "جنون" من هذا الأصل، ومن معاني أصل الكلمة الاستتار.

ولم يتوصل الباحثون حتى الان إلى رأي ثابت في أصل كلمة "الجن". فمنهم من رأى أنهم اسم صنم من أصنام العرب القديمة، ومنهم من رأى أنها من اصل اباه، وخرقوا له بين وبنات، و تخرصوا لله كذباً، فافتعلوا له بنين وبنات جهلا وكذبا. وورد ان الله تزوج الجن، وان الملائكة هم بناته من هذا الزواج. "قال كبار قريش: الملائكة بنات الله. فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم ? قالوا: بنات سراة الجن".

ويفهم من القرآن الكريم أيضاً ان من العرب من كان يعبد الجن: )قالوا: سبحانك، أنت ولينا من دونه، بل.كانوا يعبدون الجن، اكثرهم بهم مؤمنون (. وذكر "ابن الكلبي" ان "بني مليح" من خزاعة رهط طلحة الطلحات، كانوا ممن تعبد الجن من الجاهليين. ويزعمون ان الجن تتراءى لهمْ. وفيهم نزلت: )إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم(. وذكر ان قبائل من العرب عبدت الجن، أو صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن. ويقولون هم بنات الله، فاًنزل الله.: )أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة. أيهم اقرب. و يرجون رحمته و يخافون عذابه. إن عذاب ربك كان محذوراً(. وليس لدى المفسرين أو أهل الأخبار علم واضح عن كيفية اعتقاد بعض العرب بألوهية الجن وبمصاهرتها للالهة أو الإلَه. وما ورد عن ذلك في القرآن، مجمل. والظاهر أن ذاكرة الأخباريين لم تتمكن من حفظ تفاصيل هذه العقيدة والعقائد المماثلة الأخرى، ولا بد وأن تكون لها اسطورة قديمة، يظهر أنها ماتت قبل الإسلام، أو أن المسلمين تركوا روايتها لمعارضتها للاسلام ولأنها كانت في نظرهم خرافة تتعلق باًصنام، فلم يروا الاهتمام بها، وتركوها، ولولا ورود ذكرها مقتضباً في القرآن، فلربما صرنا في جهل تام باًمر تلك العبادة.

ويرى "نولدكه" أن الجاهليين لم يتعبدوا للجن، ولم يتخذوها آلهة على نحو ما نفهم من معنىْ الآلهة، وأن "عبد الجن"، وإن دل على التعبد للجن إلا ان هذه التسمية لا تدل حتماً على عبادة للجن.

وتتألف الجن من عشائر وقبائل، تربط بينها رابطة القربى وصلة الرحم. وهي كعشائر وقبائل جزيرة للعرب، تتقابل فيما بينها، ويغزو بعضها بعضاً. ولها أسماء ذكر بعضاً منها أهل الأخبار، كما أن لها ملوكاً وحكاماً وسادات قبائل. فهي في حياتهْا تحيا على شكل نظام حياة الجاهليين. واذا اعتدى معتد على جان انتقمت قبيلته كلها من المعتدي أو المعتدين. وبين قبائل الجن عصبية شديدة، كعصبية القبيلة عند الجاهليين، وهي تراعي حرمة الجوار، وتحفظ الذمم والعقود وتعقد الأحلاف. فنحن إذن أمام حياة.جاهلية مستترة غير منظورة، هي حياة جن جاهلبين، ومن الجن "بنو غزوان" "بنو عزوان".

وقد تتقاتل طوائف من الجن، فيثير قتالها عواصف الغبار، ولذلك فسر الجاهليون حدوث العواصف وللزوابع بفعل الجن. ونجد هذه الفكرة فكرة إحداث الجن للرياح والعواصف في المزامير من أسفار التوراه.

وهم مثل البشر، فيهم الحضر، أهل القرار، وفيهم المتنقلة وهم أعراب الجن، وفيهم من يسير بالنهار، وفيهم من يسير بالليل، وهم "سراة الجن"، و "السراهّ". قال الشاعر: اتوا ناري فقلت منون قـالـوا:  سراة الجن، قلت: عموا ظلاماْ 

وللجن كما للانس سادة ورؤساء وعظماء، نذكر منهم: الشنقناق والشيصبان.

وقد ذكر الأول في شعر "بشار بن برد" وفي شعر لأبي النجم، وفي شعر حسان بت ثابت. و "دحرش" أبو.قبيلة من الجن.

وعقد الجاهليون أحلافاً مع الجن على التعاون والتعاضد، فقد ذكر ان قوماً من العرب، كانوا قد تحالفوا مع قوم من الجن من "بني مالك بن أقيش". ويذكر الرواة قصصاً عن الجن مع الإنسان. يذكرون أن "تأبط شراً" رفع كبشا تحت إبطه، وأخذه معه إلى الحي، فصار يبول عليه في الطريق، حتى إذا قرب من مكانه، ثقل عليه، فرمى به، فإذا هو الغول. ويذكرون أن ابن امرأة من الجن أراد الحج في الجاهلية، فخافت عليه أمه من سفهاء قريش، ولكنه ألحّ عليها بان تسمح له بالذهاب. فلما أكمل الطواف، وصار ببعض دور بني سهم، عرض له شاب منهم فقتله، فثارت غبرة شديدة بمكة، ومات من بني سهم خلق كثير قتلهم الجنّ انتقاماً منهم لمقتل الجان، فنهضت بنو سهم وحلفاؤها ومواليها وعبيدها، فتركوا الجبال والشعاب بالثنيّة، فما تركوا حيّة ولا عقرباً ولا عظاية ولا خنفساء ولا شيئاً من الهوام يدب على وجه الأرض إلا قتلوه، حتى ضجت الجن، فصاح صائحهم من على أبي قبيس يطلب وساطة قريش بينهم وبين بني سهم الذين قتلوا منهم أضعاف ما قتله الجن من بني سهم، فتوسطت قريش، وانهي النزاع، وتغلب بنو سهم على الجن.

والجن مثل البشر، يعتدون كذلك، ولا يردعهم من اعتدائهم إلا القوة.

هذا رجل من "بني سهم" يقص علينا في الإسلام انه كان ب "تبالة" يراجع نخلاً له، وبين يديه جارية له، فصرعت، فادرك ان الجن هم الذين صرعوها، فوقف عليها قائلاً: يا معشر الجن ! أنا رجل من بني سهم،وقد علمتم ما كان بيننا وبينكم في الجاهلية من الحرب وما صرنا اليه من الصلح والعهد والميثاق ان لا يغدر بعضنا ببعض، ولا يعود إلى مكروه صاحبه، فإن وفيتم وفينا، وإن غدرتم عدنا إلى ما تعرفون. فخافت الجن من هذا التهديد، وأفاقت الجارية، ولم يصبها بعد ذلك مكروه. وذهب الجاهليون إلى جواز قتل الجن للانسان. وقد بقى هذا الاعتقاد في الإسلام. فلما قتل "سعد بن عبادة بن دليم"، زعم ان الجن قتلته. ولما قتل المغني المعروف "الغريض"، وهو من الموالي، وكان نشأ خياطاً ثم أخذ الغناء بمكة. عن "ابن سريج"،زعم أن الجن نهته أن يغني لحنه الذي يقول فيه: تشرب لون الرازقـي بـياضـه  أو الزعفران خالط المسك رادعه 

فلما لم ينته قتلته الجن في ذلك خنقاً وزعم أن الجن خنقت "حرب بن أمية"، وقالت الجن في ذلك شعراً.

وقتلت "مرداس بن أبي عامر"، أبا "عباس بن مرداس"، واستهوت "سنان بن حارثة"، ليستفخلوه، فمات فيهم. واستهووا "طالب بن أبي طالب"، فلم يعثر أهله له على أثر، واستهووا "عمرو بن عدي" اللَّخمي الملك، ثم ردّ وه على خاله "جذيمة بن الأبرش"، بعد سنين وسنين. واستهووا "عمارة ابن الوليد بن المغيرة"، ونفخوا في أحليله، فصار مع الوحش.

ويروي أهل الأخبار ان الجن تتصادق مع الإنسان وتتّباغض معه، وقد تقتله، ورووا في ذلك قصصاً، وذكروا أنها قد تتألم لوفاة رجل طيب أو شهير مجوب. وقد تعطف على المحتاجين والمعوزين. وفي جملة ما قالوه عن الجن ان "أبا هالة" كان قد خرج في الجاهلية في عير لقريش يريد الشام، فنزل وادياً يقال له: "عز"، وانتبه آخر الليل فاذَا شيخ قائم على صخرة، وهو ينشد شعراً في رثاء عبد الله بنُ جدعان، وكان ذلك الشيخ جان من الجن. وقد ذكر أهل الأخبار محاورة من الشعر قالوا انها جرت بين "أبي هالة"، وبين ذلك الشيخ الجني الذي عين وقت وفاة عبد الله بن جدعان وثبته بالضبط فكان كما قال.

وقد يقع الحب بين الجن والإنس. فقد ذكر ان الجنية قّد تتيع الرجل تحبه، ويقال لها: تابعة. ومن ذلك قولهم معه تابعة، أي من الجن. والتابعة جنية تتبع الإنسان كما يكون للمرأة تابع من الجن، يتبع المرأة يحبها. وقد يعشقّ الجني امرأة ويتصادق معها. هذا "منظور" الجني، عشق امرأة اسمها "حبةّ"، وتصادق معها، فكانت "جمة" تتطبب بما يعلمها منظور.

وقد يسرق الجن الأطفال والرجال والنساء، وللاخباربين قصص يروونه في ذلك. وينسب فقدان الأشخاص في البوادي إلى الجن في الغالب. غير انها قد تنفع الناس أيضاً، لأن من الجن من هو طيب النفس، مفيد ناقع، ولاسيما اذا تقرب اليها الإنسان وأحسن اليها. رأى الشاعر عبيد بن الأبرص حية،فسقاها.

فلما ضل جمل له وتاه، نادى هاتف بصوت مسموع سمعه عبيد بن الأبرص مشيراً إلى الموضع الذي ذهب الجمل اليه. فذهب عبيد إلى المكان،وجاء بجمله. وكان هذا الهاتف هو صوت الحية التي هي جان من الجن.

وقد يتصاهر الإنسان مع الجن، فقْد كان لعمرو بن يربوع بن حنظلة التميمي زوج من الجن: ولكنها لم تبق معه، بل اختفت بعد ذلك عند ظهور البرقْ. ونسبت بعض الأسر والقبائل مثل "بني مالك"، و "بني شيصيان"، و"بني يربوع بن حنظلة" وعرفوا ببني السعلاة إلى الجن. ونسب بعض الأخباريين نسب بلقيس وذي القرنين إلى الجن. وذكر أيضا أن زوج "عمرو بن يربوع التميمي" كانت سعلاة، اقامت مع زوجها في "بني تميم": فلما رأت برقاً يلمع من شق بلاد السعالى، حنت وطارت اليهم، فقال شاعرهم: رأى برقاً فأوضع فوق.بكر  فلا بك ما أسأل وما أغاما

وفي ذلك قال "علباء بن أرقم".: يا قاتل الله بني الـسـعـلاة  عمرو بن يربوع شرار الناتِ 

وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع زواج الانس بالجن وبالعكس، أي زواج الجن يالانس. وتعرض لقول من قال إن "بلقيس" كانت من امرأة جنيّة. وذكر آراء الناس في هذا الزواج المختلط، الذي شك في امكان انجاب نسل منه. وقال: "وقد يكون هذا الذي نسمعه من اليمانية والقحطانية، ونقرؤه في كتب السيرة، قص به القصاص، وسمروا به عند الملوك. وقد كان لأهل اليمن قصص وأساطير، بدليل ما نلاحظه من أن معظم رواة القصص القديم كانوا من أهل اليمن في صدر الإسلام. ويظهر أنهم حذقوا به وتفوقوا به على بقية العرب الذين نسميهم العدنانيين بسبب دخول كثير منهم في اليهودية وفي النصرانية وشرائهم الكتب،وفيها قصص من قصص أهل الكتاب والأساطير القديمة، فمزجوه مع ما كان لهم من قصص وثني قديم.

وقد أطلق "الجاحظ" على قول الناس بزواج الانس بالجن وبالعكس "الزواج المركب"، وأشار إلى قول الشاعر علباء بن أرقم: يا قاتَلَ اللهُ بني السـعـلاة  عمراً وقابوسا شرار النات 

انه الدليل على ان السعلاة تلد الناس. هذا سوى ما قالوا في الشق وواق واق ودوال باي وفي الناس والنسناس.

وذكر أيضاً ان أعراب بني مرة تزعم ان الجن استهوت سناناً بن أبي حارثة المري، وهو والد هرم بن سنان، لتستفحله إذ كان منجباً، وكان سنان قد هام على وجهه.

وقد وجه الإنسان جميع مواهبه منذ أقدم ايامه لتسخير عالم الأرواح، وجعله في خدمته وتحت تصرفه، أو لتحويله بحسب رغباته، وتجنب ضرره وأذاه. قام بذلك رجال الدين خاصة، ورجال الدين بحكم اتصالهم بالآلهة وبالعالم غير المنظور، هم خلفاء الالهة على وجه الأرض، وألسنة الأرواح الناطقة بين الناس. فكانوا. حكاماً ورجال دين وسحرة وأطباء وعلماء، كما قام بذلك المنجمون والسحرة والكهان وغيرهم ممن تكهن وتحدث عن الغيب، وأظهر ان في قدرته التأثير على حياة الإنسان ونفعه وضره بالاستعانة بعالم الأرواح وبما عنده من قدرات خارقة في امكانها اختراق حجب الأسرار والتحكم في العالم الخفي لتحويله إلى صالح انسان أو الى الاضرار به.

وليس الجاهليون بدعاً في هذه الأمور،بل كان غيرهم من الشعوب كالعبرانيين والبابليين والاغريق والرومان والمصريين والهنود وكل الشعوب الأخرى تعتقد بذلك. ولها رجال ادعوا العلم.

وقد كان الجاهليون يعلقون الحلي والجلاجل على "اللديغ"، يفعلون ذلك لاعتقادهم انه يفيق بذلك، فلا ينام. ولو نام، سرى السم في جسمه، فمات. وذهب بعضهم إلى ان تعليق الحلي على اللديغ يبرئه من ألمه. أما إذا علق الرصاص عليه، أو حلي به، فانه يموت.

وتقوم الجن بأعمالها بشكل غير منظور في الغالب، لانها أرواح. وهي قد تحذر الإنسان أو ترشد إلى شيء يريده بصوت جهوري مسموع، يقال له: الهاتف، دون أن يرى الشخص أو الأشخاص صاحب ذلك الصوت. وهي تنبىء عن المستقبل كما تتحدث عن الماضي. وقد ذكر "الجاحظ" أن الأعراب وأشباه الأعراب لا يتحاشون من الإيمان بالهاتف، بل يتعجبون ممن ردّ ذلك. ثم قال: "قالوا:ولنقل الجن الأخبار علمَ الناس بوفاة الملوك، والأمور المهمة، كما تسامعوا بموت المنصور بالبصرة وفي اليوم الذي توفي فيه بقرب مكة. وهذا الباب أيضاً كثير.

والجن وان كانت من الأرواح، أي أنها غير منظورة، إلاّ أن في استطاعتها أن تتجسم متى شاءت. فتظهر على هيئة جسم من الأجسام. إذ أن للجن قدرة على التشكل بالشكل الذي تريده، تظهر في مورة حيوان أو في صورة إنسان أو غير ذلك. ومن هنا نجد قصص مصاهرة الإنسان للجن، وظهور نسل وأسر من هذا الزواج. وفي استطاعتها أيضاً تغيير الشكل الذي ظهرت به بشكل آخر حيث تشاء. كما ورد ذلك في قصة الشاعر "تأبط شراً" والكبش الذي حمله، بينما هو جني. ومن هنا تختلف طبيعتها عن طبيعة ألبشر والحيوان.

وقد تمثل الجن في صور حيوانات مشعرة، أي ذات شعر كثيف. فالجن عند الشعوب السامية ذات شعر كثيف، لذلك قيل لها "سعريم" "Sa'irim" في العبرانية. وهي تختار الأماكن الموحشة المقفرة في الظلام، مثل رهبان اليل "ليليت" "Lilith"، وتذهب مع الحيوانات ااتي تنفر من الإنسان مثل النعامة. وفي الأساطير الجاهلية ان البقر اذا أوردت "فلم ترد، ضربوا الثور ليقتحم الماء، فتقتحم البقر بعده، ويقولون إن الجن تصدّ البقر عن الماء، وان الشيطان يركب قرني الثور. وقد ذكرت هذه الأسطورة في أشعار جاهلية، يظهر من نقدها ودراستها انها من آثار العقائد الجاهلية في الجن. وقد اتخذت مثلاً لمن ينزل عليه مكروه في سبيل إخافة غيره، فيكون بذلك كبش الفداء. واعتقادهم ان الشيطان يريكب قرني الثور، هو الذي جعلهم يتصورون ان الثور يتقدم البقر في شرب الماء ذلك لأن الشيطان ركب قرنيه، فلا يخشى الثور اذن من الجن، والشيطان أخبث أنواع الجن وأذكاها. فتخافه الجن، وتفسح المجال للبقر في ورود الماء. أما ضرب الثور لتوجيهه إلى الماء، فلاجل ان الشيطان ركب قرنية، فبضربه وبتقدمه يتقدم الشيطان نحو الماء فتخافه الجن وتفزع منه، وتسمح للبقر بورود الماء، ولهذا ضرب، ليستفيد بذلك غيره.

وأهم مواطن الجن في نظر الجاهليين، هي المواضع الموحشة، والأماكن المقفرة التي لا تطرق إلا نادراً والمحلات التي لا.تلائم الصحة، والمقابر والاماكن المظلمة والمهجورة. ففي مثل هذه المواطن تنزل الجن، وتفضل الاقامة بها، وسبب ذلك، هو أن الإنسان يخشى هذه المواضع، ويحس بشيء من الخوف والوحشة من الدخول اليها، فقد يتعرض فيها إلى التهلكة، فاوحى هذا الاحساس اليه أنها "مسكونة"، وأن سكانها هم الجن. وأنهم قد يتعرضون له بسوء إن لم يعرف كيف،يسلك سلوكاً طيباً معها،ولذلك صار يتحاشى ولوج هذه المواضع، لا سيما في الليالي المظلمة، واذا دخلها مضطراً، تخيل الأشباح والأرواح وهي تلعب به كيف تشاء، وتحوم حوله. ومن هنا ظهر عنصر القصص المروي عن مواطن الجن.

وسكنت الجن المواضع المظلمة والفجوات العميقة فيها وباطن الأرض، ولذلك قيل لها: ساكنو الأرض. كما سكنت المقابر. والمقابر هي من المواضع الرئيسية المهمة المأهولة بالجن، ولذلك يخشى كثير من الناس ارتيادها ليلاٌ. وهي لا بد أن تكون على هذه الصفة، فهي مواطن الموتى، وأرواح الموتى تطوف على القبور، والموت نفسه شيء مخيف، والجن أنفسها أرواح مخيفة، فهل يوجد موضع أنسب من هذا الوضع لسكن الجن ? وتزعم الأعراب أن الجن سكنت "وبار". وحمتها من كل من أرادها ؛ وهي بلاد من أخصب بلاد العرب، وأكثرها شجراً، وأطيبها ثمراً واكثرها حباً وعنباً. فإن دنا إنسان من تلك البلاد متعمداً أو غالطاً، حثوا في وجهه التراب. فإن أبى الرجوع خبلوه، وربما قتلوه. فليس في تلك البلاد إلا الجن، والإبل الحوشية.

وقد زعم ان "يبرين" من مواطن الجن. وكانت في الأصل مواضع عاد. فلما هلكت، سكنتها قبائل الجن. وقد روى أهل الأخبار قصصاً عنها وعن اتصالها بالانسان. وزعم بعض منهم ان "النسناس"، هم قوم من الجن.

وقد ورد مثل هذه الاقوال عن مواضع أخرى كانت عامرة آهلة،ثم أقفرت، مثل الحجر موضع ديار ثمود، مما يدل على ان من اعتقادات العرب قبل الإسلام هو ان المواضع التي تصيبها الكوارث تكون بعد هلاك أصحابها مواطن للجن. وفي مثل هذه الأساطير عند العبرانيين وعند غيرهم من الشعوب.

وأشير في شعر "لبيد" إلى "جن البدي". قيل: "والبدي: البادية، أو موضع بعينه" وقيل واد لبني عامر. وأشار "النابغة" إلى "جنة البقار". وذكر ان البقار واد، أو رملهْ، أو جبل، سكنته الجن، فنسبت اليه. وأشير إلى "جنة عبقر" في شعر "زهير" و "لبيد" و "حاتم". وعبقر أرض بالبادية كثيرة الجن، وذكر بعضعهم انها باليمن، قال لبيد: ومن فاد من اخوانهم وبنيهم  كهول وشبان كجنة عبقر

وقال بعض العلماء: عبقر قرية يسكَنها الجن فيما زعموا، فكلما رأوا شيئا ًفانقاً غريباً مما يصعب عمله ويدق أو شيئاً عظيماً في نفسه نسبوه اليها. ولهذا قالوا: للعبقري للسيد الكامل من كل شيء، وللذكي الممتاز.

والمواضع المذكورة هي المواضع المفضلة المختارة لسكنى الجن. غير أن مواطن الجن غير محدودة ولا معينة، إنها تسكن كل موضع ومكان، حتى بيوت الناس لا تخلو منها، بل حتى البحار والسماء لا تخلو منها كذلك، فدولتها إذن على هذا الوصف اوسع من دولة الإنسان. وعلى من سكنت الجن بيته الا يمسها بأذى ولا يلحقها اْي سوء، وأن يقوم بترضيتها بالبخور وبما شاكل ذلك مما تحبه الجن، وإلا أساءت اليه، وجعلت بيته مؤذياً شؤماً، لا يرى من يسكن فيه أي خير.

وكان الرجل في الجاهلية إذا اطرّف داراً ذبح فيها ذبيحة، يتقي بها اذى الجن، لاعتقادهم ان في كل دار جنّا يقيمون بها فلترضيتهم وللتقرب اليهم، يذبحون ذبيحة عرفت عندهم ب "ذبائح الجن" ولا تزال عادة الناس ذبح ذبيحة عند الابتداء ببناء دار، وعند الانتقال اليها. وكانوا أيضاً يذبحون ذبيحة عند استخراجهم عيناً، أو شرائهم داراً، أو بنيانهم بنياناً، مخافة أن تصيبهم الجن، فأضيفت الذبائح اليهم لذلك. وقد نهى النبي عن ذبائح الجن.

وكان في اعتقادهم ان الأماكن المذكورة مليئة بالجن، لذلك كانوا يستجيرون برجال من الجن في اسفارهم، اذا نزلوا منازلهم، يقولون: نعوذ بأعز أهل هذا المكان، أو اني أعوذ بكبير هذا الوادي. والى ذلك أشير في القرآن الكريم:)وانه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً(. روي، عن "حجاج بن علاط السلمي"، انه قدم مكة في ركب فأجنهم الليل بواد مخوف موحش، فقال له الركب: قم خذ لنفسك أماناً ولأصحابك، فجعل يطوف بالركب ويقول: أعيذ نفسي وأعيذ صحبي  من كل جني بهذا النقـب

حتى أأوب سالماً وركبي 

فوصل وركبه سالماً إلى مكة دون أن يمسه أو أن يمس من كان معه من الركب أحد بسوء.

وروي أن الرجل منهم كان إذا ركب مفازة وخاف على نفسه من طوارق الليل عمد الى واد ذي شجر فأناخ راحلته في قرارته وهي القاع المستديرة وعقلها وخطّ عليها خطاً ثم قال: أعوذ بصاحب هذا الوادي. وربما قال بعظيم هذا الوادي. قال أحدهم: العزاف بأنه موضع يسمع به عزيف الجن.

وقد موًن القصص الاسرائيلي أهل الجاهلية بشيء مما كان ينقصهم من أساطير الجن، وتوسع وزاد هذا القصص في الإسلام، حتى تولد منه هذا الذي نجده مدوناً عن أخبار الجن في المؤلفات الاسلامية.

وتخبر الجن الإنسان حوادث تقع في مواضع بعيدة، وهو لا يعلم عنها شيئاً. فلما هبط "نباش بن زرارة بن وقدان"، زوج "خديجة بنت خويلد" قبل النبي، وادياً يقال له "عز"، انتبه في آخر الليل، فاذا شيخ قائم على صخرة، وهو يقول: ألا هلك السيّال غيث بني فـهـر  وذو العز والباع القديم وذو الفخر 

فقال له نباش: ألا أيها الناعي أخا الجود والفخر  من المرء تنعاه لنا من بني فهر 

وبقيا يقولان الأبيات، حتى أخبره الشيخ بوفاة "عبد االّه بن جدعان" في وقتَ حدده وظبطه له. فلما وصل مكة، علم بوفاته على نحو ما أخبره به ذلك الشيخ. وهو جني من الجن، ينظم الشعر، وقد رثى "ابن جدعان".

ونجد في شعر الشعراء الجاهليين أمثال "أمية بن أبي الصلت" و "الأعشى" إشارات إلى الجن. وهم من أقل الجاهلية الذين كان لهم اتصال بأهل الكتاب وبكتبهم، وقد زعم أن بعضاً منهم كان قد قرأ تلك الكتب ووقف على العبرانية أو السريانية. ولهذا ورد في شعرهم شيء من قصصهم أهل الكتاب. وفي جملة ما ذكرته من اشاراتهم الى الجن. وتراهم يربطون بينها وبين "سليمان" 0 أخذوا ذلك ولا شك من الأساطير العبرانية، التي صيرت ألجن في خدمة "سليمان". فنجد الأعشى يقول: وسخر من جن الملائك تسعة  قيامهاً لديه يعملون محاربـا

قصد بذلك "سليمان" ونجد ان في.جملة ما نسب عمله إلى جن سليمان بعض المواضع مثل تدمر وقصر غمدان.

وقال النابغة الذبياني: إلا سليمان إذ قـال الإلـه لـه  قم في البرية فاحددها عن الفند

وخَيسِّ الجن إنـي قـد أذنـت  لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد 

فمن عصاك فعاقبه مـعـاقـبة  تنهىْ الظلوم ولاتقعدعلى ضمد

وفي هذا الشعر إن صح آنه من نظم النابغة حقاً، دلالة على تأثر الشاعر بالأسطورة اليهودية عن "تامار"، وعن جن سليمان.

ونسبوا السيوف المأثورة إلى جن وشياطن "سليمان". ونسبوا اليه واليهم أشياء عديدة أخرى. وقد ادعى اناس من الجاهليبن انهم كانوا يرون الغيلان والجن، ويسمعون عزيف الجان، أي صوت الجن. وقد بالغ الأعراب في ذلك، وأغربوا في قصص الجان، لما كانوا يتوهمونه من ظهور الأشباح لهم في تجوالهم بالفيافي المقفرة الخالية، فتصوروه جناً وغولاَ وسعالى، وبالغوا في ذلك أيضاً، لما وجدوه في أهل الحضر ولا سيما في الإسلام من ميل إلى سماع قصص الجان والسعالى والغول. وقالوا انهم ربما نزلوا بجمع كثير، ورأوا خياماً، وقباباً، وناساً، ثم اذا بهم يفقدونهم من ساعتهم، وذلك لأنهم من الجنْ.

ونسبوا إلى الجن إحداث كَثير من الأمور غير الطبيعية،مثل الأمراض والأوبئة والصرع والاستهواء والجنون خاصة. فالجنون هو تلبس الجن بالانسان ودخولهم جسمه. لذلك ربطوا بين الجن والجنون. ويرى "نولدكه" ان فكرة أن الجنون من عمل الجن، عقيدة قديمة وجدت عند غير العرب كذلك. فقد كان الايرانيون يطلقون على المجنوتْ لفظة "ديوانه" "Devana"، أي الذي به "ديو" "Dev " من الأصل "ديوه، Daiva"، ومعناها "Demon " أي جان. ومن هذه الفكرة دخلت في العهد الجديد من الكتاب المقدس. ومن الفارسية دخلت "ديوان" "Daiwan " في الإرمية بينما دخلت إلى الفارسية كلمة "شدها" ""Shedha" من أصل "شدهان "Shedhanٍ" الإرمي واستعملت في مقابل "Deo" أي جان. و "شيسده" "Shedh" في الإرمية الجان.

وهم يزعمون أن الجن اذا عشقت انساناً صرعته، ويكون ذلك على طريق العشق والهوى، وشهوة النكاح. وأن الشيطان يعشق المراة، وان نظرته اليها من طر يق العجب بها أشد عليها منُ حمى أيام، وان عين الجان أشد من عين ا لانسان.

والعرب تزعم أن الطاعون من الجن، ويسمون الطاعون رماح الجن. قال الأسدي للحارث الملك الغساني: لعمرك ما خشيت على ابي  رماح بني مقيّدة الحمـار

ولكني خشيت علـى أبـي  رماح الجن أو إياك حار

وللجنّ حوار مع الإنس وكلام تجده منثوراً كما نجده منظومأَ فى شعر ينسب إلى اأشعراء الجاهليين. ويرويَ الأخباريون شعراً ينسب إلى "جذعّ بن سنان" ورد فيه وصف ملاقاته الجن. ومحاورته معها ودعوته إياها إلى الطعام وامتناعها عن الأكل، كما رووا شعراً لغيره يصف ملاقاة بين الجن وبين أصحاب هذا الشعر. وهو قصص لم يبخل على ألجن فأعطاها شعراً من هذا الشعر الجاهلي الفصيح وقد سخر "الخيتعور" أحد "بني الشيصبان" من الجن من الأشعار التي جمعها "المرزباني" "المتوفى سنة 384"، من شعر الشعراء الجن، فما هذا ا إلذي جمعه إلا قطعة من شعرهم، وهل يعرف البشر من النظم كما يعرف الجن.

وانما للبشر خمسة عشر جنساً من الموزون، قل ما يعدوها القائلون، وإن للجن آلاف الأوزان ما سمع بها إلإنس.

طعام الجن

وطعام الجن مثل طعام الإنسان، وهم يشاركونه أكله، في بعض الأحيان.

" رووا عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، انه سأل المفقود الذي استهوته الجن: ما كان طعامهم قال. الفول. قال: فما كان شرابهم قال: الجدف. ورووا ان طعامهم الرمة وما لم يذكر اسم الله عليه. وقد جاء قوم من الجن إلى نار شمر بن الحارث الضبي، فدعاهم إلى الطعام بقوله: أتوا ناري فقلت منـون قـالـوا  سراة الجن قلت عموا ظـلامـا

فقلت إلى الطعام فقال منهم زعيم.  نحسـد الإنـس الـطـعـامـا

والحوشي من الإبل هي التي قد ضربت فيها فحول إبل الجن. فالحوشية من نسل ابل الجن. ويقال انها منسوبة إلى "الحوش" بلاد الجن من وراء رمل يبرين، لا يمر بها أحد من الناس، وقيل هم من بلاد الجن. وقيل الحوشية إبل الجن، أو منسوبة إلى الحوش وهي فحول جن، تزعم العرب انها ضربت في نعم "بني مهرة بن حيدان" فنتجت النجائب المهرية من للك الفحول الوحشية، فنسبت اليها، فهي لا يكاد يدركها التعب.

الحية

والحية من أكثر الحيوانات وروداً في القصص الذي يرويه الأخباريون عن الجن. وقد جعلوها فصيلة مهمة من فصائلها، ونوعاً بارزاً من أنواعها. قال بعض العلماء: الجان، حية بيضاء، وقال بعض آخر: الجان حبة، أو ضرب من الحيات. ولما قام "حرب بن أمية" جد معاوية بن أبي سفيان مع "مرداس ابن أبط عمرو" باصلاح "القرية"، وهي إذ ذاك غيضة شجر ملتف لايرام، فأضرما النار في الغيضة، فلما استطارت وعلا لهيبها سمع من الغيضة أنين وضجيج كبير، ثم ظهرت منها حيات بيض تطير حتى قطعتها وخرجت منها، فما لبث أن مات الرجلان، أماتهما الجن على ما يزعمه رواة هذا الخبر. ولعلهما ماتا بعضة حية من تلك الحيات التي كانت ساكنة بين تلك الأعشاب وقد هاجتها تلك النيران. ومثل هذه المواضع تكون موئلاً للحيات والحشرات، فابتدعت مخيلة القصاصين هذه القصة عن فزع الجن وطيرانها في صورة ثعابين بيض. ويعلل "نولدكه" وفاتهما بفعل الاختناق من الغاز الذي تصاعد من الاحتراق.

وذكروا أن الحيّة لا تموت حتف أنفها، وإنما تموت بعرض يعرض لها. وانها تصبر على الجوع حتى ضرب بها المثل في ذلك. وانها اذا هرمت صغرت في بدنها. ولم تشته الطعام. وانها تنطق وتسمع. وقد أورد أهل الأخبار شعراً في ذلك، ذكروا أنه للنابغة. ومذهب النابغة في الحيات مذهب أمية بن أبي الصلت، وعدي بن زيد وغيرهما من الشعراء الذين تأثروا برأي أهل الكتب فيما جاء عن الحية في العهدين وفي كتب الشروح والتفاسير والقصص الاسرائيلي القديم.

ولم تنفرد مخيلة الجاهليين وحدها باختراع اسطورة ان الحيات هي من الجن، وانها جنس منها، فان غير العرب من الساميين مثلَ العبرانيينَ كانوا يقولون أيضاً بهذا القول. وكذلك قال بهذه الأسطورة غير السامين، مما يدل على انه من الأساطير القديمة جداً التي انتشرت عند البشر، بسبب ما قاسوه في ايام بداوتهم من هذا الحيوان. ونجد قصة الحية في سفر التكوين. وهي في هذا السفر أشد الحيوانات حيلة، فهي التي خدعت حواء خدعتها الشهيرة، وسببت طردها وطرد زوجها آدم من الجنة إلى الأرض.

ولعقيدنهم هذه في "الحية"، كانوا اذا وجدوا حية. ميتة كفنوها ودفنوها، فعلوا ذلك في الإسلام أيضاً جاء انه بينما كان "عمر بن عبد العزيز" بمشي في أرض فلاة، فاذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها. وورد انه كان جمع من أصحاب رسول الله يمشون فوقع لهم اعصار، ثم جاء اعصار أعظم منه، ثم انقشع، فاذا حية قتيل، فعمد رجل منا. إلى ردائه وكفّن الحية ببعضه ودفنها. فلما جنّ الليل اذا امرأتان تساءلان أيكم دفن عمرو بن جابر فقلنا ما ندري ما عمرو بن جابر فقالتا إن كنتم ابتّغيتم الأجر، فقد وجدتموه. إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين منهم. فقتل عمرو، وهو الحية التي رأيتم".

وفي الحديث: انه نهى عن قتل الجنان. هي الحيات التي تكون في البيوت،واحدها جان،وهو الدقيق الخفيف. والجان الشيطان أيضاً، وورد فيَ الحديث: ذكر الحيات، فقال: من خشي خبثهن وشرهن واربهن، فليس منا. أي من توقى قتلهن خشية شرّهن فليس ذلك من سنتنا. وكانت الجاهلية تقول انها تؤذي قاتلها أو تصيبه بخبل.

وذكر العلماء أن "اللاهة" الحية، أو الحية العظيمة. وأن "اللات"، الصنم المعروف أصله "لاهة" كأنه سمي بها. وان اسم الجلالة منها. وفي الأساطير إلجاهلية ما يفيد تعبد الجاهليين للحية، وفي هذا التفسير ما يؤيد هذا الرأي.

ويقال للحية: "بنت طبق". و "بنات طبق" الحيات، والحية "أم طبق" وبنت طبق. وهي "الدواهي" ومن أساطيرهم أن بنت طبق سلحفاته تبيض تسعاً.وتسعين بيضة كلها سلاحف، وتبيض بيضة تنقف عن حية. والحيات شياطين، وللعرب شجر يطلقون عليه "الصوم" " كريه المنظر جداً، يقال لثمره "رؤوس الشياطين" اي الحيات، وليس له ورق.

الغول

وقصص الغول هي من أشهر القصص الجاهلي إلمذكور عن الجن، ومع خطر الغول وشراسته في رأي الجاهلين، ورد في قصصهم تزوج رجال من الإنس منهم. وورد ان الشاعر "تأبط شراً" تعرض بغيلة. فلما امتنعت عليه، جللها بالسيف فقتلها..وهم يروون ان من الممكن قتل الغول بضربة سيف. أما اذا ضربت مرة ثانية، فانها تعيش ولو من ألف ضربة. وهكذا ترى قصصهم يروي تغلب الإنسان على الغيلة في بعض الأحيان. وأكثر قصصم عن الغول منسوب الى "تأبط شراً". وللقب الذي يحمله هذا ا!شاعر أو حمل عليه دخل، ولا شك، في ظهور هذا القصص.

ويرى علماء اللغة أن من معاني "الغول." التلون، وإلظهور بصور مختلفة، والاغتيال. ويرون أن الغول أنثى وأما ذكرها فسمى. "قطرباً". ولصفة التلون والظهور بصور مختلفة سموا الغول "حيتموراً"، وهو كل شيء لا يدوم على حالة واحدة، ويضمحل كألسراب. وذكر في وصف غدرها بالإنسان أنها اذا أرادت أن تضل إنساناً وقدت له ناراً، فقصدها، فتدنوا منه، وتتمثل له في صور مختلفة، فتّهلكه روعاً، وان خلقتها خلقة إنسان، ورجلاها رجلا حمارْ.

وذكروا ان الغول هو لسم لكل شيء من الجن يعرض للسفار، ويتلون في ضروب الصور والثياب، ذكراً كان أو أنثى، وقد قال "كعب بن زهير" الشاعر الصحابي، الذي مدح الرسول، في وصف تلون الغول: فما تدوم على حالً تكون بها  كما تلوّن في أثوابها الغول

وفي تلوّن الغول يقول "عباس بن مرداس ألسلمي":   

أصابت العامَِ رعلاً غول قومهم  وسط اابيوت ولون الغول ألوان 

فالغول تتحول في أي صورة شاءت، وتتمثل في صور مختلفة، إلا رجليها، فلا بد من ان تكونا رجلي حمار.

وذكر ان "الغول" "السعلاة"، وهما مترادفان، وذكر ان الغيلان جنس من الجن والشياطن، والعرب تسمي الحية الغول. وقيل ان "أنياب أغوال" الواردة في شعر لأمرىء القيس، الحيات، وقيل الشياطين.

وإلى الشاعر "لحبيد بن أبوب" شاعر "بني العنبر"، يعود قسط كببر من القصص الوارد عن "الغول" و "السعلاة". فقد كان يخبر في شعره انه يرافق الغول والسعلاة، ويبايت الذئاب والأفاعي، ويؤاكل الظباء والوحش. وقد أورد أهل الأخبار شيئاً من شعره في هذا البابْ. وذكر بعض علماء اللغة، ان الغول الذكر من الجن، والسعلاة الأنثى. والغول ساحرة الجن، وتقول إن الغول يتراءى في الفلاة للناس فتضلهم عن الطريق.

واما "السعالي"، وواحدتها السعلاة، فذكر أنها سَحرة الجن، وقيل: إن الغيلان جنس منها، وان الغيلان هي إناث الشياطين، وأنها - أي السعالي - أخبث الغيلان، وأكثر وجودها في الغياض، وانها إذا ظفرت بإنسان ترقصه وتلعب به كما يلعب القط بالفأر،وان الذئب يأكل السعلاة. وذكر ان "السعلاة" اسم الواحدة من نساء الجن إذا لم تتغول لتفتن السفّار. وهم إذا رأوا المرأة حديدة الطرف والذهن، سريعة الحركة مممشوقة ممحصة، قالوا: سعلاة. وقال ا لأعشى: ورجالً قتلى بجنبي أريك  ونساء كانهن السعالـى

وذكر أن في الجن سحرة كسحرة الانس لهم تلبيس وتخييل، وهم السعالى. وهم أقدر من الغيلان في هذا الباب.

الشيطان

والشيطان هو "Satan" في الانكليزية، و "Diabolos" في الإغريقية. ويرجع علماء اللغة كلمة "الشيطان" إلى أصل "شطن"، ويقولون إن من معاني هذه الكلمة الخبث، ولما كان الشيطان خبيثًا قيل له "شيطان" ومعنى ذلك ان.فكرة خبث الشيطان كانت معروفة لصاحبها قبل التسمية. فلما بحث عن لفظة مناسبة لها، اختاروا هذه الكلمة الني تدل على الخبث. وهو تعليل من تلك التعليلات المعروفة المألوفة الني كان يرجع اليها علماء اللغة كلما أعياهم الوصول إلى أصول ا لأشياء.

و "الشيطان" "ساطان" "سطن" في العبرانية، ومعناه: عدو ومشتك. في هذه اللغة. ومن هذه اللغة جاءت لفظة "Satan" في الانكليزية.

وذكر "الطبري": والشيطان في كلام العرب كل متمرد من الجن والإنس والدواب وكل شيء" ثم قال: "وانما سمي المتمرد من كل شيء شيطاناً لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاق سائر جنسه وأفعاله وبعده من الخير. وقد قيل انه أخذ من قول القائل شطنت داري من دارك، يريد بذلك بعدت. ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان: نأت بسعادً عنك نوى شطون  فبانت والفؤاد بها رهـين

والنوى الوجه. للذي نوته وقصدته، والشطون البعيد. فكأن الشيطان على هذا التأويل شطن. وما يدل على ذلك كذلك، قول أمية بن أبي الصلت: أيما شاطن عصاه عـكـاه  ثم يلقى في السجن والاْكبال 

ولم ترد لفظة "الشيطان" في شعر الشعراء الجاهليين، خلا شعر "أمية بن أبي الصلت" و "عدي بن زيد العبادي". والأول شاعر وقف،على ما يظهر من شعره، على شيء من اليهوذية والنصرانية. وأما الثاني، فهو نصراني، لذلك يجوز لنا ان نرجع علمهما. بالشيطان إلى ما جاء في اليهودية والنصرانية عنه، ولذلك نستطيع ان نقول ان هذه اللفظة جاءت العربَ عن طريق أهل الكتاب.

وذكر علماء اللغة، أن "الأزب" اسم من أسماء الشياطين، وذكروا أن "الأزب" شيطان اسمه أزب العقبة، وقيل هو حية وأن من أسماء الشيطان: "الحُباب". ويقع على الحية أيضاً، لأن الحية يقال لها شيطان، وفي حديث: "الحباب شيطان"وذكروا أن من أسماء الشيطان "الطاغوت".

ومن الشياطين، شيطان اسمه "زوبعة"، وقيل هو رئيس للجن. ومنه سمي الإعصار زوبعة، ويقال أم زوبعة وأبو زوبعة وهو الذي يثر الاغبار، حين يدور على نفسهه، ثم برتّفع في السماء ساطعاً كأنه عمود.

وأما ما ورد في القصص عن الشياطين عند الجاهليين، فهو يختلف عما جاء عن الشيطان في الكتب اليهودية والنصرانية، مما يدل على أن منبعه منبع آخر، وان "الشيطان" عند الجاهليين، هو غير الشيطان المعروف عند اليهود والنصارى، الذي دخل إلى العرب قبيل الإسلام وفي الإسلام.

ومن القصص المذكورة، استمد بعض الجاهليين قصصهم عن ذكاء الشيطان وعن حيله. ومن هذا القصص ولا شك استعمل الناس مصطلح "تشيطن" و "الشيطنة" بمعنى الذكاء والحيلة، لما رسخ في ذهنهم من ذلك القصص عن ذكاء الشيطان وسعة حيله وتلاعبه بأذكى البشر. وهو في التوراة ذو طبع شرير، وزعيم العصاة لأوامر الله يضل الناس بهم سبيل الخطيئة ولذلك تعوذوا منه.

ومن القصص المذكور استمد أيضاً حكماء اللغة ما ذكروه من ان كلمة،الشطن تعني الحية، فقي ذلك القصص ظهور ألشيطان على صورة حية خدعت ابوينا ادم وحواء في الجنة. وتمثل هذا القصص في الأدبين العبراني والنصراني. وسبب ذلك هو ما علق بأذهان العبرانيين من مكر الحيات ودهائها وخبثها وميلها إلى الشر، وما علق بذهنهم عن هذه الصورة في الشيطان. والحية هي عند أكثر المستشرقين رمز يشير إلى الثورة والعصيان والشر. وهذه الفكرة هي من اسطورة شرقية قديمة على سقوط البشرية في الشر، وتمثل في سقوط آدم وحواء وطردهما لذلك من الجنة، وفي تعاليم زرادشت من ان الشرير ظهر في هيأة حية، وأخذ يعلم الناس الشر.

وزعم ان "شيطان الحماطة" الحية. وورد "شيطان حماط". ولعل ذلك بسبب لجوء الحيات إلى الحماط، والحماطة شجرة شبيهة بالتين، وهي أحب الشجر إلى الحيات، إذ تألفها كَثيراًْ. وفي هذا المعنى ورد في قول الشاعر: تلاعبُ مثنى حضرمي كأنـه  تعمج شيطان بذي خروع قفر 

والتعمج التلوي. والمراد هنا تلوي شيطان بمكان قفر نبت فيه الخروع. وقصد بالشيطان الحية.

وقد وصف الشيطان بالقبح، فإذا أريد تعنيف شخص وتقبيحه، قيل له: يا وجه الشيطان وما هو إلا شيطان، يريدون بذلك القبح، وذلك على سبيل تمثيل قبحه بقبح الشيطان. وقيل: الشيطان حية ذو عرف قبيح الخلقة.

وقيل إنه كان حية زعم أنها تأتي حول البيت، فلا يطوف أحد. ولما شرعوا ببناء الكعبة في أيام شباب الرسول،جاء طير فالتقط الحية. ولقبح وجه الشيطان، قالوا للذي به لقوة أو شتر، إذا سبّ: يا لطيم الشيطان. وقالوا للمتكبر الضخم: ظل الشيطان. وكانوا إذا،أرادوا ضرب مثل بقبح انسان قالوا: لهو أقبح من الشيطان. وقالوا لشجرة تكون ببلاد اليمن،لها مظهر كريه "رؤوس الشياطين"4. وبهذا المعنى فسرت "رؤوس الشياطن" في الاية: )إنها شجرة تخرج من أصل الجحيم: طلعها كانه رؤوس الشياطين(، يقول تعالى ذكره كأن طلع هذه الشجرة، يعني شجرة الزقوم في قبحه وسماجته رؤوس الشياطين في قبحها، وذلك أن استعمال الناس قد جرى بينهم في مبالغتهم إذا أراد أحدهم المبالغة في تقبيح الشيء، قال: كأنه شيطان، فذلك أحد الأقوال. والثاني أن يكون مثل برأس حية معروفة عند العرب تسمى شيطاناً. وهي حية له عرف فيما ذكر، قبيح الوجه والمنظر، وإياه عنى الراجز، يقوله: عنجرد تّحلف حين أحـلـف  كمثل شيطان الحماط أعرف 

ويروي عجيز: والثالث ان يكون مثل نبت معروف برؤوس الشياطين، ذكر انه قبيح الرأس. ويظهر ان العرب في الجاهلية، كانوا يطلقون رؤوس الشياطين" على شجر كريه المنظر جداً، قال علماء اللغة: "والصوم: شجر على شكل شخص الإنسان كريه المنظر جداً، يقال لثمره رؤوس الشياطين، يعني بالشياطشن الحيات، ووليس له ورق وقد جمع هذا التفسير بين الشياطن والقبح. وبمثل الصورة اليَ رسمها الناس في مخيلتهم للشياطين.

وكانت الشعراء تزعم ان الشياطين تلقي على أفواهها الشعر، وتلقنها اياه رتعينها عليه، وتدعي ان لكل فحل منهم شيطاناً يقول الشعر على لسانه فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود. وبلغ من تحقيقهم وتصديقهم بهذا ان ذكروا لهم اسماء شياطينهم، فقالوا: إن اسم شيطان الأعشى مسحل، وللأعشى أشعار فيه، يمدحه ويثتي عليه، لأنه يعاونه ويساعده في نظم الشعر فيلقيه عليه إلقاءً. وقد زعم "حسان بن ثابت" ان شيطانه الذي يلهمه الشعر هو من "بني شيصبان" من فصائل الجن. وقد انتقلت هذه العقيدة في إلهام الشعر للشعراء إلى المسلمين كذلك. وقد دعا "جرير" شيطانه الذي يلقي عليه الشعر "ابليس الأباليس".

ويكنى عن الشيطان بالشيخ النجدي. وقد أشير اليه مراراٌ في كتب السير والأخبار. أشير اليه في بنيان الكعبة، حين حكموا رسول الله في أمر الركن من يرفعه، فحضر في زي شيخ نجدي بين الحاضرين، وصاح: يا معشر قريش أرضيتم أن يليه هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أسنانكم، وحضر اجتماع "دار الندوة". وأيد قرارهم في قتله. وذكَر علماء الأخبار، أنه عرف بالشيخ النجدي، لأنه تمثل نجدياً، وقيل لأن نجداً يطلع منها "قرن الشيطان" ورووا أحاديث تذكر ذلك، وتذكر أن الفتن تخرج من المشرق، والمشرق نجد بالنسبة لأهل الحجاز.

و "قرن الشيطان"، ناحية رأسه، ومنه الحديث: تطلع الشمس بين قرني الشيطان، فإذا طلعت قارنها، وإذا ارتفعت فارقها. وفي الأساطير أن للشيطان قرنين.

وكان الكهان يستعينون بالشياطين في الإخبار عن المغيبات،يذكرون أن الشياطين يسترقون السمع من السماء، يخبرونهم عن أنباء الأرض. وكان للكاهن "صاف ابن صياد شيطان يلقي اليه. ما خفي من أخبار الأرض، وذكر أن النجوم تقذف الشياطين،وأن الجاهليين.كانوا يرون ذلك، وهو موجود في أشعار القدماء من الجاهلية، منهم عوف بن الجزع،.وأوس بن حجر، وبشر بن أبي خازم وكلهم جاهلي، وقد وصفو الرمي بالنجوم.

و "إبليس" من هذه الأفكار التي نفذت إلى العرب عن طريق أهل الكتاب، والعلماء على ان الكلمة معربة، وهي كذلك. فأصلها "ديابولس"، Diabolos، وهي كلمة يونانية استعملت في مقابل لفظة "شيطان". وقد أطلقت لفظة "أباليس" في مقابل "شياطين". وقد ورد ان من أسماء ابليس "قترة"، وان اللفظة علم للشيطان. ومن المجاز أبو قترة: ابليس. وفي الحدبث نعوذ بالله من الأعميين ومن قترة وما ولد. الأعميين الحريق والسيل، قترة من أسماء ابليس، وكنيته: أبو قترة. وقترة حية صغيرة، لا ينجو سميمها، ولعل بين التسميتين صلة.

شق

ومن الجن جنس صورة الواحد منهم على نصف صورة الإنسان، واسمه "شق"، واسمه شق وانه كثيرا ما يعرض للرجل المسافر اذا كان وحده، فربما هلك فزعاً، وربما أهلكه ضربا وقتلاً. ورووا في ذلك قصصاً. منه ما زعموه من ان "علقمة ابن صفوان بن أمية بن محرث الكناني" جدى "مروان بن الحكم"، خرج في الجاهلية، وهو يريد مالاً له بمكة، وهو على حمار، وعليه إزار ورداء، ومعه مقِرعة، في ليلة اضحيانة، حتى انتهى إلى موضع يقال "" "حائط حزمان"، فاذا هو بشقّ له يد ورجل، وعين، ومعه سيف، وهو يقول: علقم إني مـقـتـول  وإن لحمي مأكـول

أضربهم بالهـذلـول  ضرب غلام شملول

رحب الذراع بهلول 

فقال علقمة: ياشقها ما لي ولك  اغمدفي مُنصلك

تقتل من لا يقتلك 

فقال شق: عبييت لك عبيت لـك  كماّ أتيح مقـتـلـك

فاصبرلما قد حم لك 

فضر ب كل واحد منهما صاحبه، فخرّا ميتين.

الهاتف والرئي

ويؤمن الأعراب بالهاتف،ويتعبجبون ممن يرد ذلك. وهم يزعمون أنهم يسمعون الهاتف يخبرهم ببعض الخبر، فيكون صحيحاً. ومن ذلك حديث "الأعشى بن نبّاش بن زرارة الأسدي"، أنه سمع هاتفاً يقول: لقد هلك الفياض غيثُ بني فـهـر  وذو الباع والمجد الرفيع وذو الفخر 

.فقال مجيبا له: ألا أيها الناعي أخا الجود والندى  من المرء ننعاه لنا من بني فهر 

فقال: نعيت ابن جدعان بن عمرو أخا الندى  وذا الحسب القدموس والحسب القهر 

وزعموا أن لنقل الجن الأخبار، علم بوفاة الملوك وأصحاب النباهة والجاه، وأمثال ذلك من الأمور الخطيرة.

وتتردد في الأخبار كلمة "هاتف" و "الهاتف"، بمعنى صوت صادر من مصدر غير مرئي،وردت في مواضع عديدة من القصص الجاهلي، ووردت بعدها الجمل التي قالها الهاتف لمن وجه خطابه اليه. وهي تكهن واخبار، ءن أمر وقع وحدث، أو لتحذير من القيام بعمل ما، أو بإرشاد إلى عمل أو جهة أو ما.شابه ذلك من.الأمور. وقد تستعملء بمعنى "الرئي" الذي يهتف للكاهن، أو الصوت الذي يزعم أنه يخرج من جوف الصنم.

الرئي

وكاانوا يقولون،إذا ألف الجني انساناً وتعطف عليه، وخبّره بعض الأخبار وجد حسّه ورأى خياله، فاذا كان عندهم كذلك قالوا: مع فلان رئي من الجن، يخبره بما وقع ويقع وعن الأسرار. وممن يقولون ذلك فيه: عمرو بن لحي بن قمعة،والمأمور الحارثي، وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وهم من الرؤساء السادة، وقد كان لكل كاهن وعرّاف رئي يخبر صاحبه بما يسأل عنه. وذكر انه قد كان مسيلمة يدعي ان معه رئي في أول زمانه، ولذلك قال الشاعر حين وصفه: بِبَيضة قارورٍ وراية شادنٍ  وخلة جني وتوصيل طائر 

الملائكة

والملائكة هم روحانيون. أي من أرواح في نظر أهل الجاهلية. ويدل ورود الملائكة في مواضع عديدة من القران الكريم ومن الآيات التي تشير الى مجادلة المشركين ومحادثتهم للرسول في الملائكة، ان فكرة الملائكة كانت معروفة شائعة بينهم، وأن بعض العرب كانوا يعبدونها، كما يظهر ذلك من الآية: ) ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ? قالوا: سبحانك آنت ولينا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجن، اكثرهم بهم مؤمنون". غير أن المفسرين، لم يشيروا إلى أولئك الذين تعبدوا للملائكة، ولم يذكروا أسماءهم، مع أنهم ذكروا اسم من تعبد للجن،بل يظهر من تفسيرهم للاية المذكورة، أنها وردت على سبيل الاستفهام " كقوله عز وجلّ لعيسى: أ أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دوز الله، قال النحاس: فالمعنى أن الملائكة صلوات اللّه عليهم اذا كذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم، فهو استفهام توبيخ للعابدين". ولكنهم أشاروا في مواضع أخرى إلى ان مشركي قريش كانوا يقولون: الملائكة بنات اللّه،وكانوا يعبدونها. ويقولون ان امهاتهن بنات سروات الجن، يحسيون انهم خلقوا مما خلق منه ابليس.

وقد أشير في القرآن الكريم، إلى ان من الجاهليين من زعم ان الملائكة بنات الله. وتحدث المفسرون في تفسير ذلك، غير انهم خلطوا في الغالب بين الملائكة والجن. ولم يأتوا بشيء يذكر عن رأي أهل الجاهلية في الملائكة. وما ذكروه هم عن الملائكة، هو اسلامي، يرجع في سنده الى أهل الكتاب،ولأ سيما القصص الاسرائيلي، ولهذا فهو مما لا يمكن ان يقال عنه انه يعبر عن رأي الجاهليين. ويظهر ان الجاهليين لم يكونوا يعرفون شيئاًعن الملائكة، لأن الاعتقاد بالملائكهة من عقيدة اإديانة اليهودية ثم النصرانية، وهم لا يعرفون الكتاب، إلا من كان منهم على دين اليهودية أو النصرانية، أو كان من الحنفاء أو على على اتصال بأهل الكتاب، كأمية بن أبي الصلت وأمثاله.

وقد أشير الى الملائك،أي "الملائكة" في شعر ينسب إلى "أمية بن أبي الصلت"، هو: وكاًن برِقعَ، والملائك حوله  سدرٌ تواكله القوائم أجـرد

وورد "ملأك" في شعر رجل من عبد القيس جاهلي يمدح بعض الملوك، قيل هو النعمان. وقيل هو لأبي وجزة يمدح به عبدالله بن الزبير: فلست لإنسي، ولكنِ لمـلأك  تنزل من جو السماء يصوب 

وقد زعم أن الملائكة تصافح الناس وتناجيهم. زعم ذلك حتى في الإسلام.

ذكر "ابن دريد" ان "عمران بن الحُصين بن عُبيد بن خلف"، وهو من الصحابة، وعرف ب "أبي نجيد"، " كانت تصافحه الملائكة وتناجيه لداء كان به، فاكتوى، فذهب عنه ذلك. وذهب ما كان يسمع ويرى".

السحر

والسحر من اهم الوسائل التي لجأ اليها البشر وأقدمها منذ أعتق أيامه فى التأثير على الأرواح، وقد جعله جزءاً من الدين، لذلك كان من اختصاص رجال الدين يقومون به في المعابد قيامهم بالشعائر.

واذ كان معظم الناس في الزمن الحاضر يفرقون بين الدين والسحر، ويعدّ ون السحر شيئاً بعيداً عن الدين، بل هو ضد الدين،.فإن قدماء البشر لم يكونوا ينظرون اليه هذه النظرة، كانوا ينظرون اليه كما قلت على انه جزء مهم من الدين، بل هو أهم جزء فيه وأعظمه، بل ما زلنا نجد ديانات القبائل البدائية تعدّ السحر جزءاً من الدين. وهو كذلك في كل دين بدائي.

وعمل الساحر هو السحر، والسحر في عرف بعض علماء اللغة الإسلاميين هو "عمل يقرب فيه إلى الشيطان". وقد فسّر بعض العلماء كلمة "الجِبْت" في القرآن الكريم بمعنى السحر، كما ذكر أنها تعني الساحر والكاهن والصنم وكل ما عبد من دون الله. وفسر "الطاغوت" بمعنى الشيطان.

وقد وردت كلمة "السحر" و "سحر" و "الساحر" و "الساحرون" و "السحرة" و "مسحوراً" و "مسحورون" في مواضع عديدة من القرآن الكريم، ويدل ورودها فيه بهذه الكثرة على مبلغ اثر السحر في عقلية الجاهليين. وقد اتهم أهل مكة الرسول أنه ساحر، حينما أخبرهم بنزول الوحى عليه. وقالوا انه يستمد وحيه من الشياطين.

وقد جمع البخاري بين الكهانة والسحر بأن قدّم الكهانة على السحر، لأن مرجع الاثنين شيء واحد هو الشياطين.

وقد حملت تلك المواضع من القرآن الكريم المفسربن على جمع ما علق بأذهان الناس عن السحر. أما كتب الحديث ففيها مادة مفيدة وردت ضمناً عن عقيدة اهل الجاهلية به. كما وردت في أخبار اهل الأخبار إشارات اليه، تجمل جميعها ان الاعتقاد بالسحر بين الجاهليين كان شائعاً معروفاً، وان ممارسيه في جزيرة العرب كانوا عرباً ويهوداً، وانهم كانوا يرون ان أصوله في بابل وعند يهود.

وقد كان أكثر السحرة في الجاهلية من يهود. يقصدهم الجاهليون من أنحاء بعيدة، لاعتقادهم بسعة علمهم وباختصاصهمم فيه. وكان اليهود، يسندون علمهم إلى بابل،ولهذا نجد الأحاديث والأخبار العربية ترجع علم السحر إلى بابل واليهود.

والفرق بين الكهانة والسحر ان الكهانة تنبؤ، فسند الكاهن هو كلامه الذي يذكره للناس. أما السحر، فانه عمل في الأكثر، للتأثير في الأرواح، كي تقوم بأداء ما يطلب منها. ولا يمكن صنع سحر ما لم يقترن بعمل. ويصحب هذاالعمل كلام مفهوم أو غير مفهوم، واشارات، يدعي الساحر انه انما يقوم به وبالاشارات لتسخير الأرواح، وان ما يفعله مفهوم عند جنوده، وهم الجن و الشياطين.

وفن مثل هذا مغر جداً، فمن من الناس من لا يريد تسخير القوى الخفية لخيره ولصالحه، وإلحاق الأذية بأعدائه ومبغضيه. ولذلك كان للسحر والسحرة اثر خطير في التأريخ، بالرغم من مقاومة بعض الأديان له. فما يقوم به السحرة من أعمال وخفة، وما لشخصيات بعض السحرة من تاثير نفسي كبير، تجعل من الصعب على بعض الناس ان يكذّ بوا أقوالهم وأفعالهم، ولذلك يتأثرون بهم، ويأخذون بما يقولونه لهم، حتى تكون للساحر مكانة كبيرة في نفس ذلك الشخص.

وللسحر أغراض عديدة، وقد استخدم في معالجة أمور كثيرة، حتى ادارة الملك والقضاء على الأعداء،للسحر رللسحرة فيها صولات وجولات. ومن الطبيعي أن يكون للحب المكانة البارزة فيه، حتى ليكاد يتخصص بهذا الجانب من حياة الإنسان. ولما كانت العادة أن يتزوج الرجل من جملة نساء صار السحر من أهم الوسائل التي استعانت بها الزوجات للتأثير في قاب الرجل، ولكسب المكانة الأولى عنده، وللتفريق بين الرجل وبين بقية أزواجه. ومصداق ذلك ما ورد في القرآن الكريم عن السحرة في هذه الاية: )ولكن الشياطين كفروا، يعلّمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وما يعلّمان من أحد حتى يقولا انما نحن فتنة، فلا تكفر، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه (. فالتفريق بين المرء وزوجه، كان ولا يزال من أهم أعمال السحرة. ونجد في الحديث تقريعاً ولوماً للسحرة لاستخدامهم السحر في هذا الغرض الفاسد.

والساحر في معالجة الحب على طريقين.: اشعال جذوة نار الحب في قلب من يقصد إثآرته عنده، أو اطفاء نارها وإخمادها واماتتها في قلب المسحور. ولكل من الطريقين قواعد وأحكام وأصول يجب تطبيقها بعناية، وإلا بطل فعل السحر.

أما إشعال نيران الحب، فيكون بطرق متعددة يتبعها الساحر، فقد يستعين بالنباتات. والأعشاب، يستخرج أدوية منها يقدمها إلى المرأة لتُوجر الرجل اياها سراً. وقد يستعين بالجمر يقرأ عليه، ثم يرمى في الممرات التي يمر الرجل،أو الشخص المراد سحره منها. وقد يدفن السحر في موضع كمقبرة أو محل آخر ليؤثر من ذلك الموضع على المسحور. وقد يستعين بالخرز يسحر عليها، فتحبب المرأة إلى زوجها، وتسمى "التوِْلة".

وكما يستعمل السحر لاشعال نيران الحب في القلب، كذلك يستعمل لايقاد البغض والكراهية في النفوس. فقي استطاعة الساحر بما عنده من جنود مجندة ان يلقي البغضاء والكراهية والحقد في نفس أي شخص يود انساناً آخر، فينقلب مبغضاً حاقداً كارهاً لمن كان يحبه ويعشقه. ومجال هذا الباب واسع جداً للنساء خاصة.

وفي استطاعة الساحر مداواة العاشق وإماتة عشقه بوصفة يعطيها اليه تقضي على حبه الجامح قضاءً تاماً يسمونها "السلوانة" و "السلوان". وما هذه الوصفة إلا مادة ذات سحر عجيب يغتسل بها الإنسان أو يشربها، فتطفيء في الحال أو بعد أمد كل نيران الحب مؤججة في قلب العاشق.والسلوانة هي شيء من تراب قبر، أو خرزة تسحق ويشرب ماؤها ؛ فيورث شاربها سلوة. وتكون الخرزة شفافة، تدفن في الرمل فتسود، ثم تستخرج لسحقها وشربها، وقد يكتفى بصب ماء المطر على تلك الخرزة لسقي العاشق ذلك الماء الذي يسمونه "السلوان"، ليشفى من العشق. ولا بد أن يكون لاختيار الماء وتراب القبر أو مسحوق الخرزة في معالجة العشق، سبب يمكن تفسيره باًنه لغسل قلب المحب،وإماتة الحب فيه.

ومن أهم الأعمال التي يعالجها السحرة، اخراج الجن من المجانين فالجنون هو من عمل الجن. تحل الجنة بالإنسان فتأخذ عقله. ومن هنا قبل لهذا المرض "جنة" و "جنون". ومن واجب الساحر اخراج الجن من هؤلاء المرضى، وهو عمل يقوم به الساحر حتى اليوم،ويكون ذلك بضرب المريض بالعصا لإخراج الجنة منه. أو بسقيه بعض الأشربة السحرية، أو بتدليك جسمه وغسله،وبإدخاله محلاً مظلماً هادئاً يحرق فيه البخور، وبتعليق بعض العزائم والحجب وما شاكل ذلك لإبعاد الجن عن المجنون وإعادة عقله اليه.

ويداوي الساحر أمراضاً عديدة أخرى، بل كل أنواع الأمراض، وما المرض في نظر القدماء إلا أرواح شريرة حات في الأجساد أو بجزء منها، فألحقت بها الأمراض. ولن يشفى الجسد أو الجزء المصاب منه إلا بطرد تلك الأرواح. وطرد الأرواح من أعمال السحر. والساحر هو سلف من أسلاف الأطباء. وكلمة "طبيب" العربية هي من هذا الأصل. فالطب في اللغة السحر، و "المطبوب" هو المسحور، والطابّ هو الساحر يستخدم طبه في الشفاء. وقد أدخلت كتب الحديث السحر في "كتاب الطب". فالساحر هو طبيب يعالج أشياء عديدة، ثم تخصص الأطباء بالطب، غير ان الأطباء ظلوا يمارسون حتى في أوروبة السحر في معالجة مرضاهم مدة طويلة، إلى ان تطور العلم، وظهر البحث الحديث.

ويقوم أكثر مداواة المرضى بواسطة السحر بالنفث على المريض أو في فمه وبامساك الرأس أو الجزء المريض، لقراءة شيء عليه يضمن شفاءه، أو بتدليك ذلك الجزء منه. وقد يعطى حجباً وتمائم تشفي المريض من مرضه. والنفث في الفم من العادات الجاهلية القديمة، يقوم به الكاهن والساحر والأب في بعض الأحيان، لاعتقادهم ان ذلك سيلهم الطفل فيعلمه العلم والحكمة والذكاء وبمنحه الصحة الجيدة.

ومن طرق السحر عند الجاهليين، النفثُ في العُقد، وقد دلتّ عليه هذه الآية الكريمة: )ومن شر النفّاثات في العقد (. ويكون ذلك بعقد عقد والنفث عليها. ويذكر المفسرون في سبب نزول هذه الاية أن "لبيد بن أعصم اليهودي" سحر الرسول، ودس ذلك السحر في بئر "لبني زريق" تسمى "بئر ذروان" "بئر ذي أروان"، وأنه وضع ذلك السحر في جف طلعة تحت راعوفة، أي في قشر الطلع وتحت حجر في أسفل البئر. فلما استخرج السحر،وجدوه مشاطة رأس وأسنان مشطه،وإذا فيه معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر. ويقوم بهذا السحر الرجال والنساء. غير أن المفسربن وأهل الأخبار واللغة حينما يذكرون هذا النوع من السحر يذكرون أن النساء النفاثات هن اللواتي كنّ يقمن بذلك، أخذوا رأيهم هذا من الاية المذكورة التي تشير الى بنات لبيد وكنّ ساحرات،والاشارة في هذه الآية عن حادث معين، ولم يقصد بها الاطلاق.

والنفث في العقد، وعقد سبع عقد توضع فيها مادة السحر، من طرق السحر القديمة المعروفة عند العبرانيين والآشوريين وغيرهم. وقد عثر في الكتابات المسمارية على تعليمات في كيفية اتقاء شر الأرواح الخبيثة وأرواح الأموات الشريرة التي تسحر الناس، فكان مما جاء فيها عقد سبع عقد ووضع مادة سحرية فصلت في تلك التعليمات لاتقاء شر سحر تلك الأرواح.

ويذكر المفسرون وأهل الحديث ان الرسول لما سحره "لبيد بن الأعصم" من "بني زريق"، كان "يخيل اليه انه كان يفعل شيئاً وما فعله " حتى علم بسحر "لبيد"، فلما استخلصه من البئر، ذهب أثر ذلك السحر عنه.

وقد كان السحرة اليهود يقرأون شيئاً ويهمهمون عند عقدهم كل عقدة من هذه العقد، ويقال لذلك Ghabar. ومن هؤلاء اقتبس السحرة العرب طريقهم في النفث على العقد.

والمواد التي يستعين بها الساحر لعمل السحر عديدة. أوراق بعض النباتات والملح والبخور والدماء والعظام وقرون الحيوانات يدفنها أو يحرقها أو يذيبها في الماء. وفي كل سحر لا بد أن يشفع الساحر سحره بطقوس أو بحركات خاصة، وبتمتمة تلقي في الروع ان الساحر يقول شيئاً ويخاطب أشخاصاً هم الجن والتمتمة هي في الغالب كلام غير مفهوم عند الناس، ولكنه عند الساحر وجنوده الجن والشياطين كلام واضح بليغ.

ويعمد السحرة إلى الصور والرموز في سحرهم، ومنهم من كانوا لا يعرفون الكتابة ولا القراءة فيرمزون إلى من يريدون سحره، أو إلحاق الأذى به، أو يصورونه. وقد يشيرون بالصور والرموز إلى الجن والشياطن. وهم في الغالب يدفنون تلك الصور والرموز في المقابر، لأنها من أنسب الأماكن للسحر. وقد عثر على عدد من هذه الاشارات والصور السحرية. ومنها ما هو مكتوب بكتابات لها صور بالسحر.

إبطال أثر القوى الخفية

وقد حمل اعتقاد الجاهليين بوجود قوى خفية تؤثر في الإنسان، أهل الجاهلية على العمل على التغلب على تلك القوى أو الحد منها وايقاف فعلها وذلك بابتداعه طرقاً عديدة لذلك، مثل استعماله "النفرات" أو السحر، أو "الرقي"، أو التمائم، والتعاويذ وما شابه ذلك من أمور.

و "النفرة" شيء يعلق على الصبى لخوف النظرة. و "التنفير" الطرق التي يستعملها الإنسان لتنفير القوى الخفية وابعادها عنه. وطريقتهم في ذلك شبيهة بطرقهم في تنفير الثقلاء وغير المرغوب فيهم من الناس وابعادهم، وذلك باتخاذ كل ما ينفر ويقزز، لتعاف تلك الأرواح المواضع التي اختارتها والأشخاص الذين نزلت بساحتهم وحلت في أجسامهم، ومنها طريقة "التنجيس". وطريقتهم في ذلك تعليق الأقذار من خرق المحيض وعظام الموتى وأمثال ذلك على الصبي ومن يُخاف عليه عيون الجن،لاعتقادهم ان الجن سوف تبتعد عن هؤلاء وتهرب منهم. ويقال للمعوذ "المُنجسِّ"، وللشخص الذي عوّذ له "المُنجَّس". والتنجيس يشفي إلا من العشق.

واتخذ الجاهليون طرقاً عدة للتخلص من الجن، ولا سيما من الخطفة والنظرة،أي من خطف الجن للاطفال ومن حسدها لهم. فهداهم تفكيرهم إلى تعليق بعض الأشياء على الصبي، مثل سنّ ثعلب، أو سن هرة، وتقطير شيء من السوائل في عينيه عند الولادة لتنفير الجن منه. و تسمى هذه الأمور المنفرة للجن النفرات.

ومن النفرات التحايل على الجن بتغيير الأسماء، بتغريبها، كأن يسمى الصبي بأسماء بعض الحيوانات الصغيرة أو الأشياء التافهة الحقيرة، وبذلك تنفر الجن منه، فلا تقترب منه، ولا تمسه بسوء. "قال أعرابي لما ولدت قيل لأبي نفر عنه، فسماني قنفذاً وكناني أبا العدّاء".

التحصن من الجن

والاستعاذة بالجن تفيد أيضاً في نظر الجاهليين في حماية الشخص من أذاهم. فإذا استعيذ بعظيم الجن، استجاب العظيم نداء المستعيذ. فكان المسافرون إذا خافوا من طوارق الليل، عمدوا إلى وادٍ ذي شجر، فأناخوا رواحلهم،وعقلوها وخطوّا عليها خطاً ثم نادوا: نعوذ بعظيم هذا الوادي، أو نعوذ بصاحب هذا الوادي. فيستجيب عندئذ عظيم الوادي لنداء المستعيذ، فلا يسمح لأحد أن لحق به أذى.. وقد أشير إلى ذلك في القرآن: "وأنه كان رجاك من الإنسر يعوذون برجال من الجن، فزادوهم رهقاً". وذكر ان العرب كانوا إذا صاروا في تيه من الأرض، وتوسطوا بلاد الحوش، خاَفوا عبث الجنان والسعاف والغيلان والشباطين، فيقوم أحدهم فيرفع صوته: إنا عائذون بسيد هذا الوادي فلا يؤذيهم أحد، وتصير لهم بذلك خفارة.

ذبائح الجن

ولارضاء الجن واسكانها، وتجنب أذاها، قام الجاهليون بتقديم الذبائح لها. فاذا أراد انسان السكن في بيت جديد، أو استخراج الماء من بئر احتفرها أو من عين ماء، أو ما شاكل ذلك وخاف من وجود الجن فيها ذبح ذبيحة، يرضى بها الجن، فلا تتحرش عندئذ به ولا تصيبه بأذى،لأنه قد تقرب بالذبيحة اليها وبين فا انه صديق لها، فيعيش عندئذ. قرير العين في بيته الجديد، لابمس عماره بسوء. ويقال لهذه الذيائح: "ذبائح الجن". وقد نهى الإسلام عن ذبائح الجن. ورد انهم "كانوا اذا اشتروا دارأَ أو استخرجوا عيناً أو بنوا بنياناً، ذبحوا ذبيحة مخافة ان تصيبهم الجن، فأضيفت الذبائح اليهم لذلك. و "النّشُرة" سلاح مفيد جداً لحل عقد الرجل عن مباشرة أهله. وقد كانت مشهورة في أيام الرسول. وقد اباح العلماء "النشرة العربية التي لا تضر إِذا وطئت، وهي أن يخرج الإنسان في موضع عصاه، فيأخذ عن يمينه وشماله من كل، ثم يذيبه ويقرأ فيه، ثم يغتسل به". ويدل نعت هذه النشرة بالنشرة لعربية على وجود نشرات غير عربية، وهي النشرات الني كان يعملها اليهود. وقد كانوا يستعملون الأدعية العبرانية، لذلك نهى الإسلام عن استعمال تلك النشرات.

و "النُشرة" في تعريف علماء اللغة: رقية يعالج بها المجنون والمريض ومن كان يظن أن به مساً من الجن. وإذا نشر المسفوع كان كأنما أنشط من عقال، أي يذهب عنه سريعاً. وفي الحديث أنه سئل عن النشرة، فقال هي من عمل الشيطان. وقد أدخلها بعضهم في السحر، و "العوذة" ويقال لها "المعاذة" و "المعاذات"، تستعمل في التعويذ م الفزع والجنون. وتبعث تسميتها على الظن بأنها من المصطلحات الاسلامية، وانها أخذت تسميتها من المعوذتين. غير ان ورودها في مواضع عديدة من الحديث، واستعمالها في القرآن الكريم للتعبير عن فكرة معينة معلومة، يدلان على انها من المصطلحات التي كانت معروفة بين أهل "يثرب" حتى إن بعض الصحابة ذكروا انها نزلت للتعويذ. ومعنى "أعوذ" أعتصم و التجىء، فلا يستبعد ان يكون أهل يثرب على الأقل قد تعلموا ذلك من اليهود الذين كانوا يقرأون بعض التعاويذ من التوراة لحمإية أنفسهم من شر الأمراض.

و تستعمل "الرقية" في مداواة الآفات، مثل الحمى والصرع والنظرة ولدغات العقارب والحيات وأمثال ذلك، وتكون بقراءة شيء على المريض أو على موضع اامرض ثم النفث عليه، أو بحمل شيء مكتوب. وقد جاء في بعض الأحاديث جوازها في الإسلام، وفي بعضه النهي عنها. وقد ذكر الحديث ان الإسلام نهى عن الرقية التي تكون بلسان غير عربي، ويدل هذا على ان الجاهليين كانوا يذهبون إلى أهل الكتاب ولا سيما اليهود منهم، فيرقونهم بالعبرانية أو السريانية، ولذلك نهوا عنه. وقد عرضت بعض أنواع الرقية التي كان يستعملها أهل الجاهلية على الرسول لأخذ رأيه فيها، فأباحها لهم، وأباح لهم كل رقية ليس فيها شيء من ألفاظ الجاهلية.

وقد حفظت الكتب لنا أنموذجات فى بعض الرقى منها هذه الرقية التي استعملت في اشعال نيران الحب: "هوا به هوا به، اابرق والسحابة، أخذته بمركن. فحبه تمكن. أخذته بإبره، فلا يزل في عبره، جلبته بإشفى، فقبه لا يهدأ. جلبته بمبرد، فقلبه لا يبرد. فهذه ا الرقية تلهب قلب الرجل وتهيجه، وتجعله كأنه في إجانة غسل الثياب. يعمل على وفق ارادة المرأة التي استعملت تلك الرقية.

أما إذا سئمت المرأة زوجها، وأرادت الابتعاد عنه، وطرده عنها، فسبيلها في ذلك رقية تبعد الرجل، وتنفره منهما، وذلك بأن تقول: بأفول القمر، وظل الشجر، شمال تشمله، ودبور تدبره، ونكباء تنكبه، شيك فلا انتقش. فاذا أتمت ذلك، رمت في أثره بحصاة ونواة وروثة وبعرة. ثم تقول: حصاة حصت أثره، ونواة نأت داره، وروثة راثت خبره، لفعته ببعرة.

و "العزائم" الرقيّ، أو ضروب منها. يقال عزم الراقي، كأنه أقسم على الداء، وعزم الحوًاء، إذا استخرج الحية. كأنه يقسم عليها. والعزيمة من الرقي التي يعزم بها على الجن والأرواح. ومن اعتقادات الأعراب أن الجن لا تجيب صاحب العزيمة، حتى يكون المعزّم مشاكلاً لها في الطباع. وأن للمعزمين جنوداً من الشياطين والجن تتبع أوامرهم وتطيعهم وتخدمهم وتتصرف بين أمرهم ونهيهم.

ومن ضروب الرقية، ما يدعيه الحوّ اء من اخراج الحية من جحرها، بعزيمة يقوم بها،تجبرها على الخروج منه. وقد قالت بذلك الشعراء في الجاهلية والاسلام. وكانوا يؤمنون بذلك ويصدقون به. وقد أشير في شعر لأمية بن أبي الصلت، إلى اخراج الحية من جحرها. وقد تحدث "الجاحظ" عن ذلك، وعلل سبب خروجها وجاء بأبيات شعر في ذلك، وتحدث عن تمويه الحواء والراقيْ.

و "التمائم" ومفردها "التميمة"، هي عوذة على هيأة قلادة من سيور تضم خرزاً، وقد تكون من خرزة واحدة تستعمل للصبيان والنساء في الغالب اتقاء النفس والعين. فاذا كبر الطفل، انتزعت التميمة منه. وقيل: التمائم "خرزات كان الأعراب يعلقونها على أولادهم يتقون بها النفس والعين بزعمهم، فأبطله الإسلام". وذكر ان التميمة خرزة رقطاء تنظم في السير ثم يعقد في العنق. وكانوا يعتقدون انها تمام الدواء والشفاء. وقد أشير اليها في الشعر الجاهلي. وكانوا يستعملونها بكثرة، يتعوذون بها، لذلك عدها بعض الصحابة من الشرك، لأنهم جعلوها واقية من المقادير والموت وأرادوا دقع ذلك بها، وطلبوا دفع الذفى من غير الله.

وللخرز عند الجاهلين وعند الأعراب حتى اليوم، أهمية كبيرة في السر، وفي دفع أذى الأرواح والعين، وفي النفع والحب، وأمثال ذلك. ولما كانت الخرز فصائل وأنواعاً، فقد خصوا كل فصيلة باسم معين، وجعلوا لكل قسم وصنف أثراً خاصاً يمتاز به عن بقية الأصناف الأخرى. فالتولة مثلاً الخرزة التي تحبب المرأة إلى زوجها، و "العقرة" "خرزة العقر" خرزة تشدها المراة على حقويها لئلا تلد. يزعم الأعراب انها إذا علقت على حقو المرأة لم تحمل إذا وطئت. وقيل العكس: العقرة خرزة تعلق على العاقر لتلد. و "الينجلب" خرزة للتأخيذ، تفيد في رجوع الرجل بعد الفرار وفي اكتساب عطفه بعد وقوع بغضه. وكانوا يقولون أقوالاً في ذلك مثل: "أخذته بالينجلب، فلا يرم ولا يغب، ولا يزل عند الطنب، و "وأعيذه بالينجلب، ان يقم وان يغب". فهم يربطون الرجل بهذه الخرزة. فيجعلونه لا يفارق بيته وأهله.

و "الخَصُمة"، وهي خرزة للدخول على السلطان والخصومة تجعل تحت الخاتم أو في زر القميص أو في حمائل السيف. و "العطفة" هي خرزة تجلب العطف لصاحبها. و "السلوانة" خرزة تسحق ويشرب ماؤها، فيورث شاربه سلوة. وقيل: خرزة للتاخيذ، يؤخذ بها النساء الرجال، وقيل خرزة للبغض بعد المحبة، وقيل خرزة شفافة تدفن في الرمل، فتسود فيبحث عنها ويسقاها الإنسان فتسليه، أو يسقاه العاشق فيسليه عن المرأة. وقيل خرزة كانوا يقولون: اذا صب عليها ماء المطر، فشربه العاشق سلا.أو هو ان يؤخذ تراب قبر ميت: فيجعل في ماء فيسقى العاشق، فيموت حبه، أو هو دواء يسقاه فيفرحه. و "القرزحلة"، وهي خرزة من خرز الضرائر.

وكانوا يرقون بالخرز. فلخرزة "الهنمة"، رقية خاصة، هي: "أخذته بالهنمة، بالليل زوج وبالنهار أمة، وللقبلة و "الدردبيس"، وهي خرزة مؤثرة ذات قوة فعالة، يتحبب بها النساء إلى أزواجهن،تؤخذ من القبور العادية، أي القبور الجاهلية القديمة، رقية خاصة، هي: "أخذته بالدردبيس تدرّ العرق اليبيس، وتذر الجديد كالدريش". وقيل الدردبيس خرزة سوداء، كأن سوادها لون الكبد، اذا رفعتها واستشففتها رأيتهاا تشف مثل العنبة الحمراء للحب، تتحبب بها المرأة إلى زوجها، توجد في قبور عاد.

ومن خرزهم: "كرار"، خرزة تؤخذ بها نساء الأعراب. وقيل خرزة تؤخذ بها النساء والرجال. ورقيتها: "يا كرار كرّ يه، يا همرة اهمريه، ان أقبل فسريه، وان أدبر فضريه، من فرجه الى فيه". ومنها "الهمرة"، خرزة للتأخيذ. وهي خرزة الحب، يستعطف بها الرجال، ورقيتها: "يا همرة اهمريه، ويا غمرة اغمريه، ان أقبل فسرّ يه، وإن أدبر فضريه، من استه إلى فيه، وماله وبنيه، ومثلها "الهصرة"، خرزة للتأخيذ.

ومن الخرز المعروفة: "ااكحلة"، خرزة من خرزات العرب للتأخيذ، تؤخذ بها النساء الرجال. أو هي خرزة سوداء تجعل على الصببان للعين والنفس من الجن والإنس، فيها لونان بياض وسواد.

اصابة العين

كان للجاهلين رأي وعقيدة في العين وفي أثرها في الحياة، فهم يعتقدون بأثر العين وإصابتها. ولخطر هذه الإصابة وأهميتها، تفننوا في ابتداع وسائل الوقاية منها، وحماية أنفسهم من أثرها. وقد زعموا أن عيون بعض الناس تصيب، وانها ان أصابت شيئاً أهلكته، فان "ألعين" لا تنتج الا شراً، وهي لا تكاد تكون في خير مطلقاً. ولذلك تجنببوا "العائن" وابتعدوا عنه. و "العائن" و "المعيان" و "العيون" هو من تصيب عيونه. فكان أحدهم اذا ما اتصل بإنسان، وصادف أن نظر ذلك الإنسان إلى شيء أعجبه، أو رأى شيئاً لفت نظره، ثم صادف إن وقع مكروه لمن نظر اليه، أو إلى ما كان قد رآه "العائن"، نسب ذلك المكروه اليه، ورميِ باصبة العين، وقد يحدث من ذلك الرجل مثل ما حدث له مع من وقع المكروه عليه، فيرمى عندئذ بإصابة معين، وينبذه الناس خوفاً من اصابتهم بعينه. فيقال ان فلاناً لعيون: اذا.كان يستشرف للناس ليصيبهم بعين. ويقال لعيون انه لنفوس، وما أنفسه وقد أصابته نفس أو عين. ولا تقتصر ألاصابة بالعين على اصابة عيون الإنسان،فقد تصيب عيون الحيوان كذلك. وهناك حيوانات عديدة لها قدرة على الاصابة بعينيها مثل الحيات والثعلب والطاووس. وأكثر الحيوانات التي تكون لعيونها بريق أو لمعان خاص، هي من هذا القبيل. وقد حمل هذا الاعتقاد بعض الناس على التخوف من تلك الحيوانات والابتعاد عنها، بل بلغ الخوف ببعضهم ان امتنعوا من ذكر اسم أمثال تلك الحيوأنات أوُ تهجي حروف أسمائها خشية العين. والكلاب من الحيوانات التي تصيب بعونها. ورد عن "ابن عباس" قوله: الكلاب من الجن، فان غشيكم عند طعام، فالقوا لهن فان لهن أنفساً أي أعيناً. ولخوفهم من اصابة عيون الحيوان كرهوا ألأكل بين يديها. فكانوا إما ان يشغلوها عن النظر اليهم بشيء يرمونه لها لتأكله، ولو بعظم وإما ان يطردوها، فيتخلصوا من اصابتهم بعيونها.

ويعبر عن العين التي تصيب المعين" ب "النفس". يقال نفسته بنفس، أي أصبته بعين، وأصابت فلاناً نفس، أي عين. وفي الحديث "انه نهى عن الرقية إلا في النَّملة والحُسَة والنفس، أي العين". و "النافس" العائن، والمنفوس المعيون. و "النفوس: العيون الحسود المتعين لأموال الناس ليصيبها، وما أنفسه، أي ما أشد عينه.

و "السفعة" العين. ورجل مسفوع، أي معيون أصابته سفعة، أي عين. ويقال به سفعة من الشيطان، أي مس،كأنه أخذ بناصيته. و يعبر عنها ب "النظرة" كذلك. وقيل: النظرة الإصابة بالعين والسفعة العين. و "النظرة" الغشية أو الطائف من الجن، وقد نظر،فهو منظور، أصابته غشية أو عين. وفي الحديث أن النبى، صلى الله عليه وسلم، رأى جارية، فقال: ان بها نظرة، فاسترقوا لها. قيل معناه: ان بها اصابة عين من نظر الجن اليها وكذلك بها سفعة. وقد يخصصون "النظرة" بإصابة عين الجن.

وللحاسد نفس على المحسود. وقد يصل نفس الحاسد إلى حد الإهلاك. والعائن ربما لا يتعمد الأذى، انما عينه هي التي تصيب بمجرد المقابلة أو وقوع النظرة على الشيء، ولذلك كان أذاه عند المقابلة ووقوع عين العائن على المعيون.أما الحاسد، فإنه يصيب في النية وفي الحضور، لأن عينه تنفذ وتصل إلى المحسود، وان كان غاضباً عن الحاسد، ولخطر الحسد وشدة أذاه، اتخذت الوسائل الخاصة بمقاومةعيون الحسود.

ولحماية النفس من العين، استعملت الخرز والتعاويذ والرقي. ومن إلخرز التي استخدمت في حماية الأطفال من اصابة العين، "الكحلة"، وهي خرزة سوداء تجعل على الصبيان لدفع العين عنهم. و "القبلة"، وهي خرزة بيضاء تجعل في عنق الفرس من العين.

و "الودعة"، تفيد في دفع أذى العين عن الإنسان. وذكر انها مما يقذفه البحر، وهي تتتفاوت في الصغر والكبر، وهي خرزة تثقب وتتخذ منها القلائد" وللحماية من العين.

الفصل الخامس والثمانون
في اوابد العرب

وهي أمور كانت العرب عليها فْي الجاهلية بعضها يجري مجرى الديانات، وبعضها يجري مجرى الاصطلاحات والعادات، وبعضها يجري مجرى الخرافات، وقد كانت قد هيمنت وسيطرت على عقليتهم، ولا سيما تلك الأمور التي كانت تتصل بحياتهم، كالكهانة والحداسة والرقية والتنجيس والتنجيم، وغير ذلك مما له علاقة بحياة الإنسان حتى قيل انهم كانوا "بين متكهن وحدّاس وراق ومنجس ومتنجم"

للكهانة

وفي طليعة بعض الناس الموهوبين بما لهم من قدرة خفية خارقة والهام، الاتصال بالالهة وبالأرواح، واللاستئناس بها والأخذ منها، والحصول على علم غزير منها يتعلق بالمستقبل عامة ومستقبل كل إنسان خاصة، أو التأثر عليها بصرف الخير إلى شخص ودفع الأذى عنه،وبتوجيه الشر إلى شخص يراد توجيهه اليه وإيذاؤه. ويقال للاتصال بالآلهة أو الأرواح لمعرفة المستقبل والتنبؤ عما سيحدث: "الكهانة" "Divination، ويقال لمن يقوم بذلك الكاهن. أما الذي يزعم أن في امكانه التحكم في الأرواح وتوجيهها الوجهة التي يريدها، فيقال له "ساحر" ويقال لعمله "السحر". وتقابل كلمة "السحر" في العربية،كلمتا Magic و، Sorcery، في الانكليزية.

والكهانة في اللغة العربية تعاطي الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ومعرفه المغيبّات والأسرار، وتقابل بهذا التعريف في العربية كلمة "Soothsayer، في الانكليزية. وتقابل كلمة "كاهن" لفظة "كوهين"، " "Kohen، في العبرانية و "كهنا"، Kehna، في لغة بني إرم، و.كلها من الأصل السامي القديم.

ومن مرادفات الكاهن: "الطاغوت". ولهذا التفسير فسر العلماء قوله تعالى ) فمن يكفر بالله ويؤمن بالطاغوت (. قالوا: الطاغوت: الكاهن. وهم كهان تنزل عليهم شياطين يلقون على ألسنتهم وقلوبهم. والطواغيت التي كانوا يتحاكمون اليها، كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد وهم كهان تنزل عليهم الشياطين. وذكر بعض علماء التفسير ان الطاغوت: الشيطان في صورة انسان يتحاكمون ايه. وقد وردت اللفظة في موضع آخر من القرآن الكريم بعد لفظة الجبت، اذ جاء في التنزيل: ) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبأَ من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت (. وقد ذكروا ان الجبت السحر والساحر، بلسان الحبشة والطاغوت الكاهن وان الجبت والطاغوت صنمان، أو ان الجبت الأصنام والطاغوت تراجمة الأصنام، والذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس،أو ان الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضع له، كائناً ما كان ذلك المعبود من حجر.أو انسان أو شيطان. وإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها كانت معظمة بالعبادة من دون الله، فقد كانت جبوتاً و طواغيت، وكذلك الشياطين اليّ كانت الكفار تطيعها في معصية الله،وكذلك الساحر والكاهن اللذان كانا مقبولاً منهما ما قالا في أهل الشرك بالله، وكذلك حبي بن أخطب وكعب بن الأشرف لأنهما كانا مطاعان في أهل ملتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين.

وذكر علماء التفسير في قوله تعالى.: )ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك، وما أنزل من قبلك يريدرن أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به. ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً (، ان الطاغوت الكاهن الذي كان يحكم بين الناس، ويتحاكمون له. وأنها نزلت في حق يهودي اختصم مع مسلم، فكان المسلم أو المنافق يريد الاحتكام الى الكاهن، وكان اليهودي يدعو إلى النبي أو المسلمين، لأنهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة، أو إلى كاهن بالمدينة، أو إلى كعب بن الأشرف، فنزل الوحي بتوبيخ ذلك المسلم أو المنافق.

والتكهن عن المستقبل والتحدث عن الماضي، موضوع له فروع عديدة. وقد عدّ علماَ من العلوم عند كثير من الأمم. وألفوا فيه. وتنبؤ الأصنام هو نوع من هذه الأنواع. ويدخل في التكهن التنبؤ بواسطة وسيط: مكالمة صنم، أو "تابع" أي "ريب"، وقراءة كبد الشاة وقراءة أعضائها كما كان عند البابليين وعند المصريين. والتكهن بحركات الطيور، وتفسير الأحلام. وتفسير بعض الظواهر ااطبيعية وما شابه ذلك وكل هذه كانت معروفة عند الجاهلين. وليس من الضروري ان يكون التكهن بتكليم الصنم حتماَ وفي المعبد بالضرورة، فقد كان من الكهان من يقيم في بيته ويتكهن مع فلك للناس، ينطق بما يوحى اليه ومما يشعر به. وقاصدوه يرون ان فبه قوة خارقة وقابلية لتلقي الوحي من تلك القوة التي يتصورونها على هيأة شخص غير منظور يلقي الى الكاهن الوحي، فينطق بما يناسب المقام وبما يكون جواباً،على الأسئلة التي توجه اليه. ويطلقون على ذلك الشخص الخفي اسم "تابع" أو "صاحب" أو "مولى" و "ولي" و "رئي"، لأنه يكون تابعاً وصاحباً للكاهن، يتبعه ويصاحبه ويلقي اليه "للرئي". يكشف له الحجب وياًتيه بالأسرار. فهو "حاز" و "حز+اء" و "حازية" و "الراتي" في العهد القديم.

وكان من رأي الجاهليين ان هناك وحياً يوحى إلى الكاهن بما يقوله، وقد قالوا لذلك المصدر الذي يوحي اليه: "شيطان الكاهن"، كما قالوا للمصدر الذي يوحي إلى الشاعر بوحي شعره: "شيطان الشاعر"، فذلك لأن شيطان الكاهن يسترق السمع ويلقي به إلى الكهنة. يسترقه من السماء، فيأتي به إلى الكاهن ويلقي ما استرقه اليه، فيلقي الكاهن ما أ القى عليه شيطانه إلى الناس، وبذلك يتنبأ لهم. "سأل رسولَ الله، صلى الله عليه وسلم، ناسٌ عن الكهان، فقال: ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول اللّه، انهم يحدثونا أحياناً بشيء، فيكون حقاً، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق، يخطفها من الجني فيقرها في اذن وليه، فيخلطون معها مئة كذبة.

وقد وردت كامة "كاهن" في القرآن الكرم في معرض الرد على قريش الذين اتهموا الرسول بأنه "كاهن"، وبأنه يقول القرآن على نمط سجع الكهان. فجاء فيه: ) فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون(، و )إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن، قليلاً ما تذكرون(. فرد عليهم بقوله: ) ما هذا القرآن بقول شاعر، لأن محمداً لا يحسن قيل الشعر، فتقولوا هو شعر، قليلاً ما تؤمنون. يقول تصدقون قليلاَ به أنتم، وذلك خطاب من الله لمشركي قريش. ولا يقول كاهن، قليلا ما تذكرون. يقول ولا هو بقول كاهن، لأن محمداً ليس بكاهن، فقولوا هو ممن سجع الكهان. فكان للكهان أسلوب خاص في كلامهم عند التنبؤ والتكهن هو أسلوب للسجع. ولذلك عرف ب "سجع الكهان". وقد امتاز سجعهم هذا باستعمال للكلام الغامض، والتعابير العامة للغامضة التي يمكن تفسيرها تفاسير متناقضة ومختلفة. وهو أسلوب تقتضيه طبيعة التكهن، لكي لا يلزم الكاهن على ما يقوله من قول ربما لا يقع، أو قد يقع العكس. ففي مثل هذه الحالة، يمكن أن يكون للكاهن مخرج " باستعماله هذا النوع من الكلام.

وقد ورد أن الرسول نهى عن محاكاة الكهان في سجعهم، فذكر عنه قوله: "أسجعٌ كسجع الجاهلية" ويذكر أهل الأخبار أن "تابع" الكاهن، وهو شيطانه وجنيهّ،كان يسترق في الجاهلية الأخبار من السماء، فيلقي بها إلى الكاهن المختص به. فيخبر الكاهن من يأتي اليه للكهانة. بقواعلى ذلك إلى ظهور النبوة، فلما نزل الوحي انقطعت الكهانة، إذ وجد الشياطن الذين كانوا يسترقون السمع لهم شهاباً رصداً. وقالوا إن قوله تعالى: )واناّ لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً، وأنّا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يسممع الآن يجد له شهاباً رصداً (، إنما عنى به هذا الحادث، حادث منع الشياطن من استراق السمع.

ويذكر أهل الأخبار أيضاً ان " ألقذف بالنجوم قد كان قديماً، وذلك موجود في أشعار القدماء من الجاهلية. منهم: عوف بن الجزع، وأوس بن حجر، وبشر بن أبي خازم، وكلهم جاهلي. وقد وصفوا الرمي بالنجوم. وان من عقائد أهل الجاهلية في تساقط النجوم والشهب دليل على موت عظيم أو ميلاد مولود عظيم. وذكر ان الرسول كان جالساً مع قومً من الأنصار إذ رمي بنجم فظهر نوره، فقال لهم: ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به في الجاهلية ? قالوا: يا رسول الله كنا نقول حين نراه يرمى به مات ملك، ولد مولود وقد جعل "المسعودي" حدة الأذهان مع نقصان الأجسام وتشويه الخلق، من جملة العوامل التي دفعت على التكهن والإخبار عن الغيب. وضرب مثلاً على ذلك: شق، وسطيح، وسملقة، وزوبعة، سديف بن هوماس، وطريفة الكاهنة، وعمران أخي مزيقياء، وحارثة، وجهينة وكاهنة باهلة وأشباههم من الكهان،وقد يلحق التابع من الجن أشخاصاً لم يشتهروا بالكهانة وإنما عرفوا بشدّة ذكائهم ومعرفتهم بعواقب الأمور،مثل احيحة بن الجُلاح وكان م اشراف المدينة، وقد اشتهر عندهم بكثرة صوابه وسرعة ادراكه للعواقب. فعللوا ذلك بوجود تابع له من الجن كان يعلمه المغيبات.

قال "الجاحظ": "وكانوا يقولون، إذا ألف الجني إنساناً وتعطف عليه، وخبره ببعض الأخبار، ووجد حسه ورأى خياله، فإذا كان عندهم كذلك قالوا: مع فلان رئي من الجن. ومن يقولون ذلك فيه عمرو بن لحي بن قمعة، والمأمور للحارثي، وعتبة بن الحارث بن شهاب.

فاما الكهان، فمثل حارثة جهينة، وكاهنة باهلة، وُ غزى سلمة، ومثل شق وسطيح وأشباههم.

والكهان يرون تابعهم، وقد يتجلى لهم في صورة إنسان. ويظهر على صورة رجل للكواهن كذلك. فقد كان للغيطلة، وهي مما ما يزعمه أهل الأخبار كاهنة أبوها مالك بن الحارث بن عمرو بن الصعق بن شنوق بن مرّة، وشنوق أخو مدلج، تابع يفد اليها، ويدخل غرفتها، ويجلس، تحتها. كما كان لفاطمة بنت النعمان النجارية، وهي كاهنة كذلك، تابع من الجن كان إذا جاءها، اقتحم عليها في بيتها. فلما كان في أول البعث،أتاها، فقعد على حائط الدار ولم يدخل، فقالت له: لَمَ لا تدخل ? فقال: قد بعث نبي بتحريم الزنى ْ.

فالكاهن اذن، هو الذي يتنبأ بواسطة تابع، ولا يستطيع غير الكاهن رؤية التابع. وتكون الكهانة كلاما يلقيه الكاهن لنفسه، أو تابعه، جواباً عن أسئة الكاهن. ولما كان التابع روحاً،.كان من الطبيعي تصور صدور ذلك الكلام من روح لا يمكن لمسها ولا رؤيتها، ترى وتسمع وتعقل، وتجيب ما يطلب منها الاجابة عنه.

ويكون الكاهن في أثناء تكهنه في غيبوبة أو في شبه غيبوبة في الغالب، ذلك بأنه متصل في هذه الأثناء بعالم مجهد صعب لا يتحمله كل انسان، ولاتصال الروح فيه، واتصال الروح بجسم الكاهن شيء جد عسير، يتصبب العرق منه. خاصة اذا كان المتكلم الكاهن نفسه.

ويكون التكهن، في الغالب، في مكان هادىء تكتنفه ظلمة أو عتمة، لأن للهدوء والظلام أثرأ عظيماً في النفوس، ويسبقه حرق بخور في الأكثر يستمر إلى ما بعد انتهاء التنبؤ، لأن البخور من الروائح الطيبة التي تؤثر في الأرواح، فتجلبها إلى المكان بسرعة. ثم إن له تأثيراً خاصأَ في الأعصاب، وهو بذلك مادة صالحة في الايحاء لمن يقصد استشارة الكهان.

ويروي الأخباريون ان الناس كانوا اذا قدموا على الكهان امتحنوهم ليتأكدوا من صدق تكهنهم ومقدار علمهم. وذلك باخفاء شيء اخفاء لا يمكن الاهتداء اليه، أو بوضع لغز، أو ما شابه ذلك، فيبدؤون، الكاهن بالسؤال عنه. فاذا أجاب جواباً دل على معرفة وسعة علم، سألوه عن الأمر الذي عندهم والذي من أجله قصدوه. ويكون لهؤلاء الكهان أجر يدفع اليهم. والعرف الغالب ان الكهانة لا تكَون ولا تصح إلا بتقديم شيء للكاهن، لأن التابع لا يرضى بالتنبؤ إلا اذا رأى حلاوة للتنبؤ.

ومن قبيل الامتحانات التي امتحن بها الكهان، امتحان "عتبة بن ربيعة" إلى بعض كهان اليمن ليتأكد من صدق تكهنه قبل النظر في أمر اختلاف ابنته "هند" مع زوجها "الفاكه بن المغيرة " في فرية رماها "الفاكه" زوجته بها. وامتحان "عبد المطلب" للكاهن "ربيعة بن حذار الأسدي" حين اختصم مع "بني كلاب وبني رباب"، وامتحان "الكاهن ااخزاعي" وغير ذلك.

وما يعطاه الكاهن ويجعل له على كهانته، يقال له "الحُلوان" و "حلوان للكاهن"، وهو شيء غير معين ولا ثابت، انما يتفق عليه، والرأي الشائع بين العامة حتى الان أن الكهانة لا تصدق إذا لم يعط الكاهن أو الساحر "حلوانه" لآن ما يقدم إلى الكاهن لا يخصه ولا يكون له إنما هو للرئي، والرئي لايقوم بعمله ولا يحسن أداءه إلا بحلوان، يقبله مهما كان، وعلى الكاهن استشارة "التابع " ومراجعته فيه حتى يقنع، ويوافق على الأجر. ولما كان الإسلام قد منع الكهانة، كان من الطبيعي نْهيه عن دفع الحلوان.

والكهّان إنما صاروا كهاناً، أي متنبئين بالغيب، لأن "الكهنة قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شريرة، وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم اليه. وهذا هو تعليل إسلامي بالطبع لمصدر تنبؤ الكهان، أما رأي الجاهلين عنه، فلا علم لدينا عنه، لعدم ورود شيء منهم الينا.

وتقدم الكهانة على القدرة الشخصية وعلى ذكاء الكاهن،لذلك لم تكن كالسدانة مثلاً إرثاً ينتقل من الآباء إلى الأبناء، بل كان في إمكان كل شخص يرى في نفسه القدرة على التنبؤ بالغيب والتحدث عما سيحدث للسائلين ان يدعي الكهانة وان يعد نفسه كاهناً يتكلم باسم الأرباب، وينطق بالقوة الخفية التي توحي اليه بالتنبؤات، فيتخذ له مكاناً في معبد أو في موضع اخر أو في بيته ليقصده من يريد استشارته في عظائم الأمور مهما اختلفت وتنوعت عن المستقبل وعن الأخبار وعن الأسرار والمغيّبات وعن القيام بعمل من الأعمال.

وفي الأقوال المنسوبة إلى الكهان، قسم بالكواكب كالشمس والقمر وبالنجوم وبالليل وبالنهار وبالأشجار وبالرياح والكلمات وبالجبال والأنهار وبالطيور ومما شابه ذلك أمور طبيعية الغرض منها التأثير في نفوس السامعين والأغراب في الكْلام، ليكون بعيداً عن الأسلوب الماًلوف. وقد روى الأخباريون نماذج من هذا الكلام، من هذا السجع المعروف ب "سجع.الكهان"، نسبوه إلى أصحابه من كهان الجاهلية. وهي نسبة مهما حاولوا اثبات صحتها وصدق روايتها، فانهم عاجزون في رأيي عن اقناعنا بصحة ما يقولون. كيف حفظوا ذلك الكلام وتناقلوه بالحرف الواحد بوزنه وبأسلوبه وبنصه وبفصه إلى أن أوصلوه إلى أيدي العلماء والمدونين فثبتوه بالتدوين ? وكيف لم يخطئوا في ذلك ولم ينسوا منه حرفاً، حتى لكأنه كلام مقدس وارد عن وحي سماوي، فلا بد من المحافظة على نصه وروايته على نحو ما ورد وحفظ ? واذا كان العلماء قد تساهلوا في رواية متن حديث رسول الله فسمحوا بالتصرف فيه بشرط المحافظة على المعنى محافظة تامة، لصعوبة التمسك برواية النص على نحو ما ورد عن الرسول. فكيف يعقل محافظة الرواة على حرفية كلام الكهان على نحو ما نسب اليهم. وكلام الكهان ليس بشيء بالقياس إلى كلام الرسول، ثم انه أقدم منه، ولم يكن مدوناً ولا مكتوباً في كتاب على ما يفهم من روايات الأخباربين.

وقد كان للكهان على ما يتبين من قصص الأخباريين أثر كبير في حياة العرب قبل الإسلام. فقد كان الناس يستشيرونهم في إبرام مهمات الأمور، كإعلان حرب أو كشف عن جريمة أو بحث عن شيء مفقود وما شاكل ذلك. لقد كانوا يستشيرونهم في الحروب، يتنبؤون للناس يقرب حدوث غزو أو نزول كارثة أو خير سيقع قريباً، لقد كان هجوم بني أسد على "حجر" بمشورة الكاهن وبرأيه، وكان تركهم تميماً وافتراقهم عنهم في يوم جبلة بتحذير من الكاهن كذلك. وقد استعان النعمان أو يزيد بن عمرو الغساني بالكاهن "الخمس التغلبي"، لاخباره عمن تجاسر على ناقته فقتلها، كما استعان "عتبة بن ربيعة" في اثبات نسب ابنته "هند" منه.

وقد اشترك الكهان أنفسهم في الغزوات وفي الحروب. وكانوا يشجعون قومهم ويحثونهم على القتال، وكان بعضهم من مشاهير الفرسان، مثل "زهير بن جناب"، و "جذيمة" العبهي، وقلطف الكاهن، والمأمور كاهن مذحج.

ولم يكن الكهان من الطبقات الدنيا عند عرب الجاهلية، ولا من سواد الناس. لقد كان منهم من هو من سادة القبيلة ومن الأشراف. ولا بد أن يكونوا من هذه الطبقة، ليكون حكمهم نافذاً بين الناس بما لهم من عز ومنزل وجاه. وقد عد الأخباريون "زهير بن جناب" رئيس كلب في جملة الكهان. وقد كان للقبائل "كهان" تلتجىء اليهم في الملمات، لتستشيرهم وتعمل برأيهم في الغزو والحرب. يسيرون معها، وقد يقودونها في المعارك.

وقد كان لكل قبيلة كاهن منها أو عدة كهان،تلتجىء القبيلة اليهم لاستشارتهم في كل أمر عظيم يحدث لهم. ولا يشترط ان يكون كاهن القبيلسة رجلاَ، إذ يجوز ان يكون امرأة. وكان كاهن ثقيف "قريش" عند ظهور الإسلام رجلٌ يقال له "خطر"، وكان لجنب كاهنهم كذلك، وكان لقريش حين ظهور الإسلام كاهنة تدعى سوداء بنت زهرة بن كلاب"، وهكذا كان شأن بقية القبائل. فلما ظهر الإسلام، ودّع اولئك الكهان رئيهم وتابعهم، وكهانَهم، إذ نهى الإسلام عنها. وقد كان لبعضهم أثر مهم في إعداد قبائلهم للدخول في الإسلام.

وقد أشار بعض الكتبة الكلاسيكيين إلى وجود كهان عند العرب، كما انه ورد في كتابات طور سيناء ما يدل على وجودهم عند القبائل.

ولم يكن الكاهن، كاهناً، بمعنى المخبر عن المغيبات فقط، بل كان حاكماً يحكم بين الناس فيما يقع بينها من خلاف. فالكاهن حاكم يفصل في الخصومات. وقد كان أكثر حكام العرب كهاناً، يقصدهم المتخاصمون من مواضع بعيدة لما عرفوا، به من اصالة الرأي، وصحة الحكم.

وفد ذكر أن الكاهن كان لا يلبس المصبغ أما العراف فإنه لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه، ويدل ذلك على أنهما كانا يميزان أنفسهما بمميزات وعلامات وأنهما كانا يتجنبان بعض الأمور.

وقد اشتهر في الجاهلية عدة كهان ذكر الأخباريون أسماءهم، منهم: شقّ، وسطَيح، وأوس بن ربيعة، والخمس التغلبي، وعُزى سلمة الكاهن، ونفيل ابن عبد العزي، وخنافر بن التوأم الحميري، وسواد بن قارب الدوسي،وعمرو ابن الجعيد، وابن الصياد، والأبلق الأزدي، والأجلح الدهري، وعروة بن زيد الأزدي، ورباح "رياح" بن عجلة، وهو المعروف بعراف اليمامة، والكاهن الخزاعي، وهو جدّ "عموو بن الحمق"، وكان منزله بعسفان، واليه احتكم هاشم وأمية " و "كهال"، أحد الكهنة الجاهليين.

وأشهر الكهان وأعرفهم: شق وسطيح، وللاخباريين عنهما قصص أخرجهما من عالم الواقع، وجعلهما في جملة الأشخاص الخرافيين. فشق في زعمهم إنسان له يدٌ واحدة وعين واحدة، وجعلوه من المتشيطنة صورته صورة نصف آدمي. وذكروا أنه كان معاصراً لمالك بن نصر اللخمي، وأنه استدعاه واستدعى سطيحاً معه لتفسير رؤيا رآها أفزعته، وأنهما أخبراه بوقوع غزو الحبشة لليمن وبظهور سيف بنْ ذي يزن. وقالوا: إنه من بني جليخة، وأنه عمر ثلاثمائة سنة. وقالوا ان سطيحاً كان كتلة من لحم يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة، وأن وجهه في صدره.، ولم يكن له رأس ولا عنق، وكان في عصره من أشهر الكهان، وان كسرى بعث اليه عبد المسيح في بن بقيلة الغساني ليسأله في تأويل رؤيا رآها، فأخبره بظهور أمر رسول الله وبقرب زوال ملك العجم، فأخبر "عبد المسيح " كسرى بذلك.

وزعم ان سطيحاً جسد ملقى لا جوارح له، ولا يقدر على الجلوس، إلا اذا غضب انتفخ فجلس. وكان شق شق انسان، له يد واحدة، ورجل واحدة وعين واحدة. وولد سطيح وشق في اليوم الذي ماتت فيه طريفة الكاهنة، امرأة "عمرو بن عامر"، وهي بنت الخير الحميرية، ودعت بسطيح قبل ان تموت، فأتيت به، فتفلت في فيه، وأخبرت انه سيخلفها في علمها وكهانتها. وكان وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق، ودعت بشق ففعلت به ما فعلت لسطيح، ثم ماتت وقبرها بالجحفة وقد ذكر "المسعودي"، نسب الكاهن "شق" على هذا النحو: "شق ابن مصعب بن شكران بن أترك بن قيس بن عنقر بن أنمار بن رييعة بن نزار". وذكر نسب "سطيح" على هذه الصورة: "هو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان، ودعاه ب "سطيح الغساني" في موضع اخر، وأورد سجعاً من سجعه، كما أورد أخباراً لشق المعاصر له. وقد دعاه "الجاحظ" ب "سطيح الذئبي"، كما دعاه "ابن اسحاق" بذلك، لأنه ينسب إلى جد اسمه "ذئب".

واذا كانت رواية أهل الأخبار عن وجود الكاهن "سطيح صحيحة، فيجب أن يكون قد عاش في القرن السادس للميلاد، اذ هم يذكرون أنه كان معاصراً لكسرى أنو شروان، وللنعمان بن المنذر، ويروون أنه أخبر "عبد المسيح بن حسان"،0 الذي جاء اليه ليستفسر منه عن رؤيا رآها كسرى في منامه فازعجته، فأخبره بمولد الرسول. وذكروا أيضاً ان كسرى كان يستعين في حكمه بالكهان، فيستشيرهم، وانه كان لديه ثلثمائة وستون كاهناً وسحرة ومنجمين، وكان، من بينهم كهنة من العرب وأشهرهم: السائبْ.

وذكر بعض، أهل الأخبار " أن خالد بن عبدالله القسري كان من ولد شق هذا. فهو خالد بن عبدالله بن أسد بن كرز. وذكر أن كرزاً كان دعياً، وانه كان من اليهود فجنى جناية، فهرب إلى بجيلة، فانتسب فيهم. ويقال كان عبداً لعبد القيس وهو ابن عامر ذي الرقعة. وسمي بذي للرقعة، الأنه كان أعور يغطي عينه برقعة ابن عبد شمس بن جون بن شق الكاهن بن صعب" ويظهر أن أعداء "للقسري"، قد أوجدوا له هذه للقصة للحط منه،كما أوجدوا قصصا شبيها بهذه القصة، حكوها عن ثقيف، نكاية بالحجاج المكروه.

والى هؤلاء تجب اضافة "الأفعى الجرهمي"، وكان منزله بنجران، واليه احتكم ولد نزار في إرث والدهم.

ورووا ان الكاهن "الخزاعي" كان من الكهان المعروفين واليه تحاكم "أمية بن عبد شمس" و "هاشم بن عبد مناف في أمر مفاخرتهما، فحكم لهاشم على أمية، فخرج الى الشام وأقام بها عشر سنين. وانه قال في حكمه كلاماً مسجعاً ختمه يقوله: ولأمية أواخر، فكانت أول عداوة بين بني هاثم وبني أمية. وهكذا جعلوه يتنبأ بظهور ملك بني أمية. وربما كان هذا الملك هو الذي أوحا إلى مفتعل القصة بابداع موضوع اختيار "امية" الشام لتكون داراً له أقام بها مدة نزاعه مع هاشم، فحكم ان الملك عليها كان مكتوباً لبني أمية منذ عهد الجاهلية.

وتشبه هذه القصة، قصة شك "الفاكه بن المغيرة، في سيرة زوجه "هند بنت عتبة ين ربيعة"، وتكلم الناس فيها، وذهاب والدها وزوجها بها إلى كاهن من كهان اليمن، فلما امتحنه عتبة، وتبين له ان الكاهن حاذق لايخطىء قال له: قد جئناك في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يأتي إلى كل واحدة منهن ويضرب بيده على كتفها، ويقول لها: انهضي " حتى بلغ هنداً. فقال: انهضي غير رسحاء ولا زانية وستلدين ملكاً اسمه معاوية، فنهض اليها الفاكه، فأخذ بيدها، فجذبّ يدها من يده، وقالت اليك عني، فوالله لأحرص ان يكون ذلك من غيرك فتزوجها أبو سفيان، فولدت له أمير المؤمنن معاوية"،. وهي قصة تتحدث عن نفسها، ولا حاجة لي إلى ابداء اي تعليق عليها.

وكان "صاف ين صياد" يتكهن ويدعي النبوة. وخبأ له النبي خبيئا ًفعلمه. وكان يدعي أن شيطانه كان يأتيه بما خفي من أخبار الأرض. ويذكر ان الرسول سأله: كيف يأتيك هذا الأمر ? قال: يأتيتي صادقاً وكاذباً. وأن رسول الله ذهب اليه ليرى أمره وكان "ابن صياد" في نخل، فكلمه رسول الله. وذكَر أنه انطلق مرة مع "عمر بن الخطاب" في رهط قبل ابن صياد، فوجده عند "أطم بني مغالة".

وكان في بني لهب كاهن لهم يقال له خطر بن مالك. وكان في أيام الرسول. وكان اذ ذاك شيخاً كبيراً. وكان "أبو برزة" الأسلمي من ألكهان المعروفين في المدينة أيام الرسول،:قد تحاكم اليه بنو قريظة وبنو النضير في أمر الديات التي كانت بينهماْ.

وذكر أن "خطر بن مالك" كان من أعلم كهان "بني لهب"، وأنهم كانوا يأتونة في الملمات،أتآ عليه مائتا سنة وثمانون سنة، وقد تنبأ لقومه بانقطاع الكهانة وظهور الرسول بمكة حين سألوه عن سبب تساقط النجوم في السماء.

وكان في دوس كاهن اسمه سواد بن قارب الدوسي أو السدومي. وقد وفد مع وفد من قومه على الرسول وأسلم معه أمامه. وكان له رئي يأتي اليه. وذكر أهل الأخبار انه كان حاذقاً في الكهانة، مصيباً بها،"خرج خمسة نفر من طيء من دور الحمى،منهم: برج بن مسهر، أحد المعمرين، وأنيف بن حارثة، ولأم عبدالله بن سعد والد حاتم وعارف الشاعر، ومرة بن عبد رضا،يريدون سواد بن قارب ليمتحنوا علمه، فقالوا: ليخبىء كل منا خبياً ولا يخبر أصحابه، فان أصاب عرفنا علمه،وان أخطأ ارتحلنا عنه. ثن وصلوا اليه فأهدوا اليه إبلاً وطرفاً، فضرب عليهم قبة ونحر لهم،فما مضت ثلاثة أيام دعاهم، فتكلم برج، وكان أسنهم فذكر القصة بجميع ما خبأوه ثم بمعرفته بأيمانهم وأنسابهم فقال فيه عارف الشاعر: الـلـه أعـلـم لا يجــارى  إلى القالات في حصني سوادٍ 

كأن خبيئنا لما انـتـخـبـنـا  بعينـه يصـرح أو ينـادي

ومن الكهان المعروفين "الحصين بن نصاة" وقد عرف ب "الكاهن"، وقيل: إنه سيد أهل تهامة في أيامه. و "عمرو بن إلحمق"، وقد أسلم وصحب النبي، وشهد المشاهد مع علي.

وكان "ربيعة بن حُذار الأسدي" من الكهان المعروفين، واليه تحاكم "بنو كلاب" و "بنو رباب" لما خاصموا "عبد المطلب" في مال قريب من الطائف. فحكم ل "عبد المطلب".

وذكر "المسعودي" اسم كاهنين، دعاهما به "سملقة" و "زوبعة". وقد أشار "الجاحظ" اليهما في معرض كلامه على الخرافات.

وأشار "الجاحظ" إلى كاهن ظهر في "بني جهينة"، عرف ب "حارثة جهينة"، والى "عزى سلمة". وقد قال "الجاحظ" عن "عزى"، أنه كان من أكهن العرب واسجعهم. ودعاه ب "سلمة بن أبي حية".

وكان "خُنافر بن التوأم الحميري" كاهناً، وكان قد أوتي بسطة في الجسم، وسعة في المال، وكان عاتياً، فلما وفدت وفود اليمن على النبي، وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد فاكتسحها وخرج بأهله وماله ولحق بالشحر، فحالف "جودان ابن يحيى الفرِضمي"، وكان سيداً منيعاً، ونزل بواد من أودية الشحر، ثم جاءه "شصار" رئيه، فنصحه بالعودة إلى اليمن، والدخول في الإسلام. فأسلم على يد معاذ بن جبل بصنعاء، فترك الكهانة وتعلم سوراً من القرآن.

ومن الكهان "المأمور"، وهو "الحارث بن معاوية" الكاهن وكانت مذحج في أمره تتقدم وتتأخر. و "قلطف" الكاهن، وهو من طيء.

وكان "زهير بن جناب الكلبي"، و "جذيمة" العبسي، كهاناً. وزهير من الفرسان، فكان من فرسان كلب، وكان شاعراً.

ويعدّ "الأفكل" من الكهان الفرسان، وله فرس اسمه هبودْ.

ولم تحرم النساء الكهانة، فكان لهن فيها حصة ونصيب. وقد حفظ الأخباريون أسماء عدد من الكاهنات اشتهرت كهانتهن في الجاهلية، منهن طريفة الكاهنة، وزبراء، وسلمى الهمدانية، وعفيراء الحميرية، وفاطمة بنت مرّ الخثعمية، وسجاح، وغيرهن. وقد نسبوا إلى طريفة إخبارها عمرو بن عامر أحد ملوك اليمن بزوال ملكه وبخراب. سد مأرب، وذكروا انها سارت مع القبائل حين خافت سيل العرم. ونسبوا إلى بقية الكاهنات أمثال هذا القصص عن أمورستقع قالوا انهاوقعت كما تنبأن به.

وذكر "المسعودي"، ان "طريفة" كانت كاهنة لعمرو بن عامر، وقد نعتها ب "طريفة الخير". وقد تنبأت له بقرب تهدم السد،وظهور سيل العرم. كما تنبأ بذلك أخ للملك اسمه "عمران"، وكان عقيماً كاهناً، فوقع ما تنبأ به.

وكان من شهيرات الكاهنات أيضاً "الغيطلة"، وهي "أم الغياطل"، وهي من "بني مُرة بن عبد مناة بن كنانة". وقيل: "الغيطلة بنت مالك بن الحارث بن عمرو بن الصعق بن شنوق بن مرة. وشنوق أخو مدلج". وقد عرف ولدها بالغياطل وهم من بني سهم بن عمرو بن هصيص.

ويقال ايضاً أن "سعدى بنت كريز بن ربيعة" كانت قد تكهنت، وهي خالة عثمان بن عفان.

وكان لفاطمة بنت النعمان النجارية تابع من الجن، وكان اذا جاءها اقتحم عليها في بيتها، وقد أدركت مبعث الرسول.

وكانت سوداء بنت زهرة بن كلاب، كاهنة قريش. ويذكر أن والدها أعطاها لحافر قبور ليحفر لها قبراً في الحجون، فيدفنها حيّة فيه. أي يئدها، لأنها ولدت زرقاء شيماء، وكانوا يئدون من البنات من كان على هذه الصفة،غير أن حافر القبر عاد بها إلى والدها، لأنه لم يشأ دفنها في خبر يرويه أهل الأخبار.

وكان في "خثعم" كاهنة عرفت بفاطمة.

ولاستشارة الناس هؤلاء الكهان في الأمور وطلبهم منهم الفصل فيها صارت كلمة "حكم" مرادفة لكلمة "كاهن" في بعض الأحايين. وقد روي الأخباريون أمثلة عديدة من حكم هؤلاء الكهان بين الناس وطريقة فصلهم في الأمور، فهم في هذه الحالة حكام يفصلون في القضايا التي يتفق الجانبان المتخاصمان فيها على احالتها عليهم. ولم تكن لنفوذ أحكامهم مناطق وحدود، لقد كان حدود احكامهم المدى الذي وصات شهرة الكاهن اليه، لذلك كان الناس يقصدون الكاهن من مناطق بعيدة في بعض الأحيان لشهرته الواسعة التي يتمتع بها بين الناس. وتتوقف هذه الشهرة بالطبع على مبلغ ذكاء ذلك الكاهن وقدرته في فهم طبيعة المتخاصمين أو السائلين، ليتمكن من اصدار حكم معقول مقبول. وتكون أحكامهم قطعية، على الطرفين اطاعتها والامتثال لها، وليس لأحد أن يعترض عليها. ولذلك يأخذ الكاهن من الطرفين المتخاصمين قبل سماعه الشكوى عهداً بوجوب الامتثال لحكمه وعدم ردّه مهما كان نوع الحكم.

العرّاف

ويطلق بعض علماء اللغة على الكاهن "العرّاف"، فهو عندهم مرادف للكاهن. غير ان من العلماء من يفرق بين الكلمتين، ويرى بينهما فرقاً، فالكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار، والعراف هو الذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما، أو الذي يزعم انه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله. ومنهم من يذهب الى ان العراف من اختص بالإنباء عن الأحوال المستقبلية. أما الكاهن فهو الذي اختص بالإخبار عن الأحوال الماضية. وقد فرّ ق بين الكاهن والعراف في حديث: "من أتى عرافاً أو كاهناً 000". وأطلق بعضهم العراف على من يدعي الغيب مطلقاً وفي ضمنهم المنجم والحازي.

وذكر ان "العراف" الكاهن أو الطبيب أو المنجم أو الحازي الذي يدعي علم الغيب. فللكلمة معان عديدة، ولا تختص بمعنى واحد. وقد ذهب "المسعودي" إلى ان العراف دون الكاهن. ونجد هذه النظرة عند غيره أيضاً.

وخلاصة ما يفهم عن الكهانة والعرافة في روايات الأخباريين أن الكهانة هي التنبأ بواسطة تابع. وأن العرافة تكون بالملاحظات وبالاستنتاجات وبمراقبة الأشياء لاستنتاج أمور منها، يخبر بها السائلون على سببل التنبؤ. وهي على ما يظهر من تلك الروايات، دون الكهانة في المنزلة، ولم يكن للعرافين اتصال ببيوت العبادة والأصنام، ولم يكن لهم "رئي" أي "تابع"، وإنما كانوا يستنبطون ما يقولونه بذكائهم وعلى القياس. فيأخذون بالمشابهة وبالارتباط بين الحوادث، ويحكمون بما سيحدث بموجب ذلك.

وقد عدّ العبرانيون العرافة من الحيل الشيطانية كالسكر والتفاؤل، لأنها من رجس المشركين. وتشمل عندهم التنجيم والقرعة والزجر وما شاكل ذلك. وقد نهي عنها في الإسلام.

وقد اعتمد العرّاف على الخط. فكان يخط خطوطاً، ثم يخطر اليها، ليستنبط شيئأ منها، يتنبأ به للناس. ومن مشاهيرهم "حليس الخطاط الأسدي". وقد ذكر أنهم كانوا يحطون خطوطاً، ثم ينظر العراف ويقول: "ابنا عيان،اسرعا البيان، ثم يخبر بما يرى".

وتعتمد العرافة -كما تعتمد الكهانة - على الذكاء والتفرس في الأمور والتجارب. وقد خصصها أكثر الناس في الإسلام بالتوصل إلى معرفة الأشياء المفقودة.والعراف مما عنده من الملكات والمواهب المذكورة، يقضي ويتنبأ للناس فيما يراه، ومن أشهر العرافين في الجاهلية: عرّاف اليمامة، وهو "رباح بن كحلة" "رباج ابن عجلة" "رياح بن كحلة" المذكور في الشعر، وعرّ اف نجد وهو الأبلق الأسدي. والأجلح الزهري، وعروة بن زيد الأسدي.

وفي عرّاف اليمامة ورد قول الشاعر: فقلتُ لعرّاف اليمامه داوني  فإنك ان داويتني لطبـيب

والأبلق الأسدي، هو عراف نجد، وفيه يقول عروة بن حزام: جعلت لعرّاف اليمامة حكمه  وعرّاف نجد إن هما شفياني 

وقد كان أهل الجاهلية يعرضون صبيانهم على "العرافين" لإخبارهم عن مستقبلهم. وكانت الأسواق مثل سوق عكاظ موئلاً لهم. فكان العراف فيها ير به للناس صبيانهم، ويقول عنهم ما يجول بخاطره، وذلك بالتفرس في وجه الصبي، ومقارنة ذلك بما حصل عليه من تجارب في هذا الباب، وفي اللغة العربية كلمة قديمة أخرى لها صلة بموضوعنا هذا، هي "القيافة". ويقصد بها التنبؤ والإخبار عن شيء بتتبع الأثر والشبه، وتدخل في ذلك قيافة اثار الأقدام والأخفاف والحوافر للاستدلال منها على أصحابها، وتعيين النسب في حالة الشك فيه. وما زالت القيافة معروفة عند العرب حتى الآن. وقد اشتهرت بها "بنو مدُلج" خاصة، حتى قيل للطائف "مدلجيّ" بسبب هذا الاختصاص، وبنو لهب، وأحياء مضرْ.

ويرى "المسعودي" ان القيافة من الأمور التي برع بها العرب واختصوا بها، وصار لهم مران وخبرة بها، وذكر ان ممن عرف واشتهر بها "محرز المدلجي"، وقد تعجب الرسول من قيافته وصدقه، وذكر أهل الأخبار ان "الحازر"، هو من يحزر الأشياء، وان "الحزارة" في معنى القيافة.

وأما "الفراسة"، فتكون بالاستدلال بهيأة الإنسان وأشكاله وأقواله على صفاته وطبائعه. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أنها من الكلمات المعربة التي أخذت من "بني إرم"، وانها أحدث عهداً من لفظة "القيافة" التي هي من الكلمات العربية الجاهلية، وقد توسع في معناها وألف فيها الكتب في الإسلام وتبحر فيها بعض أئمة الفقهاء مثل الشافعي.

وأما "العيافة" فهي التنبؤ بملاحظة حركات الطيور والحيوانات ودراسة أصواتها،وقراءة بعض أحشائها، ولذلك قيل في العبرانية للعائف "الشاق"، لشقه الحيوانات والطيور لدراسة أحشائها واستخراج الخير مما يراه على تلك الأحشاء من ألياف يرى ان في أوضاعها معاني يذكرها للسائل على شكل نبوءة. وكانت معروفة خاصة عند الكلدانيين.

وقد اشتهرت "بنو أسد" بالعيافة، فقصدها الناس للاخذ منها، حتى الجن سمعت بعيافتها، وعجبت منها، فجاءت اليها تمتحنها في هذا العلم.

واشتهرت "بنو لهب" بالعيافة كذلك،ولهب حي من الأرد. ومن هؤلاء "العائف اللهبي"، "لهبَ بن أحجن بن كعب"، وهو الذي تكهن بموت عمر بن الخطاب قبل وقوعه بعام.

والزجر العيافة. وهو يزجر الطير يعافها، وأصله ان يرمى الطير بحصاة ويصيح،فان ولاه في طيرانه ميامنه تفاءل به أو مياسره تطير. وهو ضرب من التكهن. وانما سمي الكاهن زاجراً، لأنه اذا رأى ما يظن انه يتشاعم به زجر بالنهي عن المضي في تلك الحاجة برفع صوت وشدة.

وتطلق لفظة "الحازي" على من يحزر الأشياء ويقدرها بظنه، فهي من الكلمات المستعملة في الكهانة، ويطلق على من يشتغل بالنجوم اسم "حزاء"، لأنه ينظر في النجوم وأحكامها بظنه وتقديره. وأطلقت أيضاً على من يزجر الطير، ولا سيما الغراب.

وقد أشير في كتب أهل الأخبار إلى "خازي" عرف واشتهر بين الجاهليين ب "حازي جهينة".

الراقي

ويقال لمن يعمل الرقي ويرقي: "الراقي". والرقية العوذة التي يرقي بها صاحب الآفة كالحمىّ والصرع. قال عروة: فما تركا من عوذة يعرفانها  ولا رقية إلا بها رقيانـي

ويقال لأجرة الراقي: "البسلة" و "بسلة الراقي". و "البسل" الحلال، والبسل أيضاً الحرام،فهو من الأضداد. وبسل الدعاء بمعنى آمين، أي الاستجابة. وكان الرجل اذا دعا على صاحبه، يقول: قطع الله مطاك. فيقول الآخر: بسلا بسلاً، أي آمين آمين.

الاستقسام بالأزلام

ومن طرق التنبؤ الاستقسام بالأزلام ويقابل ذلك ما يقال له "كسيم" "كسم" " Gasam " في العبرانية. وهي طريقة معروفة عند البابليين كذلك. وعند غيرهم من الشعوب. وقد أشير في التوراة إلى أن "نبو ختنصر" "بختنصر" "نبخد نصر" " Nebuchadnessar" أجال السهام حين عزِم على فتح "اًورشليم" "القدس". " فإن ملك بابل قد وقف عند أم الطويق في رأس الطريقين ليباشر عرافة. فأجال السهام وسأل الترافيم ونظر في الكبد". وقد خرج السهم الذي كتب عليه "أورشليم"، فعمل به وهاجم القدس وفتحها.

وتعني لفظة " كوسيم " Gosem" و" Gesem" ,"Kosem" العرافة في العبرانية. من أصل "كسم" "كيسم" "قيسم" وهو التكهن. وهو أصل "سامي".واليه تعود كلمة "الاستقسام"، لا إلى "قسم" بمعنى تقسيم الشيء وتجزئته.

وهو المعنى الذي ذهاب اليه أكثر علماء اللغة. وقريب من معنى "قيسم" "كيسم" ما ذكره علماء اللغة من أن القِسمَ هو الحظ والنصيب. فإن للحظ والنصيب علاقة وثيقة بالتكهن، لما فيه من معرفة المستقبل والوقوف عليه.

وقد عرف أهل الأخبار "الأزلام": انها السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها. وعرفوا "الزلم"، ائه السهم، وانه القدح المزلم، وعرفوا القدح: انه السهم قبل ان ينصل ويراش. وان القدح: قدح السهم، وجمعه قداح، وصانعه قدّاح. وقد فسر بعض العلماء الأزلام بأحجار بيض تشبه أحَجار الشطرنج، كما جعل بعض اخر تلك السهام في مقابل "الكعاب" التي يستعملها الروم والفرس في الاستخارة. وذكر بعض اخر ان "الأزلام: سهام كانت لأهل الجاهلية مكتوب على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، فإذا أراد الرجل سفراً أو أمراً، ضرب تلك القداح،فإن خرج السهم الذي عليه أمرني ربي مضى لحاجته، وإن خرج الذي عليه نهاني ربي لم يمض في أمره". وذكر ان الأزلام التي كانوا يستقسمون بها غير قداح الميسر،وانها قداح الأمر والنهي لا قداح الميسر. وذكر ان أهل الجاهلية، كانوا اذا أرادوا ان يخرجوا في سفر، جعلوا قداحاً للجلوس والخروج، فإن وقع الخروج خرجوا، وإن وقع الجلوس جلسوا.

وطريقة الضرب بالقداح، ان الرجل منهم اذا أراد ان يخرج مسافراً، كتب في قدح هذا يأمرني بالمكث، وهذا يأمرني بالخروج،وجعل معهما أزلاماً مسحة،أي لم يكتب فيها شيئاً، ثم استقسم بها حين يريد الخروج، فإن خرج الذي يأمرِ بالمكث، مكث، وإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج، وإِن خرج الآخر أي المسح، أجالها ثانية حتى يخرج أحد القدحين. وهكذا يفعلون في سائر أمور الاستقسام.

وقد جمع المفسرون ما تمكنوا من جمعه عما علق في أذهان الناس من الأزلام، لورود الإشارة اليها في موضعين من سورة "المائدة"، وأورد علماء الحديث والأخبار ما وصل إلى علمهم أيضاً عن "الاستقسام بالأزلام". ويظهر مما ذكروه أن اهل الجاهلية كانوا يقيمون في ايامهم وزناً كبيراً للاستقسام بالأزلام لاعتقادهم أنه يحكي ارادة الأرباب ويتحدث عن مشيئتها. لذلك كانوا لا يفعلون فعلا ولا يعملون عملا إلا بعد أخذ رأيها بالاستقسام. فإن جاء أمر فعلوا، وان جاء نهي امتنعوا.

وجاء في سورة المائدة: )وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق لكم(، وذلك مع أمور نهى عنها الإسلام. منها تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل إلسبع إلا ما ذُكي، وما ذبح على النصب. وجاء ذكر الأزلام في موضع آخر مع ذكر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، حيث جعلت رجساً من عمل الشيطان، لذلك، على المسلم اجتنابها والابتعاد عنها. فالاستقسام بالأزلام من الأمور التي نزل الأمر بالنهي عنها في الإسلام. وقد جاء الأمر بالنهي عنها في شريعة يهود كذلك إذ اعتبرت "رجساً"، ومن أعمال الوثنيين.

ويكون الاستقسام عند الأصنام في الغالب لاعتقادهم ان النتيجة تمثل ارادة الصنم ومشيئته، غير ان ذلك ليس بشرط، فقد كان أصحاب الأزلام يحملون أزلامهم معهم، ويستقسمون حيث يطلب ذلك منهم. فهم في ذلك مثل أصحاب "الفأل" والقارئون للرمل والسحرة في الوقت الحاضر، يتنقلون بين الناس عارضين فنهم عليهم في مقابل حلوان يقدم اليهم. وهذا النوع، من أصحاب الأزلام، هم من الطبقة المرتزقة على شاكلة هذه الجماعة المذكورة في هذه الأيام. وقد كان منهم من يستقسم لنفسه بنفسه، وذلك بأن يمستقسم بالأزلام التي عنده في بيته، والتي قد يحملها معه، تماماً كما يفعل أهل "الاستخارة" في الاستخارة بالمسبحة "السبحة" أو بوسائل الاستخارة الأخرى في الوقت الحاضر.

قال أهل الأخبار: "والأزلام كانت لقريش في الجاهلية مكتوب عليها أمر ونهي وافعَل ولا تفعل، قد زُلمت وسويت ووضعت في الكعبة، يقوم بها سدنة البيت، فإذا اراد رجل سفراً أو نكاحاً أتى السادن فقال: اخرج لي زلماً، فيخرجه وينظر اليه، فاذا خرج قدح الأمر مضى على ما عزم عليه، وان خرج قدح للنهي قعد عما أراده، وربما كان مع الرجل زلمان وضعهما في قرابه، فاذا أراد الاستقسام أخرج أحدهما".

و "قالوا: كانوا اذا كانت مداراة أو نكاح أو أمر يريدونه، ولا يدرون ما الأمر فيه ولم يصح لهم أخذوا قداحاً لهم فيها: أفعل ولا أفعل لا يفعل، نعم لا خير، شر بطيء سريع، فأما المداراة فإن قداحاً لهم فيها بيضاً ليس لهم فيها شيء، فكانوا يجيلونها فمن خرج سهمه فالحق له، وللحضر والسفر سهمان، فيأتون السادن من سدنة الأوثان، فيقول السادن: اللهم أيهما كان خيراً فاخرجه لفلان، فيرضى بما يخرج له، فإذا شكوا في نسب الرجل أجالوا له القداح وفيها: صريح، وملصق، فإن خرج الصريح ألحقوه بهم، وان خرج الملصق نفوه، وان كان صريحاً، فهذه قداح الاستقسام"، "وان كان بين اثنين اختلاف في حق، سمي كل منهما له سهماً وأجالوا القداح، فمن خرج سهمه فالحق له".

وذكر ان اقداح. "هُبل" سبعة، وضعت قدامه. فان أراد آحدهم سفراً أو عملاً أو تجارة أو زواجاً أو بتّاً في نسب مشكوك فيه أو دفع دية أو أن يخرجوا ماء، أتوا هُبَلَ، ومعهم مائة درهم وبجزور فأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم، وكانت أزلامهم سبعة قدّاح محفوظة عند سادن الكعبة وخادمها، وهي مستوية في المقدار عليها أعلام وكتابة قد كتب على واحد منها "أمرني ربي" وعلى واحد منها "نهاني ربي" وعلى واحد "منكم" وعلى واحد "من غيركم" وعلى واحد "ملصق" وعلى واحد "العقل" وواحد غفل ليس عليه شيء، فاذا أرادوا الوقوف على مستقبل الأمر الذي تصدوا له استقسم لهم صاحب القداح بقدحي الأمر والنهي، فان نجح قدح الأمر ائتمروا وباشروا فيما تصدوا له من حرب أو سفر أو زواج أو ختان أو بناء أو نحو ذلك مما يتفق لهم، وإن خرج قدح النهي أخروا ذلك العمل إلى سنة فاذا انقضت أعادوا الاستقسام مرة أخرى.

ويروى ان السؤال إن كإن يخص اقداماً أو احجاماً، استعمل صاحب القداح قدحي "نعم" أو "لا" فاذا ظهر للمجيل قدح "نعم" عمل به، ومضى إلى ما قصد، وإن جاء "لا" أي النهي توقفوا سنة. أما اذا كان نزاعاً في نسب أحد منهم، استقسم بالأزلام الموسومة به "منكم" و "من غيركم" و "ملصق"، فان ظهر "منكم"، اعتبر المتنازع على نسبه منهم، وإن خرج "من غيركم" اجتنبوه ونفروا منه، وان ظهر "ملصق"، بقي أمره على ما كان عليه قبل إلاستقسام، وأما اذا كان السؤال نزاعاً في "العقل": أي دية القتيل، بأن اشتبه عليهم القاتل، أحضروا من اتهم بالقتل بالقدحين الموسومين ب "العقل" وب "الغفل"، واستقسم بهما فمن خرج عليه العقل تحمل الدية، وإن خرج "الغفل" أجالوا ثانيأَ حتى يخرج المكتوب عليه.

ولما أراد "أبو سفيان" الخروج إلى "أحد"، استخار هبل. بأن كتب على سهم نعم، وعلى آخر لا، وأجالهما عند هبل، فخرج سهم نعم، فخرج بقومه إلى "أحد". وقال يقول: أعلُ هبل. وقال عمر: الله أعلى وأجل، قال أبو سفيان: أنعمت فعال عنها، أي اترك ذكرها، فقد صدقت في فتواها، وأنعمت، أي أجابت بنعم.

ولصاحب الأزلام وخازنها حق يتقاضاه سن الطالبين في مقابل عمله. فكان سادن "هبُل" يتقاضى مئة درهم أجراً عن الاستقسام، كما سبق ان ذكرت، فان تكرر ذلك زيد أجره على ما يذكره الرواة. وقد كان غير العرب يدفعون حلواناً إلى صاحب الأزلام ليتنبأ لهم. فلما انطلق "شيوخ مديان" "مدين" و "مؤآب" إلى "بلعام" ليستقسم لهم، حملوا حلوانهم معه، فقدموه اليه مقابل ما قام به من عرافة اليهم.

وقيل للذين يضربون بالقداح "الضرباء". والواحد الضريب والضارب. وهو الموكل بالقداح، وقيل الذي يضرب بالقداح. يقال هو ضريب قداحٍ. وقد أشير إلى الاستقسام في شعر الشعراء الجاهليين، وقد ذكرت في قصة الشاعر "امرىء القيس" الكندي حينما جاء إلى الصنم "ذي الخلصة"،ليستقممم عنده بشأن الأخذ بثأر أبيه. فلما خرج النهي عنه ثلاث مرات، غضب على صنمه، وكسر الأزلام ورماها في وجهه، كما يقول الرواة قائلأ: "لو كان أبوك المقتول لما نهيتني"، وأنشد: لو كنت يا ذا الخلص الموتورا  لم تنه عن قتل العـداة زورا

وأشار الحطيئة إلى ذلك بقوله: لم يزجر الطير،أن مرت به سنحاً  ولا يفيض على قسـمٍ بـأزلام

وقال طرفة: أخذ الأزلام مقتسماً  فأتى أغواهما زلمه 

وهنآك طرق عدة عرفت عند الشعوب القديمة في التكهن بالسهام، ومنها رمي السهام في الهواء لمراقبة حركاتها وكيفية سقوطها، ومنها رمي حزمة من السهام أمام الصنم، فالسهم الأول الذي يقع قبل بقية الأزلام، يكون هو السهم الذي أمر به الصنم في زعمهم، فيعمل بموجب ما كتب عليه.

ولخص "الألوسي" الأزلام التي كانت عند العرب على ثلاثة أنحاء: أحدها: قداح الميسر العشرة، وثانيها: لكل أحد، وهي ثلاثة على أحدها مكتوب "افعل"، أي أمر، وعلى الثاني "لا تفعل" وعلى الثالث "غفل"، فاذا أراد أحدهم الأمر جعلها في خريطة، وهي "الربابة" وأدخل يده فيها وأخرج واحداً، فان طلع الامر فعل أو الناهي ترك أو الغفل أعاد. وثالثها: للأحكام وهي التي عند الكعبة. وكانوا يتحاكمون عند "هبل" في جوف الكعبة. وكان عند كل كاهن وحاكم للعرب مثل ذلك. وكانت سبعة مكتوب عليها ماسبق.

و "القرُعة" أي "السهمة"، نوع من أنواع التنبؤ بالغيب التابعة للاستقسام بالأزلام. و "السهمة" هي رضاء بحكم "السهم"، أي بحكم وقوع السهام على الأشياء. وهي جواب فصل يمثل ارادة الآلهة للسائل أو للمختصمين في اًمر من الأمور. وقد قيل للسهم: الحظ والنصيب، لأنه يتكلم عن حظ الإنسان ونصيه.

والتنبؤ بالتفرس في الأشباح التي تظهر على الماء، أو الزيت المصبوب في الأقداح، أوالحركات التي تظهر على سطح السائل بعد رمي شيء فيه، لمعرفة الأسرار والمغيبات والاجرام كالسرقات والقتل، والزنى، ودراسة سطح المرآة: هذه وأمثالها كانت معروفة عند البابليين والعبرانيين، وعند غيرهم من الشعوب. وعقيدتهم أن الأرواح هي التي ترشد إلى اظهار المخفيات، وان هناك مأمورين من بينهم واجبهم اخبار العراف والعائف والكاهن بما يطلب منهم معرفته ليقوله للسائل.

ومن ضروب التنبؤ " الطرقُ"، وهو الضرب بالحصى للكشف عن المستقبل، يقوم بذلك الرجال والنساء. ويقال للقائمين بذلك الطُرّاق والطوارق. وورد ان الطرق: الضرب بالحصى والخط في التراب، وهما ضربان من التكهن. وقيل أيضاً: الطوق: أن يخط الرجل في الأرض بإصبعين ثم باصبع، ويقول: ابني عيان اسرعا البيان،وزعم بعضهم أن الطرق ان يخلط الكاهن القطن بالصوف فيتكهن. وقد نهى عنه في الإسلام. ورد في الحديث:انه قال: الطرق والعيافة من الجبت.

ويدخل في ضروب التنبؤ "الخط" "وهو الذي يخطه الحازي. يأتي صاحب الحاجة إلى الحازي فيعطيه حلواناً، فيقول له: اقعد حتى أخط لك،وبين يدي الحازي غلام له معه ميل، ثم يأتى إلى أرض رخوة فيخط فيها خطوطاً كثيرة بالعجلة لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها على مهل خطين خطين،وغلامه يقول للتفاؤل: "ابني عيان، أسرعا البيان"، فان بقي خطان فهما علامة النجح، وإن بقي خط واحد فهو علامة الخيبة... وقيل: الخط هو ان يخط ثلاثة خطوط، ثم يضرب عليهن بشعير أو نوى، ويقول: يكون كذا وكذا. وهو ضرب من الكهانة". وكانت العرب تسمي ذلك الخط الذي يبقى من خطوط الحازي الأسحم. وكان هذا الخط عندهم مشؤوماً، وقد كان الخط من علوم العرب القديمة.

وعلم الخط هو علم الرمل. وينسب إلى "ابن عباس" قوله: علم قديم تركه الناس. وخط الزاجر في الأرض، رسم خطاً باصبعه، ثم زجر. وذكر ان "الخطيطة" الرملة التي يخط عليها الزاجر، وان الأسحم اسم خط من خطوط الزاجر، وهوعلامة الخيبة عندهم. وذلك ان يأتي إلى أرض رخوة وله غلام معه ميل، فيخط الأستاذ خطوطاً كثيرة على عجل لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها خطين خطين، فان بقي من الخطوط خطان، فهما علامة النجح وقضاء الحاجة، ويمحو وغلامه يقول للتفاؤل: ابني عيان أسرعا البيان، واذا محا الخطوط، فبقي منها خط،، فهي علامة الخيبة.

الأحلام

والأحلام "Dreams" و "الرؤيا" "Visions" باب من أبواب الكهانة كذلك، فهي تفسير لما سيقع في المستقبل من حوادث. وقد تخصص بذلك أناس تعاطوا تعبير الرؤيا والأحلام. وإذ كان اعتقاد الشعوب القديمة ان الأحلام حقيقة، لاكما نتصورها نحن، كان الاهتمام بها كبيراً، والاعتناء بها شديداً ولا يزال يخصها كثير من الناس بالعناية.

وقد فسرت بعض الشعوب القديمة الأحلام بأنها الآلهة أوالأرواح تتجلى في الإنسان في أثناء منامه، فتطلعه على أشياء كثيرة تتعلق بحياته وبمصيره، وتساعده بذلك على حلّ مشكلات عديدة عويصة لديه، أو تهديه إلى أمور لم يكن يعرف عنها شيئاً، أو تحذره بقرب حلول كارثة أو خطر به أو بغيره، أو حصول خير له أو لغيره. وقد ترجع به إلى أيام ماضية وحوادث قديمة سالفة. كان قد نسيها وذهبت من ذاكرته. ونجد في المؤلفات اليونانية واللاتينية والسريانية وفي الكتابات الهيروغليفية والمسمارية أشياء عديدة من القصص المتعلق بالأحلام. وفيها أن كثيراً من الملوك والخاصة كانوا يقيمون وزناً عظيماً لما يرونه، أو يراه الناس من أحلام. وقد نجح كثير منهم كما خسر كثير منهم أيضاً بسبب تأثير الأحلام فيهم، حتى إن بعضهم أتخذ له مفسراً للاحلام أو جملة مفسرين، ليكونوا في خدمته حتى اذا ما رأى حلماً فسروه له.

ولما كانت بعض الأحلام مزعجة، رجع الكهان المتخصصون بالأحلام أسبابها إلى فعل الأرواح الشريرة. أما الأحلام المريحة الطيبة، فقد جعلوها من إلهام الآلهة في الإنسان. ولأهمية الاعتقاد بالأحلام، وضعت قواعد وتعاليم للأشخاص الذين يريدون معرفة مستقبلهم بالرؤيا والأحلام. وقد نصح في بعضها باجتناب الأكل الثقيل، وبشرب بعض الأشربة المعينة وبالنوم في المعابد، للحصول على الرؤيا الصادقة، والابتعاد عن أضغاث الأحلام. وضع تلك القواعد أناس تخصصوا بهذا الفن، يلجأ اليهم من يرى حلماً ليجد تفسيره عندهم. فلكل شيء في الرؤيا والحلم معنى خاص، لا يمكن ان يعرفه إلا ذوو الخبرة والعلم.

وقد عثر طما كتابة لحيانية في موضع "الخريبة"، تبين منها وجود صنم في معبد هذا الموضع تخصص بتفسير الأحلام.

وفي كتب التفسير والسير والأخبار والأدب أمثلة عديدة من الرؤيا، تشير إلى ان الاعتقاد بالأحلام كان معروفاً عند الجاهليين، وان أثره كان عميقاً في حياتهم. وقد يكون لأهل الكتاب أثر عليهم في كيفية تفسير الأحلام وتوجيه تعبير الرؤيا، غير ان الاعتقاد بالأحلام هو اعتقاد عام، وكان يقوم به متخصصون بتفسير الأحلام. وقد عرف في الإسلام واشتهر به "ابن سيرين".

وقد عرف بعض العلماء الاسلاميين الحلم بأنه عبارة عما يراه النائم في نومه من الأشياء المزعجة، وخصصوا للرؤيا بما يراه الإنسان في منامه من الخير والشيء الحسن. وهم بذلك على طريقة القدماء في جعل الأحلام نوعين: أحلام من فعل الشيطان والأرواح الخبيثة، وأحلام من إلهام الآلهة في الإنسان، وهي التي تنكشف من رؤية أشياء جميلة وعن أشياء يرغب صاحب الحلم في الحصول عليها وتحقيقها. ويرجع العلماء الرؤيا إلى النفس، تطلع على الواقعات فتتذكرها، وتوحي بها إلى صاحبها. وهم يعتقدون بها، وجعلوها جزءاً من النبوة.

الفصل السادس والثمانون
الطيرة

وقد كان للطيرة شأن كبير في حياة الجاهليين وهي معروفة عند جميع الشعوب، ويقال لها في العبرانية: طيّر " Tayyar"، فهي من نفس الأصل الذي أخذ العرب منه التسمية. ويقال لها في الانكليزية"Augury"، ويرى بعض الباحثين أن الطيرة انتقلت إلى العبرانيين من العرب. وهناك نوع آخر من التطير يقال Haruspicy " في الانكليزية، ويقصد به الطيرة من الحيوانات الميتة، أو مراقبة الحيوان في أثناء ذبحه لمعرفة المستقبل من حركاته وهو يرتجف رجفة الموت.

ويقول علماء الأخبار، إن الطيرة من زجر الطيور ومراقبة حركاتها، فإن تيامنت دل تيامنها على فأل، وان تياسرت دل على شؤم. فهي اذن تشمل التيمن والتشاؤم، إلا أنها خصصت بالتشاؤم فيما بعد. فصارت تعني هذا المعنى عند الاستعمال. قال "الجاحظ": "وأصل التطير إنما كان من الطير ومن جهة الطير، إذا مرّ بارحاً أو سانحاً، أو رآه يتفلى وينتف، حتى صاروا اذا عاينوا الأعور من الناس أو البهائم، أو الأعضب أو الآبنر، زجروا عند ذلك وتطيروا، كما تطيروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال. فكان زجر الطير هو الأصل، ومنه اشتقوا التطير ثم استعملوا ذلك في كل شيء".

قال أحدهم: عوى الذئب فاستأنستُ للـذئب إذ عـوى  وصـوت إنـسـان فـكـدت أطـير

كأن الذي يرى ما يكره أو يسمع يطير

وقد عد العلماء الطيرة والزجر في معنى واحد، لأن أصلهما انهم كانوا اذا أرادوا فعل امر أو تركه زجروا الطير حتى يطير، ثم يحكمون من حركاته على ما سيحدث ويقع، فالزجر والطيرة من ثم شيء واحد. وقد قيل لمن يزجر الطير "زاجر" لأنه اذا رأى ما يظن انه يتشاءم به زجر بالنهي عن المضى في تلك الحاجة برفع صوت وشدة".

والطيور هي مادة التطير، وذلك بمراقبة حركاتها وسكناتها. وهو ما يقال له في العبرانية: "نيحوش" "نحوش"، "Nihush"، من أصل "نيحيش" "نحش". وتقابل لفظة "نحش" كلمة".حنش" في العربية وتعنى "الثعبان". وقد ذهب بعض علماء التوراة. ان لكلمة "نخش، صلة بالثعبان، ذلك لأن الثعبان كان من الآلهة القديمة، بينما يرى بعض اخر عدم وجود صلة ما للثعبان بهذا الموضوع، لأن العبرانيين "لم يتعبدوا البتة للثعابين، فلا صلة للثعبان به.

ويدخل في باب الزجر، زجر الطير والوحش. ويذكر بعض العلماء ان الأصل في الطيرة، هو زجر الطير، ثم صار في الوحش، وقد يجوز ان يغلب أحد الشيئين على الاخر فيذكر دونه ويرادان جميعاً.

وقد يراد بالطيرة "التشاؤم" الذي هو خلاف التيامن، غير أن "التشاؤم" هو في الواقع أوسع مجالاً وأكثر ساحة من الطيرة، لأن التشاؤم طيرة وزيادة، وأعني بالزيادة تشاؤم المتشائمين من أمور أخرى كثيرة مثل التشاؤم من ذوي العاهات أو القبح من البشر، والتشاؤم من سماع الكلام السيء أو الأخبار السيئة عند الصباح أو من رؤية ميت أو سماع نياحة أو مشاهدة مخلوق مشوه أو سماع اسم موضع يدعو التشاؤم أو اسم شخص فيه معنى التشاؤم وامثال ذلك، فتكون كل هذه الأمور مدعاة للتشاؤم عند المتشائمين. " حتى صاروا إذا عاينوا الأعور من الناس أو البهائم، أو الأعضب أو الأبتر، زجروا عند ذلك وتطيروا عندها كما تطيروا من الطير اذا رأوها على تلك الحال".

ويقول علماء اللغة: الشؤم: خلاف اليمن. ورجل مشؤومء على قومه. وأصل ذلك هو أن العرب تتفائل بالجهة اليمنى، وتتشاءم من الجهة اليسرى، ولذلك كانت اذا أرادت أن تعمل عملاً عمدت إلى "الزجر" وهو رمي الطير بحصاة، ثم يصيح الرامي، ليفزعها ويزجرها، وعندئذ يراقب حركة طيرانها، فإن تيامنت أي جرت يمنة تفاءل به، وان تشاءمت أي تياسرت، تشاءم به. فالتيمن هو بالتيامن والتشاؤم هو بالتياسر. ولذلك قيل للكاهن "زاجر" أيضاً، " لأنه إذا رأى ما يظن أنه يتشاءم به زجر بالنهي عن المضي فى تلك الحاجة برفع صوت وشدة". ولاعتماد الزاجر على الطيور في الغالب في هذا النوع من التكهن قيل له: "الطيرة". قال علماء اللغة: "وقيل للشؤم طائر وطير وطيرة، لأن العرب كان من شأنها عيافة الطير وزجرها والتطير ببارحها ونعيب غرابها وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها، فسمّوا الشؤم طيراً وطائراً وطيرة لتشاؤمهم بها".

و لابد ان يكون للتطير صلة بعقيدة استحالة الأرواح طيوراً بعد مفارقتها الأجساد، قد كان من المتعارف عليه عند كثير من الشعوب القديمة ان بعض فصائل الطيور هي أرواح الموتى بعد مفارقتها الأجساد، وانها لذلك تعي وتفهم، وان في استطاعة بعض الناس فهم منطقها وتكليمها، ومن هنا ظهرت فكرة "منطق الطير". وقد كان "سليمان" يحادث الطير. فاذا كانت الطير على هذه الصفة، ففي حركاتها وسكناتها منطق لمن لا يحسن منطقها، يشير إلى ما يجب على الإنسان ان يفعله أو يتركه من أعمال.

وقد كان للتطير والتفاؤل شأن كبير في حياة الجاهليين. كما كان لهما مثله في حياة شعوب أخرى عديدة: ومن بينهم اليونان والرومان والفرس والتطير هو نظير التشاؤم في المعنى كما قلت. أما نظير التفاؤل، فهو التيامن. وفي روايات أهل الأخبار أمثلة عديدة من أمثلة الطيرة وقعت لبعض القبائل عند إقدامها على الحرب، فخسرت لتطيرها. ويحدث من التطير النحس، وأما من التفاؤل فيكون السعد.

وفي الأخبار: "كانت العرب اذا خرج أحدهم من بيته غاديأَ في بعض الحاجة، نظر: هل يرى طائراً يطير، فيزجر سنوحه أو بروحه، فاذا لم ير ذلك، عمد الى الطير الواقع على الشجر، فحرّكه ليطير، ثم نظر إلى أي جهة يأخذ، فزجره. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "اقروا الطيرعلى مكناتها: لا تطيروهها ولا تزجروها". وذكر" انهم كانوا في الجاهلية اذا خرج أحدهم لحاجة، فان رأي الطير طار عن يمينه تيمن به واستمر، وإن طار عن يساره تشاءم به ورجع، وربما كانوا يهيجون الطير، ليطير فيعييدون ذلك".

وقد أبطل الرسول الطيرة. " وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يتفاءل ولا يتطير. وأصل الفأل الكلمة الحسنة يسمعها عليل، فيتأول منها ما يدل على برئه،كأن سمع منادياً نادى رجلاً اسمه سالم، وهو عليل، فآوهمه سلامته من علته، وكذلك المضل يسمع رجلاً يقول يا واجد، فيجد ضالته. والطيرة مضادة للفأل. وكانت العرب مذهبا في الفأل والطيرة واحد. فأثبت النبي الفأل واستحسنه وأبطل الطيرة ونهى عنها".

وروي أن أهل الجاهلية كانوا يقولون: "إن الطيرة في المرأة والدار والدابة" و "الكدس" التطير، و "الكدسة" عطسة البهائم، وقد تستعمل للانسان: ومنه الحديث: اذا بصق أحدكم في الصلاة، فليبصق عن يساره أو تحت رجله، فإن غلبته كدسة أو سعلة ففي ثوبه. والكادس ما يتطير به من الفال والعطاس وغيرهما. ومنه قيل للظبيّ وغيره إذا نزل من الجبل وغيره كادس.

ومن الألفاظ المستعملة في "الزجر" "سنح" و "برح". وللفظة "برح" معان عديدة، وهي من الكلمات السامية الواردة والباقية في عدد من لهجاتها. ومنها لفظة "البارح" وهي ضد "السانح". و "السانح ما مرّ من الطير والوحش بين يدِيك من جهة يسارك إلى يمينك، والعرب تتيمن به، لانه أمكن للرمي والصيد. والبارح ما مرّ من يمينك إلى يسارك،والعرب تتطير به، لأنه لا يمكنك أن ترميه حتى تنحرف".

وقد ذكر بعض اللغويين عكس المعنى، كما ذكر أن أهل نجد كانوا يتشائمون بالبوارح ويتيمنون بالسانح. أما غيرهم من العرب، فقد كانت تتيمن بالبارح، وأن بعضاً منهم لم يكن له رأى في شيء من هذا. وذكر ان أهل "العالية" يتشائمون بالسانح ويتيمنون بالبارح.

قال ذو الرمة وهو من نجد: خليلي، لا لاقيتما ما حييتـمـا  من الطير إلا السانحات وأسوأ 

وقال النابغة، وهو نجدي أيضاً، يتشاءم بالبارح: زعم لالاقيتما البوارح ان رحلتنا غداً  وبذاك تَنعاب الـغـراب الأسـود

وقد عبر "كثير" رأي أهل الحجاز بقوله: أقول إذا ما الطير مرت مخيفة  سوانحها تجري ولا استثيرها

وذكر أن هذيلاً كانت تتشاءم بالسنيح. أما غيرها،فكانت تتشاءم بالبارح.

ويقال للمتطيرين من الرجال " الخثارم" وذكر ان "بني لهب"، "هم أعيف العرب وأزجرهم للطير". وهم بطن من العرب يعرفون بالعيافة. ولأهل الأخبار قصص عن عيافتهم وعن زجرهم للطير.

ومن الطيور التي تطير منها أهل الجاهلية: الغراب وطيور الليل، وهي البومة، والصدى، و الهامة، و الضّوع، والوطواط، والخفاش، وغراب الليل.

وقاعدتهم في الطيرة، انهم يشتقون من اسم الشيء الذي يعاينون ويسمعون. من ذلك قول سوّار بن المضرب: تغنىّ الطائران ببـين لـيلـى  على غصنين من غَرْب وبان

فكان البان أن بانت سلـيمـى  وفي الغرب اغتراب غيرُ دانِ 

فاشتق الاغتراب من الغرب، والبينونة من البان.

وفال عنترة: ظعن الذين فراقهـم أتـوقـع  وجرى بينهم الغراب الأبـقـع

حرَِق الجناح كأن لحْـييَْرأسـه  جلمان بالأخبار هش مـوُلـع

فزجرتـه ألا يفـرخ بـيضـه  أبداً ويصبح خائفاً يتـفـجـع

إن الذين نعْبتَ لي بفـراقـهـم  هم اسهروا ليلى التمام فأوجعوا 

فقال: وجرى بينهم الغراب، لأنه غريب، ولأنه غراب البين، ولأنه أبقع. ثم قال: حرق الجناح تطيراً ايضاً من ذلك. ثم جعل لحيي رأسه جلمين، والجلم يقطع. وجعله بالأخبار هشاً مولعاً، وجعل نعيبه وشحيجه كالخبر المفهوم.

وأشأم الطيور عند الجاهليين، "الغراب": "ليس في الأرض شيء يتشاءم به إلا والغراب أشأم منه"، ولذلك قالوا إذا نعب: خيراً خيراً، وذلك من باب التفاؤل بالأضداد. " والعامة تتطير من الغراب، إذا صاح صيحة واحدة، فإذا ثنىء تفاءلت به"، " واذا صاح الغراب مرتين، فهو شرّ، واذا صاح ثلاث مرات، فهو خير". وورد "غراب البين" و "الغراب الأبقع" و "الغراب الأسود". ويراد بذلك التشاؤم بفراق الأحبة، ويقال للغراب الأسود "حاتم"، والحتمة السواد، وهو مشؤوم، لم لأنه يحتم بالفراق. "والعرب تتشاءم من الغراب،ولذا اشتقوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب". " فالغراب أكثر من جميع ما يتطير به في باب الشؤم، ألا تراهم كلما ذكروا ما يتطيرون منه شيئاً ذكروا الغراب معه ? وقد يذكرون الغراب ولا يذكرون غيره، ثم إذا ذكروا كل واحد من هذا الباب لم يمكنهم أن يتطيروا منه إلا من وجه واحد، والغراب كثير المعاني في هذا الباب، فهو المقدم في الشؤم". وروي أن "ابن عباس" كان إذا صاح الغراب، قال: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إلهَ غيرك. قال الجاحظ: "وليس في الأرض بارح ولا نطيح، ولا قعيد، ولا أعضب ولا شيء مما يتشاءمون به إلا والغراب عندهم أنكد منه، يرون أن صياحه أكثر أخباراً، وان الزجر فيه أعم قال عنترة: حرِق الجناح كأنّ لحيي رأسه  جلمان، بالأخبار هش مولع

وفي الغراب وشؤمه يقول الأعشى: ما تعيف اليوم في الطير الروح  من غراب البين أو تيس برح

وقد كنوا عنه بكنى عديدة، دلالة على مقدار اهتمامهم به. فقالوا له:أبو حاتم، وأبو جحادف، وأبو الجراح، وأبو المرقال، وأبو حذر، وأبو زيدان، وأبو زاجر، وأبو الشؤم، وأبو غياث. ووضعوا الأمثلة على لسانه وعنه. وقصوا عنه الحكايات. من ذلك، انه أراد ان يقلد القطاة في مشيها، فحاكاها لكنه لم يفلح في المشي مشيها، فلما أراد العود إلى مشيته الأولى، أضل مشيته، إذ نسيها، فنسي المشيتين: فلذلك سمّوه: أبا المرقال. وضربوا المثل بالغراب الأعصم، فقالوا: أعز من الغراب الأعصم،للشيء القليل الوجود. وأوردوا له قصصاً مع الديك ومع حيوانات أخرى. ورموه بالفسق والفجور.

وفي الشعر الجاهلي وشعر المخضرمين اشارات إلى شؤم الغراب. جاء في شعر"حسان بن ثابت": وبيَّن في صوت الغراب اغترابهم  عشيةَ أو فى غصن بان فطربـا

فصوت الغراب، يشير إلى الغربة والاغتراب، لذلك كره.

وهو من ألأم الطير وأخبثها، وهو من عبيد الطير، وليس من أحرارها،فهو دنيء النفس، إذا صادفته جيفة، نال منها، وهو لا يتعاطى الصيد. فهو حيوان خبيث الفعل وخبيث المطعم، لذلك عدّ العرب أكله عاراً يعير من يقدم عليه وكانوا يتعايرون بأكل لحمه. وليس ذلك" لأنه يأكل اللحوم ولأنه سبع"، لو كان ذلك منهم "لكانت الضواري والجوارح أحق بذلك عندهم" إنما امتنعوا عن أكله، لأنه يأكل الجيف والقاذورات، ولذلك عدّه العبرانيون من الحيوانات النجسة، والحيوانات النجسة،هي في الغالب الحيوانات التي لا يجيز أكل لحومها، والظاهر أنه كان على هذه النظرة عند أغلب الساميين.

ونعت الغراب ب "الأعور"، قيل إنه نعت بذلك لحدة نظره، وقيل أنما سموه "الأعور" تفاؤلاً بالسلامة. ووصف بالحذر، فقيل: أحذر من غراب، وقيل انه نعت بذلك على التشاؤم به ة لأن الأعور عندهم مشؤوم، وقيل لخلاف حاله، لأنهم يقولون: أبصر من غراب، ويقال سمي الغراب أعور، لأنه إذا أراد أن يصيح يغمض عينيه.

ويذكر أهل الأخبار ان غراب البين نوعان: أحدهما صغار معروفة بالضعف واللؤم. أما الآخر، فانه ينزل في دور الناس، ويقع على مواضع اقامتهم اذا ارتحلوا عنها وبانوا منها، ولذلك سمي بغراب البين.

وللعرب عادات بالنسبة إلى الغراب، ترى انه اذا علق منقار الغراب على انسان، حفظ من العين. أما اذا علق طحاله على انسان، هيج الشبق. وان دمه اذا جفف وحشي به البواسير، أبرأها. واذا أكل مشوياً، نفع القولنج. واذا غمس الغراب الأسود بريشه في الخل، وطُلي به الشعر، سوّده. واذا طلي بها انسان مسحور، بطل عنه السحر. واذا جفف لسان الغراب "الزاغ"، ثم أكله انسان عطشان، ذهب عطشه.

ونسب إلى المرقش السدّوسي، ذكر الغراب في شعره، إذ قيل انه قال:   

ولقد غدوت وكنـت لا  أغدو على واق وحاتم

واذا الأشـائم كــالأيا  مِنِ، والأيامنُِ كإلأشائم 

ويبين هذان البيتان رأي هذا الشاعر في التيامن والتشاؤم.

وكان العرب اذا أرادوا ان يصفوا أرضاً بالخصب والسواد، قالوا: وقعوا في أرض لا يطير غرابها، فهذا يعني ان الأرض كلها خصبة مزروعة سوداء، لا ترى فيها قطعة بيضاء،ولا ترى إلا الزرع والخيرات والثمر. واذا أرادوا التعبير عن انتقال مرحلة الشباب إلى مرحلة الشيخوخة، وعن التهام الشيب لسواد الرأس: قيل: طار غراب البين.

وقد يكون في جملة أسباب تشاؤم العرب من الغراب، انه كَان يضر بإبلهم. فهم يذكرون انه اذا وجد دبرة في ظهر البعير، أو قرحة في عنقه، سقط عليها ونقره وعقره. ولذلك كانوا اذا رأوا دبرة بظهر البعير، غرزوا في سنامه إما قوادم ريش أسود، وإما خرقاً سودا، لتفزع الغربان فلا تتقرب منه ولا تسقط عليه. وقد يضعون الريش في اسنمتها وتغرز فيها. والعرب تسمي الغراب لذلك "ابن دأية"، لأنه ينقر دبرة البعير أو قرحة عنقه، حتى يبلغ إلى دايات العنق وما اتصل بها من خرزات الصلب، وفقار الظهر.

والغراب من الطيور التي ورد ذكرها في التوراة. والعبرانيون مثل العرب اعتقدوا بالطيرة منه، أي بتأثير حركاته وسكناته في احداث الفأل والشؤمْ. وقد ذكر "الجاحظ" جريدة بأسماء الجهات التي يقف عليها "الغراب" فينعب، وما سيقع من وقفته تلك ومن نعيبه، وما يجب أن يفعله أو يتجنبه ورقة ناقصة 796 وعدم الملل من شيء. ويقولون: ذهب الغراب يتعلم مشي العصفور أو القطاة، فلم يتعلمها، ونسي مشيته. فلذلك صار يحجل ولا يقفز قفزان العصفور، أو مشية القطاة.

والبوم من الطيور التي يتشاءم منها بعض الناس، ولعل ذلك بسبب منظرها الكئيب ولصوتها الحزين وظهورها في الليل، والليل هو رمز الشر. ويدل وصفها. "أم الخراب " و "أم الصبيان " على النظرة السيئة التي. كان يراها إلعرب لها. ويقال إن من أنواعها الصدى والهامة. ولعل اعتقادهم ان الصدى والهامة أو ذكر البوم منها، هي روح الميت المرفرفة على القبر هو التي حمل أولئك المتشائمين على التشاؤم منها.

والعاطوس، وهي سمكة في البحر أو دابة من الحيوانات التي كان العرب يتشاءمون منها. وكذلك "الأخيل" وهو "الشقراق"، له يتطيرون منه، ويسمونه مقطع الظهور: يقال اذا وقع على بعير، وان كان سالماً يئسوا منه، واذا لقي المسافر الأخيل تطير وأيقن بالعقر إن لم يكن موت في الطهر. وهم يتشاءمون من الثور الأعضب أيَ المكسور القرن. ويتشاءمون من "العراقيب"، الشقراق. وتقول العرب: اذا وقع الأخيل على البعير ليكشفن عرقوباه. وقيل: كل طائر يتطير منه للابل، فهو طير عرقوب لأنه يعرقبها.

ويتطيرون بالصرد، ومن أسمائه الأخطب، ويقال "الأخيل" كذلك. و "الواق" أيضاً الصرد. ويتشاءمون من "الأفكل"، وهو الشقران، فإذا عرض لهم كرهوه وفزعوا منه وارتعدوا.

وائثعلب والأرنب من الحيوانات التي استعان بها الزاجر، في للزجرا. وللواقع ان أهل الزجر قد توسعوا في علمهم حتى شمل كل المخلوقات، فحركات الإبل والخيل وسكناتها كلها ذات معان ومفاهيم يعرفها المشتغلون بالطيرة،وكانوا يستعينون بغيرها من الحيوانات.

وقد ذكر بعض الأخباريين أن العرب تتشاءم من الأفراس بالأشقر. وذكروا أيضاً أنها تطيرت من: "المرأة، والدار، والفرس". وفي الحديث: "إن كان الشؤم، ففي الدار والمرأة والفرس" وورد: "إنما للشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار". وذكر أن "عائشهَ"، قالت: "وإنما قال: ان أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك"، أي ان للرسول انما قال ذلك حكاية عن أهل الجاهلية فقط.

وكما يتغلب الإنسان على الأمراض بالأدوية والعلاج، كذلك يمكن التغلب على النحس وشؤم ناصية المرأة وعتبة الدار بالذبائح في بعض الاحيان، ولهذا جرت العادة بذبح ذبيحة أو عدة ذبائح عند زفاف العروس إلى بعلها ووصولها عتبة بيته طرداً للارواح الشريرة وإرضاء لها، كما جرت العادة بذبح الذبائح حين الانتقال إلى دار جديدة، أو حين الشعور بوجود أرواح فيها،ويقال لهذه الذبائح "ذبائح الجان".

وقد ابتدع الجاهليون طرقاً لإبعاد الطيرة من تفكيرهم، من ذلك انهم تجاهلوا بقدر إمكانهم، المسمياتّ التي تبعث على التشاؤم بتسميتها بضدها من الكلمات التي لا يتشائم منها، فسموْا اللديغ بالسليم، والبرية بالمفازةِ، وكنوا الأعمى بالبصير والأعور ممتعاً، والأسود أبا البيضاء، وسموا الغراب بحاتم، وذلك لتشاؤمهم من الغراب. واتسميه بالأضداد لدفع الطيرة عن الأذهان، ليست عادة جاهلية حسب، انما هي معروفة في الإسلام كذلك. كما انها معروفة عند غير العرب من الأمم قديمأَ وحديثا.

التثاؤب والعطاس

ويدخل في الطيرة بعض ما يصدر من الإنسان والحيوان من حركات، مثل التثاؤب والعطاس، والتثاؤب عمل من أعماله الشيطان. وأما العطاس، فقد كان أثره في أيجاد الشؤم شديداً، وهو من العادات الجاهلية المذكورة في الشعر المنسوب إلى الجاهليين. ذكر ان امرأ القيس قال: وقد اغتدي قبل العطاس بهكيل  شديد منبع الجنَب نعم المنطّق

وانه أراد بذلك انه كان يتنبه للصيد قبل ان ينتبه الناس من نومهم، لئلا يسمع عطاساً فيتشاءم بعطاسه.

وقبل ان العرب كانت تتطير منه، فإذا عطس العاطس، قالوا: قد ألجمه، كأنها قد تلجمه عن حاجته.

ويقال الكدسة لعطسة البهائم. وقد تقال لعطسة الإنسان. والكادس ما يتطير به من الفال والعطاس وغيرهما.

وقيل الكادس:. القعيد من الظباء، وهو الذي يجيء من خلفك، ويتشاءم به، كما يتشاءم بالبارح.

والعطاس فضلاً عن ذلك دواء في نظر أهل الجاهلية، لذلك كانوا يتجنبونه يقدر إمكانهم، ويحاولون جهدهم حبسه وكتمه. فإذا عطس أحدهم وكان وضيعاً مغموراً أسمعوه كلاماً مراً فيه رد للشؤم على صاحب العطاس، كأن يقولوا له: "ورياً وقحاباً". والوري هو داء يصيب الكبد فيفسدها، والقحاب هو السعال، أو: "بك لا بي: أسأل الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لا بي". أما إذا كان العاطس معروفاً محبوباً شريفاً، قالوا له: "عمراً وشباباً". وكلما كانت العطسة شديدة كان التشاؤم منها اشد. ويقال للدعاء على العاطس "التشميت" و"التسميت".

وقد نهى الإسلام عن التشاؤم بالعطاس، وعكسه، فجعله محبوباً، بحديث: "إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب".

واذا مات رجل قالوا: عطس الرجل، و "عطست به اللجم"، واللجمة ما تطيرت منه، ويقال للموت: لجم عطوس.

بعض من أنكر الطيرة

وكان بين الجاهليين أناس أنكروا الطيرة، ولم يحفلوا بها. منهم المرقش من بني سدوس، حيث قال: إني غدوت وكنـت ل  أغدو على واقٍ وحاتم 

فاذا الأشـائم كـالأيا  من والأيامن كالأشائم

فكـذاك لا خـير ولا  شرّ على أحد بـدائم

وممن كان ينكر الطيرة ويومي بذلك، سلامة بن جندل، والحارث بن حلزة. ونجد الشاعر "الخُثيم بن عدي" يمدح "مسعود بن بحر الزهري"، بقوله: وليس بهياب اذا شـد رحْـلـه  يقول عداني اليومَ واق وحاتـم

ولكنه يمضي على ذاك مقدمـاً  إذا صدّ عن تلك الهنات الخثارم 

فهو يمدحه، ويقول إن ممدوحه لم يكن من الخثارم، أي المتطيرين، بل كان إذا أراد أن يمضي أمراً، صد عن تلك الهنات، فلا يحفل بواق وحاتم.

وكان النابغة من المتطيرين، خرج مع "زبّان بن سيار" يريدان الغزو، فبينما هما يريدان الرحلة، إذ نظر النابغة وإذا على ثوّبه جرادة تجرد ذات ألوان، فتطير وقال: غيري الذي خرج في هذا الوجه! فلما رجع زبان من تلك الغزوة سالماً. أنشأ يذكر شأن النابغة، فقال: نخبـرّ طـيره فـيهـا زيادٌ  لتخبره وما فيهـا خـبـير

أقام كأن لقمـان بـن عـاد  أشار له بحكمته مُـشـير

تعـلـم أنـه لا طــير إلا  على متطيرّ وهوالثـبـور

بلى شيء يوافق بعض شيء  أحاييناً وباطـلـه كـثـير

واسم النابغة زياد.

وهناك نوع آخر من التنبؤ يقال له في الانكليزية، " Hepatscopy"، ويراد به استخراج الغيب من دراسة كبد الأضاحي التي تقدم إلى الالهة. وقد اشتهر به الكلدانيون على الأخص،وتوسعوا فيه فشمل أيضاً قراءة الرئة أو بقية الأحشاء. وكان معروفاً أيضاً عند العبرانيين واليونان والرومان والمصريبن وغيرهم. وللكبد أهمية خاصة عند العرب، وهو في نظرهم معدن العداوة ومقر الحقد، لذلك يقال للأعداء: سود الأكباد، لأن الحقد قد أحرق أكبادهم حتى اسودت. وقد تشاءموا من بعض الأيام، مثل "الأيام النحسات". وهي كل أربعاء يوافق أربعاً من الشهر، مثل أربع خلون، وأربع وعشرين، وأربع بقين. كما تشاءموا من بعض الشهور، مثل شهر شوّال، ولذلك كرهت التزوج فيهه. وورد يوم نحس و "أيام نحسات"، وهي المشؤومات. والعرب تسمي الريح الباردة إذا دَبِرت نحساً. والنحس: الجهد والضر، وخلاف السعد من النجوم وغيرها. وقد كان أهل نجد يتيمنون بالسانح، ويتشاءمون بالبارح، ويخالفهم أهل العالية، فيتشاءمون بالسانح، ويتيمنون بالبارح.

ويدخل في هذه الأيام. تشاؤم بعض الجاهليين من يوم معين وتفاؤلهم من يوم آخر. فيكون يوم التشاؤم يوم بؤس، يغضب فيه من يتشاءم منه على كل من يراه أول مرة أو في ذلك النهار، وقد يلحق به سوءاً كالذي روي من قصة "يومي البؤس والنعيم" عند "المننر بن ماء السماء" أو "النعمان بن المنذر". ويكون يوم التفاؤل "يوم نعيم" يفرح فيه صاحبه ويهش لكل من يراه ولا سيما لأول قادم عليه. وعبر عنهما ب "يوم بؤس " و "يوم نعُم".

وكانت العرب تتشاءم من كلبة يقال لها "براقش".

الفأل

والفال ضد التشاؤم والطيرة. ويكون برؤية شيء أو سماع أمر أو قول أو غير ذلك يُتفاءلُ منه، كأن يسمع مريض رجلا يقول يا سالم فيقع في ظنه انه يبرأ من مرضه، أو يسمع طالب حاجة رجلاً يقول يا واجد فيخال انه يجد ضالته، فيتوقع صحة هذه البشرى،. ويقال لذلك في الانكليزية Omen. وهو معروف عند العبرانين وقد ذكر في التوراة.

وأصل كلمة "الفأل" على ما يظهر للتشاؤم والتفاؤل، أي أنها كالطيرة أريد بها الحالتان، ثم تخصصت بالحسن، كما تخصصت الطيرة بالشؤم. وقد نهي في الحديث عن الطيرة. أما الفأل، فقد ورد ان الرسول كان يتفاءل ولا يتطير لما في التفاؤل من أثر طيب في أعمال الإنسان.

وضد "الشؤم" "اليمن"، ومن معاني اليمن "البركة"، و "الميامين" على نقيض "المشائيم"، و ""الميمون" ضد "المشؤوم". وورد "ميمون النقيبة" و "ميمون الناصية". ويلاحظ ان للناصية علاقهٌ متينة بالشؤم والتيمن، فكما يقال "ميمون الناصية" قيل "شؤم الناصية" كذلك، وهى كناية عن الإنسان، فقد كان في رأيهم ان من الناس من هم شؤم، ويجلبون الشؤم على من يراهم، وان منهم من تجلب رؤيته الخير لمن يراه. ويكون للحسن وللقبح ولسيماء الوجه والجسم دخل كبير في تكوين رأي عن الشخص الذي يُتشاءم أو يُتفاءل منه. وقد قلت إن بعض العاهات التي تكون في بعض الناس، تجعل غيرهم يتشاءمون منهم عند وقوع نظرهم عليهم في الصباح.

وهناك كلمات عديدة في التشاؤم و "الشؤم"، مثل "شائم" و "شؤم" و "مشؤوم" و "مشوم" و "مشائيم" و "تشاءموا"، و "الأشأم " وأمثال ذلك.

ولا يقتصر استعمال هذه الألفاظ على جنسٍ معين، بل تقال لكل ما يجلب الشؤم على الإنسان. فمن البشر - كما قلت - من هم شؤم على غيرهم، يجلبون الشرّ لمن يتشاءم منهم، يستوي في ذلك الرجال والنساء والأطفال. ولما كان التشاؤم قضية اعتبارية تتعلق بالنفس والمزاج، كان بعض الأشخاص أو الحيوانات أو الأشياء شؤماً عند ناس، بينما هم ليسوا كذلك عند جماعة آخرين. ولكن الغالب أن التشاؤم من الأشياء القبيحة أو الناقصة أو الراعبة وما شابه ذلك، فهذه المزعجات تؤثر على النفس، فتجعلها تتشاءم منها، وتتوقع حدوث النحس من رؤيتها، ولا سيما في الصباح، وعند الهمّ بالشروع في عمل مهم.

وكانوا يحبون أن يأتوا أعداءهم من شق اليمين. يتفاءلون بذلك. لأن في اليمين اليمن، وفي اليسار العسر.

وللاسماء والكلمات أثرها في الفأل وفي الطيرة، فالأسماء الحسنة الجميلة تبعث على التفاؤل، أما الأسماء الخبيثة والرديئة فإنها تولي التشاؤم. وقد عرف هذا النوع من التفاؤل في الإسلام، ولم ينه عنه. بل قيل ان الرسول كان يتأثر من الأسماء، وكان يقول إذا أعجبته كلمة: "أخذنا فألك من فيك"، وانه يعجبه إذا خرج لحاجة أن يسمع: يا راشد، يا نجيح، وأنه قال: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل" وللطيرة سمت العربُ المنهوش السليم، والبرّية المفازة،وكنوّا الأعمى أبا بصير، والأسود أبا البيضاء، وسمّوا الغراب بحاتم، إذ كان يحتم الزجر به على الأمور وورد ان العرب اذا تطيروا من الإنسان وغيره قالوا: صباح الله لا صباحك.

ولإيمان العرب بباب الطيرة والفأل عقدوا الرتائم، وعشروا اذا دخلوا القرى تعشير الحمار، واستعملوا في القداح الآمر،والناهي، والمتربص، وهن غير قداح الأيسار.

ومن أبواب الفراسة النظر إلى خطوط الكف للاستدلال بها على طبيعة صاحب الكف وعلى ما سيحدث له من أحداث. وقد أشار إلى الكف والى أسرارها الأعشى في قوله: أنظر إلـى كـفٍ وأسـرارهـا  هل أنت، إن أوعدتني، ضائري

ٍولمراقبة الكلف الذي يظهر على وجه القمر ودراسة النجوم والظواهر الطبيعية التي تحدث للاجرام السماوية كالكسوف والخسوف، أهمية كبيرة في التكهن. وقد كان الجاهليون يعتقدون ان للكسوف والخسوف أثراً في حياة الإنسان، فاذا وقعا دلا على موت انسان عظيم أو حياته، أو ولادة مولود صاحب حظ كبير.

وكذلك كان رأيهم في تساقط النجوم. وقد أشير اليه في أشعار القدماء من الجاهلية، منهم عوف بن الجزع وأوس بن حجر وبشر.بن أبي خازم.

وقد كان في زعم الكهان من صنف المنجمين أن في استطاعتهم التأثير في الأجرام السماوية وفي احداث الضباب والأمطار والعواصف والرياح، وقد نهي عن التصديق بها في الإسلام، لتعارضها مع الايمان بسيطرة الله وهيمنته وحده على الكون.

وكان للجاهليين اعتقاد بأثر فعل النجوم في الإنسان، ولهذا كانوا يراقبون السماء لتفسير ما يرون فيه من تساقط نجوم، ومن أخبار الشياطين عما يستمعون اليه من وحي السماء. وذكر أنهم كانوا يفزعون إذا تساقطت الشهب بكثرة غير معهودة. وقد حدث أن تساقطت النجوم بكثرة ففزعوا وجزعوا وقالوا: "هلك من في السماء. فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيراً، وصاحب البقر يذبح كل يوم بقرة، وصاحب الغنم كل يوم شاة حتى أسرعوا في اتلاف أموالهم. فقالت ثقيف بعد سؤال كاهنهم.. امسكوا عن أموالكم، فإنه لم يمت من في السماء. ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي. والشمس والقمر كذلك"ا. فكأنهم تصوروا أن تساقط النجوم بكثرة معناه اختلال نظام السماء وموت من فيه، واحتمال فناء العالم تبعاً لذلك.

وكانوا إذا خافوا من شيء وأرادوا الاستعاذة، كأن يكون الإنسان مسافراً فرأى من يخافه قال: حجراً محجوراً، اًي حرام عليك التعرض بي. وقد ترك هذا الاستعمال في الإسلام.

وقد ورد الحديث في النهي عن التطير. جاء: "الطيرة شرك. ولكن الله يذهبه بالتوكل".

الفصل السابع والثمانون
من عادات وأَساطير الجاهليين

ولأهل الجاهلية عادات وأساطير كثيرة، وقد اختص العرب بقسم منها، أما القسم الثاني فهو عام معروف، عرف عند الساميين والعجم، وهي مما يقل له " الشعيبات" أو "الفولكلوريات" في مصطلح الافرنج لهذا العهد.

فمن ذلك ما كانوا يفعلونه في أسفارهم إذ كان أحدهم اذا خرج إلى سفر عمد إلى ضخرة من "الرتم"، فعقد غصناً منها، فاذا عاد من سفره ووجده قد. انحلّ، قال: قد خانتني امرأتي، وإن وجده على حاله قال لم تخني. ويقال لذلك العقد "الرتم" و "الرتمة". وذكر ان الرجل منهم كان اذا سافر عمد إلى خيط فعقده في غصن شجرة أو في ساقها، فاذا عاد نظر إلى ذلك الخيط، فان وجده.بحاله علم ان زوجته لم تخنه، وإن لم يجده أو وجده محلولاً قال: قد خانتني. ويقال: بل كانوا يعقدون طرفاً من غصن الشجر بطرف غصن آخر.

وتستعمل "الرتمة" لتذكير الإنسان بشيء، يستعملها من يكثر نسيانه. وهي خيط يعقد في الاصبع للتذكير. وقد يعقد على الخاتم.

ومن اعتقادهم في السفر ان من خرج في سفر والتفت وراءه لم يتم سفره. فان التفت تطير، وفسره بالعودة. فلذلك لا يلتفت إلا العاشق الذي يريد العود، ومنها التصفيق: كاتوا اذا ضل الرجل منهم في الفلاة، قلب ثيابه، وحبس ناقته، وصاح في أذنها كأنه يومىء إلى انسان، وصفق بيديه: الوحا الوحا، النجا النجا، هيكل، الساعة الساعة، إليّ إلي"، عجّل، ثم يحرك الناقة فيهتدي. قال الشاعر: وأذن بالتصفيق من ساء ظنه  فلم يدرِ من أي اليدين جوابها 

وذكر انه كان يقلب قميصه ويصفق بيديه كأنه يومىء بهما إلى انسان فيهتدي.

وكان أحدهم اذا أراد دخول قرية، فخاف وباءها أو جنهّا، وقف على بابها قبل ان يدخلها، فنهق نهيق الحمار، ثم علق عليه كعب أرنب، كأن ذلك عوذة له ورقية من الوباء والجن. ويسمون هذا النهيق التعشير.

وروي ان "عروة بن الورد" خرج إلى "خيبر" ليمتار، فلما قربوا منها، عَشَّرَ من معه، وعاف "عروة" أن يفعل فعلهم فيقال: إن رفقته مرضوا، وماتَ بعضهم، ونجا "عروة" من الموت والمرض".

وكان مسافرهم إذا ركب مفازة وخاف على نفسه من طوارق الليل، عمد إلى واد ذي شجر، فأناخ راحلته في قرارته، وهي القاع المستديرة، وعقلها، وخط عًليها خطاً، ثم قال: أعوذ بصاحب هذا الوادي. والى ذلك أشار القرآن "وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً".

وذكر أنهم كانوا إذا نزلوا الوادي، قالوا: نعوذ بسيّد هذا الوادي من شر ما فيه، فتقول الجن ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضراً ولا نفعاً.

ومن عادات بعض العرب أنهم إذا خافوا شر إنسان وأرادوا عدم عودته اليهم، أوقدوا خلفه ناراً، إذا تحول عنهم، ليتحول ضبعه معه، أي شره. وكانوا يقولون: أبعد اللّه دار فلان وأوقد ناراً اثره، والمعنى لارجعه الله ولارده.

وإذا غاب انسان، فلم يقفوا على أثره، ففي الوسع الاهتداء اليه، وذلك باًن يذهبوا إلى بئر قديمة أو حفر قديم، ثم ينادوا في البئر أو الحفر اسم الغائب ثلاث مرات، فإن سمعوا صوتاً علموا أنه حي معافى، وإن لم يسمعوا شيئاً علموا أنه قد مات.

وإذا أرادوا ضمان عدم رجوع الثقلاء ومن لا يرغب في عودتهم، فإن الثقيل اذا غادر المحل، عمد صاحب البيت والمكان الى كسر شيء من الأواني أو رمى حجراً خلفه، وفي ذلك ظن بألا يعود.

ومن خرافاتهم أن أحدهم كان إذا اشترى داراً أو استخرج ماء عين أو بنى بنياناً وما أشبهه، ذبح ذبيحة للطيرة. وقد عرفت عندهم بس "ذبائح الجن".

وكانوا يفعلون ذلك مخافة أن تصيبهم الجن وتؤذيهم. وقد نهي في الإسلام عن ذبائح الجن.

وأوجدوا لدوام الحب علاجاً، هو شق الرداء والبرقع. زعموا أن المرأة إذا أحبت رجلاً أو أحبها ثم لم تشق عليه رداءه، ويشق عليها برقعها، فسدحبهما، فإذا فُعل ذلك دام حيهما.

وإذا صعب على المرأة العثور على خاطب لها، فإن في الإمكان تيسير ذلك بنشر جانب من شعرها، وتكحيل إحدى عينيها، وتحجيل احدى رجليها،ويكون ذلك ليلاَ، ثم تقول: "يا لكاح، أبغي النكاح، قبل الصباح"، فيسهل امرها، وتتزوج عن قريب.

ومن ارالْهم أن الرجل منهم اذَا عشق ولم يسلَ وأفرط عليه العشق، حمله رجل على ظهره كما يحمل الصبي، وقام آخر فأحمى حدَيدة أو ميلاً وكوى به بين إليتيه فيذهب عشقه.

ولدوام الحب بين الرجل والمرأة، يشق الرجل برقع من يحبها وتشق المرأة رداءه، فيصلح حبهما ويدوم، فإن لم يفعلا ذلك فسد حبهما.

واذا غاب عن النساء من يحببنه أخذن تراباً من موضع قدمه وموضع رجله، ليرجع سريعاً.

واذا أرادت المقلاة ان يعيش ولدها، ففي امكانها ذلك اذا تخطت القتيل الشريف سبع مرات، وعندئذ يعيش ولدها. وانما كانوا يفعلون ذلك بالشريف يقتل غدراً. وقد ذكر ذلك في شعر لبشر بن أبي خازم.

ومن عقائدهم ان صاحب الفرس المهقوع اذا ركبه فعرق تحته اغتلمت امرأته، وطمحت إلى غيره. والهقعة: دائرة تكون بالفرس، وربما كانت على الكتف في الأكثر.

وكان الصبي اذا بترت شفته، حمل منخلاً على رأسه ونادى بين بيوت الحي: "الحلاء الحلاء، الطعام الطعام " فتلقي له النساء كسر الخبز والتمر واللحم في المنخل، ثم يلقى ذلك للكلإب، فتأكله فيبرأ من المرض فان أكل صبي من الصيان من ذلك الذي ألقاه للكلاب تمرة أو لقمة، بترت شفته.

وتعالج "الخطفة" و "النظرة" عند الصبيان بتعليق سن ثعلب، أو سن هرة على الصبي، فان تلك الأسنان تهرٌب الجن. ويهربها كذلك تنقيط شيء من صمغ "السمرة" "حيض السمرة"، وهي شجرة من شجر الطلع، بين عيني النفسَاء، وخط شيء منه على وجه الصبي خطاً، فلا تجرؤ الجنية على التقرب من الصبي، ويقال لذلك "النفرات". فاذا قال لها صواحباتها في ذلك، قالت: كانت عليه نفرهْ  ثعالب وهرره

والحيض حيض السمرهْ ومن عاداتهم في إبعاد الجن عن الصبيان، تنفير المولود، وذلك ان يسميه باسم غريب منفر، فينفر الجن منه، ولا يتقربون منه.

وعادة أخذ الغلام اذا ثغر، السن الساقط ووضعه اياه بين السبابة والإبهام، واستقبال الشمس، وقذف السن في عينها، لا تزال معروفة حتى الان، وهم يقولون في ذلك: "ابدليني بسن أحسن. منها، ولتجر في ظلمها إياتك"، أو "أبدليني أحسن منها، امن على أسنانه العوج، والفلجَ، والثعل،. قال طرفة: بدلته الشمس من منِبـتـه  برداً أبيضَ مصقول الأُشّر 

واعتقد قوم منهم ان من ولد في القمراء، تقلصت غرلته، فكان كالمختون، واعتقدرا ان طول الغرلة من تمام الخلقة وأقرب ما يكون إلى السؤدد.

ومن عقائدهم، أن المولود إذا ولد يتناً، كان ذلك علامة سوءٍ، ودليلاً على الفساد. واليتن خروج رجل المولود قبلَ رأسه.

ومن عقائدهم ان الرجل كان اذا ظهرت فيه القوباء عالجها بالريق، واذا أصيب أو أصيبت دابته بالنملة، وخط عليها اين المجوسي اذا كان من اخته تبرا وتنصلح وترأب.

وزعموا أن من أصيب ب "الهُدَ بِد"، وهو "العشَا" يكون في العين عمد إلى سنام فقطع منه قطعة، ومن الكبد قطعة، وقلاهما، وقال عند كل لقمة يأكلها بعد أن يمسح جفنه الأعلى بسبابته: فيا سناماً وكَبِـد  ألا اذهبا بالهُدَبدٌ

ليس شفاء الهدبد  إلا السنام والكبدَ 

ويزعمون أن ذلك يذهب بالعشا بذلك.

وقد زعم الجاهليون أن الطاعون الذي كان يقع كثيرأ في الجاهلية فيحصد الناس حصداً، هو من وخز الجنّ،وأنه من فعلهم في الإنسان ودعوه "رماح الجن"، وذكر ذلك في الشعر فقال أحد الشعراء: لعمرك ما خشيت على عدي  رماح بني مقيدة الحمـار

ولكني خشيت على "عديّ"=رماح الجن أو إياك جار وكانوا يرون أن أكل لحوم السباع يزيد في الشجاعة والقوة.

وفي حركات الإنسان دليل ومعان تنبىء عن أشياء. فإذا اختلجت العين دل، ذلك على توقع قدوم شخص غائب محبوب، ولا تزال هذه العادة باقية عند الناس اليوم، ومن عاداتهم أن أحدهم اذا خدرت رجله، ذكر أحب الناس اليه، فتنبسط. وكانوا يعقدون الرتم للحمى، ويرون أن من حلها انتقلت الحمى اليه. قال أحد الشعراء: حللت رتيمة فمكثت شهراً  أكابد كل مكروه الـدواء

وقد زعموا ان في البطن حية، اذا جاع الإنسان،عضت على شرسوفه وكبده. وقيل: هو الجوع بعينه، ليس أنها تعض بعد حصول الجوع.

ركان من عادة الجاهليين حمل ملوكهم على الأعناق إذا اشتد بهم المرض. وهم يعتقدرن أنهم بذلك سيتغليون على المرض، ويعللون ذلك بأنه أسهل على المريض، وأكثر راحة له من وضعه على الأرض.

واعتقدت العرب ان دمَ الملوك والرؤساء يشفي من عضة الكلب، وزعموا ان الكَلَب جنون الكلاب المعتري من أكل لحم الإنسان. وأجمعت العرب ان دواءه قطرة من دم ملك يخلط بماء فيسقاه، وقيل إن الرجلَ الكلَب يعض انساناً فيأتون رجلاً شريفاً، فيقطر لهم من دم اصبعه، فيسقون الكلبَ فيبرأ.

ومن عقائدهم انهم كانوا اذا قتلوا الثعبان خافوا من الجن ان يأخذوا بثاًره، فيأخذون روثة، ويفتونها على رأسه، ويقولون: روثة راث ثائرك. وقد يذر على الحية المقتولة يسير رمادٍ، ويقال لها: قتلك العين فلا ثاثر لك. وفي أمثالهم لمن ذهب العين دمه هدر: هو قتيل العين.

واعتقد الجاهليون ب "السفعة"، و "السفعة" العين تصيب الإنسان: عين إنسية وعين جنية، و "السفعة" النظرة من الجن.

واذا طالت علة الواحد فهم، وظنوا ان به مساً من الجن، لأنه قتل حية أو يربوعاً أو قنفذاً، عملوا جمالاً من طين، وجعلوا عليها جوالق وملؤوها حنطة وشعيراً وتمراً، وجعلوا تلك الجمال في باب جحر الى جهة المغرب وقت غروب الشمس، وباتوا ليلتهم تلك، فاذا أصبحوا، نظروا إلى تلك الجمال الطين، فاذا رأوا انها بحالها، قالوا: لم تقبل الهدية، فزادوا فيها، وإن رأوها قد تساقطت وتبدد ما عليها من الميرة قالوا: قد قبلت الدية، واستدلوا على شفاء المريض، وفرحوا، وضربوا بالدف.

ومن أوابدهم تعليق الحلي والجلاجل على اللديغ، يرون انه يفيق بذلك، ويقال انه انما يعلق عليه، لأنهم يرون انه ان نام يسري السم فيه فيهلك، فشغلوه بالحلي والجلاجل وأصواتها عن النوم. وذهب بعضهم إلى انه اذا علق عليه حلي الذهب برأ، وإن علق الرصاص أو حلي الرصاص مات.

ومن آرائهم في إطفاء نار الحرب انهم كانوا ربما أخرجوا النساء فبلن بين الصفين، يرون ان ذلك يطفىء نار الحرب ويقودهم إلى السلم.

ومن وسائل إبعاد الجن عن الناس، وإبعاد عيونهم عنهم، تعليق كعب الأرنب. يقولون إن من فعل ذلك لم تصبه عين ولا سحر، وذلك لأن الجن تهرب من الأرنب، لأنها ليست من مطايا الجن، لأنها تحيض. وذكر أيضاً ان من علق على نفسه كعب أرنب، لم يقربه "عمار الحي" "جنّان الحي" و "جنّان الدار"، و "عمّار الدار" و.لا "شيطان الحماطة" وجانّ العشرة "جار العشيرة" وغول العقر "غول القفر"، وكل الخرافي وان الله يطفىء نار السعالي. و "الحماطة" شجرة شبيهة بالتين تأوي اليها الحيات.

وكانوا إذا خافوا على الرجل الجنون وتعرض الأرواح الخبيثة له، نجسوه بتعليق الأقذار عليه، كخرقة الحيض وعظام الموتى. وذكروا أن أنفع من ذلك أن تعلق طامث عظام موتى ثم لا يراها يومه ذلك. ويشفي التنجيس من كل شيء، إلا من العشق.

ومن مذاهبهم قولهم في الدعاء: "لا عشت إلا عيش القرُاد". يضربونه مثلاً في الشدة والصبر على المشقة يزعمون أن القُراد يعيش ببطنه عاماً وبظهره عاماً.

وكانوا يتبركون بأشياء، منها المدمى من السهام، الدي ترمي به عوك ثم يرميك به. وكان الرجل إذا رمى العدو بسهم فأصاب، ثم رماه به العدو وعليه دم، جعله في كنانته تبركاً به. ذكر أن "سعداً" قال: "رميت يوم أحد رجلاً بسهم فقتلته، ثم رميت بذلك السهم أعرفه، حتى فعلت ذلك وفعلوه ثلاث مرات، فقلت:هذا سهم مبارك مدمى فجعلته في كنانتي،فكان عنده حتى مات".

كان أحدهم يلقى الرجل يخافه في الشهر الحرام، فيقول: حجراً محجوراً، أي حرام محرم عليك هذا الشهر، فلا. يبدؤه بشر. وكانوا يقولون ذلك اذا نزلوا مكاناً وخافوا فيه من الجن.

وكان من عاداتهم أنهم كانوا إذا أرادوا أن تورد البقر الماء، فعافته قدموا ثورأَ، فضربوه،فورد، فاذا فعلوا ذلك، وردت البقر. وفي ذلك قال الأعشى: و ما ذنبه إن عافت الماء باقر  وما أن تعاف الماء إلا لتضربا 

ويقولون إن الجن تصد البقر عن الماء، وان الشيطان يركب قرني الثور.

ويظهر أن هذا الاعتقاد من الاعتقادات التي كانت شاثعة بين الجاهليين،بدليل وروده في أشعار عدد من الشعراء. وكانوا يزعمون أن الجن هي التي تصدّ الئيران عن الماءحتى تمسك البقرعن الماءحتى تهلك.

ومن عاداتهم أيضاً أنهم كانوا اذا وقع العرُ" في ابلهم، اعترضوا بعيراً صحيحهاً لم يقع ذلك فيه، فكووا مشفره وعضده وفخذه. يرون أنهم اذا فعلوا ذلك ذهب العر عن ابلهم.

وذكر أن العرّ قروح مثل القوباء، تخرج بالإبل متفرقة في مشافرها وقوائمها يسبل منها مثل الماء الأصفر، فتكوى الصحاح لئلا تعديها المراض، تقول منه: عرت الإبل، فهي معرورة. قال النابغة الذبياني: فحملتنى ذنب امرىء وتركـتـه  كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع 

وفي المعنى المذكور قول الشاعر: فألزمتني ذنباً وغـيريّ جـرّه  حنانيَكْ لا تكوِ الصحيح بأجربا 

وقول آخر: كمن يكوي الصحيح يروم برءاً  به من كل جربـاء الإهـاب

وذكر ان الفصبل كان اذا أصابه العر،عمدوا إلى أمه فكووها،فيبرأ فصيلها.

ومن ذلك انهم كانوا يفقاون عين فحل الإبل، لئلا تصيبها العين. وكانوا اذا كثرت إبلهم فبلغت الألف، فقأوا عين الفحل، فان زادت الإبل على الألف فقأوا العين الأخرى. وذلك المقفأ والمعمى.

وكانت العرب اذا أجدبت، وأمسكت الماء عنهم، وتضايقوا من انحباس المطر، وأرادوا ان يستمطروا، عمدوا إلى السلع والعُشَر، فحزموهما، وعقدوهما في أذناب البقر، واضرموا فيها النيران، وأصعدوها في موضع وعر، واتبعوها، يدعون الله ويستسقون، وانما يضرمون النار في اذناب البقر تفاؤلاً للبرق بالنار. وكانوا يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات. ويقال لهذا الفعل "التسليع". وذكر ان التسليع فى الجاهلية انهم كانوا اذا أسنتوا، أي أجدبوا، علقوا السلع مع العشر بأذناب البّقْر وحدروها من الجبال وأشعلوا في ذلك السلع والعشر النار يستمطرون بذلك. ونجد من الرواة من يقول: حدروها من الجبال وأشعلوا في ذلك السلع والعشر النار، ومنهم من يقول: ثم يضرمون فيها النار،وهم يصعدونها في الجبل، فيمطرون.

وقد أشير إلى هذا الفعل في الشعر، قال أمية بن أبي الصلت: سلَعَُ ما،ومثلهُ عشرٌ مـا  عائلٌ ما، وعالت البيقورا 

وقال الورك الطائي "وداك الطائي".

لا درّ درّ رجال خاب سعـيهـم  يستمطرون لدى الأزمات بالعشر 

أجاعل أنت بيقـوراً مـسـلـعة  ذريعةً لك بين الله والـمـطـر

ومن السلع " المُسَلّعةُ، كانت العرب في جاهليتها تأخذ حطب السلع والعشر في المجاعات وقحوط القطر، فتوقر ظهر البقر منها، وقيل: يعلقون ذلك في أذنابها، ثم تلعج النار فيها يستمطرون بلهب النار المشبه بسنى اليرق. وقيل: يضرمون فيها النار، وهم يصعدونها في الجبل، فيمطرون".

وقد تعرض "أبو الحسين احمد بن فارس" لموضوع "البيقور"، فقال: "كانت العرب اذا أمسكت السماء قطرها، استمطروا، فعمدوا إلى شجرتين يقال لهما السلع والعشر، فعقدوهما في أذناب البقر فأضرموا فيها النار، وأصعدوها في جبلً وعر وتبعوا آثارها، يدعون الله عز وجلّ ويستسقونه. قال ابن الكلبي: وانما يضرمونً النار تفاؤلاً للبرق". "كانوا اذا فعلوا ذلك توجهوا نحوالمغرب من بين الجهات كلها قصداً إلى العينّ، والعين قبلة العراق. قال العجاج: سارٍ سَرى من قبل العين فجر  غُرَّ السحاب والمرابيع البكر

عقيدتهم في الحيوان

وللجاهليين عقائد في الحيوان. فمنهم من كان يعتقد أن للجن بهذه الحبوانات تعلقاً، ومنهم من يرى أنها نوع من الجن، ومنهم من كان يرى أن لبعضها، مثل الورل والقنفذ والأرنب والظبي واليربوع والنعام، صلة بالجن، وأنها مراكب لها، يمتطونها كما يمتطي الإنسان الخيل والبغال والابل والحمير.

ومن مراكب الجن، "العضرفوط"، قال الشاعر: وكل المطايا قد ركِبنا فلم نجـد  ألذّ وأشهى من وخيد الثعالـب

ومن فارة مزمومة شـمـرية  وخود بردفيها أمام الـركـائب

ومن عضرفوط حطَّ بي من ثنية  يبادر سرباً من عظاء قـوارب

والعضرفرط دويبة من دواب الجنْ، ويقال: العضرفوط ذكر العظِاء، وقيل: دويبة تسمى العِسودة، بيضاء، ناعمة.

واعتقدوا أن السموم لما فرقت على الحيوانأت، احتبست العظاية "العظاءة" عند التفرقة حتى نفذ السم، وأخذ كل حيوان قسطاً منه على قدر السبق اليه، فلم تنل العظاية نصيباً منه، فخسرته. لذلك صارت تمشي مشياً سريعاً ثم تقف، لما يعرض لها من التذكر والأسف على ما فاتها من السم. و "الظباء" ماشية الجن، في زعم بعضهم وهي تسمع وتكلم، ولهم قصص عنها.

وتزعم العرب أن "الهديل"، فرخ على عهد "نوح" مات عطشاً، وضبعه أو صاده جارح من جوارح الطير، فما من حمامة الا وهي تبكي عليه.

وللخرز عند الجاهليين وعند الأعرابّ حتى اليوم، شأن كبير في السحر وفي دفع أذى الأرواح والعين، وفي النفع والحب، وأمثال ذلك. وسأتحدث عنها في المكان المخصص بالسحر.

وضرب المثل ببخل "أبي حباحب". من محارب خصفة، وكان بخيلاً، فكان لا يوقد ناره الا بالحطب الشخت لئلا ترى، وقيل: اسمه "حباحب"، فضرب بناره المثل، لأنه كان لا يوقد الا ناراً ضعيفة، مخافة الضيفان، فقالوا: نار الحباحب.

وأم حباحب: دويبة، مثل الجندب، تطير، صفراءخضراء، رقطاء برقط مفوة وخضرة، ويقولون اذا رأوها: أخرجي بُردى اًبي حباحب، فتنشر جناحيها، وهما مزينان بأحمر وأصفرْ.

وللعرب أساطير عن الكواكب، من ذلك ما ذكروه من ان "الدَّيران" خطب "الثريا" وأراد القمر ان يزوجه منها، فامتنعت وأعرضت، وقالت للقمر: ما أصنع بهذا السبروت الذي لا مال له ? فجمع الدبران قلاصه،ووضعها قدامه، وأخذ يتبعها يريد اقناعها بالزواج منه. ومن ذلك قولهم في "المرزم"، وهو "الشِعرى"، يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه في شدة الحر. تقول العرب: اذا طلعت الشعرى جعل صاحب النحل يرى، وهما الشعريان: "العبور" التي في "الجوزاء" و "الشعرى الغميصاء" التي في الذراع. تزعم العرب انهما أخت "سهيل". وقد عبدت طائفة من العرب "الشعرى العبور". قالوا: انها عبرت السماء عرضاً، ولم يعبرها عرضاً غيرها، فأنزل اللَه: )وانه هو رب الشعرىَ (، وسميت الأخرى "الغميصاء"، لأن العرب قالت في حديثها انها بكت على أثر العبور حتى غمصت.

وزعموا ان "سهيلاً" كان عشّارأَ على طريق اليمن ظلوماً فمسخه الله كوكباً. وعرف بأنه نجم يماني عند طلوعه تنضج الفواكه وينقضي القيظ.

و "الشمس" إلهة عند كَثيرمن الجاهليين، فتعبدوا لها، وعدّت صنماً عندهم، ومن أساطيرهم ما نحدثوا به عن "برد العجوز"، حدثوا ان عجوزاً دهرية كاهنة من العرب كانت تخبر قومها ببرد يقع في أواخر الشتاء وأوائل الربيع فيسوء أثره على المواشي، فلم يكترثوا يقولها، وجزوا أغنامهم: واثقين باقبال الربيع، فلم يلبثوا إلا مديدة حتى وقع برد شديد، أهلك الزرع والضرع، ققالوا هذا برد العجوز. يعنون العجوز التي كانت تنُذر به.

وحدثوا: أن عجوزاً كانت بالجاهلية، ولها ثمانية بنين، فسألتهم أن يزوجوها وألحت عليهم، فتآمروا بينهم، وقالوا: إن قتلناها لم نأمن عشيرتها، ولكن نكلفها البروز للهواء ثماني ليال، لكل واحد منا ليلة. فقالوا لها: ان كنت تزعمين أنك شابة،. فابرزي للهواء ثماني ليال، فإننا نزوّجك بعدها، فوعدت بذلك، وتعرت تلك الليلة والزمان شتاء كلب، و برزت للهواء. وفعلت مثل ذلك في اللبل الآخر، فلما كانت الليلة السابعة، ماتت.

ونسب العرب اليها برد الأيام الثمانية، وأسماؤها: الصن"، والصنبر، والوبر، وآمر، ومؤتمر، ومعلل، ومطفئ الجمر، ومكفىء الظعن.

ومن الأمرر التي تداولوها قولهم في "زمن الفطحل". وضربهم المثل به، قالوا: أيام كانت الحجارة رطبهَ، وإذ كل شيء ينطق. وهو دهر لم يخلق فيه الناس بعد.

وكانوا يعتقدون بالمسخ. وهو تحويل صورة إلى أخرى أقبح منها، وتحويل انسان الى حيوان أو حجر. ولهم اعتقادات في مسخ الأطفال، وتبديل "الجن" لهم بأولادهم من ذوي العاهات. وقد زعموا أن "اللات" صنم ئقيف، كان في الأصل يهودياً يلتّ السويق في "الطائف" فمسخ حجراً، عبد فصار "اللات".

وللعرب قصص وضعوه على ألسنة الحيوانات نجده في كتب الأدب. ولهم أمثلة وراءها قصص في سبب ضربها. ونجد في كتب الأمثال والأدب أشياء كئيرة من ذلك. وقد صوروا بعض الحيوانات ناطقة عاقلة،ونسبوا لها الحكمة والقول الحسن. وصوروا بعضها بليدة غبيةّ. ونجد في كتب الأمثال والأدب أشياء كثيرة من ذلك.

واتخذوا من بعض الناس مثلاَ على أمر من أمور الحياة. وضربوا بهم الأمثال. فضربوا المثل ببلاغة "سحبان وائل" وبقدرته على الخطابة. وبفصاحة "قس بن ساعدة الايادي". وجعلوهما المثل الأعلى في البلاغة والفصاحة عند العرب.

ووضعوا "باقل" مثلاً للعي والبلادة. فمما رووه عنه، أنه اشترى ظبياً باًحد عشر درهماً، فمرّ، بقوم فقالوا: بكم أخذت الظبي فمدّ يديه، وأخرج لسانه، يريد بأصابعه عشرة دراهم وبلسانه درهماً فشرد الظبي حين مد" يديه، وكان الظبي تحت إبطه، فجرى المثل بعيه، وقيل: أشد عيأ من باقل، وأعيا من باقل،كما قبل أبلغ من سحبان وائل. وذكر انه كان من ربيعة.

واتخذوا "بيهس" الفزَاري، الملقب بنعامة، مئلاً للحمق، فقالوا: أحمق من بيهس. وهو أحد الاخوة السبعة الذين قتلوا،وترك هو لحمقه. زعموا أنه هو القائل: ألبس لكل حالة لبوسها  إما نعيمها وإما بوسها 

وإنما لقب بيهس بنعامة لأنه كان شديد الصمم، وإذا دعا الرجل من العرب على صاحبه بالصمم،قال: اللهم اصنجه صنجاً كصنج النعامة. والصنج أشد ألصمم.

وضرب المثل بحمق "هبنقة"، واسمه "يزيد بن ثروان" أحد بني قيس بن ثعلبة، الملقب ب "ذي الودعات". لقب به لأنه جعل من عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف مع طول لحيته. فسئل عن ذلك، فقال: لئلا أضل، أعرف بها نفسي، فسرقها أخوه في ليلة وتقلدها، فأصبح هبنقة ورآها في عنقه، فقال: أخي أنت أنا، فمن أنا ? فضرب بحمقه المثل. فقيل أحمق من هبنقة.

وضربوا المثل بحمق دُغة. وهي بنت منعج، زوّجت وهي صغيرة في بني العنير، فحملت، فلما ضربها المخاض ظنتْ انها تحتاج إلى الخلاء، فبرزت إلى بعض الغيطان ووضعت ذا بطنها، فاستهل الولبد، فجاءت منصرفة وهي لا تظن إلا انها أحدثت. فقالت لأمها: يا أماه، هل يفتح الجعُر فاه ? قالت: نعم ويدعو أباه، فسبّ بها بنو العنير، فسموا بني الجعراء.

وقيل هي امرأة من بني عجل بن لجيم. وقيل هي: دغة بنت معيج بن إياد اين نزار. ولدت لعمرو بن جندب بن العنبر. وذكر ان اسمها: مارية بنت ربيعة، من عجل، وكانت عند "جندب بن العنبر" فولدت له "عدي بن جندب"، وكانت حمقاء حسناءْ.

وضربوا المثل ب "جوف حمار". وقالوا: هو أكفر من حمار، وأخلى من جوف حمار. وهو رجل من عاد، يقال له حمار بن مويلع،وجوفه واد له طويل عريض. لم يكن ببلاد العرب أخصب منه، وفيه من كل الثمرات، فخرج بنوه يتصيدون: فأصابتهم صاعقة فهلكوا، فكفر. وقال: لا أعبد من فعل هذا ببني، ودعا قومه إلى الكفر فمن عصاه قتله، فأهلكه الله تعالى وأخرب واديه، فضرب العرب به المثل في الخراب والخلاء. قال الأفوه الأودي: وبشؤم البغي والغشم قديماً  قدخلاجوف ولم يبق حمار 

وذكر ان الجوف واد بأرض عاد، فيه ماء وشجر، حماه رجل اسمه حمار كان له بنون فأصابتهم صاعقة فماتوا، فكفر كفراً عظيماً وقتل كل من مر به من الناس. فأقبلت نار من أسفل الجوف فأحرفته ومن فيه وغاض ماؤه فضربت العرب به المثل. فقالوا: أكفر من حمار، ووادٍ كجوف الحمار وكجوف العبر وأخرب من جوف حمار.

وورد انه "حمار بن مالك"، وهو رجل من عاد وقيل من العمالقة. كان مسلماً أربعين سنة في كرم وجود، فخرج بنوه عشرة للصيد، فأصابتهم صاعقة فهلكوا. فكفر كفرأَ عظيماً. وقال لا أعبد من فعل ببنيّ هذا. وكان لا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فان أجابه وإلا قتله. فأهلكه اللّه وخرب وادبه.

واذا وعد انسان وعداً، فعليه الوفاء به، لأن من شمائل الكريم الوفاء بالوعود والعهود. قالت العرب: "خلاف الوعد من أخلاق الوغد". وكانت العرب تستعيبه وتستقبحه. وقد ضربوا المثل برجل من العرب في مخالفته المواعيد،فقالوا: "مواعيد عرقوب". وعرقوب صاحب المواعيد، قيل: انه من الأوس، كان أكذب أهل زمانه. فضربت به العرب المثل في الخلف، فقالوا: مواعيد عرقوب. وذلك انه أتاه سائل، وهو أخ له، يسأله شيئاً. فقال له عرقوب: اذا أطلع نخلي، " وفي رواية: اذا أطلعت هذه النخلة"، فلما أطلع، أتاه على العِدَة، قال: اذا أبلح، فلما أبلح أتاه ؛ قال: اذا أزهى، فلما أزهى أتاه، قال: اذا أرطب، فلما أرطب أتاه ؛ قال: اذا أتمر. فلما أتمر، عمد البه عرقوب وجدَّهُ ليلاً، ولم يعطه منه شيئاً. فصارت مثلاً في إخلاف الوعد. وورد: وأكذب من عرقوب "يثربَ" لهجة=وأبين شؤما في الحوائج من زحل وورد " مواعيد عرقوب أخاه بيترب"، بالتاء وهي باليمامة. ويروى بالمثلثة،وهي مدينة الرسول نفسها. ويقال: هو أرض بني سعد. والأول أصح، وبه فسر قول كعب بن زهير: كانت مواعيد "عرقوب" لها مثلاً  وما مواعيدها إلا الأبـاطـيل

وورد: "هوأكذب من عرقوب يترب"، وتقول: "فلان اذا مطل تعقرب واذا وعد تعقرب". ومن أمثالهم: "الشرّألجأه الى مخ عرقوب" "وشر ما أجأك إلى مخة عرمقوب"، أي: عرقوب الرجل لأنه لا مخ " له. يضرب هذا عند طلبك من اللئيم أعطاك أو منعك، وهو لغة بني تميم. ومن المستعار: ما أكثر عراقيب هذا الجبل. العراقيب خباشيم الجبال وأطرافها وهي أبعد الطرق، لأنك تتبع أسهله أين كان. والعراقيب من الأمور كالعراقيل عظامها وصعابها.

وضَربوا المثل في الاقامة على الذل برجل كل من ضيّة، زعموا أنه عرف عندهم ب "قضَيب" فقالوا: أصبر من قضيب. و "قضيب" رجل آخر تمار بالبحرين، كان يِأتي تاجراً فيشتري منه التمر، ولم يكن يعامل غيره.

وضربوا المثل ب "حديث خرافة". زعموا أنه كان رجلاً من " بني عذرة" أو من "بني جهينة" سبته الجن، فكان يكون معهم، فاذا استرقوا السمع أخبروه فيخبر أهل الأرض. فيجدونه كما قال. وقبل: "استهوتًه الجن واختطفته ثم رجع إلى قومه، فكان يحدث بما رأى، يعجب منها الناس،فكذبوه، فجرى على ألسن الناس وقالوا: هذة خرافة. ويقال أيضاً للخرافات الموضوعة من حديث الليل: حديث خرافة. وذكر أن "عائشة" قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثيني:قلت سا أحدثك حديث خرافة. قال: اما انه قدكان" وذكَر أيضاً أنه قال لها: "ان أصدق الأحاديث حديث خرافة".

الفصل الثامن والثمانون
أَثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين

للوقوف على أسس اقتصاد امة من الأمم،لا بد من الوقوف على طبيعة إقليمها من جوّ وأرض. فللطبيعة أثر كبير في تحديد خيرات تلك الأمة وفي تكوين سماتها وعاداتها وانتاجها: من نتاج زراعي أو حيواني أو صناعي، ثم في فقرها وغناها. فالجوّ البارد ذو الأمطار الغزيرة، لا يمكن أن يكون أثره في الأحياء أثر الجو الحار الرطب، أو الجو الحار الجاف،أو الجو المعتدل. الجو البارد يدفع الإنسان إلى العمل ويبعث فيه الحيوية والنشاط، ويجبره على العمل، ويقدم له الماء هدية من السماء، ثم هوُ يكره الأرض أن تتلقح بماء المزن، لتولد خضرة تكسو الأرض ببساط جميل يخلب الألباب، ولتولد للماشية علفاً طرياً شهياً، وللانسان أرضاً طيعة لا تحتاج إلى سقي باليد أو باًلآلة، ثم هو يوفر له كثيراً من الجهد الذي يجب على الإنسان أن يبذله في البلاد الحارة الجافة لاستصلاح التربة ولمكافحة الحشرات التي تبارك فيها الحرارة إلى غير ذلك من صعوبات، لا تقاس بها الصعوبات التي تواجه سكان البلاد الباردة الممطرة.

أما الجو الحار الرطب، فيغيث الإنسان بمطر، قدّ ينهمر انهماراً، وقد ينزل بمواسم، لكن حرارته الشديدة المتشبعة بالرطوبة، تهد الجسم، وتعطيه رخاوة في بدنه وفي عقله، تجعله يميل إلى الخمول والكسل والدعة، والى الاسترسال في العواطف، ثم تحرمه من نشاط انسان الجو البارد، وتجعله دونه في العمل وفي السعي في هذه الحياة والضرب في هذه الأرض وفي استغلال التربة وما فيها وما عليها. وأما الجو الحار الجاف، فيحرم سكانه من نعمة "الغيثّ"في الغالب، ويلبس سطح الأرض أكسية غبراء من رماله تذروها الرياح، ثم هو يجعل من الصعب على الإنسان أو الحيوان إن يجد قوته في هذه القفار الواسعه المغبرة، أو إن يعيش فيها عيشة مستقرة دائمة، في مجتمعات كثيفة كمجتمعات الأجواء الباردة أو المعتدلة أو الحارة الرطبة، فاضطر الى التنقل والارتحال بحثاً عن الكلا والماء، اللهم إلا في مواطن الماء، وهي عزيزة ثمينة لأنها في أرض غلب على طبعها الجفاف. فتصير هذه المواطن القليلة هدفاً لهجمات العطاشى عليها في سني القحط وانحباس المطر، وايام الضيق والشدة، لسد الرمق وللمحافظة على ما في الجسم الذابل النحيل من عروق لتعينه على البقاء،حتى يفنى بطعنة، أو يموت حتف أنفه. تبلغ مساحة جزيرة العرب حوالى مليون وربع مليون ميل من الأميال المربعة.

إذا ثبتنا مواضع المياه على "خارطتها"، نجد إنها قليلة، لا يتناسب توزيعها ووجودها مع هذه المساحة الشاسعة. ثم إنها مياه ضيقة المعين،لا يتسع صدرها لارواء بقاع واسعة على نحو ما نجده في مياه الأنهار الكبيرة. وفي هذه المواضع انحصر السكن، فصار من ثم عدد سكانها قليلاً جداً في كل وقت. واذا قسنا مساحة الأرضين الخصبة منها القابلة للزرع والإنبات ذات الماء باًلأرضين المجدبة، نجد إنها قلة إلى كثرة، وان ما لا يصلح منها للزرع أكثر بكثير مما يصلح له. وان مساحة البراري والبوادي تزيد على مساحة الأرض الطيبة الخصبة، وان هنالك أرضين ذات طبقات ثخينة من الرمال، أكرهت الناس على الابتعاد عنها، ترفعاً من إن يطأ وجهها خفّ جمل أو نعل انسان، أو ان تدوسها الأقدام.

وقد نشأ عن هذا الوضع ضيق في مساحة الأرضين المزروعة، لشح الماء وعدم كفايته لارواء الإنسان ولارواء ماشيته واسقاء أرضين واسعة، ضيق أثر في شكل تكوين المجتمع العربي، فلم يسمح بظهور المجتمعات الكثيفة الكبيرة في جزيرة العرب، والمجتمعات الكثيفة الكبيرة، هي المجتمعات الخلاقة التي تتعقد فيها الحياة، وتظهر فيها الحكومات المنظمة للعمل وللانتاج وللتعامل بين الناس. جعل المجتمعات المذكورة مجتمع مستوطنات، رزقها من زراعتها الصغيرة ومن رعاية الماشية، وصار اقتصادها من ثم اقتصاداً بدائيأ لا تعقيد فيه ولا تطوير يحول المواد اللأولية إلى مواد أخرى أفيد منها وأكثر ربحاً تفيد المجتمع، وتعود عليه بأرباح طائلة من بيع المنتجات في الأسواق.

وهو ضيق صير العرب قوماً يكرهون الزراعة وينفرون منها، ويرون المزارع مواطناً من الدرجة الدنيا، ولا سيما ذلك المزارع الذي يزرع الخضر والبقول وعلف الحيوان، فهو عندهم "خضّار". ولو كانت للعرب مياه فائضة، وأمطار غزيرة لما كرهوا الزراعة، ولما ازدروا شأنها، فحرمانهم من الماء جعلهم يستحقرون شاًن الزراعة لأنهم لم يتذوقوا ثمرتها ولم يشعروا بخيراتها، ولهذا اختلف عنهم أهل اليمن وبقية العربية الجنوبية ومن وجد عندهم الماء، فغرسوا وزرعوا واعتبروا الزراعة نعمة، وتقدموا إلى آلهتهم لكي تبارك في زرعهم وتنعم في حصادهم وتعطيهم غلات وافرة كثيرة.

وجوّ جزيره العرب جو من أجواء البلاد الحارة الجافة. أمطاره على العموم قليلة، ولا سيما في أواسط جزيرة العرب. وقد تنحبس في بعض السنين انحباساً تاماً، فيسبب انحباسها هذا كارثة ومصيبة، يجف في أثنائها العشب، وييبس كل أخضر، فلا تجد إلإبل لها طعاماً، ولا يكون في وسع أهلها تقديم طعام لها لعدم وجوده عندهم، وقد ينفق مالهم من العطش والجوع، فيصاب أصحابها بخسائر كبيرة، وقد يهلك عدد من الناس قبل بلوغهم موضع ماء، إما من شدة الحر والعطش والجوع، وإما من السيف الذي لا بد لهم من استعماله لاجبار أهل الماء على السماح لهم بمشاركتهم لهم اياه، او بالاستحواذ عليه ونزولهم به، وطردهم أصحابه عنه إلى أماكن أخرى،أو بهروبهم من هذا الموضع لقوة أصحابه ولتمكنهم من رد الطامعين عنه.

وتتساقط الأمطار في العربية الغربية والعربية الجنوبية، ولكن سقوطها ليس منتظماً وعلى طول أيام السنة. فقد تثور السماء فجأة على الأرض، فترسل عليها سيلاً مدراراً، يكتسح ما يجده أمامه من إنسان وحيوان وكل عائق، ليجد له سبيلاً إلى أرض منخفضة أو إلى أودية، ثم لا يلبث أن يختفي ويزول، لأن عمره قصير في الغالب، إذ تبتلعه أرض رملية، فيغور إلى باطنها ليكوّن مياهاً جوفية، وقد تبتلعه البحار، إذ يسيل بشدة إلى الأودية المنحدرة الشديدة الانحدار فيتوجه مسرعاً نحو البحر، فيذهب فيها هباء من غير أن يفيد أحداً من الناس أو أن يغيثهم بشيء. وفي كتب أهل الأخبار قوائم بسيول كثيرة مهلكة مدمرة وقعت قبل الإسلام وبعده.

والأمطار في جزيرة العرب هي قليلة على العموم، مقدار ما يتساقط منها لا يسد رمق الزرع ولا يغني الزارع ولا يكفي في بعض السنين لانبات الخضرة ولظهور الكلأ. وقد يستمر هذا المعدل سنين، فيتضايق الناس، وقد ترد بعدها سنين ينهمر فيها المطر انهماراً، فيسقط من السماء وكأنه ماء انهمر من أفواه قرب، فيسبب سيولاً تؤذي الناس ولا تنفعهم، وقد يستمر هطول المطر على هذا المعدل من الشدّة عدة سنين، ثم يقف فيشح، وتبخل السماء، فلا تعطي الأرض من غيثها إلا قليلاَ. وقد تبخل بخلاً شديداً فلا تعطيها منه شيئا يذكر، فيتضايق الناس، ويعيشون عندئذ عيشة صعبة قاسية، قد تضطرهم إلى الارتحال إلى مواضع أخرى بحثاً عن الكلأ والماء.

وقد يكون انحباس المطر، ظاهرة موضعية، تصيب موضعاً، ولا تصيب مواضع أخرى، وقد يكون عاماً، يصيب أكثر جزيرة العرب أو كلها. وتكون شدته عندئذ في هذه الحالة أعم وأشد. وضرره في الناس أكثر، فأينما ترحل القبائل لا تجد أمامها إلا القحط والمحنة، وقلة الماء والغذاء، أي "القحط"والجدب والمحل. و "القحط"الجدب من أثر احتباس المطر، فيتأذى الناس، ويقل الطعام وترتفع أسعاره. ويعيشون في شدة. ويلازم القحط في الغالب، اختفاء الطعام وارتفاع ثمنه. فالقحط ملازم اذن لانحباس المطر، ويلازمه الجوع وارتفاع السعر، وقلة الطعام، واختفاؤه من السوق، بسبب الخزن أملاً في الحصول على ربح ومكسب، أو بسبب قلة حاصل الموسم. ويقال أقحط القوم، أي أصابهم القحط، وكان ذلك في اقحاط الزمان.

وقد يعقب انحباس المطر ظهور الملح في طعم مياه الأبار والعيون، حتى قد يصير الشرب منها صعباً، والزرع عليها غير ممكن. فيضطر أصحابها عندئذ إلى تركها والارتحال عنها إلى مواضع أخرى، يحفرون فيها آباراً جديدة ؛ تكلفهم مالاً وجهداً، وقد لا يجدون في الأرض الجديدة ماء عذباً سائغاً فراتاً للشاربين، وقد لا يجدون فيها ما يكفيهم لشربهم ولشرب أموالهم، مما يحملهم على الارتحال إلى أرض أخرى، أو على التشتت والتبعثر، بسبب عدم وجود الماء أو عدم سدّه حاجتهم.

ويقال للسنة وللأرض التي لم يصبها المطر: "الجماد". وسنة جامدة لا كلأ فيها ولا خصب ولا مطر. وأرض جماد، يابسة لم يصبها مطر ولا شيء فيها. وهي من السنين الحرجة في حياة العرب، المؤذية المهلكة للانفس وللمال. ويقال للمُحل "الجدب". والجدب نقيض الخصب. و "المحل" الجدب وانقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ. وتعد أيام المحل من شرّ الأيام، يقال: "زمان ماحل"، و "مكان ماحل"، و "بلد ماحل"، و "أرض محل"، وأرض محالة ومحول. يريدون بالمحل الشدة والجوع الشديد وإن لم يكن جدب، على سبيل المجاز، لأن المحُل الجدب ويبس الأرض وانقطاع المطرة فتشتد حالة الناس، ويظهر الجوع ويعيش الناس في ضنك شديد.

ويقال لمثل هذه السنين الشديدة، التي تجف فيها المراعي، ويصاب الناس فيها بأزمة شديدة،سنة جرداء " وسنة الجمود لجمود الرياح فيها وانقطاع الأمطار وذهاب الماشية وهزالها وثبات الغلاء. ويقال لها الحطمة والأزمة واللزّبة والمجاعة والرّمد، وكحل والقصر والشدة والحاجر، وما شاكل ذلك من ألفاظ فيها معاني الشدة والفقر والجوع. .

وكان منهم من يتصور أن نجوم الشتاء هي سبب نزول الغيث. ولذلك كانوا إذا لم يمطروا، وانحبست السماء عندهم يقولون: "أجحرت النجوم". قال الراجز: إذا الشتاء أجحرت نجومـه  واشتد في غير ثرى أزومه 

ومن المجاز أجحر القوم، إذا دخلوا في القحط. والجحرمة الضيق. ولبس أشد على العرب وأضيق في انحباس المطر عنهم.

واذا أمطرت السماء، استبشر الناس خيراً، فالمطر خير وبركة ونعمة. يعقبه ربيع مفرح مبهج، تسمن فيه إبلهم ومواشيهم، ويكث ولدها، فتنمو أموالهم، وكانوا يقولون إذا ألبنوا وسمنت إبلهم: "كان ربيعنا مملوحا".

وقد تهب بعض الرياح فتنكب الناس بأنفسهم وبأموالهم وتؤذيهم،لذلك يسمونها "النكباء". و "النكباء" ريح انحرفت ووقعت بين ريحين. وهي تهلك المال وتحبس القطر. ذكر إنها تهب بين الصبا والشمال، والجربياء التي بين الجنوب والصبا. وذكر بعضهم إن نكب الرياح أربع: الأزيب، وهي نكباء الصبا والجنوب، مهياف ملواج ميباس للبقل، وهي التي تجيء بين الريحين. وذكر بعض آخر إن الأزيب، هو الجنوب لا نكباؤها. والثانية الصابية، وتسمى النكيباء أيضاً، وهي نكباء الصبا والشمال، معجاج مصراد لا مطر فيها ولاخير عندها. والثالثة الجربياء، وهي نكباء الشمال والدبور، وهي قرة وربما كان فيها مطر قليل، وهي نيحة الأزيب. والرابعة الهَيف، وهي نكباء الجنوب والدبور، وهي نيحة النكيباء.

وقد تأتي السماء بسحب كثيفة من جراد، فلا تهبط مكاناً إلا جردته. والجراد من شر الآفات والنوازل التي تنزل بالزرع، يجرده جرداً وينزل الخسائر بأصحابه، أضف إلى ذلك الأوبئة والأمراض التي كانت تهب بين الحين والحين، فتصيب الإنسان أو الحيوان أو الزرع، وهو عاجز إذ ذاك عن مقاومتها وعن التغلب عليها، نضيف إليها الحميّات التي كانت قد عششت في مواضع المياه،كالعيون، فكانت تصيب الناس، ولا يكاد يسلم منها انسان، فقد عرفت "خيبر" بالحمى، حتى قيل لها "حمى خيبرية"أو "خيبرية" وعرفت يثرب بالحمى أيضاً، وعرفت مواضع من وادي القرى، بالحمى كذلك، كما عرفت "هجر"في العربية الشرقية بهذا الوباء كذلك.

ويتضايق الإنسان في التهائم من أثر الحرارة المتشبعة بنسب عالية من الرطوبة. ودرجات الحرارة فيها وإن كانت دون درجتها في الأماكن الأخرى في الأغلب، غير أن اقترانها بالرطوبة العالية جعلتها حرارة تضايق الإنسان إلى حد مزعج، تبعث على الاسترخاء والكسل، حتى صيرت الجسم خاملاً، خال من الحيوية والنشاط، غير فعّال لا يستطيع أن يعمل بنشاط وهمة أهل الأجواء المعتدلة أو الحارة الجافة. وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الرطوبة في هذه التهائم وتشبع هوائها ببخار الماءفإنها لم تحظ بدرجة عادلة من المطر، يخفف من شدة وطأة الحرارة فيها. ويسقي أرضها سقياً كافياً لتنبت لسكانها ما ينبته الجو الاستوائي المشبع بالرطوبة المذابة في الحرارة المشابه لجو هذه التهائم في البلاد الأخرى. فحرمت من الغابات ومن الأشجار الضخمة ذات الخشب الصلد، ومن الأدغال التي تؤوي الوحوش، ومن المياه الفوّارة المتدفقة، ومن الحشائش، ومن أمثال ذلك مما يرى في البلاد ذات المناخ المشابه، مما يكون ثروة لسكانها، قد تعوض عن حرمانهم من الجو المعتدل أو الجو البارد المنشط.

وتخف الرطوبة ويقل شأنها وتذهب حدتها كلما ابتعد الإنسان عن الساحل، فيزداد الجفاف في الجو حتى يبلغ أقصاه في البواطن، فيشعر الإنسان عندئذ بانطلاق في جسمه وبشيء من النشاط في حركته، وبحدة في ذهنه، لأنه يجد أمامه مناخاً أصح وأصفى من مناخ السواحل، هواؤه جاف في الشتاء وفي الصيف، البرودة فيه في موسم الشتاء أظهر وأبرز من برودة الأشتية في التهائم، واسر فيه في الصيف أخف على الجسم بكثير من حر صيف السواحل. أما المطر،فنسبة سقوطه في الباطن أقل من نسبة هطوله على التهائم وفي العرببة الجنوبية. وقد عوضت الطبيعة أهل البواطن عن شح مطرها هذا، بارسال الوان وأشكال من الأهوية والرياح والعواصف عليهم، تحمل بعضها في أمواجها سحراً عجيباً ينعش الروح والبدن، إذا مس انساناً اًنساه شظف عيشه وغلظ الجو الذي يعيش فيه، وصيره يحس وكأنه ملك الملوك، وصاحب خزائن الأرض، واذا مست عصاه احداً من أصحاب الحس المرهف، أثارت فيه قريحته، فصيرته شاعراً ينظم إحساسه بكلم موزون مقفى، وبشعر غزلي، يتغزل فيه، يتغزل بتلك الأهوية، التي لمست جسمه، وأغرقت فمه ووجهه بقبلاتها الحبيبة المثيرة، التي أنسته أشجانه وما يلاقيه في حياته من ضيق وشح، وهو ما يكاد يفيق من حلم حبه هذا، حتى يفاجأ بأعاصير ورياح الواقع، تعصف به وبخيمته الخفيفة، وبماله، تتلاعب به، وقد ترشق وجهه بموجات متعاقبة من سموم مشبع برمال، تجعله يغمض عينيه ويسدّ فمه، ويبرقع وجهه ببرقع ليقيه من هذه الرياح العاتية التي تحرشت به من غير سبب، مع انه انسان مسكين قنوع، لا دخل له في وجوده في هذا المكان، ولد فيه عن غير عمد ولا اختيار، وسيموت فيه وهو لا يدري لمَ يموت، ولمَ عاش، والى أين ذاهب. فاذا ذهبت وولت، وركد الجو واستقر، جلس تحت خيمته التي لا تقيه من حر ولا من برد، ولا من شمس ولا من مطر: إلا بقدر، ليستجم ويستريح، اًو ليستلقي على أرضها، وليتناول أكله، وهو أبسط أكل يأكله انسان في هذه الحياة من غيرشك.

والسعيد في جزيرة العرب من ولد في مستوطنة ذات ماء. فهو في عيشة هنيئة راضية، في بيت مهما كان نوعه، فإنه أحسن حالاً على كل حال من بيوت الوبر أو الشعر، يستطيع أن يشرب فيه ماءً يتناوله من منبعه، لا من قرب خزن الماء فيها أياماٌ، وأن يرى نخلاً وشيئاً من شجر و خضرة وزرع، وصوت رجال ونساء وأطفال، وبعض بائعين وبائعات. أي حياة جماعة. وهو أكثر سعادة وحضارة إن كانت مستوطنته على ملتقى طرق، تمر بها القوافل لتمتار منها ميرة الطريق، ولتأخذ منها الماء ولتسقي إبلها وترويها، ولتشتري منها ما تجده من حاجات ضرورية ومن منتوجات موضعية، تحتاج إليها، أو يمكن بيعها في مواضع أخرى. وفي هذه المواضع نجد الحضارة الجاهلية ومن آثارها نستنبط التأريخ الجاهلي، وفيها نرى معدن الرقة وموطن اللين والدماثة، لما فيِها من ظرف تهدأ النفس وتريح الأعصاب، فصار أصحابها من ثم ألين عريكة وأسهل انقياداً من الأعراب الذين ولدوا في محيط خشن، ونشأوا من خشونة، فصار طبعهم من ثم غليظاً خشناً، وهو لا يمكن أن يكون إلا كذلك، وليس له دخل في ظهور هذا الطبع عنده.

ومن هنا صار أهل اليمن من ألين العرب عريكة ومن أكثرهم تعاوناً فيما بينهم. جاء في الحديث: "إن رجلاء من أهل اليمن قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: إنا أهل قاه، فاذا كان قاه أحدنا دعا من يعينه فعملوا له، فأطعمهم وسقاهم من شراب يقال له المزر، فقال: أله نشوة ? قال: نعم. قال: فلا تشربوه. قال أبو عبيدة: القاه سرعة الاجابة وحسن المعاونة، يعني إن بعضهم يعاون بعضاً، وأصله الطاعة. وقيل المعنى: إنا أهل طاعة لمن يتملك علينا، وهي عادتنا لا نرى خلافها، فاذا أمرنا بأمر أو نهانا عن أمر أطعناه، فاذا كان قاه أحدنا، اًي ذوقاه أحدنا دعانا إلى معونته. وقال الدينوري: إذا تناوب أهلى الجوخان، فاجتمعوا مرة عند هذا ومرة عند هذا وتعاونوا على الدياس، فان أهل اليمن يسمون ذلك القاه، ونوبة كل رجل قاهة، وذلك كالطاعة له عليهم " وجاء في الحديث: "أهل اليمن هم أرق قلوباً، أي ألين، وأقبل للموعظة، والمراد ضد القسوة والشدة".

ومن هنا صار الأعرابي جلفاً صعباً خشناً، يكره كل شيء لا يجده عنده، لا يخضع لسلطان، ولا يستسلم لقيادة أحد إلا لقيادة قبيلته المتمثلة في سيدها إلى غير ذلك من صفات وسمات تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وفي مواضع أخرى من الأجزاء الباقية.

والماء في أغلب أجزاء جزيرة العرب مقنن قدر بقدر، ليس فيه فيض، ولا زائد يحمله إلى الجري إلى مسافات بعيدة ويكميات كبيرة عن منبعه. ثم هو بين عيون وحسى وآبار محفورة،ومدى موارد هذه المياه مقدر محدود، وهي لا تفيض فيض مياه الأنهار. فلم يتسع زرعها، ولم تتحمل نشوء مجتمعات كبرى عندها، وإنما ساعدت على ظهور مستوطنات، لم تكن حضرية تماماً ولا بدوية تماماً، بل كانت منزلة بين المنزلتين، ودرجة وسطى بين الحضارة والبداوة. تمكنت من إعالة نفسها، بما توفر فيها من مواد أولية، وبما زرعته من نخيل وحبّ وخضر، ومن بيع ما زاد عن حاجتها من حولها والى من كان يقصدها من الأعراب. وأوجدت فيها حرفاً، ولكنها لم تكن حرفاً متطورة ذات انتاج واسع، لضآلة الموارد، ولصغر المجتمع، ولعدم وجود رؤوس الأموال الكبيرة لتشغيلها في استغلال ما قد يكون فيها من موارد طبيعة كامنة أو ظاهرة. وفي تغرير الناس للعمل في استثمارها وفي استثمار الأرض استثماراً واسعاً، ينتج غلة وافرة، وفي مجتمعات صغيرة، ذات موارد محدودة، لا يمكن أن تظهر فيها رؤوس أموال كبيرة، وكيف تبرز رؤوس الأموال في مستوطنات فقيرة، مواردها محدودة، وخيراتها مقننه، وهي في محيط فقير، تتناولها الرياح من كل جهة، وأعين الأعراب الجياع الفقراء لها بالمرصاد.

وقد انتشرت هذه المستوطنات وتناثرت وتبعثرت في أرضين واسعة غلب على طبعها اليباس والجفاف، كسيت بطبقات متفاوتة السمك من الرمال، فحالت بينها وبين تكوين المجتمعات الكبيرة، وبين ظهور حكومات كبيرة قوية في جزيرة العرب. وجعلت من العرب شعوباً وقبائل، متناثرة متشاحنة، ذات لهجات، تشعر كل قبيلة منها، إنها أمة قائمة بذاتها، ولها كيان خاص، ونسب وجدّ، ولاء أبناؤها للقبيلة، ولرمزها: سيد القبيلة ولرؤسائها المتزعمين لفروعها ولأغصانها، أو للمكان الذي أقامت فيه. ومجتمع مثل هذا، حضره في مستوطنات متباعدة صغيرة، وبدوه متباعدون متنافرون متشاحنون، لا أمان فيه للافراد وللتجار وللمسافرين إلا بعقود وبعهود، لا يمكن إن يظهر فيه اقتصاد متين متطور، ذو انتاج متطور متقدم، يفيض على حاجة أهله، فيصدره إلى الخارج، فتخلف اقتصاده، ولم ينتج إلا المواد الأولية البسيطة المتوفرة لديه، مثل التمور والحبوب والخمور والجلود، وهي سلع استهلكت في الداخل، ولم يصدٌر منها إلى الخارج إلا القليل مثل الجلود، ثم هو أخّر الزراعة وعاق أهل المال من البحث عن الماء لخوفهم من تعرضهم لغارات الأعراب الفقراء. وخطر الأعراب على الزرع لا يقل عن خطر الجرادعليه.لذلك لم يقبل المتمكن المتمول استنباط الماء ومن الزرع عليه، إلا إذا وجد نفسه في مكان مأمون وفي موضع محمى له فيه أهل وعشيرة وجوار.

أما السلع المعدنية، فهي من حاصل مواطن الحضر، وهي من حديد، في الغالب،صنعت من حديد استخرج من معادن جزيرة العرب، ومن حديد استورد من الخارج،ومن سلع حديد استوردت من الخارج، إذا استهلكت أعيد سبكها، ثم استعملت من جديد. وأغلبها صناعة سيوف وخناجر، ومساحي ومناجل وما شابه ذلك من مواد ضرورية للحياة في جزيرة العرب. ولم نسمع بتصدير شيء منها إلى الخارج، لأنها لم تكن باًنتاج واسع ولا بأتقان لتنافس السلع المماثلة لهذا في الخارج، بل تجد أن أهل جزيرة العرب كانوا يستوردون أمثالها من الخارج أيضاً، لرخص ثمنها بالنسبة إلى المنتوج المحلي، ولتفوقها على المنتوج العربي في نقاوة المعدن وفي الصنعة والاتقان.

والمعادن في جزيرة العرب، محدودة وبقدر وبشح في الغالب، وقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن وجود ذهب وفضة وخامات حديد ونحاس في مواضع من جزيرة العرب. وسأتحدث عنها أيضاً في أثناء بحثي عن الصناعة عند الجاهليين. وهي في العربية الغربية وفي العربية الجنوبية في الغالب. وقد عرفت المواضع التي استخرج المعدن منها ب "المعدن"و "معدن". والمعدن مكان كل شيء يكون فيه أصله ومبدؤه. ولكن استخراج المعدن من منجمه وخامه، يحتاج إلى مال وعلم وأيد عاملة فنية، لها مران وخبرة في الاستخراج وفي التنقية، ليمكن استخراجه بكميات وافرة، وبسعر اقتصادي مناسب، منافس للاسعار العالية في الأسواق الأخرى. وهذه الشروط لم تكن متوفرة عند أهل الجاهلية، لذلك لم نسمع بتصديرها من المعادن، إلا الذهب، حيث قدمه السبئيون للاشوريين وللعبرانيين، رشوة وجزية كما تقول الموارد. أما المعادن الأخرى، فلم نسمع في كتب المتقدمين على الإسلام من الأعاجم، ولا في كتابات الجاهليين ولا في أخبار أهل الأخبار، أنها صُدّرت إلى الخارج.

وأما الأخشاب الصلدة الثقيلة القوية مثل الساج، وهو خشب رزين قوي، ومثل الآبنوس، والصندل، وأمثالها، فغير موجودة في جزيرة العرب، وانما كانت تستورد من الهند في الغالب لعمل السفن وللاغراض الأخرى، لأنها من اشجار تحتاج إلى أمطار وحرارة ورطوبة وهي شروط غير متوفرة في أكثر أنحاء بلاد العرب. وفي بلاد العرب أشجار ذات خشب، نمت في الجبال بصورة خاصة، لذلك عرفت ب "شجر الجبال"، سأتحدث عنها في أثناء بخثي عن الشجر، أمدت أهل العربية الغربية والجنوبية، بشيء من حاجتهم إلى الخشب، حيث استعملوه في البناء وفي الأثاث، لكن أخشابها لم تكن قوية صلدة مثل الأخشاب المذكورة، ثم إن الناس كانوا يقتطعون شجرها ولا يزرعون غيرها في مواضعها، فقلّت، وقل الخشب نتيجة لذلك، حتى ان أهل الأخبار ليذكرون إن أهل مكة لما أرادوا تسقيف الكعبة، لم يجدوا خشباً يصلح للتسقيف،فلما سمعوا بخبر تحطم سفينة رومية عند "الشعيبة"، ذهبوا إلى هناك، وجاءوا بالخشب اللازم للتسقيف من ذلك الميناء. وخشب السراة،وخشب المواضع المرتفعة الأخرى، خشب لا يضاهي خشب الهند أو أفريقية في الصلابة وفي المتانة والصلادة، لذلك لم يستعمل في بناء السفن ولم يساعد في تطوير وسائل النقل في البحار.

أما الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، فلم يكن شجرها من النوع المنتج للخشب الصلد المتين الصالح لصناعة السفن أو لأعمال البناء ولصنع أثاث البيت وغيره، وإذا وجد شجر ذو خشب أنبتته الطبيعة، أو كان من زرع الإنسان، فإنه لم يكن كثيراً ولا كافياً لسد حاجات الناس. ثم إن شجر الطبيعة -ما نبت منه في الجبال، وما أنبت منه في السهول والمنخفصات - مشاع بين أهل المنطقة، يقطعه من يريد، لا يجبر قاطعه على زرع غيره في محله، لذلك قضى عليه هذا القطع والاهمال، وصار الخشب اللازم للنجارة وفي الاْعمال الاخرى قليلاً في جزيرة العرب، مع أنه من الوسائل المهمة الداخلة في تنمية الاقتصاد وفي الترفيه عن الناس وفي رفع مستواهم الحضاري.

ولم تعرف بلاد العرب بتصدير الخضر والاثمار والحبوب. فلم نعثر في الاخبار على خبر يفيد تصدير شيء منها إلى العراق أو بلاد الشام، أو أي بلد آخر خارج حدود جزيرة العرب. بل نجد أنها كانت تستورد الحبوب والدقيق والزيوت من بلاد الشام، وذلك لان موارد الماء فيها لم تمكنها من زرع زراعة كثيفة واسعة، فصارت زراعتها زراعة محلية في الغالب، عمادها الاستهلاك المحلى، أو التصدير إلى الارضن المجاورة للمزارع في داخل الجزيرة وفي المواسم الجيدة وعند ظهور فيض في الحاصل، فصارت لليمامة ريفاً لاهل مكة تمونهم بالحبوب،وكانت سوقاً للاعراب، تمدّهم بالتمور. وكانت الطائف، مزرعة تمد أهل مكة بالاثمار والزبيب.

والجمل في طليعة حيوان جزيرة العرب من حيث الفائدة والشهرة هو رمز البداوة وعنوان الصحارى،والحيوان الوحيد الذي رضي بمصادقة الأعرابي وبتمضية حياته معه، قاطعاً الفيافي والبراري معرضاً نفسه للجوع وللعطش، ولتحمل الحياة الشاقة الخشنة في البادية، مع الأعراب الغلاظ الجفاة، الذين استصعب اخوانهم أهل الحضر العيش معهم، وهو لولاه لما تمكن الأعراب من اختراق البوادي ومن التنقل بها، ولما طابت لهم الحياة فخيامهم من وبره، وشربهم وكسر حدة جوعهم من لبن نياقه، ثم هو طعامهم عند الحاجة، ورأس مالهم، إذا احتاجوا إلى مال. تليه الخيل والضأن والمعز والحمير وغيرها. وهي كلها دونه بكثيرفي تحملّ العطش والجوع ومشقات الحياة،ثم هي لاتستطيع تحمل غلظ الأعراب وصعوية حياتهم، لأنها أكئر رقة من الجمل، لذلك اجتنبت البوادي، وعاشت على المراعي الخضراء وعند مشارف الحضارة، وشاركت الحضر في بيوتهم، فهي من أموال العرب في الغالب، أي الحضر والرعاة الملازمين للمراعي المتصلة بمشارف الحضارة.

ودولة الحيوان في جزيرة العرب دولة صغيرة، إذا قيست بما يجب إن تكون عليه بالنسبة إلى المساحة السطحية. وسبب صغرها إن المراعي الغنية بالعلف اللازمة لتربية الحيوان ولإكثار نسله، لم تكن متوفرة عند اْهل الجاهلية، وان أصحاب الماشية كانوا عالة على الطبيعة، لعسر أحوالهم وعدم تمكنهم من الانفاق على الماشية وتهيئة العلف الصحي اللازم لنمو الحيوان ولاكثار نسله، ثم إن الأحوال الافتصادية لم تكن حسنة وعلى ما يرام، بل كانت منخفضة، وهذا ما حدَّ من الاستهلاك المحلي، وحد من عدد الذين كانوا يمتهنون حرفة تربية المواشي، إلى أسباب أخرى لا مجال للبحث عنها في هذا المكان.

والعدد العام لسكان جزيرة العرب، في الجاهلية وحتى إلان هو قليل بالنسبة إلى ما يجب إن يكون عليه إذا قسنا العدد بعدد الأميال المربعة التي تكوّن المساحة السطحية لبلاد العرب. وسبب ذلك إن المسكون المعمور منها، قليل بالنسبة إلى المهجور القفر، والبوادي فيها أوسع وأكثر من الأرضين الصالحة للزرع وللرعي وللسكن وان الموارد المعاشية التي تعيّش الإنسان وحيوانه، لا تكفي في معظم أنحاء جزيرة العرب لأعاشة المجتمعات الكثيفة المكتظة، والمستوطنات الضخمة. فالحسي أو العيون أو الآبار أو البرك، أو ما أشبهها من موارد ماء، لا يمكن إن تستضيف مجتمعاً كبيراً مع توابعه من المواشي، وهي لا تتمكن أيضاً من توفير الماء اللازم لزرع كثيف، ولتهيئة كلأ تعلفه المواشي. لذلك صار حجم مستوطناتها يتناسب مع حجم الماء المتوفر فيها، وانتاجها انتاج محدود، هو حاصل زراعي في الغالب، يختلف قلة وكثرة باختلاف حجم المساحات المزروعة، أي سعة الماء الموجود في المستوطنة.

وفي هذه المستوطنات وفي الأرياف والقرى،تجد الملكية الفردية، بصور متباينة. ملكية دور ثابتة، وملكية مزارع وآبار. فالذي يحضر بئراً وينفق من ماله على حفرها تكون البئر بئره، في امكانه بيع الماء منها للمحتاج إليه، وفي امكانه الزرع عليها، فيكون الزرع زرعه بالطبع، وله بيع حاصله من ثمر أو خضر، أو حب. والذي أقام على مقربة من الحضر، ولا سيما من حضر العراق وبلاد الشام استطاع الاتجار مع تلك البلاد، ببيع ما عنده من ماشية وجلود وبشراء ما كان يحتاج إليه من مواد ضرورية، أو من مواد يتاجر بها مع المستوطنات ومع الأعراب.

فتولد رأس المال في هذه المستوطنات، ولا سيما في الكبيرة منها، ذات الماء الغزير، وجاء الرأس المال بالعبيد لتشغيلهم في الزرع.

أما البوادي وديار الأعراب، فالأرض فيها للقبيلة، ما خلا الاحماء. وأما الماء والكلأ فللجميع، لا يمنع أحد من أبنائها من وروده، وحق الرعي فيها للجميع. لصاحب الإبل حق رعي إبله في أي موضع شاء من حيّه، وله أن ينقل بيته في "دبرته"، ليجد لإبله الكلأ اللازم لها، وأن يذهب إلى الركل ومواضع الماء لأخذ ما في يحتاج إليه من الماء، الذي يكون في الغالب على ساعات أو أيام من بيته. واذا جف الكلأ واختفى خير الأرض، اضطر للانتقال إلى مواضع أخرى، ليجد فيها ما يعلف إبله. وفي هذا المجتمع الاعرابي، ملكية فردية، هي ملكية الخيام وما فيها من أشياء بسيطة وملكية إبل، وبعدد ما يملكه الإنسان من جمال ونوق، تقدر ملكية الأفراد. وفيه شيوع: شيوع في الماء والكلأ والنار. الماء للجميع، ما لم يكن محمياً ولا مملوكاً، والنار للجميع، أي حق الاحتطاب، فلكل حق قطع الشجر وما يراه من زرع نابت غير محمي ولا مملوك.

ومجتمع على هذا النوع من البساطة في الحياة، يكون اقتصاده بالطبع بسيطاً، الجمل والناقة فيه، المال ورأس المال. وكل شيء يقاس فيه على عدد من الناحية الاقتصادية، ما يملكه الإنسان من أباعر ونوق. فهو اقتصاد إبل، الإبل فيه في محل الدراهم والدنانير أو الفضة والذهب. وهو عالم استهلاكه قليل وتصديره قليل كذلك، ليس فيه استهلاك سلع متطورة، وليس فيه انتاج متطور، كل انتاجه الإبل ومشتقاتها وكفى.

وقد حالت البراري بين العرب وبين تكوين المجتمعات الكبيرة، وعرقلت الاتصال بين المستوطنات التي بعثرتها ونشرتها هنا وهناك. وبعثرت الأعراب في البوادي على شكل قبائل وعشائر، تغزو بعضها بعضاً طمعاً في رزق هي في حاجة إليه، وتعقد أحلافاً فيما بينها للدفاع عن نفسها، ثم هي توجه كل أنظارها نحو المستوطنات ومواضع الحضر، لتجد فيها غفلة أو موضع ضعف تدخل منه إلى ديارهم لتأخذ منها كل ما يمكن أخذه، وكل شيء يقع في أيديهم هو ثمين بالنسبة لهم، لأنهم لا يملكون شيئاً، والذي لا يملك شيئاً ويجهل قيم الأشياء يحسب كل شيء يقع في يديه ثميناً له قيمة، وهكذا صارت البوادي والأعرابية من عوامل القلق وعدم الاستقرار في جزيرة العرب،ومن عوامل التحاسد والتباغض والتناحر فيما بين سكانها لأتفه الأسباب، حتى صارت من الأمراض المستعصية عند العرب، التي لا تزال باقية حية. وفي ظروف من هذا النوع، لا يمكن أن يظهر فيها اقتصاد متطور وانتاج كبير، وان يرتفع مستوى حياة الناس، فتأخر اقتصاد سكان جزيرة العرب، وغلب على سواد الناس. وهبط بينهم مستوى المعيشة، حتى اضطر البعض إلى وأد بناتهم خشية املاق، أو بيع أولادهم من جوع وفقر.

وقد وجدت هذه الروح الأعرابية بين الخضر كذلك، نجسمت في العصبية للحي وللقرية، وفي تناحر الزعماء على الزعامة والملوك على الملكية، حتى في اليمن التي تمثل النموذج الحسن للانسان الحضري الطيع الهادىء،نجد الملوك يحاربون بعضهم بعضاً، والزعماء يثورون على ملوكهم لأخذ عروشهم، مما حمل الحبش والفرس والروم على التدخل في شؤونها، فدمرت المدن والقرى والمستوطنات، وأحرق الزرع، وتباهى الملوك والثوار بعدد ما أحرقوه من مدن وقرى وزرع، ومحيط تسوده الفتن والقلاقل والحروب لا بد وان يتأثر اقتصاده بها، وأن يتأخر زرعه وعمله، وكيف يعمل الإنسان ويجازف بماله، وهو غير مطمئن على حياته ولا واثق من يومه ولا مما سيأتيه به الغد من مصائب وأحزان ! لقد حالت البوادي بين العرب وبين ظهور اقتصاد متقدم متطور عندهم، يقوم على تحويل المواد الأولية، أي المواد الخام إلى مواد أفيد منها وأهم، والى انتاج كبير راق، يجلب لهم دخلا طيباً يرفع من مستواهم. فساءت أحوالهم وغلب الفقر عليهم. وصار معاشهم ضيقاً، وحياتهم الاقتصادية متأخرة، اًغلب منتجاتهم بسيطة، ليس فيها تطوير ولا تنويع، ولا تصنيع، وليس في أسواقهم مشترون جيوبهم منتفخة بالعملة، ليجازف التاجر بجلب سلع متنوعة إليها،فصارت سلعهم قليلة، اقتصرت على السلع الضرورية جداً للبيت، وعلى الناتج الطبيعي استحصل من الزرع أو من الحيوان: من الحاصل المحلي في الغالب.

وقد أوجد عدم التناسق والتناسب والاتزان بين نسب توزبع الخصب إلى الجدب تبايناً كبيراً في كيفية توزيع الناس، فجعل السكان ثلاث طبقات: أهل مدر، وهم حضر مستقرون، وهم أرقى أهل جزيرة العرب. وأهل وبر، وهم أعراب يقطنون البوادي. وطبقة ثالثة، كانت بين بين، ووسط بين الحضر وبين البدو، عاشت على اتصال ومقربة من الحضر، لم تبتعد عنهم، ولم تفارق الماء والحضارة، بل لازمتهما، ولم تمعن في البادية إلا في أيام الربيع عند نزول الغيث واخضرار الأرض،فتبتعد عندئذ بماشيتها إلى البادية لتنعم هناك بنعمة الربيع. وهي جماعة الرعاة. والرعاة قوم بين الحضر وبن الأعراب. كانوا متنقلة في الأصل، فما قاربوا الماء والحضر، تأثروا بالظروف الجديدة، فاستقروا بعض، الاستقرار، وأضافوا إلى رعاية الإبل، رعاية البقر والغنم والخيل. وكان هؤلاء مادة الحضر في الغالب، والجرثومة التي كونت المجتمع الحضري.

واقتصاد الأعراب اقتصاد واحد، وان تنوع أصحابه قلوا أو كثروا، قبائل كانوا أم عشائر أم أفخاذ. لأن جذوره وأسسه واحدة،هي البادية وتربية الإبل، وليس في البادية غير كلأ وعشب وشجيرات أو أشجار، تعلف أوراقها وأغصانها الإبل، وبحتطبها الجو لبيع حطبها من أهل الحضر إن كانوا على مقربة منهم، أو لأستعماله وفوداً لهم، أو فحماً يبيعونه للحضر، وليس فيها غير "وبر"، وشيء من الملج، يحملونه إلى أهل الحواضر لبيعه منهم. وأما مشترياتهم، فبسيطة،تمور ودقيق وأبسط أنواع الثياب وما يحتاج البيت اليه من مواد. واقتصاد من هذا النوع، لا يساعد على ظهور رأس مال كبير، وعلى حدوث تطوير في الصناعة،لذلك تخلف اقتصاد الأعراب عن اقتصاد المستوطنات والقرى بدرجات ودرجات.

أما اقتصاد أهل الحضر، فإنه اقتصاد متطور بالقياس إلى اقتصاد الأعراب: اقتصاد البداوة، أو اقتصاد بدوي إن شئت تسميته بذلك. اقتصاد الحضر متفاوت في الدرجات، أبسطه اقتصاد المستوطنات الصغيرة المنتشرة في بواطن جزيرة العرب وأعلاه اقتصاد المدن الواقعة في أطراف ألجزبرة وعلى سواحل البحر وفي أرضين خصبة غنية بالماء وبالزرع وقد برز بعض أهل تلك المستوطنات في التجارة، وبرز بعض آخر بالزراعة، وجمع بعض آخر بين الزراعة والحرف اليدوية القائمة على أساس تحويل المنتجات الزراعية إلى منتجات أخرى، أو تحويل الجلود إلى أدم، أو تحويل المواد الأولية المتيسرة إلى مواد ذات ضرورة للمجتمع. وهي إما استهلاكية، تُوجِرَ بها فى ألأسواق الداخلية، وإما انتاجية،صنعت للاستهلاك المحلي وللتصدير.

ومن أبرز المستوطنات التي ظهرت في باطن جزيرة العرب، مستوطنات اليمامة، والمستوطنات التي ظهرت على الأودية ومواضع الماء. وقد عاشت على الزراعة وتربية الماشية، وموّنت الأعراب باًلتمور، ومو"نت اطجاز باًلحبوب، ومنها ما كانت ملتقى طرق برية، ربطت العربية الجنوبية باًلعراق، ومنها ما ربط بين العربية الشرقية وبلاد الشام. وأنا آسف، لأن أقول إن معارفنا عن المستّوطنات قليلة، لعدم وصول شيء في النصوص الجاهلية عنها، ولعدم تطرق اهل الأخبار إليها، إلا عندما يكون لذكرها صلة بالأيام أو بالشعر أو بالحوادث البارزة جداً التي وقعت قبيل الإسلام، أو التي كان لها اتصال بظهور الإسلام.

وأما المستوطنات التي برزت وظهرىَ في أطراف الجزيرة، فهي عديدة " أشهرها وأعرفها وأعرضها ذكراً مكة والمدينة. مكة في التجارة، والمدينة في الزراعة. ولا يعني ذلك،إن المدينتين المذكورتين كانتا أعظم المستوطنات المذكورة، وأبرزهما في التجارة والزراعة عند ظهور الإسلام، وان البقبة الباقية، لم تكن لاحقة بهما في الناحيتين. فقول مثل هذا لا يمكن إن يجزم به مؤرخ حصيف، وانما جاءتهما هذه الشهرة بفضل الإسلام،فقد ظهر الإسلام في المدينتين المذكورتين، ونزل القران الكريم فيهما، وأشير فيه إلى أمور عديدة وقعت بهما،وعاش الرسول فيهما، فمن هنا صار اهتمام العلماء وأهل الأخبار بهما أكثر من سائر مواضع جزيرة العرب، ولا سيما المواضع البعيدة النائية عن المدينتين، والتي لم يكن لها اتصال متين بظهور الإسلام، ومن هنا كثرت أخبارهما، حتى ظن الناس، إن مكة قبل الإسلام، كانت أرض التجارة والتجار، وقبلة جميع العرب، ومجمع أصنام كل العرب، وموضع تكدس الأموال، وبلد الربا والمرابين. وهو استنتاج أخذ من الروايات التي قصها أهل الأخبار عنها دون نقد ولا تحليل. ولكننا لو استعرضنا ما ذكره أهل الاْخبار أنفسهم عن هجر وعن البحرين وبقية العربية الشرقية، فانه يرينا على قلته، إن مدن وقرى هذا الجزء من جزيرة العرب، لم تكن أقل درجة في المال والتجارة والانتاج من مكة أو المدينة، إن لم تكن قد تفوقت عليهما بالفعل،.دليل ما جاء في أخبارهم عن مقدار الزكاة والصدقات التي أرسلها عمال الرسول والخلفاء إلى المدينة، فانها تدل على وجود تجارة وأعمال في هذه الأرضين ربما كانت قد فاقت أرباح وأعمال أهل مكة، لكننا لا نعرف عنها شيئاً، بسبب عدم اهتمام المؤرخين والأخباربين بأخبارها في الجاهلية، لعدم وجود صلة لها بتأريخ الإسلام، أو بسبب عدم وقوفهم على أخبارها، فلم يتطرقوا لذلك إلى شيء من أحوالها بصورة مفصلة،فظهرت وكاًنها قد تأخرت عن مكة من النواحي الاقتصادية بكثير. وصارت مكة،بذلك،الموطن المتفوق الأول في المال وفي الزعامة وفي كل شيء في جزيرة العرب.

لقد أثر الجو اذن على اقتصاد جزيرة العرب، كما أثر عليهم في كل شيء، حتى صيرهم على النحو المعروف، لهم خصائصهم وصفاتهم المميزة لهم عن غيرهم، ولو كان للعرب جو مثل أجواء أوروبة، لكان شأنهم ولا شك في التأريخ شأن آخر. على كل، فقد كتب عليهم أن يعيشوا في الجو المذكور، وكان من نصيبهم في هذه الحياة حرارة وجفاف، وحرارة ورطوبة، وأرضون غلب عليها اليبس والجفاف، فصارت موارد رزقهم شحيحة في الجاهلية، وتخلفوا عن غيرهم في الانتاج وفي الابداع، وغلب على سوادهم الفقر. والفقر كافر لا يرحم، ولولا "النفط"اليوم، الذي جاء على عرب القرن العشرين بالمال، لما تضخمت جيوب الأسياد، وبنيت القصور الشاهقة الضخمة بالملايين من الجنيهات، وأملى إن يكون هذا إلمال سبباً في استغلال العرب أنفسهم لمواردهم الظاهرة والباطنة، وأن يكون سبباً من أسباب التعمير، لا الانفاق والتبذير، وأن يحول الطاقات المهملة إلى طاقات منتجة، قبل أن يأتي يوم تنضب فيه آبار النفط، أو إن يموت النفط فيه أو يهمل،بسبب العثور على موارد تكون أحسن نوعية وأقل كلفة منه.

لقد جعل هذا الجوّ العرب - كما سبق أن ذكرت - قبائل وشعوباً متنابذة متخاصمة، متحالفة متعاقدة متآخية، متطرفة في كل شيء، متطرفة في حبها وفي اخلاصها، متطرفة في الوقت نفسه في بغضها وفي حقدها، تميل إلى المادة إلى درجة العبادة، ثم تتطرف في أمور عاطفية بعيدة عن المادة والماديات بعداً كبيراً، تمجد العقل والتعقل، وتقيم وزناً كبيراً للحكمة ولضرب الأمثال، حتى ليخيل إليك أن كل أفعال الناس وأعمالهم إنما تصدر منهم عن عقل وحكمة، لكنك سرعان ما تصطدم بوجود واقع آخر، هو واقع تغلب العواطف على العقل، وانصياعهم إلى الانفعال وسرعة التأثر وفقدان الوزن بين الأمور بميزان العقل، وتركهم أنفسهم فريسة لهذه العواطف، تعبث بهم في حياتهم، ولا تزال تعبث بهم الان. تراهم كرماء،يقدمون أعز شيء عندهم لضيوفهم، بإسراف وتبذير، ثم تراهم بخلاء يحرصون على أتفه الأشياء أحياناً حرصاً يدفعك على الاستغراب من وجود هذا التضاد في الأخلاق، أو ما نسميه بازدواج الشخصية في اصطلاح المحدثين على نحو ما تحدثت عن ذلك في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب.

لقد أثرت الطبيعة اذن في تكييف اقتصاد الجاهليين وفي تعيين موارده، وفي توجيههم توجيهاً تجارياً في المواضع التي قلّ فيها الزرع، مثل مستوطنات الأطراف حيث نجد أهلها يميلون إلى التجارة، ويرون فيها مهنة من أشرف المهن،وتوجيهاَ زراعياً في المواضع التي توفرت فيها شروط الزراعة، وتوجيهاً رعوياً في المواضع الأخرى، لا سيما بين الاعراب. فلندخل الآن في استعراض هذا التوجيه وفي دراسة الموارد الطبيعية لجزيرة العرب، وفي دراسة كيفية تعامل أهل الجاهلية في الاسواق، بعد أن قدمنا مقدمتنا القصيرة عن أثر الطبيعة في الاقتصاد.

الفصل التاسع والثمانون
الزروع و المزروعات

والزراعة هي عماد ثروة اليمن وبقية العربية الجنوبية والمواضع التي تتوفر فيها المياه في جزبرة العرب. وهي رأس مالها الاكبر في حياتها. والمورد الأول الذي يتعيش عليه الناس وقد انحصرت في المواضع الخصبة، أي في المواضع التي جادت عليها الطبيعة بالأمطإر أو بالينابيع والجعافر والعيون وباًلمياه الجوفية القريبة من سطح الأرض وبالحسي وما أشبه ذلك. وحيث أن أغلب أرض بلاد العرب هي أرض صحراوية موات، لهذا فإن الزراعة فبها معدومة، ويمكن في المستقبل احياء قسم منها،وذلك باًستخدام الوسائل الحديثة التي استنبطها العقل والتي سيستنبطها في استخراج الماء وفي اصلاح التربة، وسيتحول شكل جزيرة العرب عندئذ عمّا هو عليه الآن كثيراً ولا شك. وقد حولت في هذه الأيام مناطق موات، إلى أرض عمار، تسقى بالمياه المنبعثة من الآبار "الارتوازية"ومن السدود التي حبست مياه السيول، وصارت تتتح في مواضع عديدة من جزيرة العرب غلة زراعة وافرة بفضل استعمال الفن الحديث في استنباط الماء وفي كيفية الاستفادة من التربة وفي ادخال أساليب الزراعة الحديثة إلى هذه الأماكن. وقد يأتي يوم، تتحول فيه معظم أرض جزيرة العرب الفارغة المحملة التي يخشى الإنسان من ولوجها إلى أرض خصبة منتجة، إذا ما زرعت زراعة حديثة، تناسب جو بلاد العرب وتركيب تربتها،واستنبطت المياه الكافية من جوفها للزراعة وللشرب ونحن وإن كنا لا نملك مراجع جاهلية مكتوبة واسعة تتحدث عن الزراعة في جزيرة العرب قبل الإسلام وعن أنواعها وتفاصيلها وأساليبها وطرقها وضرائبها وعن كيفية استغلال الأرض وطرق الاستفادة منها وواجب الفلاح تجاه صاحب الأرض، وعن الحاصلات السنوية ومقدار ما تأخذه الحكومة من المزارعين من ضرائب، وأمثال ذلك من أمور متصلة بالزراعة، لكنا قد تمكنا من تكوين رأي فيها من مراجعتنا للكتابات الكثيرة التي وصلت الينا وفيها أمور متعددة لها علاقة بهذه الموضوعات، كما إن آثار الأقنية والسدود الجاهلية المنتشرة في مختلف نواحي اليمن، هي في حد ذاتها شاهدة على مقدار توسع اليمانين في الزراعة في ذلك العهد. ونجد مثل هذه الآثار الجاهلية في مواضع أخرى من جزيرة العرب، وهي دليل واضح على إنها كانت مزروعة معمورة، لا مغمورة مهملة كماهوشأنها في الوقت الحاضر.

أما بخصوص الزراعة واستغلال الأرضين وايجارها وجباية الضرائب عنها والعقود التي كان يعقدها الملوك مع كبار الاقطاعيين وتنظيم المياه وأمثال ذلك،فقد وصلت الينا كتابات وأوامر عامة فيها، كان يصدرها الملوك و "الكبراء"، يعلنونها على الناس، ليطلعوا عليها، وليعملوا بموجبها، تكتب على الحجارة، وتوضع في محلات عامة، أو في خزانات المسؤولين وذوي الشأن، ليرجع إليها حين الحاجة.

وهنالك كتابات كتبها رؤساء عشائر واًصحاب أملاك، عن حدود أملاكهم، أو عن تأجيرها لغيرهم، أو عن انشاء سدود لضبط المياه وتوزيعها، أو عن حفر آبار، وأمثال ذلك، وهي كلها على صفتها الشخصية ذات قيمة بالقياس إلى هذا، لما ورد فيها من أفكار ومصطلحات فنية، تمكننا من تكوين رأي في الزراعة والنظم الاقتصادية فى العربية الجنوبية في ذلك العهد.

واذا كنا قد حصلنا على فكرة ما عن الزراعة في اليمن وفي بعض أقسام العربية الجنوبية استناداً إلى الألفاظ والمصطلحات الزراعية في الكتابات الجاهلية والى الوثائق الخاصة بالأرض وبالضرائب وبالتأجير وبعقود البيع والشراء، والى بعض الصور المنقوشة علىَ هذه الكتاباًت، فاننا لم نعثر، ويا للأسف، على كتابات جاهلية تتحدث عن هذه الأمور في الحجاز وفي أواسط جزيرة العرب وفي الأقسام الشرقية منها، وآراؤنا عنها مستمدة في الدرجة الأولى من المراجع الاسلامية ومن مشاهدات السياح لمناطق الآثار ووصفهم آثار الزراعة في المناطق الي مروا بها، ومن تقارير الخبراء "الجيولوجيين"وغيرهم من موظقي شركات النفط العاملة في جزيرة العر ب.

وفي لغة المسند مصطلحات زراعية تعبر عن معان خاصة، وفيها مسميّات لآلات وأدوات استخدمت في الزراعة. ولا بد أن تكون لهجات أهل العربية الجنوبية أوسع ألفاظاً في الزراعة من لهجات العرب الاخرين القاطنين في الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، بسبب تنوع الأجواء فيَ العربية الجنوبية، وما أعقب ذلك من تنوع الزرع وطرق الزراعة فيها، أضف الى ذلك خصب التربة ووجود الماء فيها، وجوداً لا يماثله أي مكان آخر في جزيرة العرب. فظهرت فيها ألفاظ زراعة ومصطلحات زراعية لم تعرفها عربيات بقية جزيرة العرب،اضطرت اللهجات الأخرى إلى اًخذها منها، لعدم وجودها عندها، ونجد في معجمات اللغة وفي كتب النبات والأدب ألفاظاً زراعية، نص العلماء على أنها من لغات أهل اليمن.

وقد حفظت الأيام بعض الحجارة المكتوبة بالمسند، وعليها صور، أفادتنا في تكوين فكرة عن ملامح المزارع قبل الإسلام، وفي تبيين طراز معيشتّه، وشكل بعض ملابسه، وما شابه ذلك. وبين هذه الحجارة المصورة المكتوبة، حجر حفرت عليه صورة حرّاث حافي القدمين وقد ارتدى ثوباً بلغ ركبتيه وشد وسطه بحزام وأمسك بيده اليسرى الحبل أو النطاق المتصل يالمحراث، وباليمين آلة على هيأة فأس من خشب، ربما استعملها في ضرب ثوري المحراث، أو استعملها في حفر الأرض أيضاً وفي تفتيت التراب المحفور. وقد ربط الثوران بالمحراث، وأخذا يحرثان الأرض، والفلاح يوجهها. ورسمت تحت الصورة صورة ثلاثة رجال، يظهر من ملامحهم ومن شكل ملابسهم أنهم كانوا من أصحاب الأرض.

ولأهل اليمن سبق على غيرهم من أهل جزيرة العرب في الزراعة، وهم حتى الان على ما كانوا عليه منّ ميل إليها، ويشغل عدد منهم اليوم في المملكة العربية السعودية أجراء لغيرهم في زراعة الأرض، أو مشاركون لأصحاب الأرض في الحاصل. أما الأعراب، فكانوا يزدرون شأنها، وينقصون من قدر المزارع "الخضار". ونجد هذه النظرة الازدرائية إلى المزارع عند أهل الحضر أيضاً، حتى أن بعض الصحابة كرهوا تعاطي العمل في الأرض، حتى بعد الفتح، تاركين ذلك إلى أهل الذمة. روي عن "أبي أمامة الباهلي"أنه قال، إذ رأى سكة وشيئاً من آلة الحرث، فقال: سمعت النبي يقول: لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الذل. قالوا في تفسيره: "لما يلزمهم من حقوق الأرض التي يزرعونها، ويطالبهم بها الولاة، بل ويأخذون منهم الان فوق ما عليهم بالضرب والحبس، بل ويجعلونهم كالعبيد أو أسوأ من العبيد، فإن مات أحد منهم، أخذوا ولده عوضه باًلغصب والظلم، وربما أخذوا الكثير من ميراثه ويحرمون ورثته، بل ربما أخذوا من ببلد الزارع فجعلوه زراعاً، وربما أخذوا ماله". وهو تفسير فيه شيء من التكلف، يفصح عن كراهية القوم للزراعة أكثر من المعنى المذكور، وأما الحديث نفسه، من حيث الصحة أو الضعف، فلعلماء كلام فيه. وفي كتب الحديث أحاديث أخرى تحث على الزراعة والزرع.

وورد في الحديث أن الرسول كان يحدث جمعاً من الصحابة عن الجنة، وعن رجل زرع في الجنة فاستوى نباته، وعنده رجل من أهل البادية، فلما انتهى الرسول من كلامه، قال الأعرابي: "والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصارياً، فإنهم أصحاب زرع. وأما نحن، فلسنا بأصحاب زرع".

وكراهة الزرع، كراهية نشأت من عدم توفر الماء والأرض، لأكثر الناس، فصاروا يكرهونها،أما الذين ملكوهما فلم يزدروها ولم يغضوا من شأنها، والأعرابي لا يملك شيئاً، فصار يكره كل شيء لا يملكه ولا يقدرعليه، من زراعة ومن حرف ومن قيود اجتماعية ومن تنظيم، ومن كل ما يخالف مألوفه من عرف وتقاليد، ولذلك صارت الزراعة من عمل أهل المدر، وعمل كل من وجد لديه الماء الوافر، ليأخذ منه ما يلزمه للزرع، وسادات القبائل، الذين توفر الماء عندهم، أو كان لديهم المال لتشغيله في البحث عن الماء، زرعوا مثل أهل الحضر، وشغلوا العبيد وأتباعهم في الزراعة، لما وجدوا فيها من مكسب وربح، وكان للكثير منهم زرع وحوائط.

ونظراً لتغير الحال عند العرب في الإسلام، وظهور الدعوة فيه إلى الأمة والجماعة، فقد حث الرسول المسلمين على الزرع، وظهر من روى عن الرسول انه قال ألزراعة أفضل المكاسب، وذلك لما فيها من عموم الانتفاع، حتى إن منهم من فضلها على التجارة للتوسعة على الناس، ولما للقوت الذي يأتي منها من صلة بحياة الناس. ومع ذلك، فقد بقي العرف الجاهلي مسيطراً على عقليةالسادة الكبار، من افتخارهم بحيازة الأرض، ومن ازدرائهم من الاشتغال بأنفسهم بها، فكانوا يستخدمون العبيد والأجراء وكُرّاء الأرض في استغلالها، فهؤلاء وأمثالهم خلقوا للعمل في الأرض، أما هم فقد خلقوا ليكونوا سادة، عملهم امتلاك الأرض، وقد ظهر من هؤلاء جيل امتلك أرضين واسعة في البلاد المفتوحة شغل فيها أهل الذمة، والنبط وسكان الأرضين المفتوحة، ومئات وآلافاً من الرقيق والعبيد، كان عليهم العمل، ولسيدهم الكسب الوفر والمغنم.

وقد يزرع أهل الحضر في جوف القرية من النخيل والأشجار، أو داخل ما طاف به سور المدينة، وبقال لذلك "الضامنة"، لأن أرباًبها قد ضمنوا عمارتها وحفظها، فهي ذات ضمان، محروسة آمنة، وتحت رعاية وعيون أصحابها. وقد يزرعون خارج قريتهم، وخارج العمارة في البر، أي في الضاحية، ويقولون لذلك "الضاحية". وفي كتاب النبي لأكيدر: إن لنا الضاحية من البعل، وان لكم الضامنة من النخل. وقد كان زرع أهل الطائف وأهل يثرب وقرى اليمامة واليمن وغيرها بين ضاحية وضامنة. والضاحية أوسع وأكثر بالطبع، لاتساع العين ووفرة الماء.

ولم يكن من الممكن بالنسبة لأيام الجاهلية، زرع مساحات واسعة بالحبوب أو الخضر والنخيل وبقية الشجر، لصغر حجوم المياه، وقلة المطر، وعدم كفايته لارواء الزرع منذ بذر بذوره حتى حصاده، وللظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت مهيمنة على مجتمع ذلك العهد، من عدم وجود حكومات قوية كبيرة ترعى الأمن وتحمي حقوق المزارع وزرعه من العبث به، ثم تشجيعه وتقديم المعونة له. لذلك كان من الصعب ظهور مزارع كبيرة تنتج غلات عظيمة تعرض للاستهلاك المحلي والتصدير. ولم يكن في وسع أحد انشاء مثل هذه المزارع إلا إذا كان متمكناً ذا مال ونفوذ، وصاحب عشيرة قوية، تحمي حقه ممن يريد الاعتداء عليه.

وزرع، بمعنى طرح البذر. وقيل الزرع نبات كل شيء يحرث. ويقال زرعت الشجر كما يقال زرعت البرّ والشعير، والزريعة الشيء المزروع، والزرعة البذر. فالزراعة اذن، هي التي تكَون بفعل انسان، يطرح بذراً أو يغرس غرساً، أو ينبت نبتَاً. وأزرع الزرع طال. وموضع المزروع المزرعة. وقد غلب على المكان الذي يزرع برّاً وشعيراً.

ويكون "الغرس"بفعل انسان، يقوم بغرس الغرس. وغرس الشجر يغرسه غرسأَ، أثبته في الأرض، والغرس الشجر، والغراس وقت الغرس. فلا يكون الغرس ببذور، وانما بغرس غرس، ينمو ويكبر، فيصير غرساً. ولا تعبر لفظة "غرس"عن ظهور النبات بفعل الطبيعة، وانما تعبر عن غرس "فسيل"ليصير شجراً. من ذلك فسيل النخل، وقضبان الكروم والأوراد،وأمثال ذلك. ويعبر عن صغار الفسيل ب "الوديَّ". وفي حديث أبي هريرة، لم يشغلني عن النبي غرس الودي. و "التغاريز"ما حول من فسيل النخل.

وغرسوا الشجر سككاً. والسكة السطر المصطف من الشجر والنخيل. وقد كانت بساتين يثرب سككاً مسطرة بسطور النخل. ومنه الحديث: خير المال: سكة مأبورة ومهرة مأمورة. المأبورة المصلحة الملقحة من النخل، والمأمورة الكثيرة النتاج والنسل. وغرسوا النخل أسطراً على جانبي مسايل الماء والجداول والسواقي. والسطر، الصف من الشيء كالكتاب والشجر والنخل. يقال بنى سطراً من نخل، وغرس سطراً من شجر، أي صفاً.

وغرسوا "الكرم"سككاً كذلك، وقد يتخذون له "عريشاً"يعترش العنب. و "العريش"، ما عرش للكرم من عيدان تجعل كهيأة السقف، فتجعل عليها قضبان الكرم فتعرشها.

ويعبر بلفظة "نَبتَ"عن كل ما نبت من نفسه، أي بدون فعل فاعل، وانما بفعل الطبيعة في التربة، وذلك في الغالب المالوف. وذلك بتأثير المطر عليها، أو بتأثر السيول والطوفان والرطوبة والمياه الجارية، وأمثال ذلك، مما يكون سبباً لنبت النبات. يقال: "نبتت الأرض وأنبنت"، و " نبت الكلأ".

وترد لفطة "سقح"بمعنى زرع وغرس في لغة المسند. رقد فسرها بعض علماء العربيات الجنوبية بمعنى هيأ الماء وجمعه وأجرى السواقي والأرض وحفر القنوات ومهدها للزرع، وبعبارة مختصرة التمهيد لكل شيء ولكل عمل.

التربة

وللتربة عند العرب أسماء، وذلك لأهميتها بالنسبة إلى حياتهم. فنجد في كتب المعاجم ألفاظأ كثيرة لها، من حيث لونها ومن حيث خصبها ومن حيث نوعها ومن حيث وجود الماء فيها الى غير ذلك. وهم يقولون للارض الطيبة السهلة التي لا يعلوها السيل "الأبهر". وقيل الأبهر ما بين الأجيل. ويقولون: "السُخاخ"للارض اللينة الحرّة. ويقولون أرض حلاوة، تنبت ذكور البقل. و "الخصب"نقيض الجدب، وأرض خصبة منبتة، قابلة للزرع. و"العثعث"ما لان من الأرض ومن مكارم المنابت: وقيل الكثيب من السهل أنبت أو لم ينبت. و "الجادسة"، الأرض لم تعمر ولم تعمل ولم تحرث، ورد في الحديث: من كانت له أرض جادسة، قد عرفت له في الجاهلية حتى أسلم، فهي لربها. أي الأرض التي لم تزرع قط.

والسبخة، أرض ذات نزو وملح. والسباخ الأرض التي تعلوها الملوحة، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر.

والبلوقة، المفازة، وهي الأرض المستوية اللينة،أو التي لا تنبت إلا "الرخامي" على رأي آخر،والثيران تولع به وتحفر أصوله فتأكل عروقه. وهي من الأرضين التي ليس بها شجر ولا تنبت شيئاً البتة على بعض الآراء. وقد يكون قفرها هذا، وعدم انباتها سبب قول الأعراب أنها مساكن الجن. ويظهر من أقوال بعض علماء اللغة أن البلوقة أرض واسعة مخصبة، أي على عكس ما ذكره بعض آخر، من أنها الأرض التي لا تنبت شيئاً .

ويعبر عن الأرضين الزراعية بلفظة "ارض""أرض"في جميع اللهجات العربية الجنوبية. وهي من أصل يرد بهذا المعنى في جميع اللهجات السامية. وهي تشير في الغالب الى الأرضين المعدّة لزراعة الخضر والحبوب، وقد يراد بها الأرضن المزروعة بالخضر والحبوب. ولذلك فلفظة "أرض"، قد تعني أرضاً صالحة للزرع، غير أنها غير مزروعة، وقد تعني أرضاً مزروعة، ويرادف هذا المعنى معنى لفظة "المزرعة" والقراح: الأرض لا ماء بها ولا شجر، وقيل الأرض المخلصة للزرع والغرس، وقيل: القراح المزرعة التي ليس عليها بناء ولا فيها شجر.

و "الجربة"، المزرعة. ومنه سميت الجربة المزرعة المعروفة بوادي زبيد. والجربة: القراح من الأرض المصلحة لزرع أو غرس، واستعارها "امرؤ القيس"للنخل،فقال: كجربة نخل أو كجربة يثرب 

والركيب: المزرعة والقراح الذي يزرع فيه، والمشارة، أو الجدول بين الدبرتين، أو ما بين الحائطين من النخل والكرم،وقيل ما بين النهرين من الكرم. قال تأبط شراً: فيوماً على أهل المواشي وتارة  لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل

وأهل الركيب، هم الحُضار.

فالركيب اذن أرض زراعة، تكون محددة، معينة المعالم، يمتلكها مالك أو ملاك، تزرع أشجاراً مثمرة في الغالب، لا حبوباً.

والحقل، قراح طيب يزرع فيه، وقيل هو الموضع الجادس أي البكر الذي لم يزرع فيه قط. يقال أحقلت الاْرض، صارت ذات حقل. والمحاقل المزارع.

والمبقلة: الأرض التي يزرع البقل فيها. وأما المبطخة، وتجمع على مباطخ، فالأرض التي يزرع فيها البطيخ. والمرج: الأرض الواسعة ذات كلأ وماء، تمرج فيها الدواب حيث شاءت.

والسبخة أرض ذات نز وملح، وهي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض النبات. ولهذا لا يزرعها الفلاح، وتترك لعدم صلاحها للزرع، ولصعوبة استصلاحها بغسلها من الأملاح. وفي جزيرة إلعرب سباخ رخوة قد تغوص فيها الأقدام، لذلك ابتعد عنها المسافرون.

ويعبر في المسند عن الأرض المزروعة نخيلاً بلفظة "انخل"، أي "نخيل". ويراد بذلك الأرض المغروسة نخلاً. ويعبر عن الأرض المزروعة أشجاراً بلفظة "اثمر"، أي أشجاراً مثمرة، وعن الأرض المخصصة بزراعة الحبوب بكلمة "مذرا "مذرى". وعن الارض التي تزرع أعناباً ب "اعنب"، أي بساتين الكروم.

وفسر بعض الباحثين في العربيات الجنوبية لفظة "موفرن""موفر"، الواردة في نصوص المسند، بمعنى الأرض الصالحة للزراعة بصورة عامه، كما فسرها بعضهم بمعنى المزرعة والحديقة. وهي في مقابل لفطة "الوفراء"في عربيتنا، والوفراء الأرض التي لم ينقص من نبتها شيء، والأرض التي في نباتها فرة، أي كثرة، يقال أرض وفراء، وهذه أرض نباتها فر، وفرة.

وقد حوّ ل بعض أصحاب الأرض والمزارعين الأرضين الزراعية إلى بساتين وحدائق، غرست بالنخيل والشجر الملتف درّت عليهم أرباحاً حسنة، من بيع ثمارها. واكتسبت بعضها شهرة، بسبب وقوع أحداث فيها، مثل: "الحديقة" من أعراض المدينة، كانت بها رقعة بين الأوس والخزرج، ومثل "حديقة الرحمان"، بستان كان لمسيلمة بفناء اليمامة، فلما قتل عندها سميت: "حديقة ا لموت".

والحديقة، الروضة ذات الشجر، والبستان عليه الحائط، وخص بعضهم من النخل والشجر الملتف، وخص بعضهم الشجر بالمثمر، وقال بعضهم بل هي الجنة من نخل وعنب، والقطعة من النخل. و "المخرف"مثل "الخروفة"النخلة أو النخيل دون البستان. و "المخرفة"سكة النخل والبستان من النخل.

وقد وردت الجنة مفردة ومجموعة ومنكرّة ومعُرَّفة في القرآن الكريم. وتقابل "كن"، Gan"" و "كنّه" "Gehenne"="Gannah""، في العبرانية ؛ وهي في معنى "فردوس"الفارسية الأصل، و، "Paradise"، في الانكليزية. ويراد بها موضع للاشجار الجميلة التي تسرّ الناظرين والأشجار المثمرة والورد والزهر والمياه. والحديقة ذات النخيل والشجر، أو ذات النخل والعنب. وهي البستان عند بعض اللغوين. وأما "الجنينة"، فتصغير جنة.

و "البستان"من الألفاط المعربة. ذكر علماء اللغة أنها "معرب بوستان. فبو بمعنى الرائحة، وستِان - با لكسر- الجاذب"بالفارسية و "الروضة" و "الريضة"، مستنقع الماء من قاع فيه جراثيم ورواب سهلة صغار في سرار الأرض. وقيل الأرض ذات الخضرة، وقيل البستان الحسن، وقيل الروضة عشب وماء، ولا تكون روضة إلا بماء معها أو إلى جنبها، وقيل أرض ذات مياه وأشجار واْزهار طيبة. وإن كانت الرياض في أعالي البراق والقفاف، فهي السلقان، واحدها سلق، وان كانت في الوطاآت فهي رياض. ورب روضة فيها حرجات من السدر البري، وربما كانت الروضة ميلا في ميل، فإذا عرضت جداً فهي قيعان. ورياض "الصُمان"والحزن بالبادية أماكن مطمئنة مستوية يستريض فيها ماء السماء، فأنبتت ضروياً من العشب ولا يسرع إليها الهيج والذبول.

ويقال للبستان إذا كان محاطاً بجدار "الحائط"، وتجمع على حوائط. وقد وردت هذه اللفظة في كتب الحديث. وهناك لفظة أخرى تؤدي هذا المعنى هي "الحظار. ويراد بها الأرض التي فيها الزرع المحاط عليها. وقد ذكرت في كتب الحديث. وذكر علماء اللغة أن من معاني "الحظار"، الحائط وكل ما حال بينك وبين شيء، وما يعمل للابل من شجر ليقيها البرد والربح. والجدار من الشجر يوضع بعضه على بعض ليكون ذرى للمال يرد عنه برد الشمال في الشتاء.

ويعبر في المسند عن الحقول والبساتين وكل المزارع التي تكون داخل حدود القرى و "الهكر.""الهجر"أي المدن، أو في ضواحيها وأطرافها، بلفظة "اقنى"، التي تعني الممتلكات، أي المزارع المملوكة المغروسة بالشجر. أما لفطة "أرض"، فتطلق بمعنى المزارع والأرضين المزروعة خارج حسود القرى والمدن، وتزرع عادة بالمزروعات الواطئة، أي: "الخضر".

وتحدد الأرضين بحدود تعين معالمها وتثبتها. ويقال للحدود "وثن"أي حد، ويجمع على "اوثنن". وهناك لفظة أخرى تطلق على الحد هي "زنن". وتعني الخط الفاصل الذي يعين الحدود. وتجمع اللفظة على "ازنن".

والدِّبر مشارات المزرعة، أي مجاري مائها. وقيل: الدبار الكردة من المزرعة، والدبار: الأنهار الصغار التي تنفجر في أرض الزرع. و "الكردة"، الدبرة من المزارع، وهي المشارات أي سواقيها. وهي من الألفاظ المعربة عن الفارسية. و "المشارة"، الكردة، وهي من الألفاظ المعربة.

وبعرف حافظ الكرم والنخل والزرع ب "الناطر" و "الناطور". ذكر علماء اللغة إن اللفظة من كلام أهل السواد، ليست بعربية محضة، ومنهم من جعلها من الألفاط الأعجمية. و "النُطاَّر"الخيال المنصوب بين الزرع.

وقد استغل أهل اليمن الجبال والمناطق المرتفعهّ، فزرعوها بمختلف المزروعات التي تلائم طبيعتها، ففي المحلات التي يكون الجو فيها بارداً في الشتاء ولطيفاً في الربيع والصيف غرست الأشجار الي تلائم ذلك، وزرعت في المناطق الوسط المعتدلة النباتات التي تحب اعتدال الجو. أما في التهائم والمناطق المنخفضة الحارة، فقد زرعت النباتات التي تحب هذا الجو. وبذلك تنوعت المزروعات. وتكاثرت ألوانها، وصار في الامكان الحصول في موسم الشتاء على المزروعات التي تزرع في الصيف ببعض البلاد الباردة، والحصول في موسم الصيف على المزروعات التي تزرع في الشتاء.

ولتحقيق غرس الجبال والمناطق المرتفعة، لا بد من تمهيدها للزرع. وذلك بجعلها مدرّجات عريضة، تسند جوانبها الظاهرة بالصخور والحجارة منعاً من أنهيار تربتها والمزروع فيها، ويقال لهذه المدرجات في المسند "جروب""جرب " جمع "جربت""جربة"، وتحمى الجربة بحائط من الحجارة. وهي تعني الحجارة المقطوعة،على سبيل المجاز المرسل من باب تسمية الكل باسم الجزءعلاقة.

وأهل اليمن لا يزالون يتبعون هذه الطريقة، وفي كثير من المناطق الجبلية والهضاب المهملة الآن آثار تلك المدرجات. تتحدث عن زرع يانع في الأيام القديمة، وهي تناجي أهل البلاد لعلهّم ينتبهون إليها فيعيدون إليها الحياة. وقد كانت زراعة الكروم ولا تزال من أهم المزروعات التي تعتمد على هذه الطريقة. وهي تتحمل جواً بارداً بعض البرودة ومعتدلاً، ولهذا تجود بالثمر الكثير الطيب في هذه المدرّجات.

وقد أشار "بطلميوس"، إلى اتخاذ أهل النجود والجبال في بلاد العرب المدرجات لزرعها وتشجرها.وأطلق على الجبال المكونة للقسم الجنوبي من "السراة" Climax Mons " ومعناه الجبال المدرجة، فترى وكاًنها ذات سلالم. و هذه الطريقة شائعة في اليمن حتى اليوم، ولا سيما في جبل حضور نبي شعيب وفي الأقسام الغربية من السراة. فجبال "القليمس" "Climax Mons" التي يشير إليها "بطلميوس"، إذن هي القسم الجنوبي من السراة الممتد في اليمن وعسير.

وزرع أهل "السراة" على هذه الطريقة أيضاً، وكذلك أهل الجبال والمرتفعات، ففي استطاعة المزارع في المواضع المرتفعة الاستفادة من ماء المطر وبالتحكم فيه، وبحصره في "الركيب"أي المشارة المزروعة، أعني المزرعة التي يزرع بها، وألتي قد تكون ما بين ساقيتين أو الجدول بين الدبرتين، أو المزرعة بصورة عامة. كما جاء في قول تأبط شراٌ: فيوما على أهل المواشي وتارة  لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل

لقد تبين من نتائج الفحص العام الذي قام به الباحثون لمواضع من العربية الجنوبية، إن الزراعة كانت متقدمة تقدماً كبيراً في اليمن بالنسبة إلى بقية أنحاء جزيرة العرب، وأن العربي الجنوبي حرص حرصاً شديداً على الاستفادة من الأمطار في إرواء أرضه، كما يتبين ذلك من آثار السدود التي تلاحظ في كل وادّ تقريباً، وهي سدود أقيمت لا لكي تتحكم في سير "السيول"وفي ضبطها خشية إغراق المدن والقرى والزرع فقط، بل لكي يمكن خزنها في أحواض وتوجيهها الوجهة التي يريدونها في اًوقات الحاجة إليها، وذلك بواسطة أبواب تفتح وتغلق حسب الحاجة، وقنوات ومجاري للماء توصل إلى مواضع للزرع والحاجة إلى الماء.

والدِّبر مشارات المزرعة، أي مجاري مائها. وقيل: الدبار الكردة من المزرعة، والدبار: الأنهار الصغار التي تنفجر في أرض الزرع. و "الكردة"، الدبرة من المزارع، وهي المشارات أي سواقيها. وهي من الألفاظ المعربة عن الفارسية. و "المشارة"، الكردة، وهي من الألفاظ المعربة.

وبعرف حافظ الكرم والنخل والزرع ب "الناطر" و "الناطور". ذكر علماء اللغة إن اللفظة من كلام أهل السواد، ليست بعربية محضة، ومنهم من جعلها من الألفاط الأعجمية. و "النُطاَّر"الخيال المنصوب بين الزرع.

وقد استغل أهل اليمن الجبال والمناطق المرتفعهّ، فزرعوها بمختلف المزروعات التي تلائم طبيعتها، ففي المحلات التي يكون الجو فيها بارداً في الشتاء ولطيفاً في الربيع والصيف غرست الأشجار الي تلائم ذلك، وزرعت في المناطق الوسط المعتدلة النباتات التي تحب اعتدال الجو. أما في التهائم والمناطق المنخفضة الحارة، فقد زرعت النباتات التي تحب هذا الجو. وبذلك تنوعت المزروعات. وتكاثرت ألوانها، وصار في الامكان الحصول في موسم الشتاء على المزروعات التي تزرع في الصيف ببعض البلاد الباردة، والحصول في موسم الصيف على المزروعات التي تزرع في الشتاء.

ولتحقيق غرس الجبال والمناطق المرتفعة، لا بد من تمهيدها للزرع. وذلك بجعلها مدرّجات عريضة، تسند جوانبها الظاهرة بالصخور والحجارة منعاً من أنهيار تربتها والمزروع فيها، ويقال لهذه المدرجات في المسند "جروب""جرب " جمع "جربت""جربة"، وتحمى الجربة بحائط من الحجارة. وهي تعني الحجارة المقطوعة،على سبيل المجاز المرسل من باب تسمية الكل باسم الجزءعلاقة.

وأهل اليمن لا يزالون يتبعون هذه الطريقة، وفي كثير من المناطق الجبلية والهضاب المهملة الآن آثار تلك المدرجات. تتحدث عن زرع يانع في الأيام القديمة، وهي تناجي أهل البلاد لعلهّم ينتبهون إليها فيعيدون إليها الحياة. وقد كانت زراعة الكروم ولا تزال من أهم المزروعات التي تعتمد على هذه الطريقة. وهي تتحمل جواً بارداً بعض البرودة ومعتدلاً، ولهذا تجود بالثمر الكثير الطيب في هذه المدرّجات.

وقد أشار "بطلميوس"، إلى اتخاذ أهل النجود والجبال في بلاد العرب المدرجات لزرعها وتشجرها.وأطلق على الجبال المكونة للقسم الجنوبي من "السراة" Climax Mons " ومعناه الجبال المدرجة، فترى وكاًنها ذات سلالم. و هذه الطريقة شائعة في اليمن حتى اليوم، ولا سيما في جبل حضور نبي شعيب وفي الأقسام الغربية من السراة. فجبال "القليمس" "Climax Mons" التي يشير إليها "بطلميوس"، إذن هي القسم الجنوبي من السراة الممتد في اليمن وعسير.

وزرع أهل "السراة" على هذه الطريقة أيضاً، وكذلك أهل الجبال والمرتفعات، ففي استطاعة المزارع في المواضع المرتفعة الاستفادة من ماء المطر وبالتحكم فيه، وبحصره في "الركيب"أي المشارة المزروعة، أعني المزرعة التي يزرع بها، وألتي قد تكون ما بين ساقيتين أو الجدول بين الدبرتين، أو المزرعة بصورة عامة. كما جاء في قول تأبط شراٌ: فيوما على أهل المواشي وتارة  لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل

لقد تبين من نتائج الفحص العام الذي قام به الباحثون لمواضع من العربية الجنوبية، إن الزراعة كانت متقدمة تقدماً كبيراً في اليمن بالنسبة إلى بقية أنحاء جزيرة العرب، وأن العربي الجنوبي حرص حرصاً شديداً على الاستفادة من الأمطار في إرواء أرضه، كما يتبين ذلك من آثار السدود التي تلاحظ في كل وادّ تقريباً، وهي سدود أقيمت لا لكي تتحكم في سير "السيول"وفي ضبطها خشية إغراق المدن والقرى والزرع فقط، بل لكي يمكن خزنها في أحواض وتوجيهها الوجهة التي يريدونها في اًوقات الحاجة إليها، وذلك بواسطة أبواب تفتح وتغلق حسب الحاجة، وقنوات ومجاري للماء توصل إلى مواضع للزرع والحاجة إلى الماء.

وقد ذكروا إن "بني حنيفة"كانوا قد اتخذوا إلهاً من حيس، فأصابتهم سنة، فعمدوا إليه فأكلوه فعيرهم الشاعر به. والحيس في تفسير علماء اللغة: تمر يخلط بالسمن وأقط فيعجن، أو هو التمر البرني والأقط يدقان ويعجنان بالسمن عجناً شديداً ثم يندر منه نواه، ثم يسوى كالثريد، وهي الوطبة، وربما جعل فيه سويق أو فتيت عوض الأقط.

وذكر أن اسم اليمامة القديم هو "الجوف"، وأن الجوف المطمئن من الأرض وهو أوسع من الشعب تسيل فيه التلاع والأودية وله جرفة. فالجوف أرض خصبة ذات مياه قد تسيل وقد تكون قريبة من سطح الارض. ولما كانت اليمامة على هذه الصفة، لا يستبعد أن تكون قد سميت بهذه التسمية.

وباًليمامة أودية خصبة، صارت من أهم مواضع الخصب فيها، لوجود الماء فيها على مقربة من سطح الارض ولوجود العيون العذبة بها. من هذه الاودية: "العرض". والعرض الوادي يكون فيه قرى ومياه، أو كل واد فيه نخل، وقال بعضهم: كل وادٍ فيه شجر. ومن أعراض اليمامة، عرًض شمام، وعرض عجر. فالاول يصب في "برك"وتلتقي سيولهما ب "جو"في أسفل "الخضرمة"، فإذا التقيا سميا "محقفاً"، وهو قاع يقطع الرمل. قال الاعشى: ألم تر أن العرض أصبح بطنه  نخيلاً وزرعاً نابتاً وفصافصا 

وقال المتلمس وبه لقب: وذاك أوان العرض، جنّ ذباًبه  زنابيره والازرق المتلمـس

وفي الشعر المتقدم دلالة على خصب "العرض"، وكثرة زرعه ونخله، وعلى اشتغال أهله بالزراعة.

وفي اليمامة مرتفع يقال له "عارض اليمامة". والعارض الجبل وقد جاء ذكره في الحديث. وإلى ذلك أشار "عمرو بن كلثوم"بقوله: وأعرضت اليمامة واشمخرت  كأسياف بأيدي مصلـتـينـا

ومن أودية اليمامة "العقيق"، وهو واد واسع مما يلي "العرمة"تتدفق فيه شعاب العارض وفيه عيون عذبة الماء. وبه معدن.

ومن مواضع اليمامة الخصيبة "قُرّان"، موضع به ماء ونخيل، وهو لبني سحيم من بني حنيفة، ويذكر مع "ملهم". و "ملهم"موضع كثيرالنخل، به ماء. ويوم "ملهم"حرب نسبت لهذا المكان بين تميم وحنيفة.

وكانت في الحجاز، ولا سيما ما وقع منه شمال المدينة، عند ظهور الإسلام، مواضع كثيرة ذات عيون ومياه جارية، غرست بالنخيل،واشتغل أهلها باًلزراعة. وقد كان وادي القرى كثير المياه بصورة خاصة،بالنسبة إلى باًطن جزيرة العرب، وعلى مواضع المياه أقيمت مستوطنات وقرى عديدة، عاشت على النخيل والزرع وعلى القوافل التي تسلك هذا الوادي تحمل التجارات. وقد وردت أسماء مواضع عامرة آهلة بالسكان في غزوات النبي، تقع كلها في شمال "يثرب"الى فلسطين، وبين مكة ويثرب بعض مواضع مياه، عاش سكانها على النخيل والقوافل والرعي وبعض الزرع. وكذلك وجدت بعض مواضع مياه "مكة"والعربية الجنوبية.

ومن الأماكن الخصبة "وادي الغرس"، قرب " فدك"بينها وبين "معدن النقرة"،. وكانت فيه منازل بني النضير.

ومن المواضع التي استغلت في الزراعة الجرف. وهو موضع قرب المدينة على ثلاثة أميال منها، بها كانت أموال "عمر"، ومنه حديث "أبي بكر"انه مرّ يستعرض الناس بالجرف فجعل ينسب القبائل حتى مر ببني فزارة. وكان "عبد الرحمن بن عوف"يزرع به على عشرين ناضحاً، فكان يدخل منه قوت أهله سنة. أي انه كان يسقي زرعه نضحاً، والناضح البعير أو الحمار أو الثور الذي يستقي عليه الماء، والنضيح من الحياض ما قرب من البئر حتى يكون الافراغ فيه من الدلو، ويكون عظيماً، وهي ناضحة وسانية.

وأرض يثرب وما تبعها من أطراف، هي من الارضين الخصبة، وقد حفر أصحابها آباراَ بها، وسقوها منها، وغرسوا عليها النخيل وزرعوا بها، واتخذوا لهم بها "الحوائط"و "البساتين". ويظهر أن بعضها كانت واسعة تسقى بآبار غنية بالماء، لها جملة نواضح. وهي تظهر أن أهل المدينة كانوا مزارعين، وأن مزارعهم كانت تأتي عليهم بمال طيب، جعل بعضهم من الأثرياء. وقد استفيد من شراج الحرة في سقي المزارع.، وكانت تستمد ماءها من الحرة. وقد كانت للزبير بن العوّام مزرعة على هذه الشراج، كما كان لأنصاري مزرعة عليها كذلك، وقد ورد ذكرهما في كتب الحديث بسبب اختلافهما على السقي.

وتنافي هذه الأخبار المتحدثة عن اشتغال الأنصار بالِزاعة، الأخبار الأخرى التي يرويها أهل الأخبار أيضاً، الذاكرة أن الأنصار، أهل المدينة لم يكن لهم علم بالزراعة ولم يكونوا يقبلون عيلها، إقبال يهود خيبر وفدك ووادي القرى على الفلاحة. ويظهر أن رواياتّهم هذو إنما نشأت من الوضع السيء الذي كان فيما بين الأوس والخزرج ومن تقاتلهم بعضهم مع بعض، على الرئاسة والزعامة، وبسبب العصبية القبلية الضيقة، فأثر كل ذلك على الزراعة في يثرب وفيما حولها فجعلها متأخرة لاعتداء كل جانب منهما على زرع خصمه، وقد ألهاهم عن الزرع.

وباًلمدينة وأطرافها مواضع عرف الواحد منها ب "البقيع". والبقيع الموضع فيه اًروم الشجر من ضروب شتى، والمكان المتسع ولا يسمى بقيعاً إلا وفيه الشجر، ومنه "بقيع الغرقد"، وقد ورد في الحديث، وهو مقبرة مشهورة بالمدينة. سمي بالغرقد، بشجر له شوك فذهب وبقي الاسم لازماً للموضع، وبقيع الخيل،وبقيع الخبجبة، وبقيع الزبير،وبقيع الخضمات،موضع عند خرم بني النبيت.

وبيثرب ثلاثة أودية مهمة هي: العقيق، وبطحان، وقناة. وفي وادي العقيق عيون ونخيل، وقد ذكر في الحديث. والأودية المذكورة من المواضع الخصبة المنبتة في هذه المنطقة، ومياهها قريبة من سطح الأرض، ومن الممكن العثور عليها بسهولة بحفر الآبار بها.

ومن الأودية التي استفيد منها في الزراعة "وادي مهزور"، وقد ذكر في الحديث. ذكر انه وادي بني قريظة، وان الرسول قضى في سيله ان يحبس حتى يبلغ الماء كعبين. وذكر بعضهم انه يذكر مع "مذينيب"بسيلان بماء المطر خاصة، وهو من أوديةالمدينة. ومن مهزور إلى مذينيب شعبة تصب فيها.

وقد كان من الممكن استصلاح الأرض المحيطة بيثرب، بحفر الآبار بها، فالماء فيها غير بعيد عن سطج الأرض، وهو عذب أو مج لكنه يصلح للشرب ولسقي الزرع. ولما نعمت يثرب بالهدوء في عهد الرسول، أقبل بعض المهاجرين على الزراعة فيها، فحفروا الآبار وزرعوا عليها، وحوّطوها، وجنوا منها ثمراً طيباً، ولولا الفتوحات الاسلامية التي اجتلبت إليها المهاجرين والأنصار على السواء، للخيرات الكثيرة التي كانت في الأرضين المفتوحة، لتحولت يثرب إلى بساتين ومزارع منتجة، تمون الأماكن البعيدة عنها بالتمور وبالفواكه والخضر.

وقد زرع أصحاب الأرض بيثرب أرضهم بقولاّ وحبوباً، ومنهم من زرع تحت النخيل، ورد أن مولى من موالي "عثمان بن مظعون " كانت في يده أرض لآل مظعون بالحرة، فكان يزرعها قثاءً وبقلاً. ولما صارت أرض "بني النضر" خالصة لرسول الله، كان يزرع تحت النخل في أرضهم فيدخل من ذلك قوت أهله وأزواجه سنة، وما فضل جعله في الكراع والسلاح، وقد كان بنو النضير. قد استغلوا أرضهم، واقاموا بها "الحوائط"، ولما أسلم "مخيريق"، وهو أحدهم، جعل للرسول ما له وهو سبعة حوائط، فجعلها الرسول صدقة.

وذكر في بعض الروايات أن "أحيحة بن الجلاّح"، وكان من اًصحاب الأملاك بيثرب، كانت له بساتين وأرضين يزرعها ويسقيها بالسواني فلا يعبأ بتأخر إلمطر وانقطاعه. ونسب بعض أهل الأخبار له هذه الأبيات: إذا جمادي منعت قطرها  إن جناني عطن معصف 

معرورف أسبل جبـاره  أسود كالغابة مغـدودف

يزخر في أقطاره مغدق  بحافتيه الشوع والغريف

ويظهر من وجود المصطلحات الآرامية والفارسية والنبطية في لغة زراع يثرب، اًنهم استعانوا في الجاهلية بالرقيق المستورد من العراق ومن بلاد الشام في زراعة الأرض وفي انباتها، حتى أنهم أخذوا مسميّاتها منهم، مثل "الخربز"الذي هو البطيخ في لغة أهل مكة، كانوا يسمونه "الخربز"، و "الخربز"لفظة عربية معربة، من أصل فارسي، وقد وردت في الحديث.

ونجد في مواضع من بقية جزيرة العرب مياهاً صارت مواطن لسكن، اختلفت كثافة سكانها باختلاف مقدار الماء. وهي رحمة وغوث بالنسبة للرحل ولأهل القوافل ولذلك صارت ملاذاً استليذ به في هذه البوادي البعيدة الأبعاد الجافة القاسية، وقد اضطرت القوافل إلى الاتجاه نحوها للوصول إلى أهدافها، لذلك صارت عقداً، تجتمع في بعض منها جملة طرق برية، إذ كانت ذات مياه غزيرة وعلى مفترق طرق، تختصر الأبعاد والمسافات، وفى هذه الأماكن، ظهرت زراعة النخيل، وهي زراعة تقنع بالقليل من الماء، لامتصاصها الرطوبة من باطن الارض،وبعض النباتات الاخرى، التي لا تحتاج الى سقي كثير، وظهرت البيوت المعدة لاستقبال التجار والمسافرين وأصحاب القوافل.

وفي العربية الشرقية مواضع قرب فيها الماء العذب من وجه الأرض، أو ظهر على وجهها وفار على شكل عيون، وفي هذه المواضع صار سكن وزرع تناسبت كثافته مع كثافة الماء ومدى وصوله، حيث توقف عند ذلك المكان الذي انتهى إليه. فالماء هو الذي يحدد الزرع ويعين نوعه، وهو الذي يقرر السكن ويثبت حده. ومن هذه المواضع التي وجد فيها سكن وزع "هجر"، وقد اشتهرت بنخيلها، فقصدها الأعراب لامتيار التمر منها، حى ضرب بها المثل في كثرة التمر، فقيل: كمبضع تمر الى هجر. ويظهر إن مياهها كانت راكدة متجمعة، فتسببت في ظهور الأوبئة فيها. قال "عمر "عجبت لتاجر هجر، وراكب ألبحر. وإنما خصها لكثرة وبائها، أي تاجرها وراكب البحر سواء في الخطر".

والأحساء من المواضع المشهورة باًلزراعة في العربية الشرقية، وقد عرفت بزراعة النخيل وبعض الأشجار والخضر، وهي لا تزال على مكانتها، فلا تزال عيون مائها تمون الناس بماء شربهم وزرعهم. و "قطر"موضع قديم يعود عهده إلى ما قبل الميلاد، وقد أشير إليه في الكَتب اليونانية واللاتينية، وأسس به المبشرون كنائس، وقد ساهم أساقفته في المجامع الكنسية التي انعقدت للنظر في أمور الجدل بين المذاهب النصرانية، كما اشتهرت بثياب جيدة نسبت إليها، أشير إليها في الحديث، كما أشرت الى ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب.

و "كاظمة"اسم قديم معروف، يرد في الشعر الجاهلي وفي القصص، جوّ من سيف البحر من البصرة على مرحلتين. وفيه ركايا كثيرة وماؤها شروب. وقد أشير إلى قطاها في شعر لامرىء القيس. و "المرائض"في ديار "تميم"بين "كاظمة"و "النقيرة"فيها أحساء.

الفصل التسعون
الزرع

ولابد من حرث الأرض وتنقيتها من الشوائب الضارة بالزرع، ومن تليينها، وذلك قبل الشروع بالبذر أو بالغرس. وقد كان بعضهم يحرق الأدغال والأعشاب وما يجده على الأرض المراد زرعها من زوائد وأوساخ، وذلك للتخلص منها، وللاستفادة منها في تقوية التربة وزيادة نمائها. ثم يقومون بحراثتها فيندمج رمادها في التربة ويصير جزءاً منها. وقد يقتلون أصول الزرع السابق وما يكون قد نبت على الارض من نبات غريب مؤذٍ للزرع، قبل حراثة التربة. فاذا تم ذلك، ونظفت التربة،سقوها بالماء ليكونً من السهل على الأكار حرث الارض وتعزبقها، وربما لا يسقونها، بل يحرثونها مباشرة. وذلك بالنسبة للارضين التي تسقى بماء السماء، حيث لا يتوفر الماء الجاري، أو ماء الآبار. ومتى تمت الحراثة وقلبت التربة، تهيأت للزرع ونظمت وفقاً لنوع الزرع الذي سيكون فيها، على هيأة ألواح طويلة دقيقة، أو مربعات تتخللها السواقي والقُنيّ، أو غير ذلك، ثم يشرع بعد ذلك في الزرع والغرس. ويقوم الزارع نفسه في العادة بحرث أرضه واصلاحها وتمهيدها للزرع. وقد يقوم بالحراثة أشخاص مقابل أجر يدفع لهم.

والحرث والحراثة العمل في الأرض زرعاً كان أو غرساٌ. وقد يكون الحرث نفس الزرع. وذكر أن الحرث قذفك الحب في الأرض للازدراع، والحرّ اث الزرّ اع. و "الكرّاب"في مرادف الحرّ اث، والكرابة الحراثة. والكِراب والكرب إثارتك الأرض. و "الفلاح"في معنى الحرّ اث والأكار. لأنه يفلح الأرض، وحرفته الفلاحة. ورد: "أحسبك من فلاحة اليمن، وهم الأكرة، لأنهم يفلحون الأرض يشقّونها". والفلاحة الحراثة، وهي حرفة الأكار.

و "الجوَّار"الأكار، وقيل: هو الذي يعمل لك في كرم أو بستان.

و "الأكار"الحرّ اث والزارع، والمؤاكرة المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع في الأرض. وهي المخابرة. ويعدّ الأكار من الطبقات المحتقرة عند العرب. وفي حديث قتل أبي جهل، فلو غير أكّار قتلني. أراد به احتقاره وانتقاصه، كيف مثله يقتل مثله، فهو رجل شريف غني ثريّ، فكيف يقتله من هو دونه في المنزلة والمكانة، فكان يتمنى وهو مقتول، لو كان قاتله مثله في المنزلة و المكانة.

وقد اشتهرت اليمن بالفلاحة، ورد: "وأحسبك من فلاحة اليمن. وهم الأكرة، لأنهم يفلحون الأرض، يشقونها". وقد بقيت شهرة أهل اليمن بالفلاحة الى هذا اليوم، ومنهم قوم هاجروا إلى العربية السعودية للاشتغال يالفلاحة في أرضها.

وأساليب الحراثة تكاد تكون واحدة عند جميع شعوب الشرق الأدنى. وبعض الاساليب بدائي جداً، يُستعمل في حراثة الارضين الصغيرة بصورة خاصة. فتستعمل الحجارة أو الاخشاب أو الفؤوس على اختلاف أنواعها، وبعضها متقدم نوعاً ما اعتمد على المسحاة وعلى آلات الحراثة التي تجرها الحيوانات، وتستعمل هذه الطريقة في حراثة المزارع الكبيرة، ومنها سكة الحراث حديدة الفدان التي يحرث بها الارض. وينسب إلى الرسول قوله: ما دخلت السكة دار قوم إلا ذلوا. إشارة إلى ما يلقاه أصحاب المزارع من عسف السلطان وايجابه عليهم بالمطالبات وما ينالهم من الذل عند تغير الاحوال بعده. وقد ذكرت السكة في ثلاثة احاديث بثلاث معان مختلفة. وورد في بعضها ما يفيد العكس، أي مدح للزراعة والزراعة وحث عليها.

وتشبه آلات حراثة الجاهليين الالات التي يستعملها الفلاحون في بلاد العرب اليوم. وقد استعملوا "الفدان"في الفدن. و "الفدان"الثوران اللذان يفدن عليهما، ولا يقال للواحد فدان. وذكرإن "الهيس"الفدان، أو أداته كلها بلهجة أهل اليمن، أو بلغة أهلُ عُمان.

ومن الآلات التي استعملت في حراثة التربة: المحفار، وهي المسحاة وغيرها مما يحفر به. والمِخَدّ ة، حديدة تخدّ بها الارض، والمعول، لتكسير الحجارة والحفر. والمسحاةَ، وهي من حديد، وصانعها سحّاء، وحرفته السحاية، وهي لا تزال تستعمل في الحراثة وفي سد المياه وفتحها في السواقي لسقي المزارع والبساتين، ولقلع الأعشاب والأشجار. و "المرّ"، المسحاة أو مقبضها، وقيل هو الذي يعمل به في الطين.

ومن المصطلحات المستعملة في الحراثة، العزق، وهو تشقيق الارض بفأس. والأداة المعزق والمعزقة. والكور الحفر، ومنها كرت الارض كوراً أي حفرتها. والجوّ ار الأكار، والأكار الحفّار. والتربيك في الحرث رفع الأعضاد بالمجنب. والكَر مَ من الارض التي عدنوها بالمعدن حتى نقوّا صخرها وحجارتها، فتركوا مزرعتها لا حجر فيها، وهي أفضل أرضهم. والارض الكرم يحرث فيها البرّ، وهي سهلة لا تحتاج إن العدن. والمعدن الصّاقور. ويقال عدنت الارض أي أصلحتها. وأما قولهم نخنختُ الارضَ فبمعنى شققتها للحرث. والنخة البقر العوامل. ويقال رضت الارض إذا أثرتها. وأما وطدت الارض فبمعنى ردمتها لتصلب، والميطدة خشبة يوطد بها المكان من أساس بناء وغيره ليصلب. ويقال شحبت الارض و شحباً وأشحبها. إذا قشرت وجهها بمسحاة وغيرها، وهي يمانية. ويقال لكل واحد من أخاديد الارض تَلَمّ والجمع التلام. وهو مشق الكراب في الارض بلغة أهل اليمن. والخرق بمعنى شق الارض للحرث. وخضضت الارض بمعنى قلبتها.

والحيوانات المستخدمة في الحراثة هي الثيران والحمير والخيل والجمال، وذلك بحسب كثرة هذه الحيوانات وقلتها،ويستعمل في الحرث حيوان واحد حيناً وحيوانان حينا آخر. وقد وصلت الينا بعض النصوص الجاهلية محفوراً فيها صور حيوانات تحرث، تجر المحراث ويسوقها الفلاح. ويكون الكراب على البقر، وهو الغالب، وفي المثل " الكراب على البقر".

ويظهر من كتب الحديث أن اعتماد أهل الحجاز في الحراثة كان على البقر. وقد ورد في الحديث: "بينما رجل راكب على بقرة، التفتت إليه، فقالت: لم أخلق لهذا، خلقت للحراثة". ويظهر أنهم كانوا يستعملون الكلاب في الحراثة كذلك. ففي الحديث: "كلب حرث". وقد ورد أيضاً "كلب غنم " و "كلب ماشية"، و " كلب صيد"، و "كلب زراعة".

ويشتغل الفلاح بعد حراثة الارض باصلاحها ونثر الحب فيها نثراً متساوياً منتظماً، ويستعمل لذلك بعض الآلات، مثل "المالق " و "المملْقَةَ". وهي خشبة عريضة، تجرها الثيران، وقد أثقلت لتستوي السنَّة واللؤمة فتتلما على الحب، وتملس التربة المثارة. و "المجَزُّ"، وهي شبحة فيها أسنان وفي طرفها نَقٌران يكون فيهما حبلان وفي أعلَى الشجة نقران فيهما عود معطوف، وفي وسطها عود يقبض عليه ثم يوثق بالثورين فتغمز الاسنان في الارض حتى تحمل ما قد أثير من التراب حى يأتيا به المكان المنخفض. "والمجنب"وهي شبحة مثل المشط، إلا أنها ليست لها أسنان، وطرفها الاسفل مرهف يرفع بها التراب على الاعضاد والفلجان.

ويعبر في عربية القرآن للكريم عن طرح البذر في الارض بلفظة "زرع". ويقال أيضاً: زرعت الشجر كما يقال زرعت البُرَّ والشعير. والزرع الإنبات. ومن هذا الاصل لفظة الزرع والزراعة.

وتثار الارض وتقلب على الحبّ، لضمان طمر الحب في التربة، فلا يظهرعلى سطحها، فتلتقطه الطيور، ويتعرض للعوارض الجوية التي تفسده وتتلفه. ثم تسقى الارض، ويقال للسقية الاولى العَفٌر، ثم تسقى بعد ذلك بحسب الحاجة حتى ينمو الزرع وينضج ويجمع، فيقطع عندئذ السقي.

والحبِة، بزور البقول والرياحين، أو بزر العشب، أو جميع بزور النبات، وبزر كلَ ما نبت. والحبّة أيضاً يابس البقل، تقول العرب: رعينا الحبة، وذلك في آخر الصيف، إذا هاجت الارض ويبس البقل والعشب وتناثرت بزورها وورقها، فإذا رعتها النعم سمنت عليها. ويسموّن الحبة بعد الاندثار: القميم و القف.

والبزر كل حب يبذر للنبات. والبزور: الحبوب الصغار، مثل بزور البقول وما أشبهها. و "البذر"، ما عزل للزراعة من الحبوب. و "البذر"زرع الارض.

وتزرع بعض الزروع على السواقي وأطراف مسايل الماء، وذلك بوضع "البذر" أو "البصل"في حفر، ثم يوضع فوقها قليل من التراب، لمنع الطيور من التهامها، وللمحافظة عليها من أثر الجو فيها. وقد يزرع البزر، فإذا نبت، تقلع النبتة الواحدة، لتزرع في موضع آخر.

وإذا أصاب الزرع الخصب والنماء، عبر عن ذلك بلفظة "خصب" في المسند. اللفظهَ التي نستعملها نحن في الزراعة، بمعنى كثرة العشب والزرع والنماء والوفرة.

ولا بد لنمو الزرع ونضوجه من اسقاء، ويعبر عن السقي بلفظة أخرى هي "المكر". والمكر سقي الارض. يقال أمكروا الارض إذا سقوها.

ولتقوية الارض وإعادة الحيوية إليها، استخدم الجاهليون التسميد. وبالسماد تعاد إلى الارض بعض قوتها، وينمو الزرع، وقد استعملوا في ذلك جملة وسائل كما يفعل المزارعون في الزمن الحاضر الذين لا يزالون يسيرون على طريقة القدماء في التسميد، فاستعملوا فضلات الإنسان والحيوانات، كما استعملوا الزبل أيضاً. وذكر أن من أسمدتهم عذرة الناس والسرقين برماد، يسمد به النبات ليجود. والسرجين، والسرقين، الزبل تدبل به الأرض. والمزبلة موضع الزبل، وزبل زرعه يزبله، سمده، أي أصلحه باًلزبل وكذلك الأرض. ويقال لتسميد الأرض بالزبل "عدن الأرض"أي أصلحها بالزبل. ويقال دبل الأرض دبولاً، بمعنى أصلحها بالسرقين ونحوه لتجود، فهي مدبولة.

ولحماية الزرع من عبث الطيور و بقية الحيوانات به، اتخذوا وسائل عديدة لحمايته. منها: اللعين. ما يتخذ في المزارع كهيأة رجل، أو الخيال تذعر به الطيور والسباع والوحوش. و "الخيال"، كساء اسود ينصب على عود يخيل به للبهائم والطير فتظنه انساناً. وقبل خشبة توضع فيلقى عليها الثوب للغنم إذا رآها الذئب ظنها انساناً. و "الخيلان"، ما ينصبه الراعي عند حظيرة غنمه. وقيل: الخيال، ما نصب في أرض ليعلم إنها حمى، فلا تقرب.

ا لحصاد

ويحصد الزرع بعد نضجه، يحصد بالمنجل. وأكثرما يستعمل في البر والشعير ونحوهما من الزرع. والمحصد، المنجل. والحصاد هو "فقل"في المسند. وقد فسر بعض العلماء لفظة "خرفت"بمعنى الحصاد كذلك. ولا يقصد بالحصاد هنا حصاد الحبوب وحدها، كالحنطة والشعير، كما نفهم من معنى اللفظة في عربيتا، وانما يقصد بها هذا ومعنى آخر هو جني الثمار وقطف الأعناب، عند نضوجها.

ويقال لمن يحصد الحصاد بالأجرة "المحاين"، وللعمل "المحاينة"، يقال استأجره محاينة، أي على الحصاد.

وترد لفظة "افقل"من أصل "فقل"في النصوص الزراعية، وهي من الالفاظ اليمانية القديمة التي وعتها كتب اللغة، فذكرت إن " الفقل"التذرية بلغة أهل اليمن، وان أهل اليمن يذرّون بالمفقلة، وهي الحفراة ذات الاسنان، يرفعون بها الدق ثم ينثرونه ويذرونه لاستخلاص الحب منه. و "الدق"ما قد ديس ولم يذر. و "افقل"في نصوص المسند، هي البيادر التي تتجمع من هذه الحبوب بعد التذرية.

وترد لفظة "خرف"في عربية القرآن الكريم بمعناها الوارد في نصوص المسند. فذكر علماء اللغة، إن "خرف"بمعنى صرم واجتنى، وان الاختراف بمعنى لقط النخل بسراً كان أو رطباً، وأنها تعني قطف الثمر، كما وردت لفظة "المخرفة"بمعنى البستان والنخل والسكة بين صفين من النخل، يخترف المخترف من أيهما شاء، والمخترف هو القاطف للثمر، وأن "المخرف"بمعنى زنبيل صغير يخترف فيه من أطايب الرطب،أو الالة التي تخترف فيها الثمار و "الخارف " حافظ النخل، والخرّ اف النظار، والخرافة ما خرف من النخل.

وقد وردت لفظة "نحقل"بمعنى الناتج والمحصول، و "حقل"بمعنى الحاصل. أي الحاصل الزراعي المجموع من الحقل والمزرعة، وذلك كما في هذه الجملة: "نحفل ثمنيت الفم بقلم لس". ومعناها: "الحاصل ثمانية آلاف لس من البقول". و "لس"نوع من الكيل أو الوزن، أو الكومات، اًو الحزم.

ويعبر عن الدراسة بلفظة "علص"في المسند. وفسّر بعض علماء المسشد لفظة "معلصت"، بمعنى المزرعة والحقل. ولا استبعد كونها آلة من آلات الدراسة أيضاً.

واذا ديس الزرع قيل لذلك العمل الدق والدياس والدّ راس. والإكادة كالإداسة.

وأما الدقّوقة، فالبقر والحمر التي تدوس الزرع لاستخراج حبه وتهشيم سيقانه. وقد تستعمل بعض الالات لقطع سوق الزرع وتهشيمه وتهشيم السنبل، تجرها الثيران أو الحمير، ويجلس عليها شخص ليثقلها، وهي مثل العجلة، التي تقطع الجلّ، يقال لها "الحيلان". وهي آلة من خشب لها محالتان كمحالة العجلة، قد أنعلتا بحديد مضرس إذا دارتا على الجل قطعتاه، فتجعلان فىٍ طرفي عارضة ضخمة، ويقعد عليها رحل ليثقل، ثم يجرها الثور على الجل. وأما "المقحفة" فالخشبة المتقفعة التي يقحف بها الحب، أي يذرى.

وبعد الدياسة والدراسة يذرى الطعام لفصل الحب عن التبن. ويستعملون في ذلك آلات التذرية، وهي آلات يدوية ما زال الفلاحون يستعملونها كما كانت قبل آلاف السنين، تتّألف من مقبض طويل وأصابع في رأسه يذرى بها الهشيم في الهواء، ليحمل الهواء التبن، وهو خفيف الوزن إلى مكان والحب إلى مكان آخر. وقد ذكر العلماء جمله أسماء لآلة التذرية، منها "المذرى"و "المذرّ ة " و "المرو ح"و "المرواح"و "ا لميثار" و "الحفراة"، و هي "الر فش" أيضاً.

ويتولى الفلاحون دوس الحاصل بأنفسهم، لهشم السيقان والحصول على التبن والحب. يستعملون في ذلك أرجلهم وآلات الدياسة. أما إذا كان الحاصل كبيراً، فيستعملون عندئذ الحيوان يمشي عليه، أو يجر آلات الدياسة الثقيلة لهشم السيقان وفصل الحب عنها.

ومن عادات أهل اليمن في الدرس والدياسة التناوب، وذلك بأن يجتمعوا مرّة عند هذا ومرة عند هذا، فيتعاونوا على الدياس، ويسمون ذلك "القاه". وذلك كالطاعة له عليهم، لأنه تناوب قّد ألزموه على أنفسم، فهو واجب لبعضهم على بعض. وقد وصف أحد أهل اليمن ذلك للرسول بقوله: "انا أهل قاه، فإذا كان قاه أحدنا دعا من يعينه، فعلموا له، فأطعمهم وسقاهم من شراب يقال له المزر". وكان اًهل "الجوخان"يتناوبون ويتعاونون على الدياس، بجتمعون مرة عند هذا ومرة عند هذا، يرون التعاون فيما بينهم لزاماً عليهم، وكالطاعة لهم، ونوبة كل رجل قاهة.

ويجمع الفلاحون الحاصل ثم يقسمونه بحسب الانفاق، إن كان هناك فلاح وربّّ أرض، ليأخذ كل واحد منهما نصيبه، أو يوزع حسب نصيب كل من الشركاء، إن كان الزرع شركة. أو يسلم إلى صاحب الزرع، إن كان الزرع زرعه، وكان الفلاحون عبيداً له. ويخزن الحاصل في مخازن مبنية، وفي بيادر وبيدر الطعام كومه. والبيدر الموضع الذي يداس فيه الطعام، والمكان الذي يجمع الطعام فيه. وهو "الأندر"، و "الكدس". و "الأندر"، كدس القمح خاصة. والكُدس: الحب المحصود المجموع. وهو العرمة من الطعام والتمر والدراهم ونحو ذلك، مما يكدس بعضه فوق بعض.

وذكر علماء اللغة أن "الجرين"للحب، والبيدر للتمر. وذكروا أيضاً أن الجرين موضع البر، بلغة أهل اليمن، وان "إلجرد"الطحن شديداً بلغة هذيل وينقل الطعام بأوعية إلى المخازن، ومنها نوع يقال له "العيبة"، وهو زنبيل من أدم، ينقل فيه الزرع المحصود إلى "الجرن"في لغة همدان. وهناك أسماء أوعية أخرى استعملت في نقل الحاصل من أرض الحصاد وكوم التذرية إلى المخازن. ويعبر عن حمل الزرع بعد الحصاد إلى البيدر بلفظة "رفع"كأن يقال: "رفع الزرع"، و "الرفاع"اكتناز الزرع ورفعه بعد الحصاد. وأما "الغبوط"فالقبضات المصرومة من الزرع. و "الغبوط"هي القبضات التي إذا حصد البر وضع قبضة قبضة، الواحد غبط. وأما "المكتل"،فزنبيل يحمل فيه التمر أو العنب إلى "الجرين"، وقيل هو شبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعاً. وفي حديث خيبر: فخرجوا بمساحيهم ومكاتلهم. وكان "عمال خيبر"قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم والجيش، قالوا: محمد والخميس معه، فأدبروا هراباً".

و "الحنوان"، هما الحشبتان اللتان عليهما الشبكة ينقل عليها البُرَّ. و "الوشيجة."، ليفُ يفتل ثم يشبك بين خشبتين ينقل بها البر المحصود.

ويعبر عن جمع المحصولات في مواضع معينة لتحسينها، أو لخزنها، أو لتجفيفها وللمحافظة عليها بجملة ألفاظ، منها: "الكدس"، ويراد بها الحب المحصود المجموع، وهو العرمة من الطعام والتمر والدراهم ونحو ذلك. ومنها "المربد"، والمربد كل شيء حبست به الإبل والغنم. ولهذا قيل مربد النعم الذي بالمدينة. وهو أيضاً الجرين الذي يوضع فيه التمر بعد الجداد لييبس، وهو "الأندر"بلغة أهل الشام، والبيدر بلغة أهل العراق. وأما "المسطح"،فمكان مستو يبسط عليه التمر ويجفف، ويسمى "الجرين"يمانية. وأما "الصبرة"، فما جمع من الطعام بلا كيل ووزن بعضه فوق بعض.يقال اشتريت الشيء صبرة، أي بلا وزن ولا كَيل. والصبرة الكدس.

وللمحافظة على الحبوب وغيرها من التلف، اتخذت مخازن تحت الأرض تحفظ فيها سميت "مدفنن""المدفن"في المسند. ولا تزال هذه الطريقة معروفة في مواضع من جزيرة العرب حيث يخزنون القمح وسائر ألحبوب في حفر تحفر في الأرض. ويعرف "المدفن"ب "قنت"، اي الحفرة فى لغة المسند كذلك. وهي مخزن يخزن فيه الحب. وذكر "الهمداني"، إن أهل اليمن كانوا في أيامه يحفرون حفراً في الأرض ويدفنون الذرة فيها، ويسع المدفن خمسة آلاف، قفيز إلى ما هو أقل. ويسد عليه، ويبقى على ذلك مدة طويلة، فإذا كشف المدفن ترك أيامأ حتى يبرد ويسكن بخاره، ولو دخله داخل عند كشفه لتلف بحرارته.

ويعبر عن قطف الثمار وجزها، ولا سيما النخل بلفظة "الصرام"، و"صرم " و "اصطرام". و "اصطرام"النخل اجترامه. وجرم النخل جرماً، خرصه وجزه، والجرام صرام النخل. وتؤدي لفظة "الجداد"معنى "الصرام" كذلك، وقيل: الجداد بمعنى الحصاد والقطاف.

الفصل الحادي والتسعون
المحاصيل الزراعية

الحبوب

يطلق علماء اللغة على الحنطة والشعير لفظة: "الحب". وهما عماد الخبز في جزيرة العرب حتى الان. وتقابل اللفظة كلمة "ميرس"في المسند.

والحنطة من أهم المواد الضرورية التي يتاجر بها، وهي "بُر"في المسند. والُبر، الحنطة في لغة القرآن الكريم كذلك. وهي "قمح"أيضاً. وقد تكلم بها أهل الحجاز، ووردت في الحديث. وذكر أنها شامية وقيل قبطية. وهي آرامية الأصل، من "قمحو"، "Gamho"، . وهي غذاء الطبقة المترفة والموسرة في الأكثر لغلاء ثمنها بالنسبة إلى الفقراء. وقد تباهى الناس وافتخروا بتقديمهم "البر"إلى الضيوف. و "الحنطة"من الألفاظ التي كانت شائعة عند العرب أيضاً، فهي "حطاه""خطاه""Chittah" في العبرانية مثلاّ. وقد قيل لها "بر"في العبرانية كذلك.

ويقال للحنطة: "البيضاء"، وهي "السمراء" أيضأَ. و "البثنية"، الحنطة الجيدة.

وذكر "ابن المجاور"اسم موضع يقال له "بحرى"، ذكر انه اشتهر بزرع الحنطة، وان سكانه يزرعون الحنطة مرتين في السنة، في كل ستة أشهر مرة.

واشتهرت "الطائف"بزراعة نوع من الحنطة الجيدة. وأشير إلى نوع من الحنطة عرف ب "المهرية"، قيل انها حنطة حمراء، وكذلك سفاها، وهي عظيمة السنبل غليظة القصب مربعة.

والشعير، أرخص من الحنطة، ولذلك كثر استعماله في الأكل، فمنه كان خبز أكثر الناس. ولا زال خبز أهل القرى وبعض الأعراب. وقد كان يرد المدينة يتاجرون به وبدقيق الشعير: يبيعونه في مواطنهم، وفي الأسواق ولا سيما سوق "بني قينقاع". وقد استدان الرسول من أحد اليهود صاعين من دقيق الشعير.

ويقال للطحين في كتابات المسند "دققم"أي "دقيق". ويصنع بطرق مختلفة، أشهرها "الرحى"، التي تدار باليد، والتي يديرها الحيوان. والتي تدار بالقوى المائية. و "الطحانة"التي تدور بالماء. ومع إن معظم الأسر تصنع الطحين في بيوتها، فان كثيراً من الناس يشترون الطحين من الأسواق، ويستوردونه من الخارج من بلاد الشام في الغالب، ويبيعونه في الأسواق المحلية.ويقال للدقيق "طحنم"في لغة المسند كذلك، أي "طحين".

ويظهر إن "الرز" لم يكن من الحبوب المعروفة عند أهل الحجاز، أو الأماكن الأخرى من جزيرة العرب. وهو من طعام الحضر.

وقد تعود الناس استعمال حبوب أخرى بدلاً من الحنطة والشعير والذرة، وذلك في سي الفاقة والعوز. وبعض هذه الحبوب هو من الحبوب التي تنبت بالطبيعة.

ومن جمله هذه الحبوب "الطهف"، حب يؤكل في المجهدة،ضاو دقيق. لونه أحمر، ويختبز. و "العَلَس"، وهو حبة سوداء، إذا أجدبوا طحنوها وأكلوها. وقيل هو ضرب من الحنطة، يكون بناحية اليمن، وقيل هو طعام أهل صنعاء. ويقال إنه العدس. و "البيقية"، وهو حب أخضر يؤكل مخبوزاً ومطبوخاً، حبّه أكبر من الجلبان ينبت في الحروث. و "السلت"، وهو حب بين الشعير والبرّ، إذا نقي انجرد قشره، فكان مثل البر. وقيل شعير لا قشر له أجرد كَأنه الحنطة يكون بالغور والحجاز. ويقال للرطب من السلت "البيضاء.

وقد عرفت زراعة الذرة باليمن بصورة خاصة، كانوا يخبزونها ويستخرجون منها شراباً يقال له: "المزر"0 أشير إليه في كتب الحديث والفقة، وقد نهى الرسول عن شربه. وذكر أن المزر نبيذ الذرة والشعير والحنطة والحبوب، وقيل نبيذ الذرة خاصة، وقيل المزر من الذرة، والبتع نبيذ العسل، والجعة نبيذ الشعير، والسكر من التمر، والخمر من العنب.

القطنية

ويطلق علماء اللغة على حبوب الأرض التي تدخر كالحمص والعدس والباقلاء والترمس والدخن والأرز والجلبان: "القطنية"، وأطلقها بعض آخر على ما سوى الحنطة والشعير والزبيب والتمر، أو على الحبوب التي تطبخ. وجعلها بعضهم: العدس والخلر، وهو الماش، والفول، والدجر، وهو اللوبياء، والحمص وما شاكلها. وقد ذكر إن ا الخليفة "عمر"كان يأخذ القطنية العشر.

و "الحمص" معروف عند العرب. وهو بري، أي وحشيّ، ينبت من نفسه " وبستاني، أي ينبت بزرع الإنسان. وقد علفوا به فحول الدواب والجمال. وقد عالجوا به وبدقيقه وبنقيعه أمراضاً عديدة. و "العدس"، معروف عندهم أيضاً، ويقال له "العلس"، و "البلس"أيضاً. وذكر إن "العلس"، ضرب من البر جيد، تكون حبتان منه في قشر، يكون بناحية اليمن. وهو طعام معروف عند أهل صنعاء.

والجلبان من "القطنية""القطاني"، نبت يشبه الماش، أو هو حب أغبر أكدر على لون الماش إلا انه أشد كدرة وأعظم جرماً يطبخْ. و "الماش"، معروف عند العرب كذلك، يأكله الحضر، ويداوون به.

وقد أشير في القرآن الكريم إلى البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل، ولفظة "بقلن"، و "بقلت"، الواردة في نصوص المسند، هي في مرادف "بقل"، و "البقل"في عربيتنا، وأما لفظة "تبقلت"، فتقابل لفظة "تبقيل"، ويراد بها زرع الأرض بالبقول.

والسلق من البقول، وهو نبت، له أوراق طوال،وأصل ذاهب في الأرض، يطبخ ورقه. وقد ذكر إن أهل المدينة كانوا يأخذون ورق السلق، فيجعلون فيه حبات من شعير، ويطبخونه، فيكون من ذلك أكل لذيذ.

و "القثاء"، الخيار، ويقال انه اسم جنس لما يقول له الناس الخيار، والعجور والفقوس، وبعض الناس يطلقه على نوع يشبه الخيار. ويقال هو أخف من الخيار. ويطلق العرب لفظة "الشعارير"على القثاء الصغير. وذكر بعض علماء اللغة أن الخيار شبه القثاء، وأن اللفظة ليست بعربية أصيلة. وهي من أصل فارسي، هو "خيار"، ولهم نوع أخر من الخيار اسمه "خيار جنبر". وأما لفظه "القثاء"،من إلمعرّ باًت كذلك، عربت من أصل آراميْ، و "القثد" نبت يشبة القثاء، وقيل ضرب منه، وهو القثاء المدور، أو هو الخيار. وفي الحديث انه كان يأكل القثد بالمجاج. والمجاج العسل.

ويقال للقثاء "قشّايم""قشاّئيم"، "Kishshu'im" في العبرانية، و "قثو تو" في لغة بني إرم. ويظهر أن لفظة "قثّاء"من الألفاظ القديمة. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها من الألفاظ الإرمية في الأصل. أما لفظة "خيار" فيرون أنها من أصل فارسي.

وذكر علماء اللغة أن "الففُّوس"، هو البطيخ الشامي، والذي يقال له البطيخ الهندي، بلغة أهل مصر، والحبحب بلغة اًهل اليمن.

وقد اختلف علماء التفسير واللغة في معنى "الفوم"، فذهب بعضهم إلى انه الثوم، وقال بعض آخر الحنطة، وهو لغة قديمة فيها. وذهب بعض آخر، إلى انه الحنطة وسائر الحبوب التي تخبز، كما ذهب جماعة الى إن الفومة هي كل عقدة من بصلة أو ثومة أو لقمة عظيمة.

والثوم، بقلة معروفة كثيرة بأرض العرب، يأكلونها ويداوون بها نيئة ومعجونة، ومسحوقة، ومطبوخة، ومسلوقة.

والبصل معروف وواحدته بصلة. وذكر انه "الفراريس"، أو "الفراديس". وهم يداوون به، ويضرب به المثل، فيقال: أكسى من البصل.

الكمأ

والكمأ نبات معروف في جزيرة العرب، يخرج من غير زرع كما يخرج الفطر. والعرب تسميه "جدري الأرض"، ويقال لبائعه "الكمّاء". وقد استعمل العرب ماءه لشفاء العين. وقت أشير اليه في الحديث. وهو من النبات الذي يقتات به في أوقات ظهوره. والكمأة السوداء خيار الكمأة. وأما "الجبأة،، فالكمأة الحمراء، وقال بعض علماء اللغة الجبأة هنة بيضاء كاًنها كمأة.

وأما "الفطر"، فهو ضرب من الكمأة. وقد ذكر علماء اللغة أنه قتال. وقد أخذوا هذه الفكرة من وجود فصائل سامة منه. إلا أن بينه ما هو غير سام.

وذكر علماء اللغهّ أسماء أنواع عديدة لنبانات تشاكل الكمأة، منها: العرجون، والطرثوث، نبت رملي طويل مستدق كالفطر، يضرب إلى الحمرة وييبس، يؤكل منه حلّز، وهو الأحمر، ومنه مرّ وهو الأبيض، وذكر بعض علماء اللغة أن الطرثوث نبت على طول الذراع، لا ورق له، كأنه من جنس الكمأة و "الطرنوث"و "الضغبوس". وذكر بعض علماء اللغة، أن "الضغابيس"صغار القثاء، جمع ضغبوس. وقيل: هي أغصان شبه العراجين تنبت بالغور، في أصول الثمام والشوك طوال حمر، وهي التي تؤكل، أو نبات كالهليون، ينبت في أصل الثمام يسلق بالخل والزيت ويؤكل.

وهناك بقول برية، منها "القلقلان"، و "البسباس"، و "الذرق"، و "النقل"، و "الملاح"،.

فصيلة اليقطين

و "اليقطن"في تعريف علماء العربية: ما لا ساق له من النبات ونحوه، أو كل شيء ذهب بسطاً في الأرض، نحو القرع، والبطيخ، والشريان، والدباء، والحنظل، ونحوها. فكل هذا النبات هو من اليقطين.

واليقطين، مذكور في القرآن الكريم. وقد ذهب بعض علماء التفسير إلى إن المراد من اليقطين في القرآن الكريم، القرع، وذهب بعض آخر، إلى انه الدباء، وذهب بعض آخر إلى انه البطيخ. وذهب قوم إلى إن اليقطين شجرة غير ذات أصل من الدباء ونحوه أو غيره. وقد ذكروا إن أمية بن أبي الصلت أشار إلى قصة "يونس"، وكيف إن الله أنبت عليه شجرة من يقطين، أظلته وعاش عليها، وذلك قبل الإسلام، إذ قال: فأنبت يقطيناً عليه برحـمة  من الله لولا الله ألفي ضاحيا 

وذكر إن "القرع"، حمل اليقطين، وكان النبي يحبه. وأكثر ما تسميه "الدباء"، وقلَّ من يستعمل القرع.

والبطيخ من المزروعات المعروفة في بلاد العرب. وعرف أيضاً ب "الخربز". وهي لفظة معربة من أصل فارسي هو "خربوزة". وقد وردت لفظة "الخربز" في الحديث، مما يدل على انها كانت معروفة في الجاهلية. والظاهر إنها وردت من العراق بواسطة التجار العرب أو التجار الفرس الذين كانوا يتاجرون مع الحجاز، او بواسطة الرقيق المستورد من هناك، والذي استخدم في الزراعة في هذه الديار.

وذكر علماء اللغة أن "الحبحبة " البطيخ المعروف بالبطيخ الشامي، الذي يسميه أهل العراق: "الرقي"والفرس تسميه: "الهندي"لما أن أهل العراق يأتيهم من جهة "الرقة"، والفرس من جهة الهند، وأن أصل منشئه من هناك. وذكر بعض علماء اللغة أنه يسمى "الجوح"، ويسميه المغاربة: "الدلاع".

والحنظل، معروف جداً عند العرب، وهم يداوون به، ويعالجون به أمراضاً كثيرة،ولا زأل الأعراب يقيمون له وزناً كبيراً في طبهم. ويأكلون حبه أيضاً.

النبات الشائك

ومن فصائل النبات عند العرب، النبات الشائك، أي ذو الشوك. وهو كل نبات به شوك، وارض شاكة كثيرة الشوك. وشجرة مشوكة كثيرة الشوك، وأرض مشوكة فيها السحاء والقتاد والهراس، وذلك لأن هذا كله شاك. والسحاء، نبت شائك، له زهرة حمراء في بياض تسمى "البهرمة"، يرعاه النحل عسله غاية. و "القتاد"، شجر صلب له شوكة كالابر، وجناه كجناة السمر، ينبت بنجد وتهامة. قال بعض علماء اللغة، إنه من العضاه، وهو ضربان. فأما القتاد الضخام، فانه يخرج له خشب عظام، وشوكة حجناء قصيرة. وأما القتاد الآخر، فإنه ينبت صعداً لا ينفرش منه شيء، وهو قضبان مجتمعة، كل قضيب منها ملآن ما بين أعلاه وأسفله شوكاً. وفي المثل: من دون ذلك خرط القتاد. وقد ذكر أن الإبل لا تأكل القتاد إلا في عام جدب، فيجيء الرجل ويضرم فيه النار حتى يحرق شوكه ثم يرعيه إبله، ويسمى ذلك التقتيد. والتقتيد هو أن تقطع القتاد، فتحرقه، أي شوكه،فتعلفه الإبل، فتسمن عليه، وذلك عند الجدب.

و "الهراس"، شجر شائك، شوكه كأنه حسك، ثمره كالنبق، قال بعض علماء اللغة: انه شجر، وقال بعض آخر انه بقل، اًو شوك من أحرار البقول. و "الحسك"، نبات له ثمرة خشنة تعلق ثمرته بصوف الغنم ووبر الإبل في مراتعها، وعند ورقه شوك ملزز صلب ذو ثلاث شعب، لا يكاد أحد يمشي في أرض حسكة، إلا أحد في رجليه حذاء. و "النفل"، نبت من أحرار البقرل،ومن سطاحه، ينبت متسطحاً وله حسك، قيل: هو قت البرّ، تأكله الإبل والخيل وتسمن عليه.

والعوسج، شجر من شجر الشوك، له ثمر أحمر مدوّ ر، كأنه خرز العقيق. وقيل: هو شجر كثير الشوك، وهو ضروب، منه ما يثمر ثمراً أحمر يقال له المقنع فيه حموضة. والعوسج المحض، يقصر أنبوبه ويصلب عوده ولا يعظم شجره، فذلك قلب العوسح، وهو أعتقه. وذكر إن "المصعة"ثمرة العوسح وحمله، وهو قدر الحمصة حلو طيب يؤكل، أحمر، ومنه قولهم: هو أحمر كالمصعة، ومنه اسود لا يؤكل على أردأ العوسح وأخبثه شوكاً.

الفصل الثاني والتسعون
الشجر

الشجر في تعربف علماء اللغة: ما قام من النبات على ساق، أو ما سما بنفسه دق أو جل، قاوم الشتاء، أو عجز عنه. وتطلق اللفظة على كل الشجر، مهما كان أصله، شجر زرعه إنسان بغرس، أو بحبّ. أو شجر أنبتته الطبيعة. شجر الحضر، أي الشجر الذي يعيش بين أهل المدر، وشجر وحشي، نبت على الجبال أو في البوادي، دون أن تتعهده يد إنسان.

والشجر: شجر مثمر، وشجر غير مثمر. ثم هوأهلى، أي من غرس وزرع الإنسان، وبري أي من انبات وغرس الطبيعة. والعادة إن ثمر الشجر الأهلي أطيب وألذ من ثمر الشجر البري، لاعتناء الإنسان به ورعايته له. ويستعمل الشجر الذي لا ثمر له، حطباً أو في أعمال البناء إن كان ذا خشب جيد، وفي أعمال أخرى. وفي جبال "السراة"أنواع من أشحار الجبال. ومن الأشجار المثمرة النخيل وسائر أشجار الفواكه.

وقد وجد النخل في كل مكان من جزيرة العرب فيه ماء ولو كان قليلاً. وهو شجر صبور، يصبر على العطش طويلاّ، ومن أجل ذلك صار مثل الجمل رمزاً للصحراء. ولم ينفر العربي من زراعة النخيل نفوره من زراعة أشجار الفواكه والخضر بوجه خاص. وقد تخصص بزراعة النخل المستقرون بالطبع.

أما الأعراب، فإنهم لاضطرارهم إلى التنقل من مكان إلى مكان،ولعدم استقرارهم في موضع واحد استقرار أهل الحضر، لم يكن ميسوراً لهم غرسه. ثم انهم كانوا يزدرون الزراعة بجميع أنواعها، وفي ضمنها زراعة النخيل، وأية زراعة أخرى بلا استثناء.

والنخل، هو شجر التمر، وهو "ن خ ل""نخل"في المسند كذلك. وقد صورت النخلة ونحتت على بعض الصخور وعلى كثير من نصوص المسند، وجعلت رمزاً للشمس. وكان السومريون يجعلونها رمزاً للشمس كذلك. والظاهر أن تحمل النخلة لحر" الشمس، ووجودها في مناطق دافئة، ومنظر رأسها الذي هو على شكل كرة مكونة من السعف، الذي يشبه خيوط أشعة الشمس، حمل الناس على تصور قيام صلة لها باًلشمس، فجعلوها رمزاً لها وعلامة عليها.

وتعني لفطة "انخل""انخل"، "النخيل"وبساتين النخيل ومزارعها، ومن "نخل"أخذتَ لفظة "منخل"بمعنى مزرع النخيل، أي الموضع المزروع نخلاَ. وقد عني العرب الجنوبيون بزراعة النخيل، وكونوا بساتين واسعة منها. وكانت "نجران"من أهم المناطق ألمشهورة بزراعة النخيل.

واذا استقام فسيل النخل وثبت في الأرض، صبر على العطش، وتحمل السكوت عن طلب الماء، أمداَ طويلاَ، لاعتمآده على رطوبة الأرض ولامتصاص جذوره للمياه الجوفية. ويقال للنخلة التي لا تحتاج إلى سقي: "الغامرة".

وقد ورد عن الرسول قوله: "خير المال سكة مأبورة"، قيل أراد النخل المصطف، والسكة أيضاً: السنة وهي الحديدة التي يشق بها الفدان الأرض، وبقال لها أيضاً المان. وقد اعتبر العرب النخل من الشجر المبارك الذي بورك فيه لما فيه من فوائد.

والنخيل، هي مثل الجمال ثروة ورأس مال تدر على صاحبه ربحاً وافراً، ومن كان له نخل وافر كان غنياً ثرياً. وقد ربح أصحاب النخيل أرباحاً طائلة من اشتغالهم بزراعة النخيل. فالتمر هو مادة ضرورية يعيش عليها أكثر العرب وبتأدمون بها. يأكلونه بدلاً من اللحم. وكان الأعراب يأتون أهل الريف، بما عندهم من وبر ومن حاصل البوادي، ليبادلوه بالتمر وباًلدقيق وبما يحتاجون اليه في حياتهم البدوية من حاجات ضرورية. فكسب أصحاب النخيل أرباحاً طيبة من بيعهم التمور. ولا يوجد مكان في جّزيرة العرب فيه ماء، إلا والنخلة هي سيدة المزروعات فيه، بل تكاد تكون النبات المتفرد بالزرع في أكثر الأمكنة، لا يزاحمها نبات اخر من النبات.

ويقال للنخل المرتفع طولاً مجنون، وهو نخل يقل تمره، وتقل فائدته لذلك. واذا غرس النخل سطراً على جدول أو غير جدول، قيل: "نخل ركيب".

و "الجباب"تلقيح النخل، وزمن الجباب زمن التلقيح للنخل، و "الأبر"تلقيح النخل أيضاً. وكانوا يلقحون النخلة بدسَ شمراخ الفحال في وعاء الطلع.

ويؤكل التمر رطباً، ويؤكل يابساً جافاً. ويقال لنضيج البسر قبل إن يتمر "رطباً"وواحدته "رطبة". واذا كان التمر يابساً قيل له "القسب". ويستعل "القسب"بعد انتهاء موسم التمر وذهابه، وهو أكثر تمر الأعراب، لسهولة المحافظة عليه من التلف ومن الفساد وتغير الطعم.

وقد لجأ الجاهليون إلى طريقة كبس التمر، للمحافظة عليه زمنأ طويلاً، ولسهولة نقله والاتجار به من مكان الى مكان. ومن طرقهم في ذلك، أنهم كانوا ينزعون نواة التمر، ثم يكنزونه في قرب وظروف من الخوص، ويقولون لذلك التقليف. والقلف التمر الذي نزع نواه وكنز في القرب وظروف الخوص. ولا تزال طريقة التقليف معروفة، ويقال لما يخصف من التمر في "الخصاف"، تمر مخصوف، وللتمر المكبوس في الخصافْة مع ظرفه "الخصافة"، أما القربة التي يكبس في داخلها التمر، فيقال لها مع تمرها المكبوس بها "الكيشة" في لغة أهل العراق في الوقت الحاضر. و "تمر كيشة"، هو التمر الذي يستخرج من " الكيشة".

وقد يحفظ التمر في "القراب"، وعاء شبه جراب من أدم: " وفي كتابه لوائل بن حجر: لكل عشرة كل من السرايا ما يحمل القراب من التمر".

ويكنز التمر في وعاء من خوص يقال له: "جلة" و "الجلة"، وهو "القفعة"، وبسمى باًلعراق "القفة"، و "جلة التمر"في لغة أهل اليمن.

وللنخل فوائد كثيرة جعلها بعضهم نحواً من "360" فائدة، مثل استعمال سعفه وخوصه وجذوعه وليفه في حاجات الإنسان. حيث يصنع منها مختلف الأشياء، ويباع بعضها في الأسواق، فتكون دخلاً لأصحابها. وصارت منها صناعة تعيَّش عليها أناس، ولا زالت الصناعات المستندة على استغلال النخلة وأجزائها وسعفها باقية، وان أخذت في الأفول والاندثار، بسبب منافسة الجديد للقديم " وانصراف الناس عن الوسائل البدائية القديمة إلى الجديد المريح الرخيص.

والنخل في كل موضع من جزيرة العرب فيه ماء. وهو أنواع وفصائل كثيرة. وقد اشتهرت "هجر" يكثرة تمرها، وبزيادته عن حاجة أهلها، فكان الاْعراب يأتونها للامتيار، ولشراء التمر منها. وفيها ضرب المثل: كمبضع تمر الى هجر، و "كجالب التمر إلى هجر". وكانت تصدره إلى البوادي والى اليمامة، حين يقل تمرها. وقد عرفت بكثرة وبائها. قال "عمر": لا عجبت لتاجر هجر وراكب البحر"، كأته أراد لكثرة وبائها وخطر البحر، فتاجرها وراكب البحر في الخطر سواء.

واشتهرت خيبر بكثرة تمورها كذلك، حتى ضرب بها المثل في كثرته كما ضرب المثل بكثرة تمر هجر. قال "حسان بن ثابت ": فأنا ومن يهدي القصائد نحونـا  كمستبضع تمراً إلى أهل خيبرا 

وقال "خارجة بن ضرار المري": فإنك واستبضاعك الشعر نحونا  كمستبضع تمراً إلى أهل خيبرا 

ولا تزال أرض خيبر تحتضن النخيل وتتعهدها بالعناية والرعاية، وقد وصف "فلبي"موضعها في الوقت الحاضر، وذكر إن الذي يعتني بالنخيل، هم قوم من "العبيد"، يقومون بفلاحة الأرض وبالعناية بالشجر، مقابل الحصول على نصف الحاصل، فإذا حل موسم القطاف، أخذت الحكومة حصتها قبل اقتسام الحاصل، ثم قسّم الباقي بين الأعراب الذين يدعون ملكية الأرض وبين العبيد الذين يسهرون طيلة ايام السنة على رعاية الشجر وعلى الزرع، والمفروض أن تكون القسمة قسمة عادلة، قسمة مناصفة، غير إن الأعراب يشتطون في القسمة فيأخذون لهم أكثر مما يأخذ العبيد. وينطبق هذا الوصف على حالة قسمة الحاصل في المواضع الأخرى من جزيرة العرب في الجاهلية، ولا سيما في العربية الجنوبية. فقد كان جباة الحكومة أول من يأخذ حصة الحكومة، أو حصة الحاكم المهيمن على المكان، ثم يأتي دور صاحب الأرض، الذي يحاول الاستئثار بالحاصل حتى لا يترك للفلاح الذي يفلح ويتعب ويكدّ إلا أقل ما يمكن اعطاؤه له.

وبأرض -خيبر جملة عيون ومسايل ماء، لا زال الناس يزرعون عليها. وتوجد آثار نقوش وكتابات تشير إلى سكن كان بهذا الموضع يعود إلى أيام الجاهلية. وقد عثر "فلبي"على نقود قديمة، ومن الممكن استصلاح أرض خيبر وتحويلها إلى أرض زراعية منتجة.

و "تيماء"من المناطق الخصبة كذلك. وتشاهد آثارها ظاهرة للعيان. وقد حصل المنقبون على مجموعات أثرية منها، في جملتها قطع من النقود تعود إلى القرن الاْخير قبل الميلاد. وهناك آثار آباًر ومسايل ماء تدل على أن الأرض كانت مخصبة مزروعة، ومن أشهر آبارها بئر "خداج". يستقي منها الأعراب ويزرعون عليها في الوقت الحاضر. وقد وجد "فلبي"صوراَ وصخوراً منحوتة تمثل رأس الإلهَ "صلم"إلَه ثمود وإلَه هذه المنطقة، وأمامها أرض ممهدة كانت موضع تقديم القرابين لذلك الإلَه.

وقد وجد "فلبي"وغيره من السياح ممن زار هذه الأرضين الواقعة شمال "يثرب"، آثار مستوطنات جاهلية كثيرة وآثار قنوات وآبار ومسايل مياه، تدل على أنها كَانت عامرة مزروعة، وان في الامكان احياءها، وآن آفة اندثارها هو كثرة الغزو الذي وقع عليها وعدم وجود حكومات تدافع عنها وتحميها من غزو الأعراب، الذين كانوا وباًءً بالنسبة للحضر، ينهبون ما يجدونه اًمامهم ويحرقون الزرع ثم يهربون.

وعرفت اليمامة بتمورها أيضاً، وهو أنواع عديدة، وكان الأعراب يأتونها لشراء التمر منها، وقد عرف الذين يردون اليمامة لامتيار التمر ب" السواقط"، و "السقاط"ما يحملونه من تمر.

وعرفت يثرب وما حولها وما وقع أعلاها إلى بلاد الشام بكثرة نخلها، وهو نخل زرع سككاً في بساتين على طريقة الأنباط في أمصارهم.، لا يخافون عليها كيد كائد. تتخلله السواني والسواقي لتسقيه، فيثرب حوائط وآطام، عاش أهلها على الزرع والغرس والجلاد. وقد أشير إلى كثرة نخل يثرب في شعر ينسب إلى الشاعر "امرىء القيس"، فنعتها ب "جنة يثرب":   

علون بأنطاكية فوق عقـمة  كجرمة نخل أو كجنة يثرب 

وقد افتخر "كعب بن مالك"يوم الخندق على قريش بأن قومه غرسوا النخل حدائق تسقى بالنضح من آبار ثقبت من عهد "عاد"أي من آبار قديمة جداً، فهي تسقي النخيل المغروسة عليها، ولهم رواكد فيها "الغاب"و "البردى"يزخر فيها نهر "المرار"، ولهم الزرع الذي يتباهى بسنبله الجميل، لا سيما إذا أصابته أشعة الشمس، لم يجعلوا تجارتهم اشتراء الحمير لأرض دوس أو مراد، بل أثاروا الأرض وحرثوها وغرسوها على نحو ما تفعل النبط في أمصارها، لا يخافون عليها كيد كائد، دلالة على عز أهل يثرب ومنعتهم وأنهم لم يغلبوا على بلادهم من قديم الدهر كما أجليت أكثر الأعاريب عن محالها وأزعجها الخوف عن مواطنها.

ومن أنواع التمور: "الصرفان"، و "البرني"، تمر أصفر مدور، من أجود التمور. وقيل: ضرب من التمر أحمر مشرب بصفرة كثير اللحاء عذب الحلاوة. و "التعضوض"ضرب من التمر، والعمر نخل السكر، وهو معروف عند أهل البحرين. و "البحون"، ضرب من التمر، والصفرى، وقد نعت بأنه سيد التمور، ثم "السرى"، ثم "اللصف"، ثم "الفحاحيل"، ثم "المجتنى"، ثم "الجعا دى"، ثم "الشماريخ"، ثم " المشمرخ"، ثم "البياض"، ثم "السواد"وهما ألوان كثيرة.

الكرم

والكرم شجر العنب، والعنب، ثم الكرم. وقد زرع في مواضع كثيرة من جزيرة العرب في البساتين وفي الحدائق. وفي الأماكن التي توفرت فيها المياه والجو الطيب المناسب لزراعته، مثل اليمن، التي اشتهرت به، و "الطائف"وهو أجناس عديدة،بعض أصيل أي من نابت جزيرة العرب ومن تربتها، وبعض مستورد استورد من بلاد الشام بصورة خاصة ومن أماكن أخرى، فغرس في بلاد العرب ونبت نباتاً حسناً، وأجاد اجادة طيبة،جعل زرّاع الكروم يكثرونه من زراعته.

والعنب، هو "عنيم"، أي "عنب"في لغة المسند كذلك.

وإذا يبس العنب دعي "زبيباً". ويعرف الزبيب ب "فصمم"، أي "فصم""فصيم"في اللهجة الحميرية. وقد وردت هذه اللفظة في نص أبرهة، بمناسبة توزبع أبرهة الزبيب على العمال. الذين ساهموا في بناء سد مأرب.

وقد كان أهل اليمن كما يظهر من نصوص المسند يكثرون من زراعة الأعناب ويربحون من زراعتها كثيراً، بدليل ورود كثير من النصوص الزراعية، وفيها: أن أصحابها قد غرسوا أعناباً في المناطق الفلانية والفلانية، اًو ورثوا المزرعة الفلانية وفيها أعناب كثيرة. وبدليل حفر صور أغصان العنب وعناقيد العنب في الأحجار وابرازها على الألواح المصنوعة من الجبس، أو حفرها على الأخشاب للزينة والزخرفة، وتفننهم في ذلك، حتى صارتَ هذه الزخرفة من مميزات الفن اليماني. وما كانوا يفعلون ذلك لو لم يكن للاعناب وجود في اليمن، ولو لم تَكن زراعته منتشرة كثيراً في تلك البلاد.

ومن أنواع العنب: العنب "الجرشي"، وهو عنب طيب، يقول علماء اللغة: هو أطيب العنب كله، وهو أبيض إلى الخضرة، رقيق صغير الحبة، وهو أسرع العنب إدراكاً، عناقيده طوبلة، ينسب إلى جرش، مخلاف باليمن. والعنب "الكلافي"، وهو نوع من أنواع أعناب أرض العرب، وهو عنب أبيض فيه خضرة، وزبيبه أدهم أكلف، ولذلك سمي: الكلافي. وقيل: هو منسوبّ إلى الكلاف بلد بشق اليمن. والعنب التربي نسبة إلى "تربة"، والعنب التبوكي نسبة إلى تبوك. و "الرمادي"، ضرب من العنب بالطائف أسود. أغبر. و "الغربيب"، ضرب من العنب بالطائف شديد السواد، وهو من أجود العنب وأرقه وأشده سواداً. و "الحمنان"، عنب طائفي، أسود إلى الحمرة صغير الحب. والدوالي نوع من الكروم.

و "العنجد"، الزبيب، أو ضرب منه، أو الأسود منه، أو الرديء منه. و "الفرصد"، عجم العنب، اًو عجم الزبيب.

وقد اشتهرت قرية "ثافت"باليمن يكثرة كرومها، ويقال لها "أثافت " و "اثافة"أيضاً. وقد عرفت بخمرها المصنوع من هذه الكروم. وكان الأعشى كثيراً ما يتجر فيها، وكان له معصار للخمر يعصر فيها ما جزل له أهل أثافت من أعنابهم.

ويقال "الأكار"لمن يشتغل في بستان عنب. ويقال للأكار "الجوار". والأكار الزراع والحرّاث.

والتين هو من الأشجار المعروفة في الحجاز وفي اليمن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد أشير إليه في القران الكريم. وهو كثير في أرض العرب، وأجناسه كثيرة، برية، وريفية، وسهلية، وجبلبة. ويكون أخضر اللون، أو أصفر،واحمر وأسود. وهو كثير بالسراة مباح، يؤكل رطباً ويزبب ويدخر.

وذكر بعض علماء اللغة انه "البلس"، وقال بعض آخر: البلس: ثمر كالتين يكثر باليمن، وقيل هو التين نقسه إذا أدرك. ومنه "الطبار"، قيل هو تين كبير من أكبر أنواع التين، كميت أنى تشقق، واذا أكل قشر لغلط لحائه، فيخرج أبيض، ويزبب. وذكر بعض علماء اللغة، انه من شجر الضرف، وهو على صورة التين، إلا انه أدق. و "الضرف"، شجر التين، يقال لثمره البلس. أو هو من شجر يشبه الأتأب في عظمه وورقه، إلا إن سوقه غبر مثل سوق التين، وله تين. وقيل: له جني أبيض مدوّر مفلطح كتين الحماط الصغار، مرُّ يضرس يأكله الناس والطير والقرود.

والرمان من الِفواكه المعروفة في الحجاز وفي اليمن، وقد ذكر في القرآن الكريم. ومنه أنواع برّية، ذكر بعض علماء اللغة منها "المظ". وهو ينبت في جبال السراة " وفي بقية الجبال. وذكر بعض آخر، أنه شجر الرمان. و "الجشب"قشور الرمان عند أهل اليمن.

والتفّاح بأرض العرب كثير. والموز معروف عندهم، ولا سيما في العربية الجنوبيه وفي التهائم. و "الخوخ"معروف عند العرب، ويقال له "الفرسك".

و "الفرصاد"، التوت أو حمله أو أحمره. و "التوت"من الألفاظ المعربة. ويربون على ورقه ديدان الحرير.

و "الزيتون"، شجر معروف في بلاد العرب، استخرجوا منه زيت الزيتون. وقد ذكر في القرآن الكريم.

و "السدر"، من الأشجار المعروفة في كل مكان من جزيرة العرب. ورد ذكره في القرآن. واستعمل ورقه في مقام الصابون، كما استفيد من ثمره ومن أغصانه وأخشابه. وهو يتحمل الصبر على العطش لعمق جذوره في باطن الأرض. وبذلك لاءم جوّ جزيرة العرب هذا النوع من الشجر، وما زال الناس يزرعونه في كثير من المواضع. وقد استعمل مظلة يجلسون تحتها في أيام الحرّ الشديد ومجلساً يجلسون فيه لتمضية الوقت والتسلي والترويح عن النفس.

والسدر من العضاه، هو لونان، فمنه عبري ومنه ضال. فأما العبري، فما لا شوك فيه إلا ما لا يضير. وأما الضال، فذو شوك. وذكر أهل الأخبار: أن أجود نبق يعلم بأرض العرب. نبق هجر. وهر أشد نبق حلاوة وأطيبه رائحة. يفوح فم آكله وثياب ملابسه كما يفوح العطر.

الجوز

والجوز معروف بأرض العرب، ويربى باليمن، وبالسروات شجر جوز لا يربى ؛ وخشبه موصوف بالصلابة والقوة،وينبت الجوز في الجبال والمرتفعات. وقد أشير إلى صلابة وقوة خشب الجوز في شعر للأعشى. وقد زعم إن سفينة "نوح"كانت من خشب الجوز. والجوز نوعان: جوز يربى، أي يزرعه الإنسان بنفسه ويرعاه، وجوز وحشي، نبت على الطبيعة، دون إن تزرعه يد انسان. وهو أنواع عديدة، لها اًسماء ترد في كتب إللغة.

اللوز

واللوز ثمر معروف في بلاد العرب، ومن أسمائه القمروص. وهو على نوعين: حلو ومر. وقد استعملا في المعالجة: في معالجة أمراض عديدة، من باطنية وجلدية. واستعمل الحلو منه في الطعام، وفي الحشو. والثمر الملوّ ز، هو الثمر المحشو به. وذلك إن ينزع منه نواه، وبحشى فيه اللوز، واللوز، صنف من المزج، والمزج ما لم يوصل إلى أكله إلا بكسر،وقيل هو ما دق من المزج. أو المرّ من اللوز.

الثمر

والثمر، حمل الشجر. وهو "ثمر"في نصوص المسند كذلك، ويجمع عندهم على "اثمر"، أي "أثمار". و "الفاكهة"الثمر كله. وفي القرآن الكريم: )وفاكهة وأباً(. قال العلماء الأب الكلأ، وما تأكله الأنعام، والمرعى كله. والفاكهة ما أكله الناس. فالأب من المرعى للدواب كالفاكهة للانسان.

ويحتاج الشجر المثمر إلى رعاية وعناية وحماية من أذى الطبيعة ومن أذى الإنسان والحيوان فعلى صاحبه حمايته من الشمس المحرقة، ومن البرد الشديد ومن الأهوية والعواصف، ومن الحشرات التي قد تصيبه فتاْتي عليه، ومن الأمراض والآفات الزراعية، ومن تطاول إنسان غريب عنه عليه، بقطعه أو بسرقة ثمره، ثم حمايته من أذى الحيوان، بأكله أو باًكل ورقه أو ثمره، وكسر أغصانه، وأمثال ذلك مما يلحقه من أذى بالشجر وبثمره.

ولحماية الشجر، أحاطوا الأرض المشجرة بحائط مرتفع قدر الإمكان، ليمنع الإنسان أو الحيوان من دخولها، ومن الاعتداء على شجرها أو ثمرها، ويقال لها "الحائط". و "الحائط"البستان. وقد أطلقت اللفظة على البستان من النخل في الغالب وكانت "يثرب"، ذات "حوائط". وقد أشير إليها في الحديث: ورد: "على أهل الحوائط حفظها بالنهار. يعني البساتين".

وقد عني أهل الجاهلية بتحسين وبتنوبع وبتطعيم أشجارهم المثمرة، وكان منهم مثل أهل الطائف واليمن من استورد الشجر المثمر الجيد من الخارج. من بلاد الشام ومن افريقية والهند ومن المواضع التي اشتهرت بصنف جيد من أصناف الشجر من جزيرة العرب " وبذلك نوّعوا ثمرهم وحسنوا أصناف شجرهم، ويظهر أثر استيراد الشجر من خارج جزيرة العرب، من الأسماء الأعجمية التي عرفت بها في الجاهلية، والتي تتحدث عن المكان الذي استوردت منه.

وقد ذكر أهل الأخبار اسماء عدد من الأشجار نبتت ونمت نمواً طبيعياً، منها ما نبت على الجبال والمرتفعات، ومنها ما نبت في البوادي وفي التهائٍم. فهي من الأشجار الوحشية التي لم تزرعها يد إنسان. بعض منها مثمر، يستفاد من ثمره، وبعض منه مثمر، غير أنه لا يمكن الاستفادة من ثمره، ولا ينتفع به إنسان أو حيوان. وبعض منه عقيم، غير مثمر.

ومن الأشجار المعروفة: التين الوحشي، أو التين البري. ويكثر وجوده في الجبال والمرتفعات. وقد عرفت جبال السراة بكثرة وجود هذا التين بها، والزيتون الوحشي "العتم". ذكر علماء اللغة إن "العتم"شجر الزيتون البري، وقيل هو ما ينبت منه في الجبال، ويوجد شجر يشبهه ينت باًلسراة. ويستخرج الأهلون اليوم منه دهناً قاتم السواد يسمى "القطران"، لطلاء الأبواب والنوافذ في أرض "شمران"المحاذيهَ للسراة في المملكة العربية السعودية. واتخذت منه الأسوكة. ورد: الأسوكة ثلاثة: أراك، فإن لم يكن فعتم أو بطم.

والحماط، شجر شبيه بالتين، خشبه وجناه وريحه، إلا إن جناه هو أصغر وأشد حمرة من التين، ومنابته في أجواف الجبال، وقد يستوقد بحطبه ويتخذ خشبه لما ينتفع به الناس، ويبنون عليه البيوت والخيام. وقيل هو في مثل نبات التين،غير انه أصغر ورقاً وله تين كثير صغار من كل لون أسود وأملح واصفر، وهو شديد الحلاوة، ويحرق الفم إذا كان رطبأَ، فإذا جفّ ذهب ذلك عنه، وهو يدخر، وله إذا جف متانة وعلوكة، وهو أحب شجر إلى الحيات، تألفه كثيراً، ولذلك قيل: شيطان حماط. وهو شجر التين الجبلي، أو هو الأسود الصغير المستدير منه، أو هو شجر "الجميز". و "الجميز " التين الذكر، يكون بالغور، وهو حلو، وهو الأصفر منه والأسود يدمي الفم.

والتألب، وينبت بجبال اليمن، وله عناقيد كعناقيد البطم، فإذا أدرك وجف اعتصر للمصابيح، وهو أجود لها من الزيت. وتقع السرفة في التألبة فتعريها من ورقها. ويتخذ من عيدان التألب القسيّ. و "الألب"شجرة شاكة كاللاترج، ومنابتها قرى الجبال، وهي سمّ، يؤخذ خضبها وأطراف أفنانها فيدق رطباً ويقشب به اللحم ويطرح للسباع كلها، فلا يلبثها إذا أكلته، فإن هي شمّته ولم تأكله عميت عنه.

و "الشوحط"، ضرب من شجر الجبال، تتخذ منه القسيّ. ويكثر وجوده في جبال السراة، فإنها هي التي تنبته. وله ثمرة مثل العنبة الطويلة، إلاّ أن طرفها أدق. وهي لينة تؤكل، و "النبع"، شجر من أشجار الجبال، أصفر العود رزينه ثقيله في اليد، وإذا تقادم احمر. تتخذ منه القسي". وكل القسيّ إذا ضمّت إلى قوس النبع كرمتها قوس النبع، لأنها أجمع القسي للارز واللين، ولا يكون العود كريماً، حتى يكون كذلك، أي شديداً ليناً. وتتخذ السهام من أغصانه. وله ذكر في شعر الشعراء الجاهليين.

ومن أشجار الجبال: "الرنف"، و "الحثيل"، و "البان"، و"الظيان". و "الرنف"، شجر ينضم ورقه إلى قضبانه إذا جاء الليل وينتشر بالنهار. وفي مقتل "تأبط شرأ"، أن الذي رماه لاذ منه برنفة، فلم يزل - "تأبط شراً"يجدمها بالمسيف حتى وصل إليه فقتله، ثم مات من رميتهْ. و"الحُثيَلْ"، شجر جبلي يشبه الشوحط، ينبت مع النبع وأشباهه. و "البان"، شجر، ولحبّ ثمره دهن طيب. وتعالج بحبه جملة أمراض جلدية وداخلية. وهويطول باستواء مثل نبات الأثل، وورقه له هدب كهدب الأثل، وليس لخشبه صلابة. وعدّه بعض العلماء من العظاه، وله ثمرة تشبه قرون اللوبياء، إلاّ أن خضرتها شديدة. فهو من النبات الذي تطبب به. و "الظيان"، ياسمين البرّ، وهو نبت يشبه النسرين، وضرب من اللبلاب. وقد دبغ بورقه، ويلتف بعضه على بعض. وهو على هذا التعريف، ليس من الأشجار التي تعطي الخشب. وبعض ما ذكرته ينبت في الهضاب والأودية. وذكر أن للظيان، ساق غليظة، وهو شاك، ويحتطب. وله سنفة كسنفة العشرق. والسنفة: ما تدلى من الثمر وخرج عن أغصانه. والعشِرق: ورق يشبه الحندقوقا منتنة الرائحة.

والقرظ، شجر عظام لها سوق غلاظ، أمثال شجر الجوز وورقه أصغر من ورق التفاح، وله حب يوضع في الموازين. وهو يخبت في القيعان، واحدته قرظة. ويستعمل حبه للتداوي. ويدبغ به، ويستخرج صبغ منه، يصبغ به الأديم. والقرظ من أشهر مواد الدباغة وصبغ الجلود عند الجاهليين.

و "الضهياء"، وهو شجر يشبه العنّاب تأكله الإبل والغنم. و "العرعر" شجر يعمل به القطران، وهو شجر عظيم جبلي لا يزال أخضر، يسميه البعض "السرو"، وقيل: الساسم، وقيل الشيزى، وله ثمر أمثال النبق، يبدو خضر، ثم يبيض، ثم يسود حتى يكون كالحمم، ويحلو فيؤكل واحدته عرعرة. و "البشام"، شجر عطر الرائحة طيب الطعم، يدق ورقه ويخلط بالحناّء يسود الشعر. و قيل: هو شجر ذو ساق وأفنان وورق صغار، أكبر من ورق الصعتر، ولا ثمر له، واذا قطعت ورقته أو قصف غصنه هريق منه لبن أبيض. قيل: ويستاك بقضبه. وفي حديث "عتبة بن غزوان"، ما لنا طعام إلا ورق البشام.

و "الد لب"، شجر "الصنّار"، معرب "جنار" الفارسية، و احدته "دلبة"، شجر عظيم، ورقه يشبه الخروع إلا أنه أصغر منه، ومذاقه مرَ عصف، وله نوّار صغار. يتخذ منه النواقيس. تقول العرب: هو من أهل الدربة بمعالجة الدلبة، أي هو نصراني. و "التنضب"، شجر ضخام ليس له ورق، وهو يسوق وبخرج له خشب ضخام وأفنان كثيرة، وإنما ورقه قضبان تأكله الإبل والغنم. وقال بعض العلماء: التنضب شجر له شوك قصار، وليس من شجر الشواهق، تألفه الحرابى. وذكر بعض اخر، أن التنضبة شجرة ضخمة يقطع منها العمد للاخبية، وتتخذ منها السهام. وذكر بعض آخر: التنضب شجر حجازي، وليس بنجد منه شيء إلا جزعة واحدة بطرف "ذقان"عند التقيدة، وهو ينبت ضخماّ على هيئة السرح، وعيدانه بيض ضخمة، وهو محتظر وورقه منقبض ولا تراه إلا كأنه يابس مغبرّ وان كان نابتاً. وشوكه كشوك العوسج، وله جني مثل العنب الصغار يؤكل. وهو أحيمر. ودخان التنضب أبيض مثل لون الغبار، ولذلك شبهت الشعراء الغبار به. وقد قطعت منه العصي الجياد. وذكر أن للتنضب تمراً يقال له "الهمقع"يشبه المشمس يؤكل طيباً.

والأيدع، شجر يشبه الدلب، إلا أن أغصانه أشد تقارباً من أغصان الدلب، له وردة حمراء، وليس له ثمر، نهى الرسول عن كسر شيء من أغصانه وعن السدر والتنضب والشبهان، لأن هؤلاء جميعأَ ذوات ظلال يسكن الناس فيها من البرد والحر.

والشبهان والشبه، نبت كالسمر شائلك له ورد لطيف أحمر،وحب كالشهدانج يشرب للدواء، وترياق لنهش الهوام، نافع للسعال، ويفتت الحصى ويعقل البطن. وذكر انه شجر من العضاه. فهو من النباتات التي تطبب بها. و "السرح"شجر كبير عظيم طويل لا يرُعى وانما يستظل فيه وينبت بنجد في السهل والغائط، ولا ينبت في السهل والغلظ، ولا ينبت في رمل ولا جبل، ولا يأكله المال إلا قليلاً. له ثمر أصفر، أو هو كل شجر لا شوك فيه. وقد ورد ذكره في الشعر الجاهلي.

و "السلم"، شجر من العضاه، وورقه القرظ الذي يدبغ به الأديم. وهو سلب العيدان طولاً شبه القضبان، وليس له خشب، وإن عظم، وله شوك دقاق طوال حاد، وله برمة صفراء فيها حبة خضراء طيبة الريح وفيها شيء من مرارة، وتجد بها الظباء وجداً شديداً. والسماق في جملة الشجر الذي ينبت في جزيرة العرب، ذكر بعض العلماء انه يسمى "الظمخ"في الحجاز، و "العرتن "في نجد. وهو من شجر القفاف والجبال.وله ثمر حامض عناقيد فيها حب صغار.

وهو من النبات الذي يداوى به، في جملة أمراض. وورد إن "الظمخ"، هو شجر السماق، ويقال فيه الظنخ، والزمخ، والطنخ. وان الظمخ، شجرة على صورة الدلب، يقطع منها خشب القصارين التي تدفن، وهي العرن، وهي أيضاً شجرة التين في لغة طيء. وذكر إن "العرنة"عروق "العرنتن"، و "العرنة"خشب الظمخ، واحدتها ظمخة. شجرة على صورة الدلب، يقطع منها خشب القصارين التي تدفن. وقيل هو شجر يشبه العوسج ؛ إلا انه أضخم منه، وهو أثيث الفرع وليس له سوق طوال. وسقاء معرون دبغ به.

و "الخزم"، شجر كالدوم سواء، وله أفنان وبسر صغار يسودّ إذا أينع مرّ عفص لا يأكله الناس. تتخذ من لحائه الحبال. والخزّام بائعه. وذكر أنه شحر يشبه ورقه ورق البرديّ، وله ساق كَساق النخلة يتخذ منه الأرشية الجياد. وأما "الدوم"، فشجر ثمره "المقل". تعبل شجرته وتسمو ولها خوص كخوص النخل، وتخرج أفناء كأفناء النخلة. وذكر أن "المقلى"صمغ شجرة شائكة كشجرة اللبان، وهو الذي يسمى "الكور"، أحمر طيب الرائحة. ينبت بعمان،في جبل يدعى "قهوان"مطل على البحر. وهو من الأدوية المعروفة عند العرب. و "المقل المكي"، ثمر شجر الدوم، الشبيه بالنخلة في حالاتها ينضج ويؤكل، ويستعملونه لمعالجة المعدة. ويتدخن اليهود بالمقل، الذي هو الكندر، وحبّه يجعل في الدواء و "الشقب"، شجر ينبت كنبتة الرمّان وورقه كورق السدر، وجناه كالنبق وفيه نوى. وذكر أنه شجر من شجر الجبال ينبت في جبال اليمن على أفواه الأودية، له أساريع كالشطب التي في السيف، يتخذ منها القسي. و"الإثرار" وله ورق يشبه ورق الصعتر وشوك نحو شوك الرمان، ويقدح ناره إذا كان يابساً فيقتدح سريعأَ، وقد يتخذ من "الإثرار"القطران، كما يتخذ من العرعر.

و "المرخ"من شجر النار عند العرب، أي من الأشجار التي تورى بسرعة وتعطي ناراً طيبة، سربع الورى كثيره، حتى قالوا: في كل شجرة نار، واستمجد المرخ والعفار. وقيل هو من العضاه، وهو ينفرش ويطول في السماء حتى يستظل فيه، وليس له ورق ولا شوك، وعيدانه سلبة قضبان دقاق، وينبت في شعب وفي خشب، ومنه يكون الزناد الذي يقتدح به. ذكروا أنه ليس في الشجر كله أورى ناراً من المرخ، وربما كان المرخ مجتمعاً ملتفاٌ وهبت الريح وجاء بعضه إلى بعض فأورى فأحرق الوادي. ولم ير ذلك في سائر الشجر و "العفار"، من شجر النار كذلك. وهو شجر يتخذ منه الزناد، يسوى من أغصانه فيقتدح به. شبيه بشجرة الغبيراء الصغيرة، وهو شجر خوار. وقيل في قوله تعالى: )أفرأيتم النار التي تورون أ أنتم أنشأتم شجرتها( إنها المرخ والعفار. وهما شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر.

و "الأراك"من الحمض، وقيل الحمض نفسه، له حمل كحمل عناقيد العنب، يستاك به، أي بفروعه. وهو أفضل ما استيك بفروعه، وأطيب ما رعته الماشية رائحة لبن. تتخذ المساويك من الفروع ومن العروق، وأجوده عند الناس العروق. ويقال للغصن من ثمر الأراك "المرد"، والنضيج منه "الكباث"، و "البرير"ثمر الأراك أيضاً. و "الطلح"، شجر عظيم حجازي جناته كجنات السمرة، وهو شوك أحجن ومنابته بطون الأودية، وهو أعظم العضاه شوكاً وأجودها صمغاً. وذكر بعض علماء اللغة، إن الطلح شجرة طويلة لها ظل يستظل بها الناس والإبل وورقها قليل ولها أغصان طوال عظام، ولها شوك كثير مثل سلاء النخل، ولها ساق عظيمة لا تلتقي عليها يدا الرجل، وهي أم غيلان، تنبت في الجبل، الواحدة طلحة. وذكر بعض آخر، إن الطلح أعظم العضاه وأكثره ورقاً، وأشده خضرة، وله أشواك ضخام طوال وشوكه من أقل الشكوك أذى، وليس لشوكته حرارة في الرجل، وله برمة طيبة، وليس في العضاه أكثر صمغاً منه ولا أضخم ولا ينبت إلا في أرض غليظة شديدة خصبة. وقد فسر بعض العلماء قوله تعالى: )وطلح منضود(، بأنه الطلع، و "الطلع"لغة في الطلح. وذكروا إن الطلع الموز. وهذا في نظر بعض آخر، غير معروف، لأن شجر الموز غير شجرالطلح.

و "النشم"، شجر جبلي، تتخذ منه القسي، وهو من عتق العيدان.

و "الغرب"، شجر، يسوى منه الأقداح البيض. و " العرفط"، شجر من العضاه، وهو فرش على الأرض لا يذهب في السماء، وله ورقة عريضة وشوكة حديدة حجناء، وهو مما يلتحى لحاؤه وتصنع منه الأرشية التي يستقى بها، وتخرح في برمه العلفة كأنها الباقلاء، تأكله الإبل والغنم. وقيل لبرمته الفتلة، وهي بيضاء كان هيادبها القطن. وهو من خرج العيدان، وليس له خشب ينتفع به فيما ينتفع من الخشب وصمغه كثير، وربما قطر على الأرض حتى يصير تحت العرفط، مثل الأرحاء العظام. وذكر بعض علماء اللغة: العرفط، شجرة قصيرة متدانية الأغصان، ذات شوك كثير طولها في السماء كطول البعير بأركالها وريقة صغيرة. تنبت في الجبال، تأكل الإبل بفيها أعراض غصنتها، وذكر أن لصمغها رائحة كريهة، فإذا أكلته النحل حصل في عسلها من ريحه. وقد أشير الى رائحته هذه في كتب الحديث.

و "الغرف"شجر يدبغ به، ويعمل منه القسيّ، وذكر انه لا يدبغ به، وقيل يدبغ بورقه، وإن كانت القسي تعمل من عيدانه، وذكر انه إذا جفّ فمضغ شبهت رائحته رائحة الكافور. وجعله بعضهم ثماماً. فقالوا: الثمام أنواع، منه: الغرف، وهو شبيه باًلأسل، وتتخذ منه المكانس، ويظلل به المزاد فيبرد. و "الشث"شجر من أشجار الجبال، وقيل ضرب من الشجر ونبت طيب الريح مرّ الطعم يدبغ به، ينبت في جبال الغور وتهامة ونجد. وقيل شجر مثل شجر التفاح القصار في القدر، ورقه شبيه بورق الخلاف، ولا شوك له، وله برمة موردة صغيرة، فيها ثلاث حبات أو أربع سود، ترعاه الحمام إذا انتثروه.

وذكر إن "الغُر يَف"شجر خو"ار مثل الغرب أو البردي. و " الضرو " شجرة الكمكام، وهو شجر طيب الريح يستاك به، ويجعل ورقه في العطر، وأكثر منابت الضرو باليمن، وهو من شجر الجبال كالبلوط العظيم له عناقيد كعناقيد البطم، غير انه أكبر حباَ، ويطبخ ورقه فإذا نضج صفي وردّ ماؤه إلى النار فيعقد. يتداوى به. وذكر إن الكمكام قرف شجر الضرو، وقيل صمغ شجرة تدعى الكمكام تجلب من اليمن، وقيل هو علك الضرو. وقرف شجرة الضرو أو لحاؤها من أفواه الطيب. وقد يستاك به.

و "المظ"، شجر الرمان أو بريه، ينبت في جبال السراة ولا يحمل ثمراًَ وإنما ينوّر نوراً كثير. ومنابته الجبال. وفي نوره عسل كثير ويمص وتأكله النحل فيجود عسلها، وله حطب أجود حطب وأثقبه ناراٌ يستوقد كما يستوقد إلشمع. وقيل هو الرمان البري الذي تأكله النحل، وإنما يعقد الرمان البري ورقاً ولا يكون له رمان. وقيل هو: دم الأخوين، وهو دم الغزال، الذي يعرف بالقاطر المكي، وهو عصارة عروق الأرطي، وهي حمر، والإرطاة خضراء، فإذا أكلتها الابل احمرت مشافرها.

و "السماق"من الأشجار التي تنبت بجبال تهامة، وأهل الحجاز يسمونه "الضمخ"، وأهل نجد يسمونه "العرتن".

و "الشوع" شجر البان، أو ثمره. قيل شجر طوال وقضبانه طوال سمجة، ويسمى ثمره أيضاًَ الشوع. وهو يريع ويكثر على الجدب وقلة الأمطار، والناس يسلفون في ثمره الأموال. وأهل الشوع، يستعملون دهنه كما يستعمل أهل السمسم دهن السمسم. وهو جبلي، وقيل ينبت في الجبل والسهل. و "الضبر"، شجر جوز البر، يكون بالسراة في جبالها ينور ولا يعقد. وذكر بعض علماء اللغة، أن "الضبر"، "جوز بويا، و "جوز بوا"، كما يسميه البعض. وذكر بعض اخر، أنه جوز صلب. و"الضباّر"، شجر يشبه شجر البلوط، وحطبه جيد، مثل حطب المط فإذا جمع حطبه رطباً، ثم أشعلت فيه النار، فرقع فرقعة المخاريق، ويفعل ذلك بقرب الغياض التي فيها الأسد. فتهرب.

و "الطباق"، شجر ينبت متجاوراً، لا تكاد ترى منه واحدة منفردة، وهو نحو القامة، وله ورق طوال دقاق خضر تتزلج، إذا غمزت يضمد بها الكسفر يجبر. وله نور أصفر مجتمع، ولا تأكله الإبل ولكن االغنم، ومنابته الصخر مع العرعر، والنحل تجرسه والأوعال أيضأَ. وينبت بجبال نواحي مكة، وقد استخدم في معالجة أمراض جلدية وداخلية، و "السراء" ضرب من شجر القسي و "الصوم"، شجرة بلغة هذيل، قيل إنها على شكل الإنسان، كريهة المنظر جداً، يقال لثمرها رؤوس الشياطين، يعني بالشياطين الحيات، وليس لها ورق. وقيل لها هدب ولا تنتشر أفنانها بنبت نبات الأثل، ولا تطول طوله، وأكثر منابتها بلاد "بني شبابة".

و"القتاد" شجر ضخم ينبت بنجد وتهامة. وهو شجر صلب له شوك كالأبر. وهو من العضاه. وهو ضربان، فأما القناد الضخام، فإنه يخرج له خشب عظام وشوكة حجناء قصيرة، وأما القتاد الآخر، فإنه ينبت صعداً ينفرش منه شيء وهو قضبان مجتمعة، كل قضيب منها ملان ما بين أعلاه وأسفله شوكاً، وفي المثل: من دون ذلك خرط القتاد. وإبل قتادية تأكل شوك القتاد.

و "الأشكل"، السدر الجبلي، وقيل: شجر مثل شجر العتاب في شوكه وعقف اغصانه، غير أنه أصغر ورقاً وأكثر أفنافاً، وهو صلب جداً، وله نبيقة حامضة شديدة الحموضة، منابته شواهق الجبال تتخذ منه القسي.

و "الصاب"و "السلع"ضريان من الشجر مران، والمصاب قصب السكر. و "السّرح"من الأشجار، له ثمر يقال له "الأء"، يشبه ألزيتون عل قول أو الموز على قول اخر. يأكله الناس ويرتبون منه الرب و "الغضور"شجر أغبر ينبت في كل جبال تهامة. وذكر أن "السرح"شجر كبار عظام طوال لا ترعى وإنما يستظل فيه، وينبت بنجد في السهل والغلظ، ولا ينبت في رمل ولا في جبل ولا يأكله المال إلا قليلاّ له ثمر أصفر وقيل السرحة، دوحة محلال واسعة يحل تحتها الناس في الصيف يبنون تحتها البيوت.

و "الغاف"شجر عظام ينبت في الرمل ويعظم،وورقه أصغر من ورق التفاح، وهو في خلقته، وله ثمر حلو جداً، وهو غلف كأنه قرون الباقلى وخشبه أبيض، أو هو شجر الينبوت يكون بعمان. وذكر إن الغاف من العضاه، وهي شجرة نحو القرظ شاكة حجازية تنبت في القفاف.

الأشجار العادية

ونجد في كتب اللغة والأخبار ألفاظاً تعبر عن قدم الأشجار وضخامتها، فاستعملوا "العادي"، و "الدمل"، و "العدملة"، و "العُدملي"للقديم من الشجر. وقد رأينا انهم استعملوا "العادي"بمعنى الشيء القديم، ولا شيء قديم لا يعرف أصلهْ. ومنه "العيدانة"، للشجرة الصلبة القديمة، التي لها عروق نافذة الى الماء و "العدمل"، كل مسنّ قديم وقيل هو الضخم القديم من الشجر و "العدولي"، الشجرة القديمة الطويلة و "الربوض"، الشجرة العظيمة الضخمة الغليظة و الدواثح، آلعظام من الشجر و "الهيكل"،النبات الطويل، البالغ العبل، اًي العظيم، وكذلك الشجر أما الشجرة الطويلة، فيقال لها "سحوق"و "سهوق". والنخلة السحوق، الطويلة التي بعد ثمرها على المجتني. وقيل هي الجرداء الطويلة التي لا كرب لها و "السمق"من الشجر، هو الشجر الطويل المرتفع. والقراح، النخل الطويل الذي زال كربه وصار أملس.

جماعة الشجر

وفي دواوين اللغة ألفاظ كثيرة أطلقت على جماعة الشجر من حيث كثافتها فيَ أرض تنبت بها، ومن هذه الألفاط: "الدحل"، الشجر الملتف، كالدغلْ. و "الدغل"، الشجر الكثير الملتف، وقيل هو اشتباك النبت وكثرته، وأعرف ذلك في الحمض، والجمع " أدغال. و "الشجراء"، اسم لجماعة الشجر، و "الغيضة"، مجتمع الشجر في مغيض ماء، والمراد بالشجر، أي شجر كان، أو خاص بالغرب لا كل شجر، و "الأجمة"، الشجر الكثيف الملتف. وأما "الغيطلة"، فهي الشجر الكثيف الملتف، وجماعة الشجر والعشب وكل ملتف مختلط، وقيل جماعة الطرفاء. و "الحرجة"، اسم لمجتمع الشجر، وقيلً الشجر الملتف. وقيل الحرجة تكون من السمر والطلح والعوسج والسلم والسدر. وقيل هو ما اجتمع من السدر والزيتون وسائر الشجر. و "العيص"، الشجر الكثير الملتف، وقيل هو الشجر الملتف النابت بعضه في أصول بعض. وقيل: ما اجتمع بمكان وتدانى والتف من السدر والعوسج والنيع والسلم من العضاة كلها وهو من الطرفاء الغيطلة، ومن القصب الأجمة. وقيل العيص، ما التف من الشجر وكثر مثل السلم، والطلح، والسيا ل، والسدر، والعرفط، والعصاه. وأما "الرمخ"، فالشجر المجتمع كذلك.

وأما "الغيل"، فالشجر الكثير الملتف الذي ليس بشوك يستتر به. وقيل جماعة القصب والحلفاء وأما "الغريف"، فالشجر الكثير الملتف من أي شجر كان، أو الأجمة من البردي والحلفاء، وقد يكون من الضال والسلم. وأما "الأبأة"، فالقصبة، أو أجمة الحلفاء والقصب خاصة، وماؤها شر المياه. وأما "الزأرة"،فالأجمة ذات الحلفاء و الماء و القصب. و "الزأرة"قرية كبيرة بالبحرين، وبها عين معروفة، يقال لها عين الزأرة، وقيل "مرزبان الزأرة"كان منها. و "المرز بان" الرئيس، أي رئيس الأجمة. و "الخيس"، "الخيسة": فالشجر الكثير الملتف، والمجتمع من كل الشجر، أو ما كان حلفاء وقصباً، وقيل الملتف من القصب والأشاء والنخل. وقيل: منبت الطرفاء وأنواع الشجر، و الخيسة، الأجمة، و "الربض"، جماعة الطلح والسمر، وقيل: جماعة الشجر الملتف. و "الوهط"، ما كثر من العرفط، وقيل: وهط من عشر، كما يقال عيص من سدر. وقيل: الوه: المكان المطمئن من إلاْرض المستوى، تنبت فيه العضاه، والسمر، والطلح، والعرفط. ويقال للغملى من النبات، وهو ما التف بعضه على بعض "الشربب".

و "الأيكة"، الشجر الملتف الكثير، وقيل: الغيضة تنبت السدر وألأراك ونحوهما، أو الجماعة من كل الشجر حتى من النخل، وخص بعضهم به منبت الأثل ومجتمعه. وقال بعض علماء اللغة: الأيك الجماعة الكثيرة من الأراك تجتمع في مكان واحد. وقد ذكرت الأيكة في القرآن الكريم. قيل أن شجر أصحاب الأيكة كان الدوم، وقيل: أثل ورهط من عشر، وقصيمة من غضى. وأما "العيكة" فلغة في الأيكة.

و "الغابة": الأجمة ذات الشجر المتكاثف، لأنها تغيب ما فيها، وقيل الغابة: الأجمة التي طالت ولها أطراف باسقة. يقال: ليث غابة. وقيل الغابة أجمة القصب. وفي الحديث: كان منبر الرسول من أثل الغابة، وفي رواية من طرفاء الغابة. والغابة غيضة ذات شجر كثير، وهي على تسعة اميال من المدينة. وقيل: موضع قريب من المدينة. والعرب تسمي ما لم تصبه الشمس من النبات كله: الغيبان.

و "الصور"، جماع النخل، وقيل النخل المجتمع الصغار. قيل: ويقال لغير النخل من الشجر صور. و "العقدة"، المكان الكثير المشجر، يرعونه من الرمث والعرفج، وقيل الحائط الكثير النخل. وتنبت القصباء والحلفاء في الماء الراكد أو الهادىء، على حواشي الأنهار حيث يظهر الماء في المنخفضات. جاءفي شعر للأعشى: كبردية الغيل وسط الغريف إذا ما أتى الماء منها السديرا 

والقصباء جماعة القصب، وقيل منبتها. وقد أقصب المكان، وأرض قصبة ومقصبة، أي ذات قصب. وينبت في المواضع التي يكثر وجود الماء الراكدة أو الهادئة بها، مثل المستنقعات والبطاثج، مثل بطائح العراق، حيث تعد من أهم منابت القصب والبردي في العراق حتى اليوم.

والقصب مادة مهمة لأهل الريف، ولمن يعيش على الماء، مثل أهل البطائح والأهوار، والمستنقعات، والأجم التي تتخلها المياه. إذ اتخذوا منها بيوتاً صنعوها من القصب، ولا زال سكان "الأهوار" في العراق يصنعون بيوتهم من القصب. واتحذوا منها فراشاً. يجلسون عليه، هو "البارية"، ويقال لها "البوري"، و "البورية"، و "البورياء"، و "الباري"، و "البارياء". الحصير المنسوج من القصب. وقد أشير إلى "البوري"في الحديث.

والحلفاء نبت من الأغلاس، قلما تنبت إلاّ قريباً من ماء أو بطن واد، وهي سلبة غليظة المسّ، وقد يأكل منها الإبل والغنم أكلاً قليلاً، وهي أحب شجرة إلى البقر. وقد كانت الأسود تأوي إليها. ومن مآوي الأسود الآجام ومنابت الحلفاء. وقد تجف، إذا قلَّ الماء.

والبرَدي من النبات الذي يحتاج مثل القصب والحلفاة إلى ماء. فهو لا ينبت إلا قريباً من ماء أو في مستنقع أو هور، أو منخفض فيه ماء. ويؤلف أجمة في وسط ماء.

و "الجليل"، نبت ضعيف يحشى به خصاص البيوت. وهو "الثمام"في رأي بعض علماء اللغة. و "الثمام"،نبت ضعيف له خوص، أو شبيه بالخوص،وربما حشي به وسدّ به خصاص البيوت. وهو أنواع، فمنها: الضعة ومها الجليلة، ومنها الغرف، وهو شبيه بالأسل وتتخذ منه المكانس، ويظلل به المزاد فيبرد الماء. يقال: "بيت مثموم"مغطى به. وقد يستعمل لإزالة البياض من العين.

الفحم وقطع الشجر

وقد صنع أهل الجاهلية من النباتات البرية والأشجار الجبلية الفحم، وهم لا يزالون يصنعونه من هذه المواد. وذلك بإشعالها أولاً ثم باطفاء جمرها،للاستفادة من الفحم الحاصل من ذلك في أغراض شتى. ويحمله أصحابه إلى أهل المدر، لبيعه لهم، أو لمقايضته مع الباعة بمواد أخرى يحتاجون إليها. وقد أدى الإسراف في ذلك وفي قلع الأشجار البرية النابتة بالطبيعة دون التعويض عنها بزراعة غيرها في مكانها، الى تحوّل الأرضين الشجراء إلى أرض جرداء، وإلى إلحاق ضرر كبير بمصدر ثروة مهمة من الثروات الطبيعية.

وتشاهد في كثير من المناطق الجبلبة والنجود بقايا أشجار قديمة وأصول اشجار ممتدة بين الصخور تدل على أن هذه المناطق الجرد كانت ذات أشجار باسقة، ولكنها أصابها الدمار بفعل جهل الإنسان واعتدائه عليها، وعدم عنايته بها،فتلفت وبادت، حتى استحالت تلك البقاع الشجراء قفاراً جرداَ.

وكان مما ضيق من مساحة الأرضين المشجرة، التي شجرتها الطبيعة بنفسها،قطع الإنسان الشجر من عروقه أو من موضع اتصال الساق بالأرض، للاستفادة من المقطوع إلى أقصى حدّ ممكن، مما أهلك النبت، فأمات عروقه، وقطع عنه مادة الحياة، ولم يحفل بغرس آخر في مكانه، ليآخذ محله، لأن الأرض ليست أرضه، وانما هو يريد بيع الخشب والحطب ليستفيد من الثمن، فقلت مساحة الأرض المشجرة بالطبيعة، بهذا التجاوز الفظيع. ولم تعوض الطبيعة الإنسان عن الضرر الذي ألحقه بنتاجها، فقد أعطته كثيراً، وكان من الواجب عليه أن يعينها في الانبات، لا أن يعمل على إفساد ما زرعته.

آفات زراعية

ويفهم من بعض النصوص الجاهلية إن الزراعة كانت تتعرض لآفات زراعية خطيرة تقضي على المزروعات في بعض الأحيان. وطالما وجدنا أصحابها يسألون الآلهة وقاية مزروعاتهم وحمايتها وانزال البركة عليها ومنحهم غلات وافرة كثيرة. وقد يكون من بين هذه الآفات: الحشرات والجراد وانحباس المطر. ومن طرق هذه الحماية في نظرهم تسمية الزرع باسم إلهَ، ليكون في حمايته ورعايته. وقد يخصص نصيب منه لذلك الإلهَ، في مقابل حمايته له.

وفي كتب اللغة ألفاظ عديدة في معاني الآفات التي تصيب الزروع، مثل: البثق، وهو داء يصيب الزرع من ماء السماء، و " الغمل"، وهو مرض يغمل النبات، فيجعله يركب بعضه بعضاً ويذبل ويعفن. و "الخناس"، داء يصيب الزرع فيتجعثن منه فلا يطول. و "الشفران"، و "اليرقان"، آفة للزرع تصيبه فيصفر منها، وقيل دود يكون في الزرع فيتلفه، و "الأرقان"، والرصع، والوصم، وهو العيب في العود، والقادح، أيضاً يقع في الشجر وفي الخشب فيأكله، والقادح أيضاً العفن، ويقع القادح في الأسنان، وهو السواد الذي يظهر فيها. والسوس، داء يصيب الزرع، لوقوع السوس فيه، بسبب حشرة تعبث فيه، ويقال مثل ذلك بالنسبة إلى الصوف والثياب والطعام، إذا عبثت العثة فيها. و "العُثة" سوسة، أو الأرضة التي تلحس الصوف فتؤذيه. وقيل: دويبة تعلق إلإهاب فتأكله. والجدجد أيضاً دوبية تعلق الإهاب فتأكله. والأرضة ضربان، ضرب صغار، مثل كبار الذرّ، وهي آفة الخشب خاصة، وضرب مثل كبار النمل، ذوات أجنحة، وهي افة كل شيء من خشب ونبات، غير إنها لا تعرض للرطب، وهي ذوات قوائم. وقيل: هي دودة بيضاء شبه النملة تظهر في أيام الربيع. وقيل دودة بيضاء سوداء الرأس، وليس لها أجنحة، وهي تغوص في الأرض وتبني لها كنّاً من الطين، وهي تأكل الخشب وغيره. والنخر، داء يصيب الأغصان والسيقان، والخشب، فيسبب جفافها وتفتتها. و "القادحة"، دودة تأكل الشجر.

و "القتع"، دود حمر تأكل الخشب، أو هي الأرضة، وقيل الدود مطلقاً. وقيل هي السنفة، وللقتعة، والهرنصانة، والحطيطة، والبطيطة، واليسروع، و العوانة، و الطحنة.

و "السرفة"، دويبة تؤذي الزرع، تثقب الشجر ثم تبني فيها بيتاً من عيدان دقاق تجمعها بمثل غزل العنكبوت، وقيل دودة تنسج على بعض الشجر وتأكل ورقه وتهلك ما بقي منه بذلك النسج. وذكر أن "الهرنصانة"،السرفة، وأن "البطيطة"السرفة كذلك. وأن "الحطيطة"السرفة أيضاً.

ومن الأمراض والآفات التي تصيب النخيل، الدمان، ويقع على التمر، فيفسد، وتصيبه العفونة قبل إدراكه حتى يسود. والمُراض، داء للثمار يقع فيها فيهلكها، و "القشام"، وهو أن ينتفض تمر النخل قبل أن يصير بلحاً. وذكر بعض العلماء أن الدمان فساد النخل قبل إدراكه، وإنما يقع ذلك في الطلع يخرج قلب النخلة أسود معفوناً. وذهب آخرون الى أنه فساد الطلع وتعفنه وسواده. وقال بعفضهم: الدمان التمر المتعفن، وانه فساد التمر وعفنه قبل إدراكه حتى يسود من الدمن. وأما المُراض، فذكر بعض العلماء أنه اسم لجميع الأمراض. وأما القشام، فهو أكال يقع في التمر.

ومن الافات التي كانت تصيب الزرع فتؤذي الناس وتلقي بأصحاب الزرع خسائر كبيرة "الجراد". فقد كان يكتسح الزرع في بعض السنين اكتساحاً، فيأتي في موجات كثيفة، ويلتهم كل ما يجده أمامه، حتى يجرد الأرض جرداً، ولا يترك من نبتها شيئأ. ونجد في كتاباًت المسند اشارات إليه. ويقال له: "اربى" في العربيات الجنوبية. وفي العربية: "جراد سد"، أي كثير سد الأفق. ويقال جاءنا سد من جراد، إذا سد الأفق من كثرته.

وللجراد أسماء تمثل مراحل نموه، ذكرها علماء اللغة.مما يدل على مدى اتصاله بحياة الناس، وما كان يحدثه من أذى وأثر في زرعهم. وإذا أكل الجراد نبت أرض. قيل: أرض مجرودة، وجرد الجراد الأرض جرداً، ومن أسماء الجراد "الجندب". وقيل انه الصدى يصر باًلليل ويقفز ويطير، وقيل هو أصغر من الصدى يكون في البراري، وقيل هو الصغير من الجراد.

وكان الجراد يغزو المزارعين فيأتي على ما زرعوه، لا يترك لهم منه شيئاً، وهم عاجزون عن الاتيان عليه. وهو أنواع عديدة من حيث اللون والجسم. وكان إذا انتفل من مكان إلى مكان ظهر في السماء، وكاًنه سحابة من كثرته. وقد صار طعاماً لهم " يأكلونه كما يأكل هو زرعهم. ذكر إن "ابن أبي أوفى"قال: غزونا مع النبي سبع غزوات أو ستاً كنا نأكل معه الجراد.

الأسوكة

السواك سوك الفم بالعود. والعود مسواك. ويتخذ من الأراك، فإن لم يكن فعتم أو بطم. ويستاك باًلبشام كذلك، وهو شجر ذو ساق وأفنان وورق صغار أكبر من ورق الصعتر ولا ثمر له.

الفصل الثالث والتسعون
المراعي

وفي جزيرة العرب مراعي، منها الخاص، ومنها العام. والمراعي الخاصة ما تكون ملكاً لرجل أو أسرة أو قبيلة تفرض سلطانها على المرعى، مثل الاحماء، حيث لا يسمح لأحد غير مأذون بالرعي في "الحمى". أما المراعيَ العامة، فهي التي لا تدخل في ملك أحد، وإنما يرعى فيها كل أبناء الحي، وجميع أبناء ا!قبيلة، لأن أرض القبيلة ملك للقبيلة ما دامت عزيزة فيها مالكة لرقبتها، يرعى فيها كل أبنائها، فإذا ذلت واستخذت طمعت فيها القبائل المجاورة القوية، فشاركتها في أرضها، وربما أجلتها عنها. وإذا ارتحلت القبيلة عن أرضها، وتركتها، ونزل بها نازل جديد، صارت الأرض ملكاً له، ما لم يدفع عنها بالقوة، أو يتركها هو رضاءً. فإذا ارتحل عنها، ونزل في مكان جديد، سقط حقه فيها، وانتقلت رقبة الأرض إلى النازل الجديد. وهكذا تكون المراعي عامة مشاعة بين جميع أبناء القبيلة، ما خلا الحمى، ينتفع بها جميع أبنائها، بما في ذلك سادة القبيلة وأصحاب الاحماء، الذين ترعى إِبلهم في احمائهم، كما ترعى مع إبل الناس في مراعي القبيلة، ولا يجوز لأحد من القبيلة أن يأخذ من أرباب المواشي عوضاً عن مراعي القبيلة، لأنها للجميع. وقد اخذ بهذا الحكم في الإسلام بالنسبة للمراعي الموات، بقول الرسول: "الناس شركاء في ثلاث: الماء، والنار، والكلأ".

و "الر عي"الكلأ، وهو ما ترعاه الراعية. والراعي، هو للذي يتولى أمر الماشية الَتي ترعى، ويقال للذي يجيد رعية الإبل "ترِْ عاية"و "ترعى"، أو هو الحسن الارتياد للكلأ للماشية، أو صناعته وصناعة آبائه رعايةَ الإبل. و "الرُعاوى" الإبل التي ترعى حوالى القوم وديارهم لأنها الإبل التي يعتمل عليها.

ويقال للمرعى في المسند "مرعم"، "مرعيم"، "مرعى". والمرعى موضع الرعي. والر عي الكلأ. والمرعى والرعي ما ترعاه الراعية. ورُعيان، ورُعاء، رعاة الغنمَ على الأكثر. ويقال "ترعى"و "ترعاية"و "تراعية"للرجل يجيد رعية الإبل، أو هو الحسن الارتياد للكلأ للماشية، أو صناعته وصناعة آبائه رعاية الإبل. و "الرُعاوى"، الإبل التي ترعى حوالى القوم وديارهم، لأنها الإبل التي يعتمل عليها. ويقال للمرعى "الأب"، وهو الكلأ جميعه الذي تعتلفه الماشية، رطبه ويابسه.

ويعبر عن الإبل إذا رعت ب "سامت المال"، و "سامت الإبل"، يقال سامت الراعية والماشية والغنم تسوم سوماً، رعت حيث شاءت، فهي سائمة. والسوام والسائمة الإبل الراعية، وقيل كل ما رعى من المال في الفلوات إذا خلى وسومه يرعى حيث شاء، والسائم للذاهب على وجهه حيث يشاء. وذكر إن السوام والسائمة كل إبل ترسل ترعى ولا تعلف في الأصل. وورد في الحديث: سائمة الغنم. و "السرح"المال السائم. وذكر بعض علماء اللغة إن المال لايسمى سرحاً إلا ما يفدى به ويراح.

وتؤدي لفظة "مرتع"معنى "مرعى"، ورتع بمعنى أكل وشرب للبهائم.

ولا يكون الرتع إلا في خصب وسعة. وتؤدي لفظة "النجعة"، معنى طلب الكلا في موضعه. و "والنجعة عند العرب المذهب في طلب الكلأ في موضعه، والبادية تحضر محاضرها عند هيج العشب ونقص الخرف وفناء ماء السماء في الغدران، فلا يزالون حاضرة يشربون الماء العدّ حتى يقع ربيع بالأرض خرفياً كان أو شتياً، فإذا وقع الربيع توزعتهم النجع وتشبعوا مساقط الغيث يرعون الكلأ والعشب، إذا أعشبت البلاد، ويشربون الكرع وهو ماء السماء، فلا يزالون في النجع الى أن يهيج العشب من عام قابل وتنش الغدران فيرجعون إلى محاضرهم على أعداد المياه".

ويقال أرض معرضة، للأرض التي يستعرضها المال ويعرضها، أي هي أرض فيها نبات ي رعاه المال إذا مرّ فيها.

وإذا أقامت الإبل في المرعى، قيل: "عدنت الإبل"، وخص بعضهم به الإقامة في "الحمض"، وقيل يكون في كل شيء.

وقد تكون المراعي عند مشارف أهل الحضر، لا تبعد عن القرى وعن مستوطناتهم كثيراً، وذلك بالنسبة لرعي الغنم. فيؤدي أهل البيوت أغنامهم إلى الراعي، ليأخذها إلى الخارج فيرعى بها وتتجمع عند الراعي أغنام لمختلف الناس، في مقابل أجر يدفع له. وقد كان الرسول راعي غنم، يرعى غنم قريش، وغنم أهله ب "أجياد"بالقراريط.

وكان بين أصحاب الغنم، وبين أصحاب الإبل تنازع، وقد كان يستطيل أصحاب الإبل على أصحاب الغنم.

و "المنقل"، النجعة يتنقلون من المرعى إذا احتفوه إلي مرعى آخر، وذلك   

إذا رعوا فلم يتركوا فيه شيئاً. والناقلة ضد للقاطنين، والجمع النواقل. والنقل الطريق المختصر. والنجُعة طلب الكلأ في موضعه. والبادية تحضر محاضرها عند هيج العشب ونقص الخرف وفناء ماء السماء في الغدران، فلا يزالون حاضرة يشربون الماء العدّ حتى يقع ربيع بالأرض خرفياً كان أو شتياً، فإذا وقع الربيع توزعتهم النجع وتتبعوا مساقط الغيث يرعون الكلأ والعشب إذا أعشبت البلاد ويشربون الكرع وهو ماء السماء، فلا يزالون في النجع إلى ان يهيج العشب من عام قابل، وتنش الغدران، فيرجعون إلى محاضرهم على اًعداد المياه.

وإِذا أمطرت السماء مطراً كافيأ، كان ذلك خيرأً للعرب وفرحة عظيمة. إذ تغيث الأرض وتكسوها حلة سندسية جميلة، وتزول الغبرة عن وجهها، وتظهر الأرض فرحة مستبشرة بعد عبوس وكآبة. فتهيج الأرض وتنبت نبتاً أخضر، يكون بهجة للناظرين وطعاماً شهياً للابل ولبقيه حيواناتهم، تقبل عليه إقبالاّ شديداً، فتشبع وتصح أجسامها، ويكثر نسلها. ويقال للخضرة التي تكسو وجه الأرض "الكلأ"، وهو العشب، رطبه ويابسه. وأرض كليئة ومعكلأة، كثيرة الكلأ. وذكر إن العشب الكلأ الرطب، والرطب من البقول البرية، ينبت في الربيع، وهو سرعان الكلأ في الربيع يهيج ولا يبقى. ويدخل في العشب، أحرار البقول وذكورها، فأحرارها ما رق منها وكان ناعماً. وذكورها ما صلب وغلظ منها. وذكر بعضم إن العشب كل ما أباده الشتاء وكان نباته ثانية من أرومة أو بذر.

وفي ذلك يقول الأعشى: ألم تر أن الأرض أصبح بطنها  نخيلاّ وزرعاً نابتاً وفصافصا

والفصافص الرطب من علف الحيوان، ويسمى "القت". وقيل هو رطب القت. وفي الحديث: ليس في الفصافص صدقة.

و "البقل"ما نبت في بزره لا في أرومة ثابتة. وذكر أنه كل ما اخضرت به الأرض. والفرق بين البقل ودقّ الشجر، أن البقل إذا رعي لم يبق له ساق، والشجر تبقى له سوق وإن دقت. وقال بعض علماء اللغة: البقل ما لا يثبت أصله وفرعه في الشتاء. والبقُلة، بقل الربيع خاصة. وبقلت الأرض إذا أنبتت. وذكر أن من أسماء بقل الربيع: الجشر.

وترد لفظة "لسسن"، "لسس"، الواردة في نصوص المسند في معنى "لساس " في عربيتنا. ويراد بها أول البقل، وقيل هو من البقل ما استمكنت منه الراعية وهو صغار. وقيل: البقل ما دام صغيراً لا تستمكن منه الراعية، وذلك لأنها تلسه بألسنتها لساً.

والحشيش الكلأ اليابس، ولا يقال وهو رطب حشيش. والطاقة منه حشيشة. والعشب يعم الرطب واليابس. وقال بعض علماء اللغة: الحشيش أخضر الكلأ ويابسه. وقال بعض آخر العرب إذا اطلقوا امم الحشيش عنوا به الخليّ خاصة، وهو أجود علف يصلح الخيل عليه. وهو من خير مراعي النعم. وقال بعض آخر: البقل أجمع رطباً ويابساً حشيش وعلف وخلي. والخلي: الرطب من النبات. وقال بعض علماء اللغة: هو النبات الرقيق ما دام رطباً.

وترد في المسند لفظة "جمست""جمسة"، بمعنى الحشائش عند جفافها والنبت إذا ما ذهبت غضاضته. وهي بهذا المعنى في عربية القرآن الكريم. فالجامس من النبات ما ذهبت غضوضته ورطوبته فولى وجسا.

وتنبت الأمطار ما دقَّ من الشجر، وبعض أنواع الشجر، وقد تثمر ثمراً يستفيد منه الإنسان. كما يستفيد من عوده ومن حطبه وخشبه. أما ورقه فيكون طعاماً شهيأَ للابل. ونجد في كتب اللغة أسماء عدد كبير من هذه النباتات. وقد استعان الأعراب بالنبات وبالشجر في مداواة أنفسهم،، علمتهم تجاربهم الطويلة القديمة، ما ينفع منها في معالجة ما يصابون به من مرض، فصار لهم طب خاص بهم،يقوم على الفراسة وعلى الملاحظة وعلى التجارب في استخدام النبات في مداواة الإنسان وفي معالجة ماله، ولا زال هذا الطب معمولاً به في البوادي، عند ا لأعراب.

ويعد الأراك من أطايب أكل الإبل، إذا أصابت منه شيئاً.، ظهر طعمه في للبن، وهم يستحسنون هذا اللبن. وقد كان الرعاة إذا مروا به اجتنبوا ثمرته، و "الكباث"، هو أحسن ثمره، ولونه أسود، وهو أطيب ثمر الأراك. وقد اجشاه الرسول يوم كان راعياً، وهو النضيج من ثمر الأراك. وما لم ينضج فهو "بربر". وقيل: الكباث هو ما لم ينضج منه، وقيل حمله إذا كان متفرقاً.

وتكتسي الأرض بعد ظهور الكلأ ثوباً سندسياً جميلاً، فتظهر خضراء، لكثرة ما عليها من "الخضر"، وهو الزرع والنبات الذي نبت عليها. و "الخضر"، المكان ااكثير الخضرة. ويراد بالخضرة "البقلة الخضراء"، وهي بقلة خضراء خشناء ورقها مثل ورق الدخن وكذلك ثمرتها وترتفع ذراعاً،وهي تملأ فم البعير.

و "الخضر" ضرب من الجنبة، والجنبة من الكلأ ما له أصل غامض في الأرضّ، مثل النصى والصليان. وليس الخضر من أحرار البقول التي تهيج في الصيف. وجيدها الذي ينبته الربيع بتوالي أمطاره فتحسن وتنعم، ولكنه من البقول التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويبسها حيث لاتجد سواها،وتسميها العرب الجنبة، فلا ترى الماشية تكثر من أكلها ولا تستمريها.

والجنبة، عامة الشجر التي تتربل في زمان الصيف. واسم لنبوت كثيرة، وهي كلها عروق. سميت جنبة، لأنها صغرت عن الشجر الكبار وارتفعت عن التي لا أرومة لها في الأرض. فمن الجنبة: النصي والصليان والحماط والمكر والحذر والدهماء. صغرت عن الشجر ونبلت عن البقول. والنصي: نبت ما دام رطباً، فإذا ابيض، فهو الطريفة، فإذا ضخم ويبس، فهو الحليّ. وهو من أفضل المرعى. وذكر أن "الطريفة"من النصي، إذا ابيض ويبس، أو هو منه إذا اعتم وتمّ وكذلك من الصليان. وذكر أيضاً أن الطريفة من النبات، أول الشيء، يستطرفه المال،،فيرعاه كائناً ما كان. وسميت طريفة، لأن المال يطرفه إذا لم يجد بقلاه. وقيل لكرمها وطرافتها واستطراف المال إياه. وقيل: الطريفة خير الكلأ، إلا ما كان من العشب. ومن الطريفة النصيّ والصليان والهلتي والشحم والثغام.

و "الحلي"ما ابيض من يبيس النصي والسبط، وقيل: هو كل نبت يشبه نبات الزرع،أو اسم نبت بعينه. وقيل هو من خير مراتع أهل البادية للنعم والخيل.

والحماط، شجر شبيه بالتين، خشبه وجناه وريحه، إلا أن جناه هو أصغر وأشد حمرة من التين، ومنابته في أجواف الجبال، وقد يستوقد بحطبه، ويتخذ خشبه لما ينتفع به الناس، يبنون عليه البيوت والخيام. وقيل: هو في مثل نبات التين، غير أنه أصغر ورقاً، وله تين كثير صغار من كل لون أسود وأملح وأصفر، وهو شديد الحلاوة يحرق الفم إذا كان رطباً، فإذا جف ذهب ذلك عنه. وهو يدخر وله إذا جفّ متانة وعلوكة. وهو أحب شجر إلى الحيات، أي إنها تألفه كثيراً. يقال: شيطان حماط.

والصليان، نبت من الطريفة، ينبت صعداً وأضخمه أعجازه وأصوله على قدر نبت الحلي"، ومنابته السهول والرياض. وقيل الصليان من الجنبة لغلظه و بقائه.

والمكرة نبتة غبراء مليحاء تنبت قصداً، كأن فيها حمضاً حين تمضغ، تنبت في السهل والرمل، لها ورق وليس لها زهر. وقد تقع المكورعلى ضروب من الششجر كالرغل. و "الدهماء"، عشبة عريضة ذات ورق وقضب، كأنها القرنوة، ولها نورة حمراء يدبغ بها، ومنبتها قفاف الرمل.

الحمض والخلة

ويقسم بعض العلماء المرعى كله إلى حمض وخلة. فالحمض ما فيه ملوحة، والخلة ما سواه. وكل أرض لم يكن بها حمض، فهي خلّه، وإن لم يكن بها من النبات شىء. وخلل الأرض الي لاحمض بها، وربما كانت بها عضاه، وربما لم تكن. ولو أتيت أرضأ ليس بها شيء من الشجر فهي جرز.من الأرض، قات إنها خلة.

والحمض ما ملح وأمر من النبات، كالرمث والأثل والطرفاء ونحوها. وذكر أن الحمض من النبات كل نبت مالح أو حامض يقوم على سوق ولا أصل له. ومن الحمض النجيل، والخذراف، والاخريط، والقضة، و القلام، والهرم، والحرض، والدغل، وما أشبهها. وذكر أن الحمض كل نبات لا يهيج في الربيع ويبقى على القيظ وفيه ملوحة، إذا أكلته الإبل شربت عليه.واذا لم تجده رقت وضعفت. وهي كفاكهة الإبل، والخلة ما حلا، وهي كخبزها، تقول العرب: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها ويقال لحمها.

والرمث، مرعى للإبل، وهو من الحمض، وشجر يشبه الغضى،لا يطول ولكنه ينبسط ورقه وهو شبيه يالأشنان، وله هدب طوال دقاق، وهو مع ذلك كله كلأ تعيش فيه اللإبل والغنم وإن لم يكن معها غيره، وربما خرج فيه عسل أبيض كأنه الجمان، وهو شديد الحلاوة وله حطب وخشب ووقوده حار وينتفع بدخانه من الزكام. ويرتفع دون القامة فيحتطب.

والطرفاء جماعة الطرفة، شجر. قيل إنها أربعة أصناف من الأثل، وقيل الطرفاء شجر من العضاه، هدبه مثل هدب الأثل، ويس له خشب، وإنما يخرج عصيّاً سمحة في السماء، وقد تتحمض به الإبل إذا لم تجد حمضاً غيره. وقيل انه من الحمض.

والإثل: شجر، عده بعضهم نوع من الطرفاء، وقال بعض آخر: الأثلة سمرة أو عضاهة طويلة قويمة يعمل منها الأقداح. والنجيل، ضرب من دق الحمض، وقيل هو خيرالحمض كله وألينه على السائمة. وذكر انه إذا أخرج عن الحمض أربع شجرات، فسائره نجيل، هي الرِ مث والغضى والسلج. ومن النجيل: الخذراف، والرغل، والغولان. والهرم، والفذا، والقلام والطمحاء. والخذراف، نبات ربعي إذا أحس بالصيف يبس، أو هو ضرب من الحمض له وَريقة صغيرة يرتفع قدر الذراع. والرُغل، نبت، أو حمضة تنفرش وعيدانها صلاب وورقها نحو من ورق الجماجم إلا إنها بيضاء ومنابتها السهول، والإبل تحمض به.

والغولان، حمض كالأشنان، وقيل شبيه بالعنظوان، إلا انه أدق منه. وهو مرعى. و "الهَرم"، نبت ضعيف ترعاه الإبل، وقيل ضرب من الحمض فيه ملوحة. وقيل هو يبيس الشبرق، وهو أذله وأشده انبساطأ على الأرض واستبطاحا، وقيل شجر، وان الهرمة البقلة الحمقاء. و "الغذام"، نبت من الحمض. و "القلام"من الحمض ة،هو كالأشنان إلا انه أعظم و "القِضاض " شجر من الحمض، وقيل هو دقيق ضعيف أصفر اللون.

والأراك من الحمض، وقوم مؤركون نازلون بالأراك يرعونها، ويقال أطيب الألبان ألبان الأوارك. وفي الحديث أتى بلبن الأوارك وهو بعرفة، فشرب منه.

و "الحرض"، من النجيل. وذكر أنه الأشنان، تغسل به الأيدي على أثر الطعام. وشجرته ضخمة، وربما استظل بها، ولها حطب، وهو الذي يغسل به الناس الثياب. وأنقى وأبيض حرض هو حرض ينبت باليمامة، بواد منها بقال له جو" الخضارم. و "الحيهل"، شجرة قصيرة من دق الحمض لا ورق لها، وقيل إنه "الهرم"، وهو إذا أصابه المطر نبت سريعاً، وإذا أكاته الإبل، فلم تبعر ولم تسلح مسرعة ماتت، وبذلك فسروا تسمية "الهرم"هرماً.

وقد يضطر اصحاب الماشية إلى اطعامها ما ينبت في الأرض السبخة، أي ذات الملح. يقال "ملح الماشية"، بمعنى أطعمها سبخة الملح. و "السبخة"، أرض ذات نز وملح، وهي لا تكاد تنبت إلا بعض الشجر والنبات. وتوجد السباخ في مواضع من جزيرة للعرب، في الأماكن الوطئة، حيث تنز الأرض، ويعلوها الملح، وتكون رخوة.

ولفظة "رعى"من الألفاظ التي كثر ورودها في الكتابات الصفوية، وهي كتابات أصحابها رعاة، كانوا يتنقلون مع ماشيتهم من مكان إلى آخر في طلب المرعى، فكانوا يكتبون خواطرهم على الحجارة والصخور، تخليداً لنزولهم هاتيك المواضع. وهم من عشائر مختلفة امتهنت الرعي، فكانت تتنقل من مكان إلى مكان. تتوغل في الربيع في البوادي، فإذا انتهى الموسم ويبس الكلا، عادت إلى مواضع قريبة من الحضر، حيث يتوفر فيها الماء، فترعى ماشيتها بكلأ هذه الأرضين، وتبيع إلى أهل المدر، ما يكون عندها من وبر وأصواف ومنتوج ألبان.

وتثبت النصوص الصفوية أن أصحابها كانوا جماعة من الرعاة، يتنقلون من مكان إلى مكان، بدليل الإشارة إلى المرعى "همرعى "ه مرعى"، "ها مرعى"، أي "المرعى" والى الماء والى البقر والإبل والشياه "شهى" "شاهي"، والأودية "هنخل" "ه - شخل" "ها نخل"وغير ذلك من الألفاظ التي ترد على ألسنة الرعاة. فكان هؤلاء الصفويون يتنقلون مع الكلأ والماء لرعي ماشيتهم.

أصناف الرعاة

والرعاة على صنفين: رعاة الإبل، وهم إلممعنون في البوادي، والذين يبيتون مع الإبل في المرعى لآ يأوون إلى بيوتهم، ولا يرعون غيرها، وهم: "الجشر" أو هم الذين يرعون الابل، ويقيمون معها في المرعى، ولا يرعون معها غيرها من بقية الحيوانات. وهم جلَ الأعراب، بل كلهم، لأن حياة الأعرابي هي حياة رعي إبل، يرعاها عند ببته أو على مبعدة منه. بات مع الإبل بعيداً عن بيته أو أهله اياماً أو موسم الربيع، أو أقام عند خيمته مع إبله، فهو راعي إبل في الحالتين.

وراعي الإبل، هو الأعرابي الأصيل، ابن البادية جوّاب بيداء، لا يأكل البقل والخضر، هو كما قال الراجز: جواب بيداء بها غروف  لايأكل البقل ولا يريف 

ولا يرى في بيته القليف   

ويقال للاعرابي الذي ينشأ في البدو والفلوات لم يزايلها: المقحم. ويكون هؤلاء الرعاة الأعراب من أبعد الرعاة عن "المصانع"، أي القرى والحضر، ومن أهلها، لا يذهبون إليها ولا يتصلون بها. فهم يعيشون في عالم خاص بهم بعيد عن القيود والتكاليف، والتنويع في المأكل والمشرب.

ورعاة يرعون إبلاَ ويرعون غيرها معها من بقر وخيل وغنم. وهم لعدم استطاعة البقر والغنم من التوغل في البادية والتعمق في طياتها، لا يستطيعون الابتعاد عن الماء كثيراً، لعدم استطاعة تلك الحيوانات الصبر على العطش كثيراً، ولهذا فهم على اتصال بالحضر وبالحضارة، وهم مرحلة وسطى بين الحضارة وبين الأعرابية، وهم الجرثومة التي نبتت منها المجتمعات العربية الحضِرية في العراق وفيَ بلاد الشام وفي جزيرة العرب، وهم من أهل الخيام السود المنسوجة من شعر الماعز، أو من صوف الأغنام. وقد أشير اليهم في التوراة، وقد كانوا يسكنون شرق العبرانيين وفي أرض فلسطين.

وكانوا ينتجعون أيام الكلأ فتجتمع منهم قبائل شتى في مكان واحد، فتقع بينهم ألفة، فإذا افترقوا ورجعوا إلى أوطانهم ساءهم ذلك، وقد عرف هؤلاء ب "الخلطاء". كما كانرا يتشاركون في الرعي، وذلك أن يستأجروا راعياً أو رعاة، ويقدم كل واحد من الشركاء ما يريد تقديمه من الإبل أو إلشياه، ويحتمل كل واحد من المتشاركين أجر الرعي، حسب عدد إبله أوشياهه.

ولا يشترط في الراعي، أن يكون أجيراً لغيره يرعى إبل وماشية غيره، فقد يكون راعياً، وهو مالك لإبله ولبقية الماشية التي يرعاها " وهو إنماُ سميّ راعياً لأنه اتخذ الرعي وسيلة للحياة يعيش عليها. ويجوزّ أن يكون قد ورثها عن آبائه وأجداده، ويجوز أن يكون قد اختارها هو حرفة له، كما يجوز أن يكون راعيأَ لمال غيره من أهل قبيلته أو من الأبعدين، وقد يكون هؤلاء من أهل الحواضر المستقرين، يسلمون ما لهم للرعاة، لترعى في البوادي، وليكثر نسلها وتصح أجسامها، فإذا أرادوا بيعها طلبوا من الرعاة اعادتها اليهم.

ويقوم الأبناء في العادة برعي إبل الأب والعائلة، ونجد في القصص إشارات اليهم، لطمع الرجال في الإبل، وازدراءهم شأن الراعي لصغر سنه، فيستاقون إبله، مما يتسبب عن ذلك تعقب السراق، ووقوع حوادث بينهم وبين أرباب الإبل.

ولا يربي الرعاة الدجاج والبط والحمام والأوز والطيور المختلفة والخنازبر، انما يربيها أهل الريف. والريف ما قارب الماء من أرض العرب وغيرها، وأرض فيها زرع وخصب، أو حيث تكون الخضر والمياه والزروع. وتربية الدجاج حرفة ينظر العربي إليها نظرة ازدراء واستهجان ؛ فلا يليق برجل حرّ يحترم نفسه، إن يخدم طيراً أو حيواناً صغيراً كالدجاجة، ولذلك كانت من حرف "النبط"والعرب المتنبطة، أي أهل الريف ممن خالط النبط، أي بني إرم، ومن تأثر بهم. وقد ربى أهل القرى الدجاج والطيور، لأكلهم، إذ كانوا يأكلون لحم الدجاج. ذكر إن الرسول والصحابة أكلت لحومها، ونجد الشعراء يشيرون إلى صياح الديكة عند دنوهم من الأرياف، لتربيتهم الدجاح واعتنائهم بها، واعتبارهم لحومها من ألذّ اللحوم.

وترعى ألماشية في القرى وفي المزارع بما يظهر من أخضرعلى وجه الأرض بعد الحصاد، ويقال لذلك: المحشرة.

الرعاة والحضارة

وقد حدث في الجاهلية ما يحدث اليوم: يتنقل الأعراب بمواشيهم وبيوتهم وكل ما يملكون من باطن جزيرة العرب في الجفاف، فيتجهون نحو الشمال، نحو بلاد الشام والعراق للرعي والاكتيال. ينزلون هناك جماعات حيث يجدون الماء والكلأ، في مواضع مختلفة قد تكون بعيدة عن القرى والمدن ممعنة في البادية، وقد تكون في اًطراف القرى وبين الحضر، وقد يدخلون بين الحضر للاكتيال والامتيار وللري في مواضع العشب والكلا المحيطة بهم. وهم على هذه الحالة ما دامت بهم حاجة إلى كل أولئك، فإذا انتهت أو شح ما قصدوه انتقلوا إلى مواضع أخرى، وهكذا كانت سنةّ البدوي في الحياة.

وقد كانوا يفدون دوماً من باطن الجزيرة، فيتوغلون في بادية الشام ومنهم من كان يمعن في التوغل في تلك البادية حتى يصل أقصاها،أي أعاليها في الشمال، فيدخل الأرضين الجنوبية من "تركية"في الوقت الحلضر، وأعالي العراق وبلاد الشام. ومنهم من كان يجد له طيب العيش والمقام، في هذه المهابط والمواطن الجديدة، فيقيم بها، وقد يتحضر قوم منهم، ومن هؤلاء تولد حضر العرب في هذه الديار.

ولمّا كان في مجيء الأعراب علما هذه الصورة محاذير وأخطار على الحضر وعلى الحكومات، اضطرت الحكومات المسيطرة على العراق وبلاد الشام إلى اتخاذ وسائل الحماية المختلفة لحماية أرضها منهم، فبنت المسالح ووضعت الحرس في المواضع المشرفة على البوادي الممسكة بعنان طرقها، لمراقبة القادم والخارج ولابلاغ رجال الأمن بدنوّ الخطر، وحذرت من الأعراب، فأشرفت على حركاتهم وسكناتهم خشية انتهازها فرص الضعف، فتعبث على عادتها بالأمن. وقد أنشأ الرومان واليونان بركأَ واتخذوا صهاريج لخزن مياه الأمطار ليستفيد منها الأعراب وليجدوا فيها ما يحتاجون إليه، فلا يتوغلوا عميقاً في بلاد الشام، كما أقاموا حصوناً في أطراف البادية لمراقبة حركات الأعراب.

وهكذا أمن حكّام الشام من خطر الأعراب، بعد أن اتبعوا معهم سياسة الترضية والتهدئة للاستفادة منهم في حفظ الحدود. وأقام قسم من الأعراب في المواضع التي تتوافر فيها المياه، وزرعوا، واشتغلوا ببعض الحرف مثل غزل الأصواف ونسجها، والتوسط في التجارة بين الأعراب وسكان المدن والقرى البعيدة عن البادية من بلاد الشام، وزرع الحبوب وأشجار الزيتون والكروم. واستفادوا من هذا الحاصل الزراعي ببيعه للاعراب المحتاجين إليه.

ولا حاجة بي إلى الاشارة إلى أثر ألمراعي في حياة جزيرة العرب، وفي حياة الأعراب بصورة خاصة. فعلى المراعي تتوقف حياة الماشية عماد الثروة والمال لأهل البادية، وهي من أهم المشكلات العويصة بالنسبة اليهم وإلى الحكومات حتى الان. والأعرابي ومعه ماشيته وراء المراعي يفتش عنها في كل مكان،وينتقل إليها ليجد فيها الكلأ لماشيته. وسبب هذه المشكلة هو قلة وجود الماء في جزيرة العرب، وقلة الأمطار وانحصارها في مواسم ضيقة لا تمتد طويلاً، وانحباسها في بعض السنين، مما يسبب قصر زمن الرعي، وجفاف الكلا والتأثير في حياة الماشية بحيث تتعرض للهلاك والموت. وهذا مما يحمل القبائل على التنقل من مكان إلى مكان، فتتزاحم وتتطاحن للاستيلاء على المراعي.

الفصل الرابع والتسعون
الثروة الحيوانية

والحيوان ثروة مهمة وخاصة لتلك البلاد الفقيرة التي لا تملك صناعة، والتي تكون مواردها الطبيعية محدودة. فتعوض عن الصناعة بتربية الحيوان وبالزراعة إن توفر الماء. والإبل مصدر ثروة عظيمة في الجاهلية، لاستفادتهم منها في أمور كثيرة عديدة. وبعدد الإبل تقاس الثروات. والإبل المال عند العرب، وأساس التعامل بينهم. قال بعض العلماء: "المال في الأصل، ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان. وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل، لأنها كانت أكثر أموالهم". وفي الحديث نهي عن اضاعة المال. قيل أراد به الحيوان، أي يحسن إليه ولا يهمل.

ويطلق العرب على الإبل والبقر والشاء "النعم"، وزاد بعض علماء اللغة المعز والضأن. وذكر بعض آخر، إن النعم، إنما خصت باًلإبل، لكونها عندهم أعظم نعمة. وقيل إن العرب إذا أفردت النعم، لم يريدوا بها إلا الإبل، فإذا قالوا الأنعام: أرادوا بها الإبل والبقر والغنم.

ويراد ب "الماشية"، الإبل والغنم، وقيل الإبل وابقر والغنم، وقال بعض العلماء، وأكثرما يستعمل في الغنم، وقيل: كل مالّ يكون سائمة للنسل والقنية من إبل وشاء وبقر، فهي ماشية وأصل المشاء النماء والكثرة. ومشت الماشية مشاءً كثرت أولادها.

و "الشاة"، الواحدة من الغنم، تكون للذكر والأنثى، أو يكون من الضأن، والمعز، والظباء، والبقر، والنعام، وحمر الوحش. وفي الحديث ": فأمر لها بشياه غنم، انما أضافها إلى الغنم، لأن العرب تسمي البقرة الوحشة شاة، فميزها بالاضافة لذلك، وشاء، وشياه، وشواه، وأشاوه، وشويّ، وشيه، في حالة الجمع.

و "السوام"و "السائمة"، الإبل الراعية، وقيل كل ما رعى من المال في الفلوات، إذا خلى وسومه يرعى حيث شاء. والسائم الذاهب إلى وجهه حيث شاء، يقال سامت السائمة، وأسأمها هو، أي أرعاها أو أخرجها إلى الرعيّ. وذ كَر إن السوام والسائمة كل إبل ترسل ترعى ولا تعلف في الأصل. وسوّم الخيل، أرسلها إلى المرعى، ترعى حيث شاءت.

والجمل هو الحيوان الوحيد الذي رضي بمرافقة الأعراب وبمشاطرتهم حياتهم في البوادي. ألفهم وعاشرهم وشاركهم في مسرّ اتهم وفي أحزانهم، صابراً راضياً، حملهم ويحمل أثقالهم، لا يسألهم على ذلك أجراً، وهو مع ذلك طعامهم إذا جاعوا، اًو شعروا انه قد مرض مرضاً لا يرجى شفاؤه،أو انه قد كبر وأسن، فصار لا يصلح للعمل، ومن وبره صنعوا خيامهم. وهو قنوع يقنع بالقليل ولا يطالب بالكثير. ويصبر على العطش والجوع، لا يباريه في هذا الصبر أي حيوان من الحيوانات التي ألفت الإنسان وقاسمته حياته، إذا اخضرت الأرض، وجد طعامه هبة، لا يكلف مالكه شيئاً عن اقتضامه له، وإذا يبست الأرض، قنع بالتهام اليابس، وبتناول العوسج ونباتات البر، التي يكون عمرها أطول من عمر الكلأ، وإذا بَعُدَ الماء صبر على العطش حتى يجده،لا يلح على صاحبه بوجوب تقديم الما، له، كما تفعل الخيل والحمير والبغال.

وتعد" لحوم الإبل من اللحوم اللذيذة الطيبة عند العرب. وتنحر عند قدوم شخصية كبيرة تقديراً لها، وتنحر تقرباً إلى الأصنام وفي المناسبات الدينية وتعقر القبور إكرامأ لصاحب القبر، ويبيع الجزّارون لحومها وسائر اللحوم الأخرى. ونظراً إلى أهمية الإبل باًلنسبة إلى حياة الأعراب، ولغلاء ثمنها، ولعدم تمكنهم من شراء عدد كثير منها، إلا بالنسبة للموسر منهم، اقتصدوا في ذبحها، إلا لعلة قاتلة ومرض مهلك، لأنها أصول أموالهم، فهم يريدون إكثارها، وفي اكثارها اكثار لأموالهم، ولا سيما في إكثار الإبل النجيبة التي لا توازى عندهم بثمن، والتي تعد مقياس الثراء والجاه والغنى عند العرب.

وإذا مات فصيل الناقة أو ذبح، سلخ برأسه وقوائمه ثم حشي جلده تبناً لتزأمه أمه وتشم رائحته، فتدر عليه ولا ينقطع لبنها، فتحلب. ويقال للجلد المحشو بالتبن "أاِبو".

و "الأشراط"الإبل أو الغنم تعزل للبيع. و "الشريطة"، الجماعة المعزولة منها، المعدّة للبيع.

والجمل،هو الحيوان الوحيد الذي لم يجد الأعرابي في تربيته بأسأَ ولا غضاضة، ولا حطة لقدر ومنزلة. فاجتناه وتباهى به وافتخر، وجعله مقياس ثرائه وماله، وأعزشيء عنده في حياته، وما الذي يملكه الأعراب في دنياه غير هذا الجمل ! أما البقر والغنم والحمير واابغال، فهي دون الجمل في المكانة والمنزلة عنده، فترفّع لذلك عن تربينها، واعتبر تربيتها وخدمتها وبيعها عملاً من أعمال "النبط"والخدم والعبيد والأعاجم.وكيف يقبل أن ينظف تلك الحيوانات وأن يجمع روثها، ويتحمل سقوط أبوالها عليه، وأن يشم رائحة أرواثها وبولها، وهي حوله أو في بيته، والروث قذارة. وكيف يرضى أن يحشها وأن يقدم لها العلف والقت، ثم تروّث له. جاء في المثل: أحشك وتروثني?.

والجمل قليل الكلفة، لا يكلف أكله صاحبه كثيراً، يعيش على ما تنبته الأرض، وعلى ما يجده على وجهها من يابس النبات، ومن عوسج ونبات ذي شوك، ومن نباتات أخرى تتبطر عليها بقية الماشية. وهو لا يطلب من صاحبه علفاً غالياً، أو متنوعاً، كما تفعل بقية الماشية، مثل البقر والخيل والغنم والحمير، مع إنها ليست في صبر الجمل ولا في قدرته على تحمل المشقات وحمل الأثقال إلى مسافات طويلة في البوادي، وفي الرمال التي تفزع منها بقية الماشية، وتهلك إن اجبرت على للسير بها.

والإبل من حيث الأصالة والعرق أجناس وأصناف، فيها الإبل الأصيلة التي يفتخر أصحابها بها، ويظنون على غيرهم بها، ولا يعطون منها لأحد، وفيها الإبل الرخيصة، من الصنف الواطيء المعدود للبيع، لخساسة جنسه، ولعدم نجابته. وكان الملوك وسادات القبائل يجنون الأصيل من الإبل، فكان "النعمان ابن المننر"، وهو من أصحاب الهوايات في حيازة النادر من الأشياء، يمتلك الإبل الجيدة، ومنها إبل عرفت ب "عصافير النعمان". وقد أمر للنابغة بمائة ناقة من عصافيره بريشها وحسام وآنية من فضة، أعطاها بريشها ليعلم أنها من عطايا الملوك. وكانت للملك "المنذر"ملك الحيرة إبل نجائب منهن إبل عرفت ب "عصافير المنذر".

ومن الابل الجيدة الشهيرة، النجائب القطريات. نسبت إلى قطر وما والاها من البر. و "المهرية"، وقد نالت حظاً واسعاً من الشهرة حتى زعم أنها من إبل الجن. وقد اشتهرت "جرش"، باليمن بإبلها. فقيل "ناقة جرشية" وبعير جرشي، . والأرحبيات من نجائب الإبل الكريمة، منسوبة إلى بني أرحب من همدان، والصدفية، و الجرمية، والداعرية.

وكانوا لا يبيعون الإبل النجيبة، إلا عن اضطرار. ويسمونها "الحرائز". ذكر عماء اللغة إن الحرائز من الإبل التي لا تباع نفاسة. ومنه المثل: لا حريز من بيع، أي إن أعطيتني ثمنأَ أرضاه لم أمتنع من بيعه. والحرزة خيار المال، لأن صاحبها يحرزها ويصونها، ومنه الحديث في الزكاة: لا تأخذوا من حرزات أموال الناس شيئاً، أي من خيارها.

وللعرب مصطلحات يقولونها في الإبل إذا كثر عددها. منها "الهجمة" القطعة الضخمة منها، قيل: أولها أربعون إلى ما زادت، و "الهنيدة"، المائة فقط، وقيل: هي ما بين الثلاثين والمائة، أو ما بين السبعين والمائة، أو ما بين السبعين إلى دوينها، أو هي ما بين التسعين إلى المائة. وقال بعض علماء اللغة: إذا بلغت الإبل ستين، فهي "عجرمة"، ثم هي "هجمة"حى تبلغ المائة. وتطلق لفظة "الكور"على الجماعة الكثيرة من الإبل.

والعارض الناقة المريضة أو الكسير، وهي التي أصابها كسر أو آفة، وكانوا ينحرون ا لعوارض،ومن عادتهم انهم لا ينحرون الإبل إلا من داء يصيبها،وتقول العرب للرجل إذا قدم اليهم لحماً أعبيط أم عارضة. فالعبيط الذي ينحر من غير علة. والعرب تعير من يأكل العوارض، ومن ينحر الإبل المريضة للضيوف.

ويقال للابل وللبقر "العوامل"، ويظهر أن ذلك بسبب تشغيل أهل القرى لها في كثير من الأعمال في مثل الحمل وسحب الماء من الابار والحراثة وأمثال ذلك من أعمال. وأطلقت اللفظة على بقر الحراثة والدياسة. وفي حديث الزكاة: ليس في العوامل شيء... العوامل من البقر،هي التي يستقى عليها ويحرث وتستعمل في الأشغال.

وذكر "الهمداني"أن بالعربية الجنوبية من البقر الجندية والخديرية والجبلانية، وهي قوية. وقد استخدم أهل العربية الجنوبية البقر في الحراثة، وكذلك غيرهم في معظم أنحاء جزيرة العرب.

والخيل جماعة الأفراس. و "الفرس" للذكر والأنى، ولا يقال للانثى فرسة. و "الحصان"الفرس الذكر، أو هو الكريم المضنون بمائه، حتى سموا كل ذكر من الخيل حصاناً. و "الحجر"، الأنثى من الخيل. و "الطحون"الكتيبة من الخيل.

لم تكن الخيل كثيرة في الحجاز عند ظهور الإسلام. ففي معركة "بدر"لم يكن مع المسلمين سوى فرسين، فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد، ولم يكن مع قريش سوى مائة فرس. فقد كانت غالية الثمن، وتكاليفها عالية، فعسر عاى من لا مال له شراؤها والانفاق عليها. وقد ورد في.بعض الروايات أن "المقداد بن عمرو"، كان فارس يوم بدر، حتى انه لم يثبت انه كان فيها عاى فرس غيره. وكان اسم فرسه "سبحة".

والأخدرية من الخيل منسوبة ائ "أخدر"فحل أفلت فتوحش، ذكر أهل ا الأخبار انه كان لسليمان، أو لأزدشير "أردشير". وهناك حمر عرفت بالأخدرية كذلك، ذكروا إنها منسوبة إليه أيضاً. والخدري، الحمار الأسود، والأخدري وحشيه، ويقال للاخدرية م ن الحصر بنات الأخدر.

والأغنام عند الحضر وأشباههم،يربونها للاستفادة من لحومها وألبانها وأصوافها، ولحاجتها إلى الماء والكلا والعلف بصورة دائمة، صارت من ماشية أهل الحضر والمراعي. وهي مصدر ثروة لأصحابها، تصدًّر إلى أسواق العراق وبلاد الشام لبيعها هناك. ومن أنواعها المشهورة: الكباش العوسية. والعوس، ضرب من الكباش البيض، ويكون صوفها أبيض، وهو مرغوب مطلوب.

و "المعز"خلاف الضأن من الغنم، والمعز ذوات الشعور، والضأن ذوات الصوف، و "الماعز"واحد المعز. ويستفاد من لحوم المعز ومن ألبانها وشعرها. وكان أعراب بادية الشام الساكنين على مقربة من فلسطين، يتخذون بيوتهم من شعر الماعز، كما تتخذ البسط والسجاجيد منها. و "العنز"الأنثى من المعز. ويكثر وجود المعز البري فيَ جبال السراة وفي المناطق الصخرية،حيث يعيش على الأشجار و الاعشاب البرية. ويربي الرعاة المعز، حيث يأخذون قطعانها الى المواضع المعشبة القريبة من الماء لترعى هناك، وتربى بصورة خاصة فيَ الأرضبن الجبلية والمتوجة، حيث يتسلق المعز المرتفعات، فيأكل ما يجده أمامه من شجر و حشائش.

الطيور

وقد عني أهل المدر وأهل الريف، بتربية الطيور، وعلى رأسها الدجاج. وقد عد أكله من طعام المترفين المتمكنين، لارتفاع ثمنه بالنسبة إلى الفقراء، وكانوا يتفننون في طبخه. وقد أكله ألنبي والصحابة.

والأوز عند العرب البطّ، صغاره وكبار. ويعدونه من طير الماء،ويذكر علماء اللغة أن "بطة"و "بط"من الالفاظ المعربة. واللفظة إرمية أصلها في لغة بني إرم "بطو".

ويربي الزراع الحيوانات للاستفادة منها في الخدمات الزراعية وفي معاشهم، كالجمال للنقل والحراثة ومتَحْ الماء من الآبار العميقة، والبقر للانتفاع بألبانها ولحومها وللحراثة ومتح الماء، والضأن والمعز والدجاج وغير ذلك من الحيوانات الأخرى الأليفة، مثل اليط والأوز، وغيرها، مما يربيه الحضر وأهل الريف.

تربية النحل

والنحل ذباب العسل، يقع على الذكر والأنثىْ. و "اليعسوب"أمير النحل وذكرها والرئيس الكبير. والعسل من الأغذية الثمينة عند أهل الجاهليهّ، وقد استعملوه في المعالجة من أمراض عديدة، نص عليها في كتب الحديث والطب. وقد أطلق العرب لفظة "العسل"على ما يشبه العسل في الحلاوة أو في الشكل، فقالوا: عسل العرفط، وهو صمغ العرفط لحلاوته، وعسل اللبنى، صمغ ينضح من شجرة، يشبه العسل لا حلاوة له، ويتبخر به، وعسل الرمث، شيء اًبيض يخرج منه كالجمان. ويعسل النحل في "الخلى"، وقد يتخذ النحل خليته بنفسه، في الجبال وفي البساتين، فتكون خلايا طبيعية، وقد يعسل الإنسان بيده خلية النحل، كما يفعل من يربي النحل، فيتخذ لها ما يشبه الراقود من طين،ويقال لها "كوارة"، أو خشبة تنقر ليعسل فيها، وأشياء أخرى. وهي خلايا أهلية. و "الكور"موضع الزنابير، و "كوارة النحل"، شيء يتخذ للنحل من القضبان والطين، ضيق الرأس تعسل فيه، وقد يراد باللفظة العسل في الشمع. و "الشمع"الموم كذلك. و "الجزع"خلية النحل.

وتعزل للنحل مواضع منتبذة عن البيوت يقولون لها: "المصانع"، واحدتها مصنعة.

والنحل من الجوارس في اصطلاح أهل الأخبار، ويعنون بذلك أنه يلحس الشجر والنور للتعسيل. فهو من الجوارس.

. وقد عدّ "سترابون"العسل من جملة المحصولات التي اشتهرت بها العربية السعيدة، وذبَر أنه كثير جداً فيها. وهو كثير في اليمن، ولا تزال اليمن على شهرتها به.

وقد كانت الجبال والهضاب المنعزلة، من مواطن النحل الوحشي، وهناك "معيدون"، حذقوا الرقي والنزول من الجبال، يذهبون إلى الجبال للبحث بين صخورها عن خلايا للنحل لاستخلاص العسل منها. وقد اشتهرت جبال "بني سُليم"، بكثرة ما بها من عسل، وبقيت على شهرتها هذه في الإسلام.

وقد عني الحضارمة بتربية النحل ودرَّ العسل عليهم ربحاً طيباً. ونجد في كتاب رسول الله لربيعة بن ذي مرحب الحضرمي واخوته وأعمامه " أن لهم أموالهم ونحلهم ورقيقهم وآبارهم وشجرهم ومياههم وسواقيهم ونبتهم وشراجعهم بحضرموت " وفي ذكر النحل بعد اللأموال، اشارة إلى أهميته وكونه من مصادر الرزق عندهم في ذلك الوقت.

الأسماك

وقد أشير في القرآن الكريم إن صيد البحر، فورد فيه: )أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً، واتقوا الله الذي إليه تحشرون(. وصيد البحر، ما يصطاد من البحار من حيوانات تعيش فيه. وقد كان العرب يعتاشون من البحر، ولا سيما سكان السواحل حيث يسدّ هذا الصيد جزءاً مهماً من معيشتهم، فيستعملون ما يحتاجون إليه، ويبيعون الفائض منه، أو يتقاضون به. وقد كان سكان السمواحل يخرجون بالوسائل المتيسرة لهم لصيد السمك، ومنهم من يصطاد عند السواحل فيجمع ما يقع تحت يديه ليستفيد منه.

ويقال لصياد السمك "العركي"كذلك. ولهذا قيل للملاحين "عرك"لأنهم يصيدون السمك. وفي الحديث إن النبي كتب إلى قوم من لليهود على ساحل خليج العقبة عليكم ربع ما أخرجت نخلكم، وربع ماصادت عروككم، وربع المغزل. والعروك جمع عرك، وهم الذين يصيدون السمك.

وقد عاش على صيد البحر خلق كثير من سكنة السواحل، في ذلك الزمن، حيث كانت سبل العيش عندهم قليلة ضيقة. وقد استفادوا من الحيتان والأسماك الأخرى الكبيرة بصورة خاصة للحمها الغزير، ولاستعمال عظامها وهي كبيرة في حاجات متعددة، حتى جلودها استفادوا منها. والحيتان معروفة في البحر الأحمر وفي البحر العربي والخليج. وهي لضخامتها يحتاج في صيدها إلى آلات والى أيدي متعددة. وقد أشير إليها والى ضخامتها في القرآن الكريم.

والحوت، في رأي بعض علماء اللغة السمك كله، ولكن الغالب أنه ما عظم منه، والسمك في العرف أصغر من الحوت.

ويجفف السمك في الشمس، ويملح أحياناً كاَ ويجفف في الهوإء ليؤكل وقت الحاجة اليه. وقد يستعمل علفاً للحيوانات. وقد يطحن السمك المجفف ويؤكل طحينه، ويجعل علفأَ للحيوانات. وقد يحفظ السمك في ماء مملح أو في خلٍّ، ويقال للسمك المملح ما دام طرياً "القريب". وأما السمك الًممقور في ماء وملح، فهو "النشوط". والمقر السمكة المالحة أو المنقعة في الخل. و "الحساس"، سمك يجفف ويسمى "قاشعاً "كذلك.

ومن حيوان البحر "التّامور"، و "الاطوم"سلحفاة بحرية غليظة الجلد، يشبه بها جلد البعير الأملس وتتخذ منها الخفاف للجمالين، وتتخذ منها النعال. وقيل: إنها سمكة عظيمة، يقال لها المصلة والزالخة، تحذى من جلدها النعال.

و "النكيع" دابة من دواب البحر، و "الزجر"، سمك عظام، و "اللخم " سمك بحري، ضخم لا يمر بشيء إلا قطعه، وهو يأكل الناس. وقيل هو الكوسج، وقيل القرش. و "الجمل"، كاللخم من السمك الضخم، ويقال. له "البال"، قيل إن طول السمكة منه ثلاثون ذراعاً، ويقال هي "الكبع".

و "الكبع"، جمل البحر، وقيل سمك بحري وحشي الهيئة، ومنه يقال للمرأة الدميمة: يا وجه الكبع. و "الكنعد" و "الكنعت"ضرب من سمك البحر. و "سابوط"دابة من دواب البحر. و "قضاعة"اسم كلب الماء، وقيل كلبة الماء. و "قبع"دويبة بحرية، و "الدوع"ضرب من الحيتان بلهجة أهل اليمن، وسمكة حمراء صغيرة كأصبع. و "العنز"، ويقال لها "عنز الماء"أيضاً، سمكة كبيرة، لا يكاد يحملها بغل.

و "الجريث"سمك يقال له "الجريّ"". ويظهر أن اليهود كانوا لا يأكلونه، ولما جاء الإسلام، ساًلوا عن أكله، فاختلف الناس فيه، فمنهم من أباحه ومنهم من نهى عنه. وذكروا اسم نوع آخر من السمك اسمه "الصلور"، قالوا إنه "الجريث"، وأما "الانقليس"، فإنه "مار ماهي"بالفارسية، أي حية الماء. وقد ذكر أحد الشعراء أن الأزد كانوا يأكلون: "للشيم"، والجريث، والكنعد، و "الشيم"نوع من السمك أيضاً. فقال: قل لطغام الأزد لا تبطروا  بالشيم والجريث والكنعد

وقد كان أهل للبحرين يحملون "الكنعد"المالح في الجلال البحرانية. يستخرجونه من البحر. وذكر الشاعر "جرير"هذا السمك أيضاً، وذكر أنهم كانوا يشوونه ويأكلونه مع البصل.

و "القرش"سمك ضخم كبير، يقال له Shark في الانكليزية، يستفاد من لحومه، كما يستفاد من شحومه في الأغراض الطبية، وقد يستفاد من جلوده الغليظة في صنع الأحذية. وزعم أهل الأخبار، أن "القرش"، دابة بحرية تخافها دواب البحر كلها.

وأشير في الحديث إلى دابة من دواب البحر، يقال لها "العنبر"، عثر عليها رجال سرية كان الرسول قد أرسلها إلى ناحية السيف، فجاعوا فاكلوها. ويذكر علماء اللغة أنها سمكة بحرية يبلغ طولها خمسين ذراعاً يقال لها يالفارسية"باله"تتخذ من جلدها الترسة،فعرف الترس المتخذ منها بالعنبر. قال العباس بن مرداس: لنا عارض كرهاء الصريم  فيه الأشلة والعـنـبـر

وذكر أن الناس كانوا يحتذون أحذية من جلد العنبر فيكون أقوى وأبقى ما يتخذ منه وأصلب.

وقد اتخذوا من جلد الأسماك الكبيرة الخشنة مادة تحك بها السياط والقدحان والسهام والصحاف، ويقال لهذا الجلد: "السفن". وقيل: السفن جلد الاطوم تسوى قوائم السيوف من جلدها، أو جلد أخشن غليظ كجلود التماسيح أو الضب يجعل على قوائم السيوف، أو يسحج بها القدح حتى تذهب عنه آثار المبراة. وقد ذكر اللؤلؤ والمرجان في القرآن الكريم، ويستخرج اللؤلؤ من أجواف الصدف. وقد اشتهر به أهل العربية الشرقية بصورة خاصة، يستخرجه الغواصون من البحر. ولا تزال هذه المنطقة تستخرجه وتربح منه. ويوجد اللؤلؤ في البحر الأحمر، ولا سيما قرب جدة والى الجنوب، لكنه لم يشتهر لؤلؤه شهرة لؤلؤ الخليج، ولم يشتهر غواصو البحر الأحمر بالغوص. ولعل اللؤلؤ الذي ذكر في القرآن الكريم هو من اللؤلؤ المستورد من الخليج. واللؤلؤ الدر في تفسير علماء اللغة.

وتعدّ جزيرة "فرسان " من مغاصات الدر، أي اللؤلؤ. و "المرجان"مادة كلسية، يفرزها نوع من الحيوانات البحرية نظير هيكل لوقاية جسمه من الأمواج. وقد تتوسع فتكون صخوراً مرجانية تكون خطراً على السفن. وله ألوان مختلفة، من أبيض وآخر أحمر،. بعضه متفرع على هيأة مروحة أو أشكال النبات. وتصنع منه حلي، ولذلك عُدَّ في جملة المواد الثمينة مثل اللآلىء التي تدخل في التجارة. وهو في البحر الأحمر، ولا سيما في ساحل جزيرة العرب، كثير. ويظهر إن أهل الأخبار وعلماء اللغة، لم يكونوا على علم واضح بالمرجان، فذهب بعض منهم إلى انه صغار اللؤلؤ، وقال بعض آخر إلى انه "البسذ"، وهو جوهر أحمر، وذهب بعض آخر الى انه عظام اللؤلؤ، وذهب آخرون إلى انه خرز أحمر، إلى غير ذلك من آراء. و "البسذ"، لفظة فارسية. وقد ذكر علماء التفسير إن "كعب الأحبار"قال: ألمرجان "البسذ".

والصدف، وهو المحار، غشاء اللؤلؤ ويظهر أن أهل الجاهلية كانوا يرون إن السماء إذا أمطرت فتحت الأصداف أفواهها،فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ. وقد استفادوا من الصدف، إذ اتخذوا منه حلياً وزينة. وأكلوا ما في جوفها. وهناك ألفاظ تؤدي معنى الصدف،مثل الجُمّ، وهو صدف من أصداف البحر. و "القبقب " و "القنقن"ضرب من صدف البحر، يعلق على الصبيان من العين. و "الدوك"ضرب من صدف البحر، والدلاع ضرب من محار البحر.

وقد استفادوا من السلاحف، ولا سيما البحرية منها. استفادوا من هيكلها ومن لحمها، وعالجوا بعض الأمراض بدمها. وذكر أن "الغيلم"السلحفاة، وقيل الذكر منها. واتخذوأ من عصب السلحفاة ومن عظامها خرزاً يظنم منها القلائد والأسورة.

وفي جزيرة العرب حيوانات وحشية، منها ما كانت مؤذية وهي السباع. ومنها ما كانت تفيد الإنسان، إذ كان يصطادها ويأكلها: مثل الغزلان والظباء الوحشية، والبقر الوحشي، و "الناشط"هو الثور البري، والحمر الوحشية، والوعل، وقّد تمكن الإنسان من تأليف بعض هذه الحيوانات مثل الغزال والظبي، فرباها بمقياس صغير في البيوت وفي البساتين.

وتوجد القردة في مواضع من جبال السراة وفي العربية الجنوبية، وقد كانت تؤذي النبات والشجر.

وعرفت "النمور"في مواضع من جزيرة العرب، فقد ذكر العلماء إن في جبل " أقراح"نمور وأراوي، وان في جبل "شواحط"كثير من النمور والأراوي. والأروى أنثى الوعول وهي تيوس الجبل. وعرفت مواضع الأسود ب "مأسدة"، و منها "بيش""بيشة"باليمامة.

ويظهر إن أهل الجاهلية لم يستذوقوا لحم الخنزير، ولعل منهم من كان يحرم كله او يتجنبه. وقد ذكر إن الأحناف كانوا يحرمون أكله على أنفسهم، وان من سنن ابراهيم، تجنب أكل لحم الخنزير، غير إن النصارى العرب، ومنهم "تغلب"كانوا يأكلونه، وقد عيرهم غيرهم بأكله. ولا تجد في الشعر الجاهلي ولا في القصص اشارات إلى أكل أهل الجاهلية لحم الخنزير، ولا إلى تربيتهم له. ويظهر انهم كانوا يكرهونه، وإلا لما سكتت روايات أهل الأخبار عن ذكره، ولقام الرعاة بتربيته وبالعناية به، عنايتهم بالحيوانات الأخرى.

واستعان الجاهليون بالكلاب في الصيد، وهناك فصائل خاصة منها استخدمت في الصيد. كما استخدموها في حراسة الماشية، وفي الحرث.

وقد كانت الذئاب والسباع تؤذي الرعاة. تغتنم الفرص، فتهجم على ماشيتهم وتفترس ما تستطيع افتراسه منها. ولهذا كانوا إذا نزلوا أرضاً مسبعة، أي ذات سباع، خافوا منها، وأوقدوا بها ناراً في الليل، لطرد السباع عنهم، إذ كانت تخشى النار. واذا كثرت السباع في الطريق، قيل: أسبعت الطريق. والمسبوعة البقرة التي أكل السيع ولدها. ويقال للارض التي تكثر فيها الذئاب: أرض مذأبة، كقولك أرض مأسدة من الأسد، للارض التي تكثر فيها الأسود. وإذا جاع الذئب، صار شرساً جريئاً لا يهاب الإنسان، فيهجم على الغنم، مع وجود الرعاة معها، وقد يهاجم البشر. وقد تختقي الذئاب بالغضى، فيقال ذئاب الغضى.

وفي موضع يقال له "بستان ابن عامر"مأسدة. وهو مجتمعع النخلتين: النخلة اليمانية والشامية. و"عثر"مأسدة أيضاً باليمن، وقيل جبل بتبالة مأسدة. ومن مواضع الأسد: أسد خفّان، وأسد الشرى من بلاد لخم، وأسد حاملة، وأسد الملاحيظ، وأسد المقيضا، وأسد الكطاء، واسد تعشر، وأسد لية، وأسد حلية، وأسد السحول،وأسد عتود وغيرها. وهناك مواضع أخرى اشتهرت بوجود الوحش بها.

العلف

و "العلف"هو ما تأكله الماشية، وقوت الحيوان وقضيم الدابة. وبائعه العلاف. ومنه "القتّ"، الفصفصة، وقيل الرطب والبابس من العلف، وخص بعضهم به اليابس منه. و "الفصفصة"رطب القت. وفي الحديث: ليس في الفصافص صدقة. وهي الرطبة من علف الدواب، أي القت. واللفظة من المعربات، عربت من أصل فارسي، هو "اسبست"و "اسفست "والتبن من علف الماشيهَ، وكذلك "الحشيش"، وهو الكلأ اليابس. ذكر بعض علماء اللغة إن الحشيش لا يطلق على الكلأ الرطب، وقال بعض آخر: الحشيش: أخضر الكلأ ويابسه. وذكر بعض: إن العرب إذا أطلقوا اسم الحشيش، عنوا به الخليّ خاصة، وهو أجود علف يصلح الخيل عليه، وهو من خير مراعي النعم، وهو عروة في الجدب وعقدة في الأزمات. وقال بعض علماء اللغة: البقل أجمع رطباً ويابساً. حشيش وعلف وخلي. و "الخلي"، الرطب من النبات. وقيل: هو الحشيش الذي تحش من بقول الربيع، وقيل: هو النبات الرقيق ما دام رطباً. وقيل: كل بقلة قلعتها. وأخلت الأرض كثر خلاها.

وقد تعلف بعض الماشية شعيراً، مثل الخيول الأصيلة والبقرة الحلوب. وقد تعلف نخالة. وقد تمزج النخالة بالملح، لتقوية عظام الحيوان. وقد تعلف سمكاً مجففاً، أو طحين السمك المجفف، أو عظامه، وذلك كما فعل أهل العربية الجنوبية، لكثرة وجود السمك عندهم، فتصح أجسام ماشيتهم وتدر عليهم الحليب. ويعتنى بعلف الخيل الكريمة خاصة، حتى كان الرجل منهم يبيت طاوياً ويشبع فرسه، ويؤثره على نفسه وأهله وولده. وكانوا يعلفون خيولهم ذرة. قال "أبي بن خلف"لرسول الله "إن عندي فرساً أعلفه فرقاً من ذرة " وقد يكون العلف "سحالة"، والسحالة قشر البر والشعير ونحوه، وفد تحات من الدخن والذرة، وتقدم السحالة إلى الدجاج والطيور خاصة.

ومن علف الإبل "الخبط الملجون"، وهو ورق الشجر يخبط ثم يخلط بدقيق أو شعير فيعلف الإبل، وكل ورق أو نحوه، فهو ملجون أو لجين و الخليط من العلف طين مختلط بتبن، أو تبن مختلط بقت.

نجابة العرق

وللعرب عناية خاصة باًلأصل والعرق: عرق الإنسان وعرق الحيوان. فهم يضنون بذي العرق الكريم من أن يتصل بما دونه في الإصالة والنجابة لئلا يتردى نسله، وينحط عقبه. وكذلك كانوا يفعلون بالخيل والإبل. فهم يحافظون على ألشاب الكرم الأصيل النجيب من الجنسين، ويدوّنون شجرة النسب، ويحفظونها حفظهم لأنساب الناس. وكانوا يضنون بضراب الجمل وبعسب الحصان الأصيل، إلا إذا كانت الناقة أو الفرس من الأصائل النجبات. وقد كان بعضهم من يوافق على ضراب فحل نجيب لديه، إذا أعطى ثمناً يوافق عليه عن ذلك الضراب، لحاجته إلى المال.

وكان من شدة عنايتهم بالخيل والإبل، أنهم حفظوا أنسابها، ودونوا أسماء النابه منها، ووضعوا الكتب فيها، وقد طبعت بعض منها، وهي لمشاهر الأخباربين مثل ابن الكلبي. ولا زال العرب يعتنون بنسب فحول الخيل والإبل، ويدونون شجرة أنسابها ويحفظونها حفظ أنساب الناس.

ضراب الفحل

وكان منهم من يأخذ الكراء على ضراب الفحل. فيجعل على الضراب أجراً يتفق عليه. فينزو الفحل على الناقة في مقابل ذلك الأجر. وكانوا يزيدون في ثمن ضراب الجمل إذا كان أصيلاً معروفاً. وقد نهى الإسلام عن ثمن الضراب، وجعله من السحت. كما نهى عن عسب الفحل، أي ثمنه. و "العسب"، ضراب الفحل وطرقه، أو ماء الفحل فرساً كان أو بعيراً. واعطاء الكراء على الضراب، واسم الكراء الذي يؤخذ على ضرب الفحل. ويقال للضراب "الشبر" كذلك. وهو طرق الجمل وضرابه، وأخذ الكراء على ضراب الفحل والعادة عندهم انهم يستأجرون الفحل للضراب للناتج. وللفقهاء في جواز ذلك وعدمه أقوال.

الأمراض والأوبئة

ويصاب الحيوان كما يصاب الإنسان بالأمراض والأوبئة. وقد تفتك به فتكاً فتؤذي صاحبه، وتنزل به خسارة كبيرة، ولا سيما إذا كان ذلك الحيوان من الإبل. وقد يتأذى الحيوان من حيوان آخر فيهلكه، فقد تصيب بعض، الطيور الإبل فتؤذيها. وكل طائر يتطير منه للابل، فهو عرقوب، لأنه يعرقبها. وعرقبه قطع عرقوبه. وطير العراقيب الشقراق، تقول العرب: إِذا وقع الأخيل على البعر ليكشفن عرقوباه. مما يدل على أنه كان يؤذي الإبل. و "القراد"تعفن الإبل وتؤذيها، كما تؤذيَ غير الإبل من الحيوان أيضاً.

وقد تصاب الإبل ب "الهيام"، وهو داء يأخذ بها، فيصيبها مثل الحمى، ولذلك عرف ب "حمى الإبل". وقيل انه جنون يصيب الإبل فيهلكها. يصيبها في الموضع المهيم الموبئ، الذي تكون فيه نقوع ساكرة لا تجري ولذلك قال أهل الأخبار إن الهيام يحدث من ماء تشربه الإبل مستنقعاً وعن شرب النجل إذا كثر طحلبه واكتنفت الذبان به. وبتهامة مياه من هذا النوع.

و "النقبة"قرحة تخرج بالجنب، وجرب يصيب الإبل. "والنقر"، مرض يصيب الشاة.

وقد كانوا يتوسلون إلى الأصنام لتشفي ماشيتهم من أمراض قد تصاب بها. روي عن "ساعدة الهذلي"أنه قال: كنا عند صنمنا سواع، وقد جلبنا إليه غنماً لنا مائتي شاة قد أصابها جرب فأدنيتها منه أطلب بركتهه. فالأصنام تشفي من الأمراض وتبارك في الماشية وفي الإنسان على رأي الجاهليين.

الفصل الخامس والتسعون
الارض

والأرض هي مصدر الثراء والغنى للانسان، وعلى مقدار ما يملكه الإنسان من أرض، تكون ثروته ويكون غناه، وعلى قدر ما يبذله صاحب الأرض من جهد في استغلالها وفي تطويرها وفي استنباط ما في باطنها من خيرات يتوقف دخله منها وغلته التي تأتيه من أرضه هذه.

ولا تعرف ملكية الاْرض والماء، إلا بين الحضر. أما الأعراب، فإن هذه الملكية تكون عندها للقبيلة ولساداتها، حيث يحمون بعض الأرض، أو يستنبطون الماء من أرض موات لا ماء فيها، فتتحول الأرض بذلك إلى أرض نافعة ذات ماء، يبسط حافرها حمايته عليها ويجعلها ملكاً له، وقد يزرع عليها، فتصير الأرض التي يزرعها ملكاً له. وبهذه الطريقة تكونت الملكية بين القبائل.ولا يستطيع أن ينال من هذه الملكية بالطبع إلا المتمكن من أبناء القبيلة ومن ساداتها، من يتمكن بما لديه من مال وامكانيات من استنباط الماء ومن احياء الأرض واستغلالها بما عند من اموالٍ وعبيد.

ويكتسب هذا التملك صفة شرعية، إذ يعتبر ملكاً صرفاً لصاحبه، ليس لأحد حق منازعته عليه. ولمالكه أن يتصرف به كيف يشاء. له أن يبيعه، وله أن يبقيه، وان مات انتقلت ملكيته إلى ورثته.

فالأرض في معظم جزيرة العرب، حق عام مشاع لا تعود ملكيته لأحد. إلى إن صار الرعي، وأخذت القبائل تنتقل من مكان إلى مكان، ففرض سادتها حق الحمى، وهو نوع من التملك المتولد من حق الاستيلاء بسبب الزعامة والقوة والاغتصاب، فصار الحمى ملكاً لسادات القبائل، وصارت الأرض المتبقية التي دخلت في حوزة القبيلة بسبب بسطها سلطانها عليها، ملكاً لها. ملكاً مشاعاً بين جميع أبناء القبيلة، ليس لأحد صد أحد من أبناء قبيلته عن ارتياد أرضها، إلا بقانون القوة والعزة والتجبر، أو بفرض سلطانه على الأرض باستنباط مائها وهو حق لا يعمل به إلا القوي المتمكن.

ومن هذا الإحياء للارض الموات تكونت بعض المستوطنات في البوادي، جلب ظهور الماء فيها الناس إليها، فسكنوا حولها، وجاءوا من أطرافها للاستقاء من مائها، وشجع العثور عليه في هذا الموضع المتمكنين الآخرين على الحفر أيضاً، فكان إذا ظهر ماء عذب، جذب الناس إليه، وسحرهم بسحره، وأناخهم حوله، فتوسعت بذلك تلك المستوطنات، وتعددت،وظهرت فيها الملكية الفردية، والحياة الحضرية القائمة على الحيازة والتملك الفردي، بصورة أوسع مما نجدها عند البدوي الاعتيادي الذي لا يملك إلا بيته، وهو خيمته وأهله، وما قد يكون عنده من الإبل.

ظهور القرى

وصار بعض هذه المستوطنات قرى، توسع قسم منها حتى صار بمنزلة المدن، منها ما كان يضاهي "يثرب"أو مكة في الحجم، غير أنه لم يشتهر ولم يذكر، لعدم وجود تماس له وصلة مباشرة بتأريخ الإسلام. وهي مستوطنات سكن وماء وأسواق وتجارة، ذكرها أهل الأخبار بقولهم: "قرية كانت عظيمة الشأن " وبقولهم: "قرى"، وصار بعض منها "قرى وزروع ونخيل"، أي قرى غلبت الزراعة على أهلها، فظهرت الزراعة بها. زراعة نخيل، إن كانت زراعة النخيل هي الزراعة المتغلبة عليها، وزراعة نخيل وزروع أخرى، إن شاركت الزروع الأخرى النخيل في ذلك. وهذا هو سبب نص "الهمداني"وأمثاله ممن كتب عن مواضع جزيرة العرب، على القرى، بأنها قرى، أو قرى سكن، أو قرى نخيل، أو قرى زراعة ونخيل، أو نخل وقرية.

وأما القرى التي غلب التعدين عليها، فقد نص عليها بأنها "معدن"،لتمييزها عن القرى الأخرى.

وهكذا ظهرت في البوادي مستوطنات زراعية رعوية، كفت نفسها بنفسها، توقف حجمها على كمية الماء فيها، وتوقف انتاجها على مقداره وكمية، وظهرت فيها نتيجة لذلك الملكية الفردية، تملك المقيم فيها الأرض التي استقَر بها وبنى بيته عليها، وتملك زرعه وحاصله إن كان له زرع، وتملك ماشيته إن كان صاحب ماشية. وتولد نتيجة لكل ذلك مجتمع مستقر، تعاون فيما بينه في الدفاع عن نفسه وعن ماله، وفي جلب السلع التي يحتاج إليها الإنسان والميرة، وتولد فيها تعامل وبيع وشراء، توقف حجمه بالطبع على حجم ذلك المكان وعلى مقدار وجود الماء به.

فالبحث عن الماء والحصول عليه بالمال وبالخدم والعبيد،كوّن الملكيات الفردية في الوادي بين الأعراب، وأوجد المستوطنات الحضرية والمستقرات، وصير من بعض البدر حضراً أو أشباه حضر، وغيرّ بعض التغيير من معاييرهم ومقاييسهم الاجتماعية، بجعلهم زراعاً وفلاحين، بعد كره واستهجان للمزارع وللزراعة. وهذه المستوطنات هي مستوطنات نشأت وظهرت بجهد الإنسان. وبعمله وجدّه، وبأستثمار عقله وماله وفي تسخير أتباعه في استنباط الماء، وتحويل الأرض البكر إلى أرض زراعة وسكن، وفي جزيرة العرب مستوطنات عديدة من هذا القبيل، ومعظم مستوطنات يثرب، هي من هذا النوع، مستوطنات قامت على الآبار التي احتفرها المتمكنون من أهلها، فزرعوها وأقاموا الأطم بها لحماية الزرع والناس من الأخطار. والأطم القصور، وكل حصنُ بني بالحجارة أطم. وقيل هو كل بيت مربع مسطح. وقد اشتهرت يثرب باطامها. وذكر "الأعشى" آطام جو بقوله: فلما أتت آطام جوّ وأهلـه  أنيخت فألقت رحلها بفنائكا 

وأقيمت الحصون لحماية هذه المستوطنات، واتخذت وسائل التحصن الأخرى لحماية النفس والزرع من الأعراب الجياع. ولا تزال في اليمامة اثار حصون وآطام عادية، تعود إلى ما قبل الإسلام بأمد. وكانت حماية ومنعة للساكنين حولها، وتشاهد آثار السكن في أطرافها، وآثار آبار مندرسة، وآثار زرع، هي مزارع القوم، فنجد في الافلاج حصوناً، ونجد في "ملهم"حصونا كان يتحصن بها "بنو يشكر"، ونجد في أرضين أخرى حصوناً بنيت كلها لدرء النفس من الأخطار واليمامة حصون متفرقة ونخل ورياض، وفيها بتل، والبتيل، هن مربع مثل الصومعة مستطيل في الحماء من طين، ويرجع أهل الأخبار زمانها إلى "طسم"و "جديس"، وذكروا أن طول بعضها خمسمائة ذراع.

وقد أشار أهل الأخبار إلى قرى ومستوطنات قديمة في مواضع متعددة من جزيرة العرب، نسبوها إلى "عاد" والى "طسم"و "جديس"لبعض منها حصون وآبار. فالقرية موضع قديم به ماء عادي، أي ماء قديم، إلى جنبه آبار عادية وكنيسة منحوتة في ااصخر.والقصر العادي بالأثل من عهد طسم وجديسْ، و "القرية": القرية الخضراء، خضراء حجر، هي حضور لطسم وجديس، وفيها حصونهم وبتلهم. والبتيل: هنّ مربع مثل الصومعة مستطيل في السماء من طين. بناء بعضه مائتا ذراع أو خمسمائة ذراع مرتفعاً سامقاً في السماء، وبقرية بني سدوس، قصر مبني بصخر منحوت، نسبه أهل الأخبار إلى "سليمان بن داوود". و "تر" نخيل وحصون عادية وغير عادية.

إلى غير ذلك من قرى وقصور وحصون قديمة ذكرها أهل الأخبار، أشرت الى بعض منها في مواضع من هذا الكتاب، نشأت ونبتت في البوادي، في المواضع التي أمكن للانسان بفنه البدائي وبعلمه في ذلك الوقت من استنباط الماء فيها. وبظهور ذلك الماء نبتت مستوطنات وزروع ونخيل وملكيات في أرض كانت ميتة ليس لها مالك، فأحياها استنباط الماء منها، وجعلها ملكاً لأصحاب الماء.

وقد كانت هذه الآطام والحصون معاقل لأصحاب الأرض ومنازل لهم، ومخازن يخزنون بها حاصل أرضهم وماشيتهم عند دنو الخطر، وقد يحتمي بها عبيدهم وأتباعهم فهي مثل، قلاع الأشراف النبلاء في أوروبة أيام الاقطاع ومثل المحافد والقصور في اليمن. وهي تختلف في الحجم والسعة باختلاف درجة ومنزلة المالك للأرض، من حيث تملكه للمال وللخدم والعبيد وما عنده من ثراء، وقد صارت سبباً في تحويل أصحابها الى حضر أو شبه حضر، ولو انهم كانوا وسط بواد وبين أعراب، فإقامتهم. في أبنية مستقرة وحرثهيم الأرض وزرعها، واستخدامهيم للعبيد في الفلاحة، طورتهم بعض التطوير، حى صاروا على شاكلة الحضر، يتركون منازلهم لزيارة القرى والأرياف، ويتصلون بالحضر وقد يقيمون بينهم على نحو ما يفعله كثير من سادات "شيوخ"القبائل في الوقت الحاضر، وكان جلّ سادات القبائل الكبار من أصحاب الأبنية الثابتة، لهم منازلهم ومزارعهم وأعرابهم الذين لم تمكنهم أحوالهم المادية من تملك الأرض والزرع، فاشتغلوا برعي الإبل، وقد تتعرض مزارع هذه المستوطنات إلى الأخطار مع وجود الحصون وأبنية الحماية الأخرى، فالمزارع الكبيرة لا يمكن حمايتها إلا إذا حميت في حصون عديدة من جميع جهاتها وحمايتها على هذا النحو عمل مكلف باهظ. لذلك كان المهاجم يهاجم الزرع ليحرق قلوب أصحابه المتحصنون في الحصن، فلما هاجم "بنو يربوع""بني يشكر"، تحصن "بنو يشكر"بحصنهم بقريش "ملهم"، فأحرق "بنو يربوع"بعض، زرعهم، وعقروا بعض نخلهم، فلما رأى القوم ذلك نزلوا اليهم فقاتلوهم.

وقد اتخذ المزارعون ملاجىء لهم عند أماكن زرعهم يأوون إليها لحماية أنفسهم من أشعة الشمس ومن المطر والعواصف، وكانوا يسكنون بها، كانت هذه سنتهم في الجاهلية وفي الإسلام. وقد ذكر مؤلف "بلاد العرب"أن بروضة السويس قبتين مبنيتين يسكنها الزراعون.

وقد أولد هذا المجتمع تبايناً في منازل الناس، جعل من أصحاب الأرض الكبيرة ملاكاً كباراً لهم أطم وحصون، يأوون إليها، ولهم خدم يخدمونهم ويخدمون زرعهم وماشيتهم، هم العنصر المنتج، والآلة التي تساعد على الانتاج وعلى تكثيره، وعلى تزييد أموال الملاّك، أما هم أنفسم فمجرد خدم ورقيق، خلقوا لخدمة سادتهم ووجدوا لرعاية أموالهم والعناية بزرعهم وتكثر رزقهم. و،إلى جانب هؤلاء أناس أحرار، كان في رزقهم شحّ، وفي حياتهم عسر، وقوتهم قليل و قاموا بمختلف الأعمال والحرف لإعالة أنفسهم وسدّ رمقهم.

وقد تمكنت بعض هذه المستوطنات من انتاج حاصل زراعي سد حاجة أهل المستوطنة، ومن بيع الفائض منها الأعراب. وبينها مستوطنات زرعت الحبوب، مثل الحنطة وصدرتها إلى أماكن أخرى. فقد ذكر إن قرى اليمامة كانت تمون مكة بالحبّ، وتمون الأعراب بالتمور. وما هذه القرى سوى مستوطنات، ظهرت في البوادي بسبب وجود الماء فيها، وبسسب استنباطه من الأرض بحفر الابار، فنمت وتوسعت، لاتساع صدر الماء بها، ولتفضل الأرض على من نزل بها باعطائهم ماءاً كافياً، كفاية تساعد على توسع المستوطنة، فيما لو عمل النازلون بها على استنباطه من باطنها، واستعملوا عقولهم وأيديهم في استغلال التربة للحصول على موارد الرزق منها.

وتحدد الأرض المملوكة بحدود، وقد توضع على أطرافها علامات، لتكون حدودها معلومة، فلا يتجاوز عليها. ويقال للحد بين الدارين، أو بين الآرضين "الجماد". وقد أشير إلى "الجوامد"، أي الحدود في الحديث. ورد اذا وقعت الجوامد فلا شفعة في الحدود.

والأرض، عامر أو غامر، والعامر المأهول والمزروع والمستغل، والغامر خلاف العامر، وهو الخراب. وقد قسم "عمر"السواد إلى عامر وغامر، أي عامر وخراب. والغامر الأرض ما لم تستخرج حتى تصلح للزراعة والغرس، وقيل: هو ما لم يزرع مما يحتمل الزراعة. واتما قيل له غامر، لأن الماء يبلغه فيغمره. ويقال للارض العامرة: "السوداء"، وأرض سوداء، أرض مغروسة، والأرض في عرف العرب إذا غرست اسودت واخضرت، و "البيضاء" الخراب من الأرض، لأن الموات من الأرض يكون أبيض.

والبور: الأرض قبل أن تصلح للزرع، وقيل: هي الأرض التي لم تزرع،أو الأرض كلها قبل أن تستخرج حتى تصلح للزرع أو الغرس. وفي كتاب النبي لأكيدر دومة: ولكم البور والمعامى وأغفال الأرض. فالبور الأرض الخراب التي لم تزرع،أو هي التي تجم سنة لتزرع من قابل. وذكر أن المعامى الأعلام من الأرض ما لا حدّ له. والأغفال ما لا يقال على حده من الأرض. والمعامى على حدّ قول بعض العلماء أغفال الأرض التي لا عمارة بها، أو لا أثر للمارة بها. والغفل: ما لا عمارة فيه من الأرضين، وقيل الموات، وأرض غفل لا علم بها ولا أثر عمارة، وأرض سبب ميتة لا علامة فيها، وكل ما لاعلامة فيه ولا أثر عمارة من الأرضين والطرق ونحوها غفل، وبلاد أغفال لا أعلام فيها يهتدى بها. وقد ورد في كتاب الرسول إلى الأكيدر: "أن له الضاحية والبور والمعامى وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور".

والضاحية ما كان خارج السور من النخل، والضاحية البادية، وضواحي قريش النازلون بظواهر مكة.

والعامر، إما ملك للحكومة، وإما ملك للملوك ولذويهم، وإما ملك للمعبد،أي اوقاف حبست على المعابد، وإما ملك لأسر وأفراد، وذلك بالنسبة للحضر،وفي العربية الجنوبية بصورة خاصة. وأما بالنسبة إلى الأعراب، سكنة البوادي، فأرض القبيلة - كما سبق إن قلت - ملك لها، إلا ما حمى منها. فهو من حق أصحاب الإحماء. فالأرض أذن مشاعة بين أبناء القبيلة، ويدخل في ذلك الماء و الكلأ.

وقد عبر في أحد النصوص عن الأرض التي آلت إلى صاحبها بطريق التملك ب "مقبلت قنيو""، أي الأرض التي أقبلت إلى الشخص بطريق الملكية. ومعناها الأرض المقتناة أي الملك. وهي أرض ملكها صاحبها إرثاً من أهله،وذلك تمييزأَ لها عن الأرض التي يتملكها صاحبها شراءً، وقد عبر عنها ب "شامتهو"، أي الأرض المشتراة.

وتعد كل الأرضين التي لا تملكها الجهات المذكورة ملكاً للدولة. ورقبتها بيد الحكومة، وتسجل باسم الشعب الحاكم. فإذا كانت الحكومة حكومة معين، تسجل الأرض باسم شعب معين، وإذا كانت الأرض في سبأ، تسجل باسم شعب سبأ، وقد توسعت رقعة الأرضين الحكومية بالفتوحات الواسعة التي تمت في عهد الملك "كرب ايل وتر"،وفي عهود الملوك المحاربين مثل "شمر يهرعش"الذين إذا انتصروا على خصومهم جعلوا أرضهم وما يملكونه غنيمة لحكومتهم، تابعة لبيت المال. وذلك على نحو ما فعله المسلمون في الفتوحات من تسجيلهم الأرضين التي فتحوها بأسم "بيت مال المسلمين".

وقد تؤجر أرض التاج للقبائل والعشائر بعقد يتفق عليه، تذكر فيه شروطه في الوثاثق التي تدوّن لهذه الغاية، ويتم الدفع بموجبها، فيكون إما عيناً، وإما نقداً. وقد يقوم سادات القبائل باستغلال الأرضين المؤجرة على حسابهم، وقد يؤجرونها أو يؤجرون أجزاءً منها إلى حاشيتهم أو أتباعهم في مقابل جعل يدفع لهم. فيكون دخلهم من هذه الأرض المؤجرة من العوائد التي اتفقوا على استحصالها من المستأجرين الثانويين ومن صغار الفلاحين.

وقد كان الفلاح مغبوناً في الأكثر، لأنه بحكم فقره واضطراره إلى استئجار الأرض بشروط صعبة في الغالب، مضطر إلى الاستدانة في أغلب الأحيان، لضمان معيشته في مقابل تعهد بدفع ما استدانه في آخر موسم الحصاد وقطف الثمر فإذا حقّ ألاجل، اضطر إلى دفع ديونه وما ترتب عليها من ربا فاحش، وما عليه من حق للحكومة ولصاحب الأرض، فلا يتبقى لديه ما يكفيه في عامه الجديد، فيضطر إلى تجديد الاستدانة، والغالب أن أصحاب الأرض هو الذين يقومون بتقديم الديون الى الفلاحين، لربطهم طول حياتهم بالأرض، فلايتمكن الفلاح من الهروب منها بسبب ثقل ما عليه من الديون، ووجوب دفعها مع فائضها كاملة إن أراد تركها، وهو حلّ لا يتمكن من تنفيذه، فيظل لذلك مرتبطاً مع عائلته بأرض المالك صاحب الديون.

وكانت حكومة سبأ تستغل أرضها الخاضعة للخزينة العامة، أي "أرض السلطان"، إما بأدارتها نفسها وباستغلالها بتشغيل المزارعين بها على حساب الدولة، وإما بيعها، وإما بتأجيرها في مقابل "أجر"يقال له، "اثوبت"في لغتهم.

وامتلكت المعابد أرضين واسعة شاسعة، استغلتها باسم الآلهة، ودرّت عليهم أرباحاً كثيرة. وهي أرضين سجلت بأسمها منذ نشأت المعابد وظهرت، فارتبطت بها، وصارت وقفاً عليها. منها ما سجل في عهد "المكربين"أي حكومات رجال الدين في العربية الجنوبية، يوم كان "المكرب"هو رجل الدين والحاكم الدنيوي، فكانت نظرتهم إن الأرض وما عليها ملك للآلهة. ورجال الدين الحكام هم خلفاء الآلهة على الأرض، وهم وحدهم لهم حق الحكم والفصل بين البشر، وما يقرونه حق، وما يخانفونه ويحرمونه فهو باطل. وهم الذين يفصلون بين الحرام وبين الحلال، ويقررون ما يوافق حكم الآلهة رما يخالفه. فهم حكام الشرع و القانون.

وكانت للمعابد الأخرى أحباس خصصت بها، وحميت للمعبد ولما ينذر له ويحبس عليه من حيوان يرعى فيه، فلا يتطاول عليه أحد. وقد سبق إن تحدثت عن حرم "العزى"، وهو شعب حمته قريش للصنم، يقال له "سقام"في وادي حراض، وقد كان حرماً آمناً، لا يجوز قطع شجره ولا الاعتداء على ما يكون فيه من انسان وحيوان. وهو قرب مكة بين "المشاش"و "الغمير" فوق ذات عرق، الى البستان، وقيل بالنخلة الشامية. كما كان بيت الحرام، حرم واسع به شجر وزرع، سبق إن تحدثت عنه.

وقد وجدت في بعض المناطق، مثل أرض قبيلة "بكل""بكيل"، أملاك واسعة حبست على "المقه"، كانت تديرها وتتصرف بها عشيرة "مرثد"،ووجدت أرضون واسعة في مناطق أخرى، جعلت المعبد من أكبر ملاك الأرض.

وقد استغل المعبد بنفسه بعض أملاكه، وأجر بعضاً آخر للاسر المتنفذه ولسادات القبائل، بموجب اتفاقات دونت وحفظت في خزائن المعابد. وقد كان المتنفذون قد استولوا على بعض حبوس المعابد، واستغلوها، ولما كانوا أقوياء،والأوقاف في مناطق نفوذهم، ولا يمكن للمعبد أن ينتزعها منهم، اضطر إلى تأجيرها لهم ببدل ايجار رمزي، ليحافظ بذلك على اسم وقفه، فلا يستبد أولئك السادة به، ويسجلونه ملكاً بأسمه. فصارت هذه الأملاك من أملاك المعبد بالأسم، ومن أملاك إلملاك الأقوياء بالفعل.

ولا نجد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد بوجود حبوس كبيرة وكثيرة على المعابد في العربية الغربية أو العربية الوسطى أو العربية الشرقية، على نحو ما وجدناه في اليمن، ويعود سبب ذلك في رأيي إلى صغر مساحات الأرضين الخصبة المزروعة في هذه الأقسام، والى قلة الماء فيها، مما جعل من الصعب على الناس التخلي عن أرضين كبيرة للمعبد. بل ترينا أخبارهم إن أهل هذه المناطق كانوا لا يتئثمون أحياناً من التطاول على "حرم"المعابد، فكانوا يقطعون شجره ويستقطعون قطعاً من أرضه لأتخاذها منازل لهم كالذي حدث ل"حرم"بيت الله.

وقد كان الملوك وكبار الملاك يقطعون أرضهم اقطاعات لاستغلالها. ويعبر عن ذلك بلفظة "بضع"في المسند، أي القطعة. وقد يراد بها الأرض المعطاة لجماعة لاستغلالها في الزراعة.

وفي أواخر عصور الملكية في سبأ، نجد طبقة الاْشراف وسادات "الأعراب " "اعربم"والقبائل وقد ازداد نفوذها وقوي سلطانها، فنازعت الملك على صلاحياته في بعض الأحيان. وصار لرؤساء القبائل نفوذ قوي في المملكة، حتى قلصت حكم ال "مزود"واستأثرت بالأرض، واحتكرتها، فاضطر الملوك إلى النزول عن حقهم في الأرضين إلى أولئك الرؤساء في مقابل اتفاقيات تحدد الواجبات والمبالغ التي يجب على رئيس القبيلة أن يقدمها الى الملك في مقابل استغلاله للأرض، ويقوم الرئيس بإيجار أرضه لأتباعه المتنفذين في القبيلة أو لأفراد قبيلته الاعتياديين، يتقاضى على ذلك أجراً يتفق عليه، باهظاً مرهقاً للفلاح المسكين الذي لا يملك في العادة أرضاً، فتحولت العربية الجنوبية بذك الى دولة اقطاعية، أرباحها وحاصلها ونتاجها وقف وإقطاع لطبقات معينة متنفذه.

وفي جملة تلك الواجبات تقديم عدد يتفق عليه من أتباع من حصل على أرض حكومية للقيام بالخدمات العسكرية، ووجوب الدفاع عن الحكومة عند ظهور خطر عليها. فيقوم إلمقتطع للارض بإرسال رجاله على حسابه للدفاع عن الملك. وبذلك صارت جيوش الملك مؤلفة من جنود مرتزقة وجنود أرسلوا إلى القتال إرسالاً بأمر سادتهم تنفيذاً لالتزاماتهم التي ألزموا أنفسهم بها مع الملوك.

وممكن حصر الأشخاص الذين تمتعوا بنعم الاقطاع وامتيازاته بالملوك وبذويهم،والملك هو الراعي الشرعي للحق العام، وهو الناظر والوصي لأرض الدولة، وهو بهذه الصفة يصطفي لنفسه ولأولاده ولأهله خيرة الأرضين، ثم يليه من بعده رجال الدين الناطقون باسم الآلهة، وهم في نظر الشرع، أي الدين أصحاب الأرض، لأن الأرض ملك للآلهة. ثم يليهم قادة الجيش وصفوة الملوك وكبار الحكام، والسادات. سادات الحضر وسادات القبائل. أما السواد، وهم غالبية الناس، فليس منهم من يملك إلا المساحات الصغيرة من الأرض، وإلا البيوت، وأغلب الباقين عالة على غيرهم، يتعيشون باستعمال أيديهم في كسب قوتهم وقد يؤجر سيد القبيلة أو سادات الأرض ما استحوذوا عليه من الحكومة من أرضين إلى أناس غرباء أجراء أم إلى قبائل أخرى، في مقابل شروط يعينها، فيستغلون الأرض بموجبها، ويكونون عندئذ في حمايته وفي رحمته ورعايته،فيعاملون عندئذ وكأنهم فرع من فروع قبيلة صاحب الأرض. واذا استمر العقد، فقد يدمجهم الزمن في قبيلة سيد الأرض فيعدّون منها، وينسبون إليها، مع انهم غرباء عنها. ومن هنا نرى إن القبائل في العربية الجنوبية، لم تكن على نحو ما نفهمه من معنى القبيلة، من إنها بنو أب واحد، وأصحاب نسب واحد يصعد حتى يتصل بجد، بل قد تكون من قبائل وعشائر مختلفة ومن جماعات عمل، تمثل مختلف الحرف، انضمت إلى قبيلة كبيرة، أو إلى ملاّك كبير، للعمل في أرضه أو لأداء خدمات له، فلما طال بها المقام اندمجت في القبيلة الكبيرة، أو في قبيلة الملاك الكبير، فعدّت منها، أو في آل وأتباع صاحب الأرض، فعدّوا من أتباعه، ونسبوا إليه، حتى إذا طال الزمن وتقادم العهد، صار ذلك الرئيس جداً لهم، وعدّ نسبهم منه.

ولما ظهر الإسلام، كان الأقيال وسادات القبائل قد استبدوا بالأمر وتحكموا في رقاب الأرض، واقطعوها فيما بينهم، ولقب بعضهم كما سبق أن تحدثت عن ذلك أنفسهم بألقاب الملوك. ومن هؤلاء "بنو وليعة".ملوك حضرموت: "حمدة"، و "مخوس"، و "مشرح"، و "أبضعة". و "الحار ث ابن عبد كلال"، و "نعيم بن عبد كلال"، و "النعمان"قيل ذي دعين "ذي يزن"ومعافر وهمدان وشريح بن عبد كلال، وزرعة ذي رعين. و "جيفر بن الجلندي"و "عبد بن الجلندي"وهما من الأزد. وكان "جيفر"، يلقب نفسه بلقب ملك عمان. و "ذو الكُلاع بن ناكور بن حبيب بن مالك ابن حسان بن تبع"، و "ذو عمرو"، و "معدي كرب بن أبرهة"صاحب خولان. و "ربيعة بن ذي مرحب"الحضرمي، وآل ذي مرحب، وكانوا يملكون الأموال والنحل والرقيق والابار والمياه والسواقي والشراجع بحضرموت، و "وائل بن حجر"، من كندة حضرموت، وكان يملك الأرضين والحصون والأودية، وكان "الأشعث"وغيره من كندة ينازعونه في واد.

ويقال لتقديم الفلاح أو المستأجر لأرض ما،ما عليه من حقوق تجاه الحكومة،التي استأجر الأرض منها، أو صاحب الملك، الذي استأجر أرضه لزراعتها، "دعتم""دعت"، أي "غلة"، تسلم إلى وكلاء الحكومة أو صاحب الأرض عن حقهم المتفق عليه.

وتعرف الأرضون الحكومية التي تعطى باللزمة والإجارة لمن لايملكها ب "مقبلت "و "قبلت"، و "مقبل"، من أصل "قبل". تعطى في مقابل تعهد يتعهد الملتزم والمؤجر بدفع مبلغ معين أو حصة معينة إلى الملك أو ممثليه من الموظفين أو أصحاب الأرض، وذلك في مقابل استغلاله للارض. وقد تدون شروط الأتفاق وتثبت ليرجع إليها إذا حدث اختلاف.

وقد صالح الرسول أهل خيبر، على حقن دمائهم، وعلى إن يقوموا على النخل والزرع، لأن لهم علماً باصلاح الأرض وخدمة الزرع، ولم يكن لرسول الله وأصحابه غلمان يقومون بذلك، فأعطاهم خيبر على إن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما. فبقوا يستغلونها على نصف ما خرج منها، فكان "الخارص"يأتي اليهم عند الموسم يخرج ما يخرج منها، فيأخذ النصف، ويترك النصف الآخر لليهود. وصالح الرسول أهل "فدك"على نصف الأرض بتربتها، وعلى نصف النخل.

عقود الوتف

وقد وصلت الينا وثاثق مهمة تتضمن عقوداً في استغلال الأرضين، عرفت باسم "وتفم""وتف". وهي عقود تبين إن الحكومة كانت تؤجر الأرض لمن يريدها في مقابل حقوق يقدمها إليها. وتشمل عقد الوشف، العقود التي عقدت بين المعبد والوجهاء وسادات القبائل أيضاً، والعقود التي عقدها كبار أصحاب الآملاك الذين فاضت أملاكهم عن حاجتهم الى المحتاجن إليها في مقابل شروط اتفق عليها دونت في "الوتف".

وقد عثر على نصوص "وتف"ورد فيها اسم "مرثد". مما يدل على أن"بني مرثد"هؤلاء كانوا يستأجرون الأرضين لاستغلالها، في مقابل تعهدات خاصة يقدمونها إلى أصحاب الأرض. وتتناول معظم هذه. العقود "الوتف"استئجار أرضين خاضعة للحكومة وأرضين هي من أوقاف المعابد. وجدت المعابد أن من الصعب عليها ادارتها فأجرتها إلى "بني مرثد"لاستغلالها، وقد قام "بنو مرثد"بتأجير قسم منها إلى غيرهم من العشائر التابعة لهم في مقابل جعل يقدمونه لهم،يزيد على مقدار بدل الإجارة المتفق عليه مع المعبد، وبذلك استفادوا من الفرق بنِ بدل الإجاربين.

ولدينا جملة نصوص "وتف"يفهم منها أن بعض المتعاقدين من مستأجري أملاك المعبد قد قدّموا نذوراً وذبائح إلى الآلهة التي أوقفت عليها الأرض المستأجرة لأنها أعطتهم غلة طيبة وحاصلاً وافراً طيباً بعد فقر وجوع. ويظهر من بعضها أن أولئك المستأجرين المتعاقدين كانوا قد تهاونوا في تنفيذ ما ورد في العقد، أو أنهم أخلوا بها عمداً، فلم ينفذوا ما جاء فيها، واتفق أن نزلت آفات طبيعية بزروعهم، مثل جفاف أتلف معظم حاصلهم، ففشا الجوع بينهم، ففسروا ذلك على أنه غضب حلّ بهم من آلهتهم، وانتقام نزل بهم منها. ولهذا كفّروا عن ذنوبهم وتابوا مما ارتكبوه من آثام، بعدم تنفيذهم تلك الاتفاقيات، وعاهدوا آلهتهم على ترضيتها وتقديم الذبائح إليها في كل عام بأنتظام، إن هي غفرت لهم قبح أعمالهم، وباركت في زروعهم، وهم في مقابل ذلك سيوفون بالعهد، ويؤدون ما فرض عليهم من "الوتف"كاملاً غير منقوص.

وقد استغلت الأرض في العربية الجنوبية، ولا سيما في اليمن استغلالاً حسناً بالنسبة إلى باقي أنحاء جزيرة العرب، وذلك لسقوط المطر الموسمي بها بكميات مناسبة للزراعة، ولوجود موارد طبيعية للمياه بكثره فيها بالقياس إلى المواضع الأخرى من جزيرة العرب، ثم لوجود فجوات ومنخفصات بين الجبال والهضاب ساعدت على خزن مياه الأمطار بها، كما ساعدت على اقامة السدود في أفواه الأودية لحصر المياه في المنخفضات ومنعها من السيلان إلى البحر. وبسبب هذه الميزات ظهر في اليمن اقتصاد زراعي وحاصل زراعي،أمكن استغلاله في الداخل، وتصدير الفائض منه الى الخارج.

الاقطاع

الاقطاع في الإسلام يكون تمليكاً ويكون غير تمليلك. والقطائع انما تجوز في عفو البلاد التي لا ملك لأحد فيها ولا عمارة فيها لأحد، وفيما ليس بمملوك كبطون الأودية والجبال، والموات، فيقطع الإمام المستقطع منها قدر ما يتهيأ له عمارته بأجراء الماء إليه أو باستخراج عين منه، او بتحجر عليه للبناء فيه. ومن الاقطاع اقطاع ارفاق لا تمليك كالمقاعدة بالأسواق التي هي طرق المسلمين، فمن قعد في موضع منها كان له بقدر ما يصلح له ما كان مقيماً فيه، فإذا فارقه لم يكن له منع غيره منه، كأبنية العرب وفساطيطهم، فإذا انتجعوا لم يملكوا بها حيث نزلوا منها، ومنها اقطاع السكنى. وفي الحديث: لما قدم النبي المدينة أقطع الناس الدور، معناه أنزلهم في دور الأنصار يسكنونها معهم، ثم يتحولون عنها. ومنه الحديث، انه أقطع الزبير نخلاً،يشبه انه انما أعطاه ذلك من الخمس الذي هو سهمه، لأن النخل مال ظاهر العين حاضر النفع، فلا يجوز اقطاعه. وأما اقطاع الموات، فهو تمليك.

وهر ضربان: إقطاع تمليك وإقطاع استغلال. فلما اقطاع التمليك فتنقسم فيه الأرض المقطعة ثلاثة أقسام: موات وعامر ومعادن. فأما الموات، فعلى ضربين: احدهما ما لم يزل مواتاً على قديم الدهر فلم تجر فيه عمارة ولا يثبت عليه ملك، فهذا الذي يجوز للسلطان إن يقطعه من يحييه ومن يعمره، والضرب الثاني من الموات ما كان عامراً، فصار مواتاً عاطلاً. وذلك ضربان: أحدهما ما كان جاهلياً،فهو كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة، ويجوز اقطاعه. والضرب الثاني ما كان إسلامياً جرى عليه ملك المسلمين ثم خرب حتى صار مواتاً عاطلاّ وقد اختلف فيه الفقهاء.

وأما العامر فضربان: أحدهما ما تعين مالكه فلا نظر للسلطان فيه، والضرب الثاني من العامر ما لم يتعين مالكوه ولم يتميز مستحقوه، وهو على ثلاثة أقسام: تكلم فيها الفقهاء.

وأما اقطاع الاستغلال فعلى ضربين: عشر وخراج. فاما العشر: فإقطاعه لا يجوز. وأما الخراج، فيختلف حكم اقطاعه باختلاف حال مقطعه، وله ثلاثة أحوال، ذكرت في كتب الفقه.

وأما اقطاع المعادن، فهو ضربان، ظاهرة وباطنة، فأما الظاهرة، كمعادن الكحل والملح والقار والنفط، وهو كالماء الذي لا يجوز اقطاعه والناس فيه سواء يأخذه من ورد إليه. وأما المعادن الباطنية، ففي جواز اقطاعها قولان: أحدهما لا يجوز كالمعادن الظاهرة، وكل الناس فيها شرعَ. والقول الثاني: يجوز اقطاعها. وفي حكمه قولان: أحدهما أنه إقطاع تمليك يصير به المقطع مالكاً لرقبة المعدن كسائر أمواله في حال عمله وبعد قطعه يجوز له بيعه في حياته وينتقل إلى ورثته بعد موته. والقول الثاني أنه اقطاع ارفاق لا يملك فيه رقبة المعدن ويملك به الارتفاق بالعمل فيه مدة مقامه عليه، وليس لأحد أن ينازعه فيه ما أقام على العمل، فإذا تركه زال حكم الاقطاع عنه وعاد إلى حال الإباحة. فإذا أحيا مواتاً بالإقطاع أو غير اقطاع فظهر فيه بالإحياء معدن ظاهر أو باطن ملكه المعجبي على التأييد كما يملك ما استنبطه من العيون واحتفره من الآبار. واما الاقطاع عند أهل الجاهلية، فكان معروفاً عندهم، وقد أشير إليه في نصوص المسند. وقد كان اقطاع تمليك، واقطاع استغلال.

فأما اقطاع التمليك، فيشمل الموات والعامر والمعادن. وقد أقطع الحكام في كل هذه الأقسام الثلاثة. فكان الملوك، يهبون الموات أو العامر إلى من يريدون من أقربائهم أو قواد جيوشهم أو سادات القبائل، أو كبار الموظفين ومن يرضون عنه. يعطونهم أرضاٌ مواتاً لا أصحاب لها، أو أرضاً عامرة لها أصحاب وملاّك. فقد كانوا محاربون، فإذا انتصروا اصطفوا لأنفسهم ما أحبوا من أرض مملوكة للدولة أو للأشخاص، فسجلوه ملكهاً باسملهم، وأعطوا ما شاءوا الى خاصتهم وذوي رحمهم وقواد جيشهم، ملكاً لهم، يملكون رقبته وكل ما عليه من شجر ونبات وماء ومعادن ورقيق وأناس، لا ينازعهم في ذلك منازع،لهم حق بيعه إن شاءوا، أو حق ايجاره، أو اعطائه لأي شخص آخر لاستغلاله، وإن وجدت فيه معادن، فهي لهم أيضاً.

وقد يغضب ملك أو أي حاكم متفرد بأمره على من هو من تبعته، فينتزع منه ملكه، ويستولي عليه وعلى كل ما عليه، وقد يقطعه كله أو جزءاً منه أحد خاصته، أو يقطعه اقطاعاً، لجملة أشخاص هبة أي تمليكاً، أو غير تمليك، أي عارية، رقبته للحاكم، ومنفعه لمن أقطع له إلى أجل معين أو إلى أجل غير محدود، يكون له ولورثته حق الانتفاع منه. والحاكم الذي يقطع الإقطاع لمن يشاء ويهب الأرض لمن يحب، لا يعجز عن استعادة ما أقتطعه تمليكاً أو استغلالاً متى أحب، فهو الامر بأمره والناهي، لا يعارضه معارض، متى أراد الاستيلاء على أرض أو على اقطاع اقطعه أحداً، أمر بالاستيلاء عليه، فيطاع أمره وينفذ ما دام قوياً له الحول والطول.

ولا يعني الاقطاع عند الجاهليين وجوب وجود العبيد أو الأقنان في الأرض لأستغلالها ولإعمارها، فقد يتعامل الاقطاعي، مع أجراء أو أحرار يتفقون معه على استثمارها في مقابل حقوق يدفعونها له. أما إذا كان متمكناً غنياً له خدم ورقيق وأتباع، فقد يستخدمهم في خدمة ملكه بأجر او بغير اجر، حسب مبلغ هيمنته عليهم ومقدار نفوذه بين قومه واهله.

وقد عرف اقطاع المعادن عند الجاهليين، ما ظهر من المعادن، وما بطن. ويظهر إن أهل اليمن لم يكونوا يفرقون في الاقطاع بين النوعين من المعدن. فكانوا يقطعون المعادن الظاهرة، مثل الذهب والملح، كما كانوا يقطعون المعادن الباطنة، أي المعادن التي يكون جوهرها مستكناً فيها، لا يوصل إليه إلا بالعمل، كمعادن الذهب والفضة والصفر والحديد، فهذه معادن باطنة سواء احتاج المأخوذ منها إلى سبك وتخليص أو لم يحتج، في حين أن المعادن الظاهرة، ظاهرة على سطح الأرض، ولا يبذل لأخراجها ما يبذل في اخراج المعادن الباطنة. أما الإسلام، فقد جعل حكم المعادن الظاهرة حكم الماء العدّ من ورده أخذه، لا يجوز اقطاعه والناس فيه سواء يأخذه من ورد إليه.

وفي كتب السير والتأريخ أن الرسول أقطع بعض سادات القبائل ورؤساء الوفود اقطاعاً، وأمر فكتبت لهم كتب التملك. فأعطى "الزبير بن العوّام"ركض فرسه من موات النقيع "البقيع"، فأجراه، ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أعطوه منتهى سوطه". وفي حديث "أسماء"بنت "أبي بكر"، أنه أقطع الزبير أرضاً من أموال بني النضير ذات نخل وشجر.

وقد سأل "الأبيض بن حمّال"رسول الله، إن يستقطعه ملح مأرب، فأقطعه. " فقال الأفرع بن حابس التميمي: يا رسول الله إني وردت هذا الملح في الجاهلية، وهو بأرض ليس فيها غيره، من ورده أخذه، وهو مثل الماء العدّ بالأرض. فاستقال الأبيض في قطيعة الملح. فقد أقلتك على إن تجعله منى صدقة. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هو منك صدقة، وهو مثل الماء العد: من ورده أخذه". و "الأبيض بن حمال"، سبأي من أهل مأرب، وكان من سادة قومه. وفد على أبي بكر، لما انتقض عليه عمال اليمن، فأقره أبو بكر على ما صالح عليه النبي، من الصدقة، ثم انتقض ذلك بعد أبي يكر وصار إلى الصدقة. وكان مصاباً ب "حزازة"في وجهه، وهى القوباء، فالتقمت أنفه.

وأقطع الرسول " بلالَ بن الحارثَ، المعادن القبلية جلسّيها وغوريها.وحيث   

يصلح الزرع من قدََسٍ، ولم يقطعه حق مسلم". وذكر إن المراد من الجلسي والغوري: أعلاها وأسفلها، وذكر إن الجلسي بلاد نجد والغوري بلاد تهامة. وذكر إن "القبلية"، ناحية من ساحل البحر، بينها وبين المدينة خمسة ايام، وقيل: ناحية من نواحي الفرع بين نخلة والمدينة، وهي التي أقطعها الرسول، بلال بن الحارث. وورد أيضاً: "معادن القبلة". ولم يذكر العلماء أسماء المعادن التي كانت في هذه الأرض. وقد باع بنو "بلال""عمر بن عبد العزيز"أرضاً منها، فظهر فيها معدن أو معدنان، فجاءوا اليه، وقالوا: انما بعناك أرض حرث ولم نبعك المعادن. فقال "عمر"لقيمه: أنظر ما خرج منها وما أنفقت وقاصهم بالنفقة وردّ عليهم الفضل.

وأقطع الرسول "وائل بن حجر"ارضاً بحضرموت. وكان أبوه من أقيال اليمن، وفد على النبي واستقطعه أرضاً فأقطعه إياها وكتب له عهداً. وأقطع "زيد الخيل"الشاعر الفارس لما وفد عليه في سنة تسع من الهجرة أرضين. هي "فيد"وكتب له بذلك، فلما وصل موضع "قردة"، توفي بها فدفن هناك، وأقام عليه "قبيصة بن الأسود بن عامر"المناحة سنة.

واقطع الرسول "حمزة بن النعمان بن هوذة""جمرة"العذري، أرضاً من وادي القرى، وكان سيد "بني عذرة". وكان "جمرة"أول من قدم بصدقة "بني عذرة"إلى النبي، وقدم في وفد قومه، وقد نزل أرضه التي اقطعها الرسول له إلى أن مات. واقطع الرسول "ساعدة التميمي العنبري" بئراً في الملاة. وأقطع "مجاعة بن مرارة"الحنفي اليمامي، وكان من رؤساء "بني حنيفة"أرضاً باليمامة يقال لها "العورة"، وكتب له بذلك كتاباً وكانت خصبة منتجة ذات ماء.

واقطع الخلفاء القطائع كذلك، فأقطع "أبو بكر""الزبير"ما بين "الجرف " إلى "قناة". واقطع "عمر""الزبير""العقيق"، واقطع "خوات بن جبير"الأنصاري أرضاً تتصل بالعقيق، فعرفت بقطيعة خوات، فباعها، واقطع "عليا""ينبع "

الحمى

وتفرد العزيز من أهل الجاهلية بالحمى لنفسه، كالذي كان يفعله "كليب بن وائل"، فإنه كان يوافى بكلب على نشاز من الأرض، ثم يستعديه ويحمي ما انتهى إليه عواؤه من كل الجهات، وتشارك الناس فيما عداه حتى كان ذلك سبب قتله. والحمى، موضع فيه كلأ يحمى من الناس إن يرعى. وذكر إن الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلداً في عشيرته استعوى كلباً فحمى لخاصته مدى عواء الكلب، لا يشركه فيه غيره، فلم يرعه معه أحد، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله.

وقد نهى النبي إن يحمى على الناس حمى كما كانوا في الجاهلية يفعلون إلا ما يحمى لخيل المسلمين وركابهم التي ترصد للجهاد ويحمل عليها في سبيل الله، وابل الزكاة كما حمى عمر "النقيع"لنعم الصدقة والخيل المعدة في سبيل الله. وكان الرسول قد حماه، وهو موضع على عشرين فرسخاً من المدينة، وقدره ميل في ثمانية أميال . وقد جعل بعض العلماء هذا النقيع: نقيع الخضمات، وجعله بعضهم غرز النقيع. وذهب بعضهم مذهباً اخر في تعيين موضع المكان.

وقد حمى عمر "السرف""الشرف"أيضاً. وفي الشرف حمى "ضرية"، وضرية بئر وفي الشرف الربذة، وهي الحمى الأيمن. وفي الحديث إن عمر حمى الشرف والربذة. ويقال لحمى الربذة "حمى الحناكية"في الوقت الحاضر. وهناك حمى آخر، يسمى "حمى النير". وذكر إن بالنير قبر "كليب وائل"، الذي تنسب إليه بدعة الاحماء، وهو قريب من "ضرية".

ومن أشهر الأحماء وأكبرها في جزيرة العرب، حمى "ضرية". يذكر أهل الأخبار أنه سمي ب "ضرية بنت ربيعة بن نزار". وقد حماه "عمر"لإبل الصدقة وظهر الغزاة، وكان ستة أميال من كل ناحية من نواحي ضرية، وضرية في وسطها. وحمى "فيد"، ذكر أنه فلاة في الأرض بين "أسد"، و"طيء"، في الجاهلية. فلما قدم "زيد الخيل"على رسول الله أقطعه "فيد". وقر أشير إلى هذا الحمى في الشعر. و "فيد" قلعة وبليدة بطريق مكة، في نصفها من الكوفة في وسطها حصن عليه باب حديد وعليها سور دائر، كان الناس يودعون فيها فواضل أزوادهم إلى حين رجوعهم، وما ثقل من أمتعتهم، وهي قر أجأ وسلمى جبلي طيء. وقد ذكرت في شعر لزهير، وفي شعر للبيد بن ربيعة، وفي شعرلأخرين. وقد زعم بعض أهل الأخبار أنها سنيت ب"فيد ابن حام"أول من نزلها. وقد يشير هذا الزعم إلى وجود جالية من العبيد في هذا المكان، عهد إليها زراعة الأرض. وذكر أنها عرفت بكعكها حتى ضرب به المثل: وتلك فيد قرية والمـثـل  في كعك فيد سائرلايجهل 

وقد أعطى الرسول "بني قرة بن عبد الله بن أبي نجيح"النبهانيين المظلة كلها أرضها وماءها وسهلها وجبلها حمى يرعون فيه مواشيهم.

ولا تزال عادة الاحماء متبعة حتى الآن. ف "سجا"مثلاً وهو ماء يعدّ في حمى الأمير "فيصل آل سعود"خص به إبله وخيله.

وقد عرف الاحماء عند العرب الجنوبيين،: قد ذكر "الحمى" بلفظة "محمت " و "محميم " في نصوص المسند. أي "المحماة"و "المحمى"، ومعناها الأرض المحماة، أي "الحمى".

وذكر علماء اللغة إن "الحمى""المحجر". والمحجر: "الحديقة"، والمرعى المنخفض والموضع فيه رعي كثير وماء، وما حول القرية ومنه محاجر أقيال اليمن، أي ملوكها، وهي ألاحماء. كان لكل واحد منهم حمى لا يرعاه غيره. وذكر إن محجر القيل من أقيال اليمن حوزته وناحيته التي لا يدخل عليه فيها غيره. وورد إن "بني عمرو بن معاوية" لما امتنعوا عن دفع الصدقات خرجوا إلى "المحاجر"، وهي أحماء حموها، فنزلوا بها وتحصنوا، وقاوموا منها جيش المسلمين. ويظهر إن المحاجر، هي أبنية حصينة من حجارة، اتخذت في أملاك اهل المحاجر، للدفاع عنها ايام الخطر.

ولم يستعمل الحمى كما يظهر من كتب الحديث والفقه في غير الرعي، رعي الكلأ الذي ينبت فيه. ولم أعثر حتى الآن على نص يفيد انهم استعملوه لأغراض زراعية. ويظهر إن لفظة "الحمى" قد خصصت بهذا النوع من المراعي، لتمييزها عن المراعي العامة التي يتساوى فيها الجميع في حقوق الرعي، فهي مراعي مشاعة لا يجوز منع إبل أحد من الرعي فيها، وتساهم في الرعي فيها إبل السادة أصحاب الاحماء.

الموات

والأرض الموات التي لا مالك لها ولا ينتفع بها ولا ماء بها، والموتان من الأرض ما لم يستخرج ولا اعتمر، وأرض ميتة وموات من ذلك. وقد يستصلح الموات ويعمر، ويكون من خيرة الأرضين المثمرة، فتكون رقبته بيد مصلحه، لأنه أحياه بعد أن كان مواتاً، وصرف عليه مالاً وجهداً، فيكون له.

ويكون إحياء الموات، بجمع التراب المحيط به حتى يصير حاجزاً بينه وبين غيره، أو سوق الماء إليه إن كان يبساً وحبسه عنه إن كان بطائح أو مغموراً بماء، أو بحرثه لزرعه أو لتعديله وتسويته لاعداده للزراعة او للسكن أو لأي أنتفاع آخر، أو بحفر آبار فيه لاسقائه أو لزرعه،أو للاستفادة من البئر، ببيع مائها، فتكون البئر ملكاً لصاحبها، ليس لأحد محاججته فيها، فقد صرف عليها وانفق جهداً في استنباط الماء منها. وفي التأريخ الجاهلي أمثلة عديدة لآبار حفرها أصحابها في أرض موات، فصارت ملكاً لهم، وصارت الأرض المحيطة بها ملكاً له قدر وصول الماء إليها.

احياء الموات

وقد أثبت اقدام سادات القبائل وأعزة أهل القرى على إحياء الموات، بأستنباط الماء من جوف التربة وبالاستفاده من ماء السماء المنهمر قِرَبا، على إن من السهل تحويل الغامر من الأرض إلى أرض عامرة حية منتجة،والى تكوين قرى ومستوطنات في المفاوز والبوادي، كما وقع ذلك في اليمامة وفي الحجاز وفي مواضع أخرى،   

حيث حفر رجال آباراً واستنبطوا عيوناً، أحيت الأرض بعد موت، وأولدت قرى عليها. غير إن عقلية البداوة، وأعني بها الروح الفردية ونزعة الغزو بسبب الجهل والفقر، وعدم وجود حكومة تحمي الأمن وتدافع عن هذه المستوطنات وعن مشاريع الأفراد، تشعر إن من واجبها البحث عن الماء في كل مكان، قد كانت من أهم العوائق في عدم إحياء الأرض وإنباتها، وفي تأخر سكان جزيرة العرب وفي تفقيرهم فكان على من يحيي أرضاً حماية ما أحياه بنفسه والدفاع عنه بأهله وبماله وبنفوذه وقوته، وإلا عرّض نفسه وما أحياه للخطر، وهذا عمل جهد شاق، جعل أكثر المتمكنين يحجمون عنه، ولا يقبلون عليه، ولم يقبل عليه إلا المجازف القوي المتمكن من القيام به بما له من جاه ونفوذ.

وأهم ما تعرض له إحياء الموات من خطر،هو خطر الغزو ومحاولات الاستيلاء عليه. وحماقة البحث عن العامر لأخذه أو لأخذ ما يوجد فيه بدلاً من إحياء موات وتعميره. وذلك لما قلته من وجود الفقر وفقدان الأمن والحماية، فتحول قسم كبير من العامر بسبب هذا المرض إلى غامر، إذ خربت مصادر الحياة فيه وهو المياه وطمرت، فماتت، وماتت المستوطنات التي كانت عليها بسبب ذلك.

الماء والكلأ والنار

الماء إذا كان عاماً، فإنه لا يمتلك. والماء العام مثل عيون الماء التي لاتكون في حيازة مالك، بل تكون مشاعة بين الجميع، لا يملكها أحد من أهل الحي،وليس لرقبتها مالك، فماؤها للجميع. مثل أن تكون العين في قرية أو في مدينة أو في أرض قبيلة، فلكل إنسان حق الانتفاع منها، لا يمنعه أحد منها، ولا يستوفى بدل عن ذلك الماء. وقد ورد أن الناس شركاء في الماء، ماء الأرض وماء السماء، إذا كانا في أرض عامة، أي مشاعة،ينتفع منها كل إنسان.

واذا كان الكلأ في أرض عامة، فإنه يكون أيضاً ملكاً للجميع، أي مشاعاً بينهم. فلا يجوز لأي أحد منع آخر من الاستفادة منه، لأنه مشترك بين الجميع، فلا يكون أحد أخص به من أحد، ولو أقام عليه وبنى عليه. وبأستثناء الأحماء فإن الكلأ النابت في موطن قبيلة هو لكل أبناء القبيلة، ليس لأحد صد أحد عنه إلا إذا كان غريباً عن القبيلة دخل أرضها بغير اذن من أبنائها وهو ليس في حماية أحد منها، فالكلأ في البادية لا يعود لمالك فرد، وانما هو ملك القبيلة، أبناء القبيلة فيه شركاء، يرعون فيه سواء.

وقد ورد في الحديث، انه قال: الناس شركاء في ثلاث: الكلأ والماء والنار، ومعنى النار الحطب الشتي يستوقد به، فيقلع من عفو البلاد. وكذلك الماء الذي ينبع، والكلأالذي منبته غير مملوك والناس فيه مستوون. وذهب بعضهم إلى إن الماء ماء السماء والعيون والأنهار التي لا مالك لها. وأراد بالكلأ المباح الذي لا يخص به أحد، وأراد بالنار الشجر الذي يحتطبه الناس من المباح فيوقدونه. فكلى هذه الموارد الثلاثة، موارد مشاعة للجميع، يشترك في الانتقاع بها كل الناس. وهو مذهب أهل الجاهلية أيضاً، ما لم يبسط أحد من الملوك أو سادة القبائل سلطانه عليها، ويعلن إنها في حمايته، إذ تكون حينئذ ملكاً له.

الأرض ملك الآلهة

الأرض كما سبق إن بينت ملك للآلهة. وكل شيء على هذه الأرض هو ملك لها كذلك. والناس أنفسهم عبيد لها "ادم". ورأيهم هذا يطابق رأي الإسلام بالنسبة الى الملك. فالله في الإسلام مالك الملك، وهو مالك كل شيء. والمال مال الله والناس عبيد له. وعندهم أن ممثلي السلطة الإلهية على هذه الأرض هم الذين ينظمون الملك ويقيمون العدل بين الناس ويحقوّن الحق كما تأمرهم الآلهة به. ُكما شرعته لهم وأوصت به. فهم في ذلك مثل الإسلام ايضاً في إن اولي الأمر أي "السلطان"يحكمون بين الناس بالقسط والعدل ومما أنزله الله على رسوله من أحكام وأوامر ونواهٍ فهم ظل الله وخلفاء رسول الله على العباد.

هذا هو المبدأ العام بالنسبهّ الى الملكية والتملك عند العرب الجنوبيين. ويتمثل هذا الرأي في عقود التملك "شامت""شمت"بالشراء المدوّنة باللهجات العربية الجنوبية، حيث يذكر المتعاقدون أنهم باعوا أو تملكوا ملكاً مثل أرض أو دار أو بستان أو غير ذلك، بموافقة "الإله الفلاني"، وبرضاه. وانهم أجروا ذلك وفقاً لأوامره ونواهيه يكتبون ذلك على حجر يضعونه على حدّ الملك أو باب الدار، ليكون بمثابة شهادة تمليك. أو صك بيع أو شراء وسند "طابو"، أي سند تملك كما يعبر عن ذلك في لغة أهل العراق في الوقت الحاضر.

وحكم ان الملك ملك الآلهة، لا يعني إن الملكية هي مجرد انتفاع الى أجل يحدد أو لا يحدد. أو إن من حق السلطان انتزاع الملك صاحبه والاستيلاء عليه أو اعطائه لأخر باعتباره ممثل سلطة الآلهة على الأرض. بل الملكية تملك دائم، لا يجوز لأحد منازعة صاحب الملك على ملكه لأن انتزاع الملك من صاحبه ومن دون رضاه تعسف وظلم. ولا ترضى الآلهة بظلم أحد، حتى وإن صدر ذلك الظلم من "السلطان"أي الملك أو من خوّله الملك الحكم نيابة عنه. وقد خولت القوانين المالك الذي يغتصب.ملكه حق مقاضاة المغتصب عند ذوي الِرأي و "أولي الأمر"وعند المعابد وإن كان ذلك المغتصب ملكاً. صحيح إن بعض الملوك ظلموا الناس، بمصادرة أملاكهم وأموالهم، وبالاستيلاء على كل ما مَلَكه أفراد رعيتهم من دون دفع تعويض عنه. غير إن هذا عمل شاذ، وقد وقع لظروف شاذة. كأن يكون الشخص الذي صودر ملكه من أعداء الملك أو قد قام بعمل معاد للحكومة، أو قاوم "أولي الأمر"بطريقة من الطرق، أو خالف أوامر المعبد وأحكام دينه إلى غير ذلك من أمور. فهذه أمور شاذة لا تكون قاعدة حكمية عامة، لأن الأصل القانوني هو: إن الملكية حىّ مقدس لا يجوز مسه ولا الاعتداء عليه، لأن الآلهة لا ترضى بذلك، وهي تنتقم من المعتدين مهما كانوا.

والملك هو كل ما تملكه يمينك ويكون في حوزتك احتواءً قادراً على الاستبداد به. وكل.ما صار في ملكك إما شراءً واما إرثاً أو لقطة لم يظهر مالكها ولم ينازعه عليها منازع ولم يعارض في تملكه لها قانون، واما هبة او ما شاكل ذلك.

وذلك بالنسبة إلى الملك الدائم الذي لا يمكن انتزاعه من صاحبه، لأن الآلهة أمرت به وأقرته. خلاف الملكية المؤقتة، التي تمنح الإنسان حق التصرف بالملك ولكن لأجل وبشروط تعين وتثبتّ لا يجوز تخطيها والعمل بخلافها. مثل التملك بعقد، أي بشروط ويعبر عن ذلك ب "شامت""شمت". ويكون ذلك شراءً، أو بعقد خاص أو بإيجار.

ولا نجد في الحجاز أو نجد أو العربية الشرقية ملاكاً مزارعين كباراً على نحو ما نجده في اليمن أو في بقية العربية الجنوبية، وذلك لصغر مساحة الأرضين المسقاة بالمطر أو بالمياه الأرضية في هذه البلاد. نتيجة شح الأرض وبخلها على الناس بالماء. ولهذا لم يظهر في الحجاز أو في نجد أو أرض العروض مزارعون كبار، لهم عدد كبير من الفلاحين والرقيق يستغلونهم في استغلال الأرض. ومع ذلك فاننا لا نجد حتى في اليمن أو في للعربية الجنوبية أناساً أصحاب أرضين واسعة أي من نسميهم اليوم ب "اقطاعيين"على نحو ما نجده في أرض السواد، أي العراق، حيث كان الإقطاعيون يملكون مساحات واسعة من الارض، تسقيها الانهار دون كبير عناء، ويعمل فيها الفلاحون بأجور بخسة ورقيق الارض والخول فتأتي لاصحابها بالمال والثراء.

الخليط

ويعرف المشارك في حقوق الملك كالشرب والطريق ونحو ذلك ب "الخليط". والخليط الشريك المشارك في الشيوع. وقد حدثت خصومات في موضوع هذه الشركة. وقد بحث فيها الإسلام. جاء في الحديث: "ما كان من خليطين فانهما يتراجعان بينهما بالسوية". وورد أيضاً: "الشريك أولى من الخليط. و الخليط أولى من الجار". وأراد بالشريك المشارك في الشيوع.

الفصل السادس والتسعون
الارواء

تعطي الديانات السامية الماء أهمية كبيرة. وقد أثابت الأشخاص الذين يتقربون إلى آلهتهم بتقديم الماء إلى العطاشى، وفرضت عليهم تقديم الماء إلى العطشان لاغاثته وانقاذه من الهلاك. وفي الأسفار القديمة أمثلة عديدة على ذلك، كما أشادت تلك الأديان بقيمة الماء في الحياة.

ولا بد إن تكون للوثنية العربية النظرة ذاتها التي نراها في الأديان الأخرى بالنسبة إلى الماء، بأن أعطته شيئاً من التقديس والأهمية، وجعلت له مكانة في عقائدها، وذلك قياساً على ما قلته من تقديس الأديان الأخرى له. وإن كنا نجهل ذلك لعدم ورود شيء عن ذلك في المسند. ولكن عدم ورود شيء من ذلك في المسند لا يكون دليلاً على عدم تقديس العرب الجاهليين له،لأن نصوص المسند لم تختتم بعد، وما وصل الينا ليس إلا شيئاً قليلاً بالنسبة إلى ما قد يعثر عليه في المستقبل ولاشك.

وفي الأخبار المروية عن الجاهلين وغيرهم من تقديس بعض الآبار والعيون، والتبرك بشرب الماء منها، دليل على نظرة التقديس التي نظرتها الشعوب الساميّة وغيرها إلى الماء. فالماء هو الحياة. وفي القرآن الكريم: )وجعلنا من الماء كل شيء حي(. ولا بد أن تكون هذه النظرة التقديسية هي التي حملت الجاهليين على تقديس بئر زمزم. ولا يقدر أهمية البئر حق قدرها إلا قطّان هذا البلد الكائن في واد غير ذي زرع وماء، ولولا زمزم وإلآبار الأخرى التي احتفرها أهله، والآبار والعيون الواقعة في أطرافه، يحملون منها الماء إلى بلدهم حملاً، لهلك أهله، أو هجروه. ولا يدرك المرء قيمه الماء إلا إذا كان في صحراء قفرة لا ماء فيها ثم نفد ماؤه. ولهذا كان الغيث رحمة عظمى للاعراب، بغيثهم بعد أن يتعرضوا للجدب والهلاك.

ولا غرابة بعد ذلك، إذا رأينا العرب تقول في دعائها على الإنسان: ما له أحرَّ الله صدره، أي أعطشه.وفي الدعاء: سلط الله عليه الحِرَّة تحت القِرَّة ! يريد العطش مع البرد ؛ ورماه الله بالحرة والقرة، أي بالعطش والبرد. وقالوا: أحرّ الرجل، فهو محرّ: عطشت ابله . وأي شيء أعظم مصيبة وخطراً على الإنسان من العطش في أرض حارة! وتعدّ بقاع جزيرة العرب من الأرضين الجافة، فالأمطار فيها، ولا سيما أقسامها البعيدة عن البئر شحيحة، والأنهار ألكبيرة معدومة فيها، والعيون قليلة أيضاً، وجوّها جاف لا نكاد نستثني منها إلا سواحلها، وهذا إلجفاف صيرّ القسم الأكبر من أرضها صحاري قاحلة تكسوها طبقة غليطة من الرمال في بعض الأماكن مثل الربع الخالي، كما جعلها غير قابلة للزرع. على إن من الممكن إن تبعث الحياة في مناطق واسعة شاسعة من هذه الأرضين، فتجعل أرضين منتجة مخصبة نافعة، إذا اتبعت الأساليب العلمية في معالجة الأرض، وفي استنباط الماء، وفي السيطرة على الأمطار والسيول التي تنشأ منها في بعض الاحيان وتغور في الرمال دون إن يستفاد منها، بإقامة السدود والحياض الصناعية التي تحزن فيها إلى وقت الحاجة، وذلك كما فعل الجاهليون في بعض الاماكن،وخاصة في العربيه الجنوبية، من اقامة سدود تحجز السيول وتحبسها، فإذا انقطعت الامطار وحل الجفاف استفيد منها في الإرواء.

ونجد في بطون الكتب أسماء مواضع عديدة كبيرة كانت ذات عيون ومياه وآبار ونخيل وأناس عند ظهور الإسلام، وهي اليوم صحاري خالية أو مواضع صغرة لا أهمية لها، وذلك بسبب اهمال الإنسان لها واعتدائه عليها، وتحول الطرق التجارية عنها. ويظهر أن لاشراك القبائل في الفتوح، ونزولها في العراق وفي بلاد الشام والأماكن الغنية الأخرى بعد دخول هذه الأماكن في الإسلام أثراً في هجرة الناس عن مواضع العيون والآبار في الحجاز وفي بقية جزيرة العرب، لقلة خيراتها وحاصلاتها وعدم تعلق الفلاح بالأرض في تلك الأماكن. أما في الوطن الجديد الذي حمله الفتح اليه، فقد وجد فيه خيراً كثيراً وأرضاً وماء،وجواً ألطف وأرق من الجو الذي كان يعيش فيه، وبذلك خسرت جزيرة العرب عدداً كبيراً من سكانها، ممن فضل الهجرة على القعود.

ومن يقرأ كتاب "صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز"وكتباً أخرى من هذا القبيل، يعجب من التدهور الذي أصحاب الزراعة في جزيرة العرب بعد الإسلام، إذ نجد أسماء مواضع عديدة كانت تكفي نفسها، أو تصدر الحاصل الزراعي إلى الأسواق المجاورة، ثم قلّ حاصلها كثيراً باهمال الزراعة. وإعراض الناس عنها، حتى بعض النواحي القربية من مكة والمجاورة لها، كانت مشهورة بالخضر والفواكه والأزهار والرياحين، ثم فقدت شهرتها من بعد. وذكر "ابن المجاور"إن موضع "الزهران"كان معروفاً بزراعة "الزعفران"، وكان الموظفون يجبون جباية لابأس بها منه ومن الزرع والضرع وسقي الأنهار. "فما دار الدهر، نقص جميع ما ذكرناه، لاختلاف النيات مع قلة الأمانات". وفي هذا الكتاب أمثلة عديدة على هذا التدهور المؤسف الذي حل بالزرع وبالماء وبالأيدي العاملة المشتغلة بأصلاح الأرض، والذي كان من جملة أسبابه ما قلته من هجرة المتمولين والمثرين والسادة الكبار من الحجاز وبقية جزيرة العرب إلى العراق وبلاد الشام، لوجود مجال واسع للأثراء، لا مثيل له في جزيرة العرب.

وللعرب مصطلحات كثيرة في الإرواء وفي سقيهم وسقي إبلهم، لارتباط حياتهم بالماء،ولأثر الحر والعطش والجفاف فيهم وفي أموالهم. وفي جملة هذه المصطلحات "الشريعة"، " مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون. وربما شرعوها دوابهم، فشرعت تشرب منها. والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عدّاً لا انقطاع له، ويكون ظاهراً معيناً لا يستقى بالرشاء. واذا كان من السماء والأمطار، فهو الكرع. وقد أكرعوه إبلهم فكرعت فيه وسقوها بالكرع. وهو مذكور في موضعه كالمشرعة". وتقابل هذه اللفظة لفظة "مشترعن"في لغة المسند، أي "المشترع"، والمشرعة.

وقد تخصص أناس باستنباط المياه وتقدير حفر الآبار، كما تخصص آخرون بالسيطرة عليها وحصرها بالسدود. وسمى علماء اللغة المقدر لمجاري المياه "القنَاقنِ"وهو مثل المهندس في هذا الفن. وذكر بعضهم أن "القُناقن"البصير بحفر المياه واستخراجها، والمهندس الذي يعرف موضع الماء تحت الأرض، أو هو الذي يسمع فيعرف مقدار الماء في البئر قريباً أو بعيداً.

وقد قسم بعض العلماء المياه المستخرجة إلى ثلاثة أقسام: مياه أنهار، ومياه ابار، ومياه عيون.

وقسموا مياه الأنهار إلى ثلاثة أقسام: أنهار كبار لم يحفرها الآدميون، وأنهار صغار، لم يحتقرها إنسان، وأنهار احتفرها الناس. فتكون ملكاً لمن احتفرها، لا حق لغيرهم في الانتفاع منها.

وأما الآبار، فابار تحفر للسابلة،فيكون ماؤها مشتركاً، وآبار تحفر للارتفاق بمائها. كالبادية اذا انتجعوا أرضاً وحفروا فيها بئراً لشربهم وشرب مواشيهم. كانوا أحق بمائها ما أقاموا عليها في نجعهم،فإذا ارتحلوا عنها صارت البئر سابلة. وآباًر مملوكة. وتكون ملكاً لمالكها لا ينازعه عليها منازع.

وقسموا العيون إلى ثلاثة أقسام: عيون لم يستنبطها الآدميون. وعيون استنبطها إنسان، فتكون ملكاً لمن استنبطها، ويملك معها حريمها. وعيون يستنبطها الرجل في ملكه، فتكون ملكاً له.

واليمن مثل سائر أقسام جزيرة العرب، خالية من الأنهار الكبيرة كدجلة والفرات والنيل، وخلوّها من امثال هذه الأتهار أثرت كثيراً - ولا شك - في وضع الزراعة فيها. ولكن الطبيعة عوّضتها بعض التعويض عن هذه الخسارة، فصار حالها أحسن كَثيراً من حال الأقسام الشرقية أو الوسطى من جزيرة العرب. فجعلت لها رياحاً تحمل إليها الأمطار في مواسم معروفة، وجعلت لها أمكنة ملائمة لخزن هذه الأمطار الهاطلة، استبدت بها أيدي الإنسان، وتحكمت فيها بأن جعلت لها أبواباً ومنافذ، وسدوداً في بعض المواضع، وتمكنت بذلك من خزن هذه الأمطار للاستفادة منها في أيام الحاجة. ثم جعلت لها تربة حسنة طيبة أريضة تنبت كل ما يبذر فيها، وتنبت ما يتساقط عليها من بذور متطايرة مع الهواء، حتى شاع صيتها وانتشر خبرها بين الناس فعرفت باليمن الخضراء.

وقد ساعدت هذه الأمطار أهل اليمن ع كثيراً في تطوير أحوالهم من النواحي الاجتماعية، فمال كثير منهم ألى الاستقرار والى الاشتغال بالزراعة والتعيش منها. وساعد ذلك على سكناهم في المدر وفي القرى والمدن، على عكَس ما يحدث في الأرضين التي غلبت عليها الطبيعة الصحراوية لانحباس المطر عنها، وهي حالة اضطرت أصحابها إلى التنقل فيها من مكَان إلى مكان طلباً للكلأ والماء، وجعلت من أصحابها أناساً فقراء، يعيشون عيشة شظف وضنك وفقر، مع ما وهبتهم الطبيعة من ذكاء مفرط واستعداد للتطور إن تهيأت لهم الظروف الملائمة وساعدتهم الأحوال.

والأمطار قليلة بصورة عامة في جزيرة العرب، فلم تعتمد الزراعة فيها على الأمطار كما تعتمد في البلاد الأوروبية، وإنما تعتمد على الجعافر والحسي والعيون والابار. ولهذا السبب انحصرت الزراعة في الأماكن التي توجد فيها هذه الموارد المائية. ويختلف عمق الآبار باختلاف المواقع، وبأختلاف سطوح المياه الجوفية عن سطح الأرض. ولما كانت بعض الابار عميقة جداً بسبب بعد سطح مائها عن سطح الأرض، لم يستفد منها في الزراعة كثيراً، وإنما استفيد منها في شرب الإنسان والحيوان فقط.

وفي العربية الغربية مواضع عديدة كانت ذات ماء، ورد اسمها في كتب اللغة وفي كتب "الجغرافيا"والبلدان والرحلات. تكونت من سقوط الأمطار على الجبال والمرتفعات. وبعضها ماء عذب، وبعض منها ماء مج أو مالح، وقد استفيد منها في السقي وفي الزرع. ويظهر من دراسة ما ذكره العلماء عنها، انه قد كان في الامكان الاستفادة منها واستغلالها لأغراض زراعية، لو كان لأهل هذه الأرضين علم بكيفية السيطرة على الماء، وكيفية استنباطه من باطن الأرض، وكيفية الهيمنة عليه بحفر مجار له. فقد كانت لبني الحارث بنُ بهثة بنُ سليم، عيون ماء في صخور، لم يتمكنوا من الانتفاع بها، لأنهم لم يتمنكنوا إن يجروها إلى حيث ينتفعون بها، وكان في "يلَيَل"عين كبيرة تخرج من جوف رمل من أعذب ما يكون من العيون وأكثرها ماءً، لم يزرعوا عليها إلا في مواضع يسيرة، لأنها تجري في رمل، ولم يكن علم على ما يظهر في كيفية استخراج هذا الماء من ذلك الرمل. وكان في امكانهم مسك مسايل الماء من الجري نحو البحر، وحبسها في أحباس، بصنع سدود لها، لو كان لهم علم ومال وحكومة كبيرة تكون عندها المؤهلات والامكانيات لعمل السدود، للاستفادة من مياه بعض المنابع التي كانت تجري طيلة ايام السنة، فتحول بينها وبين الذهاب عبثاًَ إلى البحر. فتخيي بذلك أرضين مواتاً وعدم وجود حكومات كبيرة تقوم بمثل هذه الأعمال وبضبظ الأمن. واشاعة الاستقرار، هو من أهم العوامل انتي كانت سبباً في عدم الاستفادة من المياه وفي تأخر الزراعة في جزيرة العرب، فلو كانت هناك حكومات كبيرة، لكان في وسعها الاستفادة من المياه الظاهرة والباطنة ومن مياه السماء، فتحيي بذلك أرضين كثيرة خصبة، وتحمي الزرع من عبث العابثين وتشيع الأمن والطمأنينة في النفوس فيقبل الناس على الزرع والعناية بالضرع.

وقد ذكر "عرام"اسم موضع دعاه "ذا مجر"، ذكر أنه غدير كبير في بطن وادي قوران، وبأعلاه ماء يقال له "لقف"، وهو آبار كثيرة، عذبة المياه، ليس عليها مزارع ولا نخل، لغلظ موضعها وخشونته، وفوق ذلك ماء يقال له "شسي"ماء آبار عذاب. وذكر اسم جبل يقال له "مغار"في جوفه أحساء، منها حسي يقال له "الهدّار"يفور بماء كثير، لم يستفد منها فائدة تذكر، فكانت المياه تذهب عبثاً إلى سباخ لعدم وجود من يتغلب عليها بعقله وبعلمه وبماله ويستروضها لتخدمه في إحياء الأرض وفي اعاشته وإعاشة ماشيته.

أما العربية الشرقية والعربية الوسطى، فانهما أقل مياهاً من العربية الغربية، لقلة ما يسقط عليهما من الأمطار. ولذلك صارت مواضع الماء فيها متباعدة، والمسافات التي يجب أن يقطعها المسافرون من موضع إلى موضع أطول من المسافات التي تقطع بين منازل العربية الغربية، لتباعد مواضع المياه. ومن أهم موارد الماء في العربية الشرقية نهر "محلم"بهجر البحرين. ذكر بعض أهل الأخبار أنه في أرض العرب بمنزلة نهر بلخ في أرض العجم، وأن "تبعاً" نزل عليه فهاله. وان مياهه الجوفية متصلة بسيح الأطلس الذي يكون مخرج مائه من عين الناقة.

إن قلة الأمطار أو شحّها وانحباسها في بعض السنين وعدم وجود الماء في أكثر أنحاء جزيرة العرب، أثر أثراً كبيراً في حياة أهلها الاجتماعية، فحوّل قسماً كبيراً منهم إلى بدو رحل، يتنقلون من مكان إلى مكان طلباً للكلا والماء، هدفهم في هذه الحياة الحصول على الكلا والماء. والكلا والماء هما العزّ والجاه والثراء وأغلى شيء في هذه الدنيا، فقاتل بعضم بعضاً من أجل الحصول عليهما، وقطعوا مسافات شاسعة بحثاً عنهما. ولم يتمكن الروم والرومان من منعهما من دخول بلاد الشام بحثاً عن الكلأ والماء، ولم يتمكن الساسانيون من منعهم من الوصول إلى هذه الثروة العظيمة كذلك. هذه الثروة التي سببت اقتتال القبائل فيما بينها من أجل الحصول عليها.

ولحماية الماء ولا سيما مياه الآبار من اعتداء الطبيعة أو الإنسان عليه أقاموا أبنية فوقه، في أيام الجاهلية وفي الإسلام. وقد أشار العلماء إلى قباب بنيت فوق المياه، فقد اتخذ أهل بطن "السيدان"قباباً على كل ماء به، ومياهه تسمى الجرور والجراير، لبعد قعرها، ولأنها لا تخرح إلا بالغروب والسواني لبعد الماء فيها عن سطح الأرض.

انحباس المطر

يؤدي انحباس المطر إلى كرارث ومصائب تترك أثراً كبيراً في أحوال السكان. تهلك أموالهم وهي كل ما عندهم في هذه الحياة، وقد يموت الكثير منهم من العطش والجوع. ولهذا عمد الناس في جزيرة العرب،كما عمد غيرهم إلى استرضاء آلهتهم بالتقرب إليها بتقديم الهدايا والقرابين، وبالتوسل إليها لانزال المطر،وبالصلاة لها صلاة خاصة يقال لها صلاة الاستسقاء،هي صلاة أقرتها الأديان السماوية أيضاً، لم يرد في نصوص إلمسند ويا للأسف شيئاً عنها، غير اننا نملك نصا جاء فيه إن شخصاً قدّم قرابين الى الإلَهة "عثتر"والى معابده كلها، لأنه من على سبأ وأتباعهم، فأرسل عليهم "سقي خرف ودثا"، أي "مطر الخريف ومطر الربيع". ومعنى ذلك إن القوم كانوا قد توسلوا إلى هذا الإلَه ليرسل عليهم الغيث الذي انحبس عنها في موسميه المعروفين في اليمن، ونذروا له نذراً إن استجاب لهم، وقد استجاب لدعوتهم فأرسله عليهم، فقدمت إليه تلك الذبائح والقرابين.

وقد تحدثت في أثناء كلامي على الحياة الدينية عن عادة أهل الجاهلية في الاستمطار، وعن هذه النار التي كانوا يولعونها والتي يسمونها "نار الاستمطار". وهي عادة قد تكون مألوفة بين أهل مكة وأهل الحجاز. وهي من العادات التي أبطلها الإسلام، إذ أحل محلها صلاة الاستسقاء.

وقد تهطل الأمطار أحياناً هطولاّ شديداً مؤذياً، فتكون سيولاً عارمة تجرف الزروع والبيوت والمواشي لأئي وتنكب الناس بعيشهم الضيق الذي هم فيه. ونجد في كتب أهل إلأخبار،إشاراتَ الى سيول عديدة حدثت في الجاهلية والإسلام، في الحجاز واليمن وفي أمكنة أخرى، فأصابت الناش، بأضرار كبيرة، حيث تنحدر بشكل سريع وشديد وبقوة كبيرة من الجبال والهضاب والمرتفعات إلى الأودية والسهول فتغمرها بالمياه، وفي كتب الأخبار أن السيول قد أصابت مكة مرارأَ في الجاهلية وفي الإسلام. وهي في جملة المصائب والكوارث التي تنزلل بالناس، فلا عجب إذا ما رأينا المثل العربي يقول: "سال بهم السيل،وجاش بنا البحر. أي وقعوا في أمر شديد، ووقعنا نحن في أشد منه، لأن الذي يجيش به البحر أسوأ حالاً ممن يسيل به السيل".

ولفظة "سقى"من الألفاظ الواردة في المسند، بمعنى "مطر"و "ارواء" و "سقي"، و لفظة "مسقت" "مسقيت"ععنى " سقى"و "مسقية". ووردت لفظة الإرواء في النصوص العربية الجنوبية كذلك: وردت في نص معيني على هذه الصورة "رويم""روي"بمعنى "ارواء " وذلك كما في هذه الجملة: "رويم لا نخلهمى"، أي "لارواء نخيلهم"، وفي هذا المعنى جملة: "رويم وسقبتم لنخلهمو"، أي "ارواء وإسقاء نخيلهم".

و "المكر" سقي إلأرض، وأرض ممكورة، مسقاة، ومكر أرضه، سقاهاْ.

انواع السقي

ويسقى الزرع في جزيرة العرب، إما بالسيح، والسيح الماء الجاري الظاهر على وجه اللأرض، ويقال له: "المسقوي"، وإما بماء المطر أى بما تسقيه السماء، ويقال له: "المظمىّ"،، وإما من الآبار، أي بالدلاء. وقد تستخدم النواعير في رفع الماء من الأنهار الى السولقي لتجري الى المزارع، أي بالطرق الفنية التي يستخدمها الإنسان في تسخير الماء في خدمته.

ويقال لما سقته السماء من النخل "العثري". وقيل "العثرى" هو من الزرع ما سقي بماء السماء والمطر وأجري اليه الماء من المسايل، وقيل النخيل التي تشرب بعروقها من ماء المطر. وفي هذا المعنى "العذي"، والعذي أيظاً الموضع الذي ينبت في الشتاء والصيف من غير نبع ماء، وقيل العذي: الزرع الذي لا يسقيه إلا المطر. وقد اتخذت المرتفعات وذرى الجبال، قرى ومزارع، صارت زراعها أعذاء، لا تسقى. و "عمد"الأرض التي تسقى بماء السماء في لغة المسند. ونقرأ لفظة "أعذاء" في كتب من وصف جزيرة العرب ومواضعها وزروعها، وقد قصدوا بها زروع نبتت على ماء السماء.

المطر

ويقال للمطر في المسند "ذ ن م م""ذنمم". وقد وردت هذه اللفظة في عدد من النصوص، ويقال له "دثن"أيضاً. وهي "الدث"في عربية القرآن الكريم،يقال دثت السماء إذا نزل منها الدث، والدث هو المطر الضعيف. ويراد ب "دثن" الدث"في المسند، المطر الذي يتساقط بعد الحر الشديد وفي نهاية القيظ.

ويقال للمطر الغيث كذلك. وذكر بعض علماء اللغة أن الغيث هو المطر الخاص بالخير الكثير النافع، ومن المجاز: الغيث بمعنى الكلأ ينبت بماء السماء، وكذا السحاب. ورأى بعض العلماء أن الغيث اسم المطر كله. وأما السبل، فالمطر أيضاً، أو المطر بين السحاب والأرض حين يخرج من السحاب ولم يصل إلى الأرض ومثله العثانين. وأما الودق، فالمطر أيضاً. ومنه النزل والرجع في كلام هُذيل. وكذللث الخرج والقطر والخدر. وقيل: النصر، الغيث. والذهاب اسم المطر كله ضعيفه وشديده. و " ألديمة"، مطر يدوم أي يطول زمانه أياماً. وأرض مديمة، أصابتها الديم، والمدام المطر الدائم. و "الديمن"و "الديم"، هو الزرع الذي يسقى بماء المطر، في اصطلاح أهل العراق اليوم.

واذا بكر الغيث في أول الوسمي، قيل له "باكور". أما آخر امطار السنة الذي يأتي في وقت الخراف، أي أواخر الخريف، فإنه "خرفن"في نصوص المسند، أي "الخراف".

ويقال للمطر الذي ينزل في فصل الخريف: "الخريف"، ويقال له: "الخرفي"كذلك، أو هو أول المطر في أول الشتاء، وهو الذي يأتي عند صرام النخل، ثم الذي يليه الوسمي. وهو عند دخول الشتاء، ثم يليه الربيع، ثم يليه الصيف، ثم الحميم. وقال بعض علماء اللغة: أول المطر الوسمي، ثم الشتوي، ثم الدفىء، ثم الصيف، ثم الحميم، ثم الخريف، ولذلك جعلت السنة ستة أزمنة. وقال أبو حنيفة: ليس الخريف في الأصل باسم للفصل، واتما هو اسم مطر القيظ، ثم سمي للزمن به. والحجاز كله يمطر بالخريف، ونجد لاتمطر به.

والمزن السحاب. وقد وردت اللفظة في القرآن الكريم. ويقول علماء اللغة إن المزن جمع مزنة، وهي السحاب الأبيض. وقد كَان جل اعتماد أهل جزيرة العرب في الشرب، وفي الإرواء على ماء المطر. كما في ذلك في الاية: )أفرأيتم الماء الذي تشربون، أ أنتم أنزلتموه من المزن، ام نحن المنزلون(.

ولارتباط حياة العرب بالمطر،كثرت الألفاظ المتعلقة به في لغتهم. ففي معاجم اللغة ألفاظ كثيرة في معنى المطر وفي أمور تتعلق به، في مثل السحاب، وأنواعه وأسماء قطعه، وما شاكل ذلك من ألفاظ وأسماء، تمثل لك مدى عناية العرب بالمطر، لشدة حاجتهم إليه.

وللعرب علامات إذا ظهرت دلت عندهم على أنها أمارات الغيث وعلاماته، منها الهالة التي تكون حول القمر، إن كانت كثيفة مظلمة، كانت من دلائل المطر، ولا سيما إن كانت مضاعفة. ومنها "الندأة، وهي الحمرة التي تكون عند مغرب الشمس أيام الغيوث. والمبشرات، وهي عدة علامات تتوالى، تدل عندهم على نزول الغيث. ومنها الرعد والبرق، ومنها أن ترى القمر أو الكواكب في الصحو يحيط بها لون يخالف لون السماء، وكذلك إن رأيت القمر في الغيم وإن كان قزعاً كأنه تحيط به خطوط كخطوط قوس المزن، وهي القسطانية. وبعض الرواة يجعل قوس الغيم أيضاً بدأة.

وهم يعتبرون الغيث نعمة ورحمة، ولهذا كانوا يفرحون بزوله ويستبشرون، لا سيما إذا كان نزوله بعد قحط وجدب. ويهنأ أحدهم الآخر بانصبابه لما سيصيبهم جميعاً من خير عميم، ولكنه قد يصير نقمة إذا نزل سيلاً مدراراً، يكتسح كل شيء يجده أماه، وقد تمتلىء به بطون الأودية، فتغرق سيولها القرى والمستوطنات. مثل ما كانت تصاب به مكة من السيول. فمكة في وادٍ على طرفيه جبال: إذا نزلت عليها الأمطار سالت الى باطن الوادي، فتؤذي البلدة والحرم، وقد أقيمت الردم لمنع السيول من اغراق الحرم، والبيوت، غير أن السيول تكون قاهرة جبارة في بعض الأحيان، فلا يقف أمامها ردم ولا سكر. وقد أشار أهل الأخبار الى المهم من هذه السيول.

وِقد هددت السيول يثرب بالغرق أيضاً، مع إنها ليست في واد، وذلك من سيل "مهزور". وقد أقام "عثمان" ردهاً لمنع سيل هذا الوادي من اغراق ا لمدينة.

الاستفادة من مياه الأمطار

وقد اضطر سكان جزيرة العرب إن يلجأوا إلى الوسائل الصناعية للاستفادة من المياه وذلك لقلتها وشحها، سواء أكانت مياه أمطار أم مياه أرض، متدفقة من أجواف الأرض على هيأة عيون أو جعافر. وفي جملة ما اتخذوه اقامة السدود في الأرضين التي تساعد طبيعتها على اقامة السدود، وحفر الآبار للاستفادة منها في السقي وفي الزراعة بما يتناسب بالطبع مع كميات مياه الآبار.

وقد اتخذ أهل المواضع المرتفعة مثل الأماكن الجبلية التي يصعب نقل الماء إليها كل الوسائل الممكنة للمحافظة على ماء المطر والسيطرة عليه وجمعه لئلا يذهب سدى، فحفروا الصهاريج العميقة في البيوت وفي أماكن أخرى ليسيل إليها، وسلطوا مياه الميازيب على أماكن تسيل منها إلى هذه الصهاريح. ولا يزال بعض الميازيب الجاهلية في حالة جيدة يستعمل في الأغراض التي صنع من أجلها. وهي مصنوعة من الصخور، وبعضها من المرمر الأبيض الجميل. وفي مسجد "حصن غيمان"، صهريج جاهلياُ قديم، يستعمل لخزن المياه. وهناك صهاريج عديدة في هذا الموضع، كلها من ايام الجاهلية، وبعضها مفتوح على هيأة حوض، وأكثره من النوع المغطى والمنقور في الصخر. وقد تساقطت سقوف بعض هذه الصهاريج أو أصيبت بتلف في بعض أقسامها وظهرت هيآتها للعيان، فعرفت أشكالها وأعماقها، ولبعضها ممرات توصل بعضها ببعض، فتجعلها كأنها شبكة تربط مساحة واحدة تملأ بالماء تحت سطح الأرض. ولهذه الصهاريج فتحات تستخرج منها المياه للأرواء.

ولهذه الصهاريج أهمية خاصة في ايام الحروب، إذ تمنع العدو من قطع الماء عن المحاصرين، وبذلك يستطيعون البقاء مدة طويلة يدافعون عن أماكنهم خلف الأسوار.

وقد استخدمت الصهاريج لخزن الماء، حتى البيوت استخدمتها لذلك، فكان إذا وقع الغيث سال إلى هذه الصهاريج فخزنته. وقد اتخذ أهل المدن الصهاريج الكبيرة لتموين الناس بالماء، وبنوا الصهاريج في المعابد ليستفيد منها المتعبدون القادمون إليها ورجال الدين.

وقد عثر على صهاريج عديدة في حضرموت وفي اليمن،عرفت عند الحضرميين ب "نقب". وهي عبارة عن حفر نقرت في الصخور وفي المواضع الحجرية وفي مواضع أخرى، يبلغ قطر أفواهها وفتحاتها زهاء المتر في الغالب. أما أعماقها فهي مختلفة وكذلك أقطارها السفلى أي من جهة قواعدها، فقد عثر على بعضها، وأعماقها تتراوح من ثلاثة أمتارالى أربعة، وأقطارها السفلى تتراوح من خمسة أمتار إلى ستة. ويقال لعملية إلحفر "نقب"كما في هذه الجملة: "نقبو نقب " اي "نقبوا نقباً"،: معناها "حفروا نقباً"و "حفروا صهريجاً".

وتوصل هذه الصهاريج بمجاري تحت الأرض قد يبلغ أطوالها جملة كيلومترات لايصال الماء منها إلى مواضع السكن أو الزرع. وتكون الصهاريج مرتفعة عن مسايل المياه الأرضية، ليسيل منها الماء الى الجهات التي تريدها. ويكون معينها هو ماء المطر. ويظهر أن طريقة توزيع الماء من النقاب بمسايل المياه أرضية كانت شائعة قبل الإسلام في المدن والقرى المرتفعة البعيدة عن الغيول والنهيرات والآبار والتي تتساقط فيها الأمطار، فلجأت إلى هذه الطريقة الفنية لحبس مياه الأمطار للاستفادة منها في الشرب والاستعمال وفي الزراعة أيضاً.

الذُّهب

ويقال لموضع تجمع مياه الأمطار ومسيلها "ذهبن"، أي "الذُّهب". ويستخدم هذا الماء المتجمع لاسقاء الحيوان وللشرب ولإسقاء الزرع، قال "الهمداني": "والذُّهب... يمتلىء من السيل، فإذا امتلا نف فيه الطهف والدخن، فنضب الماء، ثار نبته". وقد كانوا يستفيدون من أمثال هذه "الذُّهب"بتسويرها وحصر الماء فيها ثم توجيهها إلى الأحواض الكبرى للاستفادة منها عند انحباس الأمطار.

وكانت أشراج الحرة بيثرب من مسايل الماء، فإذا هطلت الأمطار انحدرت إليها وامتلات بها فتسيل إلى الأرضين المزروعة ترويها بالماء. وقد تحبس الشراج فتكون أحواضاً يستفاد منها في السقي والزرع.

وهناك حفر تتجمع فيها المياه فيستفاد منها في الشرب. وقد ذكر علماء اللغة الفاظاً عديدة تتعلق بالحفر على اختلاف أنواعها، وفي جملتها الحفر التي تتجمع فيها المياه. وذلك لكثرتها ولأهميتها في حياتهم العملية، إذ كانت على ضآلة بعضها ووسخ مائها، غوثاً للمسافرين العطاشى الذين هم ودوابهم في آخر رمق من الحياة. فهي تكون في مثل هذه الظروف هبة ولقطة لا تقدر بثمن.

ومن مواضع تجمع الماء في الحفر الأوقة، وهي حفرة يجتمع فيها الماء،وجمعها أوق. والوجيل والمَوجل، حفرة يستنقع فيها الماء يمانية. والمرهة، حفيرة يجتمع فيها ماء السماء. والهَوْقة، وهي حفرة كبيرة يجتمع فيها الماء، وتألفها الطير. و "الركية" البئر. وقد كانوا يتبردون بها في ايام الحرْ. و "المركو"، الحوض الكبير وقيل الحويض الصغير يسويه الرجل بيديه على رأس البئر إذا أعوزه إناء يسقي فيه بعيراً أو بعيرين.

والنقر، الغائر من الأرضين، وهي موارد الماء في جزيرة العرب. إذا احتفرت، ظهر الماء بسهولة في آبارها،وقد تظهر البرك فيها. ومن هذه النقر، موضع "معدن النقرة"، منزل لحاج العراق بين أضاخ وماوان. فيه بركة، وثلاث آبار، بئر تعرف بالمهدي، وبئران تعرفان بالرشيد، يظهر أنها حفرت في أيام الخليفتين: المهدي والرشيد، وآبار صغار للأعراب. وعندها تفترق الطرق، فمن أراد مكة نزل المغيثة، ومن اراد المدينة أخذ نحو العسيلة. ذكر أن هذا الموضع إنماُ سمّى نقرة، لأن النقرة كل أرض متصوبة في هبطة فهي نقرة.

الحياض

وقد ترك الجاهليون حياضاً واسعة كانوا أنشأوها في مواضع كثيرة من اليمن وبقية العربية الجنوبية لخزن الماء فيها للاستفادة منها أيام الجفاف. فإذا ما تساقطت الأمطار، سالت إلى هذه الحياض، وبعضها عميق واسع لا تنضب منها مياهها طوال السنة. وقد أحيطت هذه الحياض بجدران متينة من الصخور صفت ورتبت على هيأة مدرجات، حتى إذا انخفض الماء أمكن لمن يريد الاستسقاء منها أن ينزل على هذه الدرجات حتى يبلغ الماء ولا يزال بعض هذه الحياض موجوداً يستعمله الناس. وقد وصف السوّاح الذين زاروا اليمن بعضها وتحدثوا عنها وعن أبعادها وعن طرق بنائها وهندستها.

ولمنع تسرب الماء من الحوض، يسدّ ما بين الحجارة من منافذ بالمدرة المعجونة، وتطلى أوجه الجدر بمادة تغطيها مثل الصهريج لمنع تسرب الماء وخروجه إلى الخارج، كما يبلط قاع الحوض ويطلى كذلك. وتوضع حجارة تنصب حول الحوض، ويسد ما بينها بالمدرة، ويقال لذلك النصيبة. ويمدر الحوض إذا طين وسدَُّ خصاص ما بين حجارته، كما يعبر عن ذلك بلفظة اللوط. ويوضع الإباد حول الحوض، أي التراب، لدعمه وتقويته. وقد ترفع جسر الحوض فوق الأرض، وتعمل فيه صنابير لخروج الماء فيها وقد تنشأ فيها حنفيات لأخذ الماء منها، تعمل من المعدن أو الحجارة.

وقد عثر على ميازيب ومثاعب حجر نحتت نحتاً جميلاً، وضعت في جدران الأحواض، ليسيل منها الماء. وقد صنعت مواضع مسايل بعضها على هيأة رؤوس حيوانات فتحت أفواهها ومن هذه الأفواه المفتوحة يتساقط الماء. ولا يزال بعضها في هيأة حسنة ومستعملة حتى الآن. واستعملت بعضها في السطوح لسيلان الأمطار منها، كما عثر على صخور منحوتة نحتاً جميلاّ جداً كانت تكوّن الواجهة الظاهرة من جدران الحياض. وقد نحت بعضها على شكل صور حيوانات بارزة أو أوجه حيوانات، ونحت بعضها على صور أوراق نبات وأغصان أعناب أو عناقيد أعناب وما شابه ذلك من أجزاء النبات.

وثعب الماءُ سالَ، ومنه اشتق مثعب المطر. والثعب هو مسيل الوادي، ومنه مثاعب المدينة، أي مسايل مائها. والمثعب المرزاب   

وتعمل الأحواض لشرب الإبل وغيرها. وقد يوضع في وسطها حجر، يكون مقياساً للماء، يقال له "القداس"إذا غمره الماء رويت الإبل، أو هو حجر يطرح في حوض الإبل، يقدّر عليه الماء، يقتسمونه بينهم. وقيل هو حصاة، توضع في الماء قدر الري للابل، أو يقسم بها الماء في المفاوز.

وفي كتب اللغة ألفاظ عديدة أطلقت على الحوض، بحسب شكله واتساعه وعمقه منها الحوض المركو. أما المقراة، فالحوض العظيم. وأما الجرموز، فالحوض الصغير، وقيل هو حوض مرتفع الأعضاد. والنضيج الحوض، وخصه بعضهم بالحوض الصغير. والجابية الحوض كذلك. وأما الشّرَبة فالحوض يجعل حول النخلة يملأ ماء، فيكون ري النخلة. والحضج الحوض.

و يقال لموضع تجمع الماء، والمكان الذي يخزن فيه فيكون على هيأة بحيرة صغيرة أو حوض "بحرت"، "البحرة". ولا يزال أهل الشام يطلقون لفظة "بحرة"على حوض الماء الذي يقيمونه في أفناء دورهم، للتمتع بمنظره وبمنظر الماء الذي يتدفق منه. وقد يضعون الأسماك فيه. وقد وردت اللفظة في هذه الجملة: "وصرح ثبرن وبحرت بموثب احلين"، ومعناها: "وأعلى حصن ثبر، والبحرة الكائنة في أسفل السلالم". ويظهر إن أصحاب الحصن كانوا قد أقاموا "بحرة"ضد قاعدة السلالم التي ترتقي إلى الحصن،وذلك من أجل نقل الماء منها الى أعلى للاستفادة منه، ولاحمائه وسكبه على المحاصرين في أثناء الحصار.

والمقرى والمقراة كل ما اجتمع فيه الماء من حوض وغيره، وخصه بعضهم بالحوض. وذكر بعضهم، إن المقراة المسيل، وهو الموضع الذي يجتمع فيه المطر من كل جانب. وقيل المقراة شبه حوض ضخم يقرى فيه من البئر، ثم يفرغ في المقراة. وقريّ الماء مسيله من التلاع، أو مجرى الماء في الروض.

ويقال للموضع الذي يستنقع فيه الماء، أي يجتمع: "النقيع"، فإذا نضب الماء نبت فيه الكلأ. و"المنقع"الموضع الذي يستنقع فيه الماء، أي ويقال لموضع تجمع المياه في خزانات صغيرة لخزنها فيها وتوزيعها على السواقي "مزف". تأتي المياه إليها من خزانات أخرى أكثر منها. فتخزن فيها لإعادة توزيعها. والفعل هو "زف"من "زفف". وتطلق لفظة "زف" على مواد عمل ما. وأما العمل نفسه فيقال له "فعل".

وقد أشير في نصٍ إلى وجود "هور" أمام "محفد"، اي حصن: "بقنو هور محفدهمو ذ معينن"، ومعناها: "أمام هور محفدهم "حصنهم " ذي المعين". و "هور"في هذه الجملة هو "الهور" في عربيتنا. وهو "بحرة تفيض فيها مياه. فتتسع ويكثر ماؤها"، ويجمع على أهوار. أما في النص، فلا يراد به هذا المتسع الواسع من الماء، بل يراد به حوض أو متجمع من الماء أوسع من البحرة، كان أمام الحصن.

وقد وردت لفظة "بركن"أي البركة في اللهجات العربية الجنوبية كذلك، ووردت لفظة أخرى هي "عسن"يظهر أنها تعني بركة كبيرة أو صهريج ماء تحت الأرض، أو جملة برك تتصل بمأخذ أو مآخذ، تتجمع فيها المياه. وقد ذكر علماء اللغة أن البركة مثل الحوض يحفر في الأرض لا يجعل له أعضاد فوق صعيد الأرض. ويسمي العرب الصهاريج التي سويت بالآجر وصرجت بالنورة في طريق مكة ومناهلها بركاً. وربّ بركة تكون ألف ذراع وأقل وأكثر. وأما الحياض التي تسوى لماء السماء، ولا تطوى بالاجر، فهي الأصناع واحدها صنع.

وقد طليت جدران البرك الجاهلية بمادة متماسكة قوية، ترى اليوم وكأتها قد فرغ منها من عهد قريب. فلم تتشقق ولم تصب بتلف إلا قليلا. فيها فتحات عملت لمرور الماء منها إلى السواقي. وقد استعمل مثل هذه البرك لخزن الماء وللأرواء في الوقت نفسه.وتمكن الاستفادة منها إذا ما نظفت من المواد الزائدة التي تراكمت فيها وأدخلت عليها بعض الإصلاحات.

و "الأضاة"الغدير، والماء المستنقع من سيل أو غيره. والغدير مستنقع الماء، ماء المطر صغيراً كان أو كبيراً، غير أنه لا يبقى إلى القيظ الا ما يتخذه الناس من عدّ ووجد أو وقط أو صهريج أو حائر. والعدّ الماء الدائم الذي لا انقطاع له. ولا يسمى الماء الذي يجمع في غدير أو صهريج أو صنع عداً، لأن العدّ ما يدوم مثل ماء العين والركية. ويعبر عن "الغدير"ب "النهي"،. وقيل النهي الغدير حيث يتحير السيل فيوسع، وكل موضع يجتمع فيه الماء أو الذي له حاجز ينهى الماء أن يفيض منه.

وفي كتب اللغة ألفاظ عديدة أطلقت على النهيرات والسواقي المتفرعة منها.

ومنها الشراج، جمع شرج،وهي مسايل الماء من الحَزن إلى السهل. والاربعاء، وهي مسايل ومساقي يسقى منها النخيل والبساتين، ويزرع على جانبيها. وأما "الجعافر"، فقيل: "الجعفر"النهر، وقيل هو النهر الصغير، وقيل هو النهر الكبير الواسع: وقيل النهر الملآن، أو فوق الجدول.

ويقال للجدول الربيع في عربية القرآن الكريم، ويجمع على "أربعاء".وأهل المدينة يغرسون الشجر على جانبيه. ويقال له أيضاً "السعيد". ويراد به النهر الذي يسقي المزرعة. وقد ورد في الحديث: "كنا نزارع على السعيد". و "الجدول"النهر الصغير. ويقال لأوائل الجداول "أقبال الجداول". وأما السواقي بين الزروع، فتسمى "دبار".

ويطلق أهل اليمن على ساقية الماء والجدول الصغير "الغيلَ"، وهي من الألفاظ القديمة المستعملة في الري. وفي اليمن جملة أغيال، يقل ماؤها عند انحباس المطر، ويزداد عند هطوله في مواسمه. ويشرب أهل صنعاء من مياه الغيل المسمى "الغيل الأسود"، ويزرعون عليه. وذكر علماء اللغة إن الغيل الماء الجاري على وجه الأرض، وقال بعضهم ما جري من المياه في الأنهار والسواقي. وأما الذي يجري بين الشجر، فهو "الغلل"." وفي الحديث ما سقي بالغيل ففيه العشر، وما سقي بالدلو، ففيه نصف العشر".

الأودية

والأودية هي من أهم مناطق الماء والخصب في جزيرة العرب، وذلك لوجود الماء بها قريباً من سطح الأرض في الغالب، وقد يخرج إلى وجه الأرض. ولهذا نجد فيها مواضع عديدة خصبة ذات مزارع ونخيل منتشرة كأنها الجزر في البحار. وهي في الأصل مسايل ماء، حفرتها الأمطار والسيول المنهمرة على الجبال والهضاب والتلال، في سيرها نحو الأماكن المنخفضة، وعملت لها منافذ سارت مياهها منها. و "الوادي"، هو "سر""س ر"في العربية الجنوبية. وذكر علماء اللغة أن "السر"بطن الوادي وأطيبه وأفضل موضع فيه، وكذلك سرارة الوادي، أي بالمعنى الوارد من اللفظة في المسند، أو قريب منه.

ومن أودية جزيرة العرب: وادي الحمض، ووادي الدواسر، ووادي الرمة، ووادي حنيفة، ووادي تبالة، ووادي رنية، ووادي تربة، وغيرها مما يرد في كتب "الجغرافيا" وما ألف في وصف جزيرة العرب، أو وصف بقاعها، وفي كتب البلدان.

ولهذء الأودية فضل لا ينكر في ظهور موطن الحضارة في جزيرة العرب، ففي بواطنها وعلى جانبيها قامت مواطن استيطان منها نبتت الحضارة الأعرابية في جزيرة العرب، حضارة تمثل مرحلة متقدمة بالنسبة إلى الحياة الأعرابية،عمادها الزراعة وتربية الحيوان. وهي تثبت للمرء جلإء إن سبب انتشار الأعرابية في جزيرة العرب هو الجفاف الذي غلب عليها وندرة وجود الماء بها، وان الماء لو توفر بها، لكان نصيبها في الحضارة مثل نصيب غيرها من البلاد التي تقدمت في ايامها وازدهرت، فلما ظهر الماء في هذه المواضع، ظهر السكن والاستقرار، ولو رزق العرب سكان جزيرة العرب ما رزق غيرهم من جو طيب، ومن أرض خصبة ذات أنهار وماء، كان شأنهم غير هذا الشأن ولا شك.

ويقال للوادي "العقيق". وذكر أن العقيق كل مسيل شقه ماء السيل فانهره ووسعه. أي في معنى وادي. والأعقة من مواضع الخصب والزرع في جزيرة العرب، إذ تكون المياه فيها قريبة من سطح الأرض. منها عقيق اليمامة، وهو وادٍ واسع مما يلي العرمة، تتدفق فيه شعاب "العارض"، وفيه عيون عذبة الماء، وموضع بتهامة، وموضع بنجد، يقال له عقيق القنان، تجري إليه مياه قلل تجد وجباله، والعقيق، ستة مواضع أخر، وهي أودية شقتها السيل عادية منها عقيقان في بلاد بني عامر من ناحية اايمن. ومن الأودية المشهورة: وادي العتيق بالحجاز. و "العرمة"أرض صلبة تتاخم الدهناء ويقابلها عارض اليمامة. والأودية هي من أحب المواضع في جزيرة العرب، حتى إن.كانت جافة في معظم أيام السنة، وذلك لخصب تربتها، ولقرب الماء فيها من سطح الأرض، ولوجود العيون والبرك في بعض منها. وهي قبلة أنظار الأعراب والرعاة بعد نزول الغيث وامتلائها بالسيول، إذ يظهر فيها الكلأ: وتبقى في حفرها المياه، فتكون بركاً للشرب.

وقد زرع أهل وادي "مهزور"على مياهه، ويستمد هذا الوادي ماءه من السيل، وكذلك وادي "مذينيب". ومن "مهزور"إلى "مذينيب"شعبة يصب فيها. ويسيلان بماء المطر خاصة، و "مهزور" هو وادي "بني قريظة"، وقد كان يحدث اختلاف فيما بين المزارعين في حقوقهم في الماء، ولا سيما في ايام انحباس المطر أو أيام نزوله بشح، واستغلال أهل الأرضين العالية للسماء، مما يسبب انقطاعه عن الأرضين الواطئة الواقعة على مسايله. وقد كان "مهزور"يهدد المدينة بالغرق عند سقوط الأمطار بشدة وتكوينها سيولاً طاغية، ولما هدد المدينة بالغرق في خلافة "عثمان" اتخذ له ردماً. وقد هدد المدينة مراراً بالغرق، ولما كاد إن يغرقها سنة "156 ه"حفرت الحكومة له منسوباً، غاص منه الماء إلى وادي بطحان. وقد قضى الرسول في سيل "مهزور"إن لأهل النخل إلى العقبين، ولأهل الزرع إلى المشراكين، ثم يرسلون الماء الى من هو أسفل منهم.

و "بطحان"هو أحد أودية المدينة الثلاثة، وهي العقيق وبطحان وقناة.

الأنهار

وليس، في جزيرة العرب أنهار كبيرة بالمعنى المعروف من لفظة نهر، مثل نهر دجلة أو الفرات أو النيل، بل فيها أنهار صغيرة أو جعافر. وهي لذلك لم تستفد من نعم الأنهار الكبيرة التي نعمت بها البلاد الأخرى، ولم تسعد بسبب ذلك بظهور المجتمعات الكبيرة بها ولا بظهور الحضارة فيها، لأن الحضارة الراقية لا تكون ولا تنمو إلا في المجتمعات الكبيرة، حيث تتوفر بها بذور الحضارة والثقافة، ولا تظهر هذه البذور مع وجود الجفاف وفقدان الماء أو قاته.

ومن الأنهار الصغيرة التي نجدها في اليمن نهر الخارد. وكان السهل الذي عاش. فيه المعينيون،وبنوا فيه عاصمتهم يسمى بهذا النهر، وتنبت فيه مختلف النباتات والزروع، وكان يصل الى مقربة من العاصمة وربما تجاوزها إلى مواضع أخرى. ولا تزال هذه المنطقة تعدّ من المناطق الزراعية الجيدة، وقد تحول قسم منها بسبب الجفاف الذي حلّ بها الى مناطق تعلوها كثبان رملية، ومناطق قاحلة، بعد ما كانت من أجود الأرضين لأهل معين ومن أنهار اليمن الأخرى، مَور، وهو من أغزر أنهار اليمن ماءاً وأكبرها، وهو بالتسرب من واديَ "صبا". ينبع من جبال الهضبة إلى جنوبي صعدة، وتصب فيه أودية من "عمران"و "حجة"، ويمر من جبال "حجة" وجبال "حجور" في اتجاه البحر الأحمر حيث يصب به شمال،"اللحية". وتجري الأقسام الشرقية من هذا النهر في أكثر أيام السنة. وسُردد، واد متسع بتهامة اليمن، مشتمل على قرى ومدن وضياع. ويتألف من فروع تنبع من جبال "كوكبان"ومن جبال حضور وحراز، ويصب في البحر الأحمر شمال "الحديدة". ووادي سهام واد ينبع من جبال خولان وآنس، ماراً بحنوبي جبال حراز، ثم يصب في البحر الأحمر جنوبي الحديدة. وبه مياه حارة. ووادي "أذنة"من أودية سبأ، وهو الذي كان يموّن سد مأرب بالماء. ومن أودية اليمن الأخرى: رزان، و "رمع""رماع"، وهو متصل بوادي سهام ووادي مور، مشتمل على عدة قرى، وشرس، و "ريمة"و "زبيد". وتعرف هذه الأنهار ب "وادي"في اصطلاح أهل اليمن.

و "الدبل"الجدول من جداول الأنهار. وانما سميت الجداول دبولاً لأنها تدبل، أي تصلح وتجهز وتنقى. ومنه الحديث انه غدا إلى النطاة، وهي من حصون خيبر، وقد دل على مشارب كانوا يسقون منها دبول. كانوا ينزلون إليها بالليل فيتروون من الماء، فقطعها، فلم يلبثوا إلا قليلاّ حتى أعطوا بأيديهم. وتكرى الأنهار وموارد المياه الأخرى، لاستخراج الطمي منها ولتعميقها حتى لا يسيل الماء على حافات مورد الماء وكانوا يكرونها بالمساحي ويرمون الطمي على الجانبين.

وإذا جرى الماء على وجه الأرض قبل له "السيح". وباليمامة ثلاثة أودية بأقصى العرض، عرف كل واحد منها بسيح ، ونسب الى أهله أو مكانه. وقد أشار "الهمداني "الى " السيح يجري تحت النخل والآبار"، وقصد به الماء الجوفي. وأشار إن "سيح الغمر " والى سيح دعاه سيح ابن مربع، ذكر أنه كان غزيراً ثم انقطع بضعف أهله. وذكر اسم سيح آخر دعاه سيح قشير، ويسمى أيضاً بسيح اسحاق.

الحسيّ

وينتفع من الأحساء والرحاب في الزراعة وذلك باستنباط مياهها الجوفية المنحسرة عن قشرة الأرض بمسافة غير بعيدة، والتي قد تظهر على سطح الأرض وتسيل. والحسي سهل من الأرض يستنقع فيه الماء أو غلظ فوقه رمل يجمع ماء المطر. وفي جزيرة العرب أحساء كثيرة، منها أحساء بنى سعد بحذاء هجر بالبحرين، وأحساء خرشاف، بسيف البحرين، وأحساء بني وهب، على خمسة أميال من المرتمى فيه بركة، وتسعة آبار كبار وصغار بين القرعاء وواقصة على طريق الحاج، والأحساء ماء لغنى، والأحساء ماء باليمامة، وأيضاً ماءة لجديلة طيء بأجأ. والأحساء التي على الخليج، هي من أهم هذه الحسي في الوقت الحاضر. وهي وحدة ادارية في المملكة العربية السعودية بها عيون تفيض ماءً، تروي بساتين النخيل والأشجار الأخرى و "البثر" يشبه الأحساء، يجري تحت الحصى على مقدار ذراع أو ذراعين ودون الذراع، وربما أثارته الدواب بحوافرها. والباثر من الماء البادي من غير حفر. والبثر أرض سهلة رخوة. وذكر بعض علماء اللغة إن البثور الأحساء وهي الكرار. وذكر بعضهم إن "الكرار"البئر، أو الحسي، أو موضع يجمع فيه الماء الآجن.

وقد تنيع العيون في مواضع رملية، فلا تمكن الناس من الاستفادة من الماء فائدة كبيرة تخرح من جوف رمل من أعذب ما يكون من العيون وأكثرها ماءً، تجري في رمل فلا تمكن الزرّاعين عليها إلا في مواضع يسيرة من أحناء الرمل، فيها نخيل، وتتخذ البقول والبطيخ، وتسمى هذه العين "البحر".

وتكون تربة الرحبة خصبة، ولهذا صارت مواطن صالحة للزراعة لو استنبطت مياهها التي في جوف الأرض القريبة من السطح، لأفادت في توطين الأعراب. والرحبة في تعريف علماء اللغة " من الوادي مسيل مائه من جانببه فيه. جمعه رحاب. وهي مواضع متواطئة يستنقع الماء فيها، وهي أسرع الأرض نباتاً، تكون عند منتهى الوادي وفي وسطه، وقد تكون في المكان المشرف يستنقع فيها الماء وما حولها مشرف عليها، ولا تكون الرحاب في الرمل، وتكون في بطون الأرض وفي ظواهرها". والرحبة الأرض الواسعة المنبات. ومن الرحاب المشهورة: "الرحبة"حذاء القادسية، وواد قرب صنعاء، وناحية بين المدينة وبلاد الشام قرب وادي القرى، ورحبة باليمامة، تعرف برحبة الهدّار وصحراء بها أيضاً فيها ماء وقرى. وقد وجدت كتابات جاهليه في بعض هذه الرحاب، تشير إلى سكن أناس فيها ونزولهم هناك قبل الإسلام.

والنقرة الوهدة المستديرة في الأرض ليست بكبيرة يستنقع فيها الماء. و "الحفر" الموضع فيه ركايا محفورة، يستقى منه الماء. منها "حفر ضبةّ"، وهي ركايا بناحية "الشواجن"بعيدة القعر عذبة الماء. والشواجن، وادٍ كبير بديارضبة في بطنه اطواء كثيرةن منها الصاف واللهابة وثبرةن ومياهها عذبةز ومنها "حفر سعد بن زيد مناة بن تميم" بحذاء "العرمة" وراء الدهناء يستقي منها بالسانية.

و"القلت" النقرة في الجبل تمسك الماءن وقيل كل نقرة في أرض يستنقع فيها الماءز وإذا سالت السيول ملأت القلات. وفي الحديث ذكر لقلات السيل. ومثلها "الوقب" وهي نقرة في الجبل او في الصخر يجتمع فيها الماء كالوقبة ن أو هي نحو البئر في الصفا تكون قامة أو قامتين يستنقع فيها ماء السماءز

الآبار

وفي الأماكن التي تكون المياه الجوفية فيها غير بعيدة عن سطح الأرض،ويكون من السهولة حفر الآبار فيها، يحفر الناس آباراً في بيوتهم وفي أملاكهم للشرب والزرع إن كانت عذبة وللتنظيف والاستعمال. ويستعان بالخدم وبالسقائين في جلب مياه الشرب من الآبار العذبة والعيون والنهيرات. كما حفروا الآبار في الحصون. وقد كانت في حصن الهجوم بئر عظيمة عميقة، عذبة الماء. وقد بني الحصن من حجارة ضخمة ذكر أن طول الحجر منها سبع أذرع في عرض ثلاثة أذرع، واقام أصحابه عليه الأسوار والأبراج. وقد فتح فيَ أيام الرسولْ.

والبئر هي بار في كتابات المسندز والجمع ابار أي آبار وقد وصلت الينا نصوص عديدة في حفر آبار أو في شرائها وبيعهان وفي تعميرها وإصلاحها. و هي ثروة ورأس مال كبير في جزيرة العرب،تحيي الأرض وتميتها، وتفني الناس وتميتهم، ولذلك كانوا إذا حفروا بئراً أو إذا ظهرت لهم مياه عذبة غزيرة، يقدمون الى آلهتهم الشكَر والحمد والنذور. وقد أقامت الآبار الكبيرة العميقة العذبة مدناً، وأماتت مدناً بسبب نضوب مياهها وجفافها، وهي على هذه الأهمية الخطيرة الى الآن.

وللاهمية المذكورة للآبار في حياة العرب، كثرت في لغتهم المصطلحات الخاصة بها، من أسماء لأنواع الآبار ومن مصطلحات للحفر ولوسائل الحفر، ومن ألفاظ للمواد التي تستعمل في بناء البئر وفي استخراج الماء منها، ومن كلمات تشير إلى أبعاد البئر، ومقدار ما فيها من ماء، وأبعاد أفواهها. ومن أسماء البئر "الطوى" و "الطوية"، إذا بنيت بالحجارة. و "الجب"، البئر، وقيل البئر الكثيرة الماء البعيدة القعر، ولا تكون جباً حتى تكون مما وجد، لا مما حفره الناس. و "القليب" البئر ما كانت. وقيل: البئر قبل إن تطوى، فإن طويت فهي الطوي، أو العادية القديمة منها التي لا يعلم لها رب ولا حافر يكون في البراري. وقد عرفت ب "الرس" كذلك.

ومن أنواع الآبار التي ذكرها علماء اللغة: الشبكة، ويراد بالشبكة الآبار المتقاربة والأرض الكثيرة الآبار. وأما "الفُقُر"، فهي ركايا تحفر ثم ينفذ بعضها الى بعض حتى تجمع ماؤها في ركي. واذا اجتمعت ركايا ثلاث فما زاد إلى ما بلغ من العدة قيل له "فقير"، ولا يقال ذلك لأقل من ثلاث. وورد إن الفقر فم القناة، والمكان السهل تحفر فيه ر كَايا متناسقة، وفم القناة التي تجري تحت الارض، ومخرج الماء منهاْ، وأما "الكظامه"، فإنها بئر إن جنبها بئر بينهما مجرى في بطن الارض. وقيل: كل ما سددت من مجرى ماء أو باًب أو طريق، فهو كظم، والذي يسدّ به الكظامة. وقيل: هي آبار متناسقة تحفر وبباعد ما بينها، ثم يخرق ما بين كل نهرين بقناة تؤدي الماء من الأولى إلى التي تليها تحت الأرض فتجتمع مياهها جارية ثم تخرج عند منتهاها فتسيح على وجه الأرض.

و "الجفر" البئر التي ليست بمطوية، وتجمع على جفار. وأما "الجدّ"، فالبئر الجيدة الموضع من الكلأ، والجمع أحداد، والملك البئر ينفرد بها الرجل، والبود البئر كذلك. والسهبرة من أسماء الركايا. و "القليب" البئر ما كانت، والبئر قبل إن تطوى، فإذا طويت فهي "الطوي"، أو العادية منها التي لا يعلم لها رب ولا حافر يكون في البراري. و "الطوي" البئر المطوية بالحجارة.

ومن المواضع التي عرفت بأطوائها موضع "الأطواء" باليمامة، قرب "قر قرى"، ذو نخل وزرع كثير.

وقد تكون الآبار ذات مياه غزيرة كبيرة، تخص المدينة بأسرها، أو القبيلة بأسرها، وقد تكون ملك أسرة تستغلها الأسرة لحسابها، أو ملك فرد يستفيد منها مباشرة أو يبيع مياهها للناس،لاسقاء الأرضين أو الماشية. وقد تباع لأشخاص آخرين، وقد تؤجر. وطالما كانت الآبار مصدر نزاع خطير بين القبائل وسبباً في إثارة الحروب.

و "العِدُّ " البئر لها مادة من الأرض، فهي كثيرة الماء دوماً ولا تنزح، وأما "المفهاق" فإنها البئر الكثيرة الماء، و "الغروب" الدلاء، واحدها "غرب" وهي التي تجرها الإبل، و "الاسجل" الواسع من الدلاء بمائها، والغَلَل الماء الجاري يجري تحت النخيل،و "اليعيوب" النهر الجاري وتسلسله مضيه في جريته. و "الخسف." البئر ذات الماء الكثير.

وقد اشتهرت بعض الآبار بغزارة مياهها، ذكر "الهمداني" أن "بئر النقير" بناحية البحرين " على عشر قَبَم لا تنكش، ويجتمع عليها كثير من ورّادالعرب وربما سقى عليها عشرة آلاف بعير". وهناك آبار أخرى عرفت بغزارة مياهها.

وقد يحفرون سلسلة آبار نحرق أسافلها، ليفرغ بعضها في بعض من موضع الماء. مثل "الهباءة". وكانوا يزرعون عليها الحنطة والشعير وما أشبه.

ولم يكن من السهل في ذلك الزمن حفر الآبار، لعدم توفر الالات والأدوات الفنية. فإن حفر البئر إلى عمق بعيد الغور كما تتطليه الأماكن المرتفعة يحتاج إلى آلات كثيرة والى علم وتدبير وفن وذكاء في محافظة جدران البئر من الأنهيار على الحفارين، وعلى الماء بعد الانتهاء من الحفر، فتندثر ويذهب المجهود في حفرها عبثأَ. هذا ولا بد لمهندس الآبار من معرفة بطبيعة الأرض ومظنة وجود الماء فيها أو عدمه ومدى عمقه،فلا يعقل اقدام شخص على حفر بئر في أرض لايعرف من أمرها شيئاً. وحفر البئر في النجاد عمل مكلف باهظ، فلا بد إِذن من تخصص أناس بهندسة الآبار،ليقوموا بهذا العمل الذي لا يمكن القيام به ما لم يسنده علم وفهم.

وقد تخصص أناس بحفر الآبار وباختيار المواضع التي يحتمل وجود المياه العذبة بها. ولهم في ذلك علم ودراية وخبرة. وكانوا إذا قربوا من الماء احتفروا بئراً صغيرة في وسط البئر بقدر ما يجدون طعم الماء، فإن كان عذباً حفروا بقيتها، ولذلك يقال "التعاقب" و "الاعتقام". فالاعتقام إذن عملية تجريبية لاختبار طعم ماء البئر وتجربته من حيث العذوبة والملوحة وعليها تتوقف عملية الحفر.

ومتى حفرت البئر ووصل إلى الماء، قيل: أمهت البئر، وأموهت،وأمهيت. ويقال ابتأرت بئراً، اًي حفرتها. ويقال أيضاً: حفرت البئر حتى نهرت، أي بلغت الماء. واذا بلغ الحفارون الأرض الغليطة قيل: يلغت الكدية. واذا وصلوا موضعاً صعباً فصعب الحفر، قيل: بلغ مسكة البئر. ويقال أجبلت، أي انتهيت إلى جبل. ويقال الصلود، وهي الارض التي تحفر فيغلب جبلها الحافر. فيصلد الحفر على الحافر لصعوبة الأرض. واذا حفر الحفارون حتى يبلغوا الطين، فيقال عندئذ: أثلجت، فإذا بلغ الماء، قيل: أنبط ونبط. والنبط أول ما يظهر من ماء البئر حين تحفر. وإن بلغ الرمل، قيل: أسهب، وإن انتهى إلى سبخة، قيل: أسبخت. ويقال: تأثل البئر إذا حفرت البئر، وهزمت البئر حفرتها.

ويتحايل الحفارون في الحفر أذا فوجئوا بصخرة أو أرض صلدة، تمنعهم من الاستمرار في الحفر، خاصة إذا كانوا قد بلغوا عمقاً بعيداً في باطن الارض. وقد كلفهم الحفر صرف مال كثير، فإذا تركوه أصيب صاحب البئر بخسارة، لذلك يتحايل الحفارون على الأرض بالتعريج في الحفر، يمنة ويسرة، للعثور على موضع ينزلون منه إلى موضع وجود الماء، ويقولون لذلك: "التلجيف". ويراد به الحفر في جوانب البئر.

وقد تنقر آبار صغيرة ضيقة الرؤوس في نجفة صلبة، لئلا تهشم، ويقال لمثل هذه الآبار المناقر. وأما المنقر، فيراد بها البئر التي يكثر فيها الماء. وفي بعض المناطق الصخربة والجبلية آبار منقورة تتجمع فيها مياه جوفية تنحدر إليها من المواضع المرتفعة أو من مياه الامطار التي تتساقط على المواضع المرتفعة فتسيل إلى أفواه تلك الآبار وتدخل إليها وتجمع فيها، فيستفيد منها الناس.

وفي جملة الألفاظ الواردة في الكتابات العربية الجنوبية والمستعملة في حفر الآبار وتوسيعها وتعميقها، لفظة "حفر"، وهي بالمعنى المفهوم منها في عربيتنا. ولفظة "سنبط"، ويقصد بها معنى "استنبط"، من "نبط" ويراد بها ظهور الماء واستخراجه من باطن الارض وأما لفظة "سبحر"، فتعني "استبحر"، من أصل بحر، بمعنى التعميق. ولا يزال حفرةُ الابار في العراق يستعملون لفظة تبحير البئر بمعنى تعميقها. وفسرت لفظة "ضفر"، بعنى الدعم بالحجارة، أي كسوة جدار البئر يالحجارة.

وللمحافظة على البئر من الانهيار بسبب رخاوة جدرانها وتساقط المياه الممتوحة منها، عمدوا إلى ربرها من قعرها الى أعلاها بالحجارة. ويعبر عن هذا الجدار بلفظة " كولم" "كول" في المسند. وب "جول" في عربيتنا. ورد في كتب اللغة: "الجول: جدار البئر". ويقال لمثل هذه البئر "المزبورة" أي المطوية بالزبر. وأما "المعروشة"، فالتي تطوى قدر قامة من أسفلها بالحجارة، ثم يطوى سائرها بالخشب وحده، وذلك الخشب هو العرش. فإن كانت كلها بالحجارة، فهي مطوية، وليست معروشة. وهناك تعابير أخرى تشير إلى تبطين البئر وكساء جدرانها بمواد مقوية تمنعها ان تنهار. فإذا بنيت البئر بالحجارة، قيل بئر مضروسة وفى ضريس، وهو ان يسدّ ما بين خصاص طيها بحجر،وكذلك سائر البناء. ويقال الأعقاب للخزف الذيُ يدخل بين الأجر في الطي لكي يشتد. والوَسٌب خشبُ يطوى به أسفل البئر إذا خافوا إن تنهال، والجمع الوسوب. والحامية الحجارة تطوى بها البئر.

وهناك ألفاظ عديدة ذكرها علماء اللغة للآبار التي تكثر مياهها أو تقل. فورد: بئر غزيرة بمعنى كثيرة الماء، وورد بئر ميهة وماهة إذا كثر ماؤها، والعيلم البئر الكثيرة الماء. والخسَيف التي تحفر في حجارة فلا ينقطع ماؤها كثرة، وهي التي خسفت إلى الماء الواتن تحت الارض، ويقال بئر سجر ومسجورة بمعنى مملوءة، وبئر ذات غيث أي مادة. والقيلذم، البئر الكثيرة الماء، وبئر مقيضة كثيرة الماء قد قيضت عن الجبل. والبئر الماكدة التي يثبت ماؤها على قرن واحد لا يتغير، وإن كثر منها، وان وضع عليها قرنان أو أكثر، غير أن ذلك إنما يكون على قدر ما يوضع عليها من القرون بقدر مائها، وبئر مكود وماكدة لا تنقطع مادتها، والهزائم الآبار الكثيرة الماء، وبئر زغربة كثيرة الماء، وبئر ذمة وذميم وذميمة كثيرة الماء كذلك، والنقيع البئر الكثيرة الماء.

ويقال حبض ماء البئر، وذلك إذا انحدر ونقص، ونكزت البئر أي قلّ ماؤها، وبئر نزح ماء فيها، وبئر مكول وهي التي يقلّ ماؤها فيستجم حتى يجتمع الماء في أسفلها، واسم ذلك الماء المكٌلةُ، وبئر قطعة وبئر ذمة قليلة الماء، وبئر ضهول قليلة الماء، والخليقة البئر التي لا ماء فيها، وقيل هي الحفيرٍة في الارض المخلوقة، والضغيط بئر تحفر إلى جنبها بئر أخرى فيقلّ ماؤها، وبئر قَرُوع قليلة الماء وهي كالضنون سميت بذلك لانها تقرع قرعاً كلما فني ماؤها، وبئر رشوح وبروض وبضوض قليلة الماء.

وتستخرج المياه من الآبار بالدلاء، تربط بالحبال الى الأعمدة المثبتة فوق البئر. ويقال للعمود "عمد" "عامود" و الجمع "عمدُ" و "أعمد". وأما "الدلو" وهو الوعاء أو القربة المصنوعة من الجلد في الغالب، فيقال له "علبت" و "علبم" في المسند، تمتلىء بالماء حين دخولها في ماء البئر، فتسحب وهي مملوءة به. فإذا بلغت موضع سكب الماء سحبت إلى ذلك المكان لتفريغ مائها فيه، فينساب إلى "مسقيت" أي "مسقية"، بمعنى الساقيهّ لإرواء المزرعة، أو لايصاله الى المدينة أو البيوت.

وأما الآلة التي تعلق عليها الدلاء والمتصلة بالأعمدة فتعرف ب "اعرز" في المسند. ويقال للدولاب الذي يستقى عليه: المنجنون، وذلك في عربيتناْ.

ويقال لتفريغ الركية وأخذ ما فيها من ماء "حبض" في لغة المسند. وهي بهذا المعنى أيضاً في عربية القرآن الكريم. والاحباض إن يذهب ماء الركية فلا يعود، و "أحبض الركية" احباضاً، فلم يترك فيها ماء.

ولا بد للدلاء من حبال قوية متينة تتحمل الاحتكاك بينها وبين البكرة وتساعدها في حمل الدلو. وهذه الحبال تتخذ من مواد مختلفة، تفتل وتبرم، والعادة إن يقوى الحبل بجملة حبال تبرم بعضها فوق بعض، وتشد شداً قوياٌ لئلا تتهرأ بسرعة فينقطع. وقد يتكون الحيل الواحد من مجموع عشرة حبال. أما مادة الحبل فالليف والخوص والجلود ولا سيما جلود الإبل والابق والمصاص، وهو نبات، ولحاء الشجر والقنب، ومشاقة "السلبْ"، وهو ضرب من الشجر ينبت متسلقأَ فيطول. ويؤخذ فيحل ثم يشقق فتخرج منه مشاقة بيضاء كالليف يتخذ منها أجود ما يكون من الحبال، وقد تصنع من القطن ومن ليف جوز الهند.

ولفتل الحبال تستعمل المغازل والمبارم، لغزل الالياف وبرمها بعضها فوق بعض، كما تستعمل بعض المواد المقوية للالياف مثل الزيوت لتحافظ على قوة الحبل وعلى تماسكه فتبقيه طرياً،فلا ينقطع بسهولة: وقد تخصص أشخاص بصناعة الحبال وعاشوا عليها، وقد كانت ذات أهمية بالنسبة لذلك الزمن.

ويقال للدلو العظيمة: "الغرب". ويتخذ من مسك ثور، والغرب الراوية. و "السانية" الغرب وأداته، والناقة إذا سقت الارض، وسنيت الدابة، إذا استقى عليها، والقوم يسنون لانفسهم إذا استقوا. والسناية والسناوة السقي، وهو سان. والساني، يقع على الرجل والجمل والبقر، كما أن السانية على الجمل والناقة. والمسنوية، البئر التي يسنى منها، وركية مسنوية، إذا كانت بعيدة الرشاء لا يستقى منها إلا بالسانية من الإبل.

وتستخدم الثيران والجمال والحمير والبغال في مَتحْ الماء بالدلاء من الآبار الكبيرة الواسعة لسقي المزارع والبساتين والناس، ويشرف على ذلك العبيد أو الفلاحون أو أصحاب البئر. أما الآبار الصغيرة الخاصة بشرب الناس، فيستخرج الماء منها الإنسان، وتصب الدلاء المياه في أحواض أعدت لذلك، لها منفذ يسيل منه الماء إلى السواقي.

وقد تحمى البئر من الأدران ومن الأتربة ومن أخذ الماء منها، بإقامة بناء فوقها على هيأة غرفة، فإذا أقيم ذلك على البئر عرف ب "منشا" في المسند. وقد تؤدي هذه اللفظة معنى أخذ الماء وتوجيهه إلى الجهة المراد ارسال الماء إليها بمجرى ياخذ ماءه من "فنوت". وفسرت لفظة "ثقول" بمعنى تعليق. وتعليق شيء فوق بئر، أو انشاء سقف فوقها لحماية البئر ولتعليق الأدوات التي يمنح بها الماء من البئر عليها، وذلك كما في هذه الجملة: "ابارسم وثقولسم"، ومعناها: "وكل آبارهم وسقوفها" أو "وكل آبارهم والأعمدة المقامة فوقها للاستقاء بها".

وتتعرض الآبار لسقوط الأتربة والرمال فيها، وقد تنهار جدرانها فينضب ماوها، ولا تمكن الاستفادة منها إلا بنزحها. ويقال لنزح البئر جهرت البئر واجتهرت، أي نزحت. وقيل المجهورة المعمورة منها عذبة كانت أو ملحة. ولا بد من نزح هذه الآبار دائماً، إذا أريد بقاء الماء فيها، وإلا ذهب ماؤها وانتفت فائدتها، فتترك وتهمل وتنظف الآبار بنزول الرجال فيها فيشد الرجل وسطه بالحبل، ويترك طرفه في يد رجل، او مشدوداً بشيء ثابت قوي. ويقال لهذا الحبل "الجعار". وذكر إن "الجعار" حبل يشد به المستقي وسطه إذا نزل في البئر لئلا يقع فيها، وطرفه في يد رجل، فإن سقط مدّه به. وقيل هو حبل يشده الساقي الى وتد ثم يشده في حقوه. وتعمل في جدر الآبار في العادة مواضع للأقدام متقابلة يضع النازل في البئر رجليه عليها، تمكنه من النزول لمنح البئر، واستخراج ما قد يتساقط فيها من أتربة ورمال، أو لحفر قاعها لزيادة الماء فيها.

ويعبر عن انهيار البئر وسقوطها بألفاظ، مثل: "صقعت"، وانقاصت، وانقاضت، وانهارت، وتنقضت، وتجوخت، وانقارت. والهدم ما تهدم من نواحي البئر في جوفها، وانخسفت البئر، تهدمت.

وتنظف الآبار بالجُبٌجبة، تملأ بالأتربة وبالطين وباًلأوساخ المتراكمة في قاع البئر وترفع، وتصنع من جلود وأدم، وهي نوع من الزبيل. ويستعمل في التنظيف "الثوج" كذلك، وهو زبيل، يعمل من خوص، يحمل فيه التراب وغير ذلك. ويستعمل القفير كذلك، وهو الزبيل بلغة أهل اليمن. ومن أسماء الزببل أيضا "الصن" وهو زبيل كبير، والحفص زبيل صغير من أدم، والعرق نوع من أنواع الزببل. ويقال للخشبتين اللتين تدخلان في عروتي الزبيل إذا أخرج به التراب من البئر "المِسْمعان". وقيل المسمع العروة التي تكون في وسط المزادة.

وتسحب الزبيل بحبال أعلى لاستخلاص ما فيها من تراب وطين ووسخ حتى تنظف. ومن الالفاظ المعبرة عن تنقية البئر ونزولها وتنظيفها من الاوساخ والاتربة قولهم: نُثُلِت. البئر، أي أخرج ترابها، واسم ذلك التراب النثيلة والنثالة والثلة والنبيثة. ويقال نبيثة النهر كذلك. وأما خمامة البئر، فيراد بها ما كنس منها. ويقال جهَرَ تُ البئر، بمعنى أخرجت ما فيها من ألحمأة. وأما الشأو، فما يخرج من ترابها، وقد شأوت البئر نقيتها، ويقال للذيُ يخرج به المشآة، ويقال -أخرجت من البئر شأواَ أو شأوين، وهو ملء الزببل من التراب. وجششت البثر أجشها جشاً، أي كنستها. ونكشتُ البئر،أخرجت ما فيها من الحمأة والجيئة والطين.

وقد يتغير طعم مياه الآبار وألوانها لعوامل عديدة. وهناك مصطلحات عديدة ذكرها علماء اللغة للدلالة على فساد ماء البئر ونتنه. مثل: المسيط والضّغيط، والحماًة الطين الاسود المنتن، وقد يحمىء ماء البئر فيكدر وتخالطه الحمأة فتتغير رائحته. وتنزع حمأة الابار وتنظفّ ليمكن الاستفادة منها. والجيئة والجيأة: البئر المنتنة.

وقد كان أهل المدن والقرى يشربون من العيون ومن موارد المياه الطبيعية الاخرى إن كانت في قراهم عندها أو على مقربة منها، كما كانوا يحتفرون الآبار في بيوتهم أو في خارجها للاستفادة من مياهها، فإن كانت عذبة فرحوا بها وشربوا منها. وكانت قريش قبل جمع قصيّ إياها وقبل دخولها مكة تشرب من حياض ومصانع على رؤوس الجبال، ومن بئر حفرها "لؤي بن غالب" خارج الحرم تدعى "اليسيرة"، ومن بئر حفرها "مرة بن كعب" تدعى "الروي"، وهي ما يلي "عوفة" ثم حفر "كلاب بن مرة" خم ورم، و"الجفر" بظاهر مكة، وورد أن الذي حفر بئر "خم" هو "عبد شمس بن عبد مناف"، حفرها بمكة. وأن الذي حفر بئر "رم" هو "مرة بن كعب" أو "كلاب ابن مرة" حفرها بمكة. وذكر أن "الجفر" بئر بمكة كانت لبني تميم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي.

ثم إن "قصي بن كلاب" حفر بئراً سماها "العجول" واتخذ سقاية، ثم إنه سقط في العجول بعد ممات "قصي" رجل فعطلت. وورد أن الذي احتفرها "قصي" أو "عبد شمس". وحفر "هاشم بن عبد مناف" "بذر"،وهي البئر التي عند حطم الخندمة على فم شعب أبي طالب، وهي لبني عبد الدار. وحفر "هاشم" أيضاً "سجلة"، وقد دخلت في المسجد. وحفر "عبد شمس ابن عبد مناف " "الطوى" وهي بأعلى مكة، و "الجفر"، وحفر "ميمون ابن الحضرمي" "بثرة"، وهي آخر بئر حفرت في الجاهلية بمكة. وعندها قبر "المنصور". وورد أن "عبد شمس" حفر أيضاً بئرين وسماهما "خم" و "رم"، على ما سمى "كلاب بن مرة" بئريه. فأما "خم" فهي عند "الردم". وأما "رم"، فعند دار "خديجة بنت خويلد".

وحفرت بنو أسد بئر "شفُيَة". وحفر "بنو عبد الدار" "أم أحراد"، وقد أشير إليها في الحديث. وحفر "بنو جمح" "السنبلة". وذكر إن الذي حفرها "بنو جمح" و "بنو عامر". وحفر "بنو سهم" "الغمر"، وهي بئر "العاص بن واثل". وحفرت "بنو عدي" "الحفير". وحفرت "بنو مخزوم" "السقيا"، و "بنو تيم" "الثريا"، وهي بئر "عبد الله بن جدعان". وحفرت "بنو عامر بن لؤي" "النقيع"، وكانت لجبير بن مطعم بئر، وهي بئر بني نوفل، وكان عقيل بن أبي طالب، حفر في الجاهلية بئراً، وهناك آبار أخرى غيرها، ذكرها "البلاذري" في كتابه "فتوح البلدان".

وقد اشتهرت بعض الآبار وعرفت، ، ولا تزال معروفة نقرأ أسماءها في الكتب. ومن أشهرها "بئر زمزم"، ذات الشهرة البعيدة، بسبب مكانتها من الكعبة، وبئر "طوى". وهي بئر حفرها عبد شمس بن مناف. وبئر "ذروان"، وهي لبني زريق، جاء ذكرها في حديث سحر النبي. و "بئر رومة"، وهي ليهودي كان يببع الماء منها للناس، وقد حصل على مال كثير منها، وكان إذا غاب، قفل عليها بقفل، فلا يستطيع أحد أخذ الماء منها. فشكا المسلمون ذلك إلى الرسول، فقال: "ومن يشتريها ويمنحها للمسلمين ويكون نصيبه كنصيب احدهم، فله الجنة". فاشتراها "عثمان" بخمسة وثلاثين ألف درهم، فوقفها.

وبيثرب وأطرافها آبار عديدة، كان يستقي منها أهلها للشرب، منها بئر "غرس". ويظهر انها كانت من أجود وأحسن آبار يثرب. وقد ورد ذكرها في الحديث، حيث ورد: نعم البئر بئر غرس، هي من عيون الجنة. وغُسّل رسول الله منها. وذكر انها كانت بقباء، وانه برك فيها. ويستقى منها على حمار. ومنها بئر "مالك بن النضر بن ضمضم"، وهي التي يقال لها بئر "أبي أنس". ولما نزل الرسول منزل "أبي أيوب"، كان أبو أيوب يخدمه ويستعذب له هذه البئر، ولما صار الرسول إلى منزله، كان خدمه يحملون قدور الماء إلى بيوت نسائه من بئر السقيا، ومن بئر غرس.

وبئر "يضاعة" بئر معروفة بالمدينة، قطر رأسها ستة أذرع، وهي في بستان، وكان أهل يثرب يطرحون فيها خرق الحيض ولحوم الكلاب والمنتن.

وكان أهل العربية الغربية يحفرون حفراً، يجعلونها كالبئر، يلقون بها الجيف وما شاكلها. وذكر أن "الجباجب"، حفر بمنى كان يلقى بها الكروش، كروش الأضاحي في أيام الحج، أو كان يجمع فيها دم البدن والهدايا، والعرب تعظمها وتفخر بها. وقد ورد أن الرسول كان يشرب من بئر "بضاعة" وأنه بصق فيها وبرك. وأن خيل رسول الله كانت تسقى منها، وأن أهل المدينة كانوا يغسلون مرضاهم بمائها، لاعتقادهم أنه يشفي من المرض. ولعل قصة رمي الجيف والمنتن بها من القصص الموضوع المصنوع، أو أن ذلك حدث فيما بعد، حين أهمل شأنها،فلم يعد الناس يستقون منها، فاتخذت موضعاً يرمى فيه الجيف.

ومن بقية الآبار "البقُعْ" وقيل هي السقيا التي بنقب بني دينار، ويئر "جنب"، وبئر "جاسم"،بئر أبي الهيثم بن التيهان براتج، وبئر "العبيرة"، بئر "بني أمية بن زيد"، وقد شرب منها الرسول وسماها "اليسيرة". وبئر "رومة" باًلعقيق، وكانت لرجل من مزينة يسقى عليها بأجر، فقال رسول الله: نعْمَ صدقة المسلم هذه من رجل يبتاعها من المزني فيتْصدق بها. وكان المزني، قد ضرب خيمة إلى جنب البئر، يأخذ أجور الدلاء، وله جرار بها ماء بارد، مرّ الرسول به مرة فشرب منها ماء بارداً، فقال: هذا العذب ا لزلال.

ويرد في كتب السير مصطلح "بئر السقيا" و "بيوت السقيا"، و"السقيا" ورد أن الرسول كان يشرب من بيوت السقيا، وورد أن خدمه كانوا يحملون قدور الماء إلى نسائه من "بئر السقيا"، وأنه شرب حين خرج إلى "بدر" من "بئر السقيا". وقد ذكر بعض، العلماء، أن "بيوت السقيا" موضع في بلاد "عذرة"، يقال له "سقيا الجزل"، قريب من وادي القرى. وهناك بئر قيل لها "السقيا" بنقب بني ديار، ورد ذكرها في الحديث. وهناك مواضع أخرى عرفت ب "السقيا"، و "سقيا"، منها سُقيا غفار، و "السقيا الجزل"، "سقيا يزيد"، والسقيا للعنبر.

وقد ذكر إن الرسول قد شرب من الآبار المذكورة، وبصق فيها وبرك، ليبارك في مائها.

ولأبي عبيدة، معمر بن المثنى كتاب في الآبار، جمع فيه ما ورد ذكره من الآبار.

وقد اتخذ النبط وغيرهم من القبائل آباراً لشربهم ولشرب مواشيهم، لها فتحات تسدّ بالحجارة، فلا يمكن لأحد غريب الوقوف عليها، فإذا داهمهم عدو، أو أرادوا النقلة إلى أماكن أخرى، سدوا بها فتحاتها، ووضعوا فوقها من التراب ما يخفي معالمها. وقد أشار إليها الكتبة اليونان واللاتين.

ولا تزال بعض الآبار القديمة مستعملة ينتفع بمائها وهناك آبار طمرت، أو جفت مياهها، وقد عثرعند أفواهها على كتابات تشير إليها والى أسماء أصحابها. وهناك آباًر أخرى عديدة عثر عليها في مواضع متعددة من جزيرة العرب، وبعضها عميقة جداً، وهي كلها "عادية" من أيام الجاهلية. والبئر العادية البئر القديمة التي لا يعرف لها مالك.

وقد استغلت بعض الآبار الجاهلية المندثرة، بتنظيفها وتطهيرها واستغلالها. ذكر "فؤاد حمزة" إن آباراً عديدة جاهلية نظفت وأصلحت، فعادت إليها الحياة، واستغلت مياهها في إحياء الأرضين التي كانت خصبة مثمرة ثم تحولت إلى موات. ولا يزال الناس يستغلون في اليمن وفي غير اليمن بعض الآبار القديمة للشرب، وذلك لصعوبة استخراج مياهها للزراعة لعمقها، واقتصار الناس هناك في استخراج الماء على الدلاء. ويظهر من وجود بعض الآبار "العادية" في البراري إن تلك المواضع كانت في محلات مأهولة، ثم تركها أهلها فعميت،وبقيت آثارها تتحدث عن وجود سكن قديم في هذه المواضع. وفيَ اليمامة آبار عديدة عادية، لا تزال على وضعها، وهي من آباًر ما قبل الإسلام. وأشار العلماء إلى مياه عادية، فقد ذكروا إن "لبينة" ماءة عادية، أي من المياه القديمة التي يعود عهدها إلى الجاهلية.

وقد عثر المنقبون على نصوص جاهلية مدوّ نة بالمسند، تتعلق بتملك الآبار وبحفرها وبإصلاحها. وقد أرخ بعض منها بأيام ملك، أو برجل عظيم كان معروفاً مشهوراً في زمانه،أو بحادث وقع لهم ذي يال. وقد أمدتنا هذه النصوص ببعض المعلومات عن الآبار وعن أصحابها وأسماء المواضع التي حفرت بها.

ويكون نضوب الماء من البئر، أو تحول مائها العذب إلى ماء ملح، نكبة بالنسبة لأهل البئر، ففي تبدل طعم الماء هذا خسارة كبيرة لأهل الماء، وعليهم البحث عن مورد آخر لسدّ رمقهم،واطفاء ظمأ أموالهم، وحفر بئر أخرى في مكان آخر. ونقرأ في كتب أهل الأخبار واللغة أمثلة كثيرة عن هذا التبدل الذي حدث في طعم الماء، وسببه، همو انحباس المطر، وتحول مجاري المياه العذبة الجوفية من مكان إلى مكان، مما يسبب نضوب ماء الآبار والعيون التي كانت على المجاري القديمة، أو تقليل كمياته، فتظهر عندئذ ملوحة التربة، وقد تتغلب على طعم الماء العذب، فتحوله إلى ماء ملح وقد هجرت مستوطنات عديدة بسبب وقوع هذه الظواهر المحزنة في موارد مياهها كانت تستمد مياهها من حوض ماء جوفي، فلما قلت المياه فيهما، أو تحولت إلى موضع آخر، لعوامل "جيولوجية"، تأثرت المنطقة التي فيها الماء، بهذا التحول، واضطر سكانها إلى تركها، نتيجة انقطاع موارد المياه عنها، أو تبدل طعمها، تبدلاً لا يطاق.

بنو سهم، و "غمر ذي كندة" بينه وبين مكة يومان، و "الغمر" باليمامة، موضع ماء. وأما لفظة "الركايا"، فتعني الآبار.

الكراف

وترد لفظة "كرفن"، أي "الكرف" و "الكريف"، في النصوص المتعلقة بالإرواء والإسقاء والزراعة. وقد فسرها بعض العلماء ب "صهريج". وفسر "الهمداني" لفظة "كريف" بقوله: "كريف جوبة عظيمة في صفا يكون فيها الماء السنة وأكثر". والكرف صهاريج، نقرت في الصخر، ومنها كريف "درداع"، و هو كريف "وحاظة" واسمها "سباع"، ذكر ا ن مساحته "600 "ذراع في مثلها، وكريف "الوفيت"، منقور في الصخر الأسود، عمقه في الأرض خمسون ذراعأَ، وعرضه عشرون، وطوله خمسون. محجوز على جوانبه جدار يمنع السقوط فيه.

ويقال للموضع الذي يجتمع فيه ماء كثير،أو للماء الجاري الدائم الذي له مادة لا تنقطع كماء العين والبئر "العدُّ". وقد وردت اللفظة في كتب الحديث. وقد نهى الرسول عن اقطاع "الأعدَاد". وقد ذكر علماء اللغة إن من معاني العدّ: الماء القديم الذي لا ينتزح، وانه الماء الكثير بلغة تميم، والماء القليل بلغة بكرَ بن وائل، والركيّ في لهجة بني كلاب. ومن الماء العدّ: كاظمة، جاهلي اسلامي، لم ينزج قط. وفي الحديث نزلوا أعداد مياه الحديبية، أي ذوات المادة كالعيون والآبار.

القنى

والقناة كظيمة تحفر في الأرض تجري بها المياه، وهي الآبار التي تحفِر في الأرض متتايعة ليستخرج ماؤها ويسيح على وجه الأرض. ويكثر وجودها في العربية الجنوبية، ولا تزال آثارها باقية، وقد استفيد من بعضها في الشرب والسقي. والقنا والفقر، واحد، و "الفقرة" الحفرة في الأرض.

التلاع

وقد تنحدر المياه من عيون في الاسناد والنجاف والجبال حتى تنصب في الأودية وفي الأماكن المنحدرة، مكونة تلاعاً. و "التلعة" مسيل الماء من أعلى الوادي إلى أسفله. والتلاع مجاري أعلى الأرض إلى بطون الأودية. وتلعة الجبل أن الماء يجيء فيخدّ فيه ويحفره حتى يخلص منه. وربما جاءت التلعة من أبعد من خمسة فراسخ إلى الوادي، فإذا جرت من الجبال فوقعت في الصحارى حفرت فيها كهيأة الخندق، وإذا عظمت التلعة حتى تكون مثل نصف الوادي أو ثلثيه، فهي ميثاء. وقد نجري التلاع عند سقوط المطر وتكوين السيول، فيجري الماء بسرعة جارفة، تجرف ما قد يقف أمامها من مانع. ولذلك كانوا يخافون نزول التلعة، خشية خطر مجيء السيل فيجرف من قد يكون فيها. وللعرب أمثلة في التلاع، منها: "لا يمنع ذنب تلعة"، يضرب للذليل الحقير، و "لا أثق بسيل تلعتك"، يقال لمن لا يوثق به، "ما أخاف إلا من سيل تلعتي"، أي من بني عمي وأقاربي، لأن من نزل التلعة، وهي مسيل الماء، فهو على خطر إن جاء السيل جرف به. مما يدل على غرق أناس في هذه التلاع.

ويقال لمسيل ما بين التلعتين "المذنب"، وذنب التلعة. والمذنب مسيل في الحضيض ليس بخدّ واسع. وأذناب الأودية ومذانبها أسافلها. وقال بعض علماء اللغة: المذنب: مسيل ما في الحضيض والتلعة في السند، والجدول يسيل عن الروضة بمائها إلى غيرها، فيتفرق ماؤها فيها، والتي يسيل عليها الماء مذنب أيضاً قال امرؤ القيس: وقد اغتدي والطير في وكناتـهـا  وماء الندى يجري على كل مذنب 

واذا انحدر المطر إلى موضع واطىء، قيل إنشل، وانشل السيل وانسل ابتّدأ في الاندفاع قبل أن يشتد.

و "الوشل": ماء يخرج من شاهقة، فيسقط إلى منحدر. وتوجد الأوشال في الجبال. وفي الشواهق. وذكر علماء اللغة إن الوشل الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة، يقطر منه قليلاً قليلاً، أو الماء الكثير، فهو من الأضداد. وفي تهامة جبل يقال له الوشل فيه مياه كثيرة. وقد يقال للقطرات التي تنزل من سقف كهف أو لحف جبل فتجتمع في أسفله الوشل.

التحكم في الماء

وللسيطرة على المياه، ولا سيما مياه الأمطار، عند أهل الجاهلية إلى اتخاد مختلف الوسائل في التحكم فيها. بعضها بدائية وبعضها راقية تدلّ على براعة وعلم وفن. منها اتخاذ السدود للهيمنة على الماء، وخزنه للاستفادة منه عند الحاجة، وتوجيهه الجهة التي يريدونها. وقد أظهر العرب الجنوبيون مقدرة كبيرة في الاستفادة من الأمطار ومن مياه الينابيع والأنهار لاستعمالها في الإرواء والشرب والسقي. وتحكم مهندس الإرواء عندهم في الماء وسيطر عليه، لكيلا يذهب هباء، فاستخدم لضبطه الأبواب والفتحات والحواجز والرحاب، ونوّع في المجاري وفي مسايل المياه، ليستفيد من الماء قدر إمكانه فلا يفلت منه شيء.

ولم يكن من السهل على حكومات ذلك الزمن السيطرة على مياه السيول والاستفادة منها، فكانت تذهب سدى، بعد أن كانت تصيب الأرض والناس يالأضرار وحين تنحدر هذه السيول من النجاد والجبال والأمكنة المرتفعة، تتحول الأودية فجأة وبسرعة أنهاراً عريضة كبيرة، تسبل مياهها مندفعة هدارة، لكنها لاتلبث طويلاً،بل تزول وتذهب وتجف الأودية ولا يبقى فيها من الماء شيء، إذ يسيل إلى البحر أو يغور في التربة. وقد اجتهد الجاهليون إن يستفيدوا من هذه السيول فاقاموا السدود على قدر إمكَانهم كما فعلوا في سدّ مأرب وفي سدود أخرى كَما يظهر من الآثار، ولكن قدرتهم الفنية والمالية لم تكن من الاتساع والقوة بحيث تساعدهم على السيطرة على السيول.

وقد عثر على آثار سدود في مختلف أنحاء جزيرة العرب. وقد أنشئت في المواضع التي يزورها الغيث وتنهمل عليها الأمطار. وقد تقام لضبط مياه النهيرات والينابيع، لجمعها، ثم إعادة توزيعها. وبعض هذه السدود المندثرة هو اليوم في مناطق صحراوية لا ماء فيها ولا بشر، مما يشير الى أنها كانت مأهولة، ثم عفى على أهلها الدهر، فأهملت وتهدمت.

وبعض هذه السدود، سدود بسيطة، صنعت من تراب أو من تراب وحجارة لمنع ماء المطر من الذهاب عبثاً، فيسد" طريقه ويحبس في منخفض أو حوض ليستفاد منه. وقد أمر الرسول بسدّ ماء السماء في موضع ليستفاد من الماء، فعرف ب "سد". ويطل جبل "شوران" على السد. وأمر "معاوية" بسد الوادي الذي يمر بحرة المدينة، فحبس سيله بسد، عرف بسد معاوية فهو يحتبس فيه الماء، يرده الناس بمواشيهم يسقونها. ويمر على طرف "قدوم" ويصب في "أحد". و "قدوم" جبل على ستة أميال من المدينة.

وتتخذ "المُسُك" لمسك الماء وحبسه، تمنعه من الذهاب عبثاٌ. كاًن تمنعه من إن ينصب في البحر.

ويقال للسد "عرمن" في العربيات الجنوبية، أي "العرم". فلفظة "العرم" تعني السد عند اليمانين القدماء، ولم تكن علماً على سد معين. أعني سد مأرب. وقد وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: )فأرسلنا عليهم سيل العرم(.

وفي هذه الآية اشارة إلى حادث انفجار سد مأرب كما يذهب إلى ذلك المفسرون. وتولت الحكومات في اليمن إنشاء السدود وحفر القنوات والسواقي، وأنفقت على الأعمال من أموالها، وقدّمت المواد الغذائية وبعض الأجور إلى العمال. وكانت تطلب إلى سادات القبائل والقرى تقديم الرجال للعمل وتقوم هي بإعاشتهم طوال أيام عملهم، كالذي ورد في نص "أبرهة" عامل الحبشة على اليمن، فقد كان يقدم الطعام إلى العمال لقاء اشتغالهم ببناء السد. وقد ذكر مقدار ما قدّمه وما صرفه عليهم من طحين وبرّ وتمر ولحم وقد يشغل العمال سخرة، فلا تدفع الحكومة أو سيد القبيلة أو الموضع اليهم شيئاً. وقد كانت السخرة شائعة في ذلك العهد، لا في اليمن حسب، بل في العالم القديم كله، فيسخر العمال بتكسير الحجارة واقتلاعها من المحاجر ونقلها إلى الأماكن التي يراد إقامة السدود أو منشآت البناء فيها أو غير ذلك، ثم بإصلاحها وببقية أعمال البناء اللازمة، إلى أن تنجز، وعندئذ يسمح لهم بالانصراف إلى حيث يشاؤون.

وفي الحالات الاضطرارية يحشر الناس حشراً، كما في الفيضانات المفاجئة التي تنشأ عن السيول. فتحشر الحكومة ورؤساء المدن والعشائر كل من يجدونه أمامهم للعمل على إنشاء الحواجز والسدود وفتح المجاري لمرور المياه لانقاذ الأرواح والأموال من الكوارث والأضرار.

وقد تتولى المعابد هذه الأعمال، فتصرف عليها من واردها، تعدّ ذلك هبة أو ديناً تتقاضاه من أصحاب الأرض ومن المستأجربن في المدن والقرى، كما يتولاها أيضاً رؤساء القبائل، بأن يكلفوا القبيلة القيام بذلك العمل، مقابل تعهدهم بتقديم الطعام للمشتغلين به، وقد يكلفونهم ذلك سخرة مستخدمين حق القوة التي يتمتعون بها إن كانوا رؤساء أقوياء.

وفي كتب أهل اللغة والأخبار تعابير عديدة عن سيل السيول، وأثرها في الأرض وجرفها التربة وما عليها، وتفتيتها أشفار الأودية والأماكن التي تنْحدر منها وكيفية قلعها الأشجار والصخور. يظهر منها كلها إن أثر السيول كان شديداً مؤذياً، وهو ما زال على أذاه إلى هذا اليوم.

المسايل

وللسيطرة على المياه، ولا سيما مياه الأمطار،عمد العرب الجنوبيون إلى الوسائل الصناعية الفنية في التحكم فيها، فاًنشأوا المجاري الصناعية لتجري فيها المياه وتسيل فلا تذهب عبثأَ ولا تجري في القنوات إلا بقدر. ومن هذه المجاري ما يقال له "مأخذ" و "مأخذت" في لغة المسند. أي "مأخذ" و "مأخذة". ويراد بالمأخذ المجرى المحفور المعمق لمرور المياه إلى الحقول والبساتين أو المعابد.

ويقال للقناة أي الممر الذي تمرّ منه المياه "عبرن" في اللهجات العربية الجنوبية، أي المعبر. ذلك لأن المياه تعبرها وتجري فيها وتسيل منها إلى الأماكن التي كان يقصد وصولها إليها. وترد بكثرة في النصوص المتعلقة بتنظيم الإرواء وفي النصوص المتعلقة بشؤون الزراعة. وأما لفظة "امررن " فتعني "المرور"، والامرار و "الممرات"، وقد وردت فيَ النصوص الزراعية بمعنى الممرات المائية التي تجري فيها المياه، فهي بمعنى سواق لإسقاء الأرض. وأما الممر الواحد أو الوادي، فيقال له "سر ن".

وترد كثيراً في النصوص المتعلقة بشؤون الإرواء لفظة "حرت". وورودها فيها يدل على وجود علاقة لها بالإسقاء والإرواء.ويظهر أن لهذه اللفظة صلة بلفظة "خر" العربية التي تعني ما خدّه السيل من الأرض، والشق، فيقال خر الماء الأرض خراً إذا شقها، والهوى من علو إلى أسفل، واذا تدهدى الشيء من علوه. وهي بهذا المعنى وبمعنى ثقب وفتحة في لغة بني إرم وفي العبرانية المتأخرة، وتؤدي لفظة "خرو" Harru معنى قناة في الأشورية. وهذا يدل على إن للفظة "حرت" معنى قناة أو فتحة تفتح في السد، أو في مجرى ماء، لإسالة الماء من الفتحة إلى القناة أو المجرى المخصص بجري الماء.

وقد عثر السيّاح الذين زاروا اليمن ودرسوا آثار السدود على "حر"ات"كثيرة تتخلل جانبي السدّ. وهي عبارة عن فتحات مستديرة، تختلف أقطار فتحاتها بحسب كميات المياه المراد إمرارها منها إلى "القنوات". وهذه الفتحات هي الحرات "حررتن". والفتحة الواحدة هي "حرت" "حرة".

ويعبر عن احداث فتحة أو ثغرة في جدار أو جبل أو في صخرة لإسالة الماء منها أو فتح شيء ما، بلفظة "بلق". وتؤدي لفظة "مخض" معنى "بلق" أيضأَ، فهي أيضاً بمعنى احداث ثغرة اًو فتحة، غير أنها تستعمل للتعبير عن معان أخرى مثل فتح الطرق وشقها في الجبال في الغالب، أو احداث طريق فوق "منقًلن". ويراد بالمنقل معنى "نقيل" أي ممر.

ولما كانت العربية الجنوبية ذات جبال ومرتفعات، تصطدم بها الرياح المتشبعة باًلأبخرة، فتتساقط مطراً، عمل المهندسون على الاستفادة من هذه الأمطار بالتحكم فيها وبتوجيهها الجهة التي يريدونها، وذلك بإحداث فتحات في الصخور وعمل قنوات وأنفاق لإكراه الماء على المرور منها إلى المواضع التي يريدون خزنها فيها للاستفادة منها عند الحاجة، ولتكوين مسايل كبيرهّ تتجمع فيها المياه فتجري كالأنهار.

وتؤدي لفظة " قلح" معنى سال وجرى وصب، ولها معان أخرى ذات صلة بالحركة. وبهذا المعنى ترد لفظة "سفح" كذلك. ولسفح في عربيتنا معنى قربب من معناها في المسند، فمن معاني السفح، عرض الجبل حيث يسفح فيه الماء، وسفح بمعنى سال وأراق وصب. وهي معان لها صلة بجريان الماء.

وأما لفظة "منفخت" "منفخة" و "منفخ"، من أصل "نفخ"، فإنها تعني فتح الماء واسالته، وذلك بفتح الفتحات الماسكة له ليسيل منها إلى المجاري المخصصة بمسيله. وهي في معنى لفظة "منفس" التي هي من أصل "نفس". ويراد بها خروج الماء وجريانه من الفتحات الحابسة له وارتفاعه نتيجة لفتح الماء. وهي من ألفاظ الإرواء الواردة في الكتابات العربية الجنوبية.

وبستعمل العراقيون جملة "تنفس الشط" بمعنى ارتفع ماء النهر وزاد، وذلك في ايام الفيضان. و "تنفس الموج" و "تنفس دجلة". فالمنفخ والمنفس اذن في معنى واحد، ويطلقان على عملية رفع مستوى الماء بزيادة كمياته من الفتحات التي تضبطه وتسيطر عليه، لأجل رفع مستواه في الأنهار أو في المجاري والسواقي لإرواء الأرضين في يسر وسهولة، ولا سيما الأرضين المرتفعة بعض الارتفاع. ويقال لمجرى الماء الصغير المتفرع من مجرى أوسع منه "مسبا". وذهب بعض الباحثين إلى أن المراد بهذه اللفظة الصهريج. وقد عرف علماء اللغة "المسبا" بأنه الطريق في الجبل.

أما السواقي ومجاري الماء الصغيرة التي تستعمل في اسقاء المزارع والحدائق، فيقال لها "مسقيت"، أي "مسقية" و "ساقية". وذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة "مسفحة" "المسفحة"، تعنى الساقية أيضاً.

ويعبر عن خروج الماء وسيلانه ونزوله بلفظة "فجر". و "الفجر" في عربيتنا تفجير الماء، يقال انفجر الماء وتفجر: سال وانبعث. والمفجر والمفجرة منفجر الماء من الحوض وغيره. وفجرة الوادي، متسعه الذي ينفجر اليه الماء. و "الشرج" مسيل ماء من الحرة إلى الوادي، ومنفسح الوادي، فلها علاقة بمسير الماء وسيلانه. وبهذا المعنى وردت لفظة "سفح" في المسند.

المصانع

وللاستفادة من ماء المطر استعملوا المصانع، جمع مصنعة. مساكات لماء السماء، يحتفرها الناس فيملؤونها ماء السماء يشربونها. والمصنعة كالحوض أو شبه الصهريج، و ذكر ان الحبس مثل المصنعة. و ذكر ان المصانع مساكات لماء المطر يحتفرها الناس، و أن العرب القرى مصانع، تقول هو من أهل المصانع، أي القرى و الحضر، و المصانع أيضاً المباني من القصور و الابار و غيرها و الحصون. و الصنع مصنعة، و هي خشبة يحبس بها الماء و تمسكه حيناً، وسمت المبني للماء. و يكون من حجارة مرصوفة بعضها إلى بعض في مسيل فيجتمع فيها المطر.

السكر

ويعبر في لهجة أهل الحجاز بلفظة "سِكْر" و "سكر الانهار" عن سدّ الماء و حبسه، وذلك لظبط الماء، فلا يتسرب إلى المزرعة أو إلى مكان فيغرقه، أو لحبس الماء للأستفادة منه في الاسقاء. و قد يكون السكر ثابتاً دائماً، مبنياً له فتحات تغلق و تفتح وقت الحاجة اليه؛ و قد تكون مؤقتة تزال و تسدّ بحسب الحاجة، و تكون هذه في السواقي و النهيرات. و تؤدي لفظة "حبس الماء" معنى سدّه و منعه من السيلان و الجري، و ذلك بواسطة السكر و الحاجز المقام. و تؤدي لفظة "سكر"، معنى سدّ النهر و "العرم" أي السدّ، و المسناة.

الاحباس

و "الحِبس" خشبة أو حجارة تبنى في مجرى الماء لتحبسه، كي يشرب القوم و يسقوا أموالهم. و الجمع أحباس. و قيل ما سدّ به مجرى الوادي في أي موضع حبس. و قيل الحبس كالمصنعة تجعل للماء. و "العرمة" سد يعترض به الوادي ليحتبس به الماء، و الاحباس تبنى في أوساط الاودية. و "الرجيع" محبس الماء، و "الحرنق" مصنعة الماء، و السرج و القرى و الحافشة. و هذه مسايل الماء. و "الخربق" مصنعة الماء و اسم حوض. و "الردم" السدّ. و "الحواجز" و "الحاجز" ما يمسك الماء من شفة الوادي و يحيط به. و من الأحباس: حبس ضعاضع. جبيل عنده حبس كبير يجتمع عنده الماء. و هو حجارة مجتمعة وضعت بعضها على بعض.

و تكون السواقي و مسايل الماء و السدود، مسايل جانبية، عند الحاجة لمرور الماء منها إلى المزارع، من المسيل الاعظم يمنة و يسرة، و يقال لها: "النواشط". و طريق ناشط، اذا كان ينشط من الطريق الأعظم يمنة و يسرة.

وقد كان نضوب الماء من الآبار و الغدران و مواضع الماء الاخرى من المشكلات التي جابهت الجاهليين. ومن المسكلات التي ما برح سكان جزيرة العرب يواجهونها اليوم أن بعض الابار يغور ماؤها، فيضطر الناس إلى ترك أماكنهم، أو قد يتبدل طعم الماء، فلا يكون مستساغاً للشرب و لا مجديا في الزراعة. و حفر الابار في مواضع متقرابة يؤدي إلى انخفاض مستوى الماء أو نضوبه في كثير من الاحيان. و قد أدى اهمال الناس للآبار إلى تراكم الأتربة فيها، و اهيار جدرانها و نضوب الماء منها، و ارتحال الناس عنها.

السدود

السد في اللغة الحاجز، و الوادي فيه حجارة و صخور يبقى الماء فيه زماناً. وقد كان الجاهليون يقيمون حواجز عند مخارج السيول، لحبس الماء في المنخفضات لتكوين أحواض لحفظ الماء فيها، للاستفادة من مائها عند انقطاع السيول وظهور الجفاف. ولما كان بناء سد ضخم بحجارة وبجدر مرتفعة طويلة، عمل يحتاج إلى مهارة وخبرة والى مال، والى وجود حكومة كبيرة متمكنة من الناحية المادية، وهي شروط لم تكمن متوفرة في معظم أنحاء جزيرة العرب، ما خلا اليمن، صارت السدود في معظم أنحاء جزيرة العرب سدوداً صغيرة بدائية في أغلب الأحيان، هي مجرد حواجز من تراب أو من صخور كدّست بعضها فوق بعض لحبس الماء في المنخفض ومنعه من الجريان. وقد شاهد السياح آثار سدود جاهلية في أنحاء جزيرة العرب، ووصفوها، وذكروا أن من الممكن الاستفادة من بعض تلك السدود ومن مواقعها، وأشادوا بمقدرة من شيدها وأقامها وبقابلياته الهندسية وبفطنته في حسن اختيار المواقع، بالرغم من ضعف القدرة الفنية وبدائية الأساليب التي استعملت في ذلك الزمن.

ومن السدود: "السد" ماء سماء في "حزم بني عوال"، جبيل لغطفان أمر الرسول بسدّه. وسد "أبي جراب" أسفل من عقبة منى دون القبور عن يمين الذاهب إلى منى، منسوب إلى "أبي جراب عبد الله بن محمد بن عبد الحاراث بن أمية الأصغر"، وسد قناة، وسد "العياد"، وقد أقيم في موضع يبعد عن الطائف زهاء ستة أميال، كتب عليه بالخط الكوفي المحفور على الحجر:   

"هذا سد عبد الله بن معاوية أمير المؤمنين. بناه عبد الله بن ابراهيم". وكان ذلك سنة "58" للهجرة. وقد أقيم بالحجارة وحدها، فلم يضع مهندسه، عبد الله ابن ابراهيم، مادةً من مواد البناء مثل الملاط أو الطين وما شابه ذلك بين الحجارة لتثبيتها وضمها بعضها إلى بعض حتى تتماسك، فتكون كأنها قطعة واحدة. وهي طريقة معروفة في اليمن، استعملها المهندسون الجاهليون كما يظهر ذلك من فحص الخرائب العتيقة الباقية من الأبنية وألسدود الجاهلية. ولا يزال هذا السدّ في حالة ممتازة يتحدث عن نفسه وعن قدرة المهندس الذي أقامه في هذا المكان.

سد مأرب

واستبد سدّ مأرب من بين سائر سدود جزيرة العرب بالإسم والذكر، ونال مكانة كبيرة في كتب التفسير والسير والأخبار. ولذكر القرآن ل "سيل العرم"، نصيب كبير في توجه اًنظار علماء التفسير واللغة والأخبار اليه، وفي خلود اسمه إلى الآن. وقد روى أهل الأخبار قصصاً عنه وعن كيفية خرابه، وتشتت شمل سبأ بسببه، ونزوحهم إلى مواضع بعيدة عن ديارهم القديمة.

ويعدّ سدّ "مأرب" من أهم السدود التي أقيمت في اليمن وفي جزيرة العرب، وقد بني من أجل السيطرة على مياه الأمطار والسيول التي تتدفق منها لوقاية المزارع والقرى منها، وللاحتفاظ بهذه السيول للاستفادة منها إذا انقطعت الأمطار. وإرواء مناطق واسعة من الأرضين، جيدة التربة، خصبة مثمرة. لكن بها حاجة شديدة إلى الماء، وما كان في الامكان إنباتها لولا السيطرة على السيول وإنشاء هذا السدّ.

وتأتي السيول إلى السد من أماكن عديدة، من "ذمار"، و "جهران"، و "الحدي"، و "حولان"، و بلاد مر اد، وقيفة، وعروش، وجوا نب ردمان، وشرعة، وكومان وغيرها، وذلك إذا أمطرت السماء وتجمعت فيها السيول وانحدرت، حتى تنتهي إلى وادي "أذنة"، فتسير فيه المياه حتى تنتهي إلى مضيق بين جبلين، يقال لكل منهما "يلق"، ويسميهما "الهمداني" مأزمي مأرب، تسير المياه فيه حتى تدخل منخفضاً من الأرض واسعاً، هو حوض هذا السد. تدخر مياه الأمطار فيه. وله سدود وأبواب لحجز المياه وحبسها، أو لتصريفها حسب الحاجة. فتمر من أبواب تفتح وتغلق،لتمر المياه منها في قنوات توزع إلى الأماكن التي يراد توجيه الماء إليها.

ولا توجد لدينا نصوص عن أول رجل أقام هذا السد، وعن العهد الذي تم فيه البناء. وكل ما لدينا اليوم عن وقت بنائه لأول مرة هو لذلك حدس ونخمين.

ويرى "كلاسر" أن عهده يعود إلى السنة السبعمئة قبل الميلاد. وقد بقي قائماً يؤدي واجبه إلى حوالى السنة "575" بعد الميلاد. ويظهر من بعض الكتابات المحفورة على جدرانه بالمسند أن جملة تحسينات وتعميرات أدخلت عليه في أوقات مختلفة قبل الميلاد وبعدها، وآخرها هو اصلاح أبرهة له الذي تم على أثر تصدعه سنة 542للميلاد. ويظهر أن تصدعاً اخر وقع للسدّ في أيام طفولة الرسول، وذلك في حوالى السنة "575" للميلاد، لم يكن من الممكن التغلب عليه،بسبب التدهور الاقتصادي الذي حدث في هذا العهد في اليمن وارتباك الأوضاع السياسية واضطراب الأمن وانتشار الثورات في كل مكان وتدخل الأجانب في شؤون البلاد، فتصدع قسم كبير منه، ولم يهتم أحد من الحاكمين في اعادته إلى أصله بإصلاحه وترميمه، وتحولت بذلك الأرضين الخصبة التي كانت تروى بمائه والتي كانت واسعة إلى أرضين موات، غطتها الطبيعة بطبقة من الرمال والأتربة وألبستها أكسية الصحراء الحزينة، حداداً على فراقها لذلك السدّ العتيد.

وتعود أقدم الكتاباًت الباقية إلى أيام "المكربين". وتأتي كتابة "سمه على ينف" "سمهعلى ينوف" مكرب سبأ على الرأس. ويظهر منها إن هذا المكرّب قدأقام سد "رحاب"، وقد اشتغل به ابنه "يئع أمر بين" وقوّ اه، كما بنى سداً آخر عند "حبابض"، ويقع في المنطقة الشمالية من سد مأرب.

وقام المكرب "كرب ال بين بن يثع امر"، ببناء جزء من السد وتقوية أجزائه الأخرى. كما قام الملوك بإضافة أجزاء جديدة اليه، وتقوية الأجزاء القديمة منه. ومن هؤلاء الملك "ذمر على ذرح" ملك سبأ، والملك "يدع ال وتر" "يدع ايل وتر".

كذلك أصلح الملك "شمر يهرعش" هذا السد، ورممه الملك "شرحبيل يعفر" في سنة "449" للميلاد. ولكن المياه جرفت أقساماً منه سنة "450" للميلاد، أي بعد سنة من الترميمات، فاضطر إلى إعادة إصلاحه وتقويته.

وقد أقام المهندسون في الجهة الضيقة التي تسيل منها السيول إلى المجاري ثم إلى حوض واسع سداً قوياً طوله نحو من "577" مترأ ونصف المتر، عرف ب "رحاب" في المسند. أقيم في المنطقة التي تضيق فيها الشقة بين جزءي جبل "بلق"، حيث يمر بينهما واد يفصل بين الجزءين المعروفين ب "بلق القبلي" و "بلق الأوسط". فسدّ الوادي بذلك وتحكم السد بمسير ماء السيول. وصار يجري من خلال فتحة، هي باب يتحكم الإنسان فيها كيف يشاء إلى "وادي أذنة" "وادي ذنة"، حيث يملا الحوض. وينتهي الحوض بسدين آخرين أقيما لتنظيم تصريف الماء المخزون عند الحاجة وتوجيهه إلى الأرضين المحتاجة اليه، بهما منافذ هي أبواب تفتح وتغلق للتحكم في توزيع الماء.

وقد استخدمت في بناء السد والحواجز حجارة اقتطعت من الصخور، وعولجت بمهارة وحذق حتى توضع بعضها فوق بعض، وتثبت وتتماسك وتكون وكأنها قطعة صلدة واحدة. ونحتت الصخور، بحيث صارت تتداخل بعض في بعض، بأن يدخل رأس من صخرة في فتحة مقابلة لها، فتكون كالمفتاح في القفل، وبذلك تتماسك هذه الصخور وترتبط ارتباطاً وثيقاً، وتكون كاًنها صخرة واحدة. وقد وجد إن بعض الأحجار قد ربطت بعضها ببعض بقطع من قضبان اسطوانية من المعدن المكون من الرصاص والنحاس يبلغ طول الواحد منها حوالى "16" سنتمتراً، وقطرها حوالى الثلاثة سنتمترات ونصف. وذلك بصب المعدن في ثقب الحجر، فإذا جمد وصار على شكل "مسمار"، يوضع الحجر المطابق الذي صمم ليكون فوقه في موضعه بإدخال "المسمار" في الثقب المعمول في الجهة السفلى من ذلك الحجر، وبذلك يرتبط الحجران بعضهما ببعض برباط قوي محكم. وقد اتخذت هذه الطريقة لشد أزر السد، وليكون في امكانه الوقوف أمام ضغط الماء وخطر وقوع الزلازل. أما المادة التي استعملت في البناء لربط الأحجار بعضها ببعض فهي من أحسن أنواع الجبس Gips، وقد تصلب هذا الجبس الذي طليت به واجهات السد أيضاً حتى صار كأصلب أنواع السمنت.

وقد أقام المهندسون أبواباً لدخول المياه منها وخروجها، كما أنشأوا فتحات لتقسيم المياه وتوزيعها على المجاري والسواقي تفتح وتقفل بحسب حاجة المزارع والأماكن إلى المياه. ولا يزال بعض جدر السد قائماً.، وآثار السواقي والمجاري التي كانت تجري فيها المياه من الحوض باًقية، وهي تدل على مهارة مهندسي الري في ذلك العهد وعلى براعتهم في كيفية الاستفادة من الأرض ومن الطبيعة لخدمة الإنسان.

وبنيت في اليمن سدود أخرى، منها "قصعان" و "ربوان"، وهو سدّ قتاب، وشحران، وطمحان، وسد عباد، وسد لحج، وهو سد عرايس، وسد سحر، وسد ذي شمال، وسد ذي رعين، وسد نقاطة، وسد نضار وهران، وسد الشعباني، وسد النواسي، وسد الخانق بصعدة، وسد ريعان، وسد سيان، وسد شبام، وسد دعان وغيرها. وذكر "الهمداني" أن في مخلاف "يحضب العلو" ثمانين سدأَ.

وسد "الخانق " سد ينسب إلى "نوال بن عتيك" مولى سيف بن ذي يزن، ومظهره في "الخنفرين" من رحبان. وقد خرّ به "ابراهيم بن موسى العلوي" بعد هدم صعدة.

وهناك آثار سدود جاهلية أخرى أقيمت في مواضع متعددة من العربية الجنوبية. منها آثار سد قتباني أقيم عند موضع "هجر بن حميد" بوادي بيحان. وقد درسه ووصفه "بوون". كان يسقي بمائه منطقة واسعة من أرض مملكة قتبان.

وآثار سد "مرخة"، وآثار سد آخر أقيم عند "شبوة"، وسد آخر عند "الحريضة"، تفرعت منه شبكة من القنوات والمجاري لايصال الماء إلى المزارع والأرضين الخصبة التي تعيش عليها.

وقد ظهرت من الصور "الفوتغرافية"، الذي أخذت من الجو لبعض مواضع من جزيرة العرب آثار شبكات للارواء تتصل بأحواض مياه وسدود أقيمت لخزن مياه الأمطار فيها للاستفادة منها وقت الحاجة. ففي "وادي عديم" آثار جدر سدود وقنوات ومجاري مياه متصلة بعضها ببعض تمتد إلى مسافات بعيدة كانت تمدها بإكسير الحياة. وكذلك تشاهد آثار الإرواء عند "حصن العر" و "ثوية" في القسم الجنوبي من "وادي حضرموت". وقد نحتت الصخور عند "نجران" لعمل ممر منها للماء ليذهب إلى حوض واسع أحيط بسد وجدار حيث يمكن خزن مئة مليون "غالون " من الماء فيه.

توزيع الماء

وقد يوزع الماء الجاري من العيون والأنهار، باًلنصيب. بأن تعين أوقات تفتح فيها المياه على مزرعة ما، فإذا انتهى الوقت سد الماء، وحُوّل الى مزرعة أخرى، وذلك لقلة الماء وعدم كفايته في اسقاء المزارع كلها دفعة واحدة، فيوزع بالحصص، في أوقات تثبت وتعين. وقد تقع الخصومات من جراء التجاوز وعدم التقيد بضبط الأوقات، كما يحدث في أيامنا في كثير من الأماكن الزراعية. ونجد في كتب الأخبار أمثلة عديدة من أمثلة هذا النزاع. ويقال للنصيب من السقي "سِقي". أي الحظ من الشرب ّ.

حقوق الري

وللجاهلين أعراف محلية قامت مقام القوانين في الاستفادة من الماء. والمياه عندهم، اما مياه طبيعية لا دخل ليد الإنسان في استنباطها، مثل مياه الأمطار والعيون والأنهار. واما مياه وجدت باستنباط الإنسان لها، باستخدام ماله ويده في تذليلها،كمياه الآبار والعيون التي يفجرها الإنسان ومياه الصهاريح والكهاريس والمياه التي تتجمع من إقامة السدود وما شاكل ذلك مما للانسان يد وعمل في الاستفادة منها.

وطبيعي إن تختلف هذه إلأعراف باختلاف مواضع جزيرة العرب. فالمياه في العربية الجنوبية من أمطار ومن مياه مستخرجة أو نابعة هي أكثر بكثير من مياه أي منطقة أخرى من جزيرة العرب. ولهذا نجد لها ذكراً في الكتابات العربية الجنوبية، حيث نجد فيها إشارات إلى أحكام وإلى كيفية السقي وحقوق أصحاب الأرض في الماء وحقوق المستأجرين للارض في الماء وإلى خصومات وقعت بينهم في موضوع حقوق التصرف بالماء.

ولدينا في الوقت الحاضر كتابات، هي قوانين صدرت من حكومات العربية إلجنوبية في تنظيم حقوق السقي والاستفاده من الماء ومن حق الانتفاع من الابار. كما تعرضت لموضوع حقوق شراء الأرض، وكيفية بيعها وما إلى ذلك مما يتعلق بالري والزراعة.

وأما في الحجاز، فقد استخدمت الآبار المحفورة، يحفرها أهلها ليستفيدوا من مياهها في الشرب وفي اسقاء الزرع والمواشي، وقد يكرونها لغيرهم مقابل كراء يعين. لهذا وضعوا أعرافاً خاصة بالنسبة إلى الاستفادة من حقوق ملكية الآبار.

الخصومات بسبب الماء

وطالما وقعت مشاحنات وخصومات بين أصحاب المزارع بسبب اشتراكهم في الماء، في مثل الشراج والجعافر والأنهار وأمثالها، إذ كان يستأثر بعضهم به، ولا يدع الماء يسيل الى غيره إلا بعد أن يسقي زرعه سقيا كاملاٌ،وكان أصحاب المزارع الذين تقع مزارعهم في أعالي منابع الماء يستأثرون به، بتوجيهه الى مزارعهم، أو بوضع سكر يحبس الماء عن البساتين الواقعة خلف السكر، فيذهب الماء إلى مزارعهم ولا ينال المزارع الأخرى الا للقليل منه. ونجد مثل هذه الخصومات في العربية الجنوبية وفي منطقّة يثرب وفي مواضع الحسي وعيون الماء. وقد خاصم أنصاريٌ " الزبيرَ بن العوّ ام" عند النبي في شراج الحرة، وهي مسايل الماء التي يسقون بها النخل، فقضى النبى، إن يسقى الأعلى ثم الأسفل.

الفصل السابع والتسعون
معاملات زراعية

وقد تطرقت كتب الحديث والفقه إلى ذكر معاملات زراعية، كان المزارعون في الجاهلية يمارسونها. وهي عبارة عن عقود ومواثيق كانوا يأخذونها على أنفسهم بالقيام بأعمال زراعية معينة، مثل: المحاقلة، والمخابرة، والمزارعة، والمساقاة.

المحاقلة

ولم ترد في نصوص المسند معلومات مسهبة عن المحاقلة عند العرب الجنوبين. ولكن في استطاعتنا أن نقول انها لم تكن تختلف في أسلوبها عن المحاقلة عند أهل الحجاز قبيل الإسلام. والمحاقلة عندهم اكتراء الأرض بالحنطة أو الذهب أوشيء آخر، والمزارعة على نصيب معلوم يتفق عليه بالثلث أو الريع أو أقل من ذلك أو أكثر، أو على الأوسق من التمر والشعير، أو على الدينار والدرهم. ويقال للمحاقلة "نحقل" في المسند.

والمخابرة هي المؤاكرة،وهي المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع في الأرض. وقيل: المخابرة المزارعة على النصف ونحوه، أي الثلث، والمزارعة على نصيب معين كالثلث والربع وغيرهما وقيل المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض. والمؤاكرة المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع. وهي المخابرة. وفي الحديث كنا نخابر ولا نرى بذلك بأساً حتى أخبر رافع إن رسول الله نهى عنها. وقد اختلف علماء اللغة في أصل اللفظة، فقال بعضهم: هي من خبرت الأرض خبراً كثر خبارها، وقال بعض آخرمن خيبر، لأن النبي أقرها في أيدي أهلها على النصف من محصولها، فقيل خابرهم، أي عاملهم في خيبر. و "الخبر" في قول علماء اللغة الزرع، ومن هذه اللفظة يجب أن يكون أصل المخابرة. ويظهر من اختلاف العلماء في تعريف المراد من لفظة المخابرة، التي تعني المزارعة أنهم لما أرادوا وضع حد لمعناها، وجدوا المخابرين أي المزارعين أنماطاً وأشتاتأَ في تثبيت حصص المخابرة ونصيبها، فحفظ كل ما سمعه، وظن أن ما وعاه وسمعه هو المخابرة، فجاءت تعاريفهم من ثمَّ على هذا النحو. ولو أخذناها ودققناها، وجدنا أنها كلها شيء واحد، هو: المخابرة المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع في الأرض،. أما تثبيت الأنصبة، فلا دخل له بالتعريف، لأنه مجرد تعامل أشخاص واتفاق اًفراد، منهم من كان بزيد في النصيب ومنهم من كان ينقص منه: حسب الحاجة، على نحو ما يقع في كل تعامل مثل البيع والشراء.

والمزارعة، المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها ويكون البذر من مالكها، فإن كان من العامل، فهي مخابرة.

وقد كانوا يتعاملون مع المزارعين أو الأجراء على "القصارة". وهي ما يبقى في المنخل بعد الانتخال، اْو ما بقي في السنبل من الحب، مما لا يتخلص بعدما يداس، أو ما يبقى على لأرض من حب بعد التذرية. فيشترط بعضهم أن تكون القصارة للمذري، وقد لا يوافق على ذلك صاحب الزرع، فتكون له. وقد يحدث الاختلاف بين صاحب الزرع وبين المذري، بسبب اتهامه للمذري، باستغلال الشرط، والإفراط في إسقاط الحب على الأرض للاستفادة منه.

وذكر إن أحدهم كان يشترط في المزارعة ثلاثة جداول والقصارة، أي ما سقى الربيع. وقد نهى النبي عن ذلك. والجدول النهر الصغير، ونهر الحوض ونحو ذلك من الأنهار الصغار.

ولما جاء المهاجرون إلى يثرب. وكان بينهم قوم يحسنون الزراعة، وكانوا يريدون عملاً يعتاشون منه، حاقلوا أصحاب الأرض على زرع أرضهم في مقابل نصيب معلوم، كانوا يتفقون عليه. وقد نجح بعض منهم في استغلال الأرض، وكسبوا منها. غير إن قسماً منهم اختصموا مع الملاّك، بسبب توزبع الحاصل أو الماء، فكان الرسول يتداخل بنفسه لحسم الخلاف. وقد صار الصحابة من من أهل مكة بين تاجر وبين زراع، ورد في حديث "أبي هريرة": "لم يشغلني عن النبي غرس الوديّ، أي صغار النخل". وورد إن الأنصار قالوا للمهاجرين: تكفونا المؤونة في النخل بتعهده بالسقي والتربية ونشرككم في الثمرة، واتفقوا على ذلك.

وقد نهى الإسلام عن المحاقلة والمزارعة والمؤاكرة، وذلك لما كان يقع بسببها من خلاف بين المالك والفلاح، وما كان يقع من ظلم في القسمة أو اختلاف على توزبع الحاصل. فلما جاء الرسول إلى "يثرب"، ورأى هذه الخصومات، نهى عن إبجار الاْرض وكرائها بقوله: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها، فإن لم يفعل فليمسك أرضه". وفي رواية أخرى أنه لم "يحرم المزارعة، ولكن قال أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئاً معلوماً، لأنهم كانوا يتنازعون في كراء الأرض حتى أفضى بهم إلى التقاتل بسبب كون الخراج واحداً لأحدهما على صاحبه، فرأى أن المنحة خير لهم من المزارعة التي توقع بينهم مثل ذلك".

وقد ذكر العلماء أن هذا النهي إنما وقع بسبب المنازعات التي كانت تقع فيما بين الطرفين المتعاقدين، لاتفاقهما على شيء مجهول، وذكروا مثلآ آخر على ذلك هو كرى المزارع على الأربعاء وبشيء من التبن. والربيع هو النهر الصغير. فتقع المنازعة وّيبقى المزارع أو رب الأرض بلا شيء. وقد كانوا يتعاقدون على ما ينبت على ربيع الساقي، أي النهر الذي يسقي الزرع. فيقع اختلاف بين المزارع والمالك، أو بين صاحب الماء والمزارع. أما إذا كان الاتفاق على شيء واضح معلوم، في مثلَ استئجار الأرض البيضاء من السنة إلى السنة، او في آجال يتفق عليها بالذهب والفضة، أي بالدنانير والدراهم، فقد جاز كذلك كا ورد في كتب الحديث.

المساقاة

وكما مارس أصحاب الأملاك والمزارعون الجاهليون طريقة المحاقلة والمزارعة، مارسوا "المساقاة" كذلك. وتكون باًلاتفاق بين طرفين على قيام أحدهم بتوجيه الماء إلى صاحب أرض أو ملتزم لها أو غير ذلك، وهو محتاج إلى ماء مقابل تعهد يقدمه الطرف الثاني الى صاحب الماء بعوض، مثل جزء من حاصل أو عين وما شابه ذلك، مقابل ذلك الماء. وذكر إن المساقاة، أن يستعمل رجلاً في نخيل أو كرم ليقوم باصلاحها مقابل أن يكون له سهم معلوم مما تغله.وأهل العراق يسمونها معاملة. وذكر العلماء إن أهل المدينة كانوا يقولون للمساقاة المعاملة، وللمزارعة المخابرة، وللإجارة بيع، وللمضاربة مقارضة، وان لهم لغات اختصوا بها.

وقد يخصص الماء كله بالزرع، أي يكرى كله لمؤجره، وقد يكرى لمايسد حاجة الزرع، أي لإرواء الزرع الذي اتفق على إسقائه باًلماء، في كل وقت، في النهار أو في الليل، وفي أي لحظة يشاء المستأجر لذلك الماء. وقد يكون على حظ من الماء، مثل ربع يوم أو ليلة، أو يوم معين، أو وقت يثبت. ويقالَ لهذا الماء "ربيع"، أي حظ.

وطالما وقعت الخصومات بين المزارعين بسبب اختلافهم على الماء. فالماء هو رأس مال المزارع، فإذا انقطع عن زرعه، تأثر زرعه، وتعرض للهلاك، وزرعه هو رأس ماله وحياته. ومن هذا القبيل الخصومات التي تقع بسبب اشتراك جملة مزارعين في مورد ماء واحد، ومحاولة كل واحد منهم الحصول على أكبر مقدار من الماء، أو أخذه قبل غيره. والخصومات التي تقع من سبل الماء في الشرائج. والجداول التي تمر في عدة مزارع والينابيع والعيون التي تروي جملة أحواط ومحاقل. وقد أشير إلى جملة أنواع من هذه الخصومات في كتب الحديث.

ومن عادة أهل "يثرب" أنهم كانوا يكرون الأرض، لأجل قصير أو لأجل طويل. فإذا كان الأجل طويلاً فربما غرسوا شجراً، على نصيب معلوم من الثمر، وذلك لأن أكثرهم لم يكونوا يملكون كثيراً من الذهب والفضة، فكانوا يتعاملون على الشطر مما تغله الأرض. ولما جاء المهاجرون زارعوا الأنصار بالشكر على الثلث والربع، حتى ما كان بالمدينة بيت هجرة، إلا وزرع على الشطر، أو على التبن أو على أوسق من تمر أو برّ أو غير ذلك.وكرى بعضهم أرضه بالدراهم والدنانير وبالفضة وبالذهب. وقد أشير إلى ذلك في كتب الحديث.

اكراء الأرض

واكراء الأرض، بمعنى إيجار أرض ما لمدة معينة محدودة، أو بدون حد بشروط وفي مقابل بدل. ويقال لهذا البدل الذي يدفع عن ثمرة استغلال الأرض أو أي كراء "اثوبت"، أي "الثواب" "ثواب". ثواب أجر الانتقاع من الشىء الذي اًجر. وقد يكون هذا الشيء أرضاً وقد يكون داراً وقد يكون حيواناً. فورد في بعض النصوص العربية الجنوبية إن اختين استأجرتا أرضاً على ساحل نهر "عبرت"، وبقراً لتقوما بإيجارها إلى الفلاحين لاستغلالها بزرعها، وبتنمية البقر بشروط معينة، تنتهي بأجل نص عليه، في مقابل بدل ايجار "اثوبت" يدفع إلى أصحاب المال. وقد أشير في الكتابة الى أن الإله "المقه"، قد وافق على العقد وباركه. ومعنى ذلك أن العقد عقد شرعي وقد سجل رسمياً وصار عقداً معترفأَ به قانوناً من الحكومة ومن المعبد.

ويراد بلفظة "عبرت"، لفظة "عبرة" و "العبرة" في لغتنا، والعبرة شاطىء النهر وناحيته، قال النابغة الذبياني يمدح النعمان بن المنذر: وما الفرات إذا جاشت غواربه  ترمى أواذيه العبرين بالزبـد

يوماً بأطيب منه سيب نافـلة  ولايحول عطاء اليوم دون غد

وورد في أحد النصوص، إن ناساً "ادم"، استأجروا أرضاً من الالهة، على أن يدفعوا أجرها سنة بعد سنة، وحسبما اتفقوا عليه مع الآلهة، مما يدل على إن هذه الأرض المؤجرة هي من أوقاف المعبد. وقّد أجرها أولئك الناس، من رجال الدبن الذين بيدهم أمر حبوس الآلهة.

ومن حق المؤجر، أي المالك إبطال العقد، إذا أخل المستأجر بشرط العقد أو أظهر كسلا" وتباطؤاً أو عدم مبالاة في استغلال الشيء المؤجر. ويعني هذا إن الاتفاق كان على دفع نصيب معين من الغلة أو من ثمرة العمل. وبما إن هذا النصيب متوقف على مقدار الجهد الذي يبذل في استغلال الملك المؤجر، بحيث إذا زاد، زاد نصيب المؤجر عن ايجار ملكه، وإذا قلّ، قلّ نصيبه أيضاً، ومن حيث إن من مصلحة المؤجر إن يزداد وارد "اثوبت" ملكه، لذلك صار من حقه إبطال العقد، إذا رأى تهاوناً في تطبيق ما جاء فيه.

وقد كان أهل الحجاز، يكرون أرضهم، يكرونها بالثلث والربع والطعام المسمى وباًلذهب وبالورق. وكانوا يدفعون الأرض إلى من يزرعها ببذر من عنده على أن يكون لمالك الأَرض ما ينبت على مسايل الماء ورؤوس الجداول أو هذه القطعة والباقي للعامل. وقد نهى رسول الله عن أكثر أنواع هذه الكراء، ذكر انه قال: "من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها".

بيوع زراعية

وتضطر الظروف الاقتصادية المزارعين إلى بيع الثمار وخضر البقول قبل بدو صلاحها،وقد يفعلون ذلك تخلصاً من معاملات جني الثمر وحراسته من اللصوص، وحمله إلى الأسواق، وأمثال ذلك من معاملات تحتاح إلى مال وجهد. ويقال لذلك "المخاضرة". وقد عرفت بأنها بيع الثمار قبل بدو صلاحها، سميت بذلك لأن المتبايعين تبايعا شيئاً أخضر بينهما، مأخوذ من الخضرة، ويدخل في ذلك بيع الرطاب والبقول وأشباهها. فكان صاحب الأشجار والمزرعة يبيع ثمار زرعه لغيره، فيبع الثمار قبل أن تطعم، ويبيع الزرع قبل أن يشتد ويفرك منه. وقد نشأت عن هذا البيع خصومات ومنازعات بسبب وقوع عاهات في الحاصل، تفسد على المبتاع ربحه، فيطلب عندئذ من البائع استرجاع ما دفعه له كله أو بعضه، وتقع عندئذ الخصومات. وقد بقيت سنتهم على ذلك حتى مجيء الرسول إلى المدينة، فكانوا يأتونه للمقاضاة، فوقع النهي منه على هذا النوع من البيوع ولم يسمح به إلا أن يبدو صلاح الثمر، فيتبين صلاحه ونوعه. وعندئذ لا يحق لمبتاع التذمر من شرائه، لأنه شاهد ما ينوي شراءه ورآه، فلا غبن فيه.

ومن بيع المخاضرة شراؤها مغيبة في الأرض، كالفجل، والبصل،واللفت، والثوم وشبهه، وللفقهاء في ذلك جملة آراء.

وورد إن "المحاقلة" نوع من البيوع. وهي بيع الطعام في سنبله بالبر، وقيل اشتراء الزرع بالحنطة. وقد نهي عنها في الإسلام.

ومن أنواع البيوع التي تعرض لها الفقهاء "المزابنة". وهي بيع الثمر في رؤوس النخل بالتمر كيلاً، وبيع الزبيب بالكرم كيلاّ. وذكر بعض العلماء إن المراد بذلك بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، وبيع التمر في رؤوس النخل بالتمر. وذكر أيضاً إن من المزابنة ييع التمر بكيل ُجزاف، وكل تمر بيع على شجره بتمر كيلاَ، وقد نهي عنه في الحديث لأنه بيع مجازفة من غير كيل ولا وزن. وقد نهي عنه لما يقع فيه من الغبن والجهالة. وذكر إن المزابنة كل جزاف لا يعرف كيله ولا عدده ولا وزنه بيع بمسمى من مكيل وموزون ومعدود. أو هو بيع معلوم بمجهول من جنسه، أو هو بيع مجهول بمجهول من جنسه، أو هو بيع المغابنة في الجنس الذي لايجوز فيه الغبن، لأن الَبيِّعين إذا وقفا فيه على الغبن، أراد المغبون أن يفسخ البيع وأراد الغابن أن يمضيه فتزابنا فتدافعا فاختصما.

جمعيات زراعية

ويظهر من بعض الكتابات إن بعض المقاطعات الزراعية كانت في ادارة مجلس يتألف من ثمانية أشخاص عرفوا ب"ثمنيتن"، أي "الثمانية"، أداروا شؤون المقاطعة من إشراف على العمل، ومن ادارة لأمور الزروع، ومن تهيئة للبذور وما يحتاج اليه الزرع، ومن دفع حصص الحكومة والمعبد، ومن خزن وبيع وتصريف. فهم هيأة زراعي لمشروع تعاوني يضم أهل تلك المقاطعة، واجبهم تمشية أمور هذه المؤسسة الزراعية والاشراف عليها، واعطاء كل ذي حق حقه ونصيبه في هذه الجمعية الزراعية التعاونية.

ويظهر إن شيئاً من التخصص، كان قد وجد في هذه الجمعيات، فعهدت أمر الادارة إلى رجل عرف ب "سمخض"، كان بمثابة مدير للجمعية، واجبه الاشراف على الأرض التي أوكل أمر ادارتها اليه. أما وظيفته،فعرفت ب "سمخضت" أي ادارة أرض أو ادارة مقاطعة، أو "ادارة" بتعبير أصح.

وعرف من تولى أمر جباية الضرائب والاشراف على الموظفين الذين يوكل أعمال الجباية اليهم، ب "نحل"، ويقال لوظيفته "نحلت". ولا استبعد أن تكون "نحلت"، جماعة جمعت بين أعضائها روابط فكرية واقتصادية. فتعاونت فيما بينها على العمل معاً والاشتراك في استغلال حاصل هذا العمل. ودليل ذلك أننا في معاجم اللغة تفسر "النحلة" بالديانة، ولهذا التفسير صلة بما ذهبت اليه من معنى للفظة "نحلت"، وعلى ذلك يكون ال "نحل" رئيساً للنحلة، يشرف عليها ويدفع بالنيابة عنها حق الحكومة والمعبد.

وقد ورد في أحد النصوص أن جمعية من هذه الجمعيات الثماني، كانت تدير أرضين في ضواحي مدينة "هرم". وقد نعت أعضاؤها ب "ابعل"، أي سادة ورؤساء. فهم سادة هذه الجمعية وأصحاب الارادة فيها.

الهروب من الأرض

وقد جابهت حكومات العربية الجنوبية المشكلة التي تجابه كل حكومة. مشكلة هرب المزارعين من الأرض والالتجاء إلى المدن. ففي بعض نصوص المسند الخاصة باًلزراعة نجد تهديداً للمزارعين الذين يفرون من المزارع ويجلون عنها، فيلحقون بذلك الأذى بالزراعة وبالحاصل. والواقع أن حياة الفلاح في المزرعة كانت صعبة قاسية ؛ فلا يكاد دخل الفلاح يكفيه مؤونتهه ومؤونة عياله، ولا سيما أيام الشدة حين يقل الزرع أو يتعرض للتلف لعوامل عديدة ليس في طاقة الفلاح مكافحتها، فضلاً عن الضرائب الباهظة التي عليه أن يدفعها إلى صاحب الأرض والحكومة والمعبد. فلاذ بأذيال الهرب من الأرض إلى المدن للاشتغال فيها، بالرغم من تشديد الحكومة في منع الهجرة وترك المزارع من غير موافقة أصحاب الأرض. وقد عرف الهارب من الأرض والمجلي عنها ب "مهسجلت" في نصوص المسند. ويقال للارض التي يهاجر المهاجر إليها، وللمكان الذي يفر اليه المزارع من الحضر ليجد فيه رزقاً يبحث عنه "مهجرت" في لغة المسند. أي "المهجرة"، بمعنى: "المهجر".

العمري والرقبى

ومن عقود أهل الجاهلية: "العمري" و "الرقبي". والعمري ما يجعل لك طول عمرك أو عمره، أو هو أن يدفع الرجل إلى أخيه داراً، فيقول له: هذه لك عمرك أو عمري أينا مات دفعت الدار إلى أهله. وقد عمرته اياه وأعمرته جعلته له عمرة أو عمري، أي يسكنها مدة عمره، فإذا مات عادت الي. و"الرُّقبى" أن يعطي الإنسان انساناً ملكاً كالدار والأرض ونحوهما، فأيهما مات رجع الملك لورثته. أو إن يجعله لفلان يسكنه، فإن مات ففلان يسكنه، فكل واحد منهما يرقب موت صاحبه. وقد أرقبه الرقبى، وأرقبه الدار جعلها له رقبى. وللفقهاء كلام في الاثنين.

ويكون "العمري" و "الرقبى" في الأرض كذلك، كأن يعطي الرجل رجلاً أرضاً يستغلها طول حياة أحدهما، فأيهما مات طبقت بحق الأرض ما اتفق عليها من شروط. وقد كانوا يفعلون ذلك باًلنسبة للاقرباء والأصدقاء والمقربين لمساعدتهم.

العرية

العرية النخلة المعراة. وأعراه النخلة وهب له ثمر عامها. والعرية أيضاً التي تعزل عن المساومة عند بيع النخل، والتي يعريها صاحبها رجلاً محتاجاً، وأن يشتري الرجل النخل ثم يستثني نخلة أو نخلتين، يقال أعرى فلان فلاناً ثمر نخلة، إذا أعطاه إياها يأكل رطبها، وليس في هذا بيع، وإنما هو فضل ومعروف. فالعرية اذن النخلة عزلتها من المساومة، والإعراء أن تجعل ثمرتها لمحتاج أو لغير محتاج عامها ذلك، وقد رخص الرسول في العرايا، وللفقهاء كلام في ذلك.

الفصل الثامن والتسعون
الحياة الاقتصادية

وأقصد بالحياة الاقتصادية كل ما يتعلق بمفهوم الاقتصاد من معنى، ما يتعلق منه بالحكومة أو ما يتعلق منه بالشعب. وما يتعلق منه بالتجارة والمال، أو ما يتعلق منه بالزراعة أو باًلصناعة والحرف.

واقتصاد أية أمة، حاصل أمور عديدة: الجو، من حر وبرد، ومن مطر وجفاف، ومن ثروات طبيعية، تستنبط من الماء أو التربة، ومن نشاط وجهد وظروف اجتماعية، هي من حاصل تأثير المحيط في أهله.

وأدخل هنا في الحياة الاقتصادية ما يشمل التجارة بنوعيها تجارة البر وتجارة البحر، وما يشمل الزراعة، ثم ما يشمل الحرف والصناعات.

وتشمل التجارة: الاتجار داخل جزيرة العرب، أي تعامل أبناء بلاد العرب بعضهم مع بعض، والاتجار مع الخارج، أي مع الحكومات الغريبة مثل الهند وحكومات افريقيا والفرس والروم.

لقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الشعوب السامية نشطون في عالم التجارة. والتجارة تكاد تكون الحرفة الوحيدة عند العرب التي لم ينظر العربي إليها والى المشتغل بها نظرة استهجان وازدراء وانتقاص. بل اعتبرت عندهم من أشرف الحرف قدراً ومنزلة. ونظر إلى التاجر نظرة تقدير وتجلة، مع أنها حرفة مثل سائر الحرف، فيها من الحيل والخداع واللعب على الناس ما في أية حرفة أخرى وفيها عمل وجهد على نحو ما نجد في الزراعهّ أو في ا لصناعة. ولكنها نظرة واجتهاد الى الحياة، وظروف طبيعية، جعلت العرب تجاراً في الغالب، فشرفوا التجارة على غيرها من الحرف، وقدموها عليها في المنازل والدرجات. وقد بقيت على هذه المنزلةِ والدرجة في الإسلام كذلك. وأشير الى شرفها وسمو منزلتها في كتب الحديث، مما يدل على ماكان للتجارة من منزلة في نفوس الناس.

والتاجر الذي يبيع ويشتري. ومن المجاز التاجر الحاذق بالأمر ، لما تحتاجه التجارة من ذكاء وحذق في مساومات البيع والشراء. وذكرعلماء اللغة إن العرب تسمي بائع الخمر تاجراً، وان أصل التاجر عندهم الخمّار. يخصونه من بين التجار. والتجارة صناعة التاجر. وهو الذي يبيع ويشتري للربح. و "التاجر" هو "مكر" في لغة المسند، و "تمكرو" في الآشورية.

كان الملوك تجاراً يبيعون ويشترون، وكان رؤساء المعبد تجاراً يتاجرون باسم معابدهم، ويكسبون من الضرائب التي تقدم للمعابد كسباً فاحشاً، وكان أصحاب الأملاك ورؤساء العشائر تجاراً كذلك، يتاجرون بما يقدمه اليهم من هو دونهم في المنزلة من حاصل وغلة، ويتاجرون مما يستوردونه من الخارج، من افريقية أو من الهند، من حاصلات ثمينة غالية في نظر تجار ذلك اليوم، لبيعه في الداخل أو نقله إلى بلاد الشام أو العراق لتصريفه في أسواق تلك الجهات.

وفي اللهجات العربية ألفاظ ومصطلحات كثيرة لها صلة بالتجارة وبالتعامل، وهي من اللغات العالمية الغنية في هذه المادة. ويلاحظ بصورة عامة إن اللهجات السامية غنية كلها تقريباً بالألفاظ المستعملة في البيع والشراء والتعامل والتجارة، وفيها مرادفات كثيرة في هذا الباب. وكثرة هذه االألفاظ دليل على حذق الساميين عموماً بالتجارة وافتتانهم بها، وعلى وجود عقلية تجارية لديهم. والتأريخ يؤيد ذلك، فترى الساميين عموماً، وهم أنشط من غيرهم، يتنقلون من مكان الى مكان طمعاً في ربح، وركضاً وراء تجارة، وهم من أحذق الناس يومئذ في التحكم في الأسعار وفي التعامل وفي البيع والشراء.

وفي القرآن الكريم لفظة "تجارة" و "تجارتهم" ومصطلحات أخرىَ عديدة ذات صلة بالاتجار والتجارة والمعيشة والكسب. كما أن فيه اشارات كثيرة إلى تجارة قريش وألى أثر التجارة في حياة الناس في ذلك الوقت. وفيه تحريم للريا وتوبيخ وتقريع و )ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون(. وفيه أمور أخرى توحي الينا بما كان للتجارة من أثر كبير في حياة أولئك الجاهليين. بل نجد القرآن الكريم يحاججهم ويناقشهم ويخاطبهم بلغتهم لتي يفهمونها لغة الربح والخسارة والكسب والثواب والعقاب، والتأجيل والتعجيل، وما أشبه ذلك من كلام له أبلغ ألوقع والادراك في نفس التاجر: الذي يعي الناحية المادية من ربح وخسارة وكسب وتوفير، أكثر من وعيه وادراكه للامورالروحية التي لا يفهمها كثيراً، لأنها ليست من صميم حياته ومحيطه العملي.

والتجارة أنواع كثيرة، تشمل كل أنواع البيع والشراء. والتاجر، هو الذي يتاجر في الأسواق، غير أن منهم من تخصص في نوع خاص من أنواع التجارة مثل بيع الحبوب، وقد يتخصص ببيع نوع خاص من الحبوب، مثل الحنطة، فيقال له: "حنّاط" وحرفته "الحنا طة". وقد يتخصص ببيع وشراء "البز"، فيقال له "البزاز" وحرفته "البزازة". وقد يتخصص ببيع "الزيت"، فيقال لبائعه "الزيات" وللذي يعتصره "الزيات" كذلك.

وتكون التجارة بالمقايضة، وهي المعاوضة، إذا عارض التاجر اًو أي شخص متاعاً بمتاع آخر، وبادل سلعة بسلعة أخرى. وهي الطريقة القديمة في الاتجار، قبل ان يتعامل بالذهب والفضة وزناً، في تقييم قيم الأشياء، وقبل ان تعرف النقود، التي ولدت من التعامل بالذهب والفضة. وطريقة المقايضة أو المبادلة أو المعاوضة، لا تزأل طريقة قائمة معروفة، تتبعها الدول، في تصريف منتجاتها بمنتوجات أخرى عوضاً عن النقد، لحاجتها إلى النقد والى تصريف حاصلاتها الفائضة عليها. وقد اتبع الجاهليون هذه الطريقة، فكانوا يبادلون الجلود بسلع أخرى، ويبادلون التمر بالحنطة. وقد اتبع الجاهليون طريقة التعامل باًلذهب والفضة وزناً كذلك، كما تعاملوا بالنقود.

ويتبين لنا من دراسة كتب التفسير والحديث وكتب الأدب والأخبار والسير انه كان لأهل مكة عرف وضعوه في أصول التجارة يمكن إن نسميه "قانون التجارة" بالنسبة لأهل تلك المدينة، تكوّن من تجاربهم في الاتجار ومن تعاملهم بعضهم مع بعض، ومن تجاربهم وتعاملهم مع الخارج، مثل تعاملهم مع الفرس والروم والحبش، حيث أخذوا من هؤلاء الأعاجم النظم والقواعد التجاربة التي كانوا يسرون عليها والتي لم تكن معروفة عند أهل مكة، بسبب اختلاف المحيط وطريقة التعامل التجاري بين الدول. فتجار مكة وأصحاب المال، هم الذين وضعوا أصول التعامل في التجارة فيما بينهم، وهم الذين كوّ نوا بأنفسهم قوانينهم، إذ لا حكومة منظمة لهم تضع التشربع وتقوم بالتنفيذ على نحو ما كان في العربية الجنوبية أو عند الفرس أو الروم.

ويتبين لنا من دراسة الموارد المذكورة كذلك، أن أهل مكة كانوا خبراء في أصول تنمية الأموال وفي كيفية استثمارها واستغلالها، فكانت لهم مرابحات وكانت لهم شراكات وتعامل ومراسلات مع غيرهم من أصحاب المال في مختلف أنحاء جزيرة العرب، وكان لهم ربا، للحاجة، أي للشدة والعسر والضيق. أو للتعامل بالمال المقترض بالربا لانمائه في مشاريع اقتصادية تعود بالفائدة على المقترض أكثر من فاثدة الرباً التي يدفعها للمرابي،حتى ظهر في مكة أناس كانوا يعدّون من كبار الأغنياء بالنسبة لأهل تلك المدينة وبالنسبة لجزيرة العرب في ذلك الوقت.

وفي المسند ألفاظ كثيرة ذات معاني تجارية تتعلق بالبيع والشراء والامتلاك والعقود وهي دليل على أن العرب الجنوبيين كانوا قوماً تجاراً يجنون من التجارة أرباحاً طائلة، ويعيش الكثير منهم عليها. فكانوا يبيعون ويشترون ويصدرون ويستوردون في الداخل والخارج،يقصدون الأسواق الشهيرة القريبة منهم، كما يقيمون الأسواق في بلادهم في المواسم أو في أيام معينة من الاسبوع للبيع والشراء، ولسد حاجاتهم بما يفيض عليهم من حاصل زراعة أو منتوج حيوان يبدلونه مقايضة بما يعوزهم من ضرورات وحاجات.

والتجارة هي "ش ت ي ط" "شتيط" في لغة قتبان. وقد وردت هذه اللفظة في عدد من النصوص القتبانية، في أوامر أصدرها ملوك قتبان لتنظيم التجارة وتنظيم الجباية، وفي كيفية جباية "المكس" عن البضائع التي تباع في الأسواق، وفي العقوبات التي تفرض على المخالفين وعلى المتهربين من دفع جباية السوق. وقد حددت القواعد التي يسمح بموجبها للغرباء في الاتجار بأسواق مملكة قتبان، وفي كيفية اتجار القتبانيين في الأسواق الخارجية.

وفي جملة هذه النصوص نص أصدره الملك "شهر هلال بن يدع اب" "شهر هلل بن يدع اب" في تنظيم التجارة وفي كيفية الاتجار. وقد نشر على شكل اعلان أو مرسوم ملكي موجه من الملك إلى التجار من أهل قتبان، والى الغرباًء الوافدين عليها للاتجار، وقد كتب ونشر ليطلع عليه الناس كما تفعل الدول في الوقت الحاضر.

وقد وردت في النص جملة مصطلحات والفاظ، لها معان تجارية، مثل "يشط" أي يتاجر، و "يعرب" من "عرب" بمعنى يقدم عربونأَ ويضع عربوناً . ومن أصل "عرب" العرابة والعربون في العربية الشمالية. و "خدر" بمعنى أقام ومقيم ومقيمين ونازلين. وقد ورد في المعجمات اللغوية إن من معاني هذه اللفظة الاقامة بالمكان. ويُقصد بذلك النازلون في مكان ما. ولما كان هذا النص أمراً وقانوناً فيَ تنظيم التجارة، فقد حدد ما جاء فيه من أوامر، بالنسبة إلى سكان المدينة "تمنع" وخارجها، وكذلك مملكة قتبان، والمقيمين بها، والوافدين من خارج قتبان للعمل بالأسواق والاتجار. ولذلك وردت هذه الجملة: "ومن يتجر تجارة بتمنع وبخارج تمنع، فعليه ان يقدم عربوناً إلى تمنع، وان يكون مقيماً بشمر، وإن آثر قتبان محلاً لاتجاره، وأراد إن يتجول ليشتري، فعليه أن يشتري من شمر...". فحدد بذلك كيفية الاتجار وحق الاتجار والموضع الذي يجب أن يشترى منه بالنسبة الى تجار قتبان والى التجار الغرباء عن تمنع.

وقد حدد هذا القانون حقوق ال "خدر"، أي التاجر النازل والمقيم في إمارة "شمر"، والذي يتجول فيذهب إلى قتبان للاتجار فيها والتسوق من أسواقها، ويذهب إلى قبائلها لبيع ما عنده إليها أو لشراء ما يحتاح اليه من تجارة منها، وعليه أن يفعل ذلك، ولكنه ملزم بأخبار "عهر شمر": بذلك، وذلك لتسوية المشكلات والحسابات التي تتولد من المعاملات التجارية. وقد تطرق النص إلى الأضرار التي قد تصيب الأجانب أو القتبانيين، والى احقاق الحقوق، ولهذا وضع الملك هذا الأمر. وجاءت في آخر النص هذة الجملة: "وخمسي ورقم " أيَ "خمسين ورق". وقد سقطت كلمات قبلها، فلم يعرف المراد من ذكر هذا الرقم، أقصد وضع تأمينات بهذا القدر المذكور، أم قصد جزاءً يفرض على المخالفين، أو غير ذلك.

وهذه القوانين القتبانية،هي من أقدم وأشهر القوانين التي وصلت الينا باللهجات العربية القديمة في كيفية تنظيم الاتجار والتعامل في السوق وفي تعيين حقوق الحكومة ونصيبها من الأرباح المتأتية من التجارة.وهي دليل ناطق على مقدار عناية القّتبانيين بأمور التجارة بالنسبة لذلك الوقت.

التجارة البرية

والتجارة البرية، هي عماد تجارة الجاهليين، ولا سيما الجاهليين القريبين من الإسلام وسندهم الأول فيَ رخائهم وفي كسب ثرواتهم. وعماد هذه التجارة وسندها القوافل. فقد كان الملوك وسادات القبائل والأشراف يرسلون تجارتهم بقوافل إلى مواضع اتجارهم، فتبيع ما تحمل وتشتري ما تحتاح اليه من تجارة، لتبيعها في مكان آخر بثمن غال، ويكسب أصحاب هذه القوافل كسباً حسناً من هذا الاتجار.

والتجارة البرية: إما تجارة داخلية، أي داخل قطر من أقطار جزيرة العرب وبين أقطارها، وإما تجارة خارجية، كانت تتم مع بلاد الشام والعراق، أي خارج حدود جزيرة العرب في اصطلاح الجغرافيين المسلمين.

وقد أشير في التوراة وفي الكتابات الاشورية والمؤلفات اليونانية واللاتينية إلى اتجار العرب مع الخارج، كما أشير إلى اتجار الآشوريين والفرس والرومان والروم مع العرب، وإلى طمع الدول الكبرى لعالم ذلك الوقت في جزيرة العرب، نظراً لما كانوا يسمعونه عن ثرائها وغناها، ولموقعها الجغرافي المهم الذي يقع بين افريقية وآسية، ويهيمن على المياه الدافئة ذات المنافع الكبيرة بالنسبة للتجارة العالمية في كل وقت وزمان.

والعربية الجنوبية في كتب اليونان والرومان وفي التوراة،بلاد غنية ذات خيرات وثروات وتجارات وأموال، قوافلها تخترق جزيرة العرب إلى بلاد الشام والعراق، وفي بلادها الذهب والفضة والحجارة الكريمة، تتاجر مع الخارج فتربح بتجارتها هذه كثيراً، وبذلك اكتنزت المعادن الثمينة المذكورة والأموال النفيسة حتى صارت من أغنى شعوب جزيرة العرب.

وفي "المزامير" أن "شبا" ستعطي "الذهب" لملك العبرانيين في جملة الشعوب التي ستخضع له، تقدم له الجزية. وورد في "أرميا" أن "شبا" كانت ترسل "اللبان" إلى اسرائيل. وقد ذكروا في سفر "حزقيال" في جملة كبار التجار. كانوا يتاجرون بأفخر أنواع الطيب وبكل حجر كريم وبالذهب. وأشير في "أيوب" إلى قوافل "شبا" التي كانت تسير نحو الشمال حتى تبلغ اسرائيل.

وفي هذه الاشارات دلالة على الصلات المستمرة التي كانت بين العبرانيين والسبئيين، وعلى أن السبئيين كانوا هم الذين يذهبون إلى العبرانيين، يحملون اليهم الذهب وآلأحجار الكريمة والطيب واللبان. فتبيع قوافلهم ما عندها في أسواق فلسطين، ثم تعود حاملة ما تحتاج اليه من حاصلات بلاد الشام ومصر وفلسطين.

ويظهر من سفر "يوئيل" إن السبئيين كانوا يشترون السبي من فلسطين، من "بني يهوذا"، حيث جاء فيه تهديد لأهل صور وصيدا بأن رب اسرائيل سينتقم منهم جزاء اعتدائهم على الاسرائيليين ونهبهم ذهبهم وفضتهم. وسيجعلهم عبيداً يباعون في الأسواق إلى السبئيين: "وأبيع بنيكم وبناتكم بيد بني يهوذا تبيعونهم للسبئيين، لأمة بعيدة، لأن الرب قد تكلم". مما يدل على انهم كانوا من المشترين للرقيق، ينقلونه الى بلادهم للاستفادة منهم في مختلف نواحي الحياة، يتخذون النساء الجميلات زوجات لهم، ويتخذون البشعات والقويات للخدمة، ويعهدون للرجال بالأعمال المختلفة التي تحتاج إلى ذكاء ومهارة وفن واتقان،وبأعمال أخرى صناعية وزراعية، وأمثال ذلك.

وقد أشير إلى ثراء السبئيين وامتلاكهم للذهب والفضة في بعض الكتابات الاشورية، فذكر "تغلاتبليزر" الثالث مثلا" أنه أخذ الجزبة من السبئيين،أخذها ذهباً وفضة وإبلاً: جمالاً ونوقاً ولباناً وبخوراً من جميع الأنواع، كما ذكر "سرجون" أنه أخذ الجزية من "يثع أمر" ملك سبأ، أخذها ذهباً وخيلا وجمالاً ومن مصنوعات الجبال.

وقد سبق لي أن تحدثت عن هذا الموضوع في أثناء حديثي عن صلات الآشوريين مع العرب، وعندي أن هذه الجزية التي دفعت إلى الآشورين، قد تكون جزية بالمعنى المفهوم من اللفظة، أي نتيجة قهر وإكراه وخضوع لحكم الآشورين وهزيمة لحقت باًلسبئيين في حرب أو حروب وقعت مع الآشوربين، وقد تكون بمعنى ضريبة دفعها السبئيون إلى الآشوريين في مقابل السماح لهم بالاتجار في أسواق الحكومة الآشورية،فهي ضرائب يدفعها التجار أو تدفعها الحكومات إلى الحكومات الأخرى في مقابل السماح لها بالاتجار معها، وفتح أبواب أسواقها لرعاياها، للبيع والشراء.

وفي كتب اليونان واللاتين تاًييد واتفاق تام مع ما جاء في التوراة عن ثراء السبئيين، وعن امتلاكهم الذهب والفضة والأحجار الكريمة. وقد بالغت في ذلك مبالغة أخرجتها من حدود الواقع إلى الخيال. فنسبوا لهم استعمال الأثاث المصنوع من الذهب والأواني المستعملة من الذهب والفضة، وغير ذلك مما أخرج وصفهم من حدود المعقول وأدخله في عالم القصص والأساطير.

وقد بالغ "سترابو" في وصف ثراء السبئيين بسبب اتجارهم بنوع من العطور الزكية، دعاها باسم "اللاريم" Larimum وبالمواد الأخرى النفيسة، وذكر انه كانت " لديهم كميات كبيرة من مصوغات الذهب والفضة، كالأسرّة والموائد الصغيرة، والآنية والكؤوس، أضف إليها فخامة منازلهم الرائعة، فإن الأبواب والجدران والسقوف مختلفة الألوان بما يرصع فيها من العاج والذهب والفضة والحجارة الكريمة".

وقد كانت هذه الشهرة من أهم العوامل التي دفعت بالقيصر "أغسطس" إلى ارسال حملته المشهورة المخفقة على اليمن. وهاك ما كَتبه المؤرخ "بلينبوس" Pliny عن ثروة العرب وعن تجارتهم، لترى ما كان ماثلاً في مخيلة الرومان واليونان عن العرب. قال: "ومن الغرابة إن نقول: إن نصف هذه القبائل التي تفوق الحصر، يشتغل بالتجارة، أو يعيش على النهب وقطع الطرق. والعرب أغنى أمم العالم طراً، لتدفق الثروة من روما وبارثيا اليهم، وتكدسها بين أيديهم.

فهم يبيعون ما يحصلون عليه من البحر ومن غاباتهم. ولا يشترون في شيئاٌ مقابل ذلك".

وقد أشار "بلينيوس" إلى إن المعينيين كانوا يملكون اًرضاً غنية خصبة، يكثر فيها النخيل والأشجار، وكان لهم قطعان كثيرة من الماشية، وان السبئيين كانوا أعظم القبائل ثروة بما تنتجه غاباتهم الغنية بالأشجار من عطور وبما يبتاعونه من مناجم الذهب والأرضين المزروعة المرواة، وما ينتجونه من العسل وشمع العسل. كما كانوا ينتجون العطور.

وقد عدّ "سترابو" العسل في جملة المحصولات التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، وذكر انه كثير جداٌ فيها.

وقد كان العرب الجنوبيون يتاجرون مع بلاد الشام، فيرسلون إليها قوافلهم مارة بالحجاز إلى أسواق بلاد الشام باًلطرق البرية التي لا يزال الناس يسلكونها حتى اليوم مع شيء من التحوير والتغيير. وقد عثر على كتابة دوّنها كبيران شكرا فيها الإله "عثتر"، لأنه نجاهما مع قافلتهما من الحرب التي كانت قد وقعت بين "مصر" وبين "مذي"، فوصلا معهما سالمين إلى مدينة "قرنو"، أي عاصمة "معين". وقد ورد أنهما كانا يتاجران مع "مصر" و "ا اشر"، أي "آشور"، و "عبر نهرن" "عبر نهران". وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن هذه الكتابة تشير الى حرب وقعت فيما بين السنة "220" والسنة "205" قبل الميلاد. أي في عهد "البطالمة"، وأن تلك الحرب كانت بين "الميديين" الذين أشير اليهم ب "مذى" وبين "البطالمة" الذين أشير اليهم ب "مصر"، لأنهم حكام مصر، أو الحرب التي وقعت فيما بين "السلوقين" وبين "البطالمة"، والتى أدت الى الاستيلاء على "غزة" سنه "217" قبل الميلاد. وقد كان العرب الجنوّبيون يتاجرون مع هذه المدينة التي تعتبر الميناء الذي يؤدي بالتجار إلى موانىء مصر.

وقد كانت "البتراء" أي "سلع" Sela أهم عقدة طرق يمر بها المعينيون والسبئيون. ومنها يتجه طربق نحو البحر الميت، لمن يريد ألاتجار مع بلاد الشام وطربق آخر ينتهي بغزة، لمن يريد الاتجار مع هذا الميناء المهم، الذي بقي العرب يتاجرون معه إلى أيام الرسول. وقد كَان "هاشم بن عبد مناف" ممن يتاجر معه، وبه توفي كما تذكر الأخبار.

وقد كان الذهب في رأس السلع التي حملها تجار العرب إلى الآشوربين وحكومات العراق وبلاد الشام،وفي التوراة ذكر للذهب الذي كان يجلبه العرب إلى العبرانبين، وقد أشرت إلى ما ذكره الكتبة اليونان عن الذهب عند العرب، ولعلهم كانوا يحملون الفضة اليهم كذلك. فقد كانت للفضة مناجم في جزيرة العرب. وقد ورد في أخبار أهل الأخبار إن "أبا سفيان" كان قد حمل فضة كثيرة معه لبيعها في أسواق بلاد الشام، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد، فلا يستبعد تصدير العرب للفضة لبيعها في تلك الأسواق في ذلك العهد.

أما منتوجات الحديد أو مصنوعات معادن أخرى، فلا نجد لها ذكراً في قائمة السلع التى كان يحملها التجار العرب إلى الخارج، بل يظهر إن أهل جزيرة العرب، كانوا هم الذين يستوردون مصنوعات المعادن من الخارج إلى جزيرتهم، فنجد في الأخبار انهم كانوا يفتخرون بالسيوف الهندوانية، أي المصنوعه بالهند، أو المعمولة من حديد هندي، أو المعولة على طراز سيوف الهند. وقد عثر المنقبون على مصنوعات معدنية، تببن لديهم انها من مصنوعات الرومان والروم، مما يدل على انها قد استوردت من الخارج، أو ان العمال والمشتغلين في الصناعات المعدنية، كانوا قد رأوا تلك النماذج فعملوا على محاكاتها وصنع أمثالها. ونظراً لتأخر الصناعة عند الجاهليين، وإلى نظرتهم الازدائية إليها وإحتقارهم لمن كان يشتغل بها، فلا يعقل ان تجد مصنوعاتهم المعدنية مكانة لها بين المنتوجات المماثلة لها في الأسواق ألخا رجية. لهذا اقتصرت صادرات جزيرة العرب إلى ألخارج على المواد الخام، المتيسرة في بلاد العرب، أو المستوردة من افريقية أو من الهند ومن وراء بلاد الهند، وأهمها العطور والطيب والجلود.

وكان "الطيب"، من أهم المواد التي تاجر بها العرب الجنوبيون. تاجروا بتصديره الى خارج العربية الجنوبية الى بلاد الشام ومصر والعراق وتاجروا به في الداخل أي في ألعربية ألجنوبية، وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد عرف "الطيب" ب "طب" "طيب" في لغة المسند. ويستخرج الطيب من أنواع متعددة من الأشجار، ويجلب بعضه من الخارج من الهند.وافريقية، ويصدر الى مصر وأسواق بلاد الشام والعراق.

والبخور من المواد الثُمينة ذات السعر العالي بالنسبة لتجارة ذلك الوقت. والبخور ما يتبخر به، وثياب مبخرة مطيبة. وقد كانوا يحرقون البخور في المباخر، ويبخرون به المعابد والأصنام، كما كانوا يبخرون الضيوف، ويطيبون ثيابهم به. ومنه "القسط"، وهو عود هندي يتبخر به، يجاء به من الهند، يجعل في البخور والدواء، ويوجد قسط عربي. وورد "قسط اظفار"، قيل هو ضرب من الطيب وقيل من العود. وعندي أنه "قسط ظفار"، نسبة إلى "ظفار" قرب مرباط بالعربية الجنوبية، وتعرف ب "ظفار الساحل"، نسب إليها العود الذيَ يتبخر به لأنه يجلب إليها من الهند، ومنها إلى اليمن، كنسبة الرماح الى "الخط"، فإنه لا ينبت به، وإنما تجلب من الهند. وقد أشيرالى "العود" في الحديث. ورد: عليكم بالعود الهندي. وقيل هو القسط البحري.

و "المسك" من أنواع الطيب التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، ويحفظ عادة في قوارير، وهو من الطيب الثمين التي يباع بأثمان غالية. وكانت العرب تسميه "المشموم". ويذكر علماء اللغة أن اللفظة معربة،عربت من أصل فارسي هو "مشك". ورد في الحديث أطيب الطيب المسك، واستعملوه في الطب، عالجوا به جملة أمراض.

والعنبر من المواد التي تذكر بعد المسك في العربية، وللأخباريين آراء في أصل العنبر، وأجوده ما يجلب من شحر عمان.

و "المرّ"، وهو "امرر" في المسند، من المواد الثمينة الغالية في قائمة المنتجات العربية التي تباع داخل البلاد العربية وخارجها، وقد أقبل العبرانيون والمصريون على استيراده وشرائه لاستعماله في الأغراض الدينية، فاستعمل في المعابد وفي التحنيط، واستعمل في جملة الأجزاء التي تدخل في الدهن المقدس. وذكر علماء اللغة ان "المر" كالصبر، دواء سمي به لمرارته. وقد عالجوا به جملة أمراض.

و "الصبر" عصارة شجر مرّ، وأجوده "السقطرى"، ويعرف أيضاً بالصبارة.

وأما "القرفة"، فإنها من المواد الثمينة كذلك، وتنبت في جزيرة "سيلان" بصورة خاصة. وتقشر ويستعمل قشرها، أو يستعمل دهنها الحاصل من ثمرها في بعض الأحيان. ويرى علماء اللغة ان "القرفة" ضرب من "الدار الصيني"، وهو أنواع، منه "الدار صيني" الحقيقي، ومنه المعروف ب "قرفة القرنفل".

و "القرنفل" من المواد المستوردة من الهند وما وراءها. وقد استعملوه طيباً، كما عالجوا به، وطيبوا به الأكل. وقد أشير اليه في شعر لأمرئ القيس،حيث أشار إلى رائحته الطيبة: وأشير اليه في شعر لعمرو بن كلثوم.

وقد ذكر "الكافور" في القرآن الكريم: )إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً(. وفي ذلك دلالة على معرفة العرب به ووقوف قريش عليه واستعمالها له. وذكر أن الكأفور، طيب، أو أخلاط من الطيب تركب من كافور الطلع، وقيل يكون من شجر بجبال بحر الهند والصين.

وأما قصب "الذر يرة"، فهو "قليمتن"، أي "القليمة" في المسند، وهو "قصب الطيب". و "الذرور" عطر يجاء به من الهند، كالذريرة، وهو ما انتحت من قصب الطيب، وقيل هو نوع من الطيب مجموع من أخلاط. وبه فسر حديث عائشة: طيبت رسول الله لاحرامه بذريرة.

و "السليخة" نوع من ال Cassia، أي قشرة تؤخذ من شجرة القرفة، أو من أشجارها. وذكر علماء اللغة أن السليخة عطر، وكأنه قشر منسلخ، ودهن ثمر البان قبل أن يربب بأفاويه الطيب، فإذا ربب بالمسك والطيب ثم اعتصر، فهو منشوش. أي اختلط الدهن بروائح الطيب.

و "الكندر" ضرب من العلك، وقيل هواللبان، وقد عولج به. و "اللبان"، مشهور في العربية الجنوبية، وهو من حاصل الهند والعربية الجنوبية وافريقية، وهو ضرب من الصمغ، وذكر انه الكندر. وانه يصنع من عصير جملة أنواع من الشجيرات، ويستخرج من عصير يستنبط بشق قشر الشجيرة، وتجفيف العصير. وقد استخدم في المعابد. وأشير في سفري "أشعياء"، و "أرمياء"، إلى إن العبرانيين كانوا يستوردونه من "شبا"، أي من أرض "سبأ"، وأشهره من شجر عمان. وأحسنه ما في يجمع من موضع تجمعه قبل سقوطه على الأرض، أو تلوثه بمادة غريبة قد تتساقط عليه.

ولفظة "الكندر" من أصل أعجمي هو Cunduru، وهو من الألفاظ "السنسكريتية". فيظهر أن الكَلمة دخلت العربية من الهند.

وقد كانت في المعابد مخازن تجمع فيها أصناف الطيب والمر والبخور، وذلك للتصدير والبيع. وقد كانت تقوم بمهمة وسيط في البيع والشراء، تبيع ما تخزنه وتحصل بذلك على عمولة تستفيد منها وتدر عليها أرباحاً طائلة جداً، تثري منها. وهكذا نجد المعابد وهي تكاد تحتكر تلك المواد وتنفرد ببيعها إلى التجار.

ويقسم الطيب إلى ذكور الطيب وإلى إناثه. وذكور الطيب ما يصلح للرجال دون النساء نحو المسك والعنبر والعود والكافور والغالية والذريرة. وعرف هذا النوع ب " ذكارة الطيب". والمؤنث طيب النساء، كالخلوق والزعفران.

وورد إن "الغالية"، طيب عرف في زمن "معاوية"، وِذلك إن "عبد الله ابن جعفر" دخل عليه ورائحة الطيب تفوح منه، فقال له ما طيبك يا عبد الله ? فقال: مسك وعنبر جمع بينهما دهن بان. فقال معاوية: غالية أي ذات ثمن غال. وقيل أول من سماها بذلك "سلمان بن عبد الملك"، وانما سميت لأنها أخلاط تغلي على النار مع بعضها. والخلوق من طيب النساء،يتخذ من الزعفران وغيره، وتغلب عليه الحمرة والصفرة. وقد نهي عنه، لأنه من طيب النساء.

قوافل سبأ

وقد أشير في التوراة الى قوافل سبأ، وهي قوافل كانت تسير من العربية الجنوبية مخترقة العربية الغربية إلى فلسطين، فتبيع ما تحمله من سلع هناك. وقد كان السبئيون يسيطرون على العربية الغربية، حتى بلغت حدود مملكتهم أرض فلسطين. ولم تشر التوراة إلى وجود قوافل بحرية وسفن للسبئيين في البحر الأحمر، تتاجر مع فلسطين ومصر، ولم نعثر على كتابات باًلمسند تشير إليها، لذلك، فليس في استطاعتنا التحدث عن التجارة البحرية للسبئيين مع بلاد الشام.

سارت حكومة سبأ على سياسة التوسع التجاري، وهذا التوسع يقتضي السيطره على الطرق، فبذلت جهدها لبسط سلطانها على الطرق والمسالك وجعلها تحت نفوذها وحكمها. وبعد استيلائها على بقية الحكومات العربية الجنوبية الأخرى وضعت الطرق الجنوبية المؤدية إلى أرض اللبان والمواد الأخرى التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، والى الموانىء والمرافىء التي تتاجر مع إفريقية والهند وتستورد منها السلع النفيسة الثمينة تحت نفوذها وحكمها، وحسنتها وشقت طرقاً جديدة لأغراض حربية واقتصادية، وبلطت بعض مواضع منها لتقاوم السيول والأمطار، وأحكمت جوانبها وحصنتها بالحجارة الصلدة حتى تقاوم السيول التي تنحدر من المرتفعات على هذه الطرق فلا تلحق الأذى بها. ولا تزال آثار تلك الطرق باقية، وقد كتب عنها السياح.

واتجهت نحو السيطرة على الطرق البرية المؤدية إلى بلاد الشام. ولهذه الطرق أهمية كبيرة بالنسبة إلى اليمن والعربية الجنوبية. وهى طرق موازية للطريق البحرية الممتدة في البحر الأحمر، ولها شأن خطير في التجارة العالمية. وقد أسست مواضع حراسة، لحراسة القوافل من قطاع الطرق ومن تحرش القبائل بها، ولعل أهل يثرب الذين يرجعون نسبهم إلى اليمن، هم من الرجال الذبن غرسهم السبئيون في هذا المكان لحماية قوافلهم التي تذهب الى بلاد الشام.

ووجه السبئيون أنظارهم نحو العراق وموانىء الخليج العربي كذلك،فاستخدموا الطربق الممتدة من نجران إلى "السليل" ومن هناك الى الخليج والعراق.

وتوجد آثار طرق جاهلية مبلطة تبليطاً حسناً وأخرى ممهدة تمهيداً فنياً. وقد أنشىء بعضها في أرض جبلية وفي أرضين وعرة، وذلك باستعمال الآلا ت بمهَارة فائقة فيَ قطع الصخور لانشاء هذه الممرآت. وقد زفّت بعض هذه الطرق وغطي بطبقة من الاسفلت، ووضعت عليهاُ صوى وترشد المارة، ولما كانت الطرق الطويلة المبلطة تبليطا" فنياً تحتاج إلى نفقات طائلة إلى أيدٍ عاملة كثيرة وإلى حكومة كبيرة غنية، لم يكن من الممكن يومئذ فتح طرق طويلة ممهدة تخترق جزبرة العرب، على شكل الطرق التي أنشأها الرومان في انبراطوريتهم، لسير القوات العسكرية عليها والتجارات فاقتصر على إقامة الطرق الضرورية القصيرة التي توصل المدن والقرى بالمواضع المهمة.

وقد كان اعتماد التجار على الحيوانات ولا سيما الجهل في نقل تجارتهم. أما العربات فلم تكن مستخدمة في أغراض تجارية في جزيرة العرب. ولم ترد إشارات إليها في نصوص المسند، ولا في النصوص الجاهلية الأخرى، ولا في أخبار أهل الأخبار. وقد ظل اعتماد التجار وأصحاب القوافل على الحيوانات طوال العهود الإسلامية إلى أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، ففيه أخذ في تمهيد الطرق لسير وسائل النقل الحديثة عليها، فأخذت تنافس تلك الوسائل القديمة، وستقضي عليها في المستقبل بالبداهة.

والتجارة هي التي نقلت بعض الكتابات الشمالية إلى العربية الجنوبية، وأدخلت الكتابة الثمودية والكتابة النبطية إلى اليمن. وأصحاب الكتابتين من الشعوب المقيمة في العربية الشمالية كما هو معروف. فكتاباتهم لم تأت إلى هنا قافزة متخطية المسافة، بل جاءت مع أصحابها التجار الذين قصدوا هذه الأماكن للاتجار، ومن بينهم من سكن فيها واختلط بأهلها ومات فيها. وقد كتبوا فيها الكتابات التي عثر عليها بعض العلماء في أماكن متعددة من خرائب اليمن، وقد يعثر على عدد منها وعلى كتابات أخرى، قد يكون من بينها كتابات بلغات أعجمية في المستقبل بعد قيام بعثات الحفر بالتنقيب هناك.

الفصل التاسع والتسعون
ركوب البحر

والبحر فى رأي علماء العربية الماء الكثير، ملحاً كان أو عذباً، وقد غلب على الملح فقط، حتى قلَّ في العذب. وهو خلاف البر. وأطلق أهل العربية الجنوبية على البحر اللفظة نفسها التي نطلقها عليه، فيقولون "بحرم" أي بحر. وقد ذكر البحر في معاهدة التآخي والأخوة "تاخين" التي عقدت في القرن الرابع للميلاد بين ملك الحبشة "جدرت" والملك "يدع اب غيلإن " ملك حضرموت، لمقاومة ملك سبأ وذي ريدان. وذكر في النص المعروف بنص "أبنة"،حيث ورد: "وكل الت ذ بحرم ويبسم ومشرقم ومعربم ": ومعناه الحرفي: "وكل آلهة البحر واليابسة والمشرق والمغرب". وقد ذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة البحر تعني الجنوب، وأن لفظة "يبسم" "يابس" "يَبٌس" "يابسة" تعني الشمال، وأن معنى الجملة المذكورة: " وكل آلهة الجنوب والشمال والمغرب". وقد وردت اللفظة بمعنى "بحر" في نص"، "Glaser 830"، حيث جاء: "ببحرم ويبسم وكل تشعث وزبد"، أي "ببحر ويابسة وكل العطايا والهدايا".

ووردت لفظة "اليم" في القرآن الكريم، ويراد بها البحر. وقد ذكر بعض علماء اللغة انها لغة سريانية. وفي اللغة العربية ألفاظ أخرى مرادفة للبحرأيضاً، منها "القلمَّس"، و "الدأماء"، و "الكافر"، و " الحنبل"، و "الخضم"، و "العَيلْم"، وغير ذلك من ألفاظ ترد في كتب اللغة. ولجزيرة العرب سواحل طويلة تحيط بها من جميع جهاتها الثلاث، أما حدها الشمالي فهو أرض تتصل بالعراق وببلاد الشام. وقد عرف أهل السواحل البحر وعركوه، وعملوا على استغلال ثرواته قدر طاقتهم، وتعاملوا مع أهل السفن الذين كانوا يقصدونها من مسافات بعيدة، وركب جميع منهم السفن، للاتجار مع السواحل المقابلة لهم. فباعوا في أسواقها واشتروا، وقد أظهر أهل السواحل العربية الجنوبية والشرقية نشاطاً في ركوب البحر، لا نجده عند أهل السواحل الغربية، على ما يتبين من روايات أهل الأخبار.

ولتكوين رأي عن مدى وقوف الجاهليين على البحار وعلى مدى توغلهم فيها، وركوبهم أمواجها للتجارة أو للاستيطان في مواطن جديدة غريبة، لا بد لنا من الرجوع إلى مراجع لتستحلب منها مادة نكو"ن منها علمنا عن هذا الموضوع. والآثار هي أول ما يجب الرجوع اليه لاستخلاص هذه المادة، ولكنها ويا للاسف شحيحة، ليس فيها شيء كاف منها. وأما الموارد الأعجمية، مثل الموارد المدونة باليونانية واللاتينية والسريانية، فلم تتحرش بموضوع العرب والبحار وبتجارتهم في البحر. وأما الموارد الاسلامية، فهي بخيلة، ليس فيها ما يفيدنا عن العرب والبحر غير نزر يسير يفيد، إن أهل الجاهلية، كانوا يكرهون ركوب البحر، ويتهيبون منه، وانهم لم يكونوا يملكون سفنأَ لعبوره، حتى إن المهاجرين الأولين من المسلمين، لمّا هربوا من مكة إلى الحبشة، ركبوا سفنأَ بدائية حبشية، أوصلتهم إلى الحبشة، وان الخليفة".عمر" كان يتهيب ركوب البحر، وكان يوصي قواده بتجنيب جيوشهم مخاطره، والابتعاد عنه قدر الامكان، وبضرورة وضع أرض آمنة وراء الجيش ليكون في وسعهم الرجوع إليها عند المهالك والمآزق.

وانه لمّا كتب إلى "عمرو بن العاص"، يسأله عن البحر، فقال: خلق عظيم يركبه خلق ضعيف، دود على عود. كتب اليه "عمر" أن لا يركبه أحد طول حياته، فلما كَان بعد "عمر" لم يزل يركب حتى كان زمن "عمر بن عبد العزيز"، فاتبع فيه رأي "عمر". وكان منع عمر شفقة على المسلمين.

وقد عرف العربي عند الأعاجم ببغضه للبحر وبخوفه منه وبابتعاده عنه. ورد في حكم "أحيقار": "لا ترُِ العربي البحر، ولا تُرِِ الصيدوني "الصيداني الصحراء". وذلك لاشتهار العربي عندهم بسكنه في البوادي وبابتعاده عن البحر ولاشتهار أهل "صيدا" بركوبه وبقهر أمواجه.

وإذا كنا قد فشلنا في الحصول على صورة مفصلة واضحة عن العرب واليحر من الموارد التي أشرت إليها، وهي مادة المؤرخ في حصوله على مادته التأريخية، فليس لنا من سبيل لتكوين صورة ولو باهتة عن الموضوع، سوى الرجوع الى اللغة نستلهم من ألفاظها المتعلقة بالبحر وبوسائل ركوبه، ما فات وروده في تلك المصادر. فاللغة كما نعلم مظهر من مظاهر الحياة العقلية والعملية لكل أمة، وهي لم تخلق دفعه واحدة،ولم يأخذها الخلف عن السلف كاملة، وإنما خلقت بالتدريج وعلى قدر الحاجه، فإذا ظهرت أشياء جديدة خلق المتكلمون بها لها ألفاظاَ جديدة وإذا اندثرت أشياء، فقد تندثر ألفاظها. واللغة مثل الناطقين بها في حياة وموت مستمرين. وإذا حصرنا الألفاظ التي أطلقها الجاهليون على البحر وعلى وسائل ركوبه وعلى كل ما فيه، نستطيع اذن أن نعرف إذا كانوا يعرفونه عنه وماذا كانوا يجهلون من أمره.

فلنأخذ الألفاط المتعلقة بالبحر اذن سنداً لنا، من لغتنا العربية نستنبط منها علم الجاهليين به، مع العلم بأن هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم لا يمكن أن تؤدي المهمة على أحسن وجه، لأنها لغة أهل بر"، وليس لأهل البر علم أهل الساحل به. والأحرى بنا الاستعانة بلغات أهل السواحل في مثل هذه الدراسة، لكننا لا نملك نصوصاً جاهلية مدوّنة بها، حتىنستنبط منها ما نريد، وليس في لهجات المسند عن البحر سوى نزر يسبر، ولكنا ما دمنا لا نملك وسيلة للإحاطة بعلم الجاهليين بالبحر سوى دراسة هذه اللغة، فما علينا إلا أن نتتيع ما جاء فيها عنه، وفي هذا الذي سنقف عليه تصوير لرأي المتكلمين بها باًلبحر،وهو تصوير يمثل رأي أهل البرّ عنه.

يقال لشاطىء البحر "الساحل" في عربية القرآن الكريم، وهوِ بمعنى ريف البحر وشاطئه. وقد وردت اللفظة في كتاب الله. وقد خصصت هذه اللفظة بالبحر، أما شط النهر، فقد عرف ب "الشاطىء". وبقال للساحل أيضاً "السيف" و "سيف البحر". وذكر علماء اللغة إن "العيقة" ساحل البحر وناحيته، وان "العدان"، موضع كل ساحل. وقيل هو الساحل نفسه.

وذكر إن " السيف ساحل الوادي، أو لكل ساحل سيف، وانما يقال ذلك لسيف عمان". وورد إن "الطف" و "الطفطاف" ساحل البحر.

و "القاموس"، بمعنى معظم ماء البحر، أو البحر، أو أبعد موضع فيه غوراَ، ووسط البحر، ولجة البحر، معظم البحر، ومنه بحر لجيّ، و "الشرم"، لجة البحر، وقيل موضع، وقيل هو أبعد قعره، أو الخليج منه. وقد ذكر "أمية بن أبي الصلت "الشروم" في وصفه جهنم:   

فتسمو لا يغيبها ضـراء  ولا تخبو فتبردها الشروم 

والشرم، مرسى من مراسي خليج السويس، بينهما ستة مراحل.

و "العوطب"، لجة البحر، أو المطمئن بين الموجتين، أو أعمق موضع في البحر، و "الدردور" موضع في البحر يجيش ماؤه، قلما تسلم منه السفينة، و يخاف منه الغرق. و "الخليج"، وهو من البحر، سمي بذلك لأنه يجذب من معظم البحر، والخور الخليج من البحر، وقيل مصب الماء في البحر، وقيل مصب المياه الجارية في البحر إذا اتسع وعرض، وقيل: عنق من البحر يدخل في الأرض، والغبُ الضارب من البحر حتى يمعن في البر.

وذكر علماء اللغة أن الجزيرة إنماُ سميّت جزيرة لانقطاعها عن معظم الأرض أو لما جزر عنه. و "البضيع"، الجزيرة في البحر، والبحر نفسه. وأما "الدبر"، فقطعة تغلظ في البحر كالجزيرة يعلوها الماء وينضب عنها.

والسفينة هي واسطة النقل على وجه الماء في الاْنهار وفي البحار. وهي من الكلمات المعروفة في عربيتا، وقد أشير إليها في شعر عمرو بن كلثوم: ملأنا البرّ حتى ضاق عنّا  وموج البحر نملؤه سفينا 

وقد وردت لفظة "سفينة" و "السفينة" في القرآن الكريم، ويدل ذلك على انها من الألفاظ التي كانت معروفة ومستعملة بهذا المعنى في أيام ظهور ا لاسلام.

وعبر عن السفينة بلفظة أخرى هي "الفُلك"، وتقع على الواحد والاثنين والجمع. وقد وردت في مواضع متعددة من القرآن الكريم . كما يعبر عنها ب "مركب"، والجمع مراكب. ولو إن المركب كلمة عامة تطلق على كل ما يركب عليه، فالدواب هي مركب أيضاً لمن يركبها، غير إن "المركب" السفينة على سبيل التغلب والاصطلاح. وقد عبر القرآن الكريم عن السفن والمراكب بلفظة "الجاريات" و "الجوار"، و"الجارية" كما في هذه الاية: )وله الجوارِ المنشآت في البحر كالأعلام(، وكما في هذه الآية: )ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام(، وفي مواضع أخرى. و "الجارية" المركب أيضاً، صفة غالبة لأنها تجري على الماء.

وقد وردت لفظة "الفُلك" بصورة خاصة تعبيراً عن سفينة نوح الواردة في الطوفان. ويذكر بعض المفسرين أن السفينة، أيَ "الفُلك"، كانت مصنوعة من خشب الساج، )ذات ألواح ودُ سُرْ(، أي أن ألواحها قد التصقت بعضها ببعض ب "دسر" وهي المسامير.

وورد في القرآن الكريم: )والفلك التي تجري في البحر(. وورد في الشعر: جَوافِلَ في السراب كما استقلت  فلوك البحر زال بها الشـرير

والفلوك هنا جمع "الفلك"، وأما الشرير، فشجر البحر. ويظهر من هنا أن "الفلك" هي سفينة من سفن البحر. وهي من السفن الكبيرة. وقد ورد في القرآن أيضاً )في الفلك المشحون( أي السفينة المشحونة المملوءة كما ورد: )حتى إذا كنتم في الفُلك وجرين بهم بريح طيبة(. وفي هذه الآية معنى مهم، يدل على إحاطة الجاهليين بالبحر وركوبهم فيه، وتسييرهم لها بفعل الرباح. وقد وردت في القران الكريم إشارات الى صنع الفلك والى سيرها مواخر في البحر.

ويقال للسفينة: "البارجة" أيضاً، والجمع "البوارج". وذكر انها السفن الكبار، وانها سفينة من سفن البحر تتخذ للقتال.

و "القرقور": ضرب من السفن، وقيل: هي السفينة العظيمة أو الطويلة. والقرقور من أطول السفن. وجمعه قراقير. وفي الحديث: " فاذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ ركب شهداء البحر في قراقير من درّ".

و "الخليّة" العظيمة من السفن، والجمع خلايا. قال طرفة: كأنّ حدوج المالكـية، غـدوة  خلايا سفين بالنواصف من دَدِ 

وقال الأعشى: يَكُبُّ الخليةّ ذات القلاع  وقد كاد جؤجؤها ينحطم 

وقيل هي التي يتبعها زورق صغير.

وذكر إن من أسماء السفن الكبيرة "الخلج". وقيل انها دون العدولية. وأما "الصلفة" فسفينة كبيرة، و "الزنبرية" نوع من أنواع السفن الكبيرة. و "القادس": السفينة العظيمة، وقيل صنف من أصناف المراكب، اْو لوح من ألواحها.

وقد ضرب "لبيد ين ربيعة العامري" مثلاً بسفينة "الهندي" في طولها وعرضها وفي إحكام عملها، عملها صانعها من صفائح مشبوحة ودهنها وسدّ المسافات التي تكون بين صفائح الخشب حتى لا ينفذ منها ماء البحر. مما يدل بالطبع على وقوفه عليها وعلى شهرة تلك السفن في تلك الاْيام.

وقد اًشار بعض الكتبة من اليونان واللاتين إلى نوع من السفن دعوه" Madarata" ذكروا أن ميناء"عمانه"، "Omana "كان قد اشتهر ببنائه. وقد صنعت هذه السفن من الألواح المشدودة بالليف. وقد رأى بعض الباحثين أن هذه اللفظة من أصل عربي، هو "مدرّ عات"، ويراد بها السفن المشدودة بدروع النخل. ورأى آخرون أنها من أصل "Mabarata"، جمع "معبر"من أسماء السفن في لغة بني "إرم".

وذكر علماء اللغة أن "االمِعبٌر" ما عبر به النهر من فلك أو قنطرة أو غيره، والمعبرة سفينة يعبر بها النهر. فالمعابر إذن من الوسائل المستعملة في عبور النهر على ما يظهر من شرح أولئك العلماء.

وقريب من هذا الوصف وصف نوع من السفن عرف ب "العمائم". ذكر علماء العربية أنه: عيدان مشدودة تركب في البحر ويعبر عليها. وهو نوع بدائي بالطيع لا يمكن أن يقارن بالسفن التي كانت عند الرومان واليونان. و"الطوف" قرب ينفخ فيها ويشد بعضها الى بعض، فتجعل كهيئة السطح يركب عليها في الماء ويحمل عليها الميرة والناس، ويعبر عليها، وهو الرمث. وربما كان من خشب والجمع أطواف. وذكر بعض العلماء أن الطوف التي يعبر عليها الأنهار الكبار تسوى من القصب والعيدان يشدّ بعضها فوق بعض، ثم يقمط بالقمط حتى يؤمن انحلالها ثم تركب ويعبر عليها، وربما حمل عليها الحمل على قدر قوته وثخانته، و يرسمى: "العامة".

والرمث خشب يضم بعضه إلى بعض كالطوف ويركَب عليه في البحر. وفي الحديث إن رجلاً أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالّ: إنا نركب أرماثاً لنا في البحر ولا ماء معنا، أفنتوضأ بماء البحر. فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته. قال اًبو صخر الهذلي: تمنيت من حبـيُّ عُـلـيَةّ أنـنـا  على رمثٍ في الشرم ليس لنا وفر 

وذكر علماء العربية اسم نوع من السفن قالوا له: "البوصي". وقالوا انه فارسي معرب، وان الكلمة وردت في شعر" للاعشى. وُ ذكر أن "البوصي" الملاح، وقيل الزورق، وان الكلمة معربة "بوزي".

وذهب بعض علماء اللغة إلى إن "العدولية" الواردة في قول طرفة بن العبد: عدولية أو من سفين ابـن يامـن  يجور بها الملاّح طوراً و يهتدي 

سفناً منسوبة إلى قرية بالبحرين يقال لها "عدولي"، اًو إلى قوم كانوا ينزلون هجر، أو إلى عدول، رجل كان يتخذ السفن. ولا يستبعد إن يكون مراد الشاعر من السفن "العدولية"، السفن القادمة من ميناء "أدولس" "عدولي" ميناء تجاري على ساحل الحبشة اشتهر بالتجارة قبل الإسلام.

ويظهر من شعر طرفة المذكور، إن رجلا" اسمه "ابن يامين" كان تاجراً يملك سفناً، وأن سفنه كانت تمخر العباب. وذكر أيضاً أنه كان بحاراً، وورد "ابن نبتل" بدلاً من "ابن يامين".

وذكر علماء اللغة أن من أسماء المراكب المائية الصغيرة: الزورق والقارب والركوة. والزورق، السفينة الصغيرة، وقيل هو القارب الصغير. و"الركوة" زورق صغير.

وقد عرفت السفن المستعملة في القتال بأسماء خاصة، منها البارجة، وهي سفينة من سفن البحر تتخذ للقتال.

والشراع هو "ماكنة" السفينة وقوتها المحركة الدافعة لها. ويقال له "القبِع" أيضاً، وجلّ كذلك. وقد ذكر علماء اللغة، أن الشراع كالملاءة الواسعة فوق خشبة من ثوب أو حصير مربوع وتر على أربع قوى، تصفقه الريح فيمضي بالسفينة. ويظهر من هذا الوصف أن أشرعة أهل الجاهلية كانت بسيطة، ولم تكن متداخلة كأشرعة الروم. والشراع البسيط على النحو المذكور، يكون ضعيفاً فاتر الهمة لا يتمكن من دفع السفن الكبيرة، بل وقد لا يتمكن حتى من دفع السفن الصغيرة بسرعة، بسبب صغر حجمه، ثم إنه لا يتمكن من الاستفادة من قوة الريح، ومن استخدام هذه القوة في توجيه السفينة بسرعة نحو هدفها،والسير بها في عرض البحر، بينما يتمكن الشراع المكون من عدة أقلعة، من الاستفادة من الريح، ومن دفع السفينة دفعاً سريعاً، ومن حملها الى عرض البحر، فيقلص من المسافات ويبعدها عن أخطار لصوص البحر، ولذلك لم تتمكن سفن أهل الجاهلية من مواجهة سفن الروم ومن تحديها، حين دخلت سفنهم البحر الأحمر والبحر العربي والمحيط.

والدقل: سهم السفينة، وهو خشبة طويلة تشد في وسط السفينة، يمد عليها الشراع. والجؤجؤ: صدر السفينة، و "المرنحة": صدر السفينة كذلك، وعرى "الدقل" ب "الدوقل" كذلك وتسميه البحرية "الصاري". و "الصاري" الملاّح أيضاً، لحفظه السفينة. و "القب"، رأس الدقل، و "القرية"، خشبة مربعة على رأس القب.

وأما الذي يعدل اتجاه السفن وبغير من اتجاهها، فهو "السُكّان"، وهو "الكوثل" أيضاً. وذكر أيضاً إن "السكان" ما تسُكن به السفينة تمنع به من الحركة والاضطراب. وذكر بعض علماء العربية إن "الكوثل" مؤخو السفينة، وفيه يكون الملاحون ومتاعهم. والأغلب انه "السُكّان"، ويعبر عنه ب "الحيزرانة" كذلك. وبلفظة أخرى هي "الدويطرة". وقد عرفت بأنها كوثل السفينة.

ويعرف سكان السفينة ب "الخيزرنة" وب " الخيزران". قال النابغة يصف الفرات وقت مدّه: يظل من خوفه الملاّح معتصماً  بالخيزرانة بعد الأين والنجـد

ويستعمل الملاحون "المجاديف" "المجاذيف" في تجديف السفينة.

و "المجداف" خشبة رأسها لوح عريض تدفع بها. ويقال له "المقذف" و "المقذاف" أيضاً. ولم يتطرق علماء اللغة ولا أهل الأخبار إلى عدد "مجاديف" السفينة الواحدة، أي إلى عدد رجالها الذين كانوا يجدفون بالمجاديف. فالسفن الكبيرة الضخمة تحتاج إلى عدد من المجدفين، قد يبلغون العشرات. وقد كانت سفن الروم، ذات طابقين بالنسبة للمجدفين، فيجلس عدد منهم في الطابق الأسفل، ويجلس فوقهم عدد آخر من المجدفين، لتسير السفينة بسرعة، وقد استخدموا هذه الطريقة في سفنهم الحربية بصورة خاصة، لأنها سفن، يجب إن تعتمد على السرعة وعلى خفة الحركة لتتمكن من التغلب على سفن الأعداء.

وأما "الُمردي"، فخشبة يدفع بها الملاّح السفينة. وذلك كي يحركها عند الشواطىء والسواحل حيث تكون المياه ضحلة. والقيقلان خشبة يدفع بها السفينة أيضاً.

ويقال للذي يشتغل في السفينة ويعمل على تسييرها "الملاّح"، ويقال له "صار" و "الصاري" أيضاً. وحرفته " الملاحة". و يقال للملاّح: "السفآن" كذلك، وهو الذي يشتغل في السفن،ويعبر عنه ب "النوؤي". والجمع "نوتية" و "نوّاتين". "وفي حديث علي، كرم الله وجهه: كأنه قلع داري عنجه وتية". وورد أن "النوتي" البحار، وهو من كلام أهل الشام. واللفظة من أصل يوناني.

و "الربّان"، أو "ربان السفينة"، هو قائدها الذي يجريها. ويرى علماء اللغة أنها دخيلة معربة.

ويقال للموضع الذي ترفأ اليه السفن "المرفأ". من أصل "رفأ" بمعنى أدنى. وورد في حديث "تميم الداري": "أنهم ركبوا البحر ثم أرفأوا إلى جزيرة". ويعبر عن " المرفأ" بلفظة " الكلاّء"و " المُكلا" أيضاً.لأنه يكلأ السفن من الريح، وذلك بحبس السفن فيه لحمايته من الريح ولإنزال ما فيها، وأخذ ما فيه من تجارة وناس. ويقال للمرفأ "الميناء" كذلك، وعرفوه بأنه الموضع الذي ترفاً فيه السفن. كما يقال له: "فرضة" و"فرضة البحر" و " المرساة"، البقعة التي ترسو السفينة.

ومن مصطلحات السفن في العربية، الشحن، فيقال شحنت السفينة شحناً بمعنى ملئت، ومخرت السفينة، أي جرت. وحبت السفينة، أي جرت، وجنحت السفينة جنوحاً إذا انتهت إلى الماء القليل فلزقت بالأرض فلم تمض، وجمحت جموحاً إذا تركت قصدها فلم يضبطها الملاحون، ويقال ماهت السفينة إذا دخل فيها الماء، ورست وأرست، إذا بلغ أسفلها ا القعر فثبتت،وإذا اًرسيت وسخرت أطاعت وطاب لها السير، وحدرت السفينة أحدرها، وتقاذفت في البر جرت، وشجتّ البحر قطعته. وهناك مصطلحات عديدة أخرى يشير ورودها في اللغة إلى معرفة في البحر وفي استخدام السفن في البحار.

وعند دنوّ السفينة من الأماكن التي تريدها، ترسو في مرفأ لتفرغ حمولتها أو لتحميلها أو لتزود بما تحتاج اليه من زاد وطعام، فتلقي بمراسيها في المرفأ تثبيتاً فلا تتحرك ولا تأخذها الأمواج ولا الرياح. وبسمي الملاحون الِمرساة "الأنجر"، ويكون من الخشب الصلب الثقيل أو حديداً أو حجراً كبيراً، وقد يكون على شكل كرة، وقد يكون على شكل مربع أو مستطيل، أو على شكل "خطاف"، أو حديد محجن. فإذا أرادت السفينة الرسو أنزل إلى الماء ليستقر على القاع فتثبت السفينة. وقد وصف "الأنجر"، انه خشبات يخالف بينها وبين رؤوسها وتشدّ أوساطها في كل موضع واحد، ثم يفرغ بينها الرصاص المذاب فتصير كصخرة، ورؤوس الخشب ناتئة تشد بها الحبال وترسل في الماء إذا رست السفينة، تعريب لنكر من أصل فارسي.

وقد ذكر علماء اللغة أن "السبابجة"، هم قوم من السند يستأجرون ليقاتلوا، وكانوا قوماً جلاوزة وحرّ س السجن في البصرة أيام الإسلام. وكان رئيس السفينة البحرية يستأجرهم ليكونوا معه يبذرقونها، أي يخفروتها ويقاتلون من بتصدى لها بسوء. وقد كانت بالأبلة التي عاشت قبل البصرة جاليات جاءت إليها من الهند، فقد كان الاتجار بين الهند وجنوب العراق وسواحل جزيرة العرب اتجاراً قديراً، وقد أقامت جاليات أخرى منها في موإضع من هذه السواحل، وقد أشتهرت إلى عثور العلماء على هياكل بشرية بأرض عمان، تمثل "الدرافيديين"، أي سكان الهند القدامى، والى وجود أثر لملامح هندية في سكان سااحل عمان تظهر عليهم حتى اليوم.

وصناعة السفن الكبيرة تحتاج إلى أخشاب صلدة قوية والى مسامير من حديد تستعمل في ربط الألواح والأخشاب بعضها ببعض، والى أيدي فنية عاملة، وعلم بهندسة بناء السفن. ولم تتيسر هذه الأشياء في جزيرة العرب. فالخشب الصالح لبناء السفن غير موجود في أكثر أنحائها، و لهذا اقتصرت صناعة السفن على السفن الصغيرة في الغالب، وهي سفن ليس في مقدورها اختراق آفاق البحار الكبيرة والمحيطات، والتجول بحرية في أية ناحية كانت من نواحي البحار الواسعة. ولم يكن لها إلاّ السير في محاذاة السواحل، و هو سير يكلفها كثراً، و على السفن أن تقطع مسافات طويلة معرضة نفسها لمخاطر الاصطدام بالصخور الكامنة في المياه ولهجمات لصوص البحر الجائعين و للجوء إلى مراسي كثيرة طلباً للماء العذب والزاد، ولتمضية وقت طويل، على حين لا تحتاح السفن الكبيرة إلى كل ذلك، فهي قادرة بفضل متانتها وقوة صنعها من اختصار المسافات وتقصير الوقت وحماية نفسها من هجمات لصوص البحر باستخدام الرياح البحرية، وقطع البحر باستقامة و بحُرية إلى أي ميناء يريده الربان.

وكان على أصحاب معامل السفن العرب استيراد الخشب القوي الصالح لبناء السفن من الخارج، أو شراء السفن جاهزة من الأسواق الخارجية، وفي كلتا الحالتين يتكلف المشتغلون بالتجارة البحرية تكلفاً باهظاً ويكونون عالة في قوتهم وفي أعمالهم على الخارج. وهذا ما سهّل للرومان واليونان والفرس مزاحمة الدول العربية الجنوبية في البحر الأحمر وفي المحيط الهندي، ومن إنزال خسائر فادحة في ثروة العرب، أثرت أثراً كبيراً في الأوضاع السياسية والاقتصادية لجزيرة العرب، كما أثرت عليها من الناحية العسكرية إذ جعلت السواحل كل مكشوفة مفتوحة من الوجهة الحربية فأنزلت الدول الكبرى في مواضع منها قواتاً لحماية مصالحها التجارية وقوافلها الحربية وذلك قبل الميلاد وبعد الميلاد إلى ظهور الإسلام.

والساج من أثمن الأخشاب وأنفسها في صناعة السفن، فهو خشب مقاوم صلب، وقد استورد من الهند. ويظهر انه هو الخشب الذي ذكر "ثيوفراستسوس"،Theophrastus، انه كان بجزيرة "تيلوس"Tylus ويقصد بها البحرين، والخشب الذي كان في ميناء "عمانة" عمان الذي أشار اليه صاحب مؤلف "الطواف حول البحر الأريتيري"، والذي ذكر انه خشب مستورد من ميناء "بريجازا" بالهند.

وقد صنع الجاهليون سفنهم وقواربهم بأيديهم، مستعينين بالخشب المستورد وبالخشب المحلى. صنعوها في مواضع متعددة من سواحل جزيرة العرب، ولا سيما على سواحل الخليج، حيث تيسر لسكانها استيراد الخشب الصالح لبناء السفن من الهند. وهي صناعة لا تزال حية، إلا إن الهرم بدأ يظهر عليها، وأخذت تتقلص، وأوشكت على توديع الدنيا، لتراكم الأمراض عليها، ولعجزها عن مد نفسها بمقومات الحياة الملائمة لعصر السرعة.

وتتكون السفن الكبيرة الجيدة من سقائف، وهي ألواح السفينة. وكل لوح سقيفة. وقيل إن اللوح من ألواح السفينة، هو القادس وأما ما بين كل خشبتين من السفينة، فيقال الطائق. وتخرز السفن بالليف، ويجعل في خللها القار والجلفاط الذي يجلفط السفينة، وهو أن يدخل بين مسامير الألواح، وخروزها مشاقة الكتان، ويمسحه بالزفت والقار، وقد تطلى السفن بالقار، وتدسر. ويراد بالدسر المسامير لغاية التسمير والتدسير. وبقال للموضع الذي يجتمع فيه اغلماء الراشح جمة المركب.

ولم ترد في نصوص المسند المصورة صورة سفينة نهتدي بها إلى معرفة أشكال السفن عند إلعرب الجاهليين. كذلك لم يعثر المنقبون حتى الآن على صورة لها في النصوص التي ظفر بها في أماكن أخرى من جزيرة العرب. ولا يستبعد ان تكون سفن العرب انواعاً متعددة، بحسب أغراضها ووفرة ألخشب الصالح لبناء السفن وعلى قدر اختلاط سكان السواحل بغيرهم من اصحاب السفن. ولا أستبعد أن يكون أهل العربية الجنوبية والعربية الشرقية قد تأثروا بصناعة السفن اليونانية والساسانية والهندية والافريقية لاختلاطهم بهم، ومجيء سفن هؤلاء إلى مراسي السواحل ا لعربية، ولتمكنهم من شراء الخشب الصلد الصالح لبناء السفن من افربقية والهند.

ولم تتمكن سفن ذلك اليوم، وحتى أعظمها وأكبرها من مناطحة عواصف البحار ومقاومة أمواجها، فكثرت أمراضها و عللها، وفي جملتها ااخروق التي كانت تصيب مواضع اتصال ألواحها، فتقكك أوصالها فتهلك، ويتعرض أصحابها إلى خسائر كبيرة أضف إلى ذلك تعرضها إلى تحرش لصوص البحر بها، الذين كانوا يترصدون السفن، فإذا وجدوا فرصة مناسبة، هاجموها لأخذ ما قد يقع في أيديهم من حمولتها النفيسة. ولهذا كانت أجور نقل التجارة بالسفن عالية، لتعوض عن خسائر السرقة والغرق، ثم إن أجواف تلك السفن كانت صغيرة، لاتتحمل حملاً كبيراً، فصار أصحابها لا يحملّونها إلا السلع الغالية التي لا تحتاج إلى مكان كبير وا التي تتحمل أرباحها دفع الأجور الغالية عن نقلها الى المواضع التي يراد ايصالها إليها.

ولا يتسع هذا المكان لذكر كل الألفاظ والمصطلحات التي لها علاقة بالبحر، فهناك أسماء لمختلف أنواع السفن، وأسماء أدوات كثيرة استعملت في السفن، وأسماء للساحل وللجزر وللنياتات البحرية زغير ذلك وردت في كتب اللغة، واليها يجب إن يرجع من يريد المزيد من هذه الألفاظ والمصطلحات، غير إن علينا إن ننتبه الى إن في هذه المصطلحات، مصطلحات عديدة دخلت العربية في الإسلام. وتفيد هذه الألفاظ والمصطلحات فائدة كبيرة في الوقوف على مدى تأثر البحرية العربية الجاهلية بالبحرية الأجنبية، وذلك بدراسة أصول هذه الألفاظ والمصطلحات لمعرفة المكان الذي جاءت منه والشعب الذي مون البحارة العرب بها.

الفصل المئة
التجارة البحرية

وليس في كتابات المسند التي وصلت الينا شيء عن التجارة البحرية. ولا يعقل بالطبع ألا يكون لسكان سواحل جزيرة العرب علم بالبحر، والا تكون لهم سفن مهما كان حجمها، كانوا يركبونها في اتجارهم مع افريقية ومع بلاد الهند وايران. فقد علمنا أن العرب الجنوبيين كانوا قد اقاموا دولة "اكسوم" في الحبشة. وقد رأينا أن من المستشرقين من يرى أن أصل كلمة "حبشت" "حبشة"،من أصل عربي، وأن "الحبشة" أرض في العربية الجنوبية في الأصل، منها هاجر الحبش، سكان تلك الأرض، وهم من العرب فنزلوا بالأرض، التي سميت باسمهم في إفريقية، وقد رأينا أيضاً أن العرب امتلكوا السواحل الأفريقية المقابلة للعربية الجنوبية أمداً طويلاً، كما امتلكوا بعضاً منها في الإسلام الى عهد غير بعيد، ولا يعقل بالطبع ذهابهم إلى تلك السواحل و نزلوهم بها بغير ركوب سفن، ولا يعقل أن يكونوا قد ذهبوا إليها بسفن أجنبية، بل لا بد وأن يكونوا قد عبروا إلى تلك السواحل بسفن كانت تعود لهم، ولا بد وأن لهم أسطول تجاري كانوا يمخرون به عباب البحار للاتجار.

وقد رأينا من كتب بعض الكتبة اليونان واللاتين إن الصومال كان يحكمه حكام عرب، وان التجار العرب كانوا يشاهدون بكثرة في "رهابتا" "Rahapta"، على مقربة من "زنجبار". وان مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"،كان قد ذكر إن رئيس "معافر" كان يحكمها بموجب حق قديم. وان أهل مدينة،"Muza" يحكمونها باسمه،ويبعثون إليها بسفن تجارية يديرها ربابنة ووكلاء عرب ألفوا أهل البلاد، واختلطوا بهم، وصاهروهم، وخبروا الساحل،واطلعوا على لغتهم.

إن خلوّ كتابات المسند من كل إشارة إلى البحر والى السفن والى الاتجار مع الأقطار الواقعة على السواحل، لأمر يؤسفنا كثيراً،فقد حرمنا الكلام على البحرية العربية وعلى علم العرب الجنوبيين بالبحار، وبات علمنا بالتجارة علماُ ضئيلاً محدوداً، وليس لنا إلا التطلع إلى المستقبل، فهو، وحده الكفيل بزيادة علمنا في هذا الموضوع.

وقد كان أكثر ثراء العربية الجنوبية من التجارة، التجارة البرية والتجارة البحرية، والاتجار بالمواد الناتجة في جزيرة العرب ذاتها، والاتجار بالمواد المستوردة من الخارج ولا سيما السواحل الافريقية أو الهند.

وقد كان الاتجار مع افريقية سهلاً يسيراً بالنسبة إلى تجار العربية الجنوبية،ولا سيما تجار اليمن. فإن الشقة بين سواحل افريقية وسواحل اليمن ليست واسعة كبيرة، ولهذا كان في استطاعة السفن الشراعية إن تقطعها بدون مشقات وصعوبة كبيرة. تذهب إلى افريقية تحمل إليها حاصلات اليمن، ثم تعود إليها وهي محملة البضائع الافريقية الثمينة، مثل الأخشاب والعاج. وبضاعة ثمينة أخرى: بضاعة حية تتحرك وتنطق، هي الزنوج. يستوردونهم شراءً من أسواق النخاسة، أو اقتناصاً من السواحل، لحاجة البلاد إلى استخدامهم في الانتاج وفي أداء الخدمات التي يأنف العربيِ عادة من القيام بها. وقد كان هذا الوارد عصاً حساساً في الانتاج في ذلك العهد.

ولم ترد في كتابات المسند التي عثر عليها في جزيرة العرب ويا للأسف معلومات عن أسفار العرب البيرية، لا إلى سواحل افريقية ولا إلى سواحل الهند وجنوب ايران. ولكن وجود السبئيين في الساحل الافريقي وتكوينهم حكومة هناك، ثم احتلال الحبش للعربية الجنوبية الغربية مراراً، وذهاب المسلمين الأوائل مهاجرين إلى الحبشة، وحث الرسول لهم على الذهاب الى أرض الحبشة، لأن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق. وذهاب المسلمين إلى مرسى "الشعيبة" للسفر منه بسفن التجار إليها، كل ذلك دليل على وجود اتصال بحري بين افريقية واليمن.

وقد أشرت في الجزء الثاني من هذا الكتاب، إلى عثور العلماء على كتابات معينة في جزيرة "ديلوس" Delos من جزر اليونان، وهي نصوص ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى بحثنا هذا، فإنها ترينا وصول المعينيين الى هذه الجزيرة وأقامتهم فيها، واتجارهم مع اايونان، ومن يدري، فاهلّهم كانوا قد توغلوا شمالاً أيضاً، ونزلوا بلاد اليونان، وتاجروا هناك، ومع شعوب أوروبة في ذلك الى العهد. وقد ورد في نص من هذه النصوص: "هنا" أي "هانئ"،و"زيد ايل" من "ذي خذب"، نصبا مذبح ودّ وآلهة معين ب "دلث"، أي ب "ديلوس". وقد كتب بالمسند، وباليونانية، وقد جاء في النص اليوناني: "يا ودّ إلَه معين يا ودّ". وفي هذا النص والنصوص الأخرى دلالة على وجود جالية معينية في هذه الجزيرة وسكناها فيها، وعلى تعلقها بدينها وبآلهتها وعدم تركها لها حتى في هذه الأرض البعيدة عن وطنها. و من يدري? فلعلّها كانت على اتصال ببلادها، وكانت تتجر معها، فترسل إليها حاصلات اليونان و منتوجات أوروبة وتستورد منها حاصلات اليمن والعربية الجنوبية وافريقية والهند.

وقد أشرت في ذلك الجزء أيضاً إلى عثور العلماء على كتابة معينية بمصر، كتبت حوالي سنة "263" قبل الميلاد، وذلك بالجيزة. وهي كتابة قصيرة، ولكنها ذات أهمية كبيرة، لأنها تشير إلى وجود المعينيين بمصر في ذلك العهد. وعن وجود صلات تجارية ربطت بين مصر وجزيرة العرب من البرّ والبحر. وهي تتحدث عن رجل اسمه "زيد بن زيد ايل" من "آل ظبرن"، اعترف بوجود دين عليه وواجب هو توريد وتزويد " ابيتت الالت مصر"، أي "بيوت آلهة مصر"، أو "معابد الهة مصر" ب "امررن وقليمتن" "قليمتن"،أي ب "المرّ والقليمة"،ويقصد بلفظة "قليمتن" "قلمتن"، ما يقال له "Calamus"، في الانكليزية و "Kalamus" في الألمانية، ويراد به ما يقال له قصب الذريرة أو قصب الطيب. و "امررن"،بمعنى " المر"، وهو معروف مشهور عند العرب، ودواء كالصبر مرّ، استعمل في معالجة أمراض عديدة. وقد كان ذلك في شهر "كيحك" من السنة الثانية والعشرين من حكم الملك "بطلميوس". وقد ذهب "رودوكناكاس"، "Rhodokanakis" ناشر النص المذكور ومترجمه إلى احتمال كون "زيد ايل" كان كاهناً في معابد مصر، ولو كان من أصل غير مصري، فقد كان المصريون قد تساهلوا في هذا العهد - كما يرى - فسمحوا للغرباء بالانخراط في سلك الكهان وخدمة المعابد، وتساهلوا مع "زيد ايل" هذا فأدخلوه في طبقة"اويب"، "Ueeb"، وانتخبوه كاهناً ليضمن لهم الحصول على المرّ والقليمة بأسعار رخيصة لاستيراده اياها باسمه ومن موطنه مباشرة من غير وساطة وسيط.

وقد ذهب "رودوكناكس" أيضاً إلى إن "زيد ايل"، كان يستورد المرّ والقليمة لحسابه الخاص ومن ماله، بل لحساب المعابد المصرية ومن أموالها. فلم يكن هو إلا وسيطاً وشخصاً ثالثاً يتوسط ببن البائع والمشتري، يشتري تلك المادة ويستوردها باسمه، ولكنه يستوردها للمعابد ولفائدتها. وهو لا يستبعد مع ذلك احتمال اشتغاله هو لنفسه وعلى حسابه في التجارة، يستوردها لنفسه ويبيعها في الأسواق، ويتصرف بالأرباح التي تدرها كما يريد. وهو لا يستبعد أيضاً احتمال مساعدة المعابد له بتجهيزه بالمال لتقوية رأس ماله، أو انتشاله من خسارة قد تصيبه.

وقد أصيب هذا التاجر كما يظهر من هذا النص بخسارة كبيرة في شهر "حتحر" ربما أتت على كل ما كان يملكه، فهبت المعابد المصرية لإنقاذه، واعادة اعتباره المالي اليه، بإسناده بتقديم أقمشة ال "بص" "بوص" اليه. وقد أخذها وصدرها في سفينته التي يستورد بها المرّ والقليمة إلى الأسواق، فربح منها. واستورد المرّ و القليمة وأعاد إلى المعابد ثمن ما أخذه منها من تلك السلعة، وأدى ديونه في شهر "كيحك". وقد عاد اليه اعتباره وأنقذ من تلك الضائقة المالية التي حلت به بمدة قصيرة لا تتجاوز شهراً كما يرى ذلك "رودوكناكس".

ولم يذكر النص اسم الجهة التي ذهبت السفينة إليها، ولا اسم الموضع الذي ارسل "البوص" اليه، ولا اسم المكان الذي استوردت القليمة وكميات المرّ منه. و "البص" "البوص"، هو "البز" في عربيتنا. والبز: الثياب، وقيل ضرب من الثياب، وبائعه البزاز. ويظهر انه كان من الأصناف الجيدة، التي امتازت مصر به، فاشتهر في الخارج، فكان يصدَّر إلى الأسواق الخارجية. وهي لفظة معربة، عربت من أصل يوناني هو "Vissas"، ومعناه نسيج كتان، ونسيج من كتان هندي رقيق جداً.

لقد كانت حكومة البطالمة قد احتكرت صناعة نسيج الكتان وتجارة البزّ "بوص"، وبيع المرّ والبخور والعطور والصبر وغير ذلك. وكانت تنتهج في خطتها الاقتصادية نهج احتكار الدولة بيع السلع الرائجة المهمة. نعم، سمحت للتجار المستوردين باستيراد ما يشاءون من المر والبخور واللبان والصمغ والصبر وما شاكل ذلك من الخارج، ولكنها لم تسمح لهم ببيعها أو تحويلها أو تغيير شكلها من غير استئذان الحكومة وموافقتها، ذلك لأنها تعدها من المواد الداخلة في دائرة الانحصار والاحتكار "Statesmonopol"، والتابعة لمراقبة الحكومة.

أما نسج "البوص" "البص" البز، فقد أودع أمره إلى المعابد، تشرف عليه وتدير صناعته، ورثت ذلك من عهود سبقت أيام البطالمة،وذلك في مقابل السماح لها بأخذ ما يحتاج إلى استعماله في المعابد أو لحاجات رجال الدين الخاصة، وتسليم بقية ما ينسج إلى دوائر الحكومة المختصة لبيعه الناس.

ويظهر من المؤلفات اليونانية واللاتينية أن العرب كانوا يملكون سفناً في البحر الأحمر وفي البحر العربي وفي الخليج، إلا أن سفنهم لم تكن ضخمة، ولهذا لم تتمكن من مجابهة السفن الرومانية والسفن اليونانية حين نزلت تلك البحار. لأنها كانت أضخم منها، وكانت ذات أربعة صفوف من المجاذيف، كما أنها كانت سريعة الحركة وذات مرونة في الاستدارة وفي الالتفاف وفي والانتقال،وذلك بفضل أشرعتها التي طوّرت تطويراً كبيراً ليناسب تطورها هذا فعل الرياح بها، ولتتمكن من السير مع الأهوية أو ضدها، وبسبب اخر هو تطوير هندستها بصورة مستمرة، لتجاري التيار ولتقطعه بكل سهولة، دون أن يعيقها أو يلحق أذى بها. وبفضل هذا التطوير تمكنت تلك السفن من التغلب على السفن العربية، ومن ملاحقة لصوص البحر "القرصان" الذين كانوا يتحرشون بالسفن ليأخذوا ما فيها، بسفنهم الصغيرة البدائية،وبذلك صار في مستطاع السفن اليونانية والرومانية دخول الموانئ العربية والموانئ الافريقية ومن الوصول إلى الهند.

وقد أشار "أغاثرشيدس" إلى هذا التفوق، كما أشار اليه "سترابو" في أثناء كلامه على حملة "أوليوس غالوس" وعن خطأه في تقدير موقفه من البحرية العربية. فقد ذكر "سترابو" أن "أوليوس غالوس" ظن أن للعرب سفناً كبيرة في البحر وأنها ستظهر أمام سفنه وستقاومه، لهذا أمر ببناء سفن طويلة لمجابهة تلك السفن، مع أن العرب قوم تجارة وبيع وشراء، ولم يكونوا أمة حرب، لا في البحر وحده، بل في البر أيضاً. ومع ذلك بنى ما لا يقل عن ثمانين سفينة حربية، منها سفن ذوات صفّين من المجاذيف ومنها ذوات ثلاث، ومنها ذوات صف واحد... ولما أدرك خطأه ابتنى مئة وثلاثين سفينة للحمل، ركب فيها نحو من عشرة آلاف من المشاة.. وبعد أن خسر كثيراً من سفنه، غرق عدد منها وغرق من فيها من بحارة، وذلك بسبب صعوبة الملاحة لا بمقاومة من عدو.

ولا نجد في كتب أهل الأخبار ما يشير إلى وجود قوى بحرية عربية، بل نجد فيها أن سفن الروم كانت هي التي تمخر عباب البحر الأحمر وكانت هي المهيمنة عليه وأنها كانت تصل إلى سواحل افريقية وتذهب إلى الهند. ونجد فيها أن سفن الحبشة كانت تأتي "الجار" و "الشعيبة"،وموانئ عربية أخرى لتتاجر معها، وأن سفن الساسانيين كانت تهيمن على مياه الخليج العربي والبحر العربي،ثم نجد في روايات أهل الأخبار عن كيفية احتلال الحبش لليمن واحتلال الفرس لها وعن هجرة المهاجرين الاولين من مكة إلى الحبشة ووصفهم لكيفية بناء الكعبة وأخذهم لخشب سفينة رومية ما يؤيد أن الجاهليين لم يكونوا يملكون سفناً كثيرة كبيرة قوية في ذلك العهد، وأنهم كانوا قد تركوا البحر إلى غيرهم منذ عهد قبل الإسلام.

ويعود تفوق سفن اليونان والرومان على السفن العربية في البحار الى ما قبل الميلاد. لا بل نستطيع أن نرجع هذا التفوق إلى ما قبل أيام اليونان والرومان، نستطيع أن نرجعه الى أيام المصريين. فقد ورد في أخبارهم انهم أرسلوا سفنهم إلى البحر الأحمر فوصلت إلى السواحل الأفريقية،وانهم كانوا قد حفروا قناة لتصل بين نهر النيل والبحر الأحمر، فيكون في وسع السفن القادمة من البحر الأبيض من اليونان أو من ايطاليا أو من أي مكان آخر دخول نهر النيل والمرور من القناة الى البحر الأحمر ثم إلى المحيط للاتجار مع أسواق البلاد الجارة، والعودة من تلك الأسواق بحاصلات آسيا وافريقية إلى اوروبة. وهو مشروع يدل على ذكاء وحنكة في السياسة، مهّد الدرب لمشروع قناة السويس الحديث.

ولما استولى "دارا" "داريوس" على مصر، قرر اعادة ذلك المشروع المصري القديم، الذي كان قد اندثر وأكلته الرمال. بأن أمر بشق قناة تصل النيل بالبحر الأحمر عن طريق الفرع البلوزي أحد فروع النيل القديمة، بالقرب من الزقازيق، مخترقة وادي الطميلات ثم البحيرات إلى السويس. وهو مشروع يدل على ذكاء ذلك الملك وادراكه لأهمية ربط البحرين بطريق مائي، والى ما فيه من فوائد في السياسة وفي الاقتصاد وفي الناحية العسكرية.

ووضع "الاسكندر" الأكبر مشروعاً خطيراً آخر يفوق كل ما وضع من قبله من مشاريع. فقد وضع خطة السيطرة على المياه الدافئة بالسيطرة على سواحل جزيرة العرب،وذلك بالاستيلاء عليها، ويكون بذلك ملك أكبر انبراطورية عرفت حتى ذلك اليوم تمتد من الهند إلى مصر وما وراء مصر من أرضين. وقد كلف قوّاده بالالتفاف حول جزيرة العرب، وباشروا بتنفيذ الأمر بالفعل،وقد رأينا قائده "نبرخوس" " Nearchus"،على رأس أسطول ضخم، لعله أعظم أسطول شاهده الخليج والبر العربي حتى ذلك العهد، وقد رأينا كيف قرر الإحاطة بجزيرة العرب من الجنوب والغرب بالسيطرة على سواحلها وانشاء أسطول يمخر المياه المحيطة بها، بعد أن هيمن على السواحل الشرقية. وقد استعان نفسه بخبرة الفينيقيين وعلمهم بالبحر. نقلهم إلى هذه المياه وكلفهم بناء السفن له، وبإدارتها له. ولو قدر للأسكندر أن يعيش طويلا لتحقق مشروعه الضخم، ولكن القدر قضى عليه مبكراً، فمات مشروعه معه، ولم يكن لخلفائه ما كان لسيدهم من عزم، فتركوا المشروع، ولم يتحمسوا له.

وقد أدرك البطالمة قيمة القناة القديمة التي كانت تربط النيل فالبحر المتوسط بالبحر الأحمر، فأمر "بطلميوس الثاني" "185 - 146 ق. م." بإعادتها، ومكن بذلك تجاره من دخول البحر الأحمر ومن نقل التجارة من أسواقها الأصلية إلى مصر، ومنها الى أسواق اليونان والرومان وسائر بلاد أوروبة بالطرق المائية وضبط بذلك الممر المائي، العالي القديم، هذا الممر الذي فتح ذهن "دلسبس" فيما بعد فجعله يفكر في موضع أصلح رآه في المكان الحالي المعروف ب "قناة السويس" القناة العالمية التي تلعب اليوم دوراً خطيراً في الاقتصاد العالمي وفي السياسة الدولية والموقف الحربي للدول.

وعينّ البطالمة موظفين خاصين مهمتهم الإشراف على إدارة التجارة البحرية وسير السفن. فنجد في كتابة تعود إلى سنة "130" قبل الميلاد إشارة إلى موظف كان مسؤولاً عن سير السفن وعن الطريق الصحراوية الممتدة إلى قفط، ونجد أخباراً تعود إلى ما بين سنتي 120 و 110 قبل الميلاد تتحدث عن سفن كانت تسير بين مصر والهند، كما نجد فيها وفي نصوص تعود الى عهود متأخرة عن هذه اشارات إلى وجود موظفين مسؤولين عن البحرين الأحمر والهندي.

وقد كان لوقوف "هيبالس" " Hippalus"، وهو أحد اليونان أو الرومان على سرّ الاستفادة من الرياح الموسمية في تسيير السفن وفي تقصير الوقت في قطع المسافات، وفي تمكينها من الابتعاد عن أخطار السير في محاذاة السواحل أهمية كبيرة في تطوير فن الملاحة الأوروبية بالنسبة لذلك العهد. ويمكن اعتبار وقوف هذا الملاح على هذا السرّ من أهم الأحداث البارزة التي حدثت في ذلك العهد والتي مكنت الغربيين من التوفق في البحر بالنسبة لتلك الأيام. أضف إلى ذلك أن الذين خبروا البحر وعركوه من بعده أضافوا ما استفادوه من فنه ومن علم من تقدم عليه علماً آخر مكن البحارة البطالسة ثم الرومان الذين جاؤوا من بعدهم فحكموا مصر، ثم اليونان من السيادة على البحار ومن انتزاع المغانم من التجار العرب ومن غيرهم ومن إلحاق ضرر بالغ بهم، وبذلك وضعوا لمن جاء بعدهم من دول أوروبة خطط السيطرة على البحار وعلى العالم القديم.

ويعدّ القيصر الروماني "أغسطس قيصر" من أهم القياصرة الذين وجهوا أنظارهم نحو الشرق، ونستطيع إن نقول انه خليفة "الاسكندر الأول" في هذا الباب، ومن أساتذة "نابليون" في خططه العسكرية الرامية إلى السيطرة على الشرق. لقد نوى الاستيلاء على بلاد العرب، وربما على ما وراء بلاد العرب من أرضين، وكانت غايته من هذه النية - كما قال سترابو - "إما إن يسترضي العرب، وإما إن يخضعهم، كما انه فعلت في نفسه الروايات الشائعة منذ القدم إن العرب قوم واسعو الثراء، وانهم يستبدلون الفضة والذهب بعطرهم وحجارتهم الكريمة، دون إن ينفقوا مع الغرباء ما يحصلون عليه في مقايضاتهم التجارية. فأمل أحد أمرين: إما إن يحصل على أصدقاء موسرين، وإما إن يتغلب على أعداء موسرين".

واذا كان "أغسطس" قد أخفق في تحقيق مشروعه في احتلال جزيرة العرب،فإنه لم يهمل ناحية الاستفادة من البحار، فشجع الملاحين، وزاد عدد السفن الذاهبة إلى الهند، وقد كان عددها لا يزيد على عشرين سفينة في السنة الواحدة قبل أيامه، فارتفع عدد ما يصل إلى الهند منها إلى ما لا يقل عن "125" سفينة في السنة الواحدة. وقد أقام اليونان والرومان معبداً في موضع "Mauziris"،على ساحل ال"مالابار" في أيام "أغسطس"، ووجود هذا المعبد في هذا الموضع دليل على المدى الذي وصل اليه التجار اليونان والرومان في بلاد آسية، وعلى مقدار تشجيع القيصر لأولئك التجار.

وبدلاً من أن ينتظر التاجر الروماني أو اليوناني البضائع الثمينة، تأتي اليه إلى أسواق مصر أو بلاد الشام محملة بسفن عربية أو على ظهور جمال القوافل كما كان ذلك في الغالب، وهي بأسعار عالية، إرتاد هو البحر الأحمر، ومنه المحيط الهندي إلى سواحل افريقية أو سواحل العربية الجنوبية أو الهند فما وراءها، يشتري من موانئها وأسواقها ما يريد، بأسعار رخيصة جداً بالقياس إلى تلك الأسعار التي كان يدفعها للتجار الموردين في أسواق مصر أو أسواق بلاد الشام، فاستفاد هو، واستفادت حكومته منه، وخسر التجار العرب بوصول هؤلاء التجار الى تلك الأسواق ومنافستهم لهم خسائر فادحة، أوجدت خللاّ في الحياة الاقتصادية للدول العربية، وضرراً عاماً في جميع نواحي الحياة الأخرى.

وطالما تشكى الرومان واليونان من فداحة الأرباح والضرائب التي كان يفرضها التجار العرب على البضائع المرسلة اليهم، والتي كانوا يحتاجون إليها ويشترونها بأي ثمن كان. وقد ذكر "سترابون" الجغرافي الشهير في جملة الأسباب التي حملت القيصر "أغسطس" على إرسال حملته الشهيرة، هو ثراء أهل تلك البلاد، وحصولهم على ارباح مفرطة من الغرباء وفي ضمنهم الرومان واليونان من اتجارهم معهم، ومن تحكمهم في وضع الأسعار، دون أن يعطوا أولئك التجار والبلاد التي يحملون تجارتهم إليها شيئاً.

وقد كان للاحداث السياسية، في الانبراطوريتين الرومانية واليونانية أثراً كبيراً في حالة الملاحة في البحر الأحر والمحيط الهندي. ففي أيام الفتن والاضطرابات وحدوث القلاقل، لم يكن في وسع أصحاب السفن الرومان أو اليونان التوغل في البحار البعيدة عن مناطق نفوذ الانبراطوريتين،لضعف وسائل حماية السفن التجارية وحماية التجار والمستعمرات العديدة المقامة على السواحل. ولهذا نجد "سترابو" يذكر أنه قبل أيامه لم تكن هناك سفن كثيرة تجتاز البحر الأحمر، فقد كان كل ما يرسله الرومان من السفن لا يزيد على العشرين سفينة، تجتاز هذا البحر،فتصل إلى ما وراءه في المحيط.

وأخذ التجار اليونان والرومان يقصدون سواحل افريقية وبلاد العرب والهند، ويقيمون في موانئها للاتجار. وقد عثر على نقود يونانية ورومانية في مواضع متعددة من هذه السواحل، كما عثر فيها على آثار معابد ومباني تشير إلى أصل يوناني وروماني، كذلك في أخباراً لأشخاص يونانيين ورومانيين ذهبوا الى أرض سبأ للاتجار.

ولم يجد الرومان ولا اليونان مقاومة تذكر حينما ولجوا البحر الأحمر والمحيط الهندي. لقد كانت سفنهم أكبر وأقوى من سفن العرب، وأحدث منها،وأقدر على الحركة والمقاومة. تتحمل صعاب البحر، وتقاوم الأعاصير والظروف القاسية الشديدة، وتتسع لاستيعاب أعداد كبيرة من الرجال، وتحمل حملاً كبيراً بالقياس إلى السفن العربية. وهذا مما يقلل بالطبع من اجور النقل، ومن أخطار الغرق والاصطدام بصخور السواحل، ومن التعرض للصوص البحر، ويخفض من اثمان البضائع في الأسواق، ويزيد في عدد المستهلكين.

وقد رأى البحر الأحمر سفناً أقوى وأضخم من السفن العربية الصغيرة ومن سفن سكان سواحل افريقية: رأى سفناً تسير بقوة أربعة صفوف من المجاذيف "Quadriremes"أخذت تتعقب لصوص البحر،وتحمي سفن اليونان والرومان، وتحمي المستعمرات التي أنشئت على سواحل البحر الأحمر لإيواء تلك السفن،وتقديم المساعدات إلى أصحابها، وشراء السلع من القبائل الساكنة على مقربة منها، وسرعان ما صارت أسواقاً للبيع وللشراء، يبيع فيها هؤلاء التجار الأجانب ما يأتون به من تجارة من حوض البحر المتوسط، ويشترون منهم ما عندهم من مواد أولية، يقبل عليها أهل مصر واليونان والرومان وسكان البحر المتوسط.

وقد أثرت هذه الأسواق بالطبع في مصالح التجار العرب الذين كانوا يقومون بمثل هذه الأعمال، وألحقت بهم ضرراً ولا شك.

ولوعورة الساحل العربي على البحر الأحمر ولكثرة صخوره المؤذية للسفن،ولكثرة لصوص البحر فيه، ولأسباب أخرى تجنبت السفن الرومانية واليونانية هذا الساحل قدر إمكانها، فلم ترسُ به إلا في المواضع الآمنة التي أمنت النزول بها، وسيطرت عليها بوضع حاميات عسكرية بها، أو بعقد محالفات وعهود ومواثيق مع سكانها، وقد كان ميناء "مخا" " Muza" الميناء المفضل لها. قصدته للاتجار ولتموين نفسها بالماء والغذاء. وقد كان في استطاعة سفن تلك الأيام السير على مبعدة من ذلك الساحل ودون توقف حتى تصل إلى الميناء المذكور، أو إلى ميناء عدن "Arabia Eudaemon"،وبذلك تجنبت السفن المخاطر والمهالك التي كانت ستتعرض لها فيما لو سارت في محاذاة الساحل العربي.

ويظهر أن موضع "لويكه كومه"، أي "القرية البيضاء" كان ميناءً معروفاً في القرن الأخير قبل الميلاد، ففيه هبط "أوليوس غالوس" سنة "25 أو 24" قبل الميلاد في حملته التي أمر القيصر "أغسطس" بإرسالها على اليمن. ولو لم يكن من المرافئ الحسنة الصالحة لرسو السفن لما نزل به الجيش الروماني. ويكتنف تأريخه الغموض، فلم يرد اسمه كثيراً في كتب اليونان والرومان ولا في كتب الإسلاميين. ويقال إنه ظل قائماً حتى نهاية القرن الثالث بعد الميلاد. ولعلّه "الحوراء"، مرفأ سفن مصر قديماً، وقد ذكره أصحاب الرحل.

و "الجار"، فرضة أهل المدينة، ترفأ إليها السفن من أرض الحبشة ومصر وعدن والصين والبحرين، وبحذائها جزيرة في البحر ميل في ميل يسكنها التجار. فهي من الموانئ التي كان يقصدها التجار من السواحل المقابلة ومن سواحل افريقية الشرقية والمحيط الهندي. وذكر إن الناس كانوا لا يعبرون إلى الجزيرة إلا بالسفن، وهي مرسى الحبشة خاصة. وان بينها وبين المدينة يوم وليلة، وبين أيلة نحو من عشر مراحل، والى ساحل "الجحفة" نحو ثلاث مراحل. وقد عرفت تلك الجزيرة ب "قراف"، وسكانها تجار كنحو أهل الجار.

و "الشعيبة" من المراسي القديمة في الحجاز، وهي أقدم من جدة. وهي خور أمين تقصده السفن لتتزود بما تحتاج اليه من زاد وماء، ولتفرغ فيه ما تأتي به من شحن من افريقية إلى الحجاز. وهو مرفأ مكة ومرسى سفنها قبل جدة. واليه جنحت سفينة "باقوم"، التي تحطمت بدفع الريح لها، فاستعانت قريش في تجديد عمارة الكعبة بخشب تلك السفينة على نحو ما تحدثت عنه في أثناء كلامي على تجديد بناء الكعبة قبل المبعث بقليل. ومنه هاجر المسلمون إلى الحبشة في السنة الخامسة من المبعث،حيث وجدوا سفينتين للتجار حملوهم فيِها إلى الحبشة. ومنه كان يذهب تجار مكة إلى افريقية للتجارة قبل الإسلام.

وميناء "Muza"="MUZA" من موانئ اليمن المهمة على البحر الاحمر. وكان مقصوداً، وتصل اليه السفن البيزنطية والسفن الواردة من مصر، ومن هنا كانت تتزود تلك السفن بضائع البلاد العربية، أو تبيع فيه ما استوردته من مصر أو من سواحل البحر المتوسط. وقد تتزود ما تحتاج اليه من ماء وزاد، ثم تتجه الى افريقية أو الى سواحل الهند. وقد كانت به جاليات من اليونان أو من غيرهم مقيمة هناك للاتجار والتعامل مع الوطنيين. وهو ميناء "مخا" المشهور. ويذكر أهل الأخبار، إن بين "مخا" وبين "باب المندب"،أي الساحل الافريقي المقابل للساحل العربي يومين أو أكثر، وان باب المندب،مرسى ببحر اليمن،وهو اسم ساحل مقابل لزبيد اليمن، وهو برج معروف ندب بعض الملوك اليه الرجال حتى قدّ وه بالمعاول، لأنه كان حاجزاً ومانعاً للبحر عن إن ينبسط بأرض اليمن، فأراد بعض الملوك أن يغرق عدوّه، فقد هذا الجبل وأنفذه إلى أرض اليمن،فغلب على بلدان كثيرة وقرى أهلك أهلها وصار منه بحر اليمن الحائل بين أرض اليمن والحبشة والآخذ الى عيذاب وقصير إلى مقابل "قوص"،والملك هو "الاسكندر". وبهذه الطريقة أوجد أهل الأخبار لهم تأريخاً لباب المندب،وحلّوا مشكلة كيفية انفصال افريقية عن اليمن.

وميناء "Arabia Eudaemon"، هو ميناء "عدن"، وهو ميناء مهم في ذلك الوقت أيضاً، ولا يزال يحافظ على مركزه وأهميته من الوجهة العسكرية و الاقتصادية. و قد ذكره "بطلميوس" باسم، "Arabia Emporion". وقد كان مركزاً لتبادل السلع الافريقية والهندية والمصرية، ومكاناً تبحر منه السفن إلى الهند، كما تلتجئ اليه السفن الواردة من تلك البلاد. وقد استولى عليه الرومان في فترات.

ويذكر أنه في حوالي سنة "345"، أسس أحد المبشرين واسمه "ثيوفيلوس" "Theophilus" المعروف بالهندي، كنيسة في "عدن" "Adane".

وجزائر "فرسان"، من الجزر التي كان يتاجر أهلها مع الحبشة، ويذكر "الهمداني" أن سكانها كانوا يعملون في التجارة إلى بلاد الحبش، ولهم في السنة سفرة.

وميناء "Cana"، "قنا"،هو موضع "حصن غراب" "حصن الغراب". وهو سوق اللبان الذي يزرع داخل البلاد، يؤتى به إلى ذلك الميناء على ظهور الجمال، أو في الأرماث المصنوعة من الجلد، وفي القوارب. وهو ميناء تجارة كذلك مع مدن الساحل البعيد، مع بعض مدن الهند، وميناء "عمانه" "Umana"، "عمان" والموانئ التي على الخليج. وتقع "قنا" على مرتفع، قريب من "ميفع"،و "ميفع"، قرية على الساحل، و "ميفعة"،بلدة بين "ميفع" و "أحور"، إلا انها ليست على الساحل، بل بينهما مرحلة.

وأما ميناء "Moscha"،فهو "ظفار" من أعمال الشحر،قريب من صحار. وبجبال ظفار "اللبان"، واليه يحمل، وبه يقسم ويوزع، ولا يسمح بحمله إلى غيره، وقد ذكر عدد من المؤلفين اليونان واللاتين. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه "مسقط" وأنه "Mosca Portus". ويذكر أهل الأخبار،   

أن "ظفار" قرب مرباط، وتعرف ب "ظفار" الساحل،واليها ينسب القسط، وهو العود الذي يتبخر به، لأنه يجلب إليها من الهند، ومنها إلى اليمن، كنسبة الرماح إلى "الخط"، فإنه لا ينبت به، وهي قريبة من "الشحر". وكان أهل "جرها" "Gerrha" على ساحل الأحساء من أنشط الناس في التجارة، يتاجرون في البر والبحر،ويتاجرون مع الهند وسواحل ايران الجنوبية، كما كانوا يتاجرون مع العربية الجنوبية وأرض العراق. وكانوا قوماً مسالمين لا يرغبون في الحروب. فلما أراد "أنطيوخس" "Antiochus" الثالث الاستيلاء على المدينة وذلك في حوالي سنة "255" قبل الميلاد، سألوه الصلح والمهادنة، " وألا يقضى على ما أعطتهم الآلهة من سلام وحرية أزليين".

وأما مدينة "أبولوكس" "Apologus"،فهي الأبلة في الكتب الاسلامية و "Uubulum" في الكتابات الأكادية. وقد كانت من أهم موانئ أعالي الخليج في أيام فتح المسلمين للعراق. تصدر الى الهند حاصلات العراق و بلاد الشام وآسية الصغرى وأوروبة، وتستورد منها أخشاب الصندل والآبنوس ومنتجات الهند وسيلان والصين. وقد عرفها أهل الأخبار،فذكروا انها كانت أقدم من البصرة، لأن البصرة، مصرت في أيام "عمر"، وكانت الأبلة حينئذ مسالح من قبل كسرى، وقد كان تجارها يربحون ربحاً عظيماً، وهي أرض واسعة. قال "خالد ابن صفوان": "ما رأينا أرضاً مثل الأبلة مسافة، ولا أغذى نطفة، ولا أوطأ مطيةّ، ولا أربح لتاجر، ولا أحفى بعابد".

وهناك مواني عديدة أخرى، ذكر المؤلفون اليونان واللاتين أسماءها، وقد تحدثت عنها في الجزء الثالث من كتابي: "تاريخ العرب في الإسلام"، وشخصت مواقعها قدر الامكان. وقد كان لا بد من ان يكثر عدد الموانئ في تلك الأيام، فسفن ذلك العهد لم تكن ضخمة كسفن هذا اليوم، ولم يكن في استطاعتها لهذا الابتعاد عن السواحل كثيراً، ولا السير الى مسافات شاسعة، إذ كان لا بد لها من التزود دوماً بالماء والغذاء، ولا سيما بالنسبة الى السفن الصغيرة،فأخذت ترسو في مراسي كثيرة لتموين نفسهاِ ولإراحة أصحابها، من عناء البحر، ولم تتخلص السفن من تعدد الرسو في الموانئ إلا بعد تحسن صناعة بناء السفن،وظهور السفن البخارية، فانتفت حاجتها إليها، وقد قضى هذا التحسن على أكثر الموانئ، فماتت وذهبت مع العصور التي ولدت فيها.

وقد تتجه السفن من ميناء "مخا" إلى السواحل الافريقية مخترقة مضيق المندب،وقد تتجه إلى "عدن"، ثم تواصل سيرها نحو السواحل الافريقية، بعد أن تتمون بما تحتاج اليه من ماء وزاد، أو تتجه الى ميناء "أكيلا"Acilla"، الواقع على مقربة من "رأس الخيمة" "Massandum"،للاقلاع منه إلى الهندا. وهو أقرب طريق يوصل العرب الجنوبيين وعرب سواحل عمان إلى تلك البلاد.

ولما تحسنت هندسهّ بناء السفن صار في امكانها قفل مسافات أبعد من دون حاجة إلى الرسو في موانئ عديدة، وصارت السفن القادمة من مصر ترسو في ميناء "عدن" رأساً، وبعد أن يستريح أصحابها يتجهون إلى سواحل افريقية أبعد مما كانوا يصلون إليها في السابق، أو يتجهون نحو الهند. وبذلك قصر الوقت وقلت كلفة الأسفار، وصار في وسع اليونان والرومان دخول الأسواق الأصلية رأساً، يأخذون منها ما يريدون ويبيعون فيها ما عندهم دون حاجة إلى وسيط. وكانت السفن اليونانية والرومانية تتحمل من صعاب البحر، وتقاوم الأعاصير والظروف القاسية الشديدة، وتتسع لاستيعاب أعداد كبيرة من الرجال، وتحمل حملاً كبيراً بالقياس إلى السفن العربية. وهذا ما قلل بالطبع من أجور النقل، وخفض من أثمان البضائع في الأسواق، وزاد في عدد المستهلكين.

ولكن السفن اليونانية والرومانية جوبهت مع ذلك بلصوص البحر الذين كانوا يتعقبون السفن، ويغيرون عليها عند تقربها من السواحل. كان هؤلاء اللصوص قد ابتنوا سفناً لهم، فإذا رأوا سفنا يونانية أو رومانية أو غيرها وقد وقعت في قبضة الأعاصير، أو اصطدمت بالصخور البحرية أو كانت على مقربة منهم وفي مناطق يمكن وصولهم إليها، أغاروا عليها وأخذوا منها كل ما تقع أيديهم عليه.

ولا ينجو منها أحد، حتى أصحابها يؤخذون أسرى. فيباعون في الأسواق خولاً.

ولحماية السفن والتجار، أنشأ الرومان واليونان قوة بحرية حربية، تولت حراسة السفن التجارية وحماية المستعمرات التي أقاموها على سواحل هذه الطرق المائية العالمية المهمة. ولم تكن المسافات بين المستعمرات الساحلية قصيرة، ليكون في الامكان الدفاع عنها والتعاون فيما بينها. وللتغلب على هذا الضعف ولحمايتها حماية قوية زوّدوها بما تحتاج اليه من مياه عذبة ومن أطعمة ومن جنود لصد غارات المعتدين،وبذلك هيمنوا على البحار: وضبطوا البحر الأحمر بصورة خاصة، ولم يبق للعرب من مجال في التجارة العالمية إلا بسلوك الطرق البرية الموصلة إلى بلاد الشام والعراق.

وقد تكون في إشارة "بليني" "Plinus" إلى وجود جاليات يونانية على سواحل بلاد العرب في مواضع غير بعيدة عن موضع "Attevae" الذي هو "عدن"، ايماءة إلى وجود مستعمرات يونانية على سواحل جزيرة العرب أنشئت قبل أيامه لضبط الأمن في البحار وللاتجار مع العرب وبسط نفوذ الروم عليهم.

وفي جملة تلك الأماكن التي ذكرها: "Arethusa" و "Larisa"و "Chalcis". ذكر انها كلها كانت قد خربت بسبب الحروب، مما يدل على انها كانت قد أقيمت قبل أيامه بزمان.

وقد ضمنت تلك القوة العسكرية الضخمة للرومان السيطرة على البحر الأحمر وعلى البحر العربي، واستطاعت احتلال "عدن". ففي أيام "كلوديوس" "Claudius" "41 - 54م" كان هذا الميناء في قبضة الرومان. وكانت به حامية رومانية.

وتمكن هذا القيصر الذي كانت عدن خاضعة له في أيام مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"،أو أي قيصر أخر، قد يكون، "Coligula" وقد يكون "طبريوس" "Tiberius"، من عقد معاهدة مع الملك "كرب ايل" "Charibael" "ملك سبأ وذو ريدان" في ذلك الوقت. ولم يشر مؤلف الكتاب المذكور الذي لا نعرف اسمه اليوم إلى اسم القيصر، بل اكتفى بذكر، اللقب فقط، وهو "قيصر"، وهو كما نرى لقب عام، يطلق على كل من يحكم انبراطورية الرومان. وقد ذهب بعض الباحثين الى عدم امكان التفكر في القيصر "أغسطس"، والى احتمال كونه قيصراً آخر، وقد يكون بالاضافة الى من ذكرته "نيرو" أو "تراجان"، أو "سبتيموس سويرس" "سبتيميوس سفيروس" "Septimius Severus".

واهتم "تراجان" بأمر التجارة البرية والبحرية، جعل أرض النبط ولاية خاصة دعاها: "الكورة العربية" أو "المقاطعة العربية" "Arabia Provincia" وذلك سنة "106" للميلاد. واهتم بالطرق البرية، فأصلح طريقاً مهمة تمر من دمشق إلى أيلة فبصرى والبتراء، وهي طرق قديمة ومعروفة، بالنسبة للاتجار مع بلاد العرب، وكانت في حاجة إلى عناية واصلاح ووضع معالم. واعتنى بميناء "أيلة" فعمره ووضع ادارة "كمركية" فيه، وجعله من الفرض المهمة في خليج العقبة، بل والبحر الأحمر، وأصلح القناة القديمة بعد أن تراكمت فيها الأتربة حتى سدّت مجراها، وحفر قسماً جديداً من طرفها الغربي، أوصلها بالنيل عند "بابلون" "Babylon"، موضع مصر القديمة. وبذلك سهل الاتصال بالفرع الغربي للنيل المؤدي إلى الاسكندرية، وبرز ميناء "القلزم" "Clysma" حيث التقت قناة تراجان بالبحر الأحمر.

وعثر على كتابة دوّنها قوم من أهل تدمر، اشتغلوا بالملاحة في البحر الأحمر،أشادوا بفضل القيصر "هدريان" "هدريانوس" "117 - 138 م" عليهم. وتدل هذه الكتابة على اشتراك الندمريين. في الملاحة، مع انهم من أهل مدينة صحراوية، عماد حياتها التجارة بالبضائع الواردة إليها بالطرق البرية.

وقد توغل الملاحون في أيام أسرة "انطونينوس" "Antonines" "98-192م" حتى أدركوا موضع "رهابتا" على مقربة من "زنجبار" في السواحل الافريقية، ووصلوا إلى سواحل الصين في آسية. وهذا هو سر وجود أسماء مواضع في جغرافيا "بطلميوس" "في حوالي 155 - 165 للميلاد" لم ترد في كتب المؤلفين السابقين الذين عاشوا قبل هذا الجغرافي اليوناني الشهير. وفي جملة ما نص هذا الجغرافي أسماء مواضع عديدة في جزيرة العرب، لم يشر إليها المؤلفون اليونان والرومان السابقون، وأوصاف أدق وأصدق من الأوصاف التي ذكروها، وفي ذلك دلالة على زيادة علم اليونانيين والرومان في هذه الأيام بأحوال الشرق نتيجة زيادة اختلاطهم واتصالهم بالشرقيين.

ومعارفنا بأخبار الملاحة في البحر الأحمر وفي المحيط الهندي في العهد البيزنطي أي العهد الذي أصبحت فيه القسطنطينية فيه عاصمة بدلاً من روما "330 م"،قليلة ضحلة، لأن أكثر المؤرخين الذين عاشوا في هذه الحقبة ثم ما بعدها إلى ظهور الإسلام إنما اهتموا بالأمور الدينية، وكانوا إذا ما تطرقوا إلى النواحي الجغرافية أو التاريخية المعاصرة للبلاد الخارجة عن نطاق الانبراطوريه البيزنطية أو نفوذها السياسي، أوجزوا القول إِيجازاً لا يعطى القارئ رأياً في الأحوال العامة وفي ضمنها التجارة والملاحة في البحر الأحمر والمحيط الهندي.

لقد أثرت الأوضاع السياسية القلقة التي حدثت في الدولة البيزنطية، والحروب المتوالية بين الساسانيين والبيزنطيين، أثراً خطيراً على البحرية البيزنطية في البحر الأحمر وفي المحيط الهندي، إذ حدّت من توسعها، وقلصت من عدد سفنها، ولم تجد بسبب انشغال الحكومة في تلك الحروب عناية ورعاية، ولهذا اقتصر نشاطها على البحر الأحمر وعلى السواحل الافريقية التي كانت على صلات حسنة بالبيزنطيين. فكانت تصل إلى ميناء "أدولس"،ومنه يصل التجار إلى أسواق الحبشة الداخلية، أو إلى موانئ "سقطرى"،وقد كان بها مستوطنون يونانيون،أقاموا فيها منذ أمد طويل، وبنوا بها كنائس ومستوطنات للاقامة فيها، وظل بعضهم بها إلى أيام الإسلام.

وكانت السفن اليونانية تموّن نفسها بما تجده في "ادولس" وفي "سقطرى" من تجارات، بعضها من نفائس تجارة الهند جاءت بها السفن الساسانية إلى هذه المواضع، يشتريها التجار اليونان ويأخذونها إلى بلادهم.

ويذكر أهل الأخبار إن "سقطرى" كانت مركزاً هاماً من مراكز التجارة في البحر، وكان بها قوم من اليونان يحفظون أنسابهم محافظة شديدة. وقد كانوا بها من أيام ما قبل الميلاد، وربما كانوا بها قبل أيام "الاسكندر". ولما ظهرت النصرانية تنصر من كان بها من اليونانيين. ويذكرون إن قوماً منهم طرحهم "كسرى" في هذه الجزيرة. وكانت بوارج الهند تأوي إليها. وقد اشتهرت بالصبر الجيد الذي لا يوجد مثله في غيرها، وبدم الأخوين، وهو صمغ شجر يسمونه "القاطر"، وهو "الأيدع"، وقد ساكن العربُ اليونانَ. ويذكر أهل الأخبار إن "أرسطو"،هو الذي أشار على "الاسكندر"، بإجلاء أهل "سقطرى"، وإسكان طائفة من اليونان بها، لحفظ "الصبر" لعظيم منفعته. وذكروا إن بينها وبين "المخا" ثلاثة أيام مع لياليها، وان من مدنها: "بروه" و "ملتده"، و "منيسة"،وهي مسكن ملك الزنج.

أما البحرية والتجارة البحرية الساسانية، فإننا لا نعرف عنها في هذا العهد معرفة واسعة، ولا نستطيع أن نتحدث عن وجود قوة بحرية ساسانية، أو نشاط بحري في البحر الأحمر في كل العهود، وإنما كان أقصى ما وصل اليه نفوذ الساسانيين في البحر، هو باب المندب،أي مدخل البحر الأحمر، حيث وقفوا عنده. وقد صار البحر الأحمر، منذ استيلاء اليونان والرومان على مصر، بحراً يونانياً رومانياً بيزنطياً، حرسوه بأساطيل قوية، ضمنت لهم التفوق فيه، فلم يكن في وسع الفرس ولوجه أو التوغل فيه وقد ذكر أن "أردشير" الأول "225 - 241م" بنى جملة موانئ بحرية وأن"نرسي" "292 - 302م" عقد صلات ودّية مع ملك الزنوج في شرق الصومال، وأن "سابور" الثاني حوالي سنة "315 م" هاجم البحرين، وأقام حامية بها، وفتك بقبائل عديدة، وذلك رداً على هجوم تلك القبائل على سواحل فارس.

وصار للفرس نشاط ملحوظ في الخليج وفي المحيط الهندي. وقد أنشأ الفرس جملة كنائس في سواحل الهند وسقطرى،أنشأها الفرس النساطرة،و كانوا تجاراً، نزلوا في هذه المواضع للاتجار، كما كانت هنالك سفن فارسية في "أدولس". وكان الساسانيون يستغلون الظروف الحرجة، والأوضاع القلقة تقع في انبراطورية الروم، فيزيدون من نشاطهم في البحر، ويمعنون في مطاردة التجار البيزنطيين في البحر العربي وفي الخليج وفي الهند، حتى قل عدد سفن الروم، في المحيط، واكتفت بالوصول إلى باب المندب والسواحل الافريقية في بعض، الأحيان، عند اشتداد الأزمات، ووقوع قلاقل داخلية، أو نزول كوارث بالروم في الحروب.

وقد وجد الساسانيون أن من الأصلح لهم نقل التجارة الآتية إلى تجارهم من الصين والهند وسيلان إلى الخليج حيث لا يزاحمهم أحد، ومنه إلى العراق، أومن الهند والصين إلى فارس، ثم العراق ومنه الى "نصيبين"، أو إلى بلاد الشام،لبيعها إلى البيزنطيين. وفي جملة.مواد هذه التجارة "الحرير" الذي كان مطلوباً عند البيزنطيين، لأنه من الألبسة الفاخرة بالنسبة للطبقة الحاكمة ولرجال الكنيسة والطبقة المترفة المرفهة، فكان يباع بأغلى الأثمان.

وقد دخل الأحباش البحر، فكانوا يسيرون سفنهم بين السواحل الافريقية والسواحل العربية الغربية والجنوبية. ولو لم تكن لهم قوة بحرية ما تمكنوا من الاستيلاء على اليمن وعلى مواضع من العربية الجنوبية جملهّ مرات آخرها فتحهم اليمن سنة "525" للميلاد. وقد تولت سفنهم نقل حاصلات الحبشة والسواحل الافريقية إلى بلاد العرب، وكان التجار العرب ينقلون هذه السلع إلى بلاد الشام أو العراق. وقد ذكر أهل الأخبار إن "الجار"، وهي مدينة على ساحل بحر القلزم بينها وبين المدينة يوم وليلة وبينها وبين أبلة نحو من عشر مراحل، والى ساحل الجحفة نحو ثلاث مراحل، كانت فرضة،ترفأ إليها السفن من الحبشة ومصر وعدن والصين وسائر بلاد الهند، وبحذاء الجار جزيرة في البحر تكون ميلاً في ميل لا يعبر إليها إلا بالسفن، وهي مرسى الحبشة خاصة.

ولكن قوة الحبشة البحرية لم تكن قوة قوية ضخمة، ولم تكن مكونة من سفن كبيرة ذات مرونة وقابلية على الحركة، بل كانت سفناً صغيرة لا تضاهي السفن اليونانية في الضخامة وفي الفن، ولم تكن كثيرة العدد، ولا سيما في الجاهلية القريبة من الإسلام، بدليل ما ورد في بعض الروايات من إن السفن التي حملت جيش ملك الحبشة إلى اليمن لاحتلالها سنة "525" للميلاد، وذلك في عهد "ذي نواس" كانت سفناً يونانية أمر القيصر بأرسالها الى الحبشة لحمل الجيش إلى اليمن. وبدليل ما ورد في روايات إخراج الحبش وطردهم من اليمن، من إن السفن التي حملت الفرس إلى اليمن كانت ثماني سفن، غرق منها سفينتان، وبقيت ست سفن فقط، وقد تغلب من كان بها مع ذلك على الحبش.فلو كان للحبش أسطول بحري قوي، ولو كانت لهم هيمنة على البحر،لما كان في إمكان هذه السفن الفارسية الست الوصول إلى مياه اليمن، و أنزال ما فيها من جنود، ومن التغلب على الحبش والقضاء على حكمهم هناك.

وضعف بحرية الحبشة، هو الذي جعلها لا تستطيع الوفاء بوعدها للقيصر "جستنيان" "Justinian"، في شراء الحرير من الهند ومن وراء الهند، وبيعه للروم. فقد كان هذا القيصر قد أرسل في عام "531م" وفداً إلى "أكسوم"،ليفاوض الحبش في هذا الموضوع لحرمان الساسانيين من ربح كبير كانوا يجنونه من الاتجار بالحرير المستورد من الهند ومن وراء الهند، فوافقوا على ذلك،لكنهم لم يتمكنوا في النهاية من الوفاء بالوعد، لعدم تمكن سفنهم البحرية من الوصول إلى الهند ومن منافسة التجار الفرس الذين كانوا قد استقروا في سيلان وفي الهند وفي مواضع أخرى منذ عهد طويل.

ولم يتمكن الأحباش أن يفُيدوا فائدة تجارية كبيرة من فتحهم لليمن. ولم يحصل البيزنطيون على ما كانوا يتوقعون الحصول عليه من الاتصال بالحبش من البر، وذلك عن طريق "المقاطعة العربية" في جنوب بلاد الشام فالحجاز إلى اليمن. فلم يتمكن الحبش من احتلال الحجاز، للاتصال بالروم. واخفق "أبرهه" في الاستيلاء على مكة على نحو ما تحدثت عنه في موضعه. وتمكن الفرس من طردهم من اليمن بكل سهولة، دون أن يقوم الحبش ولا حلفاؤهم البيزنطيون بإرسال قوات بحرية لمقاتلة السفن الساسانية القليلة التي جاءت بمقاتلين من المساجين المجرمين، لا بجيش نظامي مدرب، وقد تمكنوا مع ذلك من التغلب على الحبش، بمساعدة كبيرة بالطبع من اليمانيين أنفسهم الذين كانوا قد أعلنوا ثورة عامة على الحبش. ولو كان للحبش أو لحلفائهم البيزنطيين أساطيل من السفن المحاربة القوية، لما تمكن الفرس من الاستيلاء على اليمن بتلك القوة الضعيفة ! ولم يكن الساسانيون أقوياء في البحر عند ظهور الإسلام،وآية ذلك هو إن   

عاملهم على اليمن، كان يرسل ألطاف اليمن وما يجمعه منها إلى "كسرى" عن طريق البر، وقد تحدثت عن تعرض "بني تميم" بقافلة كسرى التي كانت قادمة من اليمن في طريقها إلى "المدائن". ولو كان للفرس أسطول قوي من سفن ضخمة على نمط سفن البيزنطيين، لاستخدموه واسطة للنقل بين اليمن والعراق،ولسمعنا بوجوده قي البحر. وقد يقال إن الفرس استخدموا البر،لأنه أسهل عليهم من البحر، وأقصر مسافة وأسرع من حيث الوقت، ثم هو يمر بأرضين صديقة للفرس أو موالية لهم، أو تابعة لأمراء موالين لهم، خاضعين لسيادتهم، وليس في ذلك دليل على عدم وجود أسطول قوي لهم في البحر، ولكننا مع موافقتنا على هذا التعليل،فإننا لا نسمع في أخبار أهل الأخبار المنقولة من روايات فارسية أصلية، ما يفيد بوجود فعل وأثر لأسطول ساساني ما وراء عمان إلى اّلسواحل الافريقية، ثم إن الفرس كانوا قد تحكموا في السواحل العربية الجنوبية قبل فتحهم لليمن،ولكننا لا نجد في هذا العهد أثراً لحكم فارسي على السواحل العربية الجنوبية،مما يدل على زوال حكمهم عنها وعدم وجود أسطول ساساني في مياه هذه السواحل، فتخلصت منهم، واستقلت بأمرها وادارتها.

وقد استفاد أهل مكة، من الأحداث التي وقعت في اليمن، ولا سيما بعد موت أبرهة وموت مشروعه في الاستيلاء على مكة قبل وفاته. وإني أرى إن حملة "أبرهة" على مكة، لم تكن حملة غايتها هدم الكعبة. ونقض قواعدها،كما يذكر ذلك أهل الأخبار، وإنما كانت لدوافع اقتصادية وسياسية، فقد كانت مكة قد برزت وظهرت الى الوجود، قبل أبرهة واستغل أهلها مواهبهم وذكاءهم في كيفية جمع المال، حتى صاروا تجاراً ووسطاء في التجارة، يتجرون بين بلاد الشام واليمن، وبين الحبش والعراق، وصاروا أصحاب مال، لهم نقود: دنانير،ودراهم، وذهب، وفضة، وغير ذلك مما يسيل له لعاب التاجر و صاحب المال، أضف إلى ذلك وقوع مكة في موقع مهم، والاستيلاء عليه يمهد للسير نحو بلاد الشام، للاتصال بالروم، أصحاب مشروع الحملة الأصليون،كما تحدثت عن ذلك. فالعوامل إذن اقتصادية سياسية، وليست العوامل التي ذكرها أهل الأخبار.

وقد ساهم أهل الهند في تسخير البحر كذلك، فكانت سفنهم تمخره ما بين الهند وساحل الخليج إلى "الابلة". كما كانت تتجه نحو "سقطرى" وسواحل افريقية الشرقية. فقد ذكر أهل الأخبار أن "بوارج الهند" كانت تتاجر مع هذه الجزيرة. وقد مونت الهند جزيرة العرب بالحديد الجيد، الذي صنعت منه السيوف الهندوانية،نسبة إلى الهند. و "التهنيد"، عمل الهند. كما مونتهم بالعود الطيب، وبالخشب الصلد.

وبظهور الإسلام، وباستيلاء المسلمين على مصر وعلى شمالي افريقية، وبفتح بلاد الشام والعراق وايران وما وراء ايران تغير الحال بالطبع، فماتت الانبراطورية الساسانية، ومات أسطولها معها، وانقطعت صلة البحرية البيزنطية بالبحر الأحمر وبالمحيط الهندي، وأبعد الأوروبيون من البحار الدافئة إلى أن تبدلت الدنيا مرة أخرى، فظهر المكتشفون الأوروبيون وفي مقدمتهم البرتغال، فعاد التفوق البحري للغرب، وانتزع البحر من البحرية الاسلامية، لأنها ظلت جامدة محافظة لم تحدث تغييراً في هندسة السفن، ولا في أسلوب القوى المحركة لها وفي قابليتها على الحركة، فصارت عاجزة عن مقاومة العقل الحديث، وغلبت على أمرها نتيجة جمود العقلية وعدم التطور مع عقلية الزمن.

هذا ولا بد لي هنا من لفت نظر القارئ إلى ورود شيء في كتب أهل الأخبار عن حملات الروم على بلاد العرب وعلى البحر الأحمر، ولو إن هذا المذكور المدون في كتبهم، هو من نوع القصص المعروف المألوف الذي ألفنا قراءته في كتب أهل الأخبار، فيه مبالغة وغرابة وخيال، وفيه سذاجة تنم عن عقلية سطحية تروي كل ما يقال لها من غير نقد ومناقشة. وقد أخذ من أهل الكتاب وفي الإسلام في الغالب. ولكنه قصص يستند - على كل حال - الى أصل وسبب وإن كان بعيداً. ثم انه قصص طريف يريك مبلغ علم القوم بأحوال الماضين،وكيف تروون قصص الحوادث المتقدمة وينقلونه على انه تأريخ للماضين.

ويكاد يكون أكثر تأريخ من تقدم زمن الإسلام من هذا النوع.

الفصل الواحد بعد المئة
تجارة مكة

وكان أهل مكة من أبرع التجار ومن أنشطهم في العربية الغربية عند ظهور الإسلام، وقد أشير إلى تجارتهم في القرآن الكريم. وسبق إن تحدثت عن تجارتهم في أثناء كلامي على مجمل الحالة السياسية لجزيرة العرب عند ظهور الإسلام.

وقد استفاد أهل مكة، ولا شك، من الوضع السيئ الذي طرأ على اليمن بدخول الحبش إليها: ومن تردي الأوضاع السياسية فيها والاضطرابات المستمرة التي وقعت بتصادم الوطنيين والغزاة الأحباش. فانحسر كل نفوذ سياسي أو عسكري كان لحكومات اليمن في الحجاز أو على بعض القبائل، ووجدت قريش نفسها حرّة مستقلة وفي وضع يمكّنها من استغلال مواهبها في التجارة، فقامت بمهمة الوسيط، تنقل تجارة أهل اليمن والعربية الجنوبية إلى أسواق فلسطين، وتنقل تجارة بلاد الشام وحوض البحر المتوسط إلى الحجاز ونجد واليمن، وبذلك حصلت على أرباح طائلة عظيمة، جعلتها من أغنى العرب عند ظهور الإسلام، وصيرّت مكة مركزاً خطيراً من مراكز الثروة والمال في جزيرة العرب في ذلك الحين.

وقد وصف أهل الأخبار أهل مكة بترفعهم عن البخل والشح،فقال "الجاحظ" وهو يصفهم: "ومن العجب إن كسبهم لما قلّ من قبل تركهم الغزو، ومالوا إلى الإيلاف والجهاد، لم يعتريهم من بخل التجار قليل ولا كثير، والبخل خلقة في الطباع، فأعطوا الشعراء كما يعطى الملوك، وقروا الأضياف،ووصلوا الأرحام، وقاموا بنوائب زوار البيت. فكان أحدهم يحيس الحيسة في الأنطاع فيأكل منها القائم والقاعد والداخل والراكب، واطعموا بدل الحيس الفالوذج". فمورد الكسب الأول عند العرب في الجاهلية هو الغزو على رأي أهل الأخبار، وقد ترفعت قريش عنه، وصرفت نفسها إلى التجارة. ومن طبع التجار البخل ومسك اليد، أما قريش، فخالفتهم في البخل، ووصلت الشعراء وقرت الأضياف. ونسب "الجاحظ" سبب تركهم الغزو إلى كونهم أهل حمس ديانين،فقال: "وكانوا ديانين،ولذلك تركوا الغزو، لما فيه من الغصب والغشم واستحلال الأموال والفروج من العرب". ويعتقد "الجاحظ"، بأن للدين أثراً كبيراً على سلوك الإنسان وعلى كره الحرب، إذ تراه يقول: "ثم جاء ما هو أعجب من هذا وأهم، وذلك أنا قد علمنا إن الروم قبل التدين بالنصرانية كانت تنتصف من ملوك فارس، وكانت الحروب بينهم سجالاً فلما صارت لا تدين بالقتل والقتال و القود والقصاص، اعتراهم مثل ما يعتري الجبناء حتى صاروا يتكلفون القتال تكلفاً، ولما خامرت طبائعهم تلك الديانة وسرت في لحومهم ودمائهم، فصارت تلك الديانة تعترض عليهم، خرجوا من حدود الغالبين إلى أن صاروا مغلوبين". فالنصرانية قد أثرت على الروم حتى جعلتهم يكرهون الحروب، وصاروا مغلوبين بعدما كانوا غالبين. ثم جاء بدليل آخر على إثبات رأيه في إن الدين ينقص من شهوة الحرب، هو إن "التغزغز" من الترك، نقصت عندهم الشجاعة وذهبت عنهم الشهامة بعد إن دانوا بالزندقة. فالدين اذن مخفف من شهوة الحرب مرد من التعطش إلى القتال، لكنه على رأيه أيضاً، يحول المتدينين إلى أسود في المعارك، فقريش التي تركت الغزو بتة، كانوا مع طول ترك الغزو، إذا غزوا، غزوا كالأسود مع الرأي الأصيل والبصيرة النافذة، والخوارج على اختلافهم من أحرار وعبيد وموالي يقاتلون قتال الباسل المستميت مع اختلاف أنسابهم وبلداتهم، و" في هذا دليل على إن الذي سوّى بينهم التدين بالقتال"، وان استبسال قريش والخوارج وغيرهم من المتدينين "انما هو بسبب الديانة " ووحدة العقيدة وعامل الدفاع عنها والجهاد في سبيلها.

وقد نسب "الجاحظ" ميل قريش إلى التجارة واشتغالهم بها إلى تحمسهم في دينهم وتشددهم في الدين، فقال: "وقريش من بين جميع العرب دانوا بالتلامس والتشديد في الدين فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال واستحسان الغصوب،فلما تركوا الغزو لم تبق مكسبة سوى التجارة فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم والى النجاشي بالحبشة والى المقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجاراً خلطاء".

فتحمس قريش في دينهم، حملهم على ترك الغزو، وترك الغزو حملهم على التكسب بالتجارة، فاتجار قريش في مكة وضربهم في الآفاق، هو بسبب البحث عن رزق يعوضهم عن رزق الغزو، الذي أبعده الدين عن قلوبهم، فكان ما كان من أمر تجارتهم. هذا هو رأي الجاحظ في السبب الذي حمل قريشاً على الانصراف إلى التجارة.

وفي القران: )ربنا إني أسكنت من قريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون(. فمكة بلد بواد قفر غير ذي زرع ولا ماء، ليس لأهلها ما لسكان الأرياف والقرى التي تملك المياه والأنهار من ثمرات النبات والأشجار، فصارت الطائف مصيفاً لهم، ومورداً يمدهم بثمر النبات والأشجار، واستغل أهلها فقر واديهم،وموقع مدينتهم الذي تمر به القوافل، وشجعوا من كان يسكن حولهم على الحج إلى معبدهم وعلى قصده أيام السنة وموسم الحج،فاستفادوا من الحجاج. وجعلوا الموسم سوقاً يتعاطون فيه البيع والشراء،فربحوا وصار لهم مال استثمروه وشغلوه، في سوق مكة وفي الأسواق الأخرى، وتعاملوا مع الأعراب، وعقدوا الإيلاف مع ساداتهم ومع الفرس والروم والحبش، فصاروا يخرجون إلى خارج مكة بأمان بفضل العقود والعهود التي عقدوها مع سادات الأعراب، وهي أهم في نظري من أي عقد آخر عقدوه مع حكام العراق وبلاد الشام أو اليمن، إذ كان في استطاعة الأعراب نهب قوافل مكة وسلب أموالها، وهي ذاهبة أو آيبة محملة، فلا يستطيع أهل مكة فعل شيء، ولا تبقى أية فائدة عندئذ لعقود الإيلاف المعقودة مع الحكّام المذكورين. وقد علم سادة مكة ذلك، فتعاقدوا مع سادات الأعراب، و أدو لهم نصيباً من الربح، وبذلك أمنوا جانب أعرابهم، فكانوا إذا تحرش بهم متحرش، أدّبه سادة قبيلته،واستعادوا منه ما أخذه من نهب وسلب.

وقوم هم أهل قرار، لهم بيت مقدس، ولهم تجارة، لا يفكرون في غزو، ولا يرتاحون من وجود أهل شغب وفتن بينهم. فالغزو سواء أكان منهم أو كان عليهم مضرّ بهم. ولا يعود عليهم بفائدة، بل هو يبعد القاصدين لهم عنهم، وفي ابتعادهم عنهم خسارة، ثم هو يعرقل تجارتهم ويحول دون اتجارهم، والتجارة مورد رزقهم وعليها معاشهم. وقريش من المستقرين، ومن التجار، ولهم معبد، فكان من صالحهم اشاعة الأمن والابتعاد عن التشاحن. وفض كل خلاف يقع فيما بينهم، أو فيما بينهم وبين غيرهم بالتي هي أحسن، وجرّ الناس اليهم، والعمل على اكتساب صداقة أهل الحضر وأهل الوبر أيضاً، وعلى إنصاف الغريب الذي قد لا يجد له مجيراً من بيت أهل، مكة فيظلم، وعلى تقديم الرفادة للحجاج الضعفاء،وإسقائهم الزبيب المنبوذ بالماء في أيام الحج، وعلى شراء الألسنة، ألسنة الشعراء خاصة، لما كان لها من أثر في النفوس.

وللمنافع المادية التي كانوا يحصلون عليها من تآلفهم مع القبائل، حرصوا على ألا يؤذي أحد منهم أحداً من الغرباء،. فيثير قوم الغريب عليهم، لا سيما إذا كان ذلك الغريب من قبيلة تمر تجارة قريش بها. فلما عذب أهل "مكة" "أبا ذر الغفاري"،أقبل "العباس" عليهم، وقال: "ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأنه من طريق تجارتكم إلى الشام ?. فأنقذه منهم". فزهد قريش وعدم ميلهم إلى الاعتداء على الغرباء، لم يكن كما رأى "الجاحظ عن "تحمس" وعن دين، وإنما كان عن طمع في المال وفي الكسب وفي الحصول على كسب من تجارة تمر بطرق يجب أن تكون آمنة بالنسبة لها أمينة، ولا يكون ذلك الأمان ممكناً،إلا بتأليف قلوب سادات القبائل، والحرص على منع أهل مكة من الاعتداء على الغرباء.

بل نجد أهل مكة يجيرون كل غريب حتى إن كان صعلوكاً أو خليعاً أو مستهتراً بالعرف والأخلاق، أو قاتلاّ غادراً، أملاً في الاستفادة منهم، وفي عدم التحرش برجالهم إن خرجوا متاجرين يحملون أموالهم لبيعها في الأسواق البعيدة، ولاستخدامهم في حمايتهم ممن قد يتحرش بهم من الأعداء والأعراب، ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء عديد من أمثال هؤلاء، كانوا قد لجأوا إلى مكة وأقاموا بها واستقروا وعاشوا بها مجاورين لسادتها، آمنين على حياتهم لأنهم في جوار سيد من قريش.

وفيَ القرآن الكريم آيات تدل على وجود مستوى راق في مكة، وفي أماكن أخرى للتجارة والاقتصاد،وتدل على تنسيق وعمل منظم بين التجار. وقد وردت فيه إشارات إلى "رؤوس الأموال"، وهي الأموال الخالصة التي تشغّل في التجارة والتي تعطي أيضاً المحتاجين إليها لتربو ولتعطي صاحبها الربا، كما وردت فيه إشارات إلى البيع والشراء والقروض والرهون والشركات والتكاتب والتعامل التجاري وأمثال ذلك. وكل ذلك قد نظّم وهذّب وفقاً لقواعد الإسلام وصار أساساً لنظم التجارة والمال في الإسلام. ولهذا تستدعي دراسة النظم الاقتصادية والتجارة في الإسلام الرجوع إلى السناد، وسنادها هو نظمها وقواعدها قبل الإسلام.

ويظهر من كتب التفسير والسير إن أهل مكة كانوا يسهمون في رؤوس أموال قوافلهم التي يبعثون بها إلى بلاد الشام واليمن،وفي الأعمال التجارية الأخرى.

يسهم أفراد أسرة تجارية واحدة او جملة أسر، بل معظم أفراد مكة الأحرار في تلك القوافل، كل بحسب نصيبه لينعموا بالأرياح. وقد ساعدت هذه الشركة على إعانة أصحاب السهام وعلى مساعدة أهل مكة في رفع مستواهم المعاشي. وإذا كنا لا نملك موارد تتحدث عن أنظمة تلك الشركة أو الشركات وقوانينها، وعن كيفية توزيع الأرباح بين المساهمين، وعن أنواع تلك الشركات وأصول حساباتها ووكلائها في الخارج، فمن الميسور إن نظفر بقدر كبير من جذورها وأصولها في فصول الشركات والقضايا المتعلقة بتنظيم التجارة في الإسلام في كتب التفسير والحديث والفقه خاصة، ففي هذه الفصول إشارات كثيرة إلى شؤون التجارة والاقتصاد عند الجاهليين.

ويظهر مما ذكره أهل الأخبار وأوردوه عن قوافل مكة، أن مال القافلة، لم يكن مال رجل واحد ؛ أو أسرة معينة، بل كان يخص تجاراً من أسر مختلفة،وأفراداً وجد عندهم المال، أو اقترضوه من غيرهم فرموه في رأس مال القافلة أملاً في ربح كبير.فقد ذكروا أن قافلة قريش التي كانت في خفارة "أبي سفيان" والتي أثارت معركة "بدر"، كان رأس مالها مختلطاً، ساهم فيه كل متمكن من أهل مكة. حتى "لم يبق بمكة قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعداً إلا بعث به في العير".

ويظهر من سورة "قريش" أن قريشاً كانت ترحل رحلتين في السنة: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى بلاد الشام. وهما رحلتان تجاريتان،تشتري فيها وتبيع، وتربح منها ربحاً صيرها في وضع مالي حسن. وقد صارت مكة لذلك العهد مركزاً مالياً خطيراً في الحجاز، وسوقاً لتبادل السلع. ولم تكن قريش تستورد التجارة لتخزنها في مكة، أو لتصرفها في أسواق مكة وحدها،فمكة وحدها بلدة صغيرة لا تستوعب أسواقها هذه التجارة، بل كانت تستوردها من الشمال والجنوب، لتصرف ما يمكن بيعه في أسواق مكة وهو القليل،ولتصدر وهو الغالب ما استوردته من الجنوب إلى الشمال،أعني بلاد الشام،ولتصدر ما استوردته من بلاد الشام،الى اليمن ومنها إلى بقية العربية الجنوبية والسواحل الافريقية المقابلة، فتربح من هذه الصفقات ربحاً حسناً.

وتروي كتب أهل الأخبار أن قريشاً كانوا لا يخرجون عيراً فيرحلون إلا من "دار الندوة". فكأنها كانت منطلق التجار والتجارة. ولعلهم كانوا يفعلون ذلك لكونها ندوة مكة ودار الرأي والحكم في هذه المدينة ومجلس أهل المال فيها.

وكذلك كان يفعل أهل المدن المتاجرة،تتحرك قوافلهم من ساحة مجالسها ليشاهدوا الناس، وإذا عادت أناخت في هذه الساحات أيضاً، ليراها أهل البلد، فتكون لهم فرحة تشبه أفراح العيد.

والرحلتان المذكورتان، هما من قوافل قريش الكبيرة التي كانت القافلة الواحدة منها تتألف من أكثر من ألف بعير، والتي يساهم فيهما كل من شاء ممن له مال من أهل مكة، ويريد الاتجار به، تشترك فيهما الأسر المعروفة بالغنى والتجارة من قريش ويساهم معها من له مال في ذلك الوقت، رجاء الربح والكسب. وقد كانت قافلة "أبو سفيان" التي أهاجت وقعة بدر من قبائل قريش كلها، وأخصها "بطون كعب بن لؤي". ليس فيها من "بني عامر"، إلا ما كان من "بني مالك بن حِسل"،ولذلك عرفت نفرة قريش إلى "بدر" ب "نفرة بني كعب بن لؤي".

وكانت قافلة "أبو سفيان" المذكورة، قد تاجرت ببلاد الشام وهمّت بالعودة إلى مكة، فلما سمع رسول الله بأبي سفيان مقبلاّ من الشام، بألف بعير، محملة بأموال عظيمة، ندب المسلمين اليه، وقال. هذه عير قريش فيها أموالهم فأخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها،فانتدب الناس، وكان أبو سفيان يتحسس الأخبار، فبلغه خبر استنفار الرسول أصحابه، فأرسل "ضمضم بن عمرو" الغفاري إلى مكة، وأمره إن ياتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم إن محمداً قد عرض لها في أصحابه. فخرج إليها، فلما بلغها، وقف على بعيره ببطن الوادي، وقد جدع بعيره وحول رحله، وشق قميصه، ثم صرخ: يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى إن تدركوها، الغوث، الغوث. فتجهز الناس سراعاً،وساروا حتى بلغوا "بدراً"، وكان "أبو سفيان"، قد غير طريقه حين سمع خبر خروج رسول الله بأصحابه، فساحل بقافلته وترك بدراً يساراً، وانطلق حتى أسرع فبلغ مكة، وكانت قريش قد نزلت "الجحفة"،فكتب إليها: انكم انما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجّاها الله فارجعوا. وأمر بعض رؤساء قريش على ورود "بدر"، وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام. وفيه ماء، وعلى الإقامة ثلاثاً، ينحرون الجزور، ويطعمون الطعام، ويسقون الخمر، وتعزف عليهم القيان حتى تسمع بهم العرب وبمسيرهم وبجمعهم، فلا يزالون يهابونهم أبداً بعدها. ومضوا إلى بدر، فوقعت معركة بدر.

وما كان إصرار رؤساء قريش على المسير الى المسلمين لملاقاتهم في الطريق،اسلوباً من أسلوب التجار في الحفاظ على السمعة وفي الظهور بمظهر القوي المتمكن حتى لا يطمع بهم الطامعون ويتجاسرون عليهم. فكان خروجهم هذا نوعاً من التحدي ومظهراً من مظاهر اظهار القوة، لتخويف الغير، لعلمهم بقوتهم، فكأنهم أرادوا انزال ضربة بمن خرج مع الرسول لملاقاة القافلة، معتمدين على عددهم وقوتهم، حتى يتهيب المسلمون في المستقبل من التحرش بقوافلهم،وليكون ذلك درساً لهم. ولعلهم كانوا لا يريدون في الواقع الاشتباك مع المسلمين في قتال،وانما كانوا أرادوا مجرد تخويفهم واظهار أنفسهم مظهر القوي العزيز المهاب،كما يظهر ذلك من قول أهل الأخبار من أنهم كانوا أرادوا الاقامة ببدر ثلاثة ايام، ينحرون الجزور، ويطعمون الطعام، ويسقون الخمر، وتعزف عليهم القيان حتى تسمع بهم العرب وبمسيرهم وبجمعهم، فلا يزالون يهابونهم أبداً بعدها.

ولكن أبت الأقدار إلا إن يقع الاصطدام فوقع على نحو ما هو مذكور. وكانت "بصرى" سوق قريش في رحلتهم إلى بلاد الشام،عندما تقف قوافلهم وتحط رواحلهم، فيشترون ويبيعون ويمكثون حتى ينتهوا من تجارتهم ثم يعودون الى مكة. وكان منهم من يصل الى "غزة" ويتاجر في أسواقها، حيث تبيع أسواقها منتوجات حوض البحر المتوسط وما يرد إليها من "أوروبة" من تجارة. ويبيع التجار العرب فيها ما يحملونه من بلاد العرب من سلع مستطرفة مطلوبة في أسواق البحر المتوسط. وبها مات "هاشم بن عبد مناف" جد النبيّ، حين كان توجه للشأم بالتجارة، فأدركته منيته فمات بغزة وبها قبره، فقيل غزة هاشم.

والأدم، هي في رأس قائمة السلع التي كان يحملها أهل مكة إلى بلاد الشام، وكانوا يجمعونه من اليمن ومن الطائف ويحملونه إلى بلاد الشام والعراق. ومنه ما كان معمولاً مصقولاً معتنى به، زخرف بالذهب، لذلك عرف ب "المذاهب".

و "المذاهب" الجلود المذهبة. وهي من أرقى الجلود وأغلاها،يشتريها الأغنياء لاستعمالها في الأشياء الغالية الثمينة.

وتعّد اليمن من أهم الأماكن المصدرة لجلود البقر في جزيرة العرب، وقد كانت تحمل إلى مكة وإلى مواضع أخرى لبيعها في أسواقها منها البصرة في الإسلام،حيث كان التجار يحملون جلود البقر من اليمن إليها. واشتهرت أيضاً بعطورها لجودتها. روي أن "عبد الله بن أبي ربيعة" كان يبعث بعطر اليمن من اليمن إلى أمه "أسماء بنت مخربة"، أم "أبي جهل"، فكانت تبيعه إلى الأعطية،وكانت تضع العطور في قوارير، وتزنها، فتبيع نقداً أو ديناً. فإذا باعت ديناً كتبت مقدار الدين في كتاب. ولعل شهرة مكة بعطورها، إنما جاءتها من العطور المستوردة التي تأتي إليها من اليمن ومن أماكن أخرى.

وكان الزيت على رأس السلع التي كان يشتريها أهل مكة وتجار يثرب من بلاد الشام لصفائه ولنقاوته وجودته، وكان "دحية بن خليفة الكلبي" يتجر مع بلاد الشام بالزيت والطعام، وصادف رجوعه من الشام وقت صلاة الجمعة،والرسول يخطب، فلما سمع المصلون خلف الرسول صوت أجراس القافلة جعلوا يتسللون إليها، خشية إن يسبقوا إليها، فتباع، حتى بقيت منهم عصابة اثني عشر رجلاٌ وامرأة. فوبخهم الله بالآية )وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً، قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة،والله خير الرازقين(.

وقد عرف الزيت المستورد من الشام بالزيت الركابي،لأنه كان يحمل على الإبل من الشام.

ولم يشر أهل الأخبار إلى رحلة على شاكلة رحلتي الشتاء والصيف إلى العراق.وإنما أشاروا الى تجار منهم كانوا يتاجرون مع الحيرة. ومعنى هذا ذهاب قوافل صغيرة إلى العراق، لم تكن بحجم قوافل قريش إلى بلاد الشام أو اليمن. ولم يشر القرآن الكريم أيضاً إلى رحلة جماعية الى العراق او الى موضع آخر. مما يدل على أن قريشاً كانت ترحل رحلتين جماعيتين كبيرتين في السنة إلى بلاد الشام في الصيف، والى اليمن في الشتاء فقط. أما رحلاتهم الأخرى، فلم تكن كبيرة ضخمة وجماعية، بل كانت قوافل دون القافلتين في الحجم، وكانت خاصة أصحابها أغنياء، لهم رؤوس أموالهم، يبعثون بقوافلهم على حسابهم، في كل وقت شاؤوا، وتكون أرباحها لهم: لا يشاركهم فيها مشارك، وقد يرأسون بأنفسهم قوافلهم، فيذهبون بها إلى العراق، ولهم فيه تجار وأصحاب، فإذا باعوا عادوا ببضاعة جديدة وبما كسبوه إلى مكة.

فقد رووا إن "أبا سفيان" كان يذهب بنفسه إلى العراق للاتجار، يحمل معه حاصلات اليمن والحجاز، ويعود بحاصلات العراق وبما يحتاج اليه أهل الحجاز واليمن من بضاعة. بل ذكروا انه كان يفد على "كسرى"،يحمل اليه الهدايا تقرباً اليه. ذهب اليه مرة، ومعه خيل وأدم، فقبل "كسرى بن هرمز" الخيل وردّ الأدم وأعطاه هدايا وألطافاً. وكان من مصلحة كسرى التقرب إلى أهل مكة، فقد كانوا تجاراً، وكانوا على طريق مهم وفي مركز خطير من الناحية السياسية والتجارية، كما كان نفسه يتاجر مع العرب ويتبايع معهم، لذلك كان من مصلحته مجاملة أهل مكة والاتصال بهم.. وذكر انه قد كانت له صلات برؤساء وتجار الحيرة، وبملوكها أيضاً، يحمل اليهم الهدايا، ويأخذ منهم ألطافهم، ثم يعود بما يجده في أسواق الحيرة من تجارات. قدم مرة على عمرو بن هند، أو النعمان بن المنذر، فوجد عنده "مسافر بن عمرو بن أمية القرشي"، وكان قد ترك مكة ونزل الحيرة، وهو في قبة من أدم حمراء، أمر الملك بضربها له، إكراماً له، وكان الملك إذا فعل ذلك برجل، عرف قدره ومكانته، فالتقى ب "مسافر".

وكان أبو سفيان - كما يقول أهل الأخبار - تاجراً يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحياناً بنفسه، وكانت اليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، وكان لا يحبسها إلا رئيس، فإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فوضعت تلك الراية بيد الرئيس. وكان صديقاً للعباس،ونديمه في الجاهلية.

وكان "مسافر بن أبي عمرو بن أمية"، وهو من رجال قريش جمالاً وجوداً وشعراً، ومن فتيانها، ممن يتاجرون مع العراق، ويربح من تجارته هذه ربحاً طيباً، وكان هلاكه بالعراق. فقد كان قد خرج في تجارة إلى الحيرة، فهاك بها عند "النعمان بن المنذر"، ورثاه "أبو طالب".

وكان "عبد الله بن جدعان" من أثرياء مكة ومن تجارها. ذكر أنه تاجر مع الحيرة. ويظهر مما ذكره أهل الأخبار عنه، أنه كان ثرياً جداً، وربما عدّ أثرى قريش في أيامه، واليه تنسب قصة ادخال "الفالوذج" الى أهل مكة، حيث يذكرون أنه تعلمها من أهل العراق، وجاء ومعه طبّاخ خاص ليطبخ له طبيخ الحيرة وأهل فارس.

وكان "العاص بن واثل هاشم" السهمي من تجار مكة، الذين رحلوا بتجارتهم إلى خارج مكة. وكان من أشراف قريش. وقد مات بالأبواء.

ولعله كان خارجاً في تجارة له فمات هناك. ومن ولده "عمرو بن العاص". وقد أسلم هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة معاً. وكان تاجراً كذلك. ويذكر "ابن كثير" أن "عمرو بن العاص" وفد على "مسيلمة"، و ذلك بعد ما بعث رسول الله وقبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة ? فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي ? فقال: )والعصر إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر(. ففكر مسيلمة هنيهة ثم قال: وقد أنزل علي مثلها، فقال له عمرو: وما هو ? فقال: يا وبر يا وبر، وانما أنت أذنان وصدر وسائرك حفر نقر، ثم قال: كيف ترى يا عمرو ? فقال له عمرو، والله انك لتعلم أني أعلم انك تكذب. والرواية موضوعة، فسورة "العصر" من السور المكية ورقمها "27" حسب ترتيب نزول السور بمكة على رأي العلماء، أي قبل الهجرة، وقبل إسلام "عمرو" بزمن، وقبل مجيء "مسيلمة" إلى المدينة مع وفد حنيفة، وبعد مجيئه إليها بدأت دعوته بمعارضة الرسول. ثم إن جملة: "ماذا أنزل صاحبكم في هذه المدة ?"، جملة تشعر إن "عمرو بن العاص " كان مسلماً إذ ذاك، بينما كان هو من المشركين في ذلك العهد. ثم إن ما نسب إلى "مسيلمة" من آيات، وضع على وزن آيات القرآن ومحاكاة لها، وليس في: "يا وبر يا وبر الخ" أي شيء يضاهي: "والعصر" في النسق أو في المعنى، وعندي أن الخبر من الأخبار الموضوعة. وقد يكون "عمرو بن العاص" قد زار اليمامة، فهذا شيء غير مستبعد. فقد كان تاجراً وكان تجار مكة يسافرون إلى اليمامة والى غيرها للاتجار، أما أنه ذهب خاصة لزيارة "مسيلمة" ومكالمته على نحو ما يرد في الخبر، فأسلوب يدل على وجود الصنعة فيه أكثر مما يدل على الصحة وصدق الرواية.

وقد عرف أهل الحيرة بنشاطهم في الأسواق وباتجارهم مع أسواق جزيرة العرب وغيرها، حتى قيل: "إنك لا ترى بلداً في الأرض ليس فيه حيري".وقد كانت الحيرة نفسها سوقاً مقصودة، تشتري وتبيع، يأتيها التجار من مختلف الأمكنة، وموضع تجاري على هذه الشاكلة لا بد أن يذهب أهله إلى الأسواق الأخرى للبيع والشراء.وقد عرف أهل الحيرة بحذقهم في الصيرفة وفي بيع الفلوس. قيل لأحد اهل الحيرة ممن يتعاطى الطب: "ما لأهل الحيرة وللطب. عليك ببيع الفلوس في الطريق".

وكان تجار الحيرة يزورون مكة للاتجار بها، ولهم مع تجارها عقود وجوار وتجارة، فإذا ذهب أحدهم إلى مكة نزل على حليفه وجاره، ثم باع ما عنده من تجارة، واشترى ما يجده بمكة من سلع مطلوبة مرغوبة ثم يعود الى الحيرة. وكان منهم من كوّن مع حلفائه من أهل مكة تجارة مشتركة تتعامل بالحيرة وبمكة وبمواضع أخرى، وتسوي أشغالها بالمراسلة، يدير الحيريون منهم أعمال الشركة بالحيرة، ويدير المكيون منهم أعمالها بمكة، ثم يتراجعون في الحساب، ويقتسمون الأرباح والخسائر على وفق ما اتفقوا عليه.

وقد كانت تجارة قريش تجارة واسعة، وقد أقام تجارهم وكالات ومتاجر في مواضع متعددة، لتتولى أمر البيع والشراء. ولعلهم كانوا يمثلون مصالح مكة السياسية في الحبشة كذلك، كأن يتولى هؤلاء التفاوض مع الحكومة هناك في عقد عهود سياسية واقتصادية وما شابه ذلك. وقد كان اتصال أهل مكة بالحبشة وثيقاً ودائماً، ويظهر انهم كسبوا منافع مهمة من أعمالهم واشتغالهم في تلك البلاد.

وقد عهدت قريش إلى أناس آخرين من رجالها بقيادة قوافلها، إلى بلاد الشام أو إلى اليمن. كما قام رجال منها بتجهيز قوافل لهم لتتاجر بأموالهم. ولما هاجر الرسول إلى "يثرب" استاؤوا من خبر هجرته استياءً كبيراً،.لعلمهم بأهمية موقع "يثرب"، وبما سيقوم به المسلمون من التعرض بقوافلهم ومن تحرشهم بتجارهم وفي هذا العمل نكبة عظيمة تصيب تجارتهم وأرباحهم ومنافعهم المادية. فتشاوروا في أمرهم وتناقشوا، وقالوا: "قد عوّر علينا محمد متجرنا وهو طريقنا " وقال "أبو سفيان" و " صفوان بن أمية": "إن أقمنا بمكة أكلنا رؤوس أموالنا"، وقال أيضاً: "كناّ قوماً تجاراً، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا"، وقال غيره مثل ذلك من كلام، يشعر بمقدار الأضرار والخسائر التي منيت بها تجارة قريش بسبب هجرة الرسول إلى يثرب واعتراضه طرق القوافل. لا سيما بعد أن تبين لها إن جميع السبل التي فكرت في سلوكها لتسيير قوافلها عليها، هي غير أمينة ولا سالمة، وأن المسلمين قد أخذوا يباغتون قوافلهم حتى في الطرق الجنوبية المؤدية إلى اليمن والطرق البعيدة الى تؤدي إلى العراق.

وقد وقف المسلمون لقريش بالمرصاد، وأخذوا باعتراض قوافلهم، فما كادت تمضي سبعة أشهر من مقدم الرسول المدينة، حتى أمر "حمزة" بالتوجه إلى ساحل البحر من ناحية العيص، للتحرش بعير لقريش كانت قد جاءت من الشام تريد مكة، فيها أبو جهل في ثلاثمائة راكب، فكان خبر هذه السرية أول خبر سيء يبلغ مسامع قريش. وقد نجت القافلة، إلا أن الخبر جعل قريشاً تشعر أنه سيكون مقدمة لأخبار سيئة ستصيب مصالحها التجارية وحياتها الاقتصادية، ولن يكون لها من نجاة، إلا بالتهيؤ للقضاء على الرسول والإسلام، كما فكرت في وضع خطط لتغيير طرقها التي تسلكها في ذهابها إلى الشام باتباع طرق بعيدة سالمة، تكون بعيدة عن المسلمين، وقد سلكتها فيما بعد، حين ضيق المسلمون على قوافلها التي كانت تسير على الطرق المألوفة، فتبين أنها لم تكن سالمة أيضاٌ وأن المسلمين أخذوا يهاجمونها على كل طريق، مهما كان.

وكان من غيظهم على الرسول، ومن تأثرهم بما أصاب تجارتهم من خسارة وضرر، إن لقبوا الرسول ب "القاطع". ولما ذهب "الحجاج بن علاط"، إلى مكة، وكان تاجراً له مال بمكة أودعه زوجته، ومالاً متفرقاً في تجار أهل مكة، وكان مسلماً يكتم إسلامه، قالوا له: أخبرنا بأمر محمد، فإنه قد بلغنا إن القاطع قد سار إلى خيبر، وهي بلدة يهود وريف الحجاز. فنعتوا الرسول ب "القاطع" لأنه قطع عليهم تجارتهم وهدد طرقهم التي يسلكونها للوصول إلى أسواق الشام وبلاد العراق.

ولما كان الشهر الثامن من مقدم الرسول المدينة، أرسل سرية إلى بطن "رابغ" بلغت "ثنية المرة"، وهي بناحية الجحفة، لتقابل عيراً لقريش، اختلف في أمرها، فقيل: كان "أبو سفيان"، وقيل بل "مكرز بن حفص"، وقيل "-عكرمة بن أبي جهل". فكان بين المسلمين والمشركين رمى، و نجت القافلة.

وكانت كبيرة على ما يظهر، إذ كان عدد رجالها، أي حراسها مائتين. ورجع المسلمون دون ان يغنموا شيئاً، وقد كانت السرية انذاراً آخر لقريش بالخطر الذي سيلحق بتجارتها وبمصالحها المادية وبأن ما كانت تربحه من أرباح لن يدوم لها فيما بعد.

وقد تمكن "أبو بصير" من إنزال ضربات موجعة بتجارة قريش، اختار "العيص"، وهو ناحية على ساحل البحر على طريق عير قريش إلى الشام موضعاً ينقض منه على قوافل قريش، فيسلب ما فيها من مال ويقتل من يقتل من المارة، حتى ضيق عليها، وهرب اليه من كان بمكة محبوساً من المسلمين، حتى تجمع عنده قريب من سبعين مسلماً، أغار بهم مرة على ركب كان يريد الشام، معهم ثمانون بعيراً، فأخذوا ذلك وأصاب كل رجل منهم قيمة ثلاثين ديناراً. فغاظ قريش تضييق "أبو بصير" عليهم، حتى كتبوا إلى رسول الله يسأله بأرحامهم إلا أدخل أبا بصير اليه ومن معه. فكتب اليه إن يعود ومن معه.

ولما عقد صلح "الحديبية" و كانت الهدنة بين قريش والرسول، استراحت   

"قريش"، وإن بقيت خائفة من أن لا تجد أمناً لها، فأرسلت قافلة في نفر من قريش فيها "أبو سفيان"، إلى "غزة" متجرها فيَ بلاد الشام، فوصلت سالمة الى هناك، وتاجرت ثم عادت وذكرت كتب التأريخ والأخبار أسماء عدد من رجال مكة كانوا يخرجون إلى التجارة بأموالهم وأموال غيرهم من أمثال أبي العاص زوج زينب بنت رسول الله، وكان يخرج تاجراً إلى الشام. وكان رجلاّ مأموناً، يخرج بماله وأموال رجال من قريش أبضعوها معه. وقد عرف "بالأمين"، وكان من رجال مكة المعدودين مالاً وأمانة وتجارة، يخرج بماله وبمال غيره تاجراً، يأتمنون به، ثم يعود فيؤدي الى كل ذي مال من قريش ماله الذيَ كان أبضع معه. وكان آخر خروجه تاجراً بأمواله وبأموال قريش قبل الفتح، خرج الى الشام فلما انصرف قافلا" لقيته سرية لرسول الله، أميرهم "زيد بن حارثة"، وكان أبو العاص في جماعة عير، وكان زيد في نحو سبعين ومائة راكب، فأخذوا ما في تلك العيرّ من الأثقال وأسروا منهم ناساً، فاستجار "أبو العاص" بزينب، فأجارته، ورد الرسول الأموال والأسرى إليه، وعاد مع القافلة إلى مكة، فأدى الى كل ذي مال من قريش ماله الذي كان أبضع معه، ثم أعلن أمام قريش شهادة الإسلام، وتركهم فقدم يثرب مسلماً، ورد رسول الله ابنته عليه.

ومن تجار قريش "صفوان بن أمية بن خلف"، ذكر انه كان أحد العشرة الذين اليهم شرف الجاهلية ووصله لهم الإسلام من عشرة بطون. وكان أحد المطعمبن في الجاهلية والفصحاء، وأحد أشراف قريش، واليه كانت الأيسار، وهي الأزلام، فكان لا يسبق بأمر حتى يكون هو الذي يجري يسره على يديه.وكان يقال له: "سداد البطحاء". وهو أحد المؤلفة قلوبهم. وكان غنياً، وكذلك كان أولاده. ورد في الحديث: إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية، وقنطر أبوه، أي صار لهما مال كبير، كأنه يوزن بالقنطار، فهما من أسرة ثرية ثقيلة الثراء.

وتعدّ أيام مغادرة القوافل وأيام عودتها سالمة، من الأيام المشهودة في مكة، يخرج فيها أهل البلدة لتوديع القافلة متمنين لها النجاح والفلاح والعودة سالمة بربح وافر كثير، داعين آلهتهم ان تبارك في رجالها وتمنحهم العون والفلاح في البيع وفي وقايتها من شر السفر ومن أذى الأشرار قطّاع الطريق. ويخرج فيها أهل مكة فرحين مستبشرين، لاستقبال القافلة قادمةً من سفرتها البعيدة وهي محملة بسلع جديدة وبثمن ما باعته من سلع وما ربحته من فروق الأسعار: سعر الشراء وسعر البيع، حتى إذا ما بلغت القافلة مكة، كان أول واجبها زيارة رئيسها وأصحابها "البيت الحرام" لرفع الحمد والشكر إلى رب البيت على ما أنعمه عليها من الأمن والسلامة وما رزقها من ربح. ثم يعود مع أصحابه إلى بيوتهم ليستريحوا وليقوموا بتصفية حسابهم، واعطاء كل واحد من المساهمين في رأس مال القافلة نصيبه من الربح.

وقد ذكر أن قريشاً كانوا يربحون في تجارتهم للدينار ديناراً، وأن قافلة "ابي سفيان" التي كانت سبب وقعة بدر،كانت ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار،فسلّم أبو سفيان إلى أهل العير رؤوس أموالهم، وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون في تجارتهم للدينار ديناراً.

وقد اشتهرت بعض الأسر من قريش بالتجارة مع الأقطار البعيده عن مكة. وقد ذكر أهل الأخبار أن بني "عبد مناف" المعروفين ب "أصحاب الإيلاف" كانوا أسرة ثرية غنيّة اختصت بالاتجار مع الخارج. وكانوا أربعة أخوة، هم: هاشم، وكان يؤالف الروم، فأمن في تجارته الى الشام. أما الأخ الثاني، فعبد شمس، وكانت تجارته مع الحبشة. وأما الثالث فكان المطلب، وكان يرحل إلى اليمن. وأما الرابع، فهو نوفل، وكان يرحل إلى فارس. وقد عرف هؤلاء ب "المتجرين " وب "المجبرين" وب "المجيرين".

ولم يكن الإيلاف إيلافاً مع الروم أو الفرس أو الحبشة، وإنما كان إيلافاً مع سادات القبائل. فبفضل العقود والعهود التي عقدها "هاشم" واخوته مع سادات العرب أمكن مرور قوافل مكة بأمن وسلام نحو العراق وبلاد الشام واليمن والحبشة. ولولا هذه العقود التي جبرت قلوب سادات القبائل بتقديم حقوق مرورٍ لهم، أو بإشراكهم في مال القافلة، بحمل تجار مكة ما عندهم من سلع لبيعها على حسابهم، وتقديم ثمنها مع الربح الذي جاؤوا به على سعر البيع المقدر، لما كان في إمعَان قريش ضبط أولئك الأعراب ومنعهم من التحرش بقوافلهم ومرورها إلى الأسواق بأمن وسلام.

ويرجع أهل الأخبار مبدأ "الإيلاف" وخروج قريش من مكة بالقوافل إلى بلاد الله الأخرى إلى "هاشم بن عبد مناف"، فهم يذكرون إن قريشاً كانوا تجاراً " وكانت تجارتهم لا تعدو مكة، انما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب، فكانوا كذلك حتى ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشام فنزل بقيصر، فكان يذبح كل يوم شاة ويصنع جفنة ثريد ويجمع من حوله فيأكلون،وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر فقيل له: ها هنا رجل من قريش يهشم الخبز ثم يصب عليه المرق ويفرغ عليه اللحم، وانما كانت العجم تصب المرق في الصحاف ثم تأتدم بالخبز، فدعا به قيصر، فلما رآه وكلمه أعجب به، فكان يبعث اليه في كل يوم فيدخل عليه ويحادثه، فلما رأى نفسه تمكن عنده قال له: أيها الملك، إن قومي تجار العرب، فإن رأيت إن تكتب لي كتاباً تؤمن تجارتهم فيقدموا عليك مما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه فتباع عندكم فهو أرخص عليكم ! فكتب له كتابَ أمان لمن يقدم منهم، فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مرّ بحيّ من العرب بطريق الشام أخذ من أشرافهم إيلافاً - والإيلاف: أن يأمنوا عندهم في أرضهم بغير حلف انما هو أمان الطريق - وعلى ان قريشاً تحمل اليهم بضائع فيكفونهم حملاتها ويؤدون اليهم رؤوس أموالهم وربحهم، فأصلح هاشم ذلك الإيلاف بينهم وبين أهل الشام حتى قدم مكة فأتاهم بأعظم شيء أتوا به بركة، فخرجوا بتجارة عظيمة وخرج هاشم معهمُ يجوّزهم يوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب حتى أوردهم الشام وأحلهم قراها، ومات في ذلك السفر بغزة. وخرج المطلب ابن عبد مناف إلى اليمن فأخذ من ملوكهم عهداً لمن تجر اليهم من قريش، وأخذ الإيلاف كفعل هاضم، وكان المطلب أكبر ولد عبد مناف،وكان يسمى "الفيض" وهلك بردمان من اليمن. وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى الحبشة، فأخذ إيلافاً كفعل هاشم والمطلب، وهلك عبد شمس بمكة فقبره بالحجون. وخرج نوفل ابن عبد مناف وكان أصغر ولد أبيه فأخذ عهداً من كسرى لتجار قريش وإيلافاً ممن مر به من العرب، ثم قدم مكة ورجع إلى العراق فمات بسلمان. واتسعت قريش في التجارة في الجاهلية وكثرت أموالها، فبنو عبد مناف أعظم قريش على قريش منة في الجاهلية والاسلام". وبهذا القصص، أوجد أهل الأخبار مبدأ الإيلاف، و مبدأ خروج قريش بالتجارة إلى الأقطار المذكورة. ويكون عمل "آل عبد مناف" وفق هذه القصة، عملين: أخذهم أماناً من الملوك المذكورين بمعاملة قريش معاملة حسنة وحمايتهم لهم في أرضهم من كل تعدّ قد يقع عليهم، ومراعاتهم مراعاة خاصة حين مجيئهم اليهم للاتجار، معاملة الأحسن حظوة بين التجار الذين يتاجرون في أسواقهم، والعمل الثاني، هو عقدهم الإيلاف مع سادات القبائل الذين يمرون بهم في ذهابهم وإيابهم إلى الشام والعراق واليمن والحبشة، بأن يأمنوا عندهم في أرضهم، ولا يعتدى على أحد منهم.

وموضوع ذهاب هاشم واخوته إلى الشام أو العراق أو اليمن أو الحبشة،موضوع طبيعي لا داعي إلى اثارة الشك حوله، فقد وجدنا أن غيرهم من تجار مكة كانوا يتاجرون مع الأماكن المذكورة، تاجروا معها قبلهم وتاجروا معها بعدهم، أما أنهم التقوا بقيصر وبكسرى وبالنجاشي وبتبابعة اليمن، وتعاقدوا وتعاهدوا معهم، فقضية أخرى فيها نظر، وقد عوّدنا أهل الأخبار على سماع مثل هذا القصص. وكل ما نستطيع أن نصوره فيما لو صدقنا بالخبر، هو أن أولئك الأخوة قد قابلوا بعض موظفي الحدود وتصادقوا معهم وقدّموا لهم بعض الهدايا، فصاروا يتساهلون معهم في جباية الأعشار وفي أخذ حقوق المرور، فشاع بين قومهم أنهم تعاقدوا مع أولئك الملوك.

والإيلاف، العهد والذمام وشبه الإجازة بالخفارة، من ألف بينهما تأليفاً، أوقع الألفة وجمع بينهما بعد تفرق ووصلهما، ومن ذلك المؤلفة قلوبهم، أمر النبي بتألفهم، أي بمقاربتهم وإعطائهم من الصدقات ليرغبوا من وراءهم في الإسلام، ولئلا تحملهم الحميةّ مع ضعف نياتهم على أن يكونوا مع الكفار على المسلمين. وصار أهل مكة، بفضل الإيلاف، آمنين امتيارهم وتنقلاتهم شتاءً وصيفاً والناس يتخطفون من حولهم، فإذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله فلا يتعرض لهم أحد. فالإيلاف العهود التي أخذتها قريش من سادات القبائل إذا خرجت في التجارات فتأمن بها.

وقد عرف أصحاب الايلاف،وهم الاخوة الأربعة أبناء عبد مناف ب "المجيرين"إذ كانوا يؤلفون الجوار يتبعون بعضه بعضاً، يجيرون قريشاً بميرهم ويجبرون فقيرهم، ولذلك قيل لهم "المجبرين".

وذكر أن كل واحد من الأخوة المذكورين أخذ حبلاّ من ملك. فأما هاشم فإته أخذ حبلاً من ملك الروم، وأما عبد شمس، فإنه أخذ حبلا" من النجاشي. وأما المطلب، فإنه أخذ حبلاّ من أقيال حمير. وأما نوفل، فإنه أخذ حبلاً من كسرى، فكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال هؤلاء.

و "الحبل" العهد والذمة والايمان، يقال كانت بينهم حبال فقطعوها، أي عهود وذمم. وذلك أن العرب كانت تخيف بعضها بعضاً فكان الرجل إذا أراد سفراً أخذ عهداً من سيد قبيلة فيأمن بذلك ما دام في حدودها حتى ينتهي إلى أخرى فيأمن بذلك. والحبل الحلف أيضاً والعصم. فالحلف بمعنى العهد بين القوم والمعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق. وقد كانت الأحلاف كما سبق أن تحدثت عنها من أهم سمات الجاهلية، وقد نهي عنها في الإسلام، لما كانت توقعه من أضرار في المجتمع بسبب التكتلات والتحزبات والعصبية التي تؤدي إلى القتال. فورد: لا حلف في الإسلام وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كَحلف المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه الرسول: وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة. يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق. وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام.

وكانت للعرب تعابير ومصطلحات في اعطاء العهد والأمان، ومنها مصطلح: "لا بأس". والبأس العذاب والشدة والخوف، وإن قال الرجل لعدوه لا بأس عليك، فقد أمنه، لأنه نفى البأس عنه. وهو في لغة "حمير" "لبات".

وبفضل اتباع سياسة تأليف قلوب القبائل، باشراك ساداتها في تجارة قريش، أو اعطاء سادتها جعالة مرور، أو هدايا، أو بالتصاهر معها، أو باكراء إبلها لنقل تجارة قريش، تمكنت قريش من تأليف قلوب سادات القبائل، فأمنت على نفسها، وصارت قوافلها تخرج في أي وقت شاءت من أوقات السنة في الشهور الحل أو في الشهور الحرم. لا تخشى بأساً، حتى انها صارت تعطي أمانها لغيرها، وبذلك ألفت القبائل الأخرى التي لم تكن لها عقود وإيلاف وحبال مع القبائل المحالفة لقريش، فصارت تحمل كتاب أمان قريش وشعارها، وهو ما عضد من شجر الحرم، يوضع حول العنق، على ما يزعمه أهل الأخبار، فيكون جواز سفر وكتاب مرور.

والإيلاف، أي عقد "الحبال" مع سادات القبائل، عمل مهم جداً بالنسبة لكل صاحب عمل وتاجر. إذ يتمكن التاجر به من حماية نفسه وماله ومن المرور بأمن وسلام، دون أن يتعرض لخطر النهب والسلب، وهو حتى إذا تعرض للخطر، فإن سيد القبيلة بنفوذه وبسيادته على قبيلته كفيل بأن يعيد اليه ما انتهب منه. ولهذه الأهمية، عقدت قريش الحبال مع سادات القبائل الذين تمر تجارة تجارها بأرضهم. عقدتها قريش، أو أمضاها تجار من تجارها،بما لهم من صداقة وصلات زواج وروابط بسادات القبائل، ولا سيما بسادات قبائل المناطق التي تمر الطرق التجارية بأرضها، فلهذه القبائل بالذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى كل تاجر، وللحكومات بصورة خاصة بالطبع، ولهذا تنافست على الاستحواذ عليها حكومات اليمن وحكومة الحيرة، والساسانيون. وقد رأينا "امرأ القيس" المتوفى سنة "328" للميلاد يصل بجيشه إلى "نجران" مدينة "شمر"، ورأينا في خبر سجل بالمسند وصول جيوش اليمن إلى أرض الخليج. فلهذه الأرضين، كاليمامة ونجد والبحرين أهمية كبيرة بالنسبة للتجارة في جزيرة العرب لمرور الطرق البرية التي تربط العربية الجنوبية بالعربية الشمالية وبالعراق وسواحل الخليج بها، ولمرور الطرق التي تربط العربية الغربية بالعربية الشرقية وبالعراق بأرضها. وقد رأينا كيف تعرضت قافلة "كسرى" التي قدمت من اليمن، قاصدة المدائن إلى السلب والنهب، وكيف تعرضت "لطيمة" النعمان إلى النهب في هذه الطرق.

ويذكر أهل الأخبار، إن تجار اليمن والحجاز، كانوا يتحفزون بقريش، إذا كانوا بأرض مضر. وان قريشاً استفادوا من عقدهم الإيلاف مع تميم وأسد، و "بني عمرو بن مرثد" من "بني قيس بن ثعلبة"، ومع قبائل "ربيعة" عامة. و "مضر" و "ربيعة"، هي من قبائل نزار، و "قريش" نفسها من ولد "مضر بن نزار" في عرف النسابين، فإذا أخذنا بذلك علماً، استطعنا القول إن هذا النسب، انما هو مصالح تجارية وروابط سياسية مصلحية، جمعت هذه القبائل في "بوتقة" مصالح مشتركة، فأوجدت منها هذا النسب الذي أفاد أهل مكة كما أفاد القبائل الأخرى المشتركة فيه، والتي كانت تتاجر في أسواق مشتركة فتبيع وتشتري وتنتفع بفضل هذا النسب السياسي.

وللنسب أهمية كبيرة في تأليف القبائل وفي المحافظة على الأمن في البوادي. واتصاهر هو من أهم الروابط التي كانت تربط بين القبائل وبين الأفراد، ومن هذه الأهمية ظهر ااتصاهر السياسي والتصاهر الاقتصادي، عند الملوك وعند سادات القبائل والأشراف، فصاهر رجال من قريش قوماً من "تميم" ومن "بني عامرابن صعصعة" ومن يثرب واليمن، وصاهر ملوك الحيرة سادات القبائل المعروفة، للاستفادة من المصاهرة لمآرب سياسية واقتصادية، بالحصول على تأييد قبائل أولئك السادة: ولمرور تجارتهم من أرضهم بأمن وسلام. وقد كانوا يعرفون كيف يختارون من يصاهرونه بالطبع، يختارونه لكثرة عدد أبناء قبيلته ولمنزلتها ولمكانتها بين القبائل، ليتخذوا منه قوة في تأديب القبائل الأخرى. وهو عمل لم يكن سادات القبائل، في جهل من أسبابه، وفي غفلة عن ادراك كنهه، لذا كانوا يتاجرون به، كما تاجر به الملوك، أو سادات القبائل، فيشترطون فيه شروطاً فيها مكاسب ومنافع لهم. كأن يطعمهم الملوك "الطعم" ويعطونهم الآكال، ويجعلون لهم جباية الطرق، وبعض الامتيازات على القبائل الأخرى، ويجعلونهم على مقربة منهم في مجالسهم، ويقربونهم بذلك على غيرهم من السادات.

وقد كان لهذا التقديم الحضري أهمية كبيرة في نفوس القبائل، فهو عندهم أمارة من أمارات التشريف والتقدير. والأعرابي وإن ازدرى الحضر والحضارة، يقر مع ذلك في نفسه بتفوق الحضري عليه، إن لم يكن بالسلاح وبالقتال، فبالحيل والغش والخداع كما يرى الأعرابي ذلك، أي باستعمال الحضري ذكاءه المبني على التجارب والتقدم في مستوى الحياة في التغلب على الأعراب البسطاء الذين وإن كانوا أذكياء بالبديهة، لكن ذكاءهم لايكافيء ذكاء الحضر في التخاص من المتاعب والورط المعقدة التي تحتاج إلى خداع.

وقد افتخر سادات القبائل اللذبن كان مستواهم العقلي فوق مستوى قبائلهم بكثير- بفضلى اتصالهم بالحضر، وزياراتهم "الأرياف" وبيوت الملوك، بل البلاد الأعجمية المتقدمة أيضاً - بهذا التقديم، واعتبروه شرفاً وتعظيماً، فأكثروا من زيارة الملوك، وانتهزوا المناسبات للاتصال بهم، وأفتخروا بما كانوا ينالونه. منهم من عطايا وصلات وخلع، وهو تكريم كان يؤدي أحياناً الى نتائج محزنة، بسبب مبالغة بعض الملوك في تكريم سيد قبيلة، وتقديمه على غيره من السادات، مما كان يثير حقد بقية السادات، الذين قد تتهيج عواطفهم عندئذ لهذا التقديم، وقد يعتبرونه إهانة خاصة قصد توجيهها اليهم، فينتقمون ممن قدم عليهم، أو ينتقمون من الملك، بالإغارة على أرضه وأمواله. ونجد تأريخ الحيرة مليئاً بحوادث سببها إسراف بعض الملوك في الانصياع لعاطفتهم بتقديم سيد قبيلة: وتأخير آخر بإجلاسه في مكان هو دون المكان الذيَ كان من اللازم اجلاسه فيه من مجلس الملك. ولقرب المكان وبعده من الملك ومن صدر المجلس أهميةَ كبيرة عند سادات القبائل وفي عرف المجتمع آنذاك، حتى صار ذلك سنة لهم، اتبعوها في مجالسهم أيضاً، فإذا دخل الناس مجلس سيد القبيلة جلسوا حسب منازلهم وأقدارهم في مجتمعهم، على الرغم من مظاهر "الدمقراطية" والمساواة التي تظهر عليهم، والتي تبدو عندهم في مخاطبة بعضهم بعضاً.

السلع

والأدم والزبيب والصمغ والطيب والتبر والبرد اليمانية الثياب العدنية والأسلحة ومصنوعات الحديد والمعادن الأخرى، هي من أهم السلع الرئيسية التي تتكون منها تجاره قريش، وبعض هذه السلع مهم وغال ومطلوب. فكان تجار مكة يشترونه من معادنه ومواضعه، ويبيعونه في الأماكن التي تبحث عنها، وتربح من ذلك ربحاً كبيراً. وقد كانت "الأدم" على رأس الأموال التي تاجرت بها، حتى إن قريشاً كانت قد جعلتها على رأس الهدايا والألطاف التي كانت تهديها إلى الملوك والرؤساء وأكابر الناس. فلما ذهب "أبو سفيان" الى العراق،ووصل الى "كسرى" كَما يزعم أهل الأخبار، أهدى اليه أدماً وخيلاّ، فقبل "كَسرى بن هرمز" الخيل وردّ الأدم. ولما أرسلت "قريش" "عبد الله بن اًبي ربيعة" و "عمرو ابن العاص بن وائل" إلى النجاشي ومعهما هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، جمعت له أدماً كثيراٌ، ولم تترك من بطارقته بطريقاً إلا وله هدية، فكانت الأدم على رأس ألطاف مكة و هداياها.

ومن العطور التي كانت معروفة بمكة: "الذرور"، عطر يجاء به من الهند كالذريرة، وهو ما انتحت من قصب الطيب، وقيل هو نوع من الطيب مجموع من أخلاط، وبه فسر حديث عائشة: طيبت رسول الله لإحرامه بذريرة.

وأغلى سلع قريش التي كانت تحملها لبيعها في اًسواق بلاد الشام، هي "الفضة". ولما أرسل الرسول "زيد بن حارثة" على عير لقريش كان فيها "أبو سفيان"، وكانت قد غيرت طريقها الذي يسلك إلى الشام، وسلكت طريق العراق، كانت مع "أبي سفيان" فضة كثيرة، وهي أعظم تجارتهم، فالتقى بها "زيد بن حارثة" فأصاب العير، وبلغُ خمس الرسول من الغنيمة عشرون ألفاً، ومعنى هذا إن قيمة الغنائم، كانت مائة ألف. وقد ذكر في خبر هذه السرية ان الفضة كانت آنية كثيرة، وسكت خبر اخر عن نوع الفضة، وانما ذكر إن "أبا سفيان" كان يحمل معه فضة كثيرة.

والأسلحة من أهم مواد التجارة التي كان يتاجر بها التجار. فالسلاح أداة ضرورية جداً بالنسبة إلى الأعرابي، فبه يدافع عن نفسه، وهو لا ينام إلا وسلاحه الى جانبه، حتى إذا ما شعر بأقل حركة، نهض وهو بيده ليدافع به عن نفسه. والتاجر نفسه مع انه انسان مسالم لا يميل بطبيعة عمله إلى حمل السلاح والتقاتل كان مضطراً مع ذلك الى حمله معه والى إستخدام العبيد والأعوان للدفاع عن نفسه وعن أمواله. ولهذا كان يحرص على شرائه من أي مكان يجده فيه ليدافع به عن نفسه، كما كان يتاجر. به لأن الاتجار به من أربح الأعمال في السوق، لإقبال الناس عليه، فكان يشتريه من صناعه ومن أسواقه.، ليبيعه لمن يطلبه بسعر أعلى، فيربح بذلك كثيراً من الفرق بين السعرين.

وكان لأهل مكة خاصة حس مرهف نحو التجارة. كانوا إذا سمعوا أجراس عير، هرعوا نحوها يلتمسون خبرها. فلما أقبلت من الشام عير لدحية بن خليفة الكلبي، أو لعبد الرحمن بن عوف، تحمل زيتاً أو طعاماً، وكان رسول الله يخطب يوم الجمعة، والناس خلفه صفوفاً، فلما سمعوا بها، جعلوا يتسللون ويقومون إليها، خشية أن يسبقوا إليها، فتباع، حتى بقيت منهم عصابة اثني عشر رجلاً وامرأة. وكانوا إذا أقبلت العِير، استقبلوها بالطبل و المزامير والكبر وااتصفيق. فلما نظر رسول الله الى المصلين وقد انفضوا من حوله، عنفهم ووبخهم، ونزل في حقهم ما نزل في الآية من ترك البيع حالة صلاة الجمعة.

ويتبين من كتب الحديث إن الصحابة كانوا يتعاطون التجارة، ويتكسبون في الأسواق، وقد كانوا نشطين جداً في ذلك، وكان اهل مكة أكثر نشاطاً من أهل المدينة في هذا الباب، فلا يكاد بعضهم يصل المدينة مهاجراً من مكة حتى يسأل عن اسوق، ويبحث عن رزق، فذهب بعضهم الى سوق بني قينقاع، وهي من أسواق يهود، فنجحوا فيها وحصلوا على ربح ومال أعالوا به أنفسهم. وقد كان في جملة ما أجاب به أبو هريرة، و قد قيل فيه: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله، وان المهاجرين والأنصار لا يحدثون عنه بمثل حديث أبي هريرة: "إن اخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفق الأسواق، وكنت ألزم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، واحفظ إذا نسوا، وكان يشغل اخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً من مساكين الصُّفة أعي حين ينسون". فالأنصار كانوا أصحاب زرع وأموال، والمهاجرون كانوا أصحاب تجارات.

وكانوا إذا التهوا في السوق وانصرفوا في التجارة ونسوا أمورهم الأخرى، قالوا ألهانا الصفق بالأسواق، يعني الخروج إلى تجارة وبيع وشراء. وقد أدى انصراف بعض الصحابة الى السوق وتعلقهم بالتجارة إلى انفضاضهم أحياناً عن الرسول وهم حوله، فورد في الحديث: "بينما نحن نصلي مع النبي، صلى الله عليه وسلم، إذ أقبلت من الشام عير تحمل طعاماً فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي، صلى الله عليه وسلم، إلا اثنا عشر رجلاً، فنزلت: )واذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً".

وكان "العباس بن عبد المطلب" من أغنياء قريش، ومن المقرضين للمال بفضل يأخذه من المدين يضعه على رأس ماله. وقد بقي على ماله وثرائه في الإسلام كذلك. وكان الرسول قد أبطل ربا العباس في أول ما أبطل من ربا في الإسلام. وكان العباس يتاجر كذلك، له محل يتاجر فيه، ويستقبل التجار الغرباء. وقد ذكر أن "عفيف الكنديَ" كان فيَ جملة من تاجر معه في الجاهلية، وقد جاء اليه ليبتاع منه بعض التجارة.

ولما آخى الرسول بين الأنصار والمهاجرين،آخى بين "عبد الرحمن بن عوف"، وهو من المهاجرين، وبين "سعد بن الربيع"، وهو من أكثر الأنصار مالاً، فقال "سعد بن الربيع": "أقاسمك مالي نصفين وأزوجك". قال "عبد الرحمن": بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوّني على السوق. فدلوه على سوق قينقاع، فغدا اليه، ثم تابع الغدوّ، فما لبث أن جمع مالاً من تعامله بالسوق وصار من المثرين.

وقد كان "عبد الرحمن" تاجراً بمكة قبل هجرته إلى يثرب، وصاحب مال. فلعل الرسول أراد من مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، أن يساعد المهاجرون الأنصار وأن يتعاونوا معاً، كما كان شأن عبد الرحمن وسعد بن الربيع، وهما من أصحاب الخبرة والتجربة في العمل، فيفيدوا بذلك الإسلام بما يحصلون عليه من مال.

وقدً ذكر أهل الأخبار، أن عبد الرحمن، تصدق على عهد رسول الله، بشطر ماله، ثم تصدق بعد بأربعين ألف دينار، ثم حمل خمسمائة فرس في سبيل الله وخمسمائة راحلة، وكان أكثر ماله من التجارة. وذكروا أنه أعتق ثلاثين ألف نسمة وأنه أوصى لكل من شهد بدراً بأربعمائة دينار، فكانوا مائة رجل. وذكروا أنه كان تاجراً مجدوداً في التجارة، وكسب مالاً كثيراً، وخلف ألف بعير وثلاثة الاف شاة، ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً فكان يدخل منه قوت أهله سنة. وذكروا أنه صالح امرأته التي طلقها في مرضه من ثلث الثمن بثلاثة وثمانين ألفاً، وقيل عن ربع الثمن من ميراثه. ورووا أنه أعتق في يوم واحد ثلاثين عبداً. وأنه كان يقول: "قد خشيت أن يهلكني كثرة مالي. أنا أكثر قريش كلهم مالا"".

وكان "أبو بكر" تاجراً معروفاً بالتجارة بمكة قبل الإسلام. ولقد بعث النبي وعنده أربعون ألف درهم، ولما أسلم كان يعتق منها ويعول المسلمين، حتى قدم المدينة بخمسة آلاف.

وكان "طلحة بن عبيد الله بن عثمان" القرشي التيمي، من تجار.مكة، ولما قدم المدينة مهاجراً، أخذ يتاجر مع "الشام"، وذكر انه اشترى مالاً ب "بيسان"، وان غلته تبلغ اًلفاً وافياً كل يوم. والوافي في وزنه وزن الدينار، وعلى ذلك وزن دراهم الفرس التي تعرف بالبغلية. وقد ساهم في حرب الجمل، التي وقعت سنة ست وثلاثين.

والزبير من رعيل التجار كذلك، وكان تاجراَ مجدوداً في التجارة، كان له ألف مملوك يؤدون اليه الخراج، وله أرضون واسعة وأموال طائلة.

تجار يثرب

ولم يشتهر أهل "يثرب" في كتب أهل الأخبار بالتجارة، وانما اشتهروا فيها بالزراعة، ولا سيما بزراعة النخيل. ولكننا نجد إن من بين هم من كان يتاجر مع بلاد الشام واليمن، وله أموال شغلها في التجارة، كما إن من بينهم من كان يعطي فضل ماله بالربا للمحتاح إلى المال، وكان منهم من حصل على مال كثير فابتنى له "الأطم" و "الحصون" ليحصن نفسه وماله بها. ولما هاجر المهاجرون إليها، تعاظم شأن التجارة بها، إذ أخذ المهاجرون والأنصار يتاجرون مع الشام، فيبيعون ويشترون ويستوردون التجارة إلى المدينة، بقوافل تأتي محملة بالزيوت وبتجارة الشام إليها. حتى أمر الرسول باتخاذ سوق بها، يتاجر فيه التاجر دون ان يدفع خراجاً، بقوله: هذا سوقكم لا خراج عليكم فيه. فرفع عن تجار يثرب ما كان يدفعه تجار الأسواق الأخرى من خراج الأعشار.

ويظهر من دراسة وتشريح كتب التفسير والحديث والسير والأخبار، أنه قد كان بين أهل "يثرب" وأهل مكة فروق في أصول العامل التجاري، فوزن أهل يثرب يختلف عن وزن أهل مكة، وكيلهم يختلف عن كيلهم أيضاً، وتعاملهم في السوق يختلف بعض الاختلاف عن تعامل أهل مكة. ثم هم فوق ذلك يختلفون عن أهل مكة في أنهم أصحاب زرع، وأهل مكة أصحاب تجارة، ولما جاء الرسول إلى المدينة، وجد لهم معاملات تخص أكثرها الزراعة لم تكن معروفة بمكة، فسألهم عنها، وحدد لهم موقف الإسلام منها.

وسبب هذا الاختلاف، هو اختلاف طبيعة المكانين. فمكة بلد غير ذي زرع فقلَّ عندهم التعامل الزراعي، لعدم احتياجهم اليه. أما "يثرب"، فبلد زراعة عيشة أهله على الزراعة واستغلال الأرض، لذلك صار أكثر تعاملهم بأعمال تتعلق بالزراعة وباستغلال الأرض، وبالاشتراك والتعاون في استغلال الملك الفائض على حاجات صاحبه، فظهرت عندهم أعراف زراعية، لم تعرف بمكة. وكانت عندهم بعض حرف، لم تشتهر بمكة. ومن هنا راعى التشريع الإسلامي في التجارة أعراف أهل مكة فيها، وراعى في التشريع الزراعي وفي الحرف،أعراف أهل يثرب في الاثنين.

واقتصاد يثرب اقتصاد زراعي، الانتاج فيه انتاج زراعي، ثم حيواني، عماد الأنتاج فيه التمور والخضر، أما اقتصاد مكة، فهو اقتصاد تجاري عماده التجارة القائمة على أساس شراء السلع من الأسواق ونقلها إلى مكة، وتصريفها من هناك على أهل مكة ومن حولهم، ونقل الفائض إلى الأسواق الموسمية وأسواق العراق وبلاد الشام والعربية الجنوبية. فهو اقتصاد لا يعتمد على الانتاح المحلي ولا على حرف محلية، إنما يقوم على أساس شراء المنتجات الأجنبية من مصادرها بأسعار أعلى، للحصول على الاْرباح عن طريق الفرق بين السعرين: سعر الشراء وسعر البيع، أو عن ثمن التوسط في معاملات البيع والشراء.

ويظهر إن أهل يثرب لم يكونوا قد أقبلوا على الزراعة اقبالاً كافياً، وان الأرض لم تكن قد استغلت استغلالاً جيداً، لهذا نجد الرسول بعد هجرته إلى هذه المدينة يحث المسلمين على الاقبال على الزراعة وعلى العمل بها، وعلى استغلال الأرض، لأن فيها قوت المسلمين، فأراد بذلك سد النقص الذي كان يجابه أهل المدينة وغيرها في الحبوب وفي أقواتهم الأخرى، وهذا مما أدى إلى احياء بعض أرضها في أيامه، أحياها أهل يثرب وأحياها بعض المهاجرين.

وكان بعض تجار مكة يمرون بيثرب في طريقهم من مكة إلى بلاد الشام، وفي عودتهم منها إلى مكة. ولما خرج "هاشم" في عير لقريش فيها تجارات، كان طريقه علىَ المدينة، ثم نزل بسوق النبط، وهي سوقّ تقوم بها في السنة يحشدون لها، يبيعون ويشترون. وهي سوق يظهر انها كانت تقام في موسم معين من السنة، فيتجمع فيها التجار للبيع والشراء، ولما خرج "عبد الله" والد الرسول إلى الشام إلى غزة في عير من عيرات قريش يحملون تجارات، ففرغوا من تجارتهم ثم انصرفوا، مرّوا بالمدينة، وبها توفي فدفن هناك، في دار النابغة، وهو رجل من بني عدي بن النجار.

وقد كان الأنباط يتاجرون مع المدينة، يأتون إليها ب "الدرمك"، وهو الدقيق الحواري، وهو دقيق أبيض،وبالزيت. وكانوا يأتون اليهم بأخبار الروم. ولعلهم كانوا يتاجرون في موضع معين من أسواق يثرب،فعرف لذلك بسوق النبط. وقد نافست "يثرب" مكة في التجارة بعد هجرة الرسول إليها، إذ أخذ المهاجرون يتاجرون منها مع بلاد الشام والعراق، وصارت القوافل ترد إليها محملة ببضائع بلاد الشام، واأخذ الأنصار والمهاجرون يتاجرون معاً في الأسواق، وقد تضخمت هذه التجارة بعد فتح مكة،ودخول القبائل في الإسلام ووصول الصدقات الى بيت المال في المدينة، فتحسن حال أهل المدينة وصار لهم رأس مال مكنهم من تشغيله في التجارة وفي الزراعة، فاستغلوا أرض يثرب بزرعها زروعاً مختلفة، ثم استغلوا اموالهم هذه في الخارج بعد الفتوح.

وقد نشأت يثرب وتوسعت لوجود الماء بها، وهذا الماء هو الذي صيرها مستوطنة زراعية، كما صير غيرها من المستوطنات العديدة التي تقع في شمالها وتمتد حتى تتصل في فلسطين مستوطنات زراعية منتجة ذات بساتين ومزارع يعتمد في زرعها على العيون والابار. وكان عماد حاصلها التمر. وقد أحاطت بيثرب هالة من "الحوائط" المغروسة بالنخيل، غرسها سادات يثرب، فصارت من أهم موارد رزقهم، وقد زرعوا بعض الخضر والبقول تحت النخيل، لسد حاجتهم وبيع الفائض منه في الأسواق، ولكبار الملاكين فيها "أطم" يعيشون فيها ويخزنون بها ميراتهم وحاصلهم، ويحتمون بها عند الخطر. وأما سواد للناس، فلهم بيوتهم، وبعضها بيوت ذات طابقين. ولم تكن المدينة مسورة ولا محاطة بخندق على ما يظهر من روايات أهل الأخبار، بل كانت مدينة مكشوفة، إذا داهمها خطر، قام أهلها بسد منافذ طرقها، وبالدفاع عنها من السطوح، وبمقاومته في الأزقة.

وأرض يثرب أرض خصبة كان من الممكن زرعها لو أقبل أهلهما على الزراعة، ولكنهم لم يقبلوا عليها اقبالاَ تاماً، بل قام المتمكنون منهم بغرس الأرضين الغنية بالماء، والأرضين التي كان الماء فيها قريباً من سطح الأرض بحفر الآبار بها، وتركوا الأرضين الأخرى مواتاً لم تزرع. وشغلوا الموالي والرقيق في الزراعة، ولو أجهدوا أنفسهم في استصلاح التربة وفي استنباط الماء، وحبس مياه السيول، لأحيوا بذلك أرضين واسعة. بدليل إن بعض المهاجرين ممن كانت عندهم رغبة في الزراعة وأموالاً، عملوا في استصلاح أرضين مواتاً حتى أحيوها، وصارت تاًتي اليهم بغلات وافرة، ومن أثرياء يثرب "أحيحة بن الجلاّح"، وهو من سادة الأوس. وهو من أصحاب الأرض. وكان شريفاً في قومه، مات قبل الإسلام. وكانت تحته "سلمى بنت عمرو الخزرجية"، وتزوج "سلمى" بعده "هاشم بن عبد مناف" فولدت له "عبد المطلب" جد النبي.

وسعد بن عباده بن دليم، سيد الخزرج، هو من أغنياء يثرب ومن اصحاب الأطم فيها. وكان سيداً كريماً مضيافاً، جفنته تدور مع النبي في بيوت أزواجه وكان يأخذ كل ليلة جماعة من أهل الصفة يعيشهم، وكان أهل الحاجِة يذهبون إلى أطمه ينالون الشحم واللحم.

والطائف مصيف أهلَ مكة ومتمونها من الفواكه والزبيب والعسل والخضر. وقد أشترى أغنياء قريش بها الأملاك والبساتين وشاركوا أهل الطائف في التجارة. وهي بلاد "ثقبف". وثقيف من المتحضرين النشطين الأذكياء. وللطائف قرى، أولها "لقيم"، وآخرها "الوهط". وكان اسمها القديم "وج". ويذكر أهل الأخبار، أن "الطائف"، كانت في الأصل قرية بالشأم، أو قطعة من الجنة التي كانت لأصحاب الصريم، أو باليمن بنواحي صنعاء، فنقلت بدعوة "ابراهيم" إلى الحجاز، لتكون مصيفا وجنة لأهل مكة. وكانت بغير سور، فلما جاء "الصدف بن الدمون" من حضرموت إلى "وج"، وكان قد أصاب دمأَ في قومه، لحق بثقبف وأقام بها، وأقام لهم طوفاً اطاف بوج، فسميت بالطائف منذ ذلك الوقت. ومنهم من يزعم، أنها إنما سميت بذلك لأن "جبريل" لما نقلها من موضعها، طاف بها بالبيت سبعاً، ثم وضعها بموضعها، فعرفت بالطائف.

وكان أهل الطائف مزارعين، عاشوا على الزراعة، واتخذوها تجارة لهم. زراعة الكروم والفواكه والحبوب. وكسبوا من ذلك مالاً، وكان منهم من اشتغل بدبغ الجلود، وبيع "الأدم" أي الجلود المدبوغة أو تصديرها إلى الخارح، ومنهم من تاجر، وساهم مع تجار مكة فىِ تجارتهم. فتجمع من كل ذلك رأس مال شغله أصحابه في الربا، فكانوا يقرضون المال لمن يحتاج اليه من أهل الطائف ومن غيرهم، لوجود مال فائض عندهم.

ووجد التجار في كل مكان وجدت فيه أسواق وسلع وتجارة من بلاد العرب في الجاهلية وفي الإسلام، لم تكن تخلو منهم مدينة من المدن أو قرية كبيرة. فسوق الفلج كان سوقاً لبني نزار واليمن . وب "العوسجة" وهي معدن، تجار، من الجائز إن يكونوا قد تجمعوا في هذا المكان للاتجار بالمعدن الذي يستخرج منه، فكانوا يتعاطون الاتجار بالمعادن.

الفصل الثاني بعد المئة
القوافل

وتنقل التجارة البرية بطرق القوافل، وذلك لضمان حماية الأموال والتجارة والأرواح. و "القافلة"، الرفقة القفال والمبتدأة في السفر. وذكر علماء اللغة أن "القافلة" العير كذلك. وذكر بعض منهم أن "العير" الإبل التي تحمل الميرة، أو كل ما امتير عليه إبلاً كانت أو حميراً أو بغالاً. وقد أطلق أهل السير والتأريخ ومن تحدث عن وقعة بدر: لفظة "العير" على قافلة قريش التي كان يرأسها "أبو سفيان"، كما أطلق بعضهم "ركبان قريش" على من كان مع "أبي سفيان" من تجار قريش، معهم أموالهم وتجارتهم من بلاد الشام. ونجد كتب السير والتواريخ تطلق لفظة العير على قوافل قريش بغير حصر، مهما كان حملها. فلما تحدثوا عن سرية "حمزة" إلى العيص استعملوا لفظة "عير" لقريش، واستعملوا هذه اللفظة في مناسبات أخرى، مما يدل على أنهم أرادوا بها قافلة، أي جماعة من جماعات السفر، مهما كان حملها.

والركبان والركب: ركاب الإبل. وقال بعض علماء اللغة: الركب: ركبان الإبل في السفر دون الدواب، وهم العشرة فصاعداً، وذكر ان من الجائز استعمال "الركب" للخيل وللجيش.

و "القيروان" الجماعة من الخيل. والقفل، جمع قافلة. وهو معرب "كاروان". وقد تكلمت به العرب. قال امرؤ القيس: وغارة ذات قيروان  كأن أسرابها الرعال 

وورد في الحديث انهم كانوا يترصدون عيرات قريش، أي إبلهم ودوابهم التي كانوا يتاجرون عليها.

ويقال للعير التي تحمل الطيب: "اللطيمة". وذكر إن اللطيمة العير التي تحمل الطيب وبز التجارة. فاللطيمة، قافلة تحمل تجارة نفيسة الى الأسواق. وقد كان ملوك الحيرة يرسلون لطائمهم الى الأسواق، لتتاجر بالطيب، ومنهم "النعمان بن المنذر"، وكان يبعث إلى "سوق عكاظ" في وقتها بلطيمة يجيزها له سيد مضر، فتبتاع وتشتري له بثمنها الأدم والحرير والوكاء والمغراء والبرود من العصب والوشي والمسير والعدني   

ويقال لقافلة الإبل التي ليجاء عليها بالطعام، "ركاباً" حين تخرج، وبعد ما تجيء. وتسمى عيراً على هاتين المنزلتين. والتي يسافر عليها إلى مكة أيضاً ركاب تحمل عليها المحامل، والتي يكترون ويحملون عليها متاع التجار وطعامهم كلها ركاب، ولا تسمى عيراً، وإن كان عليها طعام، إذا كانت مؤاجرة بكرى. وليس العير التي تأتي أهلها بالطعام، ولكنها ركاب. يقال: هذه ركاب بني فلان. ويقال زيت ركابي،لأنه يحمل من الشام على ظهور الإبل. وذكر ان العسجدية: ركاب الملوك التي تحمل الدق من المتاع. فهي عير اذن تحمل متاعاً ثميناً،كالذهب والجوهر، وذكر إن العسجدية الإبل تحمل الذهب، وهي ركاب الملوك التي تحمل الدق الكثير الثمن، والسوق يكون فيها العسجد، وهو الذهب، وركاب الملوك، وهي إِبل، كانت تزين للنعمان بن المنذر.

و "السابلة" "الواطئة"، وهم المارة. سموا بذلك لوطئهم الطريق. وهم الذين يسلكون الطرق. والسابلة من الطرق المسبولة، المسلوكة، وابن السبيل، هو ابن الطريق، والذي قطع عليه الطريق، والمنقطع.

ويسمى كل طريق يكثر الاختلاف عليه محجة ويسمى الطريق المدروس "الأيتار المليكي"، ويسمى الطريق الضيق الحبل شركاً، وحبال الطريق ايتاره. وطريق جادة، أي مجدودة بالوطء، وقارعة الطريق، في معنى مقروعة، والريع الطريق.

وكلما كانت الأموال ثمينة وكثيرة، كانت القافلة كبيرة. يحرسها عدد كبير من الحراس لحمايتها من لصوص الطرق وقطاع السبل الذين كانوا يعيشون على السلب والنهب. ونقل التجارة بالقوافل طريقة عالمية قديمة،أشير إليها في الكتابات، وفي الكتب المقدسة.

ولم يكن من السهل على التجار في ذلك الزمن التوسع في تجارتهم والمجازفة بالمتاجرة مع أماكن أخرى بعيدة. فالتاجر محتاج إلى حماية حياته وأمواله، ولم تكن الحماية ممكنة إلاّ في ظل حكومة مدنية قوية، تحمي أبناءها وكل من يفد على أرضها وعلى الأرض الخاضعة لها من اعتداء المعتدين.

لهذا صار لزاماً على التجار الالتجاء إلى نظام القوافل، ولا سيما القوافل القوية الكبيرة معتمدة على حماية نفسها بنفسها أولا"، ثم على حماية الحكومة ثانياً. وقد عمدت في الدرجة الأولى إلى استرضاء سادات القبائل، وذلك لتأمين حمايتهم في المناطق التي تمرّ بها القافلة ولبذل العون والمساعدة لها بتقديم حق مرور للرؤساء وهدايا وعطايا مناسبة وعقد عقود ومواثيق، وإلا تعرضت أموال القافلة للأخطار.

ولطول الطرق وبُعد المسافات، كان على القوافل استرضاء كبار سادات القبائل للحصول على حمايتهم،ومعنى هذا دفع اتاوات لهم، وتحميل المشترين تلك الاتاوات. وهذا مما زاد في الأسعار وجعل الأثمان عالية، وقد أضر ذلك بالتجارة العربية ولا شك، كما أضر.بالمنتجين الذين كانوا يبيعون انتاجهم اليسير وأكثره مواد خام يتعيشون عليها بأسعار بخسة لسد رمقهم في هذه الحياة.

وقد عمد تجار مكة - كما ذكرت ذلك في مواضع من هذا الكتاب - الى أساليب مختلفة في استرضاء سادة القبائل الذين تمر بأرضهم قوافلهم، منها استرضاؤهم بالمال، وإشراكهم معهم في رأس المال، بتقديم ما عندهم من سلع يتوسطون لهم ببيعها في الأسواق، أو بشراء ما يريدون شراءه من تلك الأسواق وتقديمه لهم، ومنها التصاهر معهم، ودعوتهم لزيارة مكة وتقديم الهدايا لهم، ثم ضبط كل ذلك بعقود "الإيلاف"، التي وضعت قواعد وأصول وحقوق مرور قوافل مكة وقوافل تجارها الخاصة في كل الأيام والمواسم بأمن وسلام، في مقابل تعهدات وعقود عينت بعقود الإيلاف.

وكان كل تاجر يخرج من اليمن والحجاز يتخفر بقريش ما داموا في بلاد مضر. "لأن مضر لم تكن تعرض لتجار مضر، ولا يهيجهم حليف لمضري. كان ذلك بينهم. فكانت كلب لا تهيجهم لحلفهم بني تميم،وطيء أيضاً لاتهيجهم لحلفهم بني أسد. وكانت مضر تقول: قضت عنا قريش مذمة ما أورثنا اسماعيل من الدين. فإذا أخذوا طريق العراق، تخفروا ببني عمرو بن مرثد، من بني قيس بن ثعلبة، فتجيز ذلك لهم ربيعة كلها".وهكذا تمكنت قريش من تأمين مصالحها التجارية بعقد الأحلاف مع سادات القبائل،وصار تجارها يتنقلون في مختلف أنحاء جزيرة العرب بحرية وأمان:   

والجمال هي واسطة النقل في جزيرة "لعرب، هي قطار القوم وسياراتهم في ذلك العهد. وليس في استطاعة حيوان آخر القيام بمثل تلك المشاق من قطع المسافات البعيدة في أماكن لاماء فيها إلا في مواضع متباعدة وفي أماكن يتغلب عليها الجدب والشظف. كان على ذلك الحيوان إن يتحمل ثقل ما يوضع على ظهره،وان يسير به مسافات طويلة، ثم عليه إن يتحمل العطش والجوع. ولولا الخواص الجسمية التي امتاز بها عما عداه من الحيوانات، لما كان في امكانه احتمال هذه المشقات ولعجز عنها حتماً. وقد أشير في التوراة إلى قوافل الإبل الضخمة التي كانت تأتي من جزيرة العرب إلى بلاد الشام، وهي محملة بالبضائع الثمينة النفيسة لتبيعها هناك.

ولا تحتاج الإبل إلى شرب الماء كل يوم، لذلك غدت الحيوان المثالي الملائم لحياة الأعرابي وللبادية. والجمل صبور على الجوع وفي استطاعته مكافحة جوعه بأكل العوسج والنباتات التي تنبتها البادية. وللعرب أسماء في اظماء الإبل. ومنها "الخمس" أن ترد الإبل الماء يوماً فتشربه، ثم ترعى ثلاثة أيام، ثم ترد الماء اليوم الخامس، فيحسبون اليوم الأول والآخر اليومين اللذين شربت فيهما. وقيل أن ترعى ثلاثة أيام وترد اليوم الرابع. ومن الأظماء "للغبّ"، وذلك أن ترد الإبل يوماً وتصدر، فتكون في المرعى يوماً، وترد اليوم الثالث. وما بين شربتيهما ظمأ طال أو قصر. وعرف "الغب" أنه ورد يوم وظمىء آخر. وقيل.: هو يوم وليلتين، وقيل هو أن ترعى يوماً وترد من الغد. ومن أمثال العرب المتعلقة بهذا الموضوع: يضرب اخماساً لأسداس، أي يسعى في المكر والخديعة. وأصله من اظماء الإبل، فقد كان الرجل إِذا أراد سفراً بعيداً عوّد إبله أن تشرب خمساً سدساً، حتى إذا دفعت في السير صبرت، ثم ضرب مثلًا للذي يراوغ صاحبه ويريه اًنه يطيعه، وقيل يضرب لمن يظهر شيئاً ويريد غيره، أو للذي يقدم الأمر يريد به غيره، فيأتيه من أوله، فيعمل رويداً رويداًْ.

وإذ كانت هذه القوافل في حياة القوم على جانب من الخطورة، كما كانت المصدر المهم من مصادر الثروة، وضعها أصحابها في حماية آلهتهم، واتخذ بعضهم إلهاً خاصأَ واجبه حماية القافلة وايصالها سالمة إلى المحل المقصود. وقد عرف الإلهَ "شيع ه - قوم" "شيع القوم"، بأنه إله القوافل، الساهر على حمايتها وحماية أصحابها التجار. وعرف اللإله "أبو إيلاف" "ايلف" "ايلاف"، بأنه إلَه القوافل والتجار وأرباب القوافل كذلك. وكان أصحاب " القوافل يقدمون الى آلهتهم النذور والقرابين بعد انتهاء رحلة القافلة، براً بنذرهم لها، وتقرباً إليها، كي تستمر في بذل حمايتها لهذه القوافل ورعايتها لها، كما كانوا يأتون إلى المعابد والمحجات فيطوفون بها، ويقصدون أصنامهم فينحرون عندها شكراً وتقرباً إليها لما أنعمت عليهم من نعم الحماية والربح الوافر الذي كسبوه في رحلاتهم هذه. وفي الذي يذكره أهل الأخبار عن طواف رؤساء قوافل مكة بالكعبة قيل بدئهم الرحلة وبعد انتهائهم منها، الكفاية للدلالة على أهمية هذه الرحلات التجارية في نفوس القوم.

والغالب إن تعهد حراسة القوافل منذ يوم مغادرتها مكانها إلى حراس أشداء أقوياء يحملون سلاحهم معهم، لمقاومة المعتدين. أما رئاسة القافلة، فلا تعطى إلا للمعروفين بشجاعتهم وبقوتهم وببأسهم وبالحيل وبمعرفتهم للطرق، ولأهل البيوتات والجاه العريض والسمعة بين القبائل، فرئيس القافلة وكبيرها، هو دماغها المفكر وقلبها النابض، وعلى حركاته وأعماله يتوقف مصير القافلة ومصير الأموال الثمينة التي توضع تحت يديه، فإذا أظهر الرئيس جنباً أو عدم مقدرة في قيادة القافلة وفي الدفاع عنها، حين تعرّضها للخطر، فقد تقع فريسة سهلة بأيدي لصوص الطرق، وتنتهب أموالها، فتكون هذه النتيجة طامة كبرى للمساهمين في أموال القافلة.

ولأهمية قادة القوافل المذكورة، عملت لهم تماثيل لتخليد ذكراهم، وكرّمواِ في الكتاباًت. وقد عثر على عدد من هذه التماثيل والكتابات في مدينة "تدمر". وحمل الكثير منهم ألقاب الشرف التي كانت لا تمنح إلا لمن يؤدي خدمات ممتازة للمدينة فيَ ذلك العهد، ووصل بعضهم إلى درجة عضو فيَ مجلس المدينة الحاكم. وقد نال بقية قادة القوافل مثل هذا الاحترام من أصحابهم. ولقب قائد القافلة في الكتابات الجاهلية ب "زعيم القافلة" وب "زعيم السوق".

حتى رؤساء الحكومات مثل كسرى وملوك الحيرة، كانوا لا يسلمون زمام قوافلهم إلا للاشداء المعروفين من الرجال. كانوا يتاجرون في الأسواق يشترون ويبيعون، فإذا أقبل الموسم أرسلوا قافلتهم إلى السوق برئاسة رجل مشهور معروف بالشجاعة لا يهاب الموت ليوصلها إلى السوق المقصود أو المكان المراد وصول البضاعة اليه، ذلك لأن مجال حكمهم أو نفوذهم، لا يصل إلى الأنحاء البعيدة، فاضطروا إلى استئجار الشجعان المعروفين بقيادتهم للقوافل، لحماية تجارتهم وأموالهم من اعتداءات المعتدين.

وتعتمد القوافل على الأدلاء الخبراء بطرق البوادي لإيصالها إلى أهدافها بأمن. وسلام وبأقصر الطرق،ولتجنيها أخطار الأعداء وشر قطاع الطرق، عند شعورها بوجود خطر عليها إذا ما سلكت الطريق العام، أو طريقها الذي قررت السير به نحو المكان الذي تريده. فلما أبلغ جواسيس "أبو سفيان" أن النبي قد خرج يترصده نحو "بدر"، أسرع فاستعان بالأدلاء فانحاز عن بدر، وساحل، وتخلص بعلم أدلائه وعلمه بالطرق من وقوعه ووقوع قافلته بأيدي المسلمين. والى الدليل والأدلاء أشير في قول الشاعر: شدوا المطيّ على دلـيل دائب  من أهل كاظمة بسيف الأبجر 

وقد استعان قادة الجيش وأمراء السرايا والغارات بالأدلاء أيضاً، لإرشادهم إلى المواضع التي كانوا يقصدونها، وكان الرسول يستعين بالأدلاء، ويسأل الخبراء أصحاب العلم بطرق البادية حين يغزو، أو حين يرسل سراياه على قوم. وفي غزوة "بئر معونة" كان "المطلب السلمي" دليلها على الطريق.

ويذكر أهل الأخبار، إن "قريش بن بسر بن يخلد بن النضر"، كان دليل "بني كنانة" في تجارتهم، فكان يقال: "قدمت عير قريش"، فسميت قريش بذلك. وأبوه "بدر" صاحب "بدر" الموضع الذي لقي فيه رسول الله قريشاً. فقريش بن بدر، اذن هو على هذه الرواية، هو أول دليل يصل الينا خبره من أدلاء قوافل قريش، وهو مؤسس تجارتها.

ولا بد للقوافل من منازل تنزل بها لتستريح ولتريح دوابها من للتعب ولتتمون بالماء وبالزاد إن احتاجت اليه. ونظرأَ إلى بطء الحيوان في سيره وعدم تمكنه من سيره مسافات طويلة دون توقف وراحة، كانت "منازل" ذلك الوقت غير متباعدة. ويقال للمكان الذي تنزل به القوافل: "المنزل". والمنزل: المنهل والدار، وهو في معنى "الخان"، و "الخان" لفظة معربة معناها المنزل والحانوت. وقد اشتهرت اللفظة في الإسلام، وأطلقت على منازل المسافربن في الطرق وفي القرى والمدن، وتعني المنزل، المخصص لنزول المسافر، وهو منزل يكون كبيراً في الغالب، يستريح فيه المسافر، تاجر كان، أو في غير تاجر، ويضع فيه مطاياه.

وأما "الفندق"، فبمعنى المنزل الذي ينزل به التجار والمسافرون، وهي من الألفاظ المعربة عن اليونانية من أصل Pandhokiyon. وقد استعملها عرب بلاد الشام. ويظهر انها من الألفاظ التي شاع استعمالها في الإسلام. وقد ذكر بعض علماء العربية، إن الفندق بلغة أهل الشام الخان والسبيل من هذه الخانات التي ينزلها الناس مما يكون في الطرق والمدائن، وهو فارسي.

ولم تكن منازل أهل الجاهلية منازل مبنية بالضرورة، فقد كان المسافرون يضربون لهم خياماً يأوون إليها، أو يلجأون إلى ظل مثل شجرة، يحتمون به من أشعة الشمس، وقد يفترشون الأرض وينامون جنب إبلهم، وكل ما يلزم في المنزل أن يوجد به ماء. فالماء هو اكسير الحياة بالنسبة للمسافر، وهو أهم لهم من الطعام، فطعامهم في ذلك الوقت طعام قليل بسيط، تمرات مع لبن، أو سوبق،و ما شاكل ذلك، ثم هم لا يأكلون كثيراً ولا يقيمون لوجبات الطعام وزناً، وقد يكتفي أحدهم بأكلة واحدة من هذه الأكلات الجافة التي يحملها، وقد يقتاتون بما يجدونه من نابت في طريقهم من ثمر شجر بري أو بقل أو أعشاب، ولهذا، صارت المنازل على مواضع الماء.

ولم تكن الأبعاد بين هذه المنازل متساوية، بل كانت مختلفة، تتوقف أبعادها على الماء. فإذا وجد الماء في مواضع متقاربة، قامت عليها مستوطنات متقاربة، وصارت المسافات فيما بينها غير بعيدة، وإذا كان الماء بعيداً، صارت المنازل متباعدة، وقد لا يهم الماء القوافل إذا كانت مزودة به، وكل ما تلاحظه في سفرها هو تعب الإنسان ومقدار تحمل دابته مشقة السفر والبعد، ولهذا كانوا يقطعون طرقهم بمراحل، و "المرحلة" المنزل بين المنزلين، يقال بيني وبين كذا مرحلة أو مرحلتان. فهم يقطعون طرقهم على قدر طاقتهم ومقدار تحمل إبلهم على السير. وقد علمتهم تجاربهم مقدار ما يقطعون، فإذا شعروا بالتعب وبتعب دوابهم، نزلوا منزلاٌ، قد يكون مأهولاً به ماء، وقد يكون خالياً في عراء، للاستراحة به، فإذا ارتاحوا استمروا في سيرهم نحو جهتهم ا لمقصودة.

و "الفرسخ" في تفسير علماء العربية الراحة، و "فرسخ" الطريق هو ثلاثة أميال هاشمية، أو ستة، أو اثنا عشر ألف ذراع، أو عشرة آلاف ذراع، سمي بذلك لأن صاحبه إذا مشى قعد واستراح من ذلك، كأنه سكن. واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية. وقيل: الفرسخ الساعة من النهار.

و "الميل" مقياس تقاس به الأبعاد، يقال قطع كذا ميلاً. وهو منار يبنى للمسافر في أنشاز الأرض، ومنه الأميال التي في طريق مكة، وهي الأعلام المبنية لهداية المسافرين.

ونظراً إلى وجود إمارات وعشائر وقبائل عديدة تمرّ بآرضها القوافل، فقد كان على أصحاب القوافل وأرباب المال إرضاء هؤلاء المتنفذين بإعطاء إتاوات مرور لهم، وهدايا لحمايتهم وللسماح لهم بالمرور، على نحو ما تفعله حكومات هذا اليوم من استيفاء حق المرور "ترانزيت" "ترانست" عن التجارة والسيارات. فإذا تحرش بهم متحرش، وحاول قطاع الطرق الاعتداء عليهم، كان من واجب سيد القبيلة والرئيس المتنفذ في تلك الأرض تعقب المعتدين وتاديبهم وإعادة ما استولوا عليه إلى أصحابه. وبهذه الطريقة أمنت القوافل على أموالها،وأخذت تقطع البوادي والطرق البعيدة الطويلة، وهي في حمى هؤلاء المتنفذين.

وقد كان الملوك وسادات القبائل والمتنفذون الذين تمر قوافل التجارة بمناطق نفوذهم، أو الذين تقع الأسواق في أرضهم أو في مناطق نفوذهم، يشتطون في الإتاوة، ويشتدون في جباية المكس، و يبالغون في رفع حق المرور والحقوق الأخرى المكتسبة بالعرف والعادة اًو بقانون القوة والكيف، فيؤذون بذلك التجار والتجارة ويضطرون التجار إلى رفع أسعار البيع، للحصول على أرباح لهم، فتضررت التّجارة بذلك ضرراً كبيراً، وقل الاقبال على شراء السلع المستوردة من جزيرة العرب إلا ما كان ضرورياً، ولا مناص من شرائها، وارتفع على المشتري سعر المواد المستوردة، واضطر التجار إلى التحكم في أسعار الشراء من الأسواق المحلية في جزيرة العرب، بشرائها بأسعار متهاودة لضمان تصريفها في الأسواق الخارجية وفي كل هذه الأحوال ضرر عام للبائع وللمشترى وللمستهلك وللاقتصاد العربي بوجه عام.

وقد كانت القوافل تقصد الأماكن التي تريد البيع والشرإء فيها في مواسم معينة في الغالب، وذلك لاجتماع التجار فيها، وهذا مما يهيىء للتاجر أكبر عدد ممكن من التجار، كما كان التجار يقصدون الأسواق المؤقتة التي تقام في الأعياد وفي المناسبات الدينية لبيع ما عندهم من بضاعة ولشراء ما يأتي به الناس من أموال، ولم يكن ذلك خاصاً بجزيرة العرب، فقد كان العبرانيون وغيرهم من بقية الشعوب السامية يفعلونه أيضاً. ونرى إن الأسواق التي كانت تقام في جزيرة العرب، كانت تقام في مواسم معينة تقع في الأشهر الحرم، وذلك لضمان مروّر التجار بأمان، فلا يتحرش بهم إلا مستهتر طريد،والغالب إن سادات القبائل التي تحرش المستهترون بالقافلة التي مرّت بأرضهم ينتقمون بأنفسهم منهم.

وقد كان الجاهليون يضعون أعلاماً على الطريق ليهتدي بها، يقال لها "الصوُّى" و "الثوة". ويقول علماء اللغة إن الصُّوى: الأعلام المنصوبة من الحجارة في المفازة المجهولة يستدل بها على الطرق. والثوة كالصُّوة، وربما نبت فوقها الحجارة ليهتدى بها، وإن العوة كالصوة التي هي العلم. وفي الحديث: "إن للاسلام صُوى ومناراً كمنار الطريق" وذكر أن "الصُوة"، حجر يكون علامة في الطريق.

وذكر أن "الثوة" حجارة ترفع فتكون علما" بالليل للراعي إذا رجع، وأخفض علم يكون بقدر قعدتك، وارتفاع وغلظ وربما نصبت فوقها الحجارة ليهتدى بها.

والمنار. العلم يجعل للطريق أو الحدّ للارضين والعلامة التي توضع على الحدود لتوضح معالمها. وقد كان أهل العربية الجنوبيهّ يضعون علامات على ااطرق لتشير إلى معالمها، فلا يضل عنها من يسلكها من الرجال والقوافل. وقيل في الإسلام للأعلام المبنية في طريق مكهّ أميال لأنها بنيت على مقادير مدى البصر من الميل الى الميل، وكل ثلاثة أميال منها فرسخ. والمنار محجة الطريق، قال الشاعر: لعك في مناسمها مـنـار  الى عدنان واضحة السبيل 

و العلامة، شيء منصوب في الطريق يهتدى به. ويقال لما يبنى في جوادِّ الطريق من المنازل يستدل بها على الأرض أعلام، والأعلام الحدود. والمعلم، ما يستدل به على الطريق من الأثر. فقد كان من الصعب حتى على خبراء البادية الاهتداء إلى الطرق بدون وضع علامات تشير إليها.

والنعامة المفازة، وقيل علم من أعلام المفاوز يهتدى به. و. "المنقل"، الثنية في الجبل وكل طريق في الجبل نقيل، في لغة أهل اليمن.

والآجام علامات وأبنية يهتدى بها في الصحاري. و "الوجم"، حجارة مركومة بعضها فوق بعض على رؤوس القور والآكام، وهي أغلظ وأطول في السماء من الأروم. وحجارتها عظام، لا يحركها الإنسان ولو اجتمع جمع منهم بصعوبة، ينسبها الناس إلى صنعة عاد. و "الآرام" الأعلام تنصب في المفاوز يهتدى بها، أو خاص بعاد، أي بأعلامهم، و "الأروم" الأعلام في المفاوز. وكان من عادة الجاهلية، انهم إذا وجدوا شيئاً في طريقهم لا يمكنهم استصحابه تركوا عليه حجارة يعرفونه بها حتى إذا عادوا أخذوه. وقيل قبور عاد.

وقد كان الجاهليون قد مهدوا الطرق وكسوا بعضها بمادة قوية مثل "الاسمنت" ووضعوا عليها العلامات. وقد أطلق العرب لفظة "العود" على الطريق القديم العادي.

وسن الطريق سنأَ إذا ساره، ويقال ترك سنن الطريق، أي جهته. وقد كان القادة يتنكبون عن سنن الطريق، ليباغتوا العدو، أو ليتجنبوا تعقبهم لهم. وقد كان لرؤساء القوافل علم باًلأبعاد والمسافات وباًلأماكن التي يجب النزول بها والتمون منها بالماء والطعام. ونجد في كتب أهل الأخبار أخباراً بأسماء منازل القوافل وبأبعادها وقد استقيت من أفواه رجال القوافل في الجاهلية. كما نجد إن للاعراب دراية مدهشة بمواضع الماء وبالطرق مع مرورها في بوادي يصعب السير فيها، وقد ورثوا علمهم هذا عن أسلافهم ومن تجاربهم الخاصة التي تعلموها من كثرة أسفارهم وتنقلاتهم.

وقد كان التجار وأصحاب القوافل يقطعون أسفارهم بمراحل، ينزلونه في كل مرحلة بمنزل يستريحون فيه ويموّنون أنفسهم بما يحتاجون اليه من ماء وزاد. ويعبرون عن المسافات التي تقطعها القافلة بين منزل ومنزل آخر ب "مسيرة"، فيقولون "مسيرة يوم" أو "مسيرة نهار" وما شابه ذلك. كما عرفوا الأبعاد بالفرسخ والميل. و "النزل" المنزل، وما هيىء للضيف ان ينزل عليه. ومنه منازل الطريق. وتراعى القوافل في سيرها إلى أهدافها الأخذ بأقصر الطرق الآمنة المطمئنة التي تتوفر فيها المياه، وقد تعدل من سيرها فتسلك طرقاً بعيدة أو وعرة إذا أحست بعدو يتربص لها في الطريق المسلوك، أو بلصوص ظهروا فيها، أو بقوم يريدون الاستيلاء على قافلتهم، كالذي فعله "أبو سفيان" مقفله من الشام يريد مكة، حيث بدل طريقه، فحوّله عن "بدر"، وساحل، فأضاع بذلك الفرصة على المسلمين ووصل سالماً بقافلته إلى مكة.

قوافل الميرة

وقد يجتمع نفر للذهاب إلى سوق للامتيار منه، وقد يذهب أصحاب البيوت إلى الأسواق ليمير أهله بما يحتاجون اليه من طعام ولباس، وكان "الأعشى" المازني الشاعر في جملة من يمتار من سوق "هجر". وقد خرج مرة يمتار في شهر "رجب"، من "هجر" فهربت امرأته بعده ناشزة عليه، فعآذت برجل منهم يقال له "مطرف بن نهشل"، فلما قدم الأعش أخبر أنها نشزت، وأنها عاذت ب "مطرف" فأتاه، فقال له: يا ابن عم عندك امرأتي معاذة فادفعها اليّ فامتنع مطرف، وكان أعزّبه، فخرج حتى أتى الي فعاذ به وأنشد شعراً، فكتب الرسول إلى "مطرف" أن يدفع زوجة الأعشى اليه، فدفعها اليه.

وقد استغل بعض الناس هذه الطرق للتعيش منها، فعمل على حفر ارضها، وعلى تهيئة ما يمكن تهيئته من وسائل الراحة للمسافريين،لينزلوا بها وليخففوا بذلك عنهم عناء السفر،: ليتزودوا بالماء الطيب العذب. فنشأت عشرات المنازل، التي أراحت المسافرين وأصحاب القوافل،وجعلتهم في مأمن من الجوع والعطش وامكانية التيه في البوادي والقفار. كما حفظت لهم حياتهم وأموالهم بضمان أصحاب ذلك المنازل للمسافرين حياتهم وأموالهم من تحرش أحد بهم ما داموا في جوارهم وفي حماهم، وضمان قبائلهم لهم حق الحماية والجوار، والقيام مهم بمعاقبة من يتطاول على المسافرين وينتهك حرمة الجوار.

وقد صارت الطرق مورداً من موارد العيش لمن لا عيش له ولا رزق من الصعاليك والذؤبان. فتجمعوا، وكوّنوا عصابات أخذت تتربص بالقوافل حتى إذا جاءت قافلة انقضت عليها وسلبتها، ثم فرت بما غنمته إلى مواضع نائية قصية بعيدة عن أي حكم، لتعيش على ما غنمته. وقد عرف هؤلاء ب "لصوص الطرق"، وكان المطرود من قبيلته ومن غضب أهله عليه فنفوه عنهم وتبرأوا منه، والعبيد الابقون، يتجمعون في المواضع الحصينة، وفي المراقي الصعبة التي تشرف على الطرق، ويهاجمون منها المارة والسابلة والقوافل. ولما ظهر الإسلام، كان قوم من هؤلاء جماعهم من كنانة، ومزينة، والحكم، والقارة، ومن اتبعهم من العبيد، قد اعتصموا في "جبل تهامة"، وآذوا الناس، فكتب لهم رسول الله، انهم إن آمنوا وأسلموا، فعبدهم حر، ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها، وما كان فيهم من دم أصابوه، أو مال أخذوه، فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس رد اليهم، ولا ظلم عليهم ولا عدوان.

الفصل الثالث بعد المئة
طرق الجاهليين

لا أملك نصاً جاهلياً فيه أخبار عن الطرق التي كان يسلكها الجاهليون في تنقلاتهم من مكان إلى مكان، لأغراض خاصة، أو للرعي أو للاتجار، وما سأذكره عن الطرق مأخوذ من الموارد الإسلامية فقط، وهي موارد تعرضت لموضوع "المسالك" والطرق التي كان يسلكها الحجاج والمسافرون والتجار في أيام الخلافة، داخل أرض الخلافة وخارجها. وعلى رأس هذه الموارد كتب "المسالك والممالك"، وبقية كتب "الجغرافيا" والسياحات ووصف جزيرة العرب ففي هذه الموارد وصف للسالك والطرق ولسكك البريد التي كانت في بلاد العرب وهي وإن كانت طرقاً إسلامية، إلا أنها بنيت على الطرق الجاهلية القديمة في الأغلب،وما فعله المسلمون، هو أنهم اختصروا بعضاً منها، أو أقاموا مستوطنات جديدة عليها، أو حفروا آباراً بين منازلها التي كانت متباعدة، بدليل أن المنازل والمواضع الجاهلية التي ترد أسماؤها في الشعر الجاهلي ترد كذلك في وصف الإسلاميين لطرق جزيرة العرب على النحو الوارد في ذلك الشعر، أو في أخبار أيام العرب أو في كتب السير والتواريخ.

ولهذا فسيكون اعتمادي في وصف طرق القوافل عند أهل الجاهلية، على هذه الموارد الإسلامية، مع العلم بأن بعض المسالك الجاهلية، قد ماتت وذهب أثرها، وان بعضاً منها بقي على حاله، وان بعضاً من الطرق المسلوكة في الوقت الحاضر، والتي مهدت وعمرت تعميراً حديثاً بالوسائل الفنية المعروفة في هذا اليوم، هي طرق جاهلية قديمة، كانت مسلوكة قبل الإسلام. وهي طرق طبيعية كانت مسلوكة لوجود الماء فيها في مواضع متقاربة، و قد أقيمت عندها مستوطنات، وبقيت على حالها، لم تذهب فائدتها، ولم تتغير مراضع الاستيطان فيها، لذلك صارت السبل التي تسلك بين أجزاء جزيرة العرب الى هذا اليوم.

ومما يؤسف له كثيراً، هو إن الموارد الإسلامية التي تحدثت عن غزوات الرسول وسراياه وعن الوفود التي قصددته من مختلف أنحاء جزيرة العرب، والعمال والرسل الذين أرسلهم الرسول الى سادات القبائل أو لجمع الصدقات،.ثم عن حروب الردة وعن عمال ا الخلفاء على أقاليم جزيرة العرب،سكتت عن ذكر الطرق التي سلكت والمنازل التي نزلت، ولم تفصل في ذكر المنازل والمراحل، فأضاعت علينا بذلك معرفة الطرق الجاهلية التي كان يسلكها الجاهليون في تجاراتهم وفي أسفارهم، ثم إن الذين بحثوا في الإسلام عن المسالك والطرق، وذكروا المنازل مع أبعادها بالأميال أو بالفراسخ، أو بالمراحل، لم يهتموا بالاشارة إلى ذكر تواريخ هذه الطرق أو المنازل والى أصلها، هل هي جاهلية أم هي اسلامية، أم معدلة، ولمثل هذه الملاحظات التي أملوها أهمية كبيرة باًلنسبة للبحث بالطيع. وسأبدأ بالطرق التي سلكها أهل الجاهلية فيما بين العراق وبلاد الشام. وقد كان منهم من يحاذي الفرات، حتى لا يبتعد عن الماء والغذاء وأهل الحضر، ثم يسلك الطرق الشمالية التي مهدها الروم، لدخول بلاد الشام، وهي في أيدي الروم في الغالب، غير إن الفرس استولوا عليها في بعض الأحايين، ونظراً إلى ما لهذه الطرق من الأهمية من الناحية الاقتصادية والعسكرية، فقد تشدد الروم في مراقبة القوافل التي تقصد بلاد الشام، أو تخرج منها للذهاب إلى العراق،وتصعبوا في السماح لها وللتجار بالمرور.

ومن التجار من كان يخرج من الحيرة إلى بلاد الشام، فيسلك طريق "القطقطانة"، وهو موضع سبق أن تحدثت عنه في أثناء كلامي على نهاية الملك "النعمان بن المنذر"، إذ جاء في رواية أن "كسرى" أمر به فسجن به. وهو موضع غير بعيد عن الكوفة من جهة البرية بالطف. ثم يسلك الطريق إلى "البقعة"، ثم إلى "الأبيض"، ثم إلى "الحوشي"، ثم إلى "الجمع"، ثم إلى "الخطى"، ثم إلى "الجبة"، ثم الى "القلوفي"، ثم إلى "الأعناك"، ثم إلى "أذرعات"، ثم إلى "دمشق".

وطريق آخر سلكه الناس من العراق إلى بلاد الشام يبدأ من "عين التمر"، وهو موضع تحدثت عنه في مواضع من هذا الكتاب، ويتجه نحو "الأخدمية"، ثم إلى "الخفية"، ثم إلى "ا الخلط"، ثم إلى "سوى"، ثم إلى "الأجيفر"، ثم الى "الغربة"، ثم إلى "بصرى".

وفد سبق لي إن تحدثت عن بصرى في مواضع من هذا الكتاب. وهي المدينة التي وصل إليها الرسول مع عمه "أبي طالب"، وبها كان "بحيرا" الراهب على ما جاء في كتب السير، واليها كان يقصد تجار مكة، حيث يتاجرون بأسواقها. وبها قبر "بحيرا"، وهو يزار.

وأما طرق العربية الشرقية مع العراق، فقد كان من الجاهليين من يسلك الطرق المائية فيتجه نحو سواحل اللخليج عن طريق الأبلة، فيحاذي الساحل، ومنهم من كان يتجه إلى الشرق نحو جزر الخليج، ثم يتجه منها إلى ساحل "عمان"، ومنهم من كان يسلك طرق البر. وقد ذكر "ابن خرداذبه"، إن الطريق من البصرة إلى عمان على الساحل، يمر إلى "عبادان"، ثم ا الى "الحدوثة"، ثم إلى "عرفجا"، ثم إلى "الزابوقة"، ثم إلى "المقر"، ثم إلى "عصى"، ثم إلى "المعرس"، ثم إلى "خليجة"، ثم إلى "حسان"، ثم إلى "القرى" "القرنتين"، ثم إلى "مسيلحة" "مسلحة"، ثم إلى "حمص"، ثم إلى ساحل "هجر"، ثم إلى "العقير"، ثم إلى "قطر"، ثم إلى "السبخة"، ثم إلى "عمان".

ومن الطرق المهمة التي تربط اليمامة بجنوب العراق، طريق يأخذ من الاْبلة "البصرة"، ثم يتجه نحو "كاظمة"، ثم إلى منازل ثلاثة لم يذكر أسماءها "ابن خرداذبه"، ثم إلى "القرعاء"، ثم إلى "طخفة"، ثم إلى "الصمّان"، ثم منازل ثلاثة لم يشر إلى اسمها "ابن خرداذبه"، و منها إلى "جب التراب"، ثم إلى منزلين اخرين، ومنهما إلى "سليمة"، ثم إلى "النباك"، ومنه إلى "اليمامة". ويتفق وصف هذا الطريق، وأسماء المواضع مع ما ذكره "قدامة بن جعفر" في كتابه "الخراج" سوى إن "إبن خرداذبه"، يبدأ بالبصرة، ثم ينتهي باًليمامة، أما "قدامة"، فيبدأ باليمامة وينتهي بالبصرة.

ونجد في كتاب بلاد العرب، للحسن بن عبد الله الاصفهاني وصفاً لطريق آخر يتجه من "حجر" اليمامة حتى ينتهي بالبصرة، ذكر فيه أسماء المواضع ووصف الأرض والمياه، وينتهي طريقه ب "سفوان"، "صفوان"، المعروف اليوم في العراق. وقد ذكر "كاظمة"، وذكر أنها على ساحل البحر، وبها حصن وتجار ودور مبنية، ثم ذكر أسماء مواضع تقع بينها وبين "سفوان". ولما كانت البصرة إسلامية، بنيت في زمن "عمر"، فإن الجاهليين، كانوا يسافرون من "الأبلة" التي حلت البصرة محلها إلى جزيرة العرب.

ويبدأ هذا الطريق بالحرمليّة، وهو ماءة في قف في شُعبة عليه نخلات، ثم تركب القف، فتأخذ على واد يقال له "ذو جراف"، فتجزعه عرضاً، ثم تنتهي إلى "المديدان"، ثم تجًزع "الحرملية" ثم وادي "بنبان" حتى تصل "سويس"، ثم "البديع"، ثم "الطنب"، ثم "ا لجرداء"، و هي رو ضة تشرب من وادي جراف. ثم "الراح". فإذا جزته وقعت في العرمة ثم تخترق وادي حرج حتى تنتهي إلى "الجرباء" وعلى يسار الجرباء في العرمة ماء يقال له "الرداع"، فإذا فصلت من العرمة من حيال الجرباء صرت إلى واد يقال له "مجمع الأودية" ثم تصير إلى "ذات الرّئال"، ثم تنتهي إلى "الحفر"، حفر سعد، ثم تفوز إلى "الدهناء"، فتصل "خشاخِش" فتقع في معبر، فتعبر جبال الدهناء، فتصل الى أبرق يقال له "القنفذ"،.ثم تستقبل "الصمان"، فتمضي فيه حتى تنتهي إلى "المعا"، ثم ترد "طويلعا"، وهو وسط الطريق بين حجر وبين البصرة. وهو موضع فيه ماء وفيه تجار، وحصن يتحصنون به من اللصوص.

ثم تجوز "طويلعاً" إلى واد يقال له "الشيط"، فإذا انحدرت من عقبة الشيط تأتي "الوريعة"، فإذا جزته، تأتي "الدوّ". فإذا فصلت في "الدو" صرت إلى "كفة العرفج"، وفي منقطع "الدو" حين تجوزه واد يقال له "وادي السيّدان"، وعلى الطريق ماء "النحيحة"، تخرج منه إلى "تياس"، وقريب منه ثمد يقال له "الفارسي"، ثم تجوز ثماد أخرى حتى تصل "المخارم"، فتهبط "كاظمة". ثم تخرج من "كاظمة" إلى "النجفة"، ثم تمضي إلى "الصليف" "الصليب"، ثم تهبط الى "أيرمى" "أيرمى الركبان"، وهو علم مبني من حجارة للطريق، وهو شبه شخص إنسان. ثم تصل "الحزيز"، ثم تهبط "سفوان"، ثم تخرج حتى تهبط "الأحواض"، وهو ماء للسانية، ثم تصل البصرة.

وهناك طريق يوصل "حجراً" باًلكوفة، يبدأ بالحبل، وهو ماء في ناحية القف. لراعية اليمامة، ثم تخرج منه فترد القف، ثم تمضي حتى ترد "البالدية"، فإذا خرجت منها وردت ماءً يقال له "الغميم"، ثم ترد وادياً يقال له "العتك"، ثم "مبايض"، ثم تجوزه إلى "تعشار"، ف "مويهة"، ثم "تلعة"، ثم "السقيا"، ثم تجوز الدهناء، فتعلو قفاً يوصلك إلى "المجازة" وهي من طريق مكة الذي يأخذ عليه البصريون، عليه المنار من بطن فلج. وهي منهل، ثم تجوزها فتقع في "اللوى" ثم تصير إلى "لينة"، وهي ماءة كبيرة، ثم تسير فترد "زبالة". وهي سوق من أسواق طريق الكوفة المؤدي إلى مكة. فإذا خرجت من "زبالة" وردت "القاع"، ثم تخرج منه إلى "العقبة" ثم ترد "الشقوق"، ثم "واقصة": ثم "العذيب".

ويذكر علماء اللغة إن العرب أطلقت "القعقاع" على الطريق من اليمامة إلى الكوفة، وذكر بعضهم إلى مكة.

وكان بين أهل "الحيرة" وبين أهل مكة اتصال تجاري وثيق، بل واتصال ثقافي أيضاً، فمنها حمل الخط العربي إلى مكة على رواية أهل الأخبار. وكان التجار يرحلون منها إلى "القادسية"، وهو موضع معروف سبق إن تحدثت عنه، وبه كانت وقعة القادسية. ومنه إلى "العذيب"، وهو مسلحة بين العرب وفارس في حد البرية، وبها حائطان متصلان من القادسية إلى العذيب ومن الجانبين كليهما نخل ، وبالعذيب أحساء، غزير الماء، يخرج الماء خريراٌ من قوة اندفاعه على ما يفهم من شعر ورد على لسان بعض الضبيين. ويخرج الإنسان من العذيب فيدخل المفازة، ويكون بنجد حتى يبلغ موضع "ذات عرق". والعذيب بين القادسية ومغيثة، وفي الحديث ذكر العذيب. وهو ماء لبني تميم. وهو طرف أرض العرب.

ويتجه الطريق من "العذيب" إلى المغيثة، وفيها برك. وماؤها ماء السماء، ثم يتجه إلى "وادي السباع"، ثم إلى "القرعاء"7، وفيه آبار، ثم إلى "واقصة"، ثم إلى "العقبة"، وبها آبار، ثم إلى "القاع"، ومن "القاع، الى "زبالة"، ومن "زبالة" الى "ا لشقوق"، ومن "الشقوق" إلى "البطان"، وهو قبر العبادي: ثم إلى "الثعلبية"، وهو ثلث الطريق فيها برك ، ثم إلى "الخزيمية"، وهي مدينة سميت "خزيمة" لأن خزيمة صيرّ فيها سواني، وكانت تسمى "زرود"، ثم إلى "الأجفر"، ثم إلى "فيد"، وهي نصف الطريق، وبها منزل العامل في الإسلام. وبها أسواق وقناة وزروع ، وبرك وآبار وعيون جارية، وفد عظم شأنها في الإسلام، ذكر أن بها حصناً، عليه باب حديد وعليها سور دائر، وكان الحجاج يودعون فيها فواضل أزوادهم إلى حين رجوعهم وما ثقل من أمتعتهم، وهي قرب "أجأ" و "سلمى" جبلي طيء. وقد ذكرت في شعر "زهير بن أبي سلمى"، إذ قال: ثم استمروا وقالوا إن مشربكم  ماء بشرفيّ سلمى فيد أوركك 

وتقع في فلاة فيَ الأرض بين أسد وطيء، اقطعها الرسول إلى "زيد الخيل". ثم إلى "توز"، فيها برك وآبار وحصن بناه "ابو دلف". ثم الى "سميراء" ، ثم الحاجر. فمعدن القرشى، وهو "معدن النقرة". وعنده تفترق الطريق، فمن أراد مكة نزل "المغيثة"، ومن أراد "المدينة" أخذ نحو العسيلة فهبطها. وهو منزل حاج العراق بين "اضاخ" و "ماوان". وفيه بركة وثلاثة آبار، بئر تعرف بالمهدي، وبئران تعرفان بالرشيد وآبار صغار للأعراب تنزح عند كثرة الناس وماؤهن عذب.

فمن أخذ على المدينة، فمن المعدن إلى العسيلة، ثم إن بطن نخل، ثم إلى الطرق، ثم إلى المدينة. وهي."يثرب". وذكر بعض أهل الأخبار إن "مرزبان اليادية" كان قد عينّ على المدينة في الجاهلية عاملاّ يجبي خراجها، وكانت قريظة والنضر ملوكاً ملكوها على المدينة على الأوس والخزرج، وفي ذلك يقول شاعر الأنصار: تؤدي الخرج بعد خراج كسرى  وخرج من قريظة والنضـر

ومن المدينة الى " السيالة"، ومنها إلى "الروحاء"، ثم إلى "الرويثة"، ومنها إلى "العرج"، ثم إلى "السقيا"، ثم إلى "الأبواء"، ثم "الجحفة"، ثم إلى "قديد"، ثم إلى "عسفان"، ثم إلى "مر الظهران"، ثم إلى مكة.

ومن أراد "مكة" قصد "مغيثة الماوان" ، ومن "مغيثة" إلى إالربذة" وماؤها كثير. واليها هاجر "أبو ذر" الغفاري، وبها مدفنه. وقد خربت سنة "319" للهجرة بالقرامطة. ومن الربذة إلى معدن بني سليم، ومن معدن بني سليم إلى العمق، ومنه إلى "أُفاعية" "الأفيعية" إلى "المسلح"، ثم إلى "الغمرة"، ومنه يعدل إلى اليمن، ومن الغمرة إلى "ذات عرق"، ومنه يقع الاحرام ، ثم إلى "أوطاس"، ثم إلى بستان بني عامر "بستان ابن عامز"، ثم غمر ذي كندة، ثم مشاش، ثم مكة.

ويلاحظ أن هذا الطريق هو من أقصر الطرق المؤدية من "الحيرة" إلى "المدينة"، وهو يمر بجبلي "طيء"، أي "جبل شمر"في الوقت الحاضر. ويمر على "حائل" بجبلي طيء، وهو مدينة في الوقت الحاضر ورد ذكرها في شعر "امرىء القيس" إذ يقول: يا دار ماوية بـالـحـائل  فالفرد فالجبتين من عاقل 

وبجيل "سلمى".مدينة اسمها "أُرك" ، عرفت بمدينة "سلمى"، وأصحابهما من "طيء": وقد انحاز إليها "خالد بن الوليد"، لما أرسله "أبي بكر". من "ذي القصة" لمحاربة المرتدين. وقد نزل "خالد" بأجأ، ثم تعيأ لملاقاة "طليحة الأسدي"، فالتقى به على "بزاخة".

ويسلك هذا الطريق في الوقت الحاضر الحجاح الذين يقصدون الحج عن طريق النجف بالسيارات.

و "الربذة" من القرى القديمة في الجاهلية، وهي عن المدينة من جهة الشرق على طريق حاج العراق على تحو ثلاثة أيام سميت ب "خرقة الصائغ" " بها مدفن "أبي ذر".

ومعدن بني سليم، هو لبني سليم، الذبن غزاهم الرسول غزوة "قرارة الكدر"، ويقال: "قرقرة بني سليم وغطفان"، لما بلغه إن بقرارة الكدر جمعاً من غطفان وسليم يريد الكيد للمسلمين. و "الكدر" ماءة لبني سليم في ديار غطفان ناحية المعدن. والى هذا الموضع أيضاً وصل للرسول في غزوته المعروفة بغزوة السويق، وسببها إن "أباسفيان" نذر ألا يمس راًسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً، انتقاماً لبدر، فسلك النجدية حتى نزل بصدور قناة إلى جبل يقال له "تيت"، من المدينة على بريد أو نحوه، ثم خرج إلى "بني النضير"، ثم خرج فأرسل رجالاً من قريش إلى ناحية من المدينة يقال لها "العرُيض"، فحرقوا في أصوار من نخل لها، وقتلوا رجلين، ثم انصرفوا راجعين، فخرج رسول الله في طلبهم حتى بلغ "قرقرة الكدر"، فوجد إن "أباً سفيان" قد فاته وأصحابه، وكان أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب الدقيق ويتخفون، وكان ذلك عامة زادهم، فلذلك سميت غزوة السويق.

وقد غزا الرسول "بني سليم" مرة أخرى فسار عليهم حتى بلغ موضع "بحران" معدناً بالحجاز من ناحية الفرع، فلما لم يجد أحداً منهم، وكانوا قد تفرقوا رجع عنهم. ويظهر إن قريشاً كانوا قد جاءوا اليهم، واتفقوا معهم على مهاجمة المدينة، بدليل ما ورد في خبر هذه الحملة من انه " غزا يريد قريشاً وبني سليم".

و "بحران" موضع بناحية الفرع من الحجاز، به معدن للحجاج بن علاط البهري. و "الفرع" باًلحجاز، من أضخم أعراض المدينة.

وهذا الطريق هو الطريق الذي كان أهل مكة في الجاهلية ليسلكونه إلى العراق. ولما خافت قريش طريقها الذي كانت تسلك إلى الشام حين كان من وقعة "بدر" ما كان، قررت سلوك طريق العراق، اًي هذا الطريق، واستأجرت لها دليلاً خريتاً بالطرق عالماً بها، هو "فرات بن حيان"، وخرجت القافلة تحمل مالاً كثيراً، فيه فضة كثيرة، وهي عظم تجارتهم، سلكت طريق "ذات عرق"، ثم خرج الدليل بهم على "غمرة"، وانتهى إلى النبي خبر العير وفيها المال الكثير، فأرسل "زيد بن حارثة" على سرية، التقت بالقافلة بموضع "القردة"،فظفر بالعير، وأفلت أعيان القوم. وأتى بدليلها أسيراً، وخمست الغنائم، فبلغ الخمس عشرين ألف درهم.

وقد ذكر "الهمداني"، أسماء منازل طريق الكوفة - يثرب، والكوفة - مكة على هذا النحو. الكوفة، فالقادسية، فالمغيثة، ثم القرعاء، ثم واقصة ثم العقبة، ثم القاع، ثم زبالة، ثم الشقوق، ثم البطان، ثم الخزيمية، ثم الأجفر، ثم فبد، ثم توز، ثم سميراء، ثم الحاجر، ثم معدن النقرة، ثم العسيلة، ثم بطن نخل، ثم الطرف، ومنه إلى المدينة.

ومن الطرف يؤدي الطريق إلى مكة، فيمر بالسيالة، ثم الروحاء، ثم الرويثة، ثم العرج، ثم السقيا، ثم الأبواء، ثم الجحفة، ثم قديد، ثم عسفان، ثم مرّ الظهران، ثم مكة.

ومن أخذ الجادة من مكة إلى معدن النقرة، فمن مكة إلى البستان، ثم ذات عرق، ثم الغمرة، ثم المسلح، ثم الأفيعية، ثم حرة بني سليم، ثم العمق، ثم السّليلة، ثم الربذة، ثم ماوان، ثم معدن النقرة. وهو ملتقى الطريقين.

وقد عرف طريق العراق من الكوفة إلى مكة ب "المثقب". يقال: سلكوا المثقب، أي مضوا إلى مكة. وقيل انه طريق ما بين اليمامة والكوفة. وذكر بعض العلماء انه طريق كان بالشام والكوفة وكان يسلك في أيام بني أمية. ويظهر إن الاسم من الأسماء القديمة، بدليل اختلاف العلماء في تعليل التسمية، فقال بعضهم سمي لمرور رجل به يقال له مثقب، وقال بعض آخر سمي بذلك لأن بعض ملوك حمير بعث رجلاً يقال له مثقب على جيش كثير إلى الصين فأخذ ذلك. الطريق فسمي به.

وكان حاج البصرة إذا أرادوا الحج، اتجهوا إلى "المنجشانية" على ستة أميال من اليصرة، تنسب إلى "منجش" مولى "قيس بن مسعود" ، ثم إلى "الحفير"، وهو ركايا ما بين "ماوية" و "المنجشانيات" ، ثم إلى "الشجى"، ثم إلى "الخرجاء"، وهو ماءة احتفرها "جعفر بن سليمان " على طريق حاج البصرة ، ثم الى "الحفر" ، ثم إلى "ماوية"، ثم إلى ذات العشر، ثم إلى "الينسوعة"، ينسوعة القف، منهل من مناهل طريق مكة على جادة البصرة، بها ركايا كثيرة عذبة الماء عند منقطع رمال الدهناء بين ماوية النباج. ثم الى "السُمَينة"، أول منزل من النباج لقاصد البصرة ، ثم إلى "النباج"، ويقال له نباج بني عامر بن كريز، وهو بحذاء "فيد"، وبه يوم من أيام العرب، مشهور لتميم على يكر بن وائل. وقد استنبظ ماءه "عبد الله ين عامر ابن كريز"، شقق فيه عيوناً وغرس نخلاً، وسكن به رهطه بنو كريز.

و "عامر بن كريز بن ربيعة" القرشي العبشمي، والد "عبد الله"، وهو من المحمقين في قريش، ذكر انه أسلم يوم الفتح، وكان ابنه "عبد الله" أميراً على البصرة زمن عثمان ، كما كان صهراً لمعاوية، ومن أغنياء المسلمين.

ومن النباج إلى "العوسجة"، ثم إلى "القريتين"، ثم إلى "رامة"، ثم إلى "امرة"، ثم إلى "طخفة"، ثم إلى ""ضرية"، ثم إلى "جديلة" ثم الى "فلجة"، ثم إلى "الدثينة" "الدفينة"، ثم إلى "قبا"، ثم إلى "مران"، ثم الى "وجرة"، ثم إلى "أوطاس"، ثم إلى "ذات عرق" ثم إلى بستان ابن عامر، ثم إلى مكة.

ويلاحظ أن مبدأ هذا الطريق، قد عمر في الإسلام، وذلك بسبب تأسيس البصرة، ولكنه يسلك أيضاً الطريق الجاهلى القديم في مواضع كثيرة منه.

و "بستان ابن عامر" عند مكة، ويرى بعض العلماء أن هذه التسمية مغلوطة وأنها من أقوال سواد الناس وأن الصحيح بستان ابن معمر، وهو مجتمع النخلتين اليمانية والشامية. بينما يرى بعضهم العكس، إذ قال: "وبستان ابن عامر بنخلة. هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة. ولا تقل بستان ابن معمر، فإنه قول العامة. وورد أيضاً "بستان ابن عامر لعمر بن عبد الله بن معمر ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد ين تميم بن مرة بن كعب بن لؤي ، ولكن الناس غلطوا فيها، فقالوا: بستان ابن عامر، وبستان بني عامر، وإنما هو بستان ابن معمر، وقوم يقولون نسب إلى ابن عامر الحضرمي، وآخرون يقولون نسب إلى ابن عامر بن كريز". وذكر أنه على مقربة من هذه البستان موضع يقال له "المسدّ"، وهو مأسدة.

ويقع موضع "السّيّ"، وهو ماء من ذات عرق إلى "وجرة" على ثلاث مراحل من مكة إلى البصرة وخمس من المدينة. فهو من منازل طريق البصرة - مكة. واليه أرسل الرسول "شجاع بن وهب" الأسدي، على "بني عامر" بناحية "ركبة". ووجرة في طريق البصرة. وأما "ذات عرق" فحد يفصل في عرف علماء جزيرة العرب بين الحجاز ونجد. فمن ذات عرق إلى الغرب الحجاز، ومن ذات عرق مشرقاً، فهو نجد. واذا جزت "وغرة" ووجرة فأنت في نجد إلى أن تبلغ "العذيب"، و "غمرة" في طريق الكوفة. وهي فصل ما بين تهامة ونجد.

وعلى مقربة من "ذات عرق"، يقع قبر أبو رغال في موضع يقال له "الغمير"، بين ذات عرق وبين البستان.

وقد ذكر "القلقشندي" طريقاً يبدأ بالبصرة ويتجه نحو "اليمامة"، على هذا النحو: "البصرة"، ثم "المنجشانية"، ثم إلى "الكفير?" "الحُفير"، ثم إلى "الرحيل"، ثم إلى "الشجى"، ثم إلى "الحفر"، ثم الى "ماوية"، ثم إلى "ذات العشر"، ثم إلى "الينسوعة"، ثم إلى "السمنية"، ثم إلى "النباج"، ثم الى "العمومية ثم" "العوسجة"، ثم إلى "القربتين"، ثم إلى "سويقة"، ثم إلى "صداة"، ثم إلى "السدّ"، ثم إلى "السقي"، ثم الى "المنبية"، ثم إلى "السفح"، ثم إلى "المريقة"، ثم إلى "اليمامة".

وذكر "الهمداني" أسماء بعض المواضع التي كان يسكنها المسافرون من الكوفة إلى العراق، وهي الطرق السالكة التي عرفت ب "المحجة"،لأنها طرق الحج.

وقد ذكر "الهمداني" أسماء مواضع يمر بها الطريق من "نجران" إلى البصرة. وهي: نجران، ثم كوكب، ثم الحفر، ثم العقيق، وهو معدن ذهب، ثم "الفلج"، ثم "الخرج"، ثم "الخضرمة"، ثم "الفقى"، ثم البصرة.

وإذا أراد أهل اليمامة السفر إلى مكة ،سافروا إلى العرض، وهو بطن العرض، عرض بني حنيفة، الوادي المعروف اليوم باًسم الباطن، وفيه مياه وقرى ، ثم "الحديقة"، ثم إلى "السيح"، وهو سيح "آل ابراهيم بن عربي" والى اليمامة في عهد "عبد الملك" و "هشام"، ثم إلى "الثنية"، ثم إلى"سقيراء"، ثم إلى "السدّ"، ثم إلى صداة ، ثم إلى "شريفة"، ثم إلى "القريتين" من طريق البصرة، فيتصل الطريق بطريق البصرة، ويسلكها على نحو ما مرّ. وقد ذكر " قدامة" منازل هذا الطريق على هذا النحو: "العرض"، ثم "حديقة"، ثم "السيح"، ثم "الثنية العقاء"، ثم "سقيراء"، ثم "السدّ"، ثم "مراره"، ثم "سويقة"، ثم "القريتين"، ثم طريق البصرة.

ونجد في "بلاد العرب" وصف طريق يبدأ ب "حجر" اليمامة وينتهي بمكة. ويبدأ ب "بطن العرض" ، ثم "السيح"، ثم "ثنية الأحيسى"، ثم ناحية من "قر قرى" اليمامة، ثم "المنفطرة"، ثم "الغزُ يز"، ثم "الو ركة"، ثم "أهو ى" و "أضيمر"، ثم "العفافة"، ثم "عكاش"، ثم "المروت"، ومنه إلى "السحامة" وعليها طريق المنار، واذا جزت أهوى، فمن ورائها مويهة يقال لها "الأسودة"، ثم تعبر رملة يقال لها "جراد"، ثم تصل "الهلباء" بحايل، فإذا جزت "الهلباء" وقعت في واد، تجوزه فترد "عكاشا"، ثم ترد "العيصان"، وهو معدن ، ثم ترد معدن الأحسن، وهو من أول عمل المدينة، ثم تجوزه إلى "العلكومة"، ثم ترد "الدثينة" "الدفينة"، قرية على طريق البصرة إلى مكة ، ثم يسلك هذا الطريق المواضع التي ذكرتها عند حديثي على طريق البصرة - مكة.

وكان لأهل اليمامة طرق توصلهم إلى اليمن، منها طريق يؤدي إلى "الخرج"، ثم الى "نبعة"، ثم إلى "المجازة"، و "المعدن"، و "الشفق"، "الشقق ?"، ثم "الثور"، ثم "الفلج"، وهو قرية كبيرة بها نخيل ومزارع وعين يقال لها "الذبا" يخرج منها سبعة عشر نهراً، وهي من الأفلاج. ثم "الصفا"، وبئر الآبار ونجران، ثم الحمى وبرانس، ومريع، والمهجرة. ثم يسلك طريق المهجرة ألمؤدي إلى صنعاء.

وذكر "الهمداني" طريقاً يصل نجران باليمامة ثم ينتهي بالبصرة. ومعنى ذلك طريق يوصل البصرة باليمن، فنجران من أهم عقد الطرق المؤدية إلى اليمن.

ويبدأ الطريق بنجَران ، ومنها إلى "كوكب"، ثم الى "الحفر"، ثم "العقيق"، وهو معدن يعق عن الذهب، وهو لجرم وكندة، ثم "المقترب"، ثم "الفلج"، ثم "الخرج"، ثم "الخضرمة"، ثم "الفقى" ، وهو طرف اليمامة: ثم البصرة.

وذكز "الهمداني" أن من يريد التوجه من "الفلج" إلى اليمامة، سلك طريق "العقيمة"، أو "مخمسة". ومن أخذ "الثفن" من الفلج إلى اليمامة أخذ أسافل أودية جعدة، فيأخذ الغادي على اًسفل الغيل من الثفن، ثم يقطع "غلغل" و "الثجة" و "النضخ" " فإن أحب شرب بدلاميس، ثم نسلة إلى الخرج، وإن اًحب شرب بالمرّاء، ثم برك ثم بريك.

وإذا أراد أهل البحرين التوجه إلى اليمامة، صعدوا الطريق، فيكون عن يمينهم "خرشيم"، وهي هضاب وصحراء مطرّحة إلى "الحفرين" وإلى "السلحين"، ثم "الحابسية"، ثم "مزَلقَّة"، ثم "الموارد" ثم الفروق الأدنى ثم الفروق الثاني، ثم الخوار، خوّار الثلع، ثم الصليب، وعن يمينك الصلب، صلب المِعَي والبرقة برقة الثور. ثم الصتمان، ثم ترجع إلى طريق "زَرٌى"، فعن يسارك "الدُبيب"، وعن يمينك "الدحرض"، ثم تقطع بطن "قو"، ثم السمراء، ثم تأخذ في الدهناء وتأخذ على الشجرة، ثم إلى "الخل" خل الرمل، ثم قَلْت هبل، ثم "النظيم" نظيم الجفنة، ثم شباك العرمة والغرابات، ثم تقطع العرمة و "شيعا"، ثم تسير في "السهّباء"، ثم تقطع جبيلاّ يقال له "أنقد"، ثم الروضة، ثم ترد "الخضرمة" جو الخضارم. وهي أول اليمامة قبل البحرين.

وكان لأهل نجد جملة طرق يسلكونها في اتجاههم نحو "مكة" أو المدينة أو اليمن. وقد عرف طريق نجد إلى مكة ب "الجلال" وب "مثقب" وب "القعقاع". وذكر أن "المثقب" طريق العراق من الكوفة إلى "مكة"، وكان فيما مضى طريقاً بن اليمامة والكوفة يسمى "مثقباً"، وذكر أنه طريق العراق إلى مكة، وقد أوجدوا لذلك جملة تعاليل لحلّ مشكلة التسمية. فقالوا: إنهُ سميّ مثقباً لمرور رجل به يقال له مثقب. وقالوا: بل لأن بعض ملوك حمير بعث رجلاً يقال له مثقب على جيش كثير إلى الصين، فأخذ ذلك الطريق فسمي به. وذكر بعض آخر. أنه طريق كان بين الشام والكوفة، وكان يسلك في أيام بني اًمية.

وذكر إن "القعقاع" الطريق لا يسلك إلا بمشقة، وهو طريق من اليمامة إلى الكوفة، وقيل إلى مكة.

و قد يكون طريق نجد إلى المدينة و مكة جزءاً من طريق العراق إلى المدينتين، و قد ذكرت أسماء بعض المواضع التي يسلكها القادمون من الكوفة أو الحيرة ثم من البصرة إلى المدينة أو مكة، و هي تمرّ بعد اجتيازها حد العراق بنجد. و من هذه المواضع: "القَرْدة" "الفَردة"، الذي كانت إليه سرية "زيد بن حارثة" للتعرض بقافلة لقريش تنكبت طريق الشام خوفا من تحرش المسلمين بها و سلكت طريق العراق في الشتاء، فالتقى بها "زيد بن حارثة" بهذا الموضع فظفر بالعير.

و من مواضع طرق نجد "قطن"، و هو جبل بناحية "فيد"، به ماء لبني أسد غابن خزيمة بنجد، و إليه أرسل الرسول، "أبا سلمة بن عبد الاسد"، و قد نكب بالسرية عن طريق و سار بها ليلاً و نهاراً حتى يعجل إلى ملاقاتها، فنذر بهم القوم و تفرقوا، ثم عاد بعد أن وجد سرحاً و معه ثلاثة رعاء مماليك. و "قطن" جبل في غرب "القصيم" من نجد لا زال معروفاً بقرب بلدة "الفوارة".

و نَجْدٌ في اصطلاح بعض العلماء، ما بين "العذيب" إلى "ذات عرق" و إلى اليمامة و إلى اليمن و إلى جبلي طيئ، و من المربد إلى "روجرة". و ذات عرق أول تهامة إلى البحر. وذكر ان الاعراب يقولون: إذا خلقت "عجلز" مصعداً، فقد انجدت. و "عجلز" فوق "القريتين"، فإذا أنجدت عن ثنايا ذات عرق، فقد أتهمت، فإذا عرضت لك الحرار بنجد قيل ذلك الحجاز. و ذكر أن نجداً الاربضة التي تقع جنوب العراق و الشام، و شمال تهامة و اليمن. و ذكر أن كل ما وراء الخندق على سواد العراق، فهو نجد. و الغور كل ما انحدر سيله مغربياً و ما أسفل منها مشرقياً فهو نجد. و تهامة ما بين ذات عرق إلى مرحلتين من وراء مكة، و ما وراء ذلك من المغرب فهو غور، وما وراء ذلك من مهب الجنوب فهو السراة إلى تخوم اليمن.

وأما طرق العربية الغربية، فأهمها الطرق الممتدة من بلاد الشام إلى اليمن، و تتصل بها الطرق الآتية من مصر. و قد كان الجاهليون يقصدون دمشق للاتجار بها وللاصطياف، ولزيارة أمراء الغساسنة الذين كانوا قد امتلكوا قصوراً بها، غير أن بعضاً منهم كان يقف عند "بصرى"، يتاجر في أسواقها ثم يعود. ومنهم من كان يتوجه إلى "غزة"، للاتجار بها لوجود تجار بها قصدوها من سواحل البحر الأبيض، معهم تجارة ساحل البحر. وقد كان "هاشم" ممن قصد هذه المدينة.

ويبدأ طريق دمشق ب "الكسوة " ومن "الكسوة" إلى "جاسم"، وهو موضع ورد ذكره في شعر لحسان بن ثابت، إذ قال: قد عفا جاسم إلى ببت رأس  فالجوابي فحارث الجولان

ومن "جاسم" إلى أفيق، وأفيق من أعمال حوران، وهو عقبة طويلة، وأفيق في أول العقبة ينحدر منها إلى غور الأردن ومنها يشرف على طبرية. ومن "أفيق" إلى "طبرية". وتعد "سرغ"، في آخر الشام وأول الحجاز، بين "المغيثة" و "تبوك"، وفيها لقي "عمر" أمراء الأجناد ، ثم "تبوك" وهي قرية مهمة يرد خبرها في أخبار غزوات الرسول، إذ عرفت بغزوة "تيوك". وبها صالح رسول الله "يحنة بن رُ ؤبة". صاحب أيلة، وأهل جرباء وأذرح.

ومن "تبوك" يتجه الطريق إلى "المحدثة" ثم إلى "الأقرع"، ثم إلى "الجنينة"، ثم إلى "الحجر"، وهي في نظر أهل الاْخبار ديار ثمود وبلادهم، وقد أشير إليها في القرآن: )كذب أصحاب الحجر المرسلين" ، وقد مر بها رسول الله في غزوته لتبوك، ونهى عن دخول مساكنها وعن الشرب من مائها، واستحث راحلته، وأسرع حتى خلفها. وذكر "إن بيوتها منحوتة في الجبال مثل المغاور، كل جبل منقطع عن الآخر، يطاف حولها، وقد نقر فيها بيوت تقلّ وتكثر على قدر الجبال ا لتي تنقر فيها. وهي بيوت في غاية الحسن فيها بيوت وطبقات محكمة الصنعة وفي وسطها البئر التي كانت تردها الناقة. وهي قرية لا تزال معروفة مسكونة.

ثم إلى "وادي القرى"، فتمر القوافل في قرى عديدة، ثم إلى "الرحيبة"، ثم إلى "ذي المروة"، وهو قرية بين "ذي خشب"، و "وادي القرى" ، ثم إلى "المر"، ثم إلى "السويداء" ، ثم إلى "ذي خشب"، وهو وادٍ على مسيرة ليلة من المدينة، ذكر في الأحاديث والمغازي، ويقال له "واديً خشب"، فيه عيون ، ثم الى المدينة.

ولما سار الرسول إلى "تبوك" نزل "ذا خشب"، ثم "ثنية الوداع"، ثم مرَّ بوادي القرى، ثم بالحجر، ثم تبوك.

وهناك طريق يمتد من "أيلة" إلى "حقل"، ثم "مدين"، ثم إلي الأغواء، ثم إلى "الكلابة"، ثم إلى "شغب"، ثم إلى "بدا". وشغب موضع ذكر في حديث الزهري، انه كان له مال بشغب وبدا، وهما موضعان كانا في الشام، وبه كان مقام "علي بن عبد الله بن عباس" وأولاده إلى أن وصلت اليهم الخلافة. وبشغب مات الزهري، وهو "أبو يكر محمد بن مسلم ابن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري"، المدني، مات سنة "124 ه" في أمواله بها. وذكر انه قبر بأداما، وهي خلف شغب وبدا، وهي أول عمل فلسطين وآخر عمل الحجاز، وبها ضيعة "الزهري" التي كان فيها.

ومن "بدا" يتهجه الطريق إلى"السرحتين"، ثم إلى "البيضاء"، ثم إلى "وادي القرى"، ثم إلى "الرحيبة"، ثم إلى "ذي المروة"، ثم إلى "المر"، ثم إلى " السويداء"، ثم إلى "ذي خشب"، ثم إلى المدينة، ومنها إلى مكة. وقد كان حجاج مصر يسلكون هذا الطريق،إذا جاؤوا من البر.

وهناك طريق ساحلي سلكه حجاج مصر أيضاً، يبدأ بشرف البعل، ثم إلى "الصلا"، ثم الى "النبك" ، ثم إلى "ظبة"، ثم إلى "عونيد"، ثم إلى "الوجه"، ثم إلى "منخوس"، ثم إلى "الجرة"، ثم. إلى "الأحساء" ثم إلى "ينبع"، ثم إلى "مسئولان"، ثم إلى "الجار"، ثم الى المدينة.

و "الجار" على ساحل البحر، وهو فرضة المدينة، ترفأ اليه السفن من أرض الحبشة ومصر وعدن، وبحذائه جزيرة في االبحر ميل في ميل يسكنها التجار. و "ينبع" حصن له عيون فوّارة، ذكر بعضهم أنها ماثة وسبعون عيناً، ونخيل وزروع، بطريق حاج مصر عن يمين الجائي من المدينة إلى "وادي الصفراء"، وقد جفت عيونه فيما بعد، كما ذكر من زارها من الباحثين.

وأما طريق المدينة المؤديَ الى مكة، فيمر ب "الشجرة"، وهو ميقات أهل المدين ، ثم إلى "ملل"، ثم إلى "السيالة". وقد ذكر أنها أول مرحلة لأهل المدينة، إذا أرادوا مكة، وأنها بين "ملل" والروحاء. ثم إلى "الرويثة" ثم إلى "السقيا"، فيها نهر جار، بين المدينة ووادي الصفراء. ثم إلى "الأبواء"، وهي قرية من أعمال "الفرع" بين المدينة والجحفة ، ثم إلى "الجحفة"، وهي من تهامة، وفيها آبار، وهي ميقات أهل الشام، وكانت تسمى "مهيعة"، فنزل بها "بنو عبيل"، وهم اخوة عاد وكان أخرجهم العماليق من يثرب فجاءهم سيل جحاف فاجتحفهم فسميت الجحفة. وهكذا فسر "ابن الكلبي"، سبب تسمية هذه القرية القريبة من البحر بهذه التسمية.

والأبواء من المنازل التي كان يطرقها المسافرون إلى بلاد الشام، فهي على طريق التجارة القديم. وللرسول غزوة عرفت بغزوة الأبواء وبغزاوة ودّان،وصل فيها إلى موضع "ودّان"، وكان يريد اعتراض عير لقريش، مرت بهذا المكان، وهي أول غزوة غزاها الرسول. وقد وادع فيها "بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة" على ألا يكثروا عليه ولا يعينوا أحداً عليه ، مما يدل على إن هذا الموضع كان لبني ضمرة في ذلك العهد. وورد انه كان لبني ضمرة ولغفار وكنانة.

وودّان قرب الأبواء والجحفة من نواحي "الفرع"، بينها وبين "هرشى" ستة أميال، وبينها وبين "الأبواء" نحو من ثمانية اًميال، وكانت قرية سكنها "الصعب بن جثامة" الليثي من أصحاب الرسول، فنسب إليها.

و "هَرشٌى" ثنية قرب "الجحفة" في طريق مكة يرى منها البحر، ولها طريقان فكل من سلكهما كان مصيبأ، وهي على طريق الشام وطريق المدينة إلى مكة في أرض مستوية، وأسفل منها "ودّإن" على ميلين مما يلي المغرب. ويتصل بها من الغرب خبت رمل في وسط هذا الخبت جبل أسود شديد السواد صغير يقال له طفيل.

ومن الجحفة يتجه المسافر إلى "قُد يد" ، ثم إلى "عسفان"، ثم إلى بطن مر، ثم الى مكة. و "بطن مر"، قرية كبيرة، وعلى أربعة أميال منها قبر "ميمونة" زوجة النبي، وعلى مسافة منها مسجد عائشة، ومنها بحرم أحل مكة، وهو حد الحرم.

والجحفة من منازل طريق تجارة مكة إلى الشام، ولذلك صارت هي والمواضع التي تقع على هذا الطريق من الأهداف ا التي قصدها المسلمون للتحرش بقوافل قريش. ومن نواحي الجحفة "ثنية المرة"، ومنها سار "عبيدة بن ا الحارث ابن المطلب" على عر لقريش يحرسها مائتان من المشركين بقيادة "أبو سفيان"، أو غيره وذلك في السنة ا الأولى من الهجرة، فالتقى بها على ماء يقال له "أحياء" من بطن "رابغ" على عشرة أمال من الجحفة، وأنت تريد قديداً عن يسار الطريق.

و "رابغ" وادٍ عند الجحفة قرب البحر بين "البزواء" و "الجحفة" دون "عزور"، وقرية لا تزال معروفة. بينها وبين "بدر" خمس مراحل. الأول "قاع البزواء"، ثم عقبة وادي السويق، ثم آخر ودان، ثم شقراء، ثم رابغ. وهي اليوم قرية، مياهها عذبة ذات مزارع ونخيل.

وأرسل الرسول سرية أخرى إلى "الخرّ ار" للتعرض لعير قريش التي كانت تسلك الجحفة، فلما وصلت "الخر"از" من الجحفة قريباً من "خم"، وجدت عير قريش قد سبقتها، ونجت. و "خم" غدير دون الجحفة وقيل بالجحفة.

وعلى مسيرة يوم من "ينبع"، يقع جبل "رضوى" الذي يبعد سبع مراحل عن المدينة، ومن نواحي هذا الجبل ناحية "بواط"، واليها خرج الرسول غازياً معترضاً عير قريش، التي كانت مارة بهذا المكان. وكانت قافلة كبيرة تتألف من ألفين وخمسمائة بعير، يحرسها مائة رجل من قريش، فيها "أمية بن خلف"، وقد أفلتت القافلة ونجت، دون أن يقع أي قتال.

وببطن ينبع موضع يقال له: "ذو العشيرة"، "ذات العشيرة"، اليه كانت غزوة "العشرة" "غزوة ذات العشيرة"، حين بلغ الرسول خبر خروج عير لقريش إلى بلاد الشام، وقد جمعت قريش أموالها في تلك العير، ولكن القافلة نجت، فوصلت سالمة إلى بلاد الشام، وهي التي خرج الرسول في طلبها لما عادت، وكانت وقعة بدر. فرجع الرسول إلى لمدينة، بعد أن صالح "بني مدلج" وحلفاءَهم "بني ضمرة".

ولما هاجر الرسول من مكة إلى المدينة سلك به الدليل طريقاً لا تسلكه القوافل، أي طريقاً لا يسلكه المسافرون عادة إلى المدينة، ليتجنب من ملاحقة قريش له. سلك به وبصاحبه "أبي يكر" أسفل مكة، ثم مضى بهما حتى حاذى بهما الساحل، وعارض الطريق أسفل من "عسفان"، ثم سلك بهما على أسفل "أمج"، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعدما جاوز "قديداً"، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك، فسلك بهما "الخرّار"، ثم سلك بهما "ثنية المرة" "ثنية المراة"، ثم أجاز بهما "مدلجة لفف " "لقف"، ثم استبطن بهما "مدلجة مجاج " ، مجاج"، طريق يقال له "المدلجة" بين طريق "عمق " وطريق الروحاء. ثم سلك مرجح من مجاج ، ثم بطن "مرجح ذي العضوين " ثم "بطن ذي كشد" "بطن ذات كشد" "ذي كشد"، ثم أخذ بهما على "الجداجد"، ثم على "الأجرد"، ثم سلك بهما "ذا سلم" "ذا سمر" من بطن أعداء "مدلجة تعهن"، ثم على "العبابيد"،ويقال "العبايب " ويقال "الغيثانة" "العتبانة"، ثم اجاز بهما "الفاجة"، ويقال "القاحة". ثم هبط بهما "العرج"، ثم خرج بهما دليلهما من العرج، فسلك بهما ثنية "العاثر" "الغابر" "الأعيار" ، ويقال "ثنية الغاثر" ، عن يمين "ركوبة"، ثم هبط "بطن رئم " "بطن ريم " ، ثم قدم بهما "قباء"، ثم "يثرب".

ولما سمع الرسول بقدوم "أبو سفيان " مقبلاً من الشام في عير لقريش عظيمة فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم، خرج لملاقاتها في موضع "بدر". وكان بدر طريق ركبان قريش من أخذ منهم طريق الساحل إلى الشام. فخرج من المدينة على نقب المدينة، فنزل بالبقع، ويقال بئر أبي عتبة، وهي على ميل من المدينة، ثم اتجه نحو "بيوت السقيا"، فضرب عسكره هناك. ثم أمر أصحابه إن يستقوا من "بئر السقيا"، وصلى عند بيوت السقيا، وسلك من السقيا بطن العقيق حتى نزل تحت شجرة بالبطحاء، ثم سلك "في ا الحليفة"، ثم على "أولات الجيش " "ذات الجيش"، ثم على "تربان"، ثم على "ملل"، ثم على "غميس الحمام " من "مريين"، ثم على صخيرات اليمام، ثم على "للسيالة"، ثم على "فج الروحاء"، ثم على "شنوكة"، وهي الطريق المعتدلة، ثم على "عرق الظبيتة" "الظبية"، ثم على "سجسج"، وهي بئر الروحاء، حتى إذا كان بالمنصرف، ترك طريق مكة بيسار وسلك ذات اليمين على "النازية" يريد " بدراٌ"، فسلك في ناحية منها، حتى جزع وادياً يقال له "وحقان " بين "النازية" وبين مضيق الصفراء ثم على المضيق انصب منه إلى "الصفراء"، فهي قرية بين جبلن، ثم سلك إلى واد يقال له "ذ فران"، ثم سلك على ثنايا يقال لها "الأصافر"، ثم انحط منها إلى بلد يقال له "الدّبةّ" "الدية"، وترك "الحنان " بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل، ثم نزل بدراً.

و "السقيا"، موضع به ماء، بين المدينة ووادي الصفراء ، يعرف اليوم ب "أم البرك".

و "شنوكة"، جبل جمع على "شنائك " في شعر لكثير، لأنه ثلاث أجيل صغار منفردات من الجبال، بمر منها الطريق إلى بدر والصفراء وإلى النازية ورحقان، ويدع المنصرف إلى يساره. وتقع بين "المنصرف " و بين الروحاء. ولا تزال معروفة.

و "المنصرف"، موضع يقال له "المسيجد" في الوقت الحاضر، وهو قرية كبيرةْ. وتقع على طريق المدينة المتجه الى "الصفراء" فالساحل والذي يتصل بجدة. وهو غير بعيد عن "النازية". و "النازية" عين ثرة على طريق الآخذ من مكة إلى المدينة قرب الصفراء، وهي إلى المدينة أقرب.

و "بدر" أسفل وادي الصفراء، وهو إلى المدينة أقرب، يقال إنه هو منها على ثمانية وعشرين فرسخاً، وبينه وبين "الجار"، وهو على ساحل البحر ليلة. وبه بئر حفرها رجل من غفار، اسمه "بدر بن يخلد بن الضر بن كنانة" وقيل "بدر بن قريش بن بخلد بن النضر بن كنانة، وقيل بدر رجل من "بني ضمرة" سكن ذلك الموضع فنسب اليه، ثم غلب اسمه عليه، وقيل بدر رجل من جهينة كان يملك البئر فسميّت به. ولهم تفاسير أخرى من هذا القبيل في تعليل سبب تسمية بدر بدراً. وبدر قرية كبيرة في الوقت الحاضر أسفل "وادي الصفراء"، يتجه منها طريق إلى "ينبع"، ومن ينبع إلى مكة. وكان "أبو سفيان " لما بلغ "الزرقاء" من بلاد الشام، وهو منحدر إلى مكة، أخبره أحدهم إن محمداً قد كان عرض لعيرهم في بدأنهم، وانه تركه مقيماً ينتظر رجعتهم، فخرج خائفاً من الرصد، فلما بلغ الساحل،أرسل رسولاّ استأجره بعشرين مثقالاً، وأمره إن بخبر قريشاً إن محمداً قد عرض لعيرهم، فذهب اليهم وأخبرهم، فتجهزوا وأسرعوا لانقاذ قافلة "أبي سفيان"، الذي خاف خوفأ شديداً حين دنا من المدينة، فلما أصبح "أبوسفيان " ببدر، ضرب وجه عيره فساحل بها، وترك بدراً يساراً وانطلق سريعاً، حتى بلغ مكة. وكان أهل مكة قد خرجوا من مكة على طريق "مرّ الظهران"، ثم "عسفان "ثم "قديد"، ثم إلى "مناة" من البحر، ثم "الجحفة"، ثم "الأبواء"، ثم "بدر"، حيث التقوا برسول الله، فوقعت معركة بدر.

وكانت قريش تأخذ الساحل: ساحل البحر حين تأخذ إلى الشام. وهو طريقها إلى متجرها هناك، وقد عرف بالمعرقة، وفيه سلكت عير قريش حين كانت وقعة "بدر". ومن هذا قول "عمر" لسلمان أين تأخذ إذا صدرت أعلى المعرقة أم على المدينة ?. ويقع طريق المعرقة بين "عزور" وبنن "رضوى " تختصره العرب إلى الشام والى مكة والى المدينة. وهو بين الجبلين.

ومن مواضع هذا الطريق: العيص، وهو عرض من أعراض المدينة،وموضع على مقربة من ساحل البحرْ. ومن "ذي المروة". وهو موضع على طريق تجارة قريش مع الشام، وبه كان يمر طريق الشام ومصر إلى المدينة ومكة. وإلى سيف البحر ناحية العيص أرسل الرسول "حمزة"، حين بلغه إن "أبا جهل " قد جاء بعير لقريش من الشام يريد مكة في ثلاثمائة راكب. فقد كان هذا الموضع من الساحل مسلك قوافل قريش. ولايزال اسم العيص معروفاً. وفي مقابله "الحوراء"، مرفأ سفن مصر في القديم.

ولم يذكر علماء السير والأخبار أسماء المراحل التي قطعتها قريش عند زحفها على "أحد" بتفصيل وكل ما ذكروه أن قريشاً جاؤوا فنزلوا "عينين "بحبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة. وذكر أنه الجبل.لذي أقام عليه الرماة يوم أحد، ولذلك قيل يوم أحد يوم عنين. وكانوا قد قدموا من "ذي طوى" على طريق "الأبواء" حيث همت وهي هناك أن تنبش قبر "امنة" أم النبي. وسلكوا "العقيق " حتى نزلوا ظاهر المدينة. ثم التقوا بالمسلمين عند احد.

ويظهر من هذه الأسماء، أن قريشاً سلكت في سيرها على المدينة الطريق المألوف الذي يمر بالأبواء. و "ذو طوى" موضع قرب مكة عرف بالزاهر، به بئر حفرها "عبد شمس بن عبد مناف".

ولما سار الرسول للعمرة، سلك طريق "الفرع " "الفروع " نحو "مر الظهران"، ثم "بطن يأجح"، وحبس الهدي ب "ذي طوى" ودخل مكة من الثنية. و "مر الظهران"، واد به عيون ومياه، غير بعيد عن مكة، وبه "مجنة"، ويعرف الآن بوادي فاطًمة.

وخرج الرسول من المدينة، فسلك حرة بني حارثة، ثم "الشوط" بين المدينة وأحد، ثم "الشيخين " حتى نزل الشعب من "أحد" في عدوة الوادي إلى الجيل. ولما عاد الرسول إلى المدينة، بلغه أن "أبا سفيان " كان بموضع "ملل"، يقرر الرجوع على المسلمين، وأن رجلاً أخبره أنه رأى "أيا سفيان " بالروحاء،وهو مجمع مع قريش على السير على المدينة، وسأل الرسول عن موضع قريش فقيل له: إنه بالسيالة ،فخرج من المدينة حتى وصل "حمراء الأسد" فبلغه رجوع قريش إلى مكة، وذهاب شرها فرجع إلى يثرب.

ولما عاد "عمرو بن أمية الضمري " من مكة، وكان قد وجهه الرسول لقتل أبي سفيان، خرج إلى "التنعيم"، ثم أخذ طريق "الصفراء"، ثم "غليل ضجنان"، ثم أخذ المحجة، ثم "النقيع " حتى وصل المدينة. و "التنعيم " على ثلاثة أميال أو أربعة من مكة، وهو أقرب أطراف الحل إلى البيت، على يمينه جبل نعيم ،وعلى يساره جبل ناعم، والوادي اسمه "نعمان". و "الصفراء واد بين مكة والمدينة، وراء بدر مما يلي المدينة. و "ضجنان " غليل يظهر من وصف خبر رجوع " عمرو بن أمية" إلى المدينة، انه بعد الصفراء، ذكر انه موضع أو جبل بين مكة والمدينة، ويظهر إن العلماء كانوا قد اختلفوا في تعبين مكانه. و "النقيع " هو "نقيع الخضمات " الذي حماه "عمر" لنعم الفيء وخيل المجاهدين فلا يرعاها غيرها. وورد في الحديث أول جمعة جمعت في الإسلام بالمدينة في نقيع الخضماتْ. ويظهر من شعر لمعبد بن أبي معبد الخزاعي، إن ماء "ضجنان " بعد ماء "قديد".

ولما سار الرسول على "بني لحيان"، خرج من المدينة، فسلك على "غراب " جبل بناحية المدينة على طريقه إلى الشام، ثم على "مخيض"، ثم على"البتراء" ثم صفق ذات اليسار، ثم على "يين"، ثم على "صخيرات اليمام"، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة، حتى نزل على "غُران"، وهي منازل بني لحيان. و "غران " واد بين "أمج " و "عسفان " إلى بلد يقال له "ساية". ثم سار الرسول حتى نزل "عسفان"، ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع "الغميم"، ثم "كرا"، ثم قفل الرسول راجعاً إلى ا لمدينة.

ويظهر من هذا الوصف أن الرسول أراد اعماء خبر غزوته عن "بني لحيان"، فسلك طريق الشام، ثم غيرّ اتجاهه، فتوجه نحو "يين " وصخيرات اليمام ،فبلغ الجادة ، ثم أسرع حتى بلغ "غران"، منازل "لبني لحيان " بين "أمج " و "عسفان". فتكون منازل "بني لحيان " في هذه المنطقة.

ولما سار الرسول على مكة عام الفتح ، سلك طريق "العرج"، و "العرج " جبل بين مكة والمدينة يمضي إلى الشام ، وواد يقع بين أم البرك، الموضع المعروف بالسقيا قديماً،" وبين الجيّ، الوادي اًلذي يقطعه المسافرون مع طريق السيارات القديم إلى "المسيجد" ، وذكر أنه على أربعة أميال من المدينة ، وكان الرسول قد نزل "السقيا"، وهي "أم البرك " الآن ، وذكر أنه بين المدينة والصفراء، وفي الحديث أنه كان يستعذب من بيوت السقيا.

و "الصفراء" وراء "بدر" مما يلي المدينة. كما مرّ بثنية العقاب وبالأبواء، وبذي الحليفة، وبالجحفة، وبالكديد، وهو موضع على اثنين وأربعين ميلاً من مكة بين "عسفان " و "رابغ"، وقيل بين عسفان وقديد بينه وبين مكة ثلاث مراحل، أو بين ثنية غزال وأمج ، وب "قديد" ، وبمر الظهر ان.

ولما حج الرسول حجة الوداع، سار من المدينة،فصلى الظهر ب "ذي الحليفة"، ثم استوى بالبيداء، ومرّ إلى "القاحة"، وهو موضع على ثلاث مراحل من المدينة وعلى ميل من "السقيا"، وهو بين "الجحفة" و "قديد". ثم سار إلى "ملل " "يلملم " ، وهو موضع به آبار، على مسافة اثني عشر ميلاً من "الشجرة" ، أو سبعة عشر ميلاً من "المدينة"، وقيل عشرين ميلاّ ، ثم شرف السيالة، وهو موضع بين "ملل " و "الروحاء" في طريق مكة ، ثم "عرق الظّبية" بين "الروحاء" و "السيالة"، وهو دون "الروحاء"، ثم نزل "الروحاء"، ثم راح من "الروحاء" فصلى العصر بالمنصرف. و "المنصرف " على أربعة برُ د من "بدر" مما يلي "مكة" ، وصلى المغرب بالمتعشى وتعشى به، وصلى الصبح بالأثاية. و "أُثاية" بطريق "الجحفة" إلى مكة، فيه مسجد نبوي، قيل بينه وبين المدينة خمسة وعشرون فرسخاً، أو بئر دون العرج. وأصيح بالعرج يوم الثلاثاء.

ونزل "السقيا" يوم الأربعاء، وأصبح بالأبواء، ثم راح إلى "الجحفة" ، ثم راح منها إلى "قديد"، ثم "عسفان"، ثم "الغميم". م "مر الظهران"، ثم نزل موضع "سرف". ولما انتهى إلى "الثنيتين " بات بينهما، بين "كداء" و "كدى"، ودخل مكه من "كداء".

وأما الطريق من مكة إلى الطائف، فمن مكة إلى بئر ابن المرتفع، ثم إلى قرن المنازل، وهي ميقات أهل اليمن والطائف، ثم إلى الطائف، ومن أراد من مكة إلى الطائف على طريق العقبة يأتي عرفات، ثم بطن نعمان، ثم يصعد عقبة حراء، ثم يشرف على الطائف ويهبط ويصعد عقبة خفيفة، تسمى "تنعم الطائف"، ثم يدخل الطائف.

وبين مكة والطائف، موضع يقال له "بطن نخلة" "نخلة"، اليه أرسل الرسول "عبد الله بن جحش" على رأس سرية، ليرصد بها عير قريش. فسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له "بحران" سلك طريقه نحو "نخلة" حتى بلغها، فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارة قريش وخمراً، فاستولت على العير وأخذت أسيربن ممن كان يحرس العير، ورجعت إلى المدينة. وذكر أن "عبد الله بن جحش" كان يحمل كتاباً من الرسول، يعين له الهدف، أمره ألا يفتحه إلا بعد أن يسير ليلتين، فلما سار وصار ببطن "ملل" أو عند "بئر ابن ضميرة" فتح الكتاب، فإذا فيه أن يذهب إلى "بطن نخلة" ليتحسس أخبار قريش.

وقد سلك أهل مكة في ذهابهم إلى اليمن وقي إيابهم منها جملة طرق، منها ما تمرّ بالساحل، ومنها ما تمر شرقاً عنه. ومن هذه الطريق: طريق يبدأ بمكة، ثم إلى "قرن المنازل"، قرية كبيرة، وهو ميقات أهل اليمن والطائف، واسم واد. ثم إلى "الفتق"، وهو قرية، ثم إلى "صفن" "صفر" "صقر"، ثم إلى "تربة"، ثم إلى "كرى" "كرا" "كدا" "كدى"، ثم إلى "رنية"، ثم إلى "تبالة"، ويرد اسمها في تأريخ "الحجاج"، فقد استعمل عبد الملك "الحجاج" عليها، فلما أتاها استحقرها ولم يدخلها، فقيل: "أهون من تبالة على الحجاج". ثم إلى "بيشة بعطان"، ثم إلى "جسداء"، ثم إلى "بنات حرب" "بنات حرم"، ثم إلى "يبمبم"، وهو منزل في صحراء فيه بئر واحدة عذبة وليس به أهل، وحوله أعراب من خثعم، وبينه وبين "جرش" نحو أربعة عشر ميلاً، ومنه إلى "كتنة" "كثبة"، ثم إلى "الثجة"، ثم "سروم راح" "شروم راح"، ثم إلى "المهجرة"، وفيما بين "سروم راح" والمهجرة طلحة الملك، شجرة عظيمة تشبه الغرب، غير انها أعظم منه، وهي الحد ما بين عمل مكة وعمل اليمن. وكان النبي حجز بها بين اليمن ومكة.

ومن "المهجرة" يتجه الطريق إلى "عرقة"، وهو أول عمل اليمن، ثم إلى "صعدة"، وهي مدينة يدبغ فيها الأدم، واشتهرت بالنعل. ولصعدة مخاليف، وقرى كثيرة. وقد ذكر "قدامة" أن أكثر تجار "صعدة" من أهل البصرة، وطريق منها للبصريين يرجع إلى "ركبة" "الركيبة". مما يدل على أن التجارة كانت متين ة بين أهل اليمن وبين أهل البصرة في الإسلام. ومن يدري، فلعل هذه التجارة تعود إلى ما قبل تأسيس البصرة، أي إلى ما قبل الإسلام.

ومن صعدة، يتجه الطريق إلى "الأعمشية"، ومن الأعمشية الى خيوان، قرية جبلية الماء من السماء، وفيها كزوم، ومن خيوان إلى "اثافت"، وهي قرية عظيمة وفيها زروع وكروم، وماء الشرب من بركة، ثم إلى صنعاء".

والطريق المذكور،هو الطريق الذي عليه الأميال، وهو طريق العوامل والعمال. فهو الطريق المسلوك الذي يمر به البريد.

وذكر العلماء أن أهل "صنعاء" كانوا إذا أرادوا مكة قصدوا "الرحابة"، ثم إلى "رافدة"، ثم إلى "خيوان"، ثم إلى "صعدة"، ثم إلى "النضح"، ثم "القصبة"، ثم "الثجة" ثم كثبة، "كتنة"، ثم بنات حرم "بنات حرب" ثم جسداء، ثم بيشة، ثم تبالة. ثم رنية، ثم الزعراء، ثم صفر، ثم الفتق، ثم بستان ابن عامر، ثم مكة.

و "تربة" بناحية "العبلاء"، على أربع ليال من "مكة" طريق صنعاء ونجران. واليها أرسل الرسول "عمر بن الخطاب" على رأس سرية فى شعبان سنة سبع. وأصحابها من "عجز هوازن".

وذكر "الهمداني" محجة "صنعاء" إلى مكة على هذا النحو: ريدة، ومنها إلى "أثافت"، م خيوان، ثم العمشية، ثم صعدة، ثم إلى "العرقة"، في المحجة اليسرى القديمة، ثم بقعة في المحجة اليمنى المحدثة، ثم إلى مهجرة، ثم إلى أرينب، ثم سروم الفيض، ثم إلى الثجة، ثم إلى كتنة،ثم الى الهجيرة، ثم إلى يَبمبم، ثم إلى بنات حرب، ثم الى، الجسداء، ثم الى بيشة بعطان، ثم تبالة، ومنها إلى كرى، ثم تربة، ثم الى الصفن، ثم الفتق، ثم إلى رأس المناقب، ثم قرن المنازل، ثم رمة، ثم الزيمة، ثم مكة.

وذكر "الهمداني" إن هنالك طريقاً يمر بتهامة، هو محجة صنعاء إلى مكة. فقال: "من صنعاء صليت من البون، ثم المربد، ثم أسفل العرقة وأخرف، ثم الصرجة، ثم رأس الشقيقة، ثم حرض، ثم الخصوف من بلد حكم ثم الجوينية من قنونا وتسمى القناة، ثم دوقة وهي للعبدين من بقايا جرهم، ثم إلى السّرين، ثم المعجر، ثم الخيال، ثم إلى يلملم ثم ملكان ثم مكة. هذه طريق الساحل". "والمحجة القديمة ترتفع إلى حلي العليا وتسمى حلية، واليها ينسب أسود حلية... ثم إلى عشم، ثم على الليث ومركوب إلى يلملم".

وأما محجة "عدن"، فمن عدن إلى المخنق، ومن المخنق الحُجار، ومن الحجار المسيل، ومن المسيل عبرة، ومن عبرة إلى كهالة، بئر ذي يزن، ومن كهالة الماجلية، ثم المقعدية، ثم إلى زبيد، ثم إلى المعقر، ثم الكدراء" ثم المهجم، وبالمهجم تفضى محجة صنعاء على وادي سهام ثم بلحة من وادي مور، ثم الحسارة، ثم العباية، ثم الشرجة، ثم العرُش، عثر.

وذكر "ابن خرداذبه" طريقاً ساحلياً ربط "عمان" بمكة، وهو الطريق الذي سلك في الإسلام. وقد كان جاهلياً ولا شك، لأن الجاهلين والروم وغيرهم كانوا يساحلون العربية الغربية والجنوبية والشرقبة، ويهبطون بعض المواضع التي يذكرها المسلمون كمراحل هذا الطريق. ويبدأ الطريق بعمان، ثم يمر إلى "فرق"، ثم إلى "عوكلان"، ثم إلى ساحل "هباه" "هماه"، ثم الى "الشحر"، وهي بلاد "الكندر"، ثم إلى مخلاف "كندة"، ثم إلى مخلاف "عبد الله بن مذحج"، ثم إلى مخلاف "لحج"، ثم إلى "عدن أبين"، ثم إلى "مغاص اللؤلؤ"، ثم إلى "مخلاف بني مجيد"، ثم إلى "المنجلة"، ثم إلى مخلاف الركب، ثم إلى المندب، ثم إلى مخلاف زبيد، ثم إلى غلافقة، ثم الى مخلاف عك، ثم إلى الحردة، ثم إلى مخلاف حكم، ثم إلى عثر، ثم إلى مرسى ضنكان، ثم إلى مرسى حلي، ثم إلى السرين، ثم إلى أغيار، ثم إلى الهرجاب، ثم إلى الشعيبة، ثم إلى منزل لم يذكر "ابن خرداذبه" اسمه، ثم إلى "جدة" وهي اسلامية، لم تكن في الجاهلية، وإنما ذكرت هنا، لأن هذا الطريق، كان يسلك فىِ الإسلام، ومن جدة إلى مكة.

ويوجد طريق بري بين مكة وحضرموت يمر ب "نجران" و "الضحيان" و "تثليث"، وهو طريق مختصر يكون الجادة إلى حضرموت.

وذكر "الهمداني" إن محجة حضرموت من العبر إلى الجوف، ثم صعدة، وتنضم معهم في هذه الطريق أهل مأرب، وبيحان، والمسّروين، ومرخة، وهذه محجة حضرموت العليا. وأما محجتها السفلى، فمن العبر في شئز صيهد إلى نجران، ثم من نجران حبونن، ثم الملحات، ثم لوزة، ثم عبالم ثم مريع، ثم الهجيرة، ثم تثليث، ثم جاش، ثم المصامة، ثم مجمعة ترج، والتقت يمحجة صنعاء بتبالةْ.

الفصل الرابع بعد المئة
الاسواق

والسوق المحل للذي يتسوق منه. وهي إما ثابتة مع أيام السنة، يبيع فيها الباعة ويقصدها المشترون للشراء، وإما موسمية، تعقد في مواسم معينة، فإذا انتهى الموسم رفعت. ويقال للسوق القسيمة كذلك.

وتكون الأسواق الثابتة في مواضع السكن، كالقرى والمدن والمستوطنات، أي بين "الحضر"، حيث القرار والاستقرار والإقامة، فيجلس الناس في السوق يبيعون ما عندهم من سلع، يبسطونها على الأرض، أو على "الدكة" المبنية للجلوس عليها، ولعرض البضاعة فوقها، أو على مائدة أو ما شابه ذلك، وهم من صغار الباعة ممن لا تكون عندهم سلع كثيرة. أما الباعة الكبار فيجلسون في "حوانيت"، وهي "الدكاكين"، يبيعون فيها سلعهم التي توضع فيها، ولها أبواب، فإذا انتهوا من البيع، أغلقوها ليعودوا إليها في اليوم الثاني. ويقال للحانوت "المبيعة" كذلك.

ولم يكن كل الباعة يملكون حوانيتهم، أو ما يعرضونه من سلع للبيع. فبينهم من كان يشتغل لغيره، كأن يكون مملوكاً، أقامه سيده في "مبيعته"، ليبيع عنه، وليأتي بثمن ما باعه اليه، ومنهم من كان أجراً اتفق مع صاحب الحانوت ومالكه على أن يشتغل عنده في مقابل أجر يقسمه اليه، فهو لا ينال من الدكان إلا أجر عمله.

والبيع في العربية من الأضداد، يقال: باع فلان إذا اشترى، وباع من غيره. والبائع هو كل من البائع والمشتري، والبياعة: السلعة، والتبايع المبايعة، وللبيعة الصفقة على ايجاب البيع وعلى المبايعة، والمبيعة الدكان، أي موضع البيع. وقد تخصص بعض الجاهليين في عمله، فمنهم من كان حدّاداً، حرفته معالجة الحديد، ومنهم من كان نجاراً، ومنهم من كان بزازاً، ومنهم من كان عطاّراً، ومنهم من كان "جزاراً" حرفته "الجزارة". وقد يجتمع صنف واحد من الباعة في مكان واحد، يكونون سوقاً خاصة بهم، فتسمى سوقهم بأسم ذلك الصنف.

وهناك مصطلحات تطلق على السوق من حيث الرواج والكساد. فإذا نشطت السوق وراج عمل أصحابها قيل نفقت السوق، واذا كسدت قبل انحمقت.

و "الصفقة" البيعة. يقال صفقة رابحة وصفقة خاسرة، أي بيعة. وإنما قيل للبيعة صفقة، لأنهم إذا تبايعوا تصافحوا بالأيدي، ويقال لمن لا يشتري شيئاً إلا ربح فيه: إنه لمبارك الصفقة. والصفقة تكون للبائع والمشتري. والصفق للتبايع. وفي حديث "ابن مسعود" صفقتان في صفقة ربا، أراد بيعتان في بيعة، وهو على وجهين، أحدهما أن يقول البائع للمشتري بعتك عبدي هذا بمائة درهم على أن تشتري مني هذا الثوب بعشرة دراهم، والوجه الثاني أن يقول بعتك هذا الثوب بعشرين درهماً على أن تبيعني سلعة بعينها بكذا وكذا درهماً. و "الصفاق" الكثير الأسفار والتصرف في التجارات.

وقد يشهد الأسواق للتجارة قوم لا رأس مال عندهم ولا نقد لديهم، فإذا اشترى التجار شيئاً دخلوا معهم فيه. ويقال لهؤلاء: "الصعافقة".

وقد ترد التجارة من الخارج لبيعها في السوق. ويقال للذين يجلبون الإبل والغنم للبيع الأجلاب والجلب. وذكر إن الجلب ما يجلب من إبل وغنم وخيل ومتاع وسبي. وفي المثل: النفاض يقطر الجلب، أي إذا نفض القوم، بمعنى نفدت أزوادهم قطروا إبلهم للبيع، كالجليبة و "الجلوبة. ويقال لموضع بيع النعم: "المربد".

وتمتار القبائل ميرتها من أسواق الحضر، والميرة الطعام يمتاره الإنسان، وجلب الطعام. فكان رجالها يقصدون الأسواق في المواسم وعند الحاجة لشراء ما فيها من طعام محتاجون اليه، ومن حاجيات أخرى محتاجون إليها،ثم يعودون إلى منازلهم. و "الميار" جالب المرة، ويقال للرفقة التي تنهض من البادية إلى القرى لتمتار "ميار ة".

و "السواقط" الذين يردون اليمامة لامتيار التمر، و "السقاط" ما يحملونه من التمرْ.

ويقال لكل سوق يجلب إليها غير ما يؤكل من حر الطيب والمتاع غير الميرة "لطيمة". والميرة لمآ يؤكل. وذكر أن اللطيمة سوق فيها أوعية من العطر ونحوه، وربما قيل لسوق العطّارين لطيمة.

ويقال للابل التي تخرج ليجاء عليها بالطعام "ركاباً"، حين تخرج وبعدما تجيء. وتسمى عيراً على هاتين المنزلتين. والتي يسافر عليها إلى مكة أيضاً ركاب تحمل عليها المحامل والتي يكثرون ويحملون عليها متاع التجار وطعامهم كلها ركاب، ولا تسمى عيراً، وإن كان عليها طعام إذا كانت مؤاجرة بكرى. وليس العير التي تأتي آهلها بالطعام ولكنها ركاب. ويقال زيت ركابي، لأنه يحمل من الشام على ظهور الإبل.

ويباع في الأسواق كل شيء: سلع مختلفة الأصناف والألوان ومنها البشر والحيوان. وقد ذكر العبيد والإماء مع الحيوانات في بعض الأوامر والأنظمة التي أصدرها الملوك في تنظيم البيع والشراء، وفي كيفية جباية حصة الحكومة من البيع والشراء، كما في هذه الجملة المقتبسة من أمر ملكي أصدره الملك "شمر يهرعش ملك سبأ وذي ريدان" في تنظيم التجارة والجباية: "بن انسم وابلم وثورم وبعرم وشامت بمنمو ذ يشامتم عبدم فعو امتم وبعرم". ومعناها: "من انس "بشر" وإبل وثيران وبعر تشتري. ومن يشتري عبداً أو أمتاً أو بعراً". فذكر "انسم" أي "انس" وذكر بعدهم الإبل والثيران والبعر وغير ذلك. وكيف يميز بين الإنسان والحيوان، والانسان في ذلك الوقت سلعة، مثل سائر السلع تباع وتشترى، ليكون عبداً وخادماً ومملوكاً لمشتريه! والبضاعة، القطعة من مال يتجر فيه. وأبضعه البضاعة أعطاه اياها. وهي من الألفاظ التجارية التي لا زالت رائجة جارية على كل لسان في الأسواق. ويقال لثمن الشيء: "القيمة"، وهو ثمن الشيء بالتقويم. وقومت السلعة ثمّنتها. ويقول أهل مكة: "استقمتها" ت أي ثمنّتها، ويقولون استقمت المتاع، أي قوّمته.

و"العينة" خيار المال. وعن التاجر، إذا باع من رجل سلعته بثمن معلوم إلى أجل معلوم ثم اشتراها منه بآقل من ذلك الثمن الذي باعها به. وقد كره العينة أكثر الفقهاء وروى فيها النهيْ.

وقد كانت بالقرى والمدن أسواق محلية، فكان بمكة والمدينة أسواق بها مبيعات. ويظهر أن "ملا" القرى كانوا. يشرفون عليها ويأخذون ضرائب البيع والشراء منها. وقد ورد أن "عمر" استعمل على سوق المدينة "السائب بن يزيد" وسليمان بن أبي خيثمة وعبدالله بن مسعود. ولم تشر الرواية إلى الأعمال التي أناطها "عمر" بهؤلاء. ولكني لا استبعد احتمال كون هذا التعيين استمرار لعادة قديمة كانت متبعة بيثرب قبل الإسلام، لمراقبة السوق، ولمنع للتلاعب به وأخذ الحقوق من التعامل بالسوق.

اسواق العرب الموسمية

وللعرب أسواق يقيمونها شهور السنة وينتقلون من بعضها إلى بعض ويحضرها سائر العرب بما عندهم من حاجة إلى بيع أو شراء. وتقع هذه الأسواق في مواضع مختلفة متناثرة من جزيرة العرب. فهي إذن أسواق عربية. وهناك أسواق أخرى قصدها العرب للاتجار في مواسم وفي أوقات مختلفة، كانت خارج جزيرة العرب، في العراق أو في بلاد الشام أو في الحبشة، وقد كان العرب يقصدونها أيظاً للاتجار والامتيار.

وقد ذكر "اليعقوبي"، إن أسواق العرب كانت عشرة أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم ويجتمع فيها سائر الناس ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم. ويظهر من قول "اليعقوبي" هذا من انهم كانوا يأمنون فيها على دمائهم وأموالهم أثناء التقائهم بها. إن من دين أهل الجاهلية، اعتبار هذه الأسواق أماكن حرماً، يأمن الإنسان فيها دمه وماله ما داموا في ضيافة السوق وحرمته. ولهذا كان لكل سوق "قومة" يقومون بأمر السوق وبالمحافظة على الأرواح والأموال فيه. فقد "كان في العرب قوم يستحلون المظالم، إذ حضروا هذه الأسواق، فسموّا "المحلون". وهؤلاء "المحلون"، هم مثل "المحلون" الذين كانوا لا يقيمون وزناً لحرمة "الحرم" و "إلحرمات"، مثل حرم مكة، ولا يقيمون للاشهر الحرم قدراً، فكانوا يعتدون فيها وفي كل شهر، ولذلك قيل لهم "المحلون".

ومن المحلّين قبائل من اسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة وقوم من بني عامر بن صعصعة.

ولحماية الأسواق والمجتمع من "المحليّن"، الذين أباحوا لأنفسهم استحلال المظالم، ظهر قوم من أهل المروءة والمعروف، تواصوا فيما بينهم على ردّ السفيه عن سفهه والغاوي عن غيهّ،ونصبوا أنفسهم حماة على الأسواق، يحملون سلاحهم فيها في الأشهر الحلّ وفي الأشهر الحرم للذود عن الحرمات. وقد عرف مثل، هؤلاء ب "الذادة المحرمون". وقد تحدث عنهم "اليعقوبي"، فقال: "وكان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق، فسموا المحلوّن، وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك السماء وارتكاب المنكر، فيسمون: الذادة المحرمون. وأما المحلون، فكانوا قبائل من أسد وطيء وبني يكر بن عبد مناة بن كنانة وقوم من بني عامر ابن صعصعة. وأما الذادة المحرمون، فكانوا من بني عمرو بن تميم، وبني حنظلة بن زيد مناة، وقوم من هذيل، وقوم من بني شيبان وقوم من بي كلب بن وبرة. فكانوا هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس، وكان العرب جميعاً بين هؤلاء تضع أسلحتهم في الأشهر الحرم".

والذود في اللغة السوق والطرد والدفع. فالذادة هم المدافعون الذابون عن المظلومين، والواقفين أمام الظالمين. وقد ورد "ذادة" بمعى يذودون عن الحرم. ولم تكن هذه الأسواق محصورة في موضع معين، انما كانت تعقد في مواضع مختلفة متعددة من جزيرة العرب. وقد خصصت في للغالب بامتيار الأعراب وبشراء ما عندهم من سلع فائضة عليهم: ولا يستبعد بالطبع ورود التجار الأجانب إليها من غير العرب،فقد كان الروم مثلا يتوغلون إلى مسافات بعيدة في هذه الأرضين الشاسعة للبيع والشراء.

وبحكم ورود أناس إلى هذه الأسواق لا يسهل الاجتماع والاتصال بهم في الأوقات الآخرى، فقد قصدها أناس من أماكن بعيدة بحثاً عن طلب أو ترويجاً لرأي، فقصدها المبشرون للاتصال بالقبائل وللتأثر في بعض أفرادها لادخالهم في دينهم. وفي كتب السير: إن الرسول نفسه كان يخرج في المواسم، لعرض نفسه على للقبائل، ولهدايتهم إلى الإسلام.

ومن أشهر أسواق العرب عند ظهور الإسلام: "سوق دومة الجندل"، و "سوق هجر"، و "سوق عمان"، و "سوق المشقر"، و "سوق عون أبن"، و "سوق صنعاء"، و "سوق حضرموت"، و "سوق ذي المجاز"، و "سوق مجنة"، و "سوق عكاظ"، و "سوق حبلشة"، و "سوق صحار"، و "سوق بدر"، و "سوق بني قينقاع"، و "سوق الشحر"، و "سوق عثر، وأسواق محلية أخرى تاتيها القبائل والعشاثر للامتيار وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن أسواق العرب للكبيرة كانت في الجاهلية ثلاث عشرة سوقاً، وأولها قياماً دومة الجندل.

وذكر "الهمداني"، أن من أسواق العرب القديمة: عدن، ومكة،والجند، وتجران، وذو المجاز، وعكاظ، وبدر، ومجنة، ومنى، وحجر اليمامة، وهجر البحرين. وسوق "همل" من الحارف ببلد حاشد. وهناك أسواق أخرى عديدة وردت أسماؤها عرضاً في روايات أهل الأخبار.

اما "دومة الجندل"، فكانوا ينزلونها أولَ يوم من شهر ربيع الأول، يجتمعون في أسواقها للبيع والشراء والتبادل. وكان أكيدر صاحب دومة الجندل يرعى الناس وبقوم بأمرهم أول يوم، وتدوم سوقهم نصف الشهر. وكان "أكيدر" يعشر الناس،. وربما يتولاها بنو كلب الذين ياتونهم متأخرين، فيتولونها، وتسوم عندئذ إلى آخر الشهر، ويتولون هم حينئذ تعشير للناس. ويعرف البيع فيها ب "بيع الحصاة"، وهو نوع من انواع المقامرة ابطله الإسلام. وكانت تقصدها قبائل الشام والحجاز والأقسام الشمالية والغربية من اعالي نجد، وتقيم بالقرب منها كلب وجديلة طيء.

وكان الذي يشرف على هذه السوق سادات العرب من كلب أو من غسان، يتنافسون عليها ويتزايدون، فأي الحيين فاز، خضع ودان له الآخر. وكان مكس هذه السوق لمن يتولى الاشراف عليها. وهم جميعاَ يأخذون الاذن بالإشراف على السوق من الملك الذي يحكم الموضع في ذلك الوقت. وكان الإشراف على هذه السوق عند ظهور الإسلام بين "الأكيدر" وبين "قنافة الكلبي" الذي كان ينافسه على الملك.

وذكر "ابن حبيب" انه "كان لكلب فيها قنّ كثير في بيوت شعر، فكانوا يكرهون فتياتهم على البغاء ويأخذون كسب أولئك البغايا، ولما كان الإسلام حرم هذه العادة بالآية: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ًلتبتغوا عرض الحياة الدنيا".

ودومة الجندل في غائط من الأرض خمسة فراسخ، ومن مغربه عين تثج فتسقي ما به من النخل والزرع، ودومة ضاحية بين غائطها وا!ميم حصنها ماردْ. وهو حصن قديم، ورد ذكره في الشعر الجاهلي وفي كتب الأدب. وقد اكتسب شهرة كبيرة بين الجاهليين حين ضربوا به وب "الأبلق" حصن السموأل المثل في العزّ والمنعة، فقالوا: "تمرد مارد وعز الأبلق"، قالوا: قصدتهما الزباء فعجزت عن قتالهما، فقالت: "تمرد مارد وعزّ الأبلق"، وذهب مثلاً لكل عزيز ممتنع. ويظهر أن حصن "مارد" كان من الحصون الحصينة القديمة التيبنيت ب "الجندل"، أي الحجر.

ولم تكن دومة الجندل سوقاً يقصدها التجار في موسم واحد معين، بل كانت مفرقاً مهماً من مفارق الطرق، وموضعاً يقصده أصحاب القوافل الذاهبون من جزيرة العرب إلى العراق والى بلاد الشام، وبالعكس، لوجود الماء العذب بها، وما يحتاج المسافر اليه من زاد وماء. وهي اليوم "الجوف" في المملكة العربية السعودية.

ويقصد سوق المشقر الأعراب الساكنون في العربية الشرقية والأعراب القريبون إلى هذا الموضع، ويرد إلى هذه السوق تجار فارس ببياعاتهم يقطعون البحر، فيتاجرون مع من يقصد هذه السوق من القبائل والحضر. وكانت بنو تميم وعبد القيس جيرانها. أما المشرف عليها فرؤساء تميم من بني عبد الله بن زيد رهط المنذر بن ساوى، وكانوا يتلقبون بألقاب الملك. ويسيرون في معاملتهم في هذه السوق سيرة الملوك بدومة الجندل،ويأخذون العشر. وكان من يؤمها من التجار يتخفرون بقريش، لأنها لا تؤتي إلا في بلاد مضر. وكان بيعهم فيها الملامسة والهمهمة. وتقوم سوقها أول يوم من جمادى الآخرة إلى آخر الشهر.

وقد قصد هذه السوق أحياء من العرب من مختلف أنحاء جزيرة العرب، كما وفدت إليها اللطائم. وطالما اعجبت أرض هجر، وموضع المشقر منها، بعض هؤلاء الأعراب فيبقون فيها ولا يرتحلون عنها، فمن هناك صارت بهجر طوائف من كل حي من العرب وغيرهم.

ويحمي المشقر حصن قديم قويم، يقال ورثه "امرؤ القيس"،وقد أشير اليه في الشعر. قال عنه "المخبل": فلئن بنيت لي المشقر في  صعب تقصر دونه الهمم 

لتنقبن عني الـمـنـيّة  إن الله ليس كعلمه علم 

وكان من الحصون التي تحمي قرى ساحل الخليج من الأعراب، به حامية كبيرة، تغلق عليها الأبواب عند دنو الخطر. ويظهر من قصة فتك المكعبر بتميم، انه كان ذا بابين، وكان قد بني لحماية المنطقة من الأعراب وللمحافظة على الأمن. وقد كان حصناً كبيراً ادخر فيه الفرس الميرة والأرزاق لتوزيعها على الأعراب أيام المجاعة. وبه جنود من الفرس، يحكمهم قواد منهم، يقومون بضبط الأمن ومراقبة حركات الأعراب.

وتعقد سوق هجر في شهر ربيع الآخر، وكان الذي يتولى تعشير التجار بها "المنذر بن ساوى"، أحد بني عبد الله بن دارم. وهو ملك البحرين. وهجر اسم لجمع أرض البحرين، وقصبة بلاد البحرين. وقد عرفت بكثرة تمرها، ومنه المثل كمبضع تمر إلى هجر. وذكر أن "عمر" تذكرها فقال: عجبت لتاجر هجر وراكب البحر، كأنه أراد لكثرة وبائها، فتاجرها وراكب البحر في الخطر سواء. ويظهر أنها كانت موبوءة.

ثم يرتحلون نحو عمان من البحرين أيضاً، فتقوم سوقهم بها. ثم يرتحلون فينزلون "إرم" وقرى الشحر،فتقوم أسواقهم بها أياماً. ثم يرتحلون فينزلون سوق عدن.

أما "سوق عدن"، فكانت تقوم أول يوم من شهر رمضان إلى عشر يمضين منه. وكانت الأبناء هي التي تعشر التجار بها، والأبناء هم أبناء الفرس. الذين فتحوا اليمن مع وهرز وقتلوا الحبشة. وكان التجار لا يتخفرون فيها بأحد، لأنها أرض مملكة، وأمرها محكم. أما ما قبل حكم الأبناء، فقد كان يعشر هذه السوق ملوك حمير، ثم من ملك اليمن من بعدهم. وأشهر ما يباع فيها الطيب. ولم يكن أحد يحسن صنع الطيب من غير العرب، حتى إن تجار البحر ترجع بالطيب المعمول تفخر به في السند والهند، ويرحل به كذلك تجار البر إلى فارس و الروم.

وأما سوق صنعاء، فكانت تقوم في النصف من شهر رمضان إلى آخره. وكانت الأبناء تعشرهم. وكان بيعهم بها الجس جس الأيدي. وقد اشتهرت ببيع الخرز والأدم والبرود. وكانت تجلب إليها من معافر. والقطن والكتاّن والزعفران والأصباغ وأشباهها مما يتفق بها،. ويشترون بها ما يريدون من البر والحديد وحاصلات اليمن وما يأتي إلى اليمن من نجارات البحار.

وسوق ذي المجاز، قريبة من عكاظ، وتقوم أول يوم من ذي الحجة إلى يوم التروية. ثم يصيرون إلى منى. وقد كانت لهذيل. وكانت مبايعة العرب بها بإلقاء الحجارة، وذلك أنهم كانوا يجتمعون حول السلعة يساومون بها صاحبها، فأيهم أراد شراءها ألقى حجراً، وربما اتفق في السلعة الرهط، فلا يجدون بداً من أن يشتركوا وهم كارهون. وربما ألقوا الحجارة جميعاً فيوكسون صاحب السلعة إذا تظاهروا عليه. وكانت قريش تخرج قاصدة إليها من مكة، فإن اخذت على حزن لم تتخفر من القرب حتى ترجع، وذلك أن مضر عامتهم لا تتعرض لتجار قريش ولا يتهجّمهم حليف لمضري مع تعظيمهم لقريش ومكانتهم في البيت.

وأما سوق حُباشة،فمن أسواق العرب المشهورة القديمة في الجاهلية في العربية الغربية. وهي سوق بتهامة، يتاجر فيها أهل الحجاز. وأهل اليمن. وكان في جملة من حضرها وتاجر فيها الرسول. وكانت تقام في شهر رجب. وحباشة سوت أخرى كانت لبني قينقاع.

وكان الجلندي بن المستكبر، هو الذي يعشر تجار سوق صُحار بعمان، وكذلك تجار سوق "دبا". وكان يقصد سوق "دبا" تجار السند والهند والصين ومواضع أخرى، فهي سوق عظيمة كبيرة، ذات تجارة مع العالم الخارجي. احدى فرضتي العرب. ويقوم سوقها آخر يوم من رجب. وكان بيعهم فيها المساومة. وتقوم سوق صُحار أول يوم من رجب. تقوم خمس ليالي. ويذكر بعض أهل الأخبار إن البيع في سوق صحار هو بالقاء الحجارة.

وقد اشتهرت "صحار" بثيابها، فعرفت بأسمها، كما كانت سوقاً للتجارات المستوردة من اليمن والصين والبحرين والهند. ولذلك كانت برقاً نشطة، وبها أصحاب حرف وصناعة.

وأما "بدر"، فكان موضعاً فيه ماء وفيه وقعت معركة بدر الكبرى. وكان موسماً منمواسم العرب، تجتمع لهم بها سوق كل عام، يجتمعون فيه للتجارة وللتنزه، فكانوا ينحرون ويطعمون ويشربون ويسمعون الغناء. وذكر إن موضع "بدر" بئر حفرها رجل من غفار، ثم من "بني النار" اسمه بدر. وذكر انه "بدر بن قريش بن يخلد"، وبه سمي الموضع بدراً، وقيل بدر رجل من "بني ضمرة" سكن المكان فنسب اليه ، وهو بين مكة والمدينة أسفل وادي الصفراء، وهو إلى المدينة أقرب، وبينه وبين "الجار"، وهو ساحل البحر ومرفأ ليلة. ويظهر انه كان من المواضع المقدسة على شاكلة "سوق عكاظ" به أحجار، يتقرب إليها الناس، وبه ماء فصار سوقاً في موسمه المخصص له، يقصده الناس من مكة ومن المواضع القريبة لبيع ما عندهم من ناتجهم فيه،ولشراء ما يحتاجون اليه منه.

وأما سوق بني قينقاع،فسوق لليهود يذهب إليها الناس للاتجار وابتياع ما عند يهود من سلع، ولبيع ما عندهم ليهود.

أما "سوق الشحر" شحر مهرة، فتقوم السوق تحت ظل الجبل الذي عليه قبر هود. ولم تكن بها عشور،لأنها ليست بأرض مملكة. وكانت التجار تتخفر فيها ببني محارب بن هرب، من مهرة. وكان قيامها للنصف من شعبان. وكان بيعهم بها إلقاء الحجارة. وكان غالب ما يعرض فيها الأدم والبزُ وسائر المرافق. ويشرون بها الكندر، والمرّ، والصبر، ويقصدها تجار من البرّ والبحر ،وأما سوق الرابية بحضرموت، فلم يكن يصل إليها أحد إلاّ بخفارة،لأنها لم تكن أرض مملكة. وكان من عز فيها بزّ صاحبه. فكانت قريش تتخفر فيها ببني آكل المرار، وسائر الناس يتخفرون بآل مسروق بن وائل من كندة.

وتقوم سوق نطاة بخيبر وسوق حجر باليمامة يوم عاشوراء إلى آخر المحرم. وأشهر الأسواق المتقدمة وأعرفها "سوق عكاظ"، وهي سوق تجارة وسوق سياسة وسوق أدب، فيها كان يخطب كل خطيب مصقع،وفيها علقت القصائد السبع الشهيرة افتخاراً بفصاحتها على من يحضر الموسم من شعراء القبائل على ما يذكره بعض أهل الأخبار. وكان يأتيها قريش وهوازن وسليم والأحابيش وعقيل والمصطلق وطوائف من العرب. وكانت تقوم للنصف من ذي القعدة إلى آخر الشهر. ولم تكن فيها عشور ولا خفارة. وكان بيعهم السرار: إذا وجب البيع   

وعند التاجر فيها إلف ممن يريد الشراء ولا يريده أشركه في الربح.

وذكر إن عكاظ نخل في واد بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليال، وبه كانت تّقام سوق العرب. وقيل: عكاظ ماء ما بين نخلة والطائف إلى بلد يقال له الفنق، كانت موسماً من مواسم الجاهلية. تقوم هلال ذي القعدة وتستمر عشرين يوماً. وكانت تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون،أي يتفاخرون ويتناشدون ما احدثوا من الشعر، يقيمون على ذلك شهراً، يتبايعون ثم يتفرقون. فلما جاء الإسلام هدم ذلك.

وذهب فريق من أهل الأخبار إلى أن انعقاد سوق عكاظ إنما كان يقوم بهلال شهر ذي القعدة ويستمر لمدة عشرين يوماً. وهم يخطئون رأي من يذهب إلى أن انعقاد السوق كان في شهر شوّال،وحجتهم أن انعقاد السوق كان في الأشهر الحرم، ليراعي الناس حرمة تلك الأيام فلا يعتدون على من يقصد أسوق،وشهر شوال لا يدخل في جملة الأشهر الحرم، لذلك فلا يمكن أن يكون انعقاد السوق فيه. ويستدلون بدليل آخر، هو تقاتل بعض العرب في أيام عكاظ، ونظراً لوقوع ذلك القتال في شهر حرام، أطلقوا على تلك الأيام، أيام الفجار، وهي أربعة أيام: يوم شمطه،ويوم العبلاء،ويوم الحريرة،ويوم شرب، وهذه الأسماء هي أسماء أماكن في عكاظ. وما كان العرب ليطلقوا على تلك الأيام أيام الفجار لو لم تكن قد وقعت في أيام حرم.

وجاء في بعض الأخبار إن أشراف العرب كانوا يتوافون بتلك الأسواق مع التجار من أجل إن الملوك كانوا يرضخون للأشراف، لكل شريف بسهم من الأرباح. فكان شريف كل بلد يحضر سوق بلده، إلا عكاظ، فإنهم كانوا يتوافون بها من كل أوب. فسوق عكاظ، اذن سوق حرة، لا عشور فيها ولا خفارة. وهي تختلف بذلك عن بقية الأسواق التي كان يعشرها الملوك، إذا كانت في حكم "ملك"، أو في حكم الأمراء وسادات القبائل، على أن يؤدوا سهماً من الأرباح المتجمعة من العشور والخفارات إلى أشراف العرب، أي سادات القبائل الذين تقام تلك الأسواق في أرضهم. فأشراف "تميم" وإن اشرفوا على هذه السوق، وحكموا بها، ونظموا أمورها، إلا انهم لم يكونوا يجبون شيئاً من التجار. ولعل ذلك كان بتأثير قريش عليهم ط، فقد كان رجال مكة هم المستأثرون الأثيرون في عكاظ. وكانوا يشجعون العرب على حضورها، لما لهم فيها من منافع اقتصادية،وقد كان لهم أنفسهم إشراف على نواح من أمور السوق. ويظهر انه لأجل تشجيع القبائل على حضور "عكاظ" وجمع أكثر مَن ممكن جمعه منِ التجار، اتفقوا مع سادات تميم، ولا سيما مع "بني دارم" على آن يتركوا السوق حرة، ليقصدها أي تاجر، فلا يكلف احد منهم بكلفة العشور والخفارة،ولا يهان أو يعتدى عليه، وهو بالطبع في شهر حرام، ليضمنوا بذلك حضور أكبر عدد ممكن من الناس، وليضمنوا مجيئهم بعد ذلك إلى مكة، وقد كانوا يسعون جهد طاقتهم لجلب العرب إليها من الأماكن البعيدة، ليستفيدوا منهم في موسم الحج، وليكوّنوا معهم صلات طيبة، وعلاقات وثيقة تؤمن لهم ولقوافلهم ولتجارتهم حق المرور بأمن وسلام، وتقديم كل ما يحتاج اليه رجال القوافل من ماء وطعام ومأوى وحماية.

ويعرض للبيع وللشراء في سوق عكاظ وفي الأسواق الآخرى كل أنواع البضاعات، من أدم ومن حبوب وأقمشة إلى بضاعة حية ناطقة هي الحيوان، أو الإنسان، حيث يعرض الرقيق في السوق. وقد كان شراء "خديجة" زوجة الرسول ل "زيد بن حارثة" من سوق عكاظ. وقد اشتهرت سوق عكاظ بأديمها حتى عرف بين تجار الأديم ب "الأديم العكاظي" مع أنه لم يكن من حاصل عكاظ، بل كان يورد إلى السوق من مختلف الأنحاء.

وذكر بعض أهل الأخبار أن "سوق عكاظ" موسم عظيم من المواسم،وقّد اتخذت سوقاً بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة. وهي من أعظم أسواق العرب على الاطلاق في الجاهلية وفي الإسلام. ثم تضاءل شأنها وخربت بعد سنة "129" للهجرة، عندما ظهر الخوارج الحرورية مع المختار بن عوف في مكة، فنهبت هذه السوق، وخاف الناس على أنفسهم من الذهاب إليها، فتركت.

ولو أخذنا بهذه الرواية، نكون قد جعلنا مبدأ هذا السوق سنة "585" أو "586" للميلاد تقريباً. أي إن تأريخ سوق عكاظ لم يكن بعيد عهد كل عن الإسلام. فهو قبله بنحو قرن. وقد أقيمت وعمر الرسول آنذاك "5ا" عاماً.

ويذهب الناس بعد سوق عكاظ إلى سوق أخرى، هي سوق مجنة، فيقيمون بها عشرة أيام. فإذا رأوا هلال ذي الحجة في نهاية هذه الأيام العشرة قصدوا ذا المجاز، وهي سوق جاهلية، فيقيمون فيها ثمانية أيام يبيعون ويشترون، ثم يخرجون يوم الرّوية من ذي المجاز إلى عرفة، فيأخذون ذلك اليوم من الماء ما يرويهم من ذي المجاز. وقد سمي هذا اليوم باسم يوم التروية لترويهم من الماء بذي المجاز، حيث كان ينادي بعضهم على البعض الآخر أن يترووا من الماء لأنه لا يوجد ماء بعرفة. كذلك لا يوجد ماء بالمزدلفة يومئذ. ويعتبر يوم التروية نهاية أسواقهم. وكان العرب لا يتبايعون في يوم عرفة ولا في أيام منى. فلما جاء الإسلام أحل لهم ذلك.

وذكر إن "ذا المجاز" موضع بمنى، وذكر انه سوق كانت في الجاهلية على فرسخ من عرفة، بناحية كبكب ، سمي به لأن إجازة الحج كانت به. و "كبكب"، جبل بعرفات خلف ظهر الإمام إذا وقف، وقيل هو ثنية.

ويذكر علماء التفسير إن متجر الناس في الجاهلية كان سوق عكاظ وذو المجاز،فلما جاء الإسلام تركوا ذلك.. وكانوا لا يتجرون في أيام الحج، فكانوا لا يبيعون أو يبتاعون في الجاهلية بعرفه، ويبتاعون ويبيعون قبل وبعد أيام الحج، اذ كانوا يتأثمون من الاتجار في أيام الحج.

وقد كان الحج من أكبر مواسم الربح لقريش،تبيع قريش ما عندها للأعراب القادمين إليها من البادية ولأهل القرى البعيدة عن مكة، وتشتري منهم ما يحملونه منهم من مواد وسلع، ثم تقوم قوافلهم بنقل الفائض مما اشترته إلى الأسواق الخارجية في بلاد الشام أو العراق، وتشتري في مقابل ذلك ما يحتاج اليه الحجاز وأعراب البادية من سلع ومواد.

ومكة في مواسم الحج وفي المناسبات الآخرى سوق تجارية مهمة، لا تقل شأناً في الواقع عن الأسواق الآخرى. وقد تمكن أهلها النشطون في جمع المال من اكتناز الأموال ومن استثمار ما يحصلون عليه من أرباح حتى صاروا من أغنى الناس في الحجاز.

ويظهر من روايات أهل الأخبار إن حظ المفاخرة والمباهاة والتمدح والذم، لم يكن بأقل من حظ البيع والشراء في سوق عكاظ. فقد كان الشعراء يعرضون أجود وأحدث ما عندهم من شعر على الحاضرين. وكان كثر من هؤلاء الحاضرين إنما يفدون إليها للوقوف على أحدث ما يقال من صنوف الشعر، وهو صنف رائج أكثر من رواج النثر بالطبع، لما فيه من ايقاع وموسيقى ووزن وسهولة في الحفظ وأثر في النفس، لذلك كان للشاعر في هذه السوق مكانة تزيد كثيرا على مكانة التاجر فيها، لما لشعره من أثر في الحياة العامة لمجتمع ذلك اليوم.

ويقال إن الشاعر الشهير "النابغة الذبياني"،كان يحضر سوق عكاظ، فتضرب له قبة من أدم، يجلس تحتها، فيفد اليه من الشعراء من يريد أن يفتخر بشعره على غيره، لينشد أمامه شعره، فيحكم على شعره برأيه، لما لرأيه من أثر في الناس. وكان الشاعران الأعشى وحسان بن ثابت ممن احتكما اليه وكذلك الشاعرة الخنساء.

ومن حضر عكاظ الخطيب الجاهلي الشهير "قس بن ساعدة الايادي" "شيشرون" العرب، وعمرو بن كلثوم التغلبي،الشاعر المعروف. ويذكر أهل الأخبار إن الرسول رأى "قس بن ساعدة الأيادي" يخطب في هذه السوق، وقد قصد الرسول سوق عكاظ وسوق مجنة وذي المجاز، يدعو من كان يحضر المواسم إلى دين الله. وقيل انه مكث سبع سنين يتبع الناس في مواسمهم في سوق عكاظ، وكان في من كلمهم ودعاهم إلى الإسلام "بنو عامر بن صعصعة".

وحال الأسواق الآخرى مثل حال سوق عكاظ من حيث ورود الشعراء إليها لعرض ما عندهم من شعر جديد. والظاهر إن قرب سوق عكاظ من مكة، وورود الحجاج إليها قبل البدء بالحج، ثم ورود اسمها في أخبار الرسول،ولكونها سوق مكة وتجار قريش، ووقوعها في أرض يتكلم أهلها باللغة التي نزل بها الوحي، هذه الأسباب وغيرها هي التي خلّدت اسم هذه السوق، وربطت بينها وبين الشعر والنثر، أكثر من الأسواق الآخرى التي كانت بعيدة عن مكة، وبعيدة لذلك عن ذاكرة أهل الأخبار،هذا وان للباحثين في موضع سوق عكاظ آراء متباينة فيه. ولا زالت هذه الآراء متباينة فيه حتى اليوم.

هذا، وقد كان موضع عكاظ في الأصل مكاناً مقدساً على ما يظهر من أخبار أهل الأخبار. فقد ذكروا أن العرب كانت تطوف بصخور كانت هناك ويحجون إليها، وكانوا يذبحون وينحرون إلى تلك الأصنام والأنصاب. حتى تلطخت تلك الأنصاب والأرض التي تحيط بها بدماء البدن. ويظهر أن أهمية ذلك المكان الدينية كانت قد قلت بالتدريج، إذ غطت قدسية مكة عليه. ولما جاء الإسلام، وأزال الأنصاب والأصنام ذهبت كل أهمية لمحجة عكاظ واختفت أهمية السوق معه حتى ماتت على نحو ما ذكرت.

ويتقدم سادات الناس في مثل هذه المناسبات إلى آلهتم بإطعام الفقراء واضافة الناس. وكان "خويلد بن فضيل بن عمرو بن كلاب" المعروف ب "الصعق"، لأن صاعقة نزلت عليه فأحرقته، ممن يطعم بعكاظ. وكان من سادات قومه. ويترك هذا الكرم أثراً في نفوس من يحضر السوق، ويكون سبباً للحصول على ثناء ومديح الشعراء على أولئك الكرماء.

والظاهر من روايات أهل الأخبار عن هذه الأسواق، انها كانت كلها في الأصل، مواضع مقدسة، لها أصنام تعبدها القبائل وتأتي للتقرب إليها في مواسم معينة، هي مواسم حجها، فتتحول تلك المواسم إلى أسواق للبيع والشراء. فقد ذكروا إن "بني وبرة"، كانوا يفدون إلى "دومة الجندل" للتقرب إلى "ودّ"، وكان سدنته من "بني الفرافصة بن كلب"، وأن "بني عبد القيس " كانوا يتقربون إلى صنم لهم اسمه "ذو اللّب"، وكان بالمشقر، وسدنته "بنو عامر" ويجب ألا ننظر إلى هذه الأسواق نظرتنا إلى السوق بالمعنى المفهوم من اللفظة في الوقت الحاضر. فقد كانت أسواق الجاهلية أوسع مجالاً من ذلك بكثير. كانت مجامع لأهل اللسان من شعراء ومن خطباء، من مرموقين معروفين ومن مغمورين طلاب شهرة، قصدوا هذه الأسواق للحصول على اسم وسمعة، كما هو شأن سوق عكاظ. كما كانت مجتمعات تعقد فيها العقود والمعاهدات والاتفاقات القبلية والعائلية، ومواضع يعلن فيها عن التبني وعن الخلع، أي خلع الأفراد، لجرائم يرتكبونها، وهي ساحات محاكم، يجلس فيها المتخاصمون للاستماع إلى قرار حاكم مهاب محترم، اتفقوا على تحكيمه في نزاعهم. وقد كانت الحكومة في هذه السوق إلى "بني تميم"، وكان آخر من حكم منهم فيها: الأقرع بن حابس التميمي.

ويروي اهل الأخبار أن فرسان العرب كانوا إذا حضروا موسم عكاظ تقنعوا إِلا "أبا سليط" "طرفة بن تميم"، فارس عمرو بن تميم في الجاهلية، فإنه كان لا يتقنع ولا يبالي أن تقع عيون الفرسان عليه، وذلك اعتماداً على نفسه وازدراءً لشأن أعدائه ومن يريد إلحاق الأذى به. وقد كانت سوق عكاظ وبقية الأسواق، من أهم المواضع التي تجلب أنظار الفرسان إليها، إذ كان الكثير منهم يتصيدون فرص الأخذ بالثأر، بعد انفضاض موسم السوق، أو الحصول على غنائم بمهاجمة التجار ومن يحمل تجارة دسمة أو حمولة ثمينة، ولهذا كان لا بد للفرسان ومن يريد الحصول على مغنم أو تنفيذ مأرب ما من التحفظ والاحتراز حذر انكشاف أمره، فيكون عرضة للغدر.

وإذا وقعت في هذه الأسواق خصومات في مثل اختلاف في سعر أو اختلاف في تجارة، فهناك حكام يلجأ المتخاصمون اليهم للنظر في خصوماتهم وللنظر في كل خصومات أخرى قد تقع على الحاضرين. فيقوم هؤلاء الحكام بفض ذلك النزاع. وقد اشتهر سادات بني تميم بالنظر في الخصومات التي تقع في الأسواق القريبة منهم أو التي تقع قي ديارهم، وكان من أواخر حكامهم "الأقرع بن حابس".

سوق عكاظ في الإسلام

كانت سوق عكاظ عامرة مقصودة في الجاهلية، "فلما جاء الإسلام هدم ذلك". وورد في كتب الحديث: "عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: كانت عكاظ، ومجنة،وذو المجاز، أسواقاً في الجاهلية، فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها، فأنزل الله: ليس عليكم جناح في مواسم الحج. قرأ ابن عباس كذا". وورد في تفسير الطبري: "قال ابن عباس: كانت ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج". وورد: "كانوا يحجون ولا يتجرون، فأنزل الله: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم". وتفسير ذلك كما جاء في كتب التفسير والحديث، وكما سبق أن تحدثت عنه ذلك في الجزء الخاص بالحياة الدينية عند أهل الجاهلية، إن الجاهليين كانوا يتأثمون من الاتجار في الحج، فلا يحجون ولا يتجرون، وتكون تجارتهم في الأسواق المذكورة قبل الحج، أو في مكة بعد الحج، وبقوا على ذلك حتى رفع عنهم الحرج بنزول الوحي: )ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم( فرخص لهم في المتجر والركوب والزاد، وأحل الله لهم الاتجار في الحج ،فصاروا يتبايعون بمكة، فأثر ذلك على الأسواق المذكورة. وكان تحديد مواقيت الحج، وانتشار الإسلام،ومنع التعرض والتحرش بالناس طيلة أيام السنة، في جملة العوامل التي قلت من أهمية تلك الأسواق، فلم يعد الحجاج في حاجة إلى الذهاب قوافل إليها، استغلالاً لحرمة الأشهر، بل صاروا يتجهون إلى المواقيت المعينة للحج رأساً، فيتجرون بمكة ويعودون إلى ديارهم، فقلت بذلك أهمية تلك الأسواق حتى ماتت.

وسبب آخر، هو في نظري أهم من كلّ ما ذكرت. هو إن هجرة الرسول إلى يثرب، وإنتصار الإسلام على مكة، ثم وفاته بيثرب، واتخاذ الخلفاء الثلاثة الأول إياها قاعدة لهم ولبيت مال المسلمين، ثم خروج سادات مكة إليها في حياة الرسول، وانتقالهم إلى الأمصار المفتوحة لأدارتها سياسياً وعسكرياً،او للاشتغال بها بالزراعة والتجارة وبالأعمال الآخرى المربحة،كل هذه العوامل وأمثالها جعلت مكة في الدرجة الثانية بعد "يثرب"، حتى أن من بقي بالمدينة من الصحابة ولم يغادرها كما غادرها غيرهم إلى الأمصار المفتوحة، وجدوا إن من أدب الصحبة ملازمة قبر الرسول، والثوى بها في الحياة وفي الممات، ولم يقيموا بمكة إلا فترات، لحج أو لزيارة، فأثر ذلك على وضعها المالي، وأزال مكانها القديم في التجارة، فتغير بذلك كل شيء.

الفصل الخامس بعد المئة
البيع والشراء

أنواع للبيع

وقد تعرض أهل الأخبار لبعض أنواع البيع وطرقها التي كان يستعملها الجاهليون، وهي لا تختلف في طبيعتها عن طبيعة ما يسمى ب "الحظ والنصيب" في العهد الحاضر. ونظراً إلى ما قد كانت تسببه هذه الأنواع من خصومات ومنازعات بين المشتري وبين البائع، من بيعهم شيئاً مجهولاً غير معلوم، والى ما في كثير من هذه البيوع من غرر، نهى الإسلام عنها، وجاء ذكرها لذلك في كتب الحديث و الفقه.

والبيع والشراء، إما أن يكونا بشروط، يشترطهما أحدهما أو كلاهما عند عقد الصفقة، ويتم التوافق والتعاقد عليهما برضى البائع والمشتري، أي الطرفين، وإما ألا يكونا بشروط. فإذا اشترط المشتري على البائع شرط حق إرجاع السلعة اليه،إن وجد فيها شيئاً مخالفاً للوصف، ورضي البائع بذلك، فللمشتري حق إرجاع السلعة اليه في حدود معقولة، وقد يعين زمن ذلك الحق وهو ما يحدث في الغالب.

ومن جملة طرق البيع "بيع الحصاة". وهو بيع ذكر أهل الأخبار أنه كان متبعاً في سوق "دومة الجندل" المنعقدة في أول يوم من شهر ربيع الأول. وقد ذكروا أن هذه المبايعة من بيوع الجاهلية التي أبطلها الإسلام. وتفسير ذلك أن يقول أحد المتبايعين للآخر: إرم هذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم، أو أن يبيع أحد المتبايعين من أرضه قدر ما انتهت اليه رمية الحصاة،او أن يقبض على كف من حصى ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع، أو يبيعه سلعة ويقبض، على كف من الحصى ويقول: لي بكل حصاة درهم، أو أن يمسك أحدهما حصاة في يده، ويقول: أي وقت سقطت الحصاة وجب البيع، أو أن يتبايعا ويقول أحدهما: إذا نبذت اليك الحصاة فقد وجب البيع،أو أن يعترض القطيع من الغنم فيأخذ الحصاة ويقول: أي شاة أصابتها فهي لك بكذا ، أو هو أن يقول بعتك من السلع ما تقع عليه حصاتك إذا رميت بها ،أو بعتك من الأرض إلى حيث تنتهي حصاتك. أو أي ثوب من هذه وقعت الحصاة التي أرمي بها فهو لي بكذا، فيقول البائع: نعم.فيقع البيع لوجود شروط الايجاب والقبول.

ومن طرق البيع بيع الملامسة، والمراد بالملامسة المس باليد، وأن يجعل عقد البيع لمس المبيع. وذكر أن بيع الملامسة: أن تشتري المتاع بأن تلمسه ولا تنظر اليه. وذلك كأن يقول: "لمَسْمتَ ثوبي أو لمستُ ثوبك أو إذا لمست المبيع، فقد وجب البيع بيننا بكذا وكذا، ويقال هو أن يلمس المتاع كل من وراء الثوب ولا ينظر اليه،ثم يوقع البيع عليه" و " قيل: معناه أن يجعل اللمسَ باليد قاطعاً للخيار".

وقيل هو أن يأتي البائع بثوب مطوي ثم يطلب من المشتري أن يلمسه، ثم يقول له: "بعتك إياه بثمن كذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك". أو أن يقول له: "إذا لمست هذا الشيء فهو لك ": فيكون اللمس نهاية خيار المشتري. وهو محل بذلك محل النظر إلى الشيء الذي سيباع وتدقيقه وتمحيصه للوقوف على مقدار جودته أو بما فيه من عيوب. فهو بيع شرطه اللمس ولا خيار فيه. ومن بيع الملامسة، أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب الآخر، ولكن يلمسه لمساً.

واختلف الفقهاء في تفسير الملامسة على ثلاث صور: إحداها أن يكتفي باللمس عن النظر ولا خيار له بعده، بأن يلمس ثوباً لم يره ثم يشتريه على أن لا خيار، له إذا رآه. الثانية، أن يجعل اللمس بيعاً، بأن يقول: إذا لمسته، فقد بعتكه، اكتفاءً بلمسه عن الصيغة. الثالثة، أن يبيعه شيئاً على انه متى لمسه لزم البيع وانقطع خيار المجلس وغيره اكتفاء بلمسه عن الالزام بتفرق أو تخاير. وبطلان المبيع المستفاد من النهي، لعدم رؤية المبيع، واشتراط نفي الخيار في الأولى ونفي الصيغة في عقد البيع في الثانية، وشرط نفي الخيار في الثالثة.

ومن البيوع، بيع المنابذة. وهو أن يجعلا النبذ بيعاً. وهو أن تقول لصاحبك: انبذ إلي الثوب أو غيره من المتاع، أو انبذه اليك، وقد وجب البيع بكذا وكذا. أو هو أن ترمي اليه بالثوب ويرمي إليك بمثله. وهو أن يجعلا النبذ بيعاً بغير صيغة، أو أن يجعلا النبذ قاطعاً للخيار. ويقال له بيع الإلقاء. وقيل هو أن تقول: إذا نبذت الحصاة اليك، فقد وجب البيع، أو أن ينبذ الرجل إلى الرحل بثوبه، وينبذ الآخر اليه ثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراضٍ. فيكون النبذ وحده هو البيع و "النجش"، أن يبيع الإنسان بياعة فتساومه بثمن كثير لينظر إليك ناظر فيقع فيها، وكذلك في الأشياء كلها. وقيل: النجش في البيع أن يزيد الرجل ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، ولكن ليسمعه غيره فيزيد بزيادته. وقيل أن تمدح سلعة غيرك ليبيعها، أو أن تنفر الناس عن الشيء إلى غيره. والغاية من كل ذلك هو غش المشتري وجرّ النفع. لذلك نهي في الإسلام عنه. و"التناجش" في البيع المنهى عنه، هو التزايد في البيع وغيره. وأن يقول الرجل للرجل بيعُ فيقول نظر، أي انظرني حتى اشتري منك. والنجش في الشرع، أن يزيد في ثمن السلعة من غير رغبة ليوقع غيره فيها. فهو بيع غش وخداع.

ويقال للنجش الفلح. قالوا، الفلح النجش في البيع،وذلك أن يطمئن اليك، فيقول لك بع لي عبداً أو متاعاً أو اشتره لي، فتأتي التجار فتشتريه بالغلاء وتبيع بالوكس وتصيب من التاجر، وهو الفلاح. وذكر انه زيادة المشتري ليزيد غيره فيغريه.

ومن طرق البيع أيضاً: البيع ناجزاً بناجز. أي يداً بيد. ومن بيوعهم قول أحدهم بعتك هذا الثوب نقداً بدينار ونسيئة بدينارين، وقد ورد في الحديث: لا يجوز شرطان في بيع، أي مثل هذا البيع.

والبيعُ مُزابنة،وهو بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر. وبيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر. أو بيع كل ثمر على شجرة بتمر كيلاً. أو بيع التمر على رؤوس النخل بالذهب والفضة. وقد نهي عنه في الإسلام،إلا إذا انضج ولا يباع منه إلا بالدرهم والدينار. وذلك لأنه بيع مجازفة، ولما يقع فيه من الغبن والجهالة. وروي عن الإمام "مالك" انه قال: المزابنة كل جزاف لا يعرف كيله ولا عدده ولا وزنه بيع بمسمى من مكيل وموزون ومعداد. أو هي بيع معلوم بمجهول من جنسه أو بيع مجهول بمجهول من جنسه، أو هي بيع المغابنة في الجنس الذي لا يجوز فيه الغبن، لأن البيعين إذا وقفا فيه على الغبن، أراد المغبون إن يفسخ البيع،واراد الغابن أن يمضيه، فتزابنا فتخاصما فتدافعا. وتكون المزابنة في النخل غالباً. وذكر إن سبب ورود النهي عن هذا البيع، هو انه يؤدي إلى ربا الفضل، إذ الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة من حيث انه لم يتحقق فيها المساواة المشروطة في الربوى بجنسه.

وكان هذا البيع معروفاً عندهم. وذلك إن يبيع رجل ثمر نخله بتمر كيلاً أو بغير كيل، أو أن يبيع كرمه بزبيب، فورد النهي عنه في الإسلام، وإنما نهى عن ذلك لجهل المبيع. واعتبر هذا البيع نوعاً من أنواع الربا.

ومن البيوع الجاهلية: المخاضرة، بيع الثمار خضراً قيل أن يبدو صلاحها. ويدخل فيه بيع الرطاب والبقول وأشباهها على قول بعض. سُميّ مخاضرة لأن المتبايعين تبايعا شيئاً أخضر بينهما، مأخوذ من الخضرة.

وقد نهي عن "المعاومة" في الإسلام. وهي بيع النخل معاومة. وأن تبيع زرع عاملك بما يخرج من قابل. أو أن تبيع ثمر النخل أو الكرم أو الشجر سنتين أو ثلاثاً فما فوق. فهو بيع السنين، ولما فيه من غرر ومن بيع لمجهول، لم يصح هذا البيع في الإسلام.

و "الطني": شراء الشجر، او بيع ثمر النخل خاصة. ونهى في الإسلام عن بيع صبرة التمر المجهولة القدر، أي بيع المبيع بالكومة، ولا يعلم مكيلته بالكيل.

ومن ذلك أيضاً البيع المعروف ب "المجر"، وهو من بياعات الجاهلية. والمجر بيع ما في بطون الحوامل من الإبل والغنم، وهو إن يباع الشيء.بما في بطن الناقة، وأن يباع البعير أو غيره بما في بطن الناقة، ولا يقال لما في البطن مجراً إلا إذا ثقلت الحامل. فالمجر اسم للحمل الذي في بطن الناقة، وحمل الذي في بطنها.

ونهى الإسلام عن بيع "حبل الحبلة"، وهو بيع نتاج النتاج،وبيع الأجل، فكان الرجل في الجاهلية يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها، أو بيع حبل الكرم قبل أن يبلغ، ومنه بيع الملاقيح والمضامين. والملاقيح ما في البطون من الأجنة والمضامين ما في أصلاب الفحول، وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة وما يضربه الفحل في عام أو أعوام. وسبب النهي عنه انه من بيوع الغرر، وهو بيع مجهول.

ومن بيوع أهل الجاهلية: "الغَدَوى"،وذلك أن تبيع الشاة بنتاج ما نزا به الكبش ذلك العام. وقيل كل ما في بطون الحوامل، وقوم يجعلونه في الشاة خاصة. أو هو أن يباع البعير أو غيره بما يضرب الفحل، أو أن تباع الشاة بما نزا به الكبش. وكان الرجل منهم يشتري بالجمل أو العنز أو الدراهم ما في بطون الحوامل.

وأما بيع "الغذى"،فهو كالسابق أن يباع بنتاج ما نزا به الكبش. وقيل بل يكون الغذى من الإبل والبقر والغنم. وأظن أن "الغدى" و "الغذى" شيء واحد. وقد أخطأ بعض النساخ في حرفي الدال أو الذال، فصارت الكلمة كلمتان.

وقد نهي في الحديث عن بيع الملاقيح والمضامين. روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: "لا ربا في الحيوان،وإنما نهي عن الحيوان عن ثلاث، عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة " فالملاقيح ما في ظهور الجمال، والمضامين ما في بطون الإناث. وورد العكس، اًي الملاقيح ما في بطون الإناث،والمضامين ما في أصلاب الجمال. وكانوا يتبايعون أولاد الشاة في بطون الأمهات وأصلاب الآباء. و "الرجع" أن تباع الذكور ويشترى بثمنها الإناث. وقيل بيع الإبل بعد الارتجاع منها. و"الرجعة: إبل تشتريها الأعراب ليست من نتاجهم وليست عليها سماتهم". و"الراجعة: الناقة تباع ويشترى بثمنها مثلها". والرًّجِيعة بعير ارتجعته، أي اشتريته من أجلاب الناس، ليس هو من البلد الذي هو به. وكانوا يربحون من بيع الذكور وشراء الإناث بثمنها، لنأ الإناث تلد، فيكثر عندهم المال. "قيل لقوم من العرب بمَ كثرت أموالكم ? فقالوا: أوصانا أبونا بالنجع والرجع". فالنجع: طلب الكلأ، والرجع أن تباع الذكور ويشترى بثمنها الإناث. وبذلك يكثرون أموالهم.

وتدخل في البيوعات الجاهلية بيع الرجل ما ليس عنده، وهو يتضمن نوعاً من الغرر، فإنه إذا باعه شيئا معيناً وليس في ملكه ثم مضى ليشتريه ويسلمه له كان متردداً بين الحصول وعدمه، فكان غرراً يشبه القمار فنهى الإسلام عنه. وبيع المعدوم لا يدري يحصل أو لا يحصل ولا ثقة لبائعه بحصوله بل يكون المشتري منه على خطر، فإن البائع إذا باع ما ليس في ملكه ولا له قدرة على تسليمه ليذهب ويحصله ويسلمه إلى المشتري كان ذلك شبيهاً بالقمار والمخاطرة من غير حاجة بهما إلى هذا العقد ولا تتوقف مصلحتهما عليه، لهذا منع الشارع بيعه، لا لكونه معدوماً بل لكونه غرراً.

وقد نهى الإسلام عن بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه. فورد إن الرسول نهى عن أن يستام الرجل على سوم أخيه. وكان أهل الجاهلية يستامون بعضهم على بعض بما في ذلك استيام الأخوة، فنهى عنه، لما قد يحدث هذا الاستيام من فرقة واختلاف بين الأخوة.

ونهى الإسلام عن التلقي للركبان، أي عن تلقي البيوع والسلع حتى تبلغ الأسواق. وقد ورد في الحديث: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقاّه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار". وذلك لأن من تلقاهم يكذب في سعر البلد ويشتري بأقل من ثمن المثل وهو تغريرا. وقد نهى عن بيع الحاضر للبادي. وذلك بأن يكون له سمساراً ليكسب منه، أو أن يطلب الحاضر من البادي أن يترك متاعه عنده حتى يبيعه بسعر أغلى، وذلك لما في هذا البيع من تغرير ومن ضرر يصيب الناس.

ونهى الإسلام عن بيوع أخرى من بيوع الجاهلية، منها بيع "الغرر"، ويراد به البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان،وهو بيع المخاطرة وهو الجهل بالثمن أو المثمن أو سلامته أو أجله، ومن ذلك بيع العبد الآبق الذي لا يقدر على تسليمه والفرس الشارد والطير في الهواء، وبيع السمك في الماء، وكبيع ضربة الغائص وما تحمل شجرته أو ناقته وما يرضى له به أو يهبه له أو يورثه إياه ونحو ذلك مما لا يعلم حصوله أو لا يقدر على تسليمه أو لا يعرف حقيقة مقداره، فهو بيع شيء مجهول. وقد كانت من البيوع الشائعة بين الجاهليين تفنّناً في الغش، وفي الكسب من أي طريق كان.

وقد عرفوا بيعة الغائص، بأن يقول الغائص في البحر للتاجر: أغوص غوصة،فما أخرجت فهو لك بكذا، فيتفقان على ذلك. وقد نهي عنه لأنه غرر. ومن البيوع الجاهلية: "الجس"، وهو بيع عُرِف بسوق صنعاء. فإذا تعاقد شخصان على سلعة، ووافقا على البيع، جس أحدهما يد الآخر،علامة على صحة البيع.

ومنها: "السرار". فإذا وجب البيع وعند التاجر إلف ممن يريد الشراء ولا يريده، اشركه في الربح.

وهناك نوع من البيوع يقال له "الجزاف"،وهو أخذ الشيء بالحدس بلا كيل ولا وزن ولا عدد.

وقد عرف "بيع المزايدة" عند الجاهلين كذلك. وهو أن يعرض ما يراد بيعه للبيع فيتزايد من يريد شراءه على ثمنه، حتى يقف على آخر من يقدم أكثر سعر له.

ومن البيوع بيع "العينة"، أن يشتري التاجر بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم ويقبضه ثم يبيعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى، ثم يبيعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن الذي اشتراها به، فهذه عينة. وسميت عينة لحصول النقد لطالب العينة. وذكر إن العينة، إذا باع التاجر من رجل سلعته بثمن معلوم إلى أجل معلوم، ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن الذي باعها به. وللفقهاء كلام في هذا البيع. وقد كانوا يربحون من "العينة"، قال"ا عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وكان من سادة قريش: "أُغد غداً الى السوق، فخذ لي عينة"، فغدا ابنه فتعين من السوق عينة لأبيه، ثم باعها، فأقام اياماً، ما يبيع في السوق طعاماً ولا زيتاً غير ابنه من تلك العينة. وربح منها ربحاً طيباً.

وقد كان في جملة البيوع التي نهى عنها الرسول، حاضر لباد، والبادي هو الذي يكون في البادية، مسكنه المضارب والخيام، والحاضر ساكن الحضر، وصورة البيع للبادي أن يقدم غريب من البادية بمتاع ليبيعه بسعر يومه، فيقول له البلدي: اتركه عندي، لأبيعه لك على التدريج بأغلى منه. أو أن تشتري السلع من الأعراب الوافدين على القرى وهم في طريقهم إلى االسوق وأماكن البيع بأثمان بخسة ، ثم عرضها في السوق واغلاء أثمانها فيها،أو تشرى السلع منهم، وهي في السوق وعرضها مرة أخرى للبيع، لكسب الفرق بين السعرين، وقد نهى الإسلام عن هذا البيع، لما فيه من احتكار واضرار بالمصلحة العامة،ليكتسب بذلك نفر محدود من الناس. وللفقهاء في هذا البيع كلام وآراء.

وقد كان الناس يلجأون إلى أساليب غير حميدة من أساليب التلاعب بالأسعار، وغش المشترين والتحايل بالبيع، كأن يأتي البائع بجماعة من أصحابه يتظاهرون بالشراء وبالتكالب على السلعة لرفع السعر، حتى يدقع الحاضرين على رفع السعر، فيرسو البيع عليهم. وبذلك يغش البائع المشتري. وهو بيع نهي عنه في الإسلام.

ومن البيوع التي تتضمن الغش والخداع بيع التصرية. وكان من عادة العرب إذا أرادوا بيع شاة أو ناقة تركوا أياماً لا يحلبونها، فيبقى اللبن في ضرعها، فيكبر، فيعرضها البائع للبيع، ويظن المشتري إن كبر ضرعها ووجود اللبن بغزارة فيه، هو بسبب إن تلك الشاة أو الناقة حلوبة، فيشتريها، فيغش. ونظراً إلى ما في هذا البيع من غش وخداع نهى عنه في الإسلام، وجعل خيار البيع ثلاثة أيام، فإن ردها ردّ معها صاعاً من تمر، وإن شاء أمسكها. ويقال لهذا البيع أيضاً بيع المصراة.

وقد يشتري الشركاء سلعة رخيصة، ثم يتزايدون بينهم حتى يبلغوا غاية ثمنها، فيشتريها من يرسو الثمن عليه، ويأخذها. ويقال لذلك: "التقاوي". ولم ير الإسلام بأساً بذلك. وفي حديث ابن سيرين لم يكن يرى بأساً بالشركاء يتقاوون المتاع بينهم فينمى ويزيد.

ومن البيوع التي نهي عنها في الإسلام "الإعراب". أن يقول الرجل للرجل: إن لم آخذ هذا البيع بكذا، فلك كذا وكذا من مالي.

الخلابة

ومن البيوع الفاسدة الخلابة. وتقوم على المخادعة، والخلابة المخادعة. وفي الحديث: أن بيع المحفلات خلابة، ولا تحلّ خلابة مسلم. والمحفلات التي جمع لبنها في ضرعها. وفي حديث النبي، أنه قال لرجلٍ كان يخدع في بيعه: "إذا بايعتَ، فقل لا خلابة، أي لا خداع". وذلك لأن بعض الباعة كانوا، يخادعون المشتري في بيوعهم.

ومن بيوع أهل الجاهلية: بيع المواصفة، وهو أن تواصف الرجل بالسلعة ليست عندك. وقد أبطل هذا البيع بعض الفقهاء، وأجازه بعض آخر،إذا وافقت السلعة الصفة.

وقد يتفق في السلعة الرهط، فلا يجدون بداً من أن يشتركوا وهم كارهون. وربما اتفقوا فألقوا الحجارة جميعاً إذا كانوا عدداً على أمر بينهم فوكسوا صاحب السلعة إذا طابقوا عليه.

ومن بيوع أهل الجاهلية بيعهم الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح. وقد نهي عنه في الإسلام، إلا سواء بسواء، أي إلا متساويين، ويداً بيد. ويسمى هذا البيع "مراطلة" إن كان بالوزن، ومبادلة إن كان بالعدد. وأما بيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، فقد أبيح ذلك في الإسلام كيف شاء المتبايعون، بتفاضل أو بتساو، لأن بيع الذهب بالفضة والعكس يسمع "صرفاً" ويجوز فيه التفاضل، لكن يشترط فيه التقابض يداً بيدْ.

ويظهر من منع الإسلام لبيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا إن يكونا متساوبين ويداً بيد، أي مقبوضين، إن أهل الجاهلية كانوا يبيعون الذهب بذهب يزيد عليه حين يؤديه في أجله حدود، فاعتبر الإسلام ذلك علة من علل الربا، وعلته هنا الثمينة، ولو تبايع الناس بالجلود لنهى عن التفاضل فيها. والعلة في الأربعة الآخرى الادخار للقوت أو ما يصلح للقوت. وعلة الربا هي النقدية أو الطعم أو الاقتيات.

ومن بيوع أهل الجاهلية بيع حق الانتفاع، مثل أن يبيع بائع لمشتري حق الانتفاع من ظهر دابة، بأن يستفيد من ركوب ظهر الدابه التي اشتراها، ولكن للدابة تكون مع ذلك لصاحبها. ومن ذلك اشتراط البائع على المشتري ظهر الدابة إلى مكان معين.

وقد كان الباعة الجاهليون يفعلون في أسواقهم ما يفعله باعة أيامنا من صخب في السوق، ومن لغط ومن قسم على جودة السلع ورخص أسعارها، يريدون التأثير على المشترين وحملهم على الشراء. وقد لاحظ الرسول ما في هذا الصخب من ضرر، وما في هذا النوع من الدعاية للبضاعة من غش، فنهى عنه.

وقد لخصت بعض كتب الحديث والفقه البيوع وعرفتها على النحو الاتي: البيع المطلق إن كان بيع العين بالثمن، والمقايضة إن كان عيناً بعين، والسلم إن كان بيع الدين بالعين، والصرف إن كان بيع الثمن بالثمن، والمرابحة إن كان بالثمن مع زيادة، والتولية إن لم يكن مع زيادة. والوضيعة إن كان بالنقصان، واللازم إن كان تاماً، وغير اللازم إن كان بالخيار، والصحيح والباطل والمكروه، والبيع نقداً، وهو خلاف النسيئة. وهو أن يشتري الرجل شيئاً، فيعطي البائع نقداً معجلاً. أما بيع النسيئة، فهو البيع، المؤخر، أي الذي يدفع ثمنه مؤخراً.

وقد اتخذ الإسلام قاعدة عامة في البيوع، هي: بطلان بيع المبيع الذي يقوم على بيع المجهول كمّاً وكيفية وقبل التأكد منه، أي بيع المجهول، لما في ذلك من التغرير، أي الخداع في البيع والغبن، ولما يقع من هذه البيوع من أضرار ولما تحدثه من خصومات ومجادلات ومن تلاعب في الأسعار ومن تأثير ذلك في الناس المنتفعين. فأبطل بيع المبيع قبل القبض، إِذ كان الجاهليون يتبايعون بالذهب والطعام وهو مرجأ، يشترون الطعام من الركبان جزافاً، ثم يبيعونه في مكانه، لكسب،فنهى الرسول عن هذا النوع من البيع، حتى يؤووه إلى رحالهم ويحوّلوه، وفي رواية ويكتالوه، وأمر الرسول بضرب من يبتاع الطعام جزافاً ، كما نهى عن معظم الييوع المذكورة واعتبرها باطلة، لا تعتبر عقداً صحيحاً مشروعاً لمن عقده.

والبيوع المذكورة وإن كانت بيوعاً بنيت في الواقع على ايجاب وقبول في البيع وتراض من الطرفين وبموافقة محصول البيع من المتعاقدين: البائع والمشتري، غير إن هذه البيوع كانت تحدث منازعات أحياناً بين الطرفين، وتنتج ضرراَ لذلك نهى عنها في الإسلام وقيّد بعضها بقيود حتى تحدّ من وقوع المخاصمات قدر الإمكان ومن وقوع الغلط في السلعة، من حيث الجنس والنوع أو من حيث الصفة، ومن وقوع الغبن والتغرير.

الحكرة

الحكرة وتعرف أيضاً باللأحتكار، ويراد بها حبس الطعام ليتربص به الغلاء.

وذلك للحصول على كسب زائد. وقد كان أهل المال من الجاهليين يقصدون الأسواق، فيشترون ما يرون فيه ربحاً في المستقبل من طعام أو ما شابه ذلك من مواد ضرورية، ثم بختزنونها، ويبيعونها عند حلول الموسم أو وقوع مجاعة أو فرص مؤاتية بسعر مرتفع، غير مبالين بما في ذلك من ضرر ومن استغلال لأحوال الناس، وقد ورد النهي عن هذا البيع في الإسلام.

ومن التجار المتمكنين من كان يشتري حمولة قافلة كاملة، ثم يحتكرها ليبيعها وقت الحاجة، أو يسخرها ويبيع منها على التفريق بغية الربح، فلا ينافسه على ربحها أحد. ويجعل لما اشتراه السعر الذي يشاء.

ومن التجار من كان يتلقى "الركبان" ليشتروا ما معهم من طعام، وذلك قبل وصولهم السوق. فيتضرر بذلك تجار الأسواق، والمستهلكون، أي المشترون، ومن هذا القبيل، خروج الحضر"،لاستقبال البدو، أي الأعراب، الذين يقصدون الحواضر، لبيع ما عندهم من سلع، فكان أصحاب المال يستقبلونهم قبل وصولهم السوق، وقبل اتصالهم بالتجار، ووقوفهم على السعر، نيشترون منهم ما يحملونه من سلع، لبيعها في السوق.

شهود البيع

وقد كان من الجاهليين من يشهد "شهوداً" على التبايع، أي جعل له شهوداً يشهدون على صحة المعاملة، ومنهم من كان يكتب التبايع وشروطه بكتاب، حتى لا ينكل أحد المتبايعين عن البيع، ويلحق الضرر بالطرف الآخر. إذ يكون الكتاب حجة وشاهداً والى ذلك أشير في القرآن الكريم: "وأشهدوا إذا تبايعتم. ولا يضار كاتب ولا شهيد"، وذلك منعاً لما قد يحدث من خلاف ونزاع بين المتكاتبين، فيرجع عندئذ إلى ما هو مكتوب ويعمل بموجبه.

فسخ البيع

والبيع عقد فيه أيجاب وقبول، فلا يجوز فسخه والتخلص منه من غير سبب مخلّ بعقد شرط االبيع. أما إذا حصل تراض على فسخ الصفقة فذلك مباح لأنه قد حصل عن رضا وموافقة واختيار، دون إكراه ولا إجبار. ويعبر عن تفاسخ الصفقة ب "تقابل البيع". يقال: تقايلا بعدما تبايعا أي تتاركا. وأقلته البيعَ إقالة: فسخه. وعاد المبيع إلى مالكه والثمن إلى المشتري،إذا كان قد ندم أحدهما أو كلاهما.

العربون

و "العربون" ما عقد به البيع. ويعبر عنه ب "عربن" في المسند. وتقابل هذه اللفظة لفظة "العربان" في عربية القران الكريم. وهو ما يقدمه المشتري للبائع لعقد البيع، إذا كان البيع نسيئة، حتى يسلم تمام الذي الذيَ اتفق عليه. ولهذا لا يكون عربوناً إذا تم البيع يداً بيد، أي إذا دفع الثمن كاملاً في مجلس البيع، وتم البيع والاستلام، إذ لا حاجة عندئذ اليه، لأن العربون وديعة تقدم للائتمان، لتكون وثيقة للبيع، ولقبول المشتري السلعة، فلا يحق له النكول عن البيع وإلا خسر عربونه، وليكون ضماناً للبائْع على البيع، فإذا نكل المشتري وامتنع عن الشراء خسر عربونه، وصار حقه للبائع بدل النكول. ولهذا يكون العربون في الغالب مبلغاً يرضي البائع، أي متناسباً مع قيمة البيع.

وكما يكون "العربون" في البيع يكون في الاجارة، وفي العمل. وذلك أن يقدم الرجل ربّ العمل أو المال إلى الصانع أو التاجر ليرتبط العقد بين بينهما حتى يتوافيا بعد ذلكْ. فإذا أخلف رب العمل أو المال في وعده وخاس في عهده، صار العربون من حق الصانع أو التاجر.

ويعبر عن العربون بلقظة "ودعت" في المسند. ويراد بها الوديعة. والوديعة في عربيتنا ما استودع. يقال: استودعه مالا" وأودعه أياه: دفعه اليه ليكون عنده وديعة. فالوديعة في هذه العربية قد تؤدي معنى العربون، وقد تؤدي معنى الرهن والرهينة، وقد تؤدي معنى الاستيداع مطلقاً، أي ايداع شيء عند شخص وحفظه لديه. وأنا لا أستبعد أن يكون هذا المعنى، هو معناها في لغة المسند أيضاً.

ويقال للعربون، الآربون كذلك. وهو ما عقد به المبايعة، أو البيعة من الثمن. وفي الحديث أنه نهي عن ببع العربان، وهو أن يشتري السلعة ويدفع إلى صاحبها شيئاً، على أنه إن أمضى البيع حسب من الثمن، وإن لم يمض البيع كان لصاحب السلعة، ولم يرتجعه المشتري. وذكر هو القليل من الثمن أو الأجرة يقدمه الرجل إلى الصانع أو التاجر ليرتبط العقد بينهما حتى يتوافيا بعد ذلك. فكما أنه يكون في البيع يكون في الاجارة. وللعلماء الفقهاء آراء في جواز أو عدم جواز البيع بالعربون ا.

و "الكُلأة" النسيئة والعربون، أي السلفة. وفي الحديث نهي عن الكالىء بالكالىء، يعني النسيئة بالنسيئة.

و "المسكان" العربون كذلك. وجاء في الحديث النهي عن بيع المسكان، وهو أن يشتري شيئاً فيدفع إلى البائع مبلغاً على انه إن تم البيع احتسب من الثمن، وإن لم يتم كان للبائع ولا يرتجع منه.

الخيار في البيع

والخيار في البيوع طلب خير الأمرين: إما الامضاء وإما البيع أو فسخه.

فقد يرى البائع أو المشتري في السلعة المشتراة رأياً، لم يكن له حن عقد صفقة البيع. وللفقهاء كلام عليه، وهو أنواع عندهم، منها خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار المرؤية وهو شراء ما لم يره على انه بالخيار إذا رآه، وخيار العيب، وخيار تلقي الركيان، وخيار تفريق الصفقة وتفريقها بتعددها بالابتداء، وخيار العجز عن الثمن، وخيار فقد الوصف المشروط في المبيع، والخيار فيما رآه قبل العقد إذا تغير عن صفته، وغير ذلك. وقد جعل بعضهم الخيار ثلاثة أضرب: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار النقيصة.

وقد يشترط في البيع ألا يضمن عهدته. ويقال لهذا النوع من البيع: "الملسى" و "الملسى"، هي البيعة التي لا يتعلق بها تبعة ولا عهدة. يقال: أبيعك الملسى لا عهدة. أي تتملس وتنفلت ولا ترجع إليّ. ويقال في البيع ملسى لا عهدة، أي قد انملس من الأمر لا له ولا عليه.

صفات البيع

وإذا تم عقد بيع بين بائع ومشتر، يضع أحدهما يده في يد الآخر، دلالة على قبول البيع وتمامه. ومن هنا قيل للتبايع الصفق. وورد: تصافقوا، أي تبايعوا. وبذلك يتم البيع ويكون في عرفهم بيعاً صحيحاً.

وكانت عادتهم انهم إذا تبايعوا تصافقوا بالأيدي، دلالة على عقد البيع وحصول الرضا به، ووقوع الايجاب والقبول من البائع والمشتري، ومن هنا قيل للبيعة صفقة، والصفقة تكون للبائع والمشتري. ومتى تم التصافق فلا يجوز لأحدهم النكول عن البيع، لأنه عقد عقداً وأمضى أمراً، وكان عليه أن يعمل رأيه قبل المصافقة، واذا كانت البيعة على شيء مجهول، كأن تكون السلعة المباعة قد خبئت في خباء وبيعت مجهولة، ووافق المشتري على شرائها على تلك الحالة، ثم تبين انها دون الثمن بكثير، فلا حق للمشتري برد البيع، لأنه حين شرائه تلك السلعة كان يعلم انها مخبأة وانها تباع بيع الشيء المجهول. وقد رضي بالبيع بالمصمافقة، فلا حق له اذن برفض السلعة.

الديْن

وقد لعبت الديون دوراً خطيراً في الحياة العامة في الجاهلية وفي الحياة الاقتصادية بصورة خاصة، لاضطرار التجار إلى التعامل بالدين، وكذلك الباعة والمشترين.

وتلعب الحاجة الدور الأول في التداين، فلولاها لما استدان مدين. وقد استدان أصحاب المال بعضهم من بعض أيضاً، لتمشية أمورهم المالية، ولتوسيع رأسمالهم بالدين، بتشغيله للحصول على ربح كبير منه. وذلك على نحو ما يفعل التجار في هذا اليوم، من التداين من البنوك، لتشغيل ما يستقرضونه منها في أعمال تجارية تأتي اليهم بأرباح تزيد كثيراً على مقدار للفائدة التي ستدفع للبنوك.

وقد أشير إلى الدين في القرآن الكريم. ورد في سورة البقرة: )يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجلّ مسُمى، فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل(. يعني "يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إذا تداينتم يعني إذا تبايعتم بدين أو اشتريتم به أو تعاطيتم أو أخذتم به إلى أجل مسمى. يقول إلى وقت معلوم وقتموه بينكم. وقد يدخل في ذلك القرض والسلم في كل ما جاز السلم شرى أحل بيعه، يصير ديناً على بائع ما أسلم اليه فيه، ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة. كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى، إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه. كان ابن عباس يقول: "نزلت هذه الآية في السلم خاصة".

و "السلم" الذي يشير "ابن عباس" اليه، هو "السلف". وأسلم واسلف بمعنى واحد. والسلف القرض الذي لا منفعة فيه للمقرض،غير الأجر والشكر، وعلى المقترض ردّه كما أخذه.

والدين في تعريف العلماء ما له أجل، وما لا أجل له فقرض. وبينهما وبين السلم فروق عرفية. والقرض ما تعطيه من المال لتقضاه.

وقد كان من الصعب دفع الديون أو استحصالها، للاحوال الاقتصادية السيئة التي قد تحيط بالمدين. فإذا اخذ الرجل الدين أكله، فإذا أراد صاحب الدين حقه لواه به، أي مطله. ومنه المثل: الأخذ سلجان والقضاء ليان.

المنحة

والمنحة العطية. وقد تقع المنحة على الهبة مطلقاً، لا قرضاً ولا عارية،فتكون له. وقد تكون إعارة للاستفادة من منفعة، ثم تعاد. ومن هذا القبيل منحة الأرض. فقد تمنح هبة، فتكون لمن وهبت له، يستغل منفعتها، وله إن يبيعها متى شاء، لأنها هبة وهبت له، فصارت في حم ملكه، وقد تستغل إعارة لأجل يتفق عليه، أو بغير أجل، يستردها صاحبها متى شاء وأحب. ومن المنح، منح الإبل، للاستفادة من وبرها وألبانها وولدها، والسفر عيها، واكرائها للقوافل وللأشخاص. والمنحة المعارة مردودة. وقد ورد في الحديث: "المنحة مردودة، والعارية مؤداة". وورد إن المنحة عند العرب على. معنيين: أحدهما إن يعطي الرجل صاحبه المال هبة أو صلة فتكون له. وأما المنحة الآخرى،فإن يمنح الرجل أخاه ناقة أو شاة يحسبها زماناً وأياماً ثم يردها. وهو تأويل ترسل ما ورد في الحديث من قوله: "المنحة مردودة والعارية مؤداة".

الفصل السادس بعد المئة
الشركة

والشركة في البيع، معروفة عند الجاهليين، فقد كان الناس يشتركون في البيع، بالمساهمة، بمال الشركة مناصفة أو على نصيب يعين أو بنسب يتفقون عليها، وبالمساهمة بمال يقدم من جهة وبعمل يقوم به للطرف الآخر و فق شروط يتفق عليها المشاركون بالنسبة إلى الربح أو إلى الخسارة. وقد كان من عادة أهل مكة مساهمة معظم أهلها في مال تجارتهم التي يرسلونها إلى اليمن والى بلاد الشام، ولهذا كانت القافلة التي يرسلونها تكون كبيرة ضخمة، يزيد عدد جمالها على الألف. ومعنى هذا أن المال الذي تحمله القافلة يكون كبيراً غالياً، وذلك لأن أكثر أهل مكة من الأغنياء والموسرين والمتوسطين قد ساهموا فيه.

ويقال للشريك "الجار". و "الجار" الشريك في العقار والشريك في التجارة. وقد يتكاتب الشركاء فيما بينهم، بأن يكتبوا ما اتفقوا عليه في صحيفة تحفظ نسخ منها عند الشركاء. وقد يتكاتبون، وانما يرضون بالوفاء على ما اتفقوا عليه، معتمدين على اخلاصهم في النية وعزمهم على الوفاء بما اتفقوا عليه بكل أمانة واخلاص. ونجد في كتب أهل الأخبار أمثلة على تشارك أشخاص للقيام بأعمال تجارية في مختلف أنحاء جزيرة العرب. فهي تبين إن الشراء كانوا يقدمون من أموالهم كذا وكذا من المال، للعمل شركة. فيخلطون المال المقدم من الشركاء حتى يصير شيئاً واحداً، وبعد إخراج رأس المال بعد الحساب، والمؤن والكلف يقسم الربح نصفين إن كانا شريكن، أو أكثر حسب عدد الشركاء ومقدار ما ساهم به كل واحد من الشركاء في رأس المال. وتوزع الخسائر، إن كانت هنالك خسائر على عدد المساهمين، وبنسب ما ساهم كل واحد من المساهمين في رأس المال.

وقد ورد في الأخبار إن "نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم" كان في الجاهلية شريكاً "للعباس بن عبد المطلب"، وكانا شريكن متفاوضين في المال متحابين. ولما وقع في الأسر في "بدر"، قداه العباس. وقد كان غنياً، أسلم، وأعان رسول الله يوم بدر بثلاثة آلاف رمح وكان "السائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ" يشارك الرسول في تجارته ويتاجران مع بلاد اليمن.

وذكر إن "السائب بن عبد الله" المخزومي، كان هو شريك الرسول وصاحبه في الجاهلية. وورد إن "السائب بن الحارث بن صبرة"، كان شريكاً للنبي بمكةْ. ويظهر إن اشتراك الثلاثة في الاسم، صير ثلاثتهم شركاء للرسول في تجارته، والصحيح إن واحداً منهم كان شريكاً له.

وكان "مرداس بن أبي عامر"، والد "العباس بن مرداس" الشاعر، شريكاً لحرب بن أمية، والد ابي سفيان. وكان "العباس بن أنس" شريكاً لعبد المطلب.

وقد شارك "البراء بن عازب" "زيد بن أرقم" بالصرف، وهو بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة. ثم راجعا رسول الله فيه، فقال لهما: ما كان يداً بيد فخذه، وما كان نسيئة فذروه.

وقد تشارك أهل مكة فيما بينهم في تكوين الشركات، كما تشاركوا مع غيرهم في تكوين شركات، أسست لها فروعاً في المحال التي أقام فيها الشركاء الغرباء. فقد شاركوا بعض أهل اليمن، وجعلوا من مواضع شركائهم فروعاً لهم هناك، يبيعون ويشترون شراكة، ويقتسمون الأرباح والخسائر على حسب ما اتفقوا عليه. فشاركوا أهل الحيرة، كانوا يرسلون تجارتهم اليهم، لبيعها في أسواق الحيرة،. ويرسل شركاؤهم من أهل الحيرة بضائعهم إلى مكة، لتصريفها بها، ثم يتحاسبون ويقسمون الأرباح أو الخسائر حسب ما اتفقوا عليه. وكان "كعب بن عدي" التنوخي الحيري، شريك "عمر" في التجارة. يتاجر معه في البز. وقد أسلم قبيل وفاة الرسول، وكان قد ذهب في وفد من أهل الحيرة إلى المدينة َفعرض الرسول عليهم الإسلام فأسلموا، فلما انصرفوا إلى الحيرة، جاءتهم أنباء وفاة الرسول، فارتاب أصحابه، وقالوا: لو كان نبياً لم يمت، وقال كعب: فقد مات الأنبياء قبله، وثبت على الإسلام، ثم خرج إلى المدينة، ورأى "أبا بكر"، فلما بعث أبو بكر جيشاً إلى اليمامة ذهب معه، ثم أرسله "عمر" إلى "المقوقس" وقدم الاسكندرية سنة خمس عشرة رسولاً من "عمر" إلى المقوقس. وشهد فتح مصر، وورد في رواية أخرى، أنه أسلم بعد وفاة الرسول، في خلافة "أبي بكر". وورد في رواية أخرى أنه كان أحد وفد الحيرة إلى الرسول، وكان شريك النبي في الجاهلية. وكان عقيداً أي حليفاً لعمر.

وقد أشرك أهل مكة سادات القبائل معهم في الاتجار، تأليفاَ لقلوبهم، وحماية لتجارتهم ولقوافلهم من ألتعرض للسلب والنهب، وكانوا يعطونهم نصيبهم من الأرباح. وهو عمل حكيم جعل سادات القبائل يفدون إلى مكة، ويعقدون العقود مع تجارهم للاتجار معهم. وبذلك توسعت تجارة مكة وزادت رؤوس أموال قريش.

وقد كان أهل اليمن يتشاركون في الأرض، وهو أن يدفعها صاحبها إلى آخر بالنصف أو الثلث أو نحو ذلك، وقد أشير إلى هذا التشارك في نصوص المسند.

وفي حديث معاذ: انه أجاز بين أهل اليمن الشرك، أي الاشتراك في الأرض.

????????????? ???

??????????انواع الشركات

ويقسم الفقهاء الشركة في التجارة إلى شركة عنان، وشركة مفاوضة، أو شركة عنان وشركة تفويض. وجعلها بعضهم أنواعاً أربعة: شركة الأبدأن كشركة الحمالين والجمّالين وسائر المحترفة ليكون كسبهما متساوياً أو متفاوتاً مع اتفاق الصنعة واختلافها، وشركة الوجوه، كأن يشترك وجيهان عند الناس ليباع كل منهما بمؤجل ويكون المبتاع لهما، فإذا باعا كان الفاضل عن الاثمان بينهما، وشركة المفاوضة، بأن يشترك اثنان بأن يكون بينهما كسبهما بأموالهما وأبدانهما وعيهما ما يعرض من مغرم. وسميت مفاوضه من تفاوضا في الحديث شرعا فيه جميعاً، وشركة الصعنان. وكلها باطلة إلا شركة العنان، لخلو الثلاث الأولى عن المال المشّترك ولكثرة الغرر فيها بخلاف الأخيرة فهي الصحيحهّ.

فأما "شركة العنان" أو "العنان" "شركة عنان"، فهي أن يخرج كل واحد من الشريكين دنانير أو دراهم مثل ما يخرج صاحبه ويخلطاها، ويأذن كل واحد منهما لصاحبه بأن يتجر فيه. فإن ربحا في المالين فبينهما، وان وُضعا فعلى رأس مال كل واحد منهما، وسميت هذه الشركة شركَة عنان لمعارضة كل واحد منهما صاحبه بمال مثل ماله ، وعمله فيه مثل عمله بيعاً وشراءً.. وقد أشر إلى هذه الشركة في شعر ينسب إلى النابغة الجعدي، حيث يقول: وشاركنا قريشاً في تقاهـا  وفي أحسابها شرك العنان 

وهناك شركة أخرى عرفت ب "شركة المفاوضة" "فوضى"، وهي أن يشتركا في كل شيء في أيديهما أو يستفيداه من بَعٌدُ، وقيل هو أن يعارض الرجلُ الرجل عند الشراء فيقول له: أشركني معك، وذلك قبل أن يستوجب العَتَق. ورد: "الشركة شركتان: شركة العنان، وشركة المفاوضة".

وذكر أن شركة المفاوضة، وهي العامة في كل شيء. وشركة العنان في شيء واحد. يقال شاركته شركة مفاوضة، وذلك أن يكون مالهما جميعاً من كل شيء يملكانه بينهما. وقيل شركة المفاوضة أن يشتركا في كل شيء في أيديهما أو يستفيآنه من بعد. يقال تفاوض الشريكان في المال إذا اشتركا فيه أجمع. والمفاوضة المساواة. ويقال متاعهم فوضى بينهم إذا كانوا فيه شركاء. كما يقال أيضاً فوضى فضا. قال الشاعر: طعامهم فوضى فضا في رحالهم  ولا يحسنون السـرّ إلا تـنـاديا

المشاركة

ويعبر عن "الشريك" ب "الخليط". والخليط المشارك في حقوق الملك كالشرب والطريق ونحو ذلك. وقيل الخليط والمخالط، لا يكون إلا في الشركة. وفي الحديث، أي حديث الشفعة: الشريك أولى من الخليط، والخليط أولى من الجار. أراد بالشريك المشارك في الشيوع، والخليط المشارك في حقوق الملك. ومنه الحديث: ما كاد من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية.

وقد أشير إلى "الخلطاء" في القرآن، ورد: )قال: لقد ظلم بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض(. والخلطاء الشركاء الذين خلطوا أموالهم،ء وقد تغلب الخلطة في الماشية.

وقد أشار أهل الأخبار إلى إن تجار قريش صاروا بأجمعهم تجاراً خلطاء ، جابوا البلاد وضربوا في الأرض إلى قيصر بالروم والى النجاشي بالحبشة ج؛ والى المقوقس بمصر. فهم شركاء يكسبون عيشهم بالتجارة بعد أن حرموا من خيرات الأرض في واديهم القفر.

والخلطاء للشركاء الذين خلطوا أموالهم، وقد تغلب الخلطة في الماشية. وذلك أن يتخالطوا في الماشية، فيقدم كل واحد عدداً من الماشية، ترعى معاً، ويقال لذلك: "الخلاط". وقد أشير إليه في كتب الحديث. وذكر بعض العلماء: أن الخليطين الشريكين لم يقتسما الماشية وتراجعهما بالسوية. وقد يكون ا الخليطان الرجلين يتخالطان بماشيتهما وإن عرف كل واحد ماشيته، ولا يكونا خليطين حتى يرتحا ويسرحا ويسقيا معاً، وتكون فحولهما مختلطة ، وإن تفرقا في مراح أو سقي آو فحول فليسا خليطين، ولا يكونان خليطين حتى يحول عليهما حول من يوم اختلطا. وللفقهاء بحث في هذا الموضوع.

والتراجع بين الخليطين، أن يكون لأحدهما مثلا أربعون بقرة وللآخر ثلاثون ومالهما مشترك، فيأخذ العامل عن الأربعين مسنة وعن الثلاثين تبيعاً، فيرجع بأذل المسنة بثلاثة أسباعه على خليطه، وبأذل التبيع بأربعة أسباعه على خليطه لأن كل واحد من السنين واجب على الشيوع، كأن المال ملك واحد.

والخلاطة شركة في الواقع، تختلف عن الشركة المعروفة في كونها شركة بالمال، وتلك شركة برأس المال. وكل واحد من الخليطين يتصرف بما عنده من مال، ثم يتراجعا عند الحساب، لاخراج ما فيه من ربح أو غرم، وبذلك تختلف الخلاطة عن الشركة.

السفتجة

وعرفت "السفتجة" بين الجاهليين. وهي كتاب صاحب المال لوكيله أن يدفع مالاً قراضاً يأمن به من خطر الطريق. وقيل: هو قرض استفاد به المقرض سقوط خطر الطريق، بأن يقرض ماله عند الخوف ليرد عليه في موضع أمن. أو أن يعطى رجل مالاً لآخر، وللآخر مال في بلد المعطي، فيوفيه إياه فيستفيد أمن الطريق وفعله السفتجة، والجمع السفاتج. وقد كان أهل الجاهلية يعطون مالاً لشخص محتاج اليه، على أن يوفيه في بلده لوكيل صاحب المال أو لمن يثق به، في مقابل نفع يعين، أو قرض لا نفع له. وفد نهى النبي عن قرض يجرّ نفعاً.

الوكالة

وعرفت الوكالة عند الجاهلين. والوكيل، هو الذي يقوم بأمر الإنسان، سمي به لأن موكله قد وكل اليه القيام بأمره، فهو موكول إليه الأمر وحكم الوكيل حكم الأصيل، والتاجر الوكيل في البيع والشراء، وفي كل تعامل، هو بمنزلة التاجر الأصيل صاحب المال، وما يعقده من عقود، يكون ملزماً بحق التاجر الأصيل. وقد عرف العلماء الوكالة: انها تفويض شخص أمره إلى آخر فيما يقبل النيابة.

ولا يشترط في الوكالة، أن تكون وكالة تجارة، بل يجوز أن تكون وكال في كل شيء، كأن تكون إشرافاً على أهل أو بيت لحمايته أثناء غياب صاحبه، كما تكون وكالة حراسة أموال والتصرف بها. فقد كاتب "عبد الرحمن بن عوف" "أميةَ بن خلف" أن يحفظه في صاغيته بمكة، وأن يحفظ "عبد الرحمن" صاغية "أمية" بالمدينة.

وكانوا يوكلون وكلاء عنهم في إجراء العقود والتوقيع على العهود، وعلى شروط السلم، إذا كانوا مخولين. ولما جاء وفد "هوازن" إلى رسول الله، يسأله المنّة عليه برد أموالهم وسبيهم، سأل رسول الله من كان عنده من أصحابه من الناس من المقاتلين في أمر رد السبي، فتنازلوا عن حقهم فيه طيبة لرسول الله، فقال رسول الله: "إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك، ممن لم يأذن، فارجعوا حتىيرفع لنا عرفاؤكم أمركم"، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا،وقد طيبوا وأذنوا لرسول الله أن يرد السبي إليهم،لتوكيل الناس لهم ذلك.

السمسرة

والسمسار المتوسط بين البائع والمشتري لامضاء البيع. وهو الذي يسميه الناس الدلال، فإنه يدل المشتري على السلع ويدل البائع على الأثمان. واللفظة من الألفاظ المعربة ،وقد ذكرت في شعر للاعشى: فأصبحت لا أستطيع الكلام  سوى إن أًراجع سمسارها 

والسمسار الرجل الحاذق المتبصر، وسمسار الأرضّ العالم بها، والحاذق المتبصر بأمورها. وقد ذهب علماء اللغة إلى انها لفظة عر بت عن الفارسية، وذهب بعض الباحثين إلى انها من أصل إرمي.

والسمسار الذي يبيع البرّ للناس. وفي حديث: "قيس بن أبي عروة":   

"كنا قوماً نسمى السماسرة بالمدينة في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسمانا النبي، صلى الله عليه وسلم، التجار". والسمسرة، هو أن يتوكل الرجل من الحاضرة للبادية فيبيع لهم ما يجلبونه. قيل القيم بالأمر الحافظ له ، ويظهر أنهم كانوا يطلقون لفظة "السمسير" على الوكيل والقيم بالأمر الحافظ له في الأصل، ثم غلب استعمالها فيمن يدخل بين البائع والمشتري. كما استعملوها خاصة فيمن يدخل بين البائع البادي والمشتري الحاضر، أو عكسه.

ومن طريقتهم في السمسرة أن يقول صاحب السلعة للسمسار بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك، فما زاد على ما اتفق عليه يكون أجرة سمسرة. أو أن يقول: بعه بكذا فماكان من ربح فهو لك. أو أن يترك السعر للسمسار، يبيعه حسب خبرته وقدرته على السوم، فإن باع الشيء دفع صاحب السلعة له أجر سمسرته. وقد يأخذها من المشتري وقد يأخذها من صاحب السلعة ومن المشتري. ولا تنحصر السمسرة بالبيع في السوق، ويحل السمسار السلعة معه يعرضها على من يريد الشراء، فقد تكون السمسرة عن طريق بيع ملك ثابت، مثل دار أو أرض أو بئر، فيراجع السمسار من يرغب في الشراء في بيته أو في أي مكان آخر مناسب، فلا ينادي المتساومين المتنافسين لشراء الملك، وقد يقف عند الدار أو الأرض أو البئر، في يوم يعين ووقت يثبت، ثم ينادي على السعر فيزايد الراغبون في الشراء السعر، حتى يقف على اعلا المتزايدين. ويدخل في هذه المزايدات بيع الحيوان من نعم وماشية وغير ذلك.

ومن السماسرة من كان يربح ربحاً حسناً، ولا سيما أولئك للذين كانوا يرعون أمور "الركبان" من الأعراب، ويبيعون لهم على الأمانة والتصريف ويكونون لهم وكلاء، إِذ كانوا يبخسون الأعراب حقهم ويتناولون منهم أكثر مما يجب أخذه عن أتعابهم، لجهلهم بمعاملات السوق والبيع والشراء.

الفصل السابع بعد المئة
المال

المال في اللغة ما ملكته من كل شيء، وهو في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل، لأنها كانت أكثر أموالهم. وفي الحديثُ نهي عن إضاعة المال، قيل أراد به الحيوان. ويشمل المال الصامت وهو العين ، والورق وسائر المصوغ منها والعرض ويشمل الأمتعة والبضائع والجواهر والمعادن والأخشاب وسائر الأشياء المصنوعة منها، والعقار من مسقف ومن مزروع مثل البساتين والكروم والمراعي والغياض والآجام وما يحويه من العيون والحقوق في مياه الأنهار، والحيوان بأنواعه. ويدخل الرقيق أيضاً في أصناف المال بالنسبة إلى ذلك العهد لأن له قيمة وثمناً، وهو ثروة لصاحبه وملك، وهو بوجه عام كل ما تملكه مما له ثمن.

و "العين" الدينار والذهب عامة. و "الورَق"، الدراهم المضروبة، وقيل الفضة، كانت مضروبة أولاً. ويلاحظ إن الكلمتين تعبران عن الذهب والفضة، وعن الدنانير والدراهم. والدنانير من ذهب، والدراهم من فضة. ويعبر عن الذهب بلفظة "الصفراء" للونه. وعبروا عن الفضة ب "البيضاء" وبالأبيض لبياض الفضة، ومنه الحديث: أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وهما الذهب والفضة.

ويقال للمال "النشب"، والنشب المال والعقار، وأكثر ما يستعمل في الأشياء الثابتة التي لا براح بها كالدور والضياع. والمال أكثر ما يستعمل فيما ليس بثابت كالدراهم والدنانير،وربما أوقعوا المال على كل ما يملكه الإنسان، وربما خصصوه بالأبل، والعروض اسم للمال.

والذهب والفضة، هما مقياس الثراء عند الحضر. ويكون ذلك بحيازتهم سبائك من ذهب أوفضة " أو مصوغات، أو دنانير ودراهم. و "الثري"، الكثير المال، والثروة كثرة المال. وهوالذي يملك الذهب والفضة أو الأموال الآخرى. والغني، ذو الوفر، أي المال الكثير.

وكان الذهب والفضة، مقياسي الثراء عند الإنسان قبل أن تضرب النقود وتسكّ السكك، بل بقيا على ذلك حتى بعد ضرب النقود، بسبب ندرة الدنانير، وقلة الدراهم، وتفضيل البعض الذهب على الدينار والفضة على الدرهم، لهذا نجد أهل الجاهلية يتعاملون بالذهب والفضة وزناً في تعيين الأسعار وفي شراء الحاجات وفي المهور مع وجود الدنانير والدراهم، بل بقي التعامل بهما في الإسلام أيضاً. ولما أرسل الرسول "شجاع بن وهب الأسدي" إلى "الحارث بن أبي شمر" الغساني، أمر له "الحارث" بمائة مثقال ذهب. وأجاز رسولُ الله "مسعودَ بن سعد" الجذامي رسول "فروة بن عمرو الجذامي" اليه، باثنتي عشرة أوقية ونش، وذلك خمسمائة درهم. وكان "فروة" عامل قيصر على "عمان" من أرض البلقاء، فأرسل "مسعوداً" إلى الرسول ليخبره باسلامه، وأرسل معه هدية الى الرسول.

ونظراً لوجود أناس كانوا يتلاعبون في نوعية الذهب والفضة، بغش المعدنين ومزج معادن خسيسة فيها،فقد ظهر أناس تخصصوا بفحص الذهب والفضة وبتعيين درجتهما من حيث الجودة والنقاوة، وبتعيين سعر السبائك وما يباع منهما وفقاً لذلك، ثم تخصص هؤلاء بدراسة النقود، وتعيين درجة نقاوتها وتثبيت وزنها، وذلك لوجود الغش فيها بالنسبة لذلك العهد. فإذا اشتروا نقداً أو باعوه، أو صرفوه بنقد آخر، فحصوه فحصاً دقيقاً وتأكدوا منه قبل الشراء أو التصريف لكي لا يكون مغشوشاٌ. فصار هؤلاء، هم صيارفة النقود، وخبراء السكة في ذلك العهد. وقد كان الصيارفة يجلسون أمام باب "الهيكَل" في القدس، يبيعون ويشترون ويصرفون النقود. وقد أشير اليهم في "الأناجيل"، ووبخهم "المسيح" وقلب موائد صيرفتهم. وكانوا يصرفون الدنانير بالدراهم والدراهم بنقود النحاس، والعملات الأجنبية بالعملة الرومانية الدارجة في فلسطين، تماماً كما يفعل صيارفة هذا اليوم في بلاد الشرق الأدنى.

ويظهر من الأناجيل، إن أولئك الصيارفة، كانوا يجلسون عند موائدهم التي يصرفون عليها النقود. أما كبارهم، أي الأغنياء منهم من أصحاب المال، فقد كانوا يتعاملون بالقروض، يقرضون المال للمحتاج اليه في مقابل. دفع فوائد عنها هي الربا، وفي تشغيل أموالهم في مشاريع تعود عليهم بالأرباح.

وقد تاجر أهل الجاهلية في "الصرف"، وهو بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، أو أحدهما بالآخر. وقد أقر الرسول الصرف، إذا كان يداً بيد، أي متقابضين في المجلس، ونهى إذا كان نسَاءً. والصيرفي، والصيرف، والصراف: صراف الدراهم ونقادها من المصارفة وهو من التصرف على ما يذكره علماء اللغة. وقد جاءت لفظة "الصرف" والصيرفة في رأيي من "الصرف" أي الفضة، فالصرف الفضة في لغة العرب الجنوبيين. و "الصريف" الفضة أيضاً في لغة القرآن الكريم، كما يذكر ذلك علماء اللغة. قال الشاعر: بني غدانة حقاً لستم ذهـبـاً  ولا صريفاً ولكن أنتم خزفُ 

وذلك انهم كانوا يتعاملون بالفضة في الغالب، لكثرتها بالنسبة إلى الذهب، حتى غلب اسمها على هذا التعامل. فقيل: الصرف والصيرفة والصراف، وهو الذي يتعامل بالصرف. فصارت كلمة "الصرف" التي تعني الفضة مرادفة لنقود، كما صارت لفظة "الفلوس" التي هي جمع "فلس" أصغر عملة من العمل وهي من النحاس، مرادفة للنقود. وفي العبرانية شبه لذلك. فالنقود، أي العملة "Money" هي "Keseph" في العبرانية، و "Keseph" الفضة، وقد استعملها العبرانيون في معنى العملة، لأنهم كانوا يتعاملون بها في حياتهم اليومية، فكانت مشترياتهم وأجورهم ومعاملاتهم بالفضة وبالعملة المعمولة منها، حتى صارت في معنى النقود.

ومن تعامل الصيارفة، شراء الدنانير بالدراهم والدراهم بالدنانير، باًن يساوم رجل رجلاً على بيع مائة دينار بدراهم، فيتراوض الطرفان على ذلك ويتساوما حتى يتفقا على عدد ما يدفع من الدراهم ، وذلك لاختلاف نوع الدراهم، وأوزانها وجودة فضتها. ويكون العكس، باًن يبيع شخص دراهم في مقابل دنانير. وقد يتبايعون على بيع الذهب بالذهب، مضروباً كان أو غير مضروب، أو بيع الذهب بالذهب، مضروباً كان أو غير مضروب، أو بيع الفضة بالفضة. وكانوا يتلاعبون في تصريف النقود "ويتحكمون في أسعار صرفها، لاحتكارهم الصرافة في الأسواق، ويربحون خاصة من فروق تصريف العملة الأجنبية بالعملة الرائجة في السوق.

وقد عرف الصراف بالحيلة والخداع والغش في الصرف، ولهذا السبب لعنوا في الأناجيل، وقلب "المسيح" موائد صيرفتهم. و "الصيرفي" المحتال المتصرف في الأمور والمجرب لها كالصيرف. قال سويد بن أبي كاهل اليشكري: ولسانا صيرفـياً صـارمـا  كحسام السيف ما مس قطع 

ولا زال الناس يومنا هذا يطلقون لفظة "صراف" على المحتال الذكي الذي يعرف كيف يتعامل مع الناس.

ومن مصطلحات الصيارفة المذكورة في كتب اللغة "الشوقل" يقال: شوقل الدينار إذا عايره وصححه ووزنه، واستعملوا الشاقل أيضاً في المعايير. ويظهر من مراجعة كتب اللغة، أن علماء اللغة لم يكونوا على علم واضح بأصل لفظة "شقل"، فاكتفوا بقولهم شقل الدينار وزنه. وترد هذه اللفظة في الإرمية كذلك، بمعنى الوزن، أي وزن الدنانير والدراهم ، وترد بهذا المعنى أيضاً في العبرانية. وقد أخذ هذا الوزن من الأوزان البابلية، وقد كانت الأوزان البابلية أساساً لجميع الأوزان التي استعملت في الشرق الأدنى، بل وفي أوروبة أيضاً. و "الشقل" "Shekel "هو جزء من ستين جزءاً من "المن" "Manu". فمن هذا الوزن ورد اصطلاح "شقل" و "شوقل" بمعنى وزن العملة بالميزان في لغات أهل الشرق الأدنى،لأنهم كانوا يصححون العملة ويعايرونها بوزنها بالميزان، لتظهر صحة وزنها، فيتبين به الزائف منها من الصحيح.

وقد برع قوم من "الصيارفة" بتنقاد الدراهم، أي بتمييز الدراهم واخراج الزائف منها. وقد برع في ذلك نفر من أهل مكة، لأنهم تجار يتعاملون في الأسواق ويتعاطون الربا والصيرفة وتبديل العملة.

وكان اليهود من الصيارفة، يتعاطون بيع الذهب والفضة وتبديل النقود والربا. وكان الأعراب يحفظون عندهم ودائعهم، ذهباً وفضة ونقوداً. ذ كَر أن رجلاً من قريش استودع "عبد الله بن سلام" ألفاً ومائتي أوقية ذهب. وذكر علماء التفسير، أن من اليهود من كان يأكل الأمانات ويجحدها فلا يؤديها إلى أصحابها، إلا بالتهديد والقوة،وقد استحل أكل أموال العرب، ذلك أنهم قالوا: "حرج علينا فيما أصبنا من أموال العرب ولا إثم،لأنهم على غير الحق وأنهم مشركون.

وكان الصيارفة يعتبرون النقود الطيبة اللينة نقوداً صحيحة، والنقود الصلبة نقوداً زائفة، فالدرهم القسي، هو درهم زائف. لذلك كانوا إذا قالوا "درهم قسي"، عنوا بقولهم درهم زائف مغشوش، فضَّته صلبة رديئة ليست بلينة. وفي الحديث: كانت زيوفأَ وقسياناً. قال مزرد: وما زوّدوني غير سحق عمامة  وخمسمىء منها قسيّ وزائف

رأس المال

ورأس المال أصله يقال أقرضني عشرة برؤوسها، أي قرضاً لا ربح فيه إلا رأس المال. وقد أشير اليه في القرآن الكريم في تحريم الربا. )فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تُظلمون(. فأوجب الإسلام على المرابين الذين دخلوا فيه التوبة من الربا وأن يأخذوا رؤوس أموالهم التي أعطوها من غير زيادة عليها، مهما كان قدرها، فهذه الزيادة هي الربا.

وما يضعه التاجر من مال ليتاجر به، هو رأس ماله الذي يتاجر به. وما يتجمع من مال يقدمه المساهمون في تكوين شركة، هو رأس مال الشركة، الذي تشتغل به ليأتي عليها بأرباح توزع على المساهمين ، حسب نسب حصصهم في رأس المال، وما يقدم من مال قراضاً، فهو رأس مال، وكل مال يتخذ أساساً لعمل هو رأس مال ذلك العمل،

استثمار الأموال

وقد أبدع أصحاب الأموال بمكة وأجادوا في تشغيل رؤوس أموالهم وفي استثمارها، فزادت ونمت. شغلوها في التجارة، وشغلوها في أعمال نستطيع أن نسميها أعمالاً مصرفية بلغة هذا اليوم، مثل اعطائها للمحتاج إليها بفائض هو "الربا"، أو "مضاربة"، أو مسالفة، وشغلوها باستثمارها بمشاريع زراعية وصناعية وما شابه ذلك، مشاركة أو على ربح ثابت معين، أو مساهمة في الأرباح دون الخسائر. وكان بعض منهم، قد ساهم في أعمال عديدة، واستثمر أمواله بها، فإذا خسر في عمل، عوض عن خسارته تلك بربح يأتيه من عمل آخر.

ولم يكتف تاجر مكة بالاتجار على حسابه، بل ساهم مع غيره من أهل مكة في تكوين رؤوس أموال القوافل، بحيث صارت القوافل تجارة شركاء، أو شركة عامة يساهم فيها من يشاء من أصحاب المال. وساهم تاجرهم أيضاً بتوزيع أمواله على التجار الآخرين، ليشاركهم بنلك في أرباحهم، فكان "أبو سفيان" يتاجر بتجارته وعلى حسابه، يذهب بنفسه على رأس قافلته إلى العراق للاتجار بالحيرة، وكان من المساهمين في قوافل قريش كذلك، كما كان يقدم ماله للتجار، للاتجار به مع أموالهم، فيشاركهمّ بذلك في أرباحهم، ويأخذ منهم ما يقع له من نصيب في الأرباح. وكان "العباس" قد وزع مالاَ من ماله على التجار لاستثماره، وكان للحجاج بن علاط السلُمي مال متفرق في تجار اهل مكة.

وكانوا يتعاملون مع غير تجار قريش كذلك، يقرضونهم المال ويستقرضون الأموال منهم، ويتاجرون على الأرباح والخسائر، ونجد في الأخبار أسماء رجال من الطائف أو من الحيرة أو من أهل اليمن، كانت لهم شراكة مع تجار من تجار مكة، خلطوا أموالهم مع أموال أولئك الغرباء عنهم. فهم "خلطاء"، أي شركاء. و " الخليط" الشريك. فأهل مكة خلطاء فيما بينهم، وخلطاء مع غيرهم أيضاً. يتاجرون بأموالهم ويتاجرون، بأموال غيرهم كذلك. "وصاروا بأجمعهم تجاراً خلطاء".

الربا

وفي جملة وسائل استثمار المال: الربا، وقد كان شائعاً بين أهل الجاهلية، كما كان شائعاً معروفاً بين غير العرب. وقد عرفه العلماء بأنه: "الزيادة على رأس المال " " وهو في الشرع الزيادة على أصل المال من غير عقد تبايع" والإرباء الزيادة على الشيء، والزيادة هي الربا. وكل قرض جرّ منفعة، فهو ربا ، ويقال له: "اللياط"، وهو الرباً الذي كانوا يربونه في الجاهلية إلى أن يأخذوا رؤوس أموالهم ويدعوا الفضل عليها.

وقد كان أهل الجاهلية يزيدون على الدين شيئاً ويؤخرونه. كأن يحل دينك على رجل فتزيده في الأجل ويزيدك في الدين. وقد نهي عنه في الإسلام. وهو في الواقع ربا، لأنه استغلال ووجود منفعة بغير جهد. ويقال لذلك: المعاومة. وقد اشتط أهل المال في الاستفادة من المقترضين، فتقاضوا منهم الربا الفاحش، وألحفوا في زيادته، وتشددوا في المطالبة برأس المال ورباه، ولم يمهلوا معسراً، ولم يتساهلوا في الأداء إلى وقت الميسرة، إلا إذا زادوا في الربا، وأخذوا ربا المال وربا الربا. وكان اليهود من أشهر المرابين في الحجاز، كما اشتهرت بذلك مكة والطائف ونجران، ومواضع المال الآخرى من جزيرة العرب. وكان من عادة هؤلاء أنهم كانوا يحتسبون الربا الذي يستحق في آخر السنة ولا يدفع للمرابي جزءأَ من رأس المال، أي من المبلغ المقترض، فيؤدي الربا للسنة التالية على أساس المبلغ المقترض مع رباه، وإذا أجل دفع ربا هذا المبلغ الجديد المكون من المبلغ الأصل ورباه، أضيف عليه فصار المبلغ المقترض ورباه ثم ربا المبلغين جزءاً من القرض، ويطلب من المدين دفع الربا على هذا الأساس.

والربا هو "نشك" "نشق" "Neshec" في العبرانية. وتعني اللفظة الزيادة التي تؤخذ عن كل دين يعطى لمدين،سواء كان ذلك الدين نقوداً أو عيناً، بضاعة أو ملكاً، أو أي شيء آخر يستدان من مدين في مقابل زيادة تؤدى عليه عند استحقاق الأجل المعين. وقد أشير اليه في التوراة. وعرفت الزيادة التي تؤخذ على المبلغ ب "تربيث" ايضاَ، أي ربا. غير أن ربا "النشق"، استعمل في ربا المال، اْي الربا المأخوذ عن النقد من دنانير ودراهم: فهو في مقابل "ربا النسيئة" في الإسلام. وأما "التربيث"، فهو الربا الماخوذ عن الطعام مثل الحنطة والشعير والتمر وما شابه ذلك من طعام. وهو ما يقال له "ربا الفضل" في الإسلام. وقد تطلق لفظة "نشقَ" على الربوين: ربا الدنانير والدراهم، وربا الفضل. وقد حرمت التوراة على اليهود تعاطي الرباً فيما بينهم، وأحلته بالنسبة للغرباء. فجوزت لليهودي أخذه ممن لم يكن على دينهم. ولكنهم لم يتقيدوا بما جاء في التوراة من تحريم الربا عليهم، فتعاطوه فيما بينهم، لا سيما بعد عودتهم من السبي، وصار الربا من أهم المنافع بالنسبة لأرباب المال عندهم. وقد كان الرومان واليونان قد كوّنوا "بنوكاً" أي مصارف تعاملت بالمال، وتعاطت قرضه مقابل ربح هو رباًه. وقد حدد بنسبة واحد في الشهر، و "12" في السنة، وذلك في مقابل الاعتماد "Creditum". وقد تعاطت المعابد أعمال الربا كذلك، ومن هذه معابد "بابل"، وأصل "الربا" هو وجود حاجة لدى انسان إلى مال، ووجود أناس ذوي مال يريدون استغلال أموالهم وتكثيرها، فيقرضونها الى المحتاج إليها مقابل زيادة يتفقَ عليها تدفع عن المال المقترض للاجل المتفق عليه. ويستغل المرابي في الغالب حاجهَ الشخص الذي يريد المال، فيشتط عليه ويتعسف في شروطه،ويضطر المدين إلى قبول ما تملى عليه من شروط لحاجته إلى المال، وعلى دفع الربح العالي الذي فرضه المرابي عليه. ومن الربا انهم "كانوا يبيعون البيعة إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا"، ويدخل في الربا الربا في الطعام، وقد كان شائعاً بين أهل العمود والبوادي بصورة خاصة، إذ ليس عندهم دراهم ولا دنانير، فكانوا يأخذون الصاع الواحد مقابل صاع وزيادة، والزيادة رباه، حتى يكون قفزاناً كثيرة. فاستغل المرابون أهل الحاجة وضايقوهم بالطلب. ورد إن أحدهم في الجاهلية يبيع للرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه. فهو رباً مثل الربا في النقد. كما فعلوا ذلك في الدنانير والدراهم، فكان أحدهم يبيع الدينار بدينارين، والدرهم بدرهمين، وفي الذهب والفضة، فكانوا يعطون مثقالاً مقابل مثقالين أو أكثر أو أقل من المثفالين، فالزيادة هي الربا. ومعنى هذا إن الربا كان يعادل المبلغ المقترض،فالدرهم بدرهمين والدينار بدينارين، وهو ربا فاحش، استغل فيه المرابي حاجة المدين إلى المال، ولهذا نهي عنه في الإسلام بتحريم كل أنواع الربا في القرآن وفي الحديث حيث ورد: "لا تبيعوا الدينار بالديناربن ولا الدرهبم بالدرهمين"، و "الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما".

أما رباهم بالذهب والفضة، فكانوا يأخذونه وزناً فإذا أعادوه زادوا عليه وزن الربا، المتفق عليه، ولهذا ورد في الحديث: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبأَ بناجز". فمنع الرسول الزيادة، وجعل الربا قرضأَ، يعاد إلى صاحبه وزناً بوزن، أي متساويين في الوزن. كما منع الزيادة في البيع، فجعل الزيادة على ثمن البيع، الذي يدفع بأجل ربا، لأنه زيادة على المبلغ، واستغلال لحاجة المشتري، وهو بيع غرر. وورد في الحديث أنهم كانوا يشترون الصاع بالصاعين أو أكثر، كأن يعرض أحدهم سلعة، فيبيعها بسلعة مثلها، ولكن بضعف وزنها أو أكثر، فقد اشترى غلام لمعمر بن عبد الله صاعاً وزيادة من شعير بصاع من قمح، فلما عاد بما اشتراه أمره سيده بردّه، لأنه سمع أن الرسول قال: الطعام بالطعام مثلاَ بمثل. وورد أن بعضاً من الصحابة كانوا يشترون صاعاً من التمر الجيد بصاعين من الجمع ، أي من تمر مختلط من أنواع متفرقة وليس مرغوباً فيه، وما يخلط إلا لرداءه. فلما سمع بذلك الرسول، قال لا تفعلوا ولكن مثلا" بمثل، اًو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا وكذا الميزان.

وسبب هذا التوسع في هذا النوع من الرباً، إن العرب، كانوا أهل تجارة وأهل زراعة ورعي، ولم تكن العملة من دنانير ودراهم، منتشرة بين المزارعين وأهل البوادي، فكانت المقايضة تقوم عندهم مقام العملة. فمن احتاج الى طعام، أخذ من بائعه أو مالكه أو مكتنزه كيلاّ بكيل مثله، لأجل معلوم على أن يعطيه زيادة عليه، يتفق على مقدارها. فيأخذ قفيص تمر بقفيص ونصف أو قفيصين، أو أكثر من ذلك، على نحو ما اتفق عليه، يؤديه له من جنس التمر المسلف ومن جودلته، فإذا حل الأجل، ورأى المستحق أن يؤخر دينه، على أن يزيد في المال فعل، وكلما أخره زاد في المال حتىّ يصير أضعافاً مضاعفة، وذلك بسبب الحاجة والفقر. فهذا هو ربّا مثل ربا الدنانير والدراهم، نشأ من الحاجة والظروف التي كان عليها أهل الجاهلية في ذلك العهد. ونجد هذا النوع من الربا عند غير العرب من الشعوب أيضاً، وهو ربا الفقراء والمحتاجين في الغالب، أما ربا الدراهم والدنانير، فكان ربا التجار، ومن كان يريد تنمية ثروته وزيادة تجارته، فكان يقترض بالربا لهذه الغاية.

والربا المذكور، هو الأصل، وأما ربا الدراهم والدنانير أي ربا العملة، فمتأخر بالنسبة اليه،لأن الإنسان مارس التجارة قبل إن تكون لديه دراهم ودنانير، كانت تجارته مبادلة سلع بسلع، وذلك قبل ضرب العملة. فكان الربا ربا سلع ومواد عينية. يقدم المرابي طعاماً إلى تاجر آخر أو إلى محتاج، إلى أجل معين، على أن يزيده في الكمية عند حلول أجل الربا، وفقأَ لما اتفق عليه، فإن أخره زاد في المال، وكلما أخره زاد في المال، حتى يتضاعف أضعافاً مضاعفة، فهذا اًصل الربا الأول، فلما أوجد الإنسان العملة وتعامل بها، وأقبل عليها، ظهرت تجارة جديدة، أساسها التعامل بالعملة، وظهر بذلك ربا العملة، الذي غلب على الربا الأول، حتى صار وكأنه هو الربا وحده ولا ربا سواه.

ووجهة نظر المرابين إلى الربا، أنه نوع من أنواع البيوع، وأن الربا مثل البيع. ففيه إيجاب وقبول، ولما نزل الأمر بتحريمه عجب المرابون من التحريم، عجبوا كيف حرم البيع وأحل الربا، مع إن الاثنين في نظرهم واحد. وذلك كما يظهر من الآية: )الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ، ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، وأحل الله البيع وحرم الربا(. فنظموا البيع والربا في سلك واحد، لافضائهما إلى الربح، فاستحلوه استحلاله. وكانت شبهتهم أنهم قالوا: لو اشترى الرجل ما لا يساوي إلادرهماً بدرهمين جاز، فكيف إذا باع درهماً بدرهمين. فكان التاجر والمرابي عندهم سواء بسواء، فكلاهما يعامل المشتري أو المدين معاملة كسب ونهب، والحصول منهما على أكثر ما يمكن الحصول عليه من ربح ومكسب. والإثراء بأية طريقة كانت. ولهذا عجبوا من تحريم الإسلام للربا، وهو كسب يأتي عن ايجاب وقبول، ومن تحليله للبيع، وهو كسب أيضاً، مبني على إيجاب وقبول.

وقد اشتهر اليهود بمعاطاة "الربا"، وقد أشير الى ذلك في القرآن الكريم. كما عرف به أهل مكة والطائف ونجران وسائر من كان لديه فضل من المال وأراد استغلاله. وذلك للظروف الاقتصادية التي كانت سائدة في ذلك العهد. من عدم وجود صناعة يشغل أصحاب المال بها أموالهم، فيكثرونها باستغلالها بإنشاء صناعات أو توسيع حرف،ومن عدم وجود مياه غزيرة وأرضين خصبة تسقي سيحاً بصورة دائمة، حتى يشغل صاحب المال ماله في استغلال الآرض، ولهذا عمد أصحاب المال إلى تكثير أموالهم بطريق إقراضه والاستفادة من رباه.

وكان ربا الجاهلية إن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل فاذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أخر عني دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك. فذلك هو الريا أضعافاً مضاعفة. وروي عن "عطاء" انه قال: "كانت ثقيف تداين في بني المغيرة في الجاهلية فإذا حل الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخرون"، فكان يكون أضعافاً مضاعفة. وروي أيضاً " إن الذين كانوا يأكلون الربا من أهل الجاهلية، كان إذا حل مال أحدهم على غريمه يقول الغريم لغريم الحق: "زدني في الأجل وأزيدك في مالك". وذكر " إن ربا أهل الجاهلية: يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل، ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه". وذكر أيضاً انهم "كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين. فيقول لك كذا وكذا، وتؤخر عني، فيؤخر عنه "0 أو أن يقول أحدهم لمدينه إذا حل الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي". وذكر إن الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله انما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرضه على مما يتراضون به". و " إن ربا الجاهلية انما كان قرضاً مؤجلاً بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلاً من الأجل".

وروي عن "ابن زيد" أنه كان يقول: إنما كان الربا في الجاهلية وفي التضعيف وفي السن. لكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل، فيقول له: تقضيني أو تزيدني، فإن كان عنده شيء يقضيه فضى وإلا حوله الى السن التي فوق ذلك. إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم حقة، ثم جذعة ثم رباعياً ثم هكذا إلى فوق. وفي العين يأتيه فإن لم يكن عنده أضعفه في العام المقابل، فإن يكن عنده أضعفه أيضاً، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة يضعفها له كل سنة أو يقضيه. فهذا قوله: )لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة(.

ومن أغراض الربا وأسبابه الحاجة. الحاجة إلى المال لسدّ دين أو عجز وللتغلب على فاقة أو ما شاكل ذلك من ضرورات، فيضطر المحتاج إلى اللجوء إلى المرابي ليستدين منه في مقابل زيادة يؤديها اليه عند حلول الأجل. وقد يأخذ المدين المال ليشتغل به فيربح منه، فيؤدي المال ورباه، ويستفيد من الربح الذي حصل عليه من تشغيله لذلك المال في تجارة أو في أعمال انتاجية أخرى. ورد عن "ابراهيم النخعي" أنه قال: "كان هذا في الجاهلية، يعطي أًحدهم ذا القرابهّ المال يكثر به ماله". وورد أنهم كانوا يعطون الرحل المال ليكثر به ماله، وذلك عن طريق تشغيله لذلك المال.

وقد قسم العلماء الربا إلى نوعين: ربا النسيئة وربا الفضل. أما الأول، فهو الذي كان يتعارفونه في الجاهلية. كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً، ثم إذا حل الدين طالب الدائن المدين برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل. " وفي الحديث: انما الربا في النسيئة هي البيع إلى أجل معلوم، يريد أن بيع الربويّات بالتأخير من غير تقابض هو الربا، وإن كان بغير زيادة. وكان "ابن عباس" " يرى بيع الربويات متفاضلة مع التقابض جائزاً، وان الربا مخصوص بالنسيئة ". وقد ورد في الحديث: "انما الربا في النسيئة وما كان يداً بيد فلا بأس".

وكان بيع النسيئة بيعاً معروفاً، ولما قدم الرسول المدينة، كانوا يتبايعون بهذا البيع. فقال: "ما كان يداً بيد فلا بأس به وما كان نسيئة، فهو ربا".

والنسيئة، التأخير إلى أجل، هو الموسم، أو أي أجل يتفق عليه.

وقسّم بعض الفقهاء الربا إلى ثلاثة أنواع: ربا الفضل، وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر، وربا اليد، وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما، وربا النساء، وهو البيع لأجل. وكل منها في الإسلام حرام.

وعرفوا ربا الفضل، بأنه الربا الذي يباع فيه الشيء بضعفه، مثل أن يباع من الحنطة بمنوين مثلًا ، وأن يباع. الدرهم بدرهمين. وقد خصص العلماء ربا الفضل في ستة أعِيان، وهي: الذهب، والفضة، والبرّ، والشعير، والتمر، والملح، فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها وقد منع هذا الربا في الإسلام. فإذا باع رجل رجلاً ديناراً بدينارين إلى اجل، او درهماً بدرهمين، او كيلة حنطة بكيلتين أو أكثر كما كان يفعل أهل الجاهلية ، فالزيادة هي ربا، ولذلك نهي عنه في الإسلام.

ولما نزل الأمر بتحريم الربا،وذلك في آخر ما نزل من الوحي،وقبل وفاة الرسول بتسع ليال على بعض الروايات. صعب ذلك كل الأغنياء الذين كانوا يعيشون على الربا ويقولون إن إنما البيع مثل الربا. وذكر علماء التفسير أن الآية: )يا ايها الذين آمنوا اتقوااللّه وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين(، إنما نزلت "في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانوا شريكين في الجاهلية، سلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو. وهم بنو عمرو بن عمير. فجاء الإسلام،، ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله ذروا ما بقي من فضل كان في الجاهلية من الربا". وذكر أيضا "أن نبي الله، صلى الله عليه وسلم، قال في خطبته يوم الفتح: "ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله. وأول ربا أبتدأ به ربا العباس بن عبد المطلب".

ولما جاء وفد "ثقيف" إلى المدينة، لمفاوضة الرسول في أمر دخولهم في الإسلام، قال "عبد ياليل" وهو لسانهم الناطق باسمهم: "أرأيت الزنا ! فإنا قومُ عزاب لا بد لنا منه، ولا يصبر أحدنا على الُعزبة قال: هو مما حرم الله ؛ قال: أرأيت الربا ! قال: الربا حرام ! قال: فإن أموالنا كلها ربا ! قال: لكم رؤوس أموالكم. قال: أفرأيت الخمر ! فإنها عصيرُ أعنابنا ولا بد لنا منها ! قال: فإن الله حرمها !".

وكانت ثقيف قد صالحت النبي "على إن مالهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من رباً، فهو موضوع. فلما كان الفتح استعمل عتاّب بن أسيد على مكة. وكانت بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة. وكانت بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية. فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير. فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد. فكتب عتاب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فنزلت: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله... إلى... ولا تظلمون. فكتب بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى عتّاب. وقال: إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب". وذكر إن "بني عمرو بن عوف"، الذين كانوا يأخذون الريا من "بني المغيرة"، هم: "مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة بنوعمرو بن عمير. وهم من كبار الملاكين والأثرياء في ثقيف.

وأسقط النبي عن أهل نجران كل ربا كان عليهم في الجاهلية، إلا رؤوس أموالهم فإنهم يردّونها وأسقط عنهم كل دم كانواُ يطلبون به.

وقد كان إرغام ثقيف وغيرهم من الذين كانوا يتاجرون بالربا على ترك الربا، والاكتفاء بأخذ رؤوس اموالهم إن كان لهم ربا في الجاهلية، خسارة كبيرة لهم، أرغموا عليها إرغاماً، لتحريم القرآن له. واحلال "القرضة الحسنة" محله، والقرض الحسن، هو اقراض المال للمحتاج اليه من غير اشتراط زيادة عليه حين إعادته، أي من غير ربا لذلك المال.

واضطر من كان له فضل ربا من ربا الجاهلية وهو في الإسلام على تركه والتنازل عنه. وعلى أخذ خالص ماله فقط الذي أقرضه للمدين من غير أي ربح. وفرض الإسلام على هؤلاء الدائنين أيضاً وجوب التساهل مع المدينين وتأجيل الدفع إن كان المدين في عسر وضيق حال حتى يتحسن حاله فيتمكن من الدفع.

وقد ذكر الفقهاء أن الربا ربوان: فالحرام كل قرض يؤخذ به أكثر منه أو تجرّ به منفعة فحرام، والذي ليس بحرام أن يهبه الإنسان يستدعي به ما هو أكثر أو يهدي الهدية ليهدى له ما هو أكثر منها وقد دعا بعض العلماء الربا الأولى ب "ربا البيع". وقال عنه انه هو الربا المحرم.

وأول اشارة وردت في القرآن الكريم إلى الربا، هي الاشارة الواردة في سورة الروم: )وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون". وسورة الروم من السور المكية، أما المواضع الأخرى التي أشير فيها إلى الربا ففي سوره البقرة وسورة آل عمران وسورة النساء ، وهي من السور المدنية. ويظهر من دراسة هذه المواضع إن حرمة الربا انما نزلت في المدينة، أما في مكة، فلم يكن قد حرّم، وانما حث الأغنياء على قرض المال للمحتاج اليه لوجه الله، مساعدة له، ويكون ثوابه عند الله.

وفي سورة "المزمل"، وهي من السور المكية، وتعد السورة الثالثة في ترتيب سور القرآن: )واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً( ، وفي سورة التغابن )إن تقرضوا الله قرضاً حسناً، يضاعفه لكم ويغفر لكم(.

وهذه السورة هي من السور المكية كذلك. ولم يكن الربا قد حرّم في هذا العهد كما ذكرت. فيكون الإسلام قد وضع مبدأ القرضة الحسنة، وهو القرض لله وفي سبيله، بغير زيادة، والتبرع في سبيل الله، في موضع الربا في ذلك الوقت. فلما نزل الأمر بتحريمه، جعلت القرضة الحسنة، من أعمال البر والتقرب إلى الله. وصار كل قرض يؤخذ عليه ربح ربا محرماً،يعاقب الله الإنسان يوم القيامة عليه. ولعن آكل الربا ومُؤكله وكاتبه وشاهديه، وقد ذكر علماء التفسير في تفسيرهم الآية: )وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس، فلا يربو عند الله ، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله ،فأولئك هم المضعفون(. إن هذا كان في الجاهلية يعطي أحدهم ذا القرابة المال يكثر به ماله. أو إن الرجل يقول للرجل: لأموّ لنك فيعطيه، فهذا لا يربو عند الله لأنه يعطيه لغير الله ليثري ماله، أو إن الرجل يلزق بالرجل، فيخف له وبخدمه ويسافر معه، فيجعل له ربح بعض ماله ليجزيه، وانما أعطاه التماس عونه ولم يرد وجه الله، أو هو ما يعطى الناس بينهم بعضهم بعضاً، يعطي الرجل الرجل العطية ليثيبه، يريد أن يعطي أكثر منها.

ويذكر العلماء إن رسول الله لما ظهر على مكة وضع يومئذ الربا كله ، وحتّم على المرابين أخذ رؤوس أموالهم من غير زيادة عليها، وذكر بعض العلماء إن التحريم نزل في ربا "بني عمرو بن عميربن عوف من ثقيف وفي بني المغيرة من بني مخزوم"، أو " في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان، وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر لا يبقى لي ما يكفي عيالي إذا أنتما أخذتما حظكما كله،فهل لكما إن تأخذا النصف واضعف لكما ففعلا، فلما حل الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم،فنهاهما وأنزل الله تعالى هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما". وقيل: "نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فاًنزل الله تعالى هذه الاية. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب".

فنحنَ إذن أمام أفراد وأمام شركاء كانوا يتعاملون بالربا، أي قرض المال في مقابل جر مغنم منه. وقد حصل هؤلاء المرابون على أموال طائلة منه. أضف إلى ذلك أنهم كانوا تجاراً، يسافرون الى الخارج ويربحون من تجارتهم هذه ربحاً حسناً.

ولضبط المدين الآخذ بالربا، كانوا يكتبون الدين ورباه في صحيفة، يكتب كاتبها اسمه فيها، ويكتب فيها اسم المدين واقراره بدينه للدائن، وبمقدار الزيادة. والغالب أنهم كانوا لا يذكرون أصل الدين، بل يذكرون الرقم الذي يبلغه هذا المبلغ مع فائضه مضافاً اليه، حتى يظهر الفائض وكأنه جزء من رأس المال. ويشهد على صحة العقد شاهدان. ولهذا لعن الرسول آكل الربا ومؤُكله وكاتبه و شاهديه.

وكان "أبو لهب" من أصحاب المال بمكة ومن المرابين. ذكر أنه كان قد لاط "العاصي بن هشام" بأربعة الاف درهم، فلما وقعت معركة بدر، استأجره بها على أن يجزىء عنه بعثه، فلم يخرج "أبو لهب" مع من خرج من رجال قريش. وكان "العاصي" قد أفلس، فلم يتمكن من دفع المبلغ ورباه ،َ فتنازل "أبو لهب" عنه على أن يخرج إلى بدر في مكانه. وفي سورة "تبت" اشارة إلى أن "أبا لهب"، كان ملاّكاً ذا مال وقد كسب كثيراً.

وقد كان أهل يثرب يقترضون المال والطعام من اليهود في مقابل ربا فاحش. فورد إن أنصارياً اقترض ثمانين ديناراً من يهودي، وقد اعطاه رباً بلغ خمسين في المئة من المبلغ لسنة واحدة. وقد وبخهم القرآن لأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل.

القراض

وفي جملة وسائل تنمية المال وزيادته: القراض، وهو المضاربة في كلام أهل الحجاز، ويراد به تقديم مال إلى شخص يتجر به على ربح معين. وكان معروفاً بين أهل مكة، فكانوا يضاربون بأموالهم مساهمة منهم في الأرباح. ومنه حديث الزهري: "لا تصلح مقارضة منُ طُعمته الحرام". فكانوا يعطون المال مضاربة إلى شخص يتجر به، على جزء يأخذه من ربح المال ، وذلك كأن يعطي رب مال رجلاً مالاَ يعمل فيه ويأذن له أن يشتري ما يشاء، وأن يبيع بالسعر الذي يشاء، ويدير هذا المال على يديه، وبعد إخراج رأس المال وما صرف على التجارة من أتعاب وأجور، وضرائب، يوزع الربح نصفين، أو أثلاثاً: لرب المال الثلثان، وللعامل بحق عمله الثلث، أو حسب ما تعاقدا عليه. وقيل: القراض: أن يدفع إليه مالاً ليتجر به والربح بينهما على ما يشترطان والوضيعة على المال.

وذكر إن المضاربة ان تعطي انساناً من مالك ما يتجر فيه على أن يكون الربح بينكما، أو يكون له سهم معلوم من الربح. والمضارب صاحب المال والذي يأخذ المال كلاهما مضارب. ويقال للعامل: ضارب،لأنه هو الذي يضرب في الأرض. وجائز أن يكون كل واحد من رب المال ومن العامل يسمى مضارباً، لأن كل واحد منهما يضارب صاحبه، وكذلك المقارض.

فنحن اذن أمام نوع من الاتجار بالمال، يقدم فيه صاحب المال مالاً. إلى شخص آخر ليعمل به رأس مال التجارة، على أن يكون الربح بينهما على نحو ما اتفقا عليه. وقد عرف بالقراض وبالمضاربة.

و "الوضيعة" الخسارة، وفي حديث "شريح" الوضيعة على المال والربح على ما اصطلحا عليه، يعني أن الخسارة من رأس المال. وذلك لاشتراط بعض الجاهليين، أن القراض على جزء من الربح، على ألا يتحمل صاحب المال، أي المقرض له أية خسارة إذا خسرت التجارة. وعلى المقترض ارجاع المال كاملاً إلى المقرض.

التسليف

وفي جملة وسائل الاستفادة من المال: التسليف. وهو تسليف المال لمزارع أو لأصحاب الإبل والماشية في مقابل شيء يتفق عليه، يدفع بعد البيع أو الحصاد. يدفع نقوداً أو عيناً أو إبلاً أو ماشية أو أي شيء آخر يتفق عليه. والسلف، هو أن يعطى مالاً في سلعة إلى أجل معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السلف، وذلك منفعة للمسلف.وقيل كل مال قدمته في ثمن سلعة مضمونة اشتريتها للصفقة، فهو سلم وسلف. والسلف القرض الذي لا منفعة فيه للمقرض غير الأجر والشكر وعلى المقترض رده كما أخذه.

وذكر العلماء أن السلف في المعاملات له معنيان: أحدهما القرض الذي لا منفعة للمقرض فيه غير الأجر والشكر وعلى المقترض ردّه كما أخذه. والعرب تسمي القرض سلفاً، والمعنى الثاني في السلف، هو أن يُعطى مالاً في سلعة إلى أجل معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السَّلف، وذلك منفعة للمسلف.

ولما قدم النبي المدينة، وجدهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، أي يعطون الثمن في الحال ويأخذون السلعة في المآل. فقال لهم: من أسلف فلا يسلف إلا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم. ويظهر من ذلك انهم كانوا يسلفون المزارع مالاً، ويشترطون عليه أن يعطيهم في مقابل ذلك حاصلاّ، أو يبيع زرعه عندهم أو بواسطتهم، وذلك على نحو ما يفعل المزارعون في هذا الوقت. فيكسب المسلف،ويربط المزارع به، بحيث يرغمه على أن يكون مرجعه الوحيد في بيع حاصله. فجوّز الرسول السلف،على أن يكون بيعاً شرعياً صحيحاً، كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم.

و "القرض" الذي لا منفعة للمقرض فيه غير الأجر والشكر، هو ما يقال له "قرضاً حسناً" في الإسلام، وهو ما تعطيه لتقضاه، أي ما يعطى قرضاً، فيعاد إلى صاحبه.

وقامت المعابد في العربية الجنوبية بتسليف المال للمحتاج اليه. ولا أعني بالمال النقود، بل كل شيء له ثمن وقيمة. وكانت تتقاضى فائضاً في مقابل الاستفادة منه. وقد كانت معظم معابد ذلك الوقت تقوم مقام "بنوك التسليف" في هذا اليوم بتسليف الأموال إلى المحتاج لها، لما كان عندها من فائض يأتيها من أملاكها ومن حقوقها المفروضة على أتباعها، فتاجرت في الأسواق، وسلفت الفائض إلى المتسلفين.

ولهذه المعابد بيوت وضعت بها أموال المعبد، وهي خزائن المعابد، وبيوت المال عند المسلمين. وقد كانت في المعابد في الغالب، ليكون في وسع أصحاب النذور طرح نذورهم بها. أما الزروع والمواشي التي تكون من حقوق المعبد فتحفظ في المخازن المخصصة لهذه الغاية وفي "حرم" الالهة المحماة باسمها لرعي ماشيتها. وقد تحدثت عن "الغبغب" الذي كان بمكة في الجزء السادس من هذا الكتاب، وقد كان خزانة للكعبة، وأشرت إلى وجود خزائن لبيوت الأرباب الآخرى. وسدنة الأصنام هم حفّاظها وأمناؤها، ولا استبعد احتمال قيام هؤلاء السدنة بالاتجار باسم المعابد، وبتسليف ما في خزائنها من مال إلى المحتاجين اليه.

وقد عرف الاستلاف من بيت المال في الإسلام. استلف منعه بعض الخلفاء والعمال وكبار الرجال لحاجتهم إلى المال أو لتشغيله وللاستفادة منه تجارة أو لاستخدامه في مشاريع زراعية مثل إحياء موات، أو تحويل مجرى ماء إلى غير ذلك من سلف وقروض نص عليها أهل التواريخ والأخبار.

الافلاس

والافلاس ذهاب المال، واذا لم يبق للتاجر مال. فقد كان التاجر يصاب بخسارة فادحة، تتغلب على أرباحه وعلى ما عنده من مال، أو تتعرض أمواله للنهب، فلا يستطيع إعادة اعتباره، فلا يكون في وسعه دفع ما بذمته من قروض أو رأس مال إلى دائنيه، فيعلن عندئذ عدم تمكنه من دفع ما عليه، ويشهر افلاسه. وهذا ما يقال له الافلاس.

والمفلس مسؤول عن وفاء ديونه. وعليه ارضاء خصومه، بدفع ما بذمته لهم دفعاً كاملاً اًو حسب ما يتفق معهم عليه، أو تقسيطاً.ويكون الشركاء مسؤولين عن افلاسهم أيضاً، وعليهم تحمل المسؤولية كل حسب حصته في الشركة.

الفصل الثامن بعد المئة
أصحاب المال

وصاحب المال عند أهل الجاهلية، من له تجارة وجمع منها مالاً، أو من له زرع ونخيل، جاء اليه بربح طيب، أو من له إبل، والإبل هي "المال" عند العرب، ومقياس ثراء الإنسان، لأنهم لا يعرفون مالاً غيرها، أو من له حرفة رائجة، وذلك بين أهل المدن والقرى، حيث يستطيع صاحبها الحصول منها على ربح طيب إذا عرف كيف يستغل مواهبه في اختيار حرفته وفي تشغيل الأيدي العاملة لزيادة الانتاج.

وقد أشار أهل الأخبار إلى رجال جاهليين ومخضرمين كان يملك كل واحد منهم عشرات الألوف من الدراهم، أي النقود، عدا الإبل والمزارع والأملاك. من هؤلاء: "عبد الله بن جدعان". ويظهر انه كان واسع الثراء، لم يبلغ أحد مبلغه في كثرة ماله بمكة، حتى ذكر انه كان يأكل بصحاف من ذهب، ويشرب بآنية من فضة، وبكؤوس من البلور، وانه كان قد املك قياناً ليغنين له. وللجرادتين، وهما قينتان من قيانه،شهرة واسعة في كتب الأدب، تغنيان له ولمن يحضر مجلس شرابه ليلاً، وكان بيته داراً للضيفان.

وكان استعمال الأغنياء لآنية من الفضة والذهب في أكلهم وشربهم معروفاً بمكة. وقد كان ذلك يترك أثراً في نفوس الفقراء الذين لا يملكون قوتاً لهم. ولهذا السبب نهي عن استعمالها في الإسلام، ونهي أيضاً عن استعمال ثياب الحرير. وقد كانت ثياب الحرير والملابس المقصبة بالذهب، وحلل الديباج من ألبسة الأغنياء، الذين كانوا يعتنون بملابسهم وينفقون في شرائها مالاٌ، وهي تستورد من الخارج من اليمن ومن بلاد الشام والعراق.

ويفهم من القرآن الكريم أن بين الجاهليين من كان يكتنز الذهب والفضة، ولا يعطي مما جمعه للفقراء والمحوجين شيئاً. وقد بشر هؤلاء بعذاب أليم، لاكتنازهم المال وعدم إخراج شيء منه من حق مفروض عليهم، لينفق في موضعه ومكانه الذي وضعه الله له. وأشار إلى أناس حبب إليهم جمع القناطيرالمقنطرة من الذهب والفضة ، وكان أغنياؤهم يعيشون عيشة مترفة، يحتسون الماء بآنية من ذهب، حتى قيل لأحدهم "حاسي الذهب" و "شارب الذهب".

ويستخدمون الأثاث الفاخر، والمذهبات، وهي الأشياء المطلية بالذهب، والبرذ المذهبة والملابس المذهبة، والحلي المصوغة من الذهب، على حين يعيش بعضهم عيشة كفاف، وبعض منهم عيشة فقير معدم.

وقد عرف "عثمان بن عمرو بن كعب"، و هو من "بني تيم بن مرة" ب "شارب الذهب"، لغناه وكثرة ماله، حتى كان يشرب بآنية من ذهب، وقد عدّ في أجواد قريش.

ويظهر من سورة )تبت يدا أبي لهب وتب.ما أغنى عنه ماله وماكسب( أن "أبا لهب" كان رجلاً ثرياً كسب مالاً وذرية ذكوراً. وهو عم من أعمام النبي، واسمه "عبد العُزى"، وكان يرى نفسه لكثرة ماله وولده، أنه من رجال قريش وسادتهم، فلا يليق به اتباع ابن أخيه، وهو أصغر منه سناً وأقل منه مالاً. يقال إنه قال للنبي: "ماذا أعطى يا محمد إن آمنت بك ? قال: كما يعطى المسلمون ! فقال: مالي عليهم فضل ! قال: وأي شيء تبتغي: قال: تباً لهذا من دين. تباً أن أكون أنا وهؤلاء سواء".

وقد تحدثت عن "أبي سفيان" في مواضع من هذا الكتاب، وكان تاجراً يجهّز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحياناً بنفسه. وقد عهدت اليه قريش بقيادة قوافلها إلى الشام، وبسبب قيادته قافلتها إلى الشام وقعت معركة بدر. ويظهر انه كان يدفع أمواله إلى كبار تجار قريش ممن كانوا يتاجرون مع الشام والعراق، للاتجار بها، فإذا عادوا يصيب من أرباحها.

ويتبين من خبر وقوع ابنه "عمرو" أسيراً يوم بدر، ومن امتناعه من تخليصه من أسره بتقديم فدية عنه، ومن قوله لمن ألح عليه بإفدائه: "أيجمع عليّ دمي ومالي ! قتلوا حنظلة وأفدي عمرأَ، دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم"، انه كان شحيحاً، حمله شحه على تفضيل المال على ابنه. حتى حمله شحه هذا على مخالفة دين قريش،وعرفهم في عهدها ألا تعترض لأحد حاجاً أو معتمراً إلا بخير.

فلما جاء "سعد بن النعمان بن أكال"، وكان شيخاً مسلماً كبيراً الى مكة معتمرأَ، عدا عليه "أبو سفيان"، فحبسه بمكة بابنه "عمرو"، مما حمل الرسول على فك أسر ابنه ب "سعد بن النعمان بن أكال".

وكان يتاجر بالفضة وبالأدم ، والأدم من تجارة قريش المهمة. ويظهر انه كان يشتري الأدم من الطائف ومن اليمن، ثم ينقله إلى بلاد الشام. وقد أشير إلى أدم قريش، وهو أديم عرف في الأسواق بجودته وبنفاسته.

وكان "العباس بن عبد المطلب" من أثرياء قريش..كانت له ثروة واسعة من نقود ومن ذهب وفضة. وقد استغل ماله بالتجارة وبإقراضه بالربا، قيل عنه إنه "كان ذا مال كثير متفرّق في قومه". كان يقرضهم ويسلفهم ويشاركهم في تجارتهم. و لما انتهى إلى المدينة قال الرسول له: "يا عبّاس افد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عروة ابن عمرو بن جحدم ، أخا بني الحارث بن فهر، فإنك ذو مال. فقال: يا رسول الله ؛ إني كنت مسلماً، ولكن القوم استكرهوني، فقال: الله أعلم بإسلامك، إن يكن ما تذكر حقاً فالله يجزيك به. فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافدِ نفسك - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب - فقال العباس: يا رسول الله، احسبها لي في فدائي، قال: لا ؛ ذاك شيء أعطاناه الله عز وجلّ منك، قال: فإنه ليس لي مال. قال: فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت من عند ام الفضل بنت الحارث، ليس معكما أحد. ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا، ولقثم كذا وكذا، ولعبيد الله كذا وكذا ! قال: والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله، ففدى العباس نفسه وابني أخيه وحليفه". وكان ذلك عند وقوعه في الأسر ببدر.

وكانت أم العباس غنية على ما يظهر، ذكر انه ضاع وهو صغير، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أول من كساه ذلك. وكان له مال في الطائف، فإذا كان الموسم جيء اليه بالزبيب لينتبذه للحجاج، فقد كان المتولي لأمر السقاية بمكة. وذكر انه كان يملك "مكوكاً"، مصوغاً من فضة مموهاً بالذهب يشرب به.

وقد نجح بعضهم في الزراعة نجاحاً باهراً، وأظهر مقدرة في إحياء الأرض الموات. ومن هؤلاء: "عبد الله بن عامر بن كريز". وكان صغيراً في أيام النبي، وولي "البصرة" فيَ أيام "عثمان". وكان ابن خال "عثمان". وله "النباج" الذي يقال له نباج ابن عامر، وله "الجحفة"، وله بستان اين عامر بنخلة على ليلة من مكة، وله أرضون أخرى، تمكن من معالجتها ومن إظهار الماء فيها، حتى جمع ثروة طائلة من الزراعة.

ونجح "عبد الله بن عمرو بن العاص" في الزراعة أيضاً، فقد كان له مال بالطائف على ثلاثة أميال من "وج"، هو كرم فاخر موصوف، " كان يعرش على ألف ألف خشبة شراء كل خشبة درهم". وقد كان يحصل منه على أكوام كبيرة من الزبيب.

وعرف " آل مخزوم" بالثراء في الجاهلية وفي الإسلام. مرّ "عثمان بن عفان " بمجلس لبني مخزوم، فسلم عليهم، ثم قال: "إنه ليعجبني ما أرى من جمالكم ونعمة الله عليكم". لا وزعموا أن قوماً قعدوا يذكرون الأغنياء من قريش، فقال أحدهم: "المغيرة بن عبد الرحمن". فقال له القوم: "وهل لمغيرة من مال ?" فقال الرجل: أليس له أربع بنات وأربع أخوات ? وكان المغيرة يقول: لا أزوج كفؤأَ إلا بألف دينار ! فكان إذا خطب اليه الكفؤ، قال له: قد علمت قولي ? فيقول له الخاطب: قد علمتُ وقد أحضرت المالَ ? فيزوجه ويقبض المال منه ؛ ثم يقول له: أختم عليه بخاتمك، فإذا أدخل زوجته، بعدما يجهزها بما يصلحها، ويخدمه خادمين، ويدخل بيتها نفقة سنة دفع إليها صداقها مختومأَ بخاتم زوجها، ثم يقول لها: هذا مالك، وما جهزناك به صلة مناّ لكِ". وهي قصة مهما قيل فيها فإنها تشير إلى ثراء وغنى آل مخزوم.

وعكرمة بن أبي جهل من أغنياء قريش كذلك، ولما ندب "أبو بكر" الناس لغزو الروم، خرج معهم غازياً، فبصر "أبو بكر" بخباء عظيم، حوله ترابط ثمانية أفراس ورماح وعدة ظاهرة، فجاء اليه، فإذا خباء "عكرمة"، فعرض أبو بكر عليه المعونة، فقال: "أنا غني عنها، معي ألفا دينار، فاصرف معونتك إلى غيري".

وكان "الحكم بن ابي العاص بن أمية بن عبد شمس" من تجار مكة، وكان يخرج بتجارته إلى الخارج، فيذهب إلى الحيرة، للاتجار بسوقها. ومرّ "الحكم" بحاتم الطائي فسأله الجوار في أرض طيء حتى يصل إلى "الحيرة" فأجاره ونحر له وأوصله الى الحيرة.

ومن أغنياء الطائف "مسعود بن معتب الثققي"، قيل انه كان له مال عظيم. وانه أحد من قيل فيه انه المراد من الآية: )على رجل من القريتين عظيم(. وكانت له مزارع بها أشجار كروم وفواكه، وله عبيد، وقصر ضخم.

ومن رجال الطائف الأغنياء "مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي"، كان غنياً يرابي بماله. ولإخوته ربا عند "بني المغيرة بن عبد الله"، فلما أسلموا طالبوهم، فقالوا: ما نعطي الربا في الإسلام، واختصموا إلى "عتاب بن أسيد"، فكتب به إلى النبي، فنزلت: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين".

ولا توجد لدينا قوائم بمقدار ما كان يملكه الأغنياء في الجاهلية من مال، وأقصد بالمال هنا: النقود، من دنانير ودراهم، لعدم وصول موارد مدوّنة فيها مثل هذه القوائم، إلا أن الموارد الإسلامية قد تطرقت إلى ذكر ما قدمه بعض من أسلم من النقود في سبيل الله،وبعض ما قدمه المشركون من أجل الدفاع عن مصالحهم، كما أشارت إلى أمور أخرى وردت فيها أعداد وأرقام، قد ترسم لنا صورة عن أموال بعض الأغنياء عند ظهور الإسلام. فقد ورد في كتب السير والتواريخ مثلاً أن الرسول استسلف من "عبد الله بن أبي ربيعة" أربعين ألف درهم، فأعطاه. واستقرض من "صفوان بن أمية" خمسين ألف درهم فأقرضه. واستقرض من "حويطب بن عبد العُزى" أربعين ألف درهم. فكانت ثلاثين ومائة ألف " قسمها بين أهل الضعف، فأصاب الرجل خمسين درهماً وأقل وأكثر، وبعث من ذلك إلى بني جذيمة.

وورد أن "المطلب بن أبي وداعة"، فدى أباه يوم بدر بأربعة آلاف درهم. وهو مبلغ يمكن أن يتحدث عماّ كان لدى آل "أبي وداعة" من مال. واستعان الأغنياء بخزنة يخزنون لهم أموالهم، ويكتبون لهم حساباتهم، فكانً ل "طلحة بن عبيد الله" خازن، يحفظ له ماله، ويشرف على أملاكه ونخله وزروعه. والخازن، هو الذي يحافظ على المال وخزنه، والخزانة مكان الخزن. وقد كانت الخزائن معروفة عند الجاهليين، وقد أشير إليها في مواضع من القران الكريم. وكان "بلال المؤذن" خازناً لأبي بكر، ثم صار خازناً للرسول، لما أعتقه "أبو بكر"، يقوم بحفظ ما يأتي إلى الرسول من بيت المال، ويعطي منه من يأمره باعطائه منه.

واتخذوا لهم محاسبين يحسبون لهم حسابهم، وتجار لهم قوافل ولهم شركات مساهمة، يساهم فيها كل من أراد من اهل مكة، كان لا بد لهم من استخدام المحاسبين، لحساب رؤوس أموالهم ومصاريفهم وتقدير أرباحهم وخسائرهم.

وقد "استعمل الرسول رجلاً من الأسد على صدقات "بني سليم"، يدعى "ابن اللتيبة"، فلما جاء حاسبه، فقد صح إن رسول الله حاسب. وبكتاب الحساب تحفظ الأموال". وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال آخرين عينّهم الرسول لأخذ صدقات المسلمين ومحاسبتهم عليها.

وقد استغل أهل مكة "الطائف"، فكانت لقريش أموال بها يأتونها من مكة فيصلحونها، فلما فتحت مكة وأسلم أهلها طمعت ثقيف فيها، حتى اذا فتحت الطائف أقرت في أيدي المكيين. وصارت الطائف مخلافاً من مخاليف مكة. وممن كان له مال بالطائف "العباس بن عبد المطلب"، كانت له بها أرض، بها كروم، فكان الزبيب يحمل منها فينبذ في السقاية للحجاج.

والتجارة من أهم موارد الثراء عند الجاهليين، وقد كان أكثر أغنياء مكة تجاراً. وأهم ما يمتاز به ثراء التاجر عن ثراء غيره من الأغنياء، هو أن ثراءه ثراء نقود، وتعامله بالدنانير والدراهم في الغالب، وأن ما يبيعه ويشتريه هو من منتوج ومحصول غيره، فهو وسيط، يكسب ربحه من البيع والشراء، اي من فرق السعر الذي يكون بين سعر شرائه وسعر بيعه، وقد يخسر بالطبع.. أما ثراء الأغنياء المزارعين، فمن بيع حاصلهم، ويزيد كسبهم كلما ارتفع سعر البيع، فتزيد به ثروتهم وتتوسع أرضهم. وأما ثراء سادة القبائل،فمن المال، أي الإبل، ومن الجباية والتعامل مع التجار ومن الجهود الشخصية التي يبذلونها في الحصول على المال، مثل حفر الآبار واستنباط الماء في الأرض الموات وغير ذلك.

ومن وسائل الثراء العثور على "الرِّكاز"، دفين أهل الجاهلية، أي الكنز الجاهلى، والمال العادىّ يوجد مدفوناً. و " الركزة" واحدة الركاز، القطعة من جواهر الأرض المركوزة فيها، وقطع عظام مثل الجلاميد من الذهب والفضة تخرج من الأرض أو من المعدن. وأدخل بعض العلماء المعادن في الركاز. وخصص أهل الحجاز الركاز بالمال المدفون خاصة مما كنزه بنو آدم قبل الإسلام، وأما لمعادن ، فليست بركاز. وعرف الركاز ب " السيوب". وذكر أن السيوب المعادن وذكر أنها عروق من الذهب والفضة تسيب في المعدن ، أي تتكون فيه وتظهر، سميت سيوباً لانسيابها في الأرض. وذكر أنها المال المدفون في الجاهلية او المعدن. وقد وردت اللفظة في كتاب الرسول ل "وائل بن حجر" 0 إذ ورد " وفي السيوب الخمس".

وقد اعتبر الجاهليون " الركاز"،مالا" يأخذه من يعثرعليه، ونصيبا حلالاً، حكمه حكم اللقطة التي لا صاحب لها، أما الإسلام ت فقد فرض الخُمس في الركاز. وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه. فما استخرج من الركاز ، فلمستخرجه أربعة أخماس ولبيت المال الخمس.

ونجد السور المكيهٌ الأولى من سور القرآن، تصور أغنياء قريش، أناساً متغطرسين غلاظ الأكباد يرون أنفسهم فوق الناس، لغناهم ولمكانتهم بسبب ذلك في قولهم، وكان ضعف حال الرسول بالنسبة لهم، وصغر سنه من أهم العوامل التي دفعت أولئك الساده على مقاومته ومقاومة ما جاء به،خاصة في دعوته انصاف الفقير وإخراج حق الله المكَتوب للفقراء من أموالهم صدقة وزكاة،تزكية لأموالهم، وإسعافاً لفقرائهم، قال أبو لهب للرسول: "ماذا أعطى يا محمد إن آمنت بك ? قال: كما يعطى المسلمون ! فقال: ما لي عليهم من فضل. قال: وأي شيء تبتغي ? قال: تباً لهذا من دين، تباً أن أكون أنا وهؤلاء سواء".

ويصورهم القرآن الكريم قوماً ألهاهم التكاثر والتفاخر، تفاخروا بأموالهم وبوجاهتهم في قومهم، بل تفاخروا حتى بمن توفي منهم من سادتهم. لا يرحمون فقيراً، ولا يعطفون على يتيم، بل كانوا يأكلون أموال اليتامى، ويقهرونهم، ولا يعطونهم حقوقهم ، إذا جاءهم سائل انتهروه، وطردوه طرداً قبيحاً، واذا طلب محروم منهم عونأَ أبعدوه عنهم. واذا وزن بائعهم أنقص في الميزان، واذا كال قصر في الكيل: )ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك انهم مبعوثون ليوم عظيم(.

ونجد هذه الصور البشعة المعبرة عن جشع بعض الأغنياء في كَتب السير والحديث والأخبار أيضا، اذ صورت بعضها بعضهم وقد اعتدى على أموال رجل غريب جاء يتاجر بمكة، فتلقاه تاجر من تجارها، عامله على سلعة له، ثم بايعه، فلما قبضها ماطله الثمن،ثم أكله. هذا "أبو جهل" ابتاع إبلاّ لرجل من "اراش" "اراشة" بمكة، فمطله بأثمانها، فأقبل "الاراشي" حتى وقف على ناد من قريش، ورسول الله في ناحية من المسجد جالس. فقال: يا معشر قريش من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام، فإني رجل غريب ابن سبيل وقد غلبني على حقي. فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس، يشيرون إلى رسول الله، وهم يهزأون به لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة، اذهب اليه فإنه يؤديك عليه. فذهب به إلى أبي جهل، وأخذ منه حقه، وأعاده عليه. وهذا رجل من "زبيد" قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه "العاصي بن وائل"، وكان ذا قدر بمكة وشرف فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف، فأبوا أن يعينوه على "العاصي بن وائل" وزبروه. فلما رأى الزبيدي الشرّ أوفى على أبي قبيس وقريش في أنديتهم، فصاح بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعـتـه  ببطن مكة نائي الدار والنفـر

ومحرم أشعث لم يقض عمرته  يا للرجال وبين الحجر والحجر 

إن الحرام لمن تمت كرامـتـه  ولا حرام لثوب الفاجر الغـدر

فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدى اليه حقه. وعرف حلفهم هذا بحلف الفضول، ثم مشوا إلى "العاصي بن وائل"، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها اليه. فكان حلف الفضول نتيجة لما كان يقع بمكة من اعتداء على حقوق وأموال الغرباء والمستضعفين من الناس.

وذكر إن منهم من كان يأكل أجر العامل الأجير، ومنهم من كان يشتط على عبده، فيشغله في أشغال صعبة، ثم يطلب منه أجره، وقد يستقل أجره فيضربه ليحمله على إن يشتغل له أكثر من شغله، ليجيء اليه بمال زائد.ومنهم من كان يحمل إماءه على البغاء ليأخذ أجرهن، كما أشير إلى ذلك في القرآن الكريم. وكما أشرت إلى ذلك في مواضع أخرى من هذا الكتاب. ومنهم من كان لا يبالي للحصول على المال بسلوك أي سبيل يؤدي اليه.

وهي صورة تعارض ما نقرأه في أخبار أهل الأخبار عن تعاطف أغنياء مكة مع فقرائهم، وعن اخراجهم جزءاً من أموالهم لمساعدة البائس والفقير والصعلوك والغريب، حتى صار الفقير عندهم كالكافي وصاروا بأجمعهم تجاراً خلطاء إلى غير ذلك من نعوت وأوصاف ، وكما جاء في شعر ينسب إلى "مطرود بن كعب الخزاعي". وما ذكروه عن الذادة الذين أخذوا على أنفسهم الذود عن الضعيف و المظلوم.

ونجد أناساً بين الأعراب كانوا يشعرون بما كان يعانيه الفقراء من شدة الفقر، ومن شدة ما أصاب بعضهم من إملاق، ومن اضطرار بعضهم إلى وأد بناته من شدة الفقر، كما أشير إلى ذلك في القرآن الكريم، وهذا مما حمل بعض أصحاب القلوب الرحيمة الشفيقة على ودى البنات، وحمل مؤونتهن وبذل الرعاية لهن حتى يكبرن فيتزوجن. وقد ذكر إن من هؤلاء الذين وهبوا الشعور بالمسؤولية الإنسانية وبالشفقة والرحمة والحنان: "صعصعة بن ناجية بن عقال"، فقد أحيا الموءودات فبعث الرسول وعنده مائة جارية وأربع جوار أخذهن من آبائهن لئلا يوأدن.

????عادات وأعراف

??????ويظهر من بعض الأخبار إن الوأد لم يكن عن إملاق حسب، بل كان لسبب آخر ، أراه متصلاً بعقيدة ودين. فقد ذكر إن وفد "جعفى"، قال لرسول الله: "يا رسول الله ! إن أمنا مُليكة بنت الحلو، كانت تفك العاني وتطعم البائس وترحم المسكين، وانها ماتت وقد وأدت بنيّة لها صغيرة فما حالها قال: الوائدة والموءودة في النار". فلم يكن الوأد هنا بسبب الفقر والإملاق، بل لسبب آخر، قد تكون له صلة بدين أو بعرف اجتماعاً. ويلاحظ إن "جعفى" كانوا يحرمون القلب في الجاهلية ولا يأكلونه. ولما قدم وفدهم إلى يثرب، قال رسول الله: بلغني انكم لا تأكلون القلب ? قال: نعم. قال: فإنه لا يكمل اسلامكم إلا بأكله. ودعا له بقلب فشوي، ثم ناوله أحد رجال الوفد، فلما أخذه أرعدت يداه، فقال له رسول الله: كله، فأكله وقال:   

على أني أكلت القلب كرهاً  وترعد حين مسته بنانـي

وقد حمل الأعشى على أولئك الذين ينامون وهم متخمون ملاء البطون،وجيرانهم جياع يتضورون من الجوع، إذ يقول: تبيتون في المشنى ملاء بطونكم  وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

وفي هذا المعنى يقول بشر ين المغيرة: وكلّهم قد نال شبعاً لـبـطـنـه  وشبع الفتى لؤم اذا جاع صاحبه 

ولعلّ هذا الشعور هو الذي حمل "عروة بن الورد" على أن يكون سيد الصعاليك ومجمعهم ومغيثهم، حتى قيل له: "عروة الصعاليك"، لأنه كان يجمع الصعاليك في حظيرة فيرزقهم مما يغنمه.

وفي القرآن الكريم أن "ملأ" نوح، وهم الأعزة أصحاب الحول والطول، يقولون لنوح: )ما نراك إلا بشراً مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا( ، وفيه أنهم قالوا له: )أنؤمن لك واتبعك الأرذلون(. وقول ملأ نوح هذا، هو تعبير عن رأي ملأ قريش الذين كانوا يقولون لو كان محمد رسولا"حقاً، لكان رجلاً من رجال قريش أو الطائف الأغنياء أصحاب المال، فالرئاسة ولو كانت نبوة لا تكون إلا في رجل عظيم: )وقالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم(.وكانوا يسخرون من المسلمين ويستهزئون بهم حينما يرونهم خلف الرسول، يدخلون المسجد الحرام، وهم من الأراذل الضعفاء والفقراء، فيضحكون ويقولون جاءكم ملوك الأرض كسرى وهرقل. فدين يكون اتباعه ومعتنقوه من الرقيق والضعفاء دين ليس له شاًن، ولا يمكن أن يكون مقبولاً حتى يكون أتباعه من الأغنياء ملأ القوم.

وقضى أغنياء مكة وسادتها لياليهم في مجالسهم ونواديهم، وعادتهم أنهم كانوا يتنادمون، يشربون ويسمعون القيان، ويتنادرون ويسمعون القصص والنكات، ثم يعودون إلى بيوتهم، ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء ندماء قريش.

وأكثر الأغنياء من التدهن، فالتدهن من النعيم، وهم يتدهنون بالدهون الجيدة المطيبة. ويقال لكثرة التدهن "التورن". و "التودن"، كثرة التدهين والتنعيم.

وفي مقابل هذه الطبقة الغنية، كان السواد فقيراً، ومنهم معدمون تماماً لا يملكون شيئأَ، إذا عجزوا عن الحصول على قوت، عمدوا إلى الشجر فأكلوا ورقه أو ثمره إن كان برياً لا يملكه أحد، أو إلى الأعشاب فأكلوها. ورد في حديث "عتبة بن غزوان": ما لنا طعام إلا ورق البشام. أو إلى "العلهز" فأكلوه. وهو طعام من الدم والوبر كان يتخذ في أيام المجاعة، وذلك أن يخلط الدم بأوبار الإبل ثم يشوى في النار، قيل وكانوا يخلطون فيه القردان، وذكر انه الصوف ينفش ويشرب بالدماء ويشوى ويؤكل. ورد في حديث "عكرمة": سورة هود، كان طعام أهل الجاهلية العلهز، أو إلى "القرف"، لحاء الشجر، فأكلوة. وأكلوا "الوزين"، وهو الحنظل يؤكل باللبن أيام الحاجة.

وقد كان الناس يصابون بالشدة والعسر، ويعبر عن ذلك ب "الحشر". والحشر إجحاف السنة الشديدة يالمال. واذا أصابت الناس سنة شديدة فأجحفت بالمال وأهلكت ذوات الأربع قيل حشرتهم السنة، بمعنى أصابهم الضرر والجهد. وفي العربية ألفاظ عديدة تعبر عن الشدة والضيق والفقر وضنك الحياة، وسوء الحال، من ذلك "القشف" والضعف والشظف، وغير ذلك. وفي كثرة هذه الألفاظ تعبير عن سوء الأحوال وعن تبرم الناس من الحياة ومن شدتها عليهم في ذلك الوقت، حيث كانت حياتهم في عسر وضيق.

سرقة أموال الآلهة

وقد ورد في نص من نصوص المسند، وعيد بان ينزل الإلَه رب السماء "ذ سموي" غضبه ولعناته وكل سوء، وأن يلحق البؤس "يباس" بكل "نفس" إِنسان لا يبالي بأوامر ذلك الإله، فيسرق "ذ يسرقن" محرمه، ويسرق من أموال محرمه "بقرم" بقرأَ، أو غير ذلك كما أشير إلى العقوبات التي ستنزل بذلك الإنسان المتطاول المخالف لأوامر الألهة. عقوبات العذاب "عذبن" تنزلها الالهة على أولئك الأشخاص.

ولهذا النص أهمية كبيرة بالنسبة الينا، لأنه شاهد ناطق على أن الإنسان عند الحاجة وعند تصوره وجود منفعة وفائدة له لا يعبأ بسرقة آلهته وبالسطو على ما في معابدها من أموال وحلال، وأنه لا يتردد من السطو على أوقاف تلك الالهة وأخذ ما فيها. لا فرق في ذلك بين إنسان قديم، كان للدين عليه وعلى مجتمعه نفوذ وسلطان،وبين مجتمع حديث تهذب فيه الإنسان وارتفعت فيه مداركه ومزاياه فها نحن أمام جماعة سرقت معبد "محرم" إلآهها "ذو سموي" رب السماء، ولم تكتف بسرقة ذلك المعبد، بل سرقت البقر في الأرض المحبوسة على ذلك الإلَه، ولهذا أمر رجال ذلك المعبد الناطقين باسم ذلك الإله بكتابة ذلك النص ليقرأه الناس وليروا ما فيه من لعنات ستنزل على من يتجاسر على مخالفة أوامر ذلك الإلَه، فيسرق معبده ويسرق بقره.

ويلاحظ إن التشريع قد اعتبر القبيلة والجماعة وحدة اجتماعية مسؤولة أمام الإلهَ عن كل ما اقترفه أفرادها من سرقات وآثام. فإذا سرق أحدهم من معبده أو ألحق أضرارأَ بأملاكه، صارت القبيلة مسؤولة قانوناً وكلها أمامه، وعليها إنزال عقابها بالفاعل، بالاضافة إلى العقاب الذي يفرضه المعبد عليه. وبإيقاع المسؤولية على القبيلة كلها، يكون المعبد قد أمن بذلك من غدر الأفراد المجهولين، ومن تطاول السرّاق المتسترين على أموال المعابد والآلهة،ومتى وجدت القبيلة انها مسؤولة عن ذلك بالتضامن، فإنها تكون حذرة وعيناً على السرّاق والمفسدين، لا سيما إذا ما علمت إن الآلهة تغضب عليها فتصيبها بالكوارث،فتقلّ بذلك حوادث السرقات بالنسبة إلى أموال المعابد والأوقاف.

ويجب أن نتذكر هنا القصة التي يرويها أهل الأخبار عن سرقة "كنزالكعبة" وذلك قبل بنيانها بقليل، ووضع السراق ما سرقوه عند "دويك" مولى لبني "مليح ابن عمرو" من خزاعة، وقطع أهل مكة يده لذلك. وما ذكره أيضاً من أن سارقاً سرق من مالها زمن جرهم، فانتزع المال منه.

كذلك يجب أن نتذكر إن سارقاً سرق من بيت "عائشة" شيئاً، فدعت عليه، فقال لها النبي: "لاتسبخي عنه بدعائك عليه"، أي لا تخففي عنه إثمه الذي استحقه بالسرقة بدعائك عليه. سرق بيت رسول الله مع انه مسلم مؤمن بالله وبرسوله،لم يردعه عن السرقة دينه، وقد تكون الحاجة قد دفعته إلى تلك السرقة.

ووصلت إلينا نصوص أخرى يفهم منها أن أشخاصاً استدانوا من أموال المعبد، فلم يؤدوها له، وأن قوماً أكلوا حقوق الآلهة المفروضة عليهم من أعشار ونذور، وفي بعض منها إقرار من أصحابها بأنهم أكلوا حق الآلهة، أو لم يتمكنوا من الوفاء بديونهم أو بنذورهم لها، فهي تتوسل إليها بأن تغفر لأصحابها ما اقترفوه بسبب ذلك من إثم، وأن تمن عليهم بالصحة والعافية. ويظهر أنم أصيبوا بسوء ومرت بهم أوقات عصيبة، جعلتهم ينسبون ما حل بهم إلى فعل الالهة، والى غضبها عليهم بسبب أكلهم أموالها وحقوقها، فكتبوا ما كتبوه يستغفرون ويتوبون، يرجون الصفح والعفو، وقد وعد بعضهم بالوفاء بل ما أخذه ولوّاه.

دفن الذنوب

ومن عادة العرب في الجاهلية، أن أحداً منهم إذا جنى جناية، أو نهب شيئاً أو أكل مالاّ، أو غش احداً في تجارة، أو أكلها بالباطل، وأراد المجنى عليه العفو عمّا وقع، فالتعويل في الصفح فيها على الدفن. وطريقتهم فيه أن تجتمع أكابر قبيلة الذي يدَْفن الذنب بحضور رجال يثق بهم المدفون له، ويقوم منهم رجل، فيقول للمجني عليه: نريد منك الدفن لفلان، وهو مقر بما أهاجك عليه، ويعدد ذنوبه التي أُخذ بها ولا يبقي منها بقية، ويقر الذي يدفن ذلك القائل على أن هذا جملة ما نقمه على المدفون له،ثم يحفر بيده حفيرة في الأرض، ويقول: قد ألقيت في هذه الحفيرة ذنوب فلان التي نقمتها عليه، ودفنتها له دفني لهذه الحفيرة، ثم يرد تراب الحفرة إليها حتى يدفنها بيده. ولا يطمئن خاطر المذنب منهم إلا به، إلا أنه لم تجر للعرب فيه عادة بكتابة، بل يكتفي بذلك الفعل بمضر كبار الفريقين، ثم لو كانت دماء أو قتلى عفيت وعفيت بها آثار الطلائب.

الفصل التاسع بعد المئة
الطبقة المملوكة

وأدنى الطبقات منزلة في المجتمع، هي الطبقة التي تحترف الحرف، وطبقة الرقيق، أي الطبقة المملوكة، التي تساوي الحيوان في كونها مخلوقات حية مملوكة لغيرها، ليس لها في هذه الحياة حرية ولا رأي ولا اختيار. فقدت حريتها بالرق، وصارت ملك سيدها، وهي وما تنتجه ملك للمالك، ويدخل في ذلك نسلها إلى الأبد، إلا إذا منّ المالك على عبد بفك رقبته، فيصير حراً، وتنتقل الحرية إلى نسله كذلك.

والرقيق سلعة من سلع السوق، تباع وتشترى كما تباع وتشترى أية سلعة أخرى. وليس لها سعر ثابت معين، انما يتوقف ثمنها على عمر تلك السلعة وعلى درجتها من الجمال وعلى نوع جنسها وعلى حذق ومهارة ودرجة فطنة وذكاء تلك السلعة الآدمية، وعلى الأعمال التي تتمكن من القيام بها. ولم نعثر على نصوص جاهلية فيها أسعار الرقيق، أما أخبار أهل الأخبار، فقد ذكرت في بعض المناسبات أسعار بعض الرقيق، فساعدتنا بذلك على تكوين رأي عن سعر هذه البضاعة الحية عند ظهور الإسلام.

فقد ذكرت كتب السير والتواريخ والصحابة، أن "خديجة" ملكت "زيد ابن حارثة" اشتراه لها "حكيم بن حزام بن خويلد"، بسوق عكاظ باأربعمائة درهم. وذكرت إن "أبا بكر" اشترى "بلال بن رباح" مؤذن الرسول وهو من الحبش، أي من الزنوج بخمس أواق، وقيل بسبع أواق، وقيل بتسع أواق، ثم اعتقه. وكان خازناً له. كما كان خازناً للرسول. وبيع "يعقوب" المدبر والمعروف ب "القبطي"،من "نعيم النحام" بثمانمائة درهم، وقيل بسبعمائة أو تسعمائة.

الاتجار بالرقيق

وكان الرقيق إذ ذاك تجارة نشطة مربحة، يكسب صاحبها منها،ربحاً طيباً،وكان المتاجر بالرقيق، يشتري تجارته من الأسواق الخارجية، ثم يأتي بسلعته إلى أسواق جزيرة العرب لبيعها فيها، في الأسواق الموسمية وفي الأسواق المحلية الدائمة، مثل سوق مكة ويثرب والطائف ونجران وغيرها،ففي كل هذه الأسواق وأمثالها طلب شديد على الرقيق، لأنه وسيلة من وسائل تأدية الأعمال والانتاج. وأسواق العراق وبلاد الشام من أهم الأسواق التي موّنت جزيرة العرب بالرقيق الأبيض. أما السواحل الافريقية،فقد موّنتها بالرقيق الأسود. وهو أرخص ثمناً من الرقيق الأبيض، وكفاءته محدودة ،وقابلياته للعمل معينة، وهو لا يجاري الرقيق الأبيض في كثير من الأمور.

والرقيق المملوك: بين الرق. والرِق، الملك والعبودية. ورق صار في عبودية. واسترق المملوك فرق: أدخله في الرق. والرقيق العبد، والرق العبودة. ُسميّ العبيد رقيقاً لأنهم يرقون لمالكهم ويذلون ويخضعون. و "المملوك" العبد. وقيل الذي سبي ولم يملك أبواه، أو إذا ملك ولم يملك أبواه، فهو عبد مملكة. "وفي الحديث: إن الأشعث بن قيس خاصم أهل نجران إلى عمر في رقابهم وكان قد استعبدهم في الجاهلية، فلما أسلموا أبوا عليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا كنا عبيد مملكة ولم نكن عبيد قن". المملكة. أن يغلب عليهم فيستعبدهم وهم في الأصل أحرار. والقنّ العبد، ويقال المشترى.

والعبد: المملوك خلاف الحر، و "العِبدِّي" جماعة العبيد الذين ولدوا في العبودية. "وفي حديث عامر بن الطفيل: انه قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: ما هذه العبدّي حولك يا محمد ? أراد فقراء أهل الصفة، وكانوا يقولون اتبعه الأرذلون".

و "القنِ" عبد مملك هو وأبواه ، أو هو الخالص العبودة، أو الذي ولد عندك ولا تستطيع خراجه عنك.

ومن الرقيق، رقيق تبع الأرض، فهو دائمأَ بها، يباع معها، ويشترى بشرائها ويقال له "امتى" في لغة العرب الجنوبيين. وأما "الأدم"، فيمثلون الطبقات الدنيا، من عمال يشتغلون بالأرض أو بالحرف، فهم أحرار من حيث التنقل وامتهان الحرف، غير انهم من الطبقات الدنيا، وكذلك ال "غبر"، وهم من الفقراء المعدمين ، وطبقة "مى" "امى"، وهم الأوباش غير المثقفين. ولعل لفظة "الأمى"، قد جاءت من هذا الأصل.

ونظراً لصغر مساحة الأرضين التي كانت تزرع في الحجاز، فإننا لا نستطيع أن نجد اقطاعاً فيه على نمط الاقطاع الذي نراه في العربية الجنوبية، ولا نجد فيه تذمراً بين الفلاحين على نحو ما وجدناه في اليمن، كما لا نجد سادة أملاك في الحجاز لهم نفوذ واسع، على نحو ما نجده في اليمن من تحكم الأقيال والأذواء وبقية الملاكين في الحكم وفي المجتمع، وفي شؤون رقيقهم المستخدم في استغلال الأرض. وكل ما نجده إن أشخاصاً كانوا يمتلكون ينابيع أو عيوناً أو آبار، وقد زرعوا بمائها. وزراعة تعتمد على هذا النوع من الري لا يمكن أن تكون زراعة كثيفة تدر على أصحابها ربحاً طائلاّ. لذا فهي لا تحتاج إلى تشغيل عدد كبير من العبيد والأرقاء.

وكانت الغزوات والحروب أهم مورد لتجارة الرقيق. وهو مورد قدم معروف. فالغالب المنتصر يأخذ من يقع في قبضته من أسرى، ويعد ملكاً له.- وقد كان في إمكان الأسرى فك أسرهم ب "الفداء". أما من لم يتمكن من دفع الفدية منهم، فيعد بحسب القانون ملكاً لآسره أو للدولة بحسب القوانين النافذة، فيجوزفي هذه الحالة امتلاك الأسير وتشغيله في الأعمال التي يكلفه إياها سيده، ويجوز له إطلاق حريته وعدّه حرّاً معتق الرقبة وبيعه في أسواق النخاسة. وقد كان تجار العبيد يفدون إلى هذه الأسواق، ليبتاعوا منها العبيد الذين يحتاجون اليهم ، ويأخذونهم معهم إلى بلادهم، ليبيعوهم مرة ثانية في أسواق النخاسة، لمن هو في حاجة اليهم.

والحروب مورد من موارد الرزق للمحاربين الشجعان الذين يتمكنون من أسر من يبرز لهم، والأسر خير للآسر من محارب يقتله، فقتله لا يفيده من الناحية المادية شيئاً، سوى ما قد يقع في يديه من أسلابه. أما أسره، فإنه يفيده فائدة مادية، فعلى الأسير ترضيته بدفع فدية مرضية، إن أراد فك أسره وتحرير رقبته، وإلا صار عبداً مملوكاً لآسره ، له أن يمتلكه وله أن يبيعه، والغالب أنه يبيعه في حالة عجزه من تقديم فدية، أو عجز أهله عنها، كي يتخلص بذلك آسره من أخطار هروبه منه، فيأخذه إلى الأسواق ويبيعه فيها.

وقد يقع القريب أسيراً في يدي قريب له، فيكون مملوكاً له. ولا تسقط صلة الرحم حق التملك.وللأسير فداء نفسه حتى إن كان أخاً لآسره أو عماً له. ولكن الأغلب أن يتوسط الناس بين الآسر وأسيره، لفك أسره، وأن تتغلب عاطفة الدم على المطالبة بالمال.

ومن أسباب الرق الفقر، ونجد في كتب الحديث والأخبار أن عوائل باعت أولادها من ذكور وأناث، من الفقر. وكان بعض من باع أولاده يشترط أن يكون الولاء لهم: والولاء سبب من أسباب الارث. جاءت "بريرة" إلى "عائشة"، وكانت مكاتبة ،ولم تكن قضت من مكاتبتها شيئاً، وكانت كاتبتهم على تسع أواق في كل سنة وقية ، فقالت: "يا أم المؤمنين اشتريني فإن أهلي يبيعوني، فاعتقيني، قالت عائشة: نعم. قالت بريرة: إن أهلي لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي. قالت: لا حاجة لي فيك. فسمع ذلك النبي، فقال: ماشأن بريرة ? فذكرت له شأنها، فقال: اشتربها فأعتقيها وليشترطوا ما شاؤوا.

فاشترتها وأعتقتها. فقال النبيّ: الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط.

وقد وجد الرقيق في كل مكان من جزيرة العرب، لا سيما في المستوطنات الزراعية والقرى ومواضع التجار والتعدين، لحاجة هذه المواضع إلى الأيدي العاملة والى من يدافع عنها، حتى انهم كانوا يقذفون بعبيدهم في الحروب للدفاع عنهم. ولما أراد "مجاعة" مصالحة "خالد بن الوليد" على "الصفراء والبيضاء ونصف السبى والحلقة والكراع وحائط من كل قرية ومزرعة"، قال "سلمة بن عمير الحنفي": "لا والله لا نقبل، نبعث إلى أهل القرى والعبيد فنقاتل ولا نقاضي خالداً، فإن الحصون حصينة والطعام كثير، والشتاء قد حضر". فجعل "سلمة بن عمير" أهل القرى والعبيد في جملة من يتكل عليهم في قتال "خالد". ولما كان القتال بين "خالد" وبين "مسيلمة" واستحر القتل، " قال أهل القرى: نحن أعلم بقتال أهل القرى يا معشر اهل البادية منكم. فقال لهم أهل البادية: إن أهل القرى لا يحسنون القتال، ولا يدرون ما الحرب ! فسترون إذا امتزنا من أين يجيء الخلل ! فامتازوا". ونجد في رواية أخرى إن "خالداً" صالح "مجاعة" على "الصفراء والبيضاء والحلقة وكل حائط رِضانا في كل ناحية ونصف المملوكين". بدلاّ من جملهّ: "ونصف السبي" التي ترد في روايات أخرى. والمملوك العبد ومن دخل في الرق. وهذا مما يدل على وجود عدد كبير من العبيد في اليمامة في ذلك العهد، لحاجة أهل اليمامة وهم أهل زرع في الغالب اليهم ، لتشغيلهم في الأعمال الزراعية وفي التعدين والحرف.

ونجد إشارة إلى الموالي في بعض كتب الرسول إلى سادات القبائل. فلما كتب الرسول عهده لقيس بن سلمة الجعفي، جاء فيه: "كتابُ من محمد رسول الله لقيس بن سلمة بن شراحيل: إني استعملتك على مران ومواليها، وحريم ومواليها والكلاب ومواليها". وفي النص على ذكر الموالي في هذا العهد دلالة على انهم كانوا يكوّنون طبقة ظاهرة في "جعفى".

وأما "أهل القرى"، فهم المستوطنون الذين أغراهم عثورهم على الماء على السكن حوله وعلى الاشتغال بالزراعة، كما استقروا حول مواضع المعادن وفي المستوطنات القديمة التي نسبت إلى "طسم وجديس". فهم طبقة خاصة من أهل اليمامة، وهم حضر اليمامة، وأصحاب العمل والثراء ولهم العبيد لحاجتهم اليهم. اّما الطبقة الثانية، فأهل البادية. ممن سكن بيوت الوبر، ولم يقم في بيوت من طين. ولم يفلح ولم يزرع، بل كان رزقه على الإبل.

وكان لأهل القرى حصونهم، يحتمون بها من الأعراب ومن كلّ من يريد بهم سوءاً، ولهم مخازنهم يخزنون بها طعامهم، ولهم آبارهم في داخل قراهم وحصونهم، فإذا حوصروا كان لديهم الماء، فلا يحتاجون إلى مصالحة المحاصر لهم لعطشهم ولعدم وجود الماء عندهم، وتكون حصونهم عند الحصار قد امتلات بهم، وقد أغلقوا أبوابها، وقد احتلوا أبراجهم وسطوحها لرمي المحاصر بالسهام وبالماء الحار وبالحجارة، وحولها خنادق تمنع العدو من الدنو من حائط الحصن، وقد رفعوا جانب الخندق المقابل للحصن حتى يصعب على من يريد تسلقه وتسوره الوصول إلى الحصن. وبعض هذه الحصون عالية سميكة الجدران،ذكر "الهمداني" أن جدر "الهيصمية"، وهي لبني "صُهيب" من "بني قشير" يركض عليها أربع من الخيل، وكان من الصعب أن ينال رأسها السهم. وذكر عن "القصر العادي" بالأثل، أنه قصر منيف من عهد "طسم" و "جديس"، أقيم على حصن من طين ثلاثين ذراعاً دكّة، ثم بني الحصن. ووصف حصوناً كثيرة بعضها من حصون ما قبل الإسلام، بنيت لحماية أهلها من الغارات.

و "القصب" دون الحصون، ذكرها "الهمداني" بقوله: "و بالمذارع وغيرها قصب دون الحصون لطاف تسمى الثنية". والقصبة القصر أو جوفه، يقال كنت في قصبة البلد والقصر والحصن، أي جوفه. والقصب من البلد: المدينة والقرية.

وورد في خبر مصالحة "خالد بن الوليد" "بني حنيفة"، انه صالحهم " على الرقيق ولم يصالحهم على أنفسهم"، وأنه أخذ منهم رقيقاً، كان فيه أمة سندية سوداء، لم تكن من بني حنيفة، وانما كانت من رقيقهم، فصارت إلى "على بن أبي طالب". وفي وجود هذه السندية في اليمامة دلالة على وجود الرقيق المستورد من الهند في جزيرة العرب في الجاهلية،وقد كانت أسواق البحرين وبقية أسواق العربية الشرقية تشتري الرقيق الوارد عليها من الهند، فلا يستبعد وصول رقيق السند وغير السند من بلاد الهند إلى اليمامة والى أماكن أخرى من جزيرة العرب قبل الإسلام.

ويعرف بائع الرقيق بالنخاس، والنخاسة حرفته، والنخاس في الأصل بياع الدواب ، وقد كان تجار الرقيق يشترون الرقيق ويزوّجونه، ليجنوا نسله لهم، فيبيعوه في الأسواق. يفعلون ذلك فعل من يربي الخيل أو الإبل أو البقر، لتكثير نسله وبيعه. وبذلك يكثر مال صاحبه، وينسب المولد إلى الأرض التي ولد بها،والتي يكون سيده مقيماً بها، والى قبيلة سيده أيضأَ، فيقال هو من مولدي السراة، وهو من مولدي هذيل.

ويعرف "العبد" المولود في الرق بالوليد. قال بعض علماء اللغة: الوليد من يولد في الرق. و "المولدة" الجارية المولودة بين العرب كالوليدة. وورد عربية مولدة ورجل مولد إذا كان عربياً غير محض.وترد لفظة "مولد" ومن "مولدي" في تراجم بعض الأشخاص. فقد كان "أبو كبشة" مولى رسول الله من مولدي "مكة"، وقيل من مولدي أرض دوس. وكان "أنسة" مولى الرسول من مولدي "السراة". وكان "أبو مويهبة" وهو من موالي الرسول كذلك، مولداً من مولدي "مزينة".

وتطلق لفظة "غلام" على الولد إلى إن يشب، ويطلق على الغلام الذي يكون مملوكا، أو يخدم غيره. وقد يطلق أيضاً على الكهل. وكان "شقران"، واسي "صالح بن عدي"، غلاماً للرسول، وكان حبشياً. وكان "سفينة" غلاماً للرسول، وهو من أصل فارسي. وكان "مدعم" غلاماً للنبي، وكان من -مولدي "حسمى". وهبه له "رفاعة بن زيد الجذامي"، ويظهر انه كان من الزنج، إذ عرف بالأسود. وكان "كركَرة" غلاماً للنبي. وكان نوبياً، أهداه له "هوذة بن على الحنفي اليمامي" فأعتقه. وكان "رباح" غلاماً للرسول. وكان أسود، وكان يستأذن عليه، ثم صيره الرسول مكان "يسار" بعد قتله، فكان يقوم بلقاحه. وكان يؤذن له.

وتطلق لفظة "خادم" و "خادمة" على من يقوم بالخدمة، خدمة البيت، أو السفر، وكل خدمة أخرى يطلبها المالك. وفي حديث فاطمة وعلي: "اسألي أباك خادماً تقيك حرّ ما أنت فيه". ويخدم الخدم في البيوت، يقومون بتنظيفها وبالطبخ والخبز وما شاكل ذلك من أعمال. وكان "أنس بن مالك بن النضر" الأنصاري خادماً لرسول الله. وكان يخرج معه يخدمه،وهبته أمه للنبي ولم يكن عبداً بل كان حراً من الأنصار،نذرت أمه إن تجعله خادماً لرسول الله، ووفت بنذرها، وكان كثير المال.

ومن خدم رسول الله، "سلمى" أم رافع، امرأة أبي رافع ، و"خضرة"، و "رضوى"،0 و "ميمونة بنت سعد". و "مارية" جدة المثنى بن صالح ابن مهران، مولى "عمرو بن حريث". و "مارية" المكناة ب "ام الرباب" و"موهبة".

الموالي

ويعد المولى في طبقة المملوكين، وللفظة "مولى" معان عديدة، منها المعنى الذي نقصده منها في هذا المكان، وهو "العبد". ولا يشترط في المولى أن يكون أعجمياً، أي من أصل غير عربي، فيقع الولاء على العرب كذلك ؛ كأن يؤسر، أو يقع في غنيمة قطاع طرق، فيكون ملكاً لهم، يبيعونه في في الأسواق، أو يطلبون فداءه من إلهَ، وإلا بيع مع الرقيق. وقد كان بمكة وسائر الأمكنة الآخرى عدد كبير من هؤلاء، ومن جملتهم "زيد بن حارثة ابن شراحيل الكلبى"، مولى خديجة بنت خويلد، زوج الرسول، ثم مولى الرسول. فقد كان من كلب. أصابته خيل من "بني القين بن جسر"، وكان قد خرج مع أمه لتزيره أهله، فباعوه بسوق حباشة من أسواق العرب، وهو يومئذ ابن ثمانية أعوام، ثم أعتقه الرسول.

وكان "ثوبان" مولى رسول الله من العرب من أهل اليمن، وقيل من السراة، ابتاعه النبي بالمدينة فأعتقه، ويظهر انه مات ولم يكن يملك شيئاً. وكان "فضالة" مولى رسول الله من أهل اليمن.

وقد يكون للعبد مالكَيٌن أو أكثر. كأن يقع في أسر رجلين أو أكثر، فيصير عبداً لهما أو لهم. أو أن يتشارك رجلان أو أكثر في شراء عبد، فيكون مملوكاً لمشتريه. وكان بعضهم يتشاركون في شراء العبيد. وقد يبيع بعضهم حصصهم من العبيد لشركائهم أو لغيرهم، وقد يمنّ بعض منهم على عبده، أو عبيده، فيتنازل عن حقه فيه أو فيهم، ويبقى العبد مملوكاً للشريك الآخر أو لبقية الشركاء " لحقهم فيه. وكان منهم من يرضى بعتقه على أن يدبر له ما بذمته من حق.

ومن حق سيد العبد بيعه متى شاء، أو إهداءه الى من يريد. فهو ملك، ومن حق المالك أن يفعل بما يملكه ما يشاء ويريد.

وقد تضخم عدد الموالي بين أهل الحضر وبين أهل المدر، حتى صار لهم شأن يذكر، ولما ظهر الإسلام كان الموالي من العوامل المؤثرة في التوازن السياسي عند الحضر وعند القبائل، حتى ذكروا في العقود لكثرة عددهم وللحقوق المترتبة لسادتهم عليهم، فلما عقد الرسول عقد مع وفد "جعفى" من قبائل اليمن، واستعمل الرسول "قيس بن سلمة" من بني "مرّان بن جعفى"، كتب له كتاباً فيه: "إني استعملتك على مرّان ومواليها، وحريم ومواليها، والكلاب ومواليها". و "الكلاب"، أود، وزبيد، وجزء سعد العشيرة، وزيد الله ابن سعد، وعائذ الله بن سعد، وبنو صلاءة من بني الحارث بن كعب. ولما عقد الرسول عهده مع "وفد همدان"، وكتب لقيس ين مالك بن سعد بن لؤي الأرجي كتاباً، ولاه فيه على قومه، جاء فيه انه ولاه "على قومه همدان: أحمورها وغربها وخلائطها ومواليها أن يسمعوا له ويطيعوا". وذكر الموالي مع همدان والأحمور والغرب والخلائط يشير بالطبع إلى أهميتهم والى كثرة عددهم في ذلك العهد.

والأحمور: هم قُدم، وآل ذي مران، وآل ذي لعوة، و أذواء همدان. والغرب: أرحب ونِهم، وشاكر، ووادعة، ويام، ومرهبة، ودالان، وخارف، و عذر، و حجور.

ولما كتب الرسول إلى "ربيعة بن ذي مرحب" الحضرمي وآله، يدعوه إلى الإسلام، أشار إلى "رقيقهم"، في الكتاب، مما يدل على أن عددهم كان كييراً.

بيع الولاء

وقد نهى الإسلام عن بيع الولاء وعن هبته. وهو أنه إذا مات "المعُتَق" ورثه شرعاً "مُعتقه" حسب قوانين أهل الجاهلية ،َوكانت العرب تبيعه وتهبه مع أنه كالنسب فلاَ يزول بالإزالة. وقد كانوا في الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره، فإذا أعتق رجل عبده ، صار له حق ولائه، وله ولورثته حق بيع ذلك الولاء، على نحو ما كان لهم من حق الحصول على إرثه، فنهى الشارع عن ذلك.

رزق المملوك

وما يحصل عليه العبد من عمل يديه، يكون لسيده، لأنه ملك يمينه، مملوك الرقبة. وإذا شهد غزواً او حرباً فلا يسهم له بسهم في الغنائم، لكونه مملوكاً. وإذا حارب سيده حارب معه، وإذا أمر بالاشتراك في غزو أو حرب وجبت عليه الطاعة وبذل النفس في القتال، دون أن يصيب من غنائمه أي شيء.

وإذا عهد السيد إلى مملوكه القيام بتجارة، فان التجارة وأرباحها تكون لسيد العبد. وكان الرسول قد أعطى "العباس" عمه عشرين غلاماً، تجروا بماله. وكان ل "تميم الداري" خمسة غلمان يتاجرون بالخمر. اسم أحدهم "فتحا"، وكان من بيت المقدس، فلما رآهم الرسول مع "تميم" قال له: "بعني غلمانك لأعتقهم"، فقال له تميم: قد اعتقتهم يا رسول الله. و "فتحا" هو الذي أسرج مسجد النبي. وكان يسرج بسعف النخل. فقدم "فتحا" بالقناديل والزيت والحبال وأسرج المسجد، فسماه الرسول "سراجاً".

واذا أجاز مالك عبد لعبده الاشتغال بالتجارة، صار من حقه الاتجار حسب ما اتفق عليه. ويقال للعبد المأذون له في التجارة: "المجيز".

وقد يقرر السيد ضريبة يفرضها على عبده، يدفعها اليه في كل يوم، وعلى العبد أداءها له. فيشتغل العبد في السوق أو يقوم بأي عمل يتمكن منه لأداء ما فرضه سيد عليه. ونظراً إلى عدم تمكن بعضهم من الوفاء بما فرض عليه، فقد عمد بعضهم إلى السرقة ليسدّ مبلغ ما فرض عليه. وفرض بعض منهم على إمائه أن يزنين، ليأتين اليهم بما فرضوه عليهن من ضريبة، فقد ذكر علماء التفسير إن "عبد الله بن أبي بن سلول" كان يكره فتياته على البغاء، ليأخذ أجورهن، وروي عن "عبد الله ين عباس" انه قال: "كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا يأخذون أجورهن، فقال الله: لا تكرهوهن على الزنا من أجل المنالة في الدنيا". وفي منع ذلك وتحريمه نزل في القرآن الكريم: )ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً".

وتكون المسبية ملكاً لسابيها، له أن يصيبها متى شاء، وله أن يبقيها عنده حتى تموت، أو يموت هو، فتنتقل إرثاً لورثته، وله أن يبيعها متى أراد. وكان منهم من يصيب المسبيات،غير أنه يعزل، فلا ينزل فيها، حتى لا يحصل لها الولد المانع من البيع. وذلك لحبهم للأثمان.

ومن الحرف التي شاعت بين الرقيق الحجامة، وقد كان سادتهم يأخذون أجورهم منها. ومن الحجامين الذين ورد اسمهم في الكتب "سالم الحجام"، وقد حجم الرسول وشرب دم المحجمة التي فيها دم الرسول تبركاً به.

العتق

العتق خلاف الرق، وهو الحرية. يقال عتق العبد، أي خرج عن الرق. ويقال: هو مولى عتاقة، ومولى عتيق، إذا كان عبداً فعتق، فصار مولى لسيده، تربطه به رابطة الولاء، فهو في حمايته ورعايته. ولما فتح الرسول مكة عفا عن أهلها وأطلقهم فلم يسترقهم، فعرفوا بالطلقاء. "وفي الحديث: الطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة. وفي رواية: بعضهم أولى ببعض. وفي حديث حنين، خرج ومعه الطلقاء، وهم الذين خلى عنهم يوم فتح مكة وأطلقهم فلم يسترقهم،واحدهم طليق". والطليق الأسير الذي أطلق أساره وخلى سبيله، لمنة أراد الاسر أن يمن بها على أسره.

وقد ينجح العبد المعتق في حياته بعد نيله حريته، فيصير من ملاك العبيد. ومن بين الصحابة جماعة كانتَ من الرقيق في الجاهلية، فلما أسلمت عتقت وتحسن حالها فاشترت لها الرقيق.

المكاتبة

فالعتق هو فك الرقبة، وعودة الحرية إلى العبد. ومن أبواب فك الرقبة وتحريرها من العبودية المكاتبة، وهو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على كذا منجماً إذا أديته، فأنت حر، ويبين عدد النجوم، وقسط كل نجم: فإذا أدى العبد ما عليه، صار حراً. وقد عرف ذلك في الإسلام أيضاً. وقد كان "سيرين" والد "محمد بن سيرين" المشهور، من سبي "عين التمر" فاشتراه "أنس بن مالك" الأنصاري، وكان كثير المال، فأراد "سيرين" فك نفسه من العبودية، وسأل أنساً المكاتبة، فأبى، فانطلق "سيرين" إلى "عمر"، فأمره إن يكاتبه، وتلا عليه )فكاتبوهم إن علمتم إن فيهم خيراً( وذكر في رواية اخرى، إن أنساً كاتبة على عشرين ألف درهم، فأتاه بكتابته، فأبى إن يقبلها منه إلا نجوماً، فأتى "عمر" فذكر ذلك له، فقال: أراد انس الميراث، وكتب إلى أنس إن اقبلها من الرجل، فقبلها. وورد في صحيفة المكاتبة: هذا ما كاتب أنس غلامه سيرين. كاتبه على كذا وكذا ألفاً، وعلى غلامين يعملان مثل عمله. وكاتب "عبد الله بن عمر" غلاماً له يقال له شرف على خمسة وثلاثين ألف درهم، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف.

وذكر "الدميري" إن "المكاتبة" لفظة اسلامية. ولكني أشك في صحة هذا الرأي، لأن التكاتب كان معروفاً عند الجاهليين وهو عقد من العقود، يؤدي العبد بموجبه ما فارقه عليه من أداء المال، فإذا أداه استحق العتق، وإن عجز عن اداء نجم يحل عليه، فلسيده تعجيزه. ودليل ذلك ما ورد عن المكاتبة في القرآن الكريم من قوله: )والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم، فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً(. فنسق اللآية يدل على وجود التكاتب عند الجاهليين، واذا وجد، فلا يستبعد استعمالهم لفظة "المكاتبة" قبل الإسلام.

أما "التنجيم"، فمن "نجم المال"،إذا أداه نجوماً، أي يؤديه عند انقضاء كل شهر منها نجماً، حتى أنهم كانوا يؤدون الديات نجوماً. قال زهير في ديات جعلت نجومأَ على العاقلة: ينجمها قوم لـقـوم غـرامة  ولم يهريقو ابينهم ملء محجم 

وفي حديث سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة تنجيم الدين.

هو أن يقدر عطاؤه في أوقات معلومة متتابعة مشاهرة أو مساناة. ومنه تنجيم المكاتب". ويظهر من ذلك أنهم كانوا في الجاهلية ينجمون حق العتق،ويكتبون بذلك كتاباً.

وكان منهم من يوصي بفك رقبة عبد له، أو أمة بعد وفاته. وللفقهاء آراء في بيع "المدبر"، وهو العبد الذي علق سيده عتقه على الموت.

سوء حالة العبيد

ونظراً إلى ما كان يعانيه الرقيق من معاملة غليظة شديدة قاسية، ومن قسوة ينزلها بهم أصحابهم عند صدور أي شيء منهم لا يرضى عنه أصحابهم، فقد فرّ كثير منهم من ساداتهم، وخرجوا على أمرهم، فأبقوا مع علمهم بما في الإباق من عقوبة صارمة يدخل فيها قتل الابق. وانضم بعض منهم إلى الخارجين على عرف قبيلتهم من الضلال والصعاليك و الخلعاء وألفوا عصابات أخذت تعتدي على المارة وتغزو العشائر، فتصيب منها مغنماً. وقد تكتل قوم من كنانة ومزينة والحكم والقارة ومن اتبعهم من العبيد في جبل تهامة، وأخذوا يغتصبون المارة، وقد كتب اليهم الرسول، انهم إن آمنوا باًلله وبرسوله وعملوا بسنة الإسلام، فعبدهم حرّ ومولاهم محمد. ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها، وما كان فيهم من دم أصابوه او مال أخذوه، فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس رد اليهم. ويظهر أنهم كانوا قد هددوا الأمن في ذلك الوقت، وقطعوا السبيل، مما أدى بالرسول إلى الكتابة اليهم باًلدعوة إلى الإسلام وبترك الفتنة.

وقد فرّ بعض الرقيق من ساداتهم، ودخلوا في الإسلام، وقد خاف سادات قريش والطائف من هذه الظاهرة، لما قد تتركه من أثر عليهم وعلى أوضاعهم الاقتصادية، والعبيد ركن قويم في نظمهم الاقتصادية، فحسنوا بعض الشيء من أحوال رقيقهم، وشددوا على من شعروا إن في نفسه ميلا إلى الإسلام.

وقد أمر الإسلام بالعطف على الرقيق ففي القرآن: )واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم. إن الله لا يحب من كان مختالاّ فخوراً(. وفي كتب الحديث أحاديث في الحث على إنصاف المماليك، أي الرقيق منها حديثه: "إن اخوانكم خولكم جعلهم الله نحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس،ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم". وحث في أحاديث أخرى على إنصاف الجواري والاحسان اليهن، وعتقهن وتزويجهن إن أمكن. كما حث العبيد على خدمة سادتهم باخلاص. ونهى سادة الإماء من اكراههن على الزنا، لأخذ أجورهن.

تعرب العبيد والموالي

وقد أشار أهل الأخبار إلى أقوام من العبيد، تعربوا واستقروا فصاروا من العرب. كما أشار الكتبة اليونان واللاتين إلى أقوام من الأعاجم نزلت سواحل جزيرة العرب، لأغراض تجارية وعسكرية، فأقامت بها واستقرت، وتعربت ونسيت أصلها، واتخذت نسباً عربياً. وقد عثر الباحثون والمنقبون المحدثون على بقايا هياكل بشرية، وبقايا عظام بشر،في مواضع متعددة من السواحل والبواطن، تدل على إن أصحابها من الأعاجم ومن الافريقيين الوافدين على جزيرة العرب، وقد أقاموا واستقروا بها وماتوا فيها. كما سبق أن تحدثت عن ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب.

ومن المتعربة قهِ م عرفوا ب "الصعافقة". قال أهل الأخبار إن آباءهم كانوا عبيداً استعربوا أو أنهم كانوا قوماً من بقايا ألأمم الخالية ضلت أنسابهم. وقد ذكروا أن مساكنهم كانت في اليمامة في موضع يقال له "صعفوق"، به قناة يجري منها نهر كبير، أو أنهم بالحجاز. وقيل إن "الصعافقة" خول لبني مروان، أنزلهم اليمامة، ومروان بن أبي حفصة منهمْ.

السخرة

السخرة،تكليف شخص وقهره على ما لا يريده. وسخره تسخيراٌ أذله وكلفه ما لا يريد وقهره وأجره على عمل بلا اًجرة ولا ثمن. وقد عرفت السخرة في العربية الجنوبية، إذ كانت تلك الحكومات تقوم بإنشاء الأبنية العامة والطرق والجسور والسدود، وبتشييد القصور على طريق "السخرة". وهي طريقة كانت معروفة في جميع انحاء العالم في ذلك الوقت، وكانت معروفة إلى عهد قريب. وذلك بأن تطلب إلى الموظفين والى المدن والقرى وسادات القبائل تقديم ما يتمكنون من تقديمه من أتباعهم لتشغيلهم قسراً بأعمال تريد القيام بها. فيقدم كل منهم ما يتمكن من جمعه، ويساقون سوقاٌ إلى مكان العمل للعمل هناك حتى ينتهي العمل. وتتكلف الحكومة الانفاق على العمال الذين تكلفهم القيام بالأعمال العامة، تدفع اليهم عطاياهم، وتعرف ب "شبو"، وتعني "الرزق" عيناً، وذلك بأن تقدم اليهم الطعام اللازم لعيشهم في مقابل اشتغالهم بتلك الأعمال، كما يقوم المعبد بتقَديم ذلك إذا كان المعبد هو صاحب العمل. وترد لفظة "أشبى" بمعنى أعطى في عربية القرآن الكريم ، وهو معنى قريب من معنى لفظة "شبو" في لغة المسند.

والسخرة عمل مرهق، يقوم به المسخر المسكين دون مقابل، فهو لا يحصل وهو في موقع العمل حتى على أكل بطنه إلا بشق الأنفس، من الإهمال وسرقة القوت وسوء الاستعمال، ثم انه قد يحبس أياماً وأشهرا وهو في هذا الوضع، لا يدفع له شيئاً ليستعين به في تمشية أموره، أو في إعالة عائلته البعيدة عنه، إذا كان متزوجاً، أو معيلاً لأهله، وطالما تعرض للمرض، ومنهم من كان يموت من الارهاق والجوع، ولذلك، كان الهرب من السخرة شيئاً مألوفاً، على الرغم من تشديد الحراسة على معسكرات العمل ومواضع تجمع المسخرين، وعلى الرغم من العقوبات الشديدة التي تفرض على الهارب في حالة القبض عليه.

وكانت الحكومات تسرف في استخدام السخرة وتشتط فتنجز بالسخرة كثيراً من الأعمال التي هي من صميم عملها وواجبها. ولن يتأثر بالسخرة إلا الطبقات الفقيرة اليّ لا تملك دفاعاً عن نفسها، ولم تجد من يساعدها ويعاونها. أما سادات القبائل ووجوه البلد والاشراف وأصحاب الأرض،فلا تقع السخرة عليهم، وإنما يرسلون ما يطلب منهم من أتباعهم للقيام بالأعمال المطلوبة وقد يسخرونهم لأداء أعمال خاصهّ بهم، لا صلة لها ولا علاقة بالأعمال العامة وبالنفع العام. ثم إن مفهوم القيام بالأعمال العامة وبالاشتغال بمشاريع النفع العام، لا يطبق لدى هذه الحكومات ولدى بعض الحكومات حتى في هذه الأيام إلا على هذه الطبقات الفقيرة، فعليها وحدها القيام بهذه الواجبات. ومثل هذه النظرة إلى السواد الأعظم من الأمة، جعل هذا السواد يكره حكوماته، ويكره الحاكم، ويتهرب من الخدمة ما أمكنه ذلك، لأنه لا يشعر بحكومة تعطف عليه، ولا بحاكمين ينظرون إلى مصالحه، وإنما هم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم هم الناس، وأما أبناء الشعب فإنما خلقوا لخدمته ليس غير.

ولما قام أبرهة باصلاح سد "مأرب"، طلب من الأقيال وسادات القبائل وأصحاب الأرض مده بالمسخرين، فأرسلوا اليه ما طلب منهم، واشتغلوا في اصلاح السد وفي العمل على رتق ما صدع منه. فقاموا بنقل الحجارة الصلدة من مواضع مقالع الحجر، وعملوا مسخرين في اّعمال البناء، ولم يدفع لهم شيئاً سوى الأكل، وقد بقوا هناك حتى تم العمل، فسمح لهم بالعودة إلى ديارهم. والمفروض في أخذ المسخرين من المدن والقرى والقبائل، أن يكون ذلك متناسباً مع عدد السكان، وعدد رجال القبيلة. فالمدينة الكبيرة تقدم عدداً يزيد على ما تقدمه المدينة الصغيرة أو القرية، والقبيلة الكبيرة تقدم عدداً يزيد على عدد ما تقدمه القبيلة الصغيرة. غير إن ذلك لا يطبق بصورة عملية، فالعادة أن تفرض الأعمال الشاقة على الضعفاء والفقراء، ورُب قرية تقدم من المسخرين ما يزيد على ما تقدمه مدينة كبيرة. وهكذا الحال بالنسبة إلى القبائل الضعيفة والقبائل القوية.

وقد كان الرقيق في أوائل من استجاب إلى الإسلام، تخلصاً من رق العبودية، كان العبد إذا استطاع التخلص من سيده، ودخل في الإسلام صار حراً طليقاً. وهذا مما أغضب سادة قريش وغيرهم من الملاّك أصحاب العبيد،وجعلهم يقولون: إن محمداً قد أفسد علينا عبيدنا. ولما حاصر الرسول "الطائف" نزل اليه رقيق من رقيق أهل الطائف، فأسلموا واعتقوا ، وجعل، الرسول ولاء هؤلاء العبيد لسادتهم حين أسلموا.

الفصل ألعاشر بعد المئة
الاتاوة والمكس والاعشار

والإتاوة: الرشوة والعطاء والخراج، يقال أدى إتاوة أرضه أي خراجها، وضربت عليهم الإتاوة، أي الجباية. وهي ما كان يفرضه الملوك وأصحاب الأرض وسادات القبائل من حقوق على رعاياهم وأتباعهم، ويجبرونهم على أدائها لهم. وهي بالطبع جباية مكروهة، كان الناس يتهربون منها كلما استطاعوا الى ذلك سبيلاً، ويتهربون من رؤية وجوه عمالها، الذين كانوا يكرهونهم كرهاً شديداً لاشتطاطهم عليهم، وتعسفهم بهم، وأخذهم أكثر مما يجب أخذه في أغلب الأحوال،ليأكلوا منها ما يتمكنون من أكله، فقد كانت الجباية من موارد الرزق الحرام والكسب الغير المشروع للجباة.

ويقال للخراج والإتاوات "الطعم"، يقال فلان تجبى له الطعم، أي الخراج والاتاوات. ويقال جعل السلطان ناحية كذا طعمة لفلان، أي مأكلة له. وفسر بعضهم الطعمة بشبه الرزق وبالمأكلة. وفي هذا التفسير تفسير لوجهة نظر الجاهليين والإسلاميين بالنسبة إلى الاتاوة وكل أنواع الجباية، كانوا يرون أنها مأكلة للحكّام ورزقاً يأخذونة من أتباعهم، ليعتاشوا به مع ما يعتاشون عليه من ارزاق، مثل الاتجار في السوق واستثمار الملك، بينما لا ينال الأتباع منه أي شيء، إلا بتوسل واستعطاف ودعاء ومدح وتمرغ على أعتاب أبواب الحكام.

و "المكس" هو ما يأخذه الماكس من جباية من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية، أو الدراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق. والمكوس، هي الضرائب التي كان يأخذها العشارون، والمكس النقص، وبين المكس والنقص صلة وعلاقة، فتأدية المكس، هو نقص يصيب مال المؤدي للمكس. وقد أشير اليه في شعر "جابر ين حني" التغلبي، الذي يقول: أفي كَل أسواق الـعـراق اتـاوة  وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم 

ومعنى هذا أن الناس كانوا يدفعون إتاوة في أسواق العراق، يدفعون عن كل ما يبيعونه مكساً هو درهم. وهو مكس يزيد بزيادة ثمن البيع.، فاذا كان ثمن المباع كثيراً، زاد مكسه ليتناسب مع الثمن.

وتمّابل لفظة "مكس" لفظة " Telos في اليونانية،و Toll في الانكليزية. ويقال للموضع الذي تمكس البضائع والسلع فيه "" Telonion ويجب أن نميز بين هذه الضريبة وبين لفظة " " Tribute التي هي في مقابل، Mas ،لأن المكس، ضريبة تؤخذ عن للسلع وعن حق مساهمة الحكومة في الأرباح، بينما الثانية ضريبة اجبارية تؤخذ من الناس. وقد ترجمت لفظة "Tribute ب"جزيهّ" وجباية واتاوة في اللغة العربية. يقال جبي الخراج جباية. وورد في شعر للجعدي: دنانير يجبـيهـا الـعـبـاد وغـلة  على الأزد من جاء امرىء قد تمهلا 

ونجد علماء اللغهّ يجعلون لفظة "الماكس" في مرادف لفظة "العشار". وعرفوا المكس، بأنه ما يأخذه العشار، وهو ماكس، فالعشار هو الماكس، وورد في الحديث: لا يدخل صاحب مكس الجنة. قيل صاحب مكس هو العشارْ. والعشار هو قابض العشار، والعشر أخذ واحد من عشرة. فالماكس ، اذن هو الجابي القابض للمكس، وهو العشر، أي عشر ما يباع، وقد غلبت عليه لفظة "العشار" لأنه يأخذ العشر، عشر أموال الناس، ولأنه يعشرهم. وقد كان "العشر"، من أهم سمات. الجاهلية ومعالمها، "وفي الحديث إن لقيتم عاشراً فاقتلوه، اي إن وجدتم من يأخذ العشر على ما كان يأخذه أهل الجاهلية مقيماً على دينه، فاقتلوه، لكفره أو لاستحلاله لذلك إن كان مسلماً واخذه مستحلاً وتاركاً فرض الله، وهو ربع العشر".

فالمكس، إذن هي الضرائب التي تؤخذ عن المبيعات والمشتريات، أي عن التجارة، يجبيها جباة المكس، أي العشارون من الأسواق ومن المواضع المخصصة لمرور التجار بها على الحدود، ولا صلهّ لهذا العمل بعمل جباية الجزية والخراج. ولفظة "الإتاوة" و "العشر" و "المكس" والجزية من الألفاظ التي لا يشك في كونها كانت معروفة عند الجاهليين. وقد أشرت إلى ورود لفظة "الإتاوة" في شعر "جابر ين حني التغلبي". ووردت في شعر للجعدي. هو: موالي حلف لا موالي قرابة  ولكن قطيناً يسألون الاتاويا

أي هم خدم يسألون الخراج. وكانت الكلمة على ما يظهر عامة، بمعنى ضريبة من غير تعيين.

وأما "الخراج"، فللعلماء في أصلها ومعناها كلام. وقد وردت لفظة "خرجاً" في القرآن الكريم. وردت في سورة الكهف: )فهل نجعل لك خرجاً على إن تجعل بيننا وبينهم سداً(. وقد قرأها بعض المفسرين "خراجاً"، وذهبوا إلى أنها بمعنى الأجر، وقال بعض منهم إن الخراج عند العرب هو الغلة،. ووردت في سورة "المؤمنون": )أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير وهو خير الرازقين(. وفسر العلماء اللفظتين بمعنى الأجر.

وذهب علماء اللغة إلى إن الخرج بمعنى الإتاوة تؤخذ من أموال الناس، كالخراج، وهما واحد لشيء يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم. وقال بعضهم: الخراج الفيء والخرج الضريبة والجزية. وذكروا إن الخراج الذي وظفه "عمر" على السواد وأرض الفيء، فإن معناه الغلة أيضاً، لأنه أمر بمساحة السواد ودفعها إلى الفلاحين الذين كانوا فيه على غلة يؤدونها كل سنة، ولذلك سمي خراجاً، ثم قيل بعد ذلك للبلاد التي فتحت صلحاً. ووظف ما صولحوا عليه على أراضيهم خراجية،لأن تلك الوظيفة اشبهت الخراح الذي ألزم به الفلاحون وهو الغلة، لأن جملة معنى الخراج الغلة. وقيل للجزية التي ضربت على رقاب أهل الذمة خراج، لأنه كالغلة الواجبة عليهم، وفي الأساس: ويقال للجزية الخراج، فيقال أدى خراج أرضه والذمي خراج رأسه. وعن ابن الأعرابي الخرج كل الرؤوس والخراج على الأرضين. وقال الرافعي: أصل الخراج ما يضربه السيد على عبده ضريبة يؤديها اليه، فيسمى الحاصل منه خراجاً. وقال القاضي: الخراج اسم ما يخرج من الأرض ثم استعمل في منافع الأملاك كريع الأرضين وغلة العبيد والحيوانات".

والخراج، هو "طسقا" Tasqa في التلمودن و Maddata "مداثا" في الموارد السريانية النصرانية. ولفظة "طسقا"،هي من الألفاظ الإرمية الأصل. وتعرف ضريبة الأرض Halk و Halak و بMinda "ميندا" و ب Middaفي لغة بني إرم. ووردت باسم "طسقا" وب "مناثا ذ - ملكا" Mnata d-Malkaفي التلمود، وباسم "طسقا" و "مدثا"، Maddata في السريانية.

ولفظة "طسقا" معروفة في العربية كذلك، فهي عندهم "الطسق"، وتؤدي المعنى ذاته المفهوم منها في التلمود. ذكر علماء العربية أن الطسق، ما يوضع من الخراج المقرر على الجريان. وكتب "عمر" إلى "عثمان ين حنيف " في رجلين من أهل المدينة أسلما إرفع الجزية عن رؤوسهما وخذ الطسق من أرضيهما. وذكر بعض علماء اللغة أنها لفظة معربة أو مولدة. فهي ضريبة الأرض. وتقابل "فورس"، Phoros ، في اللغة اليونانية. وتؤخذ عيناً في الغالب، أي غلة. وأما الجزية، فقد ذكر العلماء، انها خراج الأرض، وما يؤخذ من الذمي. ورد في الحديث: "ليس على مسلم جزية"، وورد: "من أخذ أرضاً بجزيتها"، وورد في القرآن الكريم: )قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون(. وقد ذكر المفسرون إن الجزية الخراج عن الرقاب. ويظهر من الحديث ومن كتب الفقه، إن المراد بها ضريبة الرأس. ولما كتب الرسول إلى "المنذر بن ساوى"، بشأن أتباعه، قال له: "ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزيه". وقد أمر الرسول عماله بأخذ الجزية من أهل الكتاب، ممن يريد البقاء في دينه، فهي اذن، بهذا المعنى ضريبة تؤخذ من غير المسلمين، في مقابل الزكاة التي تؤخذ من المسلمين.

وضريبة الرؤوس معروفة، وهي تؤخذ من المغلوب على أمره، ولا سيما بعد الحروب. فتفرض على المغلوب ضريبة كل رأس كل انسان بالغ ولذلك أنفت تغلب من أدائها، ولم تقبل بتاًديتها، لأن في أدائها مذلة وصغاراً. وهي ضربية دائمة، تلازم من فرضت عليه ما دام في حكم من فرضها، وهي نختلف عن الفدية التي تفرض على الأسير لفك أسره، وعن المبلغ الجماعي الذي يفرض على المغلوب في مقابل التصالح معه، وهو ما يعبر عنه في العربية ب " وصالحهم على كذا وكذا" يؤدونه جزاء العفو عنهم.

وعبر عن الجزية بلفظة " Keraga " " Keraga"، في التلمود. وبKesef Resha "Kesef Rexa" ، أي ضريبة الرأس في الموارد النصرانية السريانية،وب "Belo" في لغة بني إرم وب Kesap Gulgulta في التلمود أيضاً. وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن لفظة "الجزية" و "جزية" من أصل سرياني هوGzita وذهب بعض آخر إلى أنها من أصل فارسي هو " Gazitak و "كزيد" بمعنى ضريبة يدفعها الذمي، أي الذي أمنته الحكومة على حياته وماله وعرضه. وذهب بعض آخر إلى أنها من أصل عربي. وتقابل هذه الضريبة ما يقال له Kensos، في اليونانية، وهي ضريبة كان ياًخذها الرومان من اليونان عن رؤوسهم، وهي لا تدفع غلة أو سلعة وإنما تؤخذ منهم نقوداً، أي بالعملة الرومانية.

وقد كانت الحكومات العربية الجنوبية تتقاضى العشر أيضاً عن البيوع وتوسعت حكومة "قتبان" في العشر، فجعلته إتاوة كل وارد أو ربح يصيبه الرجل، سواء أكان ذلك من البيع والشراء أو من الإجارة والإرث والزرع وكل عمل آخر، ويظهر أن العشر،قد أخذ عن الزرع أيضاً في حكومة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" أيضاً، وفي حكم الحبش على اليمن. وقد وردت لفظة "عشر" و "عشورت" في كتابات المسند، وتعني العشر،الذي نبحث عنه.

وأشار "بلينيوس"، إلى العشر، فذكر إن العرب الجنوبيين كانوا يعشرون اللبان وما تنتجه بلادهم من بخور، يعشرهم رجال الدين باسم الإلهَ "سن" "سين". ومعنى هذا إن المعبد كان يعشر المتمكنين من أصحاب الحاصل، فيأخذ منهم عشر غلتهم من هذه المواد. وأعتقد انهم كانوا يعشرون كل مال يدخل اليهم، ولا يقتصر هذا التعبير على المواد المذكورة، أي على الغلة الزراعية، بل يشمل ذلك كل ربح مهما كان نوعه،جاء عن الزراعة أو التجارة. وهذا التعشير لكل شيء، كان متبعاً عند غير العرب كذلك. ونجد"صموئيل" يهدد شعبه بأنه سيعشر زرعه وكرومه وغنمه،ويأخذ جواريه وعبيده وشبانه وبناته، فيجعلهم عبيداً له، يسخرهم كالحمر إن لم يستجيبوا له، ويسمعوا لما طلبه منهم.

والعشر، معروف عند غير العرب أيضأَ، وهو يقابل "اش - رو - و" "Isch-ru-u"في الآشورية، أي "عشر"، وهو ما يدفع عن الأموال والذهب عندهم،و "معَشَير" "Ma'asher" في العبرانية، وقد جرى التعشير عندهم قبل أيام موسى، ونص عليه في التوراة. فكانوا يقسمون عشر أموالهم صدقة تزكيهم، يدخل فيه البقر وبقية الماشية، وتوسع "الفريسيون" في ذلك، فأدخلوا في العشر، عشر النعناع والشبث والكمون.

وقد أشر في نصوص المسند إلى الضرائب التي كان على المتبايعين في الأسواق أداؤها إلى الحكومة. فعلى كل متعامل في السوق دفع "همد" إلى جباة السوق. وادل "همد" ما يؤخذ من المتعاملين في السوق عن اتجارهم بها. فهي ضربية الييع والشراء. وقد حذرت تلك النصوص المخالفين المتهربين من دفع ما عليهم من ال "همد" بإنزال أقصى العقوبات عليهم بما في ذلك مصادرة أموالهم، إن حاولوا أكل حق الحكومة، والتهرب من دفع حصتها من الربح.

وهناك ضريبة أخرى ذكرت في النصوص كذلك، هي "فرعم"، أي "فرع". يظهر أنها كانت عندهم تطوعية، لا يجبر الإنسان على أدائها، وإنما هي صدقة يتصدق بها من يشاء.

وقد كانت الحكومات العربية الجنوبية قد عينت جباة يجلسون في الأسواق وعند مدخل الحدود لجمع الضرائب المفروضة على البيع والشراء والاتجار وحق المرور. أما ضرائب غلات الأرض، فلها جباتها، كما كان يلتزمها كبار أصحاب الأرض وأصحاب الأقطاع، فيدفعون للحكومة حصتها من الزرع، وهم يجبون تلك الحصة من صغار المزارعين التابعين لهم أو المستأجرين لأرضهم، فيأخذون منهم كل ما يمكنهم أخذه للاستئثار به، واعطاء القليل منه إلى الحكومة. وبذلك كان صغار المزارعين والمستأجرين للارض يلاقون عنتاً شديداً من الضرائب المفروضة عليهم.

وقد كان المتولون لأمر الأسواق يأخذون عشور التجار. لهم جباة بجوبون السوق، ليأخذواُ عشر ما يباع. فكان "الأكيدر" يعشر سوق دومة الجندل وربما يتولاها سادة "كلب"، او بعض الغساسنة، وكان "قنافة" الكلبي، ممن ينافس الأكيدر على دومة يتولى جباية العشر كذلك. وكذلك كان المتولون لأمر الأسواق الأخرى يأخذون العشر. فالعشر، الجباية المألوفة التي يدفعها التجار عن تجارتهم في كل ما يبيعون ويشترون، وعن مكس السلع التي تنقل لبيعها في الأسواق الخارجية، فقد كان التجار العرب إذا دخلوا حدود بلاد الشام، عشرهم رجال المكس على الحدود. واذا تاجروا في أسواق بلاد الشام عشرهم العشارون في هذه الأسواق.

وكان "زنباغ بن روح" ممن يعشر من يمر به بمشارف الشام. وهو من "جذام". وكان يعمل للحارث بن أبي شمر الغساني. ذكر إن "عمر" خرج تاجراً في الجاهلية مع نفر من قريش، فلما وصلوا إلى فلسطين، قيل لهم إن "زنباع بن روح" يعشر من يمر به، فعمدوا إلى اخفاء ما معهم من ذهب، فلما وجده، أغلظ عليهم في العشر، ونال من عمر، فقال "عمر" في ذلك: متى الق زنباع بن عمـرو بـبـلـدة  لي النصف منه يقرع السن من نـدم

ويعلم إن الحـي حـي ابـن غـالـبّ  مطاعين في الهيجا مضاريب في الهيم 

ويقال لعمال العشور والجزية "الحشُار"، وفي حديث وفد ثقيف اشترطوا أن لا يعشروا ولا يحشروا،أي لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم البعوث، وقيل لا يحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم، بل يأخذها في أماكنهم. وورد في كتاب الرسول لعبد يغوث بن وعلة الحارثي: "ولا عشر ولا حشر"، وورد في كتابه إلى "يزيد بن المحجل الحارثي" "إن لهم نمرة ومساقيها ووادي الرحمن من بين غابتها، وانه على قومه من بني مالك وعقبة لا يغزون ولا يحشرون"، وجاء مثل ذلك في كتابه لقيس بن الحصين ذي الغصة: "لا يحشرون ولا يعشرون"، ووردت هذه الجملة في كتابه لبنيُ جعيل من بلي، وقد فسر "ابن سعد" جملة "وانهم لا يحشرون" ، بقوله: "لا يحشرون من ماء إلى ماء في الصدقة"، وعبارة: "لا يعشرون" بقوله: "ولا يعشرون يقول في السنة الا مرة". وفسر "السعاية" الواردة في الكتاب بالصدقة. وعندي إن الحشر يجب أن يكون في معنى له صلة بألجلاء، أو بالجمع لسخرة وتكَليف بقيام عمل إجباري. وقد ورد في كتب اللغة إن الحشر الجلاء، ولذلك قيل في بني النضير عندما أجلوا انهم أول حشر حشر إلى أرض المحشر، كما قالوا يوم المحشر وأرض المحشر. والحشر أيضاً بمعنى إجحاف السنة الشديدة بالمال. فللفظة اذن علاقة بالاجلاء وبالسخرة وبالندبة إلى الحرب أو للقيام بعمل إجباري جماعي. ولا زال أهل العراق يستعملون لفظة "الحشور" في معنى جمع الناس للسخرة، ولأي عمل تريده الحكومة إجباراً.

و "العشر" كما يتبين من النصوص الجاهلية ومن الموارد الاسلامية، أقدم ضريبة معروفة عند العرب، وهي ضريبة عامة تشمل أرباح التجارة، كما تشمل أرياح الزراعة. وقد عرفت في جميع أنحاء جزيرة العرب. وهي في الواقع من أقدم الضرائب المعروفة في التاريخ فرضتها الحكومات والأديان على الأتباع منذ أقدم العصور.

ولم أقف على وجود "العشّار" في مكة أو في يثرب أيام الجاهلين، ولكن هذا لا يعني نفياً لوجود هذه الضريبة عند أهل المدينتين. ولا استبعد وجودهما عندهم، وذلك أنهم كانوا يأخذونها من المتبايعين في الأسواق لصرفها في الشؤون العامة المتعلقة بمجتمعهما، فقد كان لكل سوق في الجاهلية عشارون يجمعون العشر فلا داعي لاستثناء سوقي مكة والمدينة من العشر.

وقد سبق لي أن ذكرت أن سادات مكة كانوا قد اتفقوا فيما بينهم على أن يقسموا من أموالهم مالاً للرفادة ولتحمل الأشناق ونفقات الدفاع عن المدينة.

يدفعها كل انسان حسب قابليته المالية وامكانياته، ولعلهم كانوا يأخذون من أرباحهم التي يحصلون عليها من القوافل نصيباً معلوماً قبل توزيعها على المساهين، ليكون عوناً للمَدينة في تمشية أعمالها وفي الدفاع عن شؤونها.

الطعمة

وترد في كتب أهل الأخبار لفظة "طعمة"، بمعنى الماكلة، ورد أن النعمان   

ابن المنذر جعل لبني لأم من طيء ربع الطريق طعمة لهم لصهر كان لهم عنده أي إن النعمان جعل حق الطريق لهم، بجبون من المارة جبايتهم فيأخذونها لهم، ولا يعطونها للملك، لأنه كان قد تنازل عن حقه فيها اليهم. يقال فلان تجبى له الطعم، أي الخراج والإتاوأت. وكان من عادة الملوك َ التنازل عن حق جباية الإتاوة عن بعض الأرضين أو الطرق لسادات القبائل، نأليفاً لقلوبهم، واسكاتاً لألسنتهم، ولأنهم يعلمون أن نفوذهم على تلك الأرضين أو القبائل لم يكن ثابتاً قوياً، بل كان بالإسم فقط، وإنهم لا يتمكنون من أخذ جبايتها، لذلك كانوا يتظاهرون أمام الناس بالتنازل عن حقهم في تلك الضرائب.

ضرائب الزراعة

وعلى أصحاب الأرض والمزارعين دفع نصيب الحكومة من الحاصل. وقد عينت الحكومات موظفين لجباية حصتها، عرفوا ب "حزرو" في نصوص المسند. وواحدهم "حزر" "الحازر" والخارص في لغة القران الكريم. ويذكر علماء اللغة إن "الحزرة" من المال خياره. وفي الحديث إن الرسول بعث مصدقاً، فقال له: لا تأخذ من حزرات أنفس الناس شيئاً، خذ الشارف والبكر يعني في الصدقة.

والخرص الحزر والحدس والتخمين. هذا هو الأصل في معناه. ومنه خرص التمر والنخل،لأن الخرص انما هو تقدير بطن لا احاطة. وفاعل ذلك "الخارص". وما يقدر هو خرص الأرض، وخرص النخل. وكان هؤلاء الخراص يذهبون في المواسم إلى البساتين والمزارع لخرصها. وفي الحديث كان النبي يبعث الخراص على نخيل خيبر عند ادراك ثمرها فيحزرونه رطباً كذا وتمراً كذا.

ولا نستطيع أن ناتي بتأريخ ثابت معين عن مبدأ فرض الضرائب الزراعية والضرائب الأخرى في العربية الجنوبية، ولا في أي مكان آخر من جزيرة العرب، لعدم ورود نصوص جاهلية عن ذلك. ويظهر إن ما نسميه بالضرائب، كان في بادىء أمره صدقة يدفعها المتمكن عن نفسه وعن أمواله، قربة للالهة وزكاة لنفسه ولأهله ولأمواله، لترضى عنه الالهة، ولتن عليه بالصحة والعافية. ومن هذا القبيل النذور، التي كان يكثر منها الإنسان في السابق فكانت تكوّن مورداً حسناً من موارد الحكومة وألمعبد. فلما ظهر الملوك، وصارت الحكومة حكومتهم، فرضوا ضرائب إلزامية لتكون وارداً يمون الملوك وحكومتهم بما يحتاجون اليه من مال ونفقات.

والضرائب عالية في الغالب، بالنسبة إلى المزارعين المالكين لأرضين صغيرة وللمزارعين الذين يشتغلون باًجور، أو يستغلون الأرض بعقود فعلى هؤلاء دفع عوائد أخرى إلى سادتهم أصحاب الملك،والى رجال الدين الذين يطالبون المزارعين بدفع زكاة زرعهم لهم قسراً، فلا يبقى لدى هؤلاء من غلتهم إلا النزر اليسير الذي لا يكاد يكفيهم. فعاش الفلاح في ضنك من العيش. وهذا مما أثر على الوضع العام للدولة بالطبع.

أما كبار الملاكين وسادات القبائل والأشراف،فلم يكونوا يدفعون إلى حكومتهم إلا جزءاً صغيراً من دخلهم الذي يحصلون عليه من الزرع. فقد كانوا يتحايلون عليها في تقدير غلاتهم، كما كانوا يحملون المزارعين والمستأجرين لأملاكهم وأفراد قبيلتهم العبء الأكبر في دفع الضرائب. فقد كانوا هم الذين يقومون بجمع،الغلّة وتوزيعها وافراز حصة الحكومة وحصة المعبد والحقوق الأخرى المترتبة على المزارع. فكانوا يتناولون حصصهم كاملة وزيادة، ويحملون مزارعيهم ومن يشتغل في خدمتهم دفع حصة الحكومة والمعبد، فلا يقع عنهم من باقي الحصة إلا الشيء القليل. يقع ذلك والحكومة عارفة به، ولكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً، لنفوذ كبار الملاكين وسادات القبائل وسلطانهم على أتباعهم الموروث من العادة والعرف. ولضمان تحصيل حصص الحكومة من الزرع، كان جباة الضرائب يأتون المزارع، فيأخذون ما قدروه وخرصوه من خيار الزرع ويتركون الباقي للفلاح. وقد يثبتون حصة الحكومة عند حلول أوان التقدير ويعينونها، فإذا حان وقت جمع الحاصل، جاءوا فأخذوا غلة ما عينوه. ويقولون لهذا الشي تأخذه الحكومة من الغلة "رزم". يأخذونه وهو بعد على الأرض، قبل نقله إلى موضع التجميع و التخزين.

والمزارع الصغير مغبون في كل شيء،وكذلك الفلاح. كان على المزارعين والفلاحين أن يبدأوا عملهما بالاستدانة من وكلائهم الذين يتوكلون عنهم في تصريف حاصلهم أو من رب الأرض، فيحملونهم ربا الدين ويتحكمون عندئذ في أمورهم، ويحصلون منهم على ربح يؤثر عليهم، حتى إذا انتهى الموسم، أو حال الحول وجد هؤلاء أنفسهم وقد أثقلتهم ديونهم، وتكاثرت عليهم التزاماتهم، وقد صاروا تابعين لأصحاب الأرض، لا يستطيعون ترك أرضهم إلا بعد ترضيتهم وتسوية ديونهم.

وكما يفعل بعض الناس في الزمن الحاضر من التهرب من دفع الضرائب بمختلف الطرق، كذلك تهرب الناس في الجاهلية من دفع الضرائب إلى الحكومات،بالرغم من العقوبات الصارمة التي فرضت علي المتهربين والمخالفين. وفي ضمن ذلك الاستيلاء على الحاصل الزراعي كله، وتهديم المذاخر التي قد يخفى فيها الحاصل وتهديم أملاك صاحبه. ونجد في أحد النصوص إن من يخفي حاصله ولا يدفع ما عليه ويخفيه في القن جمع قنة "قنت"، أي المخازن ويتستر عليه، فإنه يصادر عليه ويؤخذ منه، بل يستولي على كل ما يعثر عليه في المزرعة ويتلف، ويعاقب بالقتل أيضا.

أما بالنسبة إلى الضرائب الزراعية عند أهل العربية الغربية أو أهل المواضع الأخرى من جزيرة العرب، فلا نملك نصوصاً جاهلية عن هذا الموضوع. ولكنا نجد في القرآن الكريم وفي كتب التفسير اشارة إليها. ورد فيه: )وقالوا هذه أنعام وحرث حِجرٌ لا يطعمها إلآ من نشاء بزعمهم، وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها، افتراءً عليه. سيجزيهم بما كانوا يفترون. وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء. سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم(. وورد: )وهو الذي أنشأ جنّات معروشات وغير معروشات، والنخل والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه. كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده، ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين(. وورد، )وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا: هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون(. ففي الايات المذكورة أن أهل الجاهلية، كانوا جعلوا لله ولشركائه من ثمراتهم وما لهم نصيباً، فاذا كان يوم حصاد الزرع أو قطف الثمر، أخرجوا من كل عشرة واحداً، فهي العشور. عشور كل شيئ من نخل أو عنب أو حبّ أو فواكه أو قصب. وأما أموالهم، فقد جعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحامياً، وأنعاماً لا يذكرون اسم الله عليها.

ونجد في كتب رسول الله الى الملوك وسادات القبائل اشارة الى "العشر"، أي إلى هذا الحق الذي كانوا قد فرضوه على أنفسهم، ففي كتابه الى "عبد يغوث بن وعلة الحارثي": "إن له ما أسلم عليه من أرضها وأشيائْها، يعني نخلها، ما أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأعطىُ خمس المغانم في الغزو،ولا عشر ولا حشر". وفي كتابه لقيس بن الحصين ذي الغصة، أمانة لبني أبيه بني الحارث ولبني نهد.: "إن لهم ذمة الله وذمة رسوله،لا يحشرون ولا يعشرون" وفي كتابه لبني جُعيل: "لهم مثل الذي لهم، وعليهم مثل الذي عليهم، وانهم لا يحشرون ولا يعشرون". وفي كتابه إلى "العلاء بن الحضرمي": "وابعث معها ما اجتمع عندك من الصدقة والعشور". وفي كتابه "لبادية الأسياف ونازلة الأجواف مما حاذت صحار: ليس عليهم في النخل خراص ولا مكيال مطبق حتى يوضع في الفداء وعليهم في كل عشرة أوساق وسق"، أي العشر.

ونجد في كتاب رسول الله لعمرو بن معبد الجهني وبني الحرقة من جهينة وبني الجرمز: "وما كان من الدين مدونة لأحد من المسلمين قضى عليه برأس المال وبطل الربا في الرهن. وأن الصدقة في الثمار العشر". فجعل الصدقة بمعنى العشر، أي زكاة الثمار. وتجد العلماء يجعلون الصدقة زكاة، والزكاة صدقة، يفترق الإسم ويتفق المسمى ، ونجدهم يفرقون بينهما في بعض الأحيان، اذ تكون الصدقة تطوعاً، بينما الزكاة حكماً مفروضا، له حدود معلومة على نحو ماحددته كتب الفقه والأحكام.

وقد كان هذا شأن أهل الحجاز، ولا سيما أهل يثرب يؤدون عشر حاصل زرعهم، يوم حصاده وعند الصرام، وبقوا على حالهم هذه حتى فرضت الصدقة المعلومة، أيَ الزكاة، فسن العشر ونصف العشر، وترك عشر الجاهلية، على نحو ما نجده في كتب الفقه والأحكام. وفي الحديث: فما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سقى بالسانية والغروب والدلاء نصف العشر.

وقد أشير إلى "العشر" في كَتاب "عمر" إلى "زياد بن حدير"، حيث جاء: "إن أقاموا ستة أشهر فخذ منهم العشر، وان أقاموا سنة، فخذ منهم نصف العشر". وفي كتاب آخر بعث اليه أيضاً هذا نصه: "لا تعشرهم في السنة الا مرة".

وعرف من كان يجمع "الصدقة" في الإسلام ب "المصدق". وهو آخذ الصدقات، أي الحقوق من الإبل والغنم يقبضها ويجمعها، والمتصدق معطيها. وقد جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله، فقالوا: إن ناساً من المُصدّقين يأتوننا فيظلموننا، فقال رسول الله: ارضوا مصدقيكم ، وقد حث الرسول على إرضاء المصدق.

و "الساعي" مثل المصدق، ممن يستعمل على ألصدقات ويتولى استخراجها من أربابها. وفي حديث وائل بن حجر، إن وائلاً يستسعي ويترفل على الأقيال، أي يستعمل على الصدقات، وقد أهمل استعمال لفطة "الساعي" في هذا المعنى فيما بعد، واستعملت في أمور أخرى، مثل سعاة البريد. وقيل لمن يتولى أمر الصدقات ويشرف على سعاتها "عامل الصدقة"، و "عمال الصدقّات". ونجد في كتب اللغهْ لفظة "السمرج"، في معنى له صلة بالضرائب، يذكر علماء اللغة انها لفظة فارسية معربة، تّعني استخراج الخراج في ثلاث مرات، أو اسم يوم ينقد فيه الخراج، ويوم جباية الخراج. أو هو يوم للعجم يستخرجون فيه الخراج في ثلاث مرات. وذكر بعض علماء اللغة إن "الشمرج" اسم ً يوم جباية الخراج للعجم، وقد عربه "رؤبة"، بأن جعل "الشين" هذا ونستطيع حصر الضرائب التي كان يدفعها أهل الجاهلية في ثلاثة أصناف: ضرائب الأرض أي ما يؤخذ عن غلة الأرض، وضرائب الرؤوس أي ما يقال الجزية في الإسلام، وضرائب التجارة والأرباح. وقد كانت تقدم إلى الحكومة أو سادة القبائل، على شكل نقود، أو سبائك ذهب أو مصوغات. حيث تحفظ في خزائنهم وفي خزائن المعابد في حالة الضرائب التي تدفع إلى المعبد.

وكانت الجباية بأنواعها من المآكل والمطاعم بالنسبة لبعض من يتولون أمرها، ياكلون ما يتمكنون من أكله، ويسلمون الباقي إلى من عينهم عليها، ونجد في الموارد الاسلامية اشارات إلى الرشوة والمرتشين واكلي الصدقات والى "المصانعة" أي الرشوة، يقال صانع الوالي أو الأمير إذا رشاه.

الفصل الحادي عشر بعد المئة
النقود

وفي الموارد الاسلامية بعض الأخبار عن نقود كانت متداولة في الحجاز عند ظهور الإسلام. وقد سميت تلك النقود بأسمائها َوأشير إلى وزنها ومقدارها. وعثر الباحثون على نماذج من نقود جاهلية تعود إلى عهود مختلفة في مواضع متعددة مختلفة من جزيرة العرب، قسمت لنا بعض المعارف عنها وعن مصادرها، فمن الموارد الاسلامية ومن بعض كتابات المسند التي اشر فيها إلى نقود جاهلية ومن قطع النقود الجاهلية التي عثر عليها المنقبون، جمعنا ما سنقوله عن نقود أهل الجاهلية.

وقد استعمل أهل العربية الجنوبية النقود في معاملاتهم، استعملوا نقودا ًسكّت من ذهب، ونقوداً سكت من فضة، وأخرى سكت من نحاس ومن معادن أخرى. وقد عثر على نماذج من كل نوع من هذه الأنواع. كما تعاملوا بالنقود الأجنبية كذلك، مثل النقود اليونانية والرومانية والمصرية والحبشية والفارسية. وقد عثر على نماذج من هذه النقود في مواضع متعددة من العربية الجنوبية: في اليمن، وفي حضرموت، وفي مواضع أخرى. وقد زاد تعامل أهل اليمن بالنقود الحبشية والساسانية في أثناء احتلال الحبش والساسانيين لليمن، ولا شك.

وفي بعض المتاحف ودور الآثار وعند بعض هواة جمع النقود والأشياء القديمة، قطع من نقود جاهلية ضربت في العربية الجنوبية، بعضها من ذهب، وبعضها من فضة، وبعض آخر من نحاس، ومنها الكبير،ومنها نقود صغيرة دون على بعضها اسم الملك الذي ضربت في أيامه، أو الحرف الأول من اسمه، وعلى بعض آخر رموز وصور ألف العرب الجنوبيون ضربها على النقود، مثل صورة "أثينة" أو "البوم" وهي من الطيور التي ألف العرب الجنوبيون إظهار صورتها على النقد، وعلى الحجارة المكتوبة وعلى جبهات البيوت.

والعملة تطور خطير من التطورات التي أثرت في الحياة الاقتصادية للبشر. أحدث اختراعها إنقلاباً كبيراً في النظم الاقتصادية والاجتماعية، ويعدّ ايجادها من المخترعات الكبرى التي لعبت دوراً خطيراً في حياة الإنسان ولا تزال تلعبه، قلصت أعمال المقايضة المرهقة المتعبة،وقضت على التعامل بالوزن في تقدير الأثمان. أعني التعامل بوزن الذهب والفضة " في تقدير قيم الأشياء، بأن يعطي إنسان إنساناً قيراطاً من ذهب، أو نصف مثقال، أو مثقالاً مقابل سلعة ثم التساوم على سعرها. أو وزن مثقال من فضة أو أقل، من ذلك أو أكثر في مقابل سلعة يريدها المشتري. وهو نظام سبق نظام النقد، الذي ولدت منه فكرة العملة. وهو نظام متقدم بالنسبة الى نظام المقايضة التي سبقته، قلصّ من صعوباتها كثيراَ، وأراح التاجر في التعامل، حتى ولدت فكرة سك العملة، فقلصت منه ومن تعقيداته، سهولة التعامل بالعملة، ولاكتسابها صفة رسمية وسعراً ثابتاً مقرراً ووزناً معيناً حددته الحكومات.

وفي وسعنا اطلاق مصطلح "النقد الطبيعي" على نظام المقايضة، أي مبدأ مبادلة سلعة بسلعة. فهو في الواقع نظام يستند على مبدأ التسعير وتثمين السلع وبيع سلعة بثمن سلعة أخرى. ولما وجد الإنسان صعوبة كبيرة في التعامل بهذه الطريقة، هداه عقله وتقدمه الفكري إلى ابتداع طريقة التعامل بالذهب والفضة وزناً. فخفف الإنسان بذلك كثيراً من التعقيدات والصعوبات التي كان يجابهها في تعامله بالمقايضة، فكان إذا أراد شراء حاجة عامل صاحبها بمقدار موزون من الذهب أو الفضة، يقدمه اليه في مقابل شرائها، ثم انتقل بعد ذلك إلى طريقة سك العملة. فسهل بذلك معاملاته في البيع والشراء كثيراً، ولا زال هذا النظام سائداً في كل أنحاء العالم، مع نظام العملة الورقية ونظام التعامل بالصكوك.

وقد تعامل الجاهليون بالطرق الثلاثة المذكورة. تعاملوا بالمبادلة، أي المقايضة، وتعاملوا بوزن الذهب والفضة، وتعاملوا بالعملة. ولما ظهر الإسلام كانت هذه الطرق لا تزال مألوفة عندهم متبعة، فكانوا يبيعون تمراً بتمر، وشعراً بشعير، وحنطة بحنطة. وقد أشير إلى هذه النوع في كتب الحديث، وأشرت إليها في باب البيوع. ولم يراع أهل الجاهلية تنوع الصنف في البيع، كأن يبيعوا حنطة من جنس معلوم بحنطة من جنس اخر، بل كانوا يبيعون الحنطة بالحنطة من نفس الجنس والنوع، بوزن مختلف لوجود تباين في الجودة أو تراب او حبوب غريبة في احدى الحنطتين. كما تعاملوا بتنوع السلع، مثل بيع حنطة بشعير وبالعكس، وبيع تمر بصوف أو بجلود، وما شاكل ذلك لوجود حاجة ولقلة النقد.

وتعاملوا بوزن الذهب والفضة، فاشتروا الرقيق بأواقي يحددونها من ذهب أو من فضة، وباعوا التجارة بأواقّي الذهب والفضة. تعاملوا يالأواقي وبأقل منها وبأكثر حسب قيم الأشياء ودرجة تثمينها. ونجد ذكر هذا التعامل في كتب الحديث والفقه، لما له من دور خطير في معاملات الناس في الجاهلية وفي الإسلام.

و "النقد" في مصطلح علماء العربية تمييز الجيد من الرديء. قال الشاعر: تنفي يداها الحصى في كل هاجرة  نفي الدنانير تنقاد الـصـياريف

والنقد اعطاء النقد. ونقد الثمن أعطاه نقداً معجلاً. ويظهر إن الجاهليين كانوا يطلقون لفظة "النقد" على العملة، وعلى التعامل بها من أخذ وقبض وتمييز الجيد من الرديء منها.

و "السِكة": حديدة منقوشة كتب عليها، يضرب عليها الدنانير والدراهم. ومنه الحديث انه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس. أراد بها الدرهم والدنانير المضروبين، سمى كل واحد منهما سكة لانه طبع يالحديدة المعلمة له.

ونجد في كتب الحديث رواية تذكر إن أول من ضرب الدينار تبع، وهو   

"أسعد بن كرب"، وان أول من ضرب الفلوس وأدارها في أيدي الناس: "نمروذ بن كنعان".

وقد وردت في كتابات سبئية وقتبانية إشارات إلى نقود سبئية وقتبانية كانت مستعملة في تلك الأيام. ويرجع بعض العلماء تأريخ أقدمها إلى حوالي سنة "400" قبل الميلاد. وقد ورد ذكر بعضهما مع أسماء ملوك سبئيين وقتبانيين، في تدوين عقود زراعية أو ضرائب في الغالب، وقد ذكرت حين الإشارة إلى دفع مبلغ أو إلى تحديد غرامات. ولكن ورود أسمائها في تلك العقود وفي الأوامر الملكية لأولئك الملوك لا يدل على أنها سكت في أيامهم، وضربت في عهدهم، فقد يجوز إن تكون قد ضربت قبل أيامهم بأمد طويل أو قصير، وأنها كانت مستعملة قبل أيامهم وفي أيامهم في الأسواق، ولذلك اًشير إليها في تلك الكتابات.

ونجد في أحد وجهي بعض النقود رأس رجل ظهرت ملامح وجهه إلى العنق، يحيط به غصنا شجر على هيأة دائرة، وقد تدلى شعر الرأس إلى للعنق، وظهرت عليه تموّجات الشعر على هيأة خصل محفورة. وأما صورة الأوجه، فهي جانبية اتجاهها نحو اليمين في الغالب. ولولا وجود بعض حروف المسند عليها لحسبتها من النقود المضروبة عند اليونان، ونجد في الوجه الآخر من النقد صورة البوم في الغالب: جسمها جانبي، اي قد امتد نحو الجانب. أما الوجه، فقد صور وكأنه ينظر اليك، وقد برزت عيناه بصورهّ واضحة ظاهرة حتى بدتا في شكل لا يتناسب أحياناً مع حجم الوجه. ومن ينظر إلى هذا الوجه يخيل اليه أنه ينظر إلى رأسي بومتين لا بومة واحدة.

وتحمل بعض النقود إشارات ورموزاً لها صلة بديانة العرب الجنوبيين قبل الإسلام، ومن ذلك، الهلال، إشارة إلى الإلهَ القمر. والهلال وفي داخله أو في مقابله كوكب ذو رؤوس تلتقي بنقطة في الوسط، وأحياناً على هيأة قرص دون رؤوس. يمكن اعتبارهما أساس الكوكب والهلال "النجمة والهلال" المستعمل في بعض الأعلام الإسلامية واللذين يشاهدان على قبب المساجد ويعتبران عند المسلمين وعند الغربيين شعاراً للاسلام. وهما في الأصل من شعائر الوثنيين الجاهليين.

وقد يكون الكوكب ذو الرؤوس أو القرص رمزاً يشير إلى الشمس.

وللعلماء الباحثين في النقود العربية الجنوبية آراء في الحروف المقطعة المضروبة على النقود. وفي الحروف المتصلة المربوطة بعضها ببعض في بعض الأحيان على هيأة الطغراء، وذهب بعضهم إلى إن هذه الحروف هي الأحرف الأولى لأسماء الملوك الذين ضربت تلك النقود في أيامهم، وذهب آخرون إلى انها أسماء المواضع التي ضربت فيها تلك النقود. وذهب آخرون إلى انها رموز للالهة، وقد ضربّت تبركاً باسمها. ومهما يكن من شيء، فبين الباحثين في النقود العربية الجنوبية اختلاف في هذا الموضوع، لم يتوصلوا فيه إلى حل متفق عليه.

ومن الملوك الذين ضربت بعض النقود في أيامهم، ملك ذكر لقبه وحده وهو "ينف" "ينوف"، دوَن اسمه الأول الذي يعرف به. وإذ قد تلقب، جملة ملوك بهذا اللقب، فمن الصعب البت في تعيين الملك صاحب هذا النقد. وملك ذكر اسمه الأول، وهو: "شمر"، والظاهر انه "شمر يهرعش" ملك سبأ وذي ريدان. و "كرب ال وتر يهنعم"، وهو ابن الملك "ذمر على بين" و "عمدن يهقبض"، و "عمدن بين"، وملوك آخرون.

وقد وردت لفظة "بلط" في نصوص المسند،ترجمت ب "نقد" وب Coin في الانكليزيةْ. و "أبلط" في عربيتنا بمعنى لصق بالأرض وافتقر، وذهب ماله، وأفلس. والبلطهّ المفلس.

وقد ذكر "نزيه مؤيد العظم"، إن أهل اليمن يطلقون على النقود لفظة "ظلط". ولعل لهذه اللفظة صلة ببعض أسماء النقود اليمانية قبل الإسلام. وهناك لفظة أخرى وردت في نصوص المسند، هي "خبصتم"، "خبصت". ويرى "رودوكناكس" اًنها اسم نقد أقل سعراً وثمناً من سعر النقد الذهب، وأنه لم يكن من ذهب ولا من الفضة بل من المعادن الأخرى.

ووردت لفظة "صيم" "رضى" بعد العدد خمسة، في نص سبئ. ذكرت مع العدد في أمر يشير إلى غرامة تفرض على المقصر والمتماهل في العمل، فحمل ذلك بعض الباحثين على الذهاب إلى أنها تسمية لنوع من القد الذي كان مستعملاً آنئذ. ولكن هناك من يرى أن اللفظة ليست تسمية وسمة لنوع من أنواع النقود، وإنما هي صفة لها، بمعنى مرضية ومرض وبمعنى تامة وافية صحيحة، غير مزيفة ولا منقوصة في الوزن.

وإذا كنا لا نستعمل اليوم في لغتنا الألفاظ والتعابير التي تدل على صحة النقود وسلامتها من الغش والتزوير كثيراً، فإن القدماء ولا سيما صيارفتهم وأصحاب المال كانوا يستعملونها في معاملاتهم اليومية وفي عقودهم التي كانوا يدوّنونها، لأن سك العملة وضربها لم يكن يومئذ متقناً ولا مضبوطاً من حيث المادة أو الوزن. وكان من السهل تقليد العملة وغشها والتلاعب بوزنها. ولذلك كان ثمنها عرضة للتغيير والتلاعب بالسعر في بعض الأحيان،كما كان من السهل غش الناس بإعطائهم العملة المزيفة، حتى حفظت كتب الماضين أمثلة عديدة على ذلك، وكتب القدماء فصولاّ في كشف الغش في النقود وفي معاقبة المسؤولين عنه.

ومن الألفاظ التي استعملها أهل العربية الجنوبية للتعبير عن صحة العمة وسلامتها من الغش والتي دوّنوها في كتاباتهم، لفظة "مصعم" "مصع"، بمعنى نصع وخلص، أي خالصة من كل غش، صحيحة لا شائبة فيها. ولفظة "رضيم" المتقدمة، ولفظة "خبصتم" "خبصت" من هذه التعابير على رأي بعض الباحثين.

ويلاحظ وجود أثر للسكة اليونانية على السكة العربية الجنوبية. وقد وجد شبه ايضاً بين بعض النقود العربية الجنوبية ونقود الساسانيين. ونظراً إلى وجود صلات تجارية بين اليونان والساسانيين والعرب الجنوبيين، فلا يستبعد تأثر دور ضرب السكة في اليمن وفي حضرموتْ بطريقة ضرب النقود عند اليونان والساسانين. ومن أهم ملامح تأثر ضرب النقود بنقود اليونان، هو وجود صورة "البوم" رمز "أثينة" مطبوعاً على النقود، على نحو ما طبعت على النقود اليونانية، حتى صار من الصعب التفريق بينهما، فكأنما أخذ عمال ضرب النقود قالباً للنقد اليوناني، ثم حفروا عليه حروف المسند وضربوه. ثم صور الملوك، وكراسي جلوسهم عليها، والصولجان الذي بأيديهم، فكل هذه نقلت نقلاً عن النقود اليونانية.

ولا بد أن تكون في اليمن دور لضرب النقود سكّت فيها عملتهم. وإني لآسفٌ إذ لم اقف على كتابات جاهلية فيها ما يفيدنا عن كيفية ضرب النقود عند العرب الجنوبيين أو عند غيرهم وأوزانها وأنواعها، وما شابه ذلك من أمور تتعلق بها، وليس لنا من أمل في زيادة علمنا بها غير الترقب والانتظار، فلعل يقظة العرب توليّ تأريخ العرب القديم ما يستحقه من عناية ورعاية وبحث، فيجدّون في تتبع مواطن الاثار الغنية المطمورة لاستخراج دفائنها التأريخية الثمينة التي تظهر لنا أموراً كثيرة من تأريخ تلك الأيام وقد عثر في بصرى وفي مواضع من المنطقة التي عرفت ب "المقاطعة العربية" "الكورة ألعربية" على نقود معظمها من نقود الرومان واليونان، كما عثر على نقود نبطية. ويذهب بعض الباحثين في النصّيات، أن الملك "الحارث الثالث" "87 - 62 ق. م."، هو أول ملك نبطي، أمر بضرب النقود، أخذ السكة من اليونان أثناء استيلائه على دمشق. وقد عثر على نقد من فئة "دينار" طبع عليه رمز يمثل اتفاق الحارث و "سكاورس" وصورة جمل وشجرة. وعثر على نقود أمر "الحارث" هذا بضربها، تشبه النقود التيّ ضربها "ديمتريوس الثاني ?" "الثالث" Demetrius Eukairos III بمدينة "دمشق" شبهاً كبيراً، ولهذا يرى الباحثون أنها تقليد ومحاكاة لها. ولم يصل الينا نقد من نقوده يحمل كتابة مدوّنة بالنبطية.

وجاد "عبادة" الثالث من ملوك النبط علينا بقطع من النقود، يرى الملك على أحد وجهيها ومعه صورة امرأة يظن انها صورة أمه، وانها تشير إلى مبدأ حكمه إذ كان قاصراً، فكانت أمه تدير الملك باسمه نيابة عنه، وذلك بالنسبة إلى النقود التي ضربت في أوائل أيام الحكم، وأما في النقود المتأخرة، فإنها صورة زوجته، التي كانت تساعده وتؤازره. وتشاهد صورة نسر واقف قابض على جناحيه في الوجه الثاني من أحد النقود، وعلى طرفي الصورة كتابة، وصورة رأس رجل ني القطعتين المرقمتين "7" و "8" يرى انها رأس الملك وعلى طرفي الصورة كتابات نبطية وتأريخ الضرب.

وتعدّ النقود التي ضربت في أيام "الحارث" الرابع من خير ما ضرب من النقود في أيام النبط، ولم يعثر على نقد له ضرب في مدينة "دمشق" في المدة التي استولى فيها على تلك المدينة، وقد ضرب بعضها باسم الملك وباسم زوجته "خلدو" "خلد"، زوجته الأولى. وصورت صورة زوجته هذه على النقد، وضرب بعضها باسمه وباسم زوجته الأخرى "شقيلة" وطبعت صورتها على النقد كذلك. وضرب بعض اخر باسم الملك وحده، وهي مختلفة: بعضها من الفضة، وبعض آخر من البرونز، وعلى عدد منها تأريخ الضرب.

وضرب ام "شقيلة" الثانية ملكة النبط مع اسم الملك "ملكو" "مالك" الثاني في نقد وصل الينا. وقد وصفت في النقود بأنها أخته. أما القطع التي وصلت الينا، فبعضها مصنوع من الفضة وبعض آخر من البرنز، وعلى نقوده شيء من التبديل والتغيير عن النقد الذي ضرب في أيام " الخارث" الرابع. وتبورك في بعض النقود مثل نقود "بصرى" بضرب صور الالهة أو نعوتها أو رموزها على النقود، فقد ضرب نعت الإلهَ "دو شرى" "ذو الشرى" على نقد ضرب في "بصرى". كما أشير إلى هذا الإلهَ في نقد ضرب ب "بصرى" بتصوير منظر من مناظر الاحتفالات السنوية التي كانت تقْام في كل عام اكراماً له، وتعرف ب"Actia Dusaria". أما آلهة المدينة التي ضربت صورتها على بعض النقود، فتشبه صورتها صورة "عشتاروت" "عشتروت" المعروفة بفلسطين وفينيقية. ويظهر أنها "اللات". وتشبه في بعض النقود صورة "أثينة"، وقد دعيت ب "Tyche" هي "اللات" عند أهل حوران. وعثر في جزيرة "فيلكَا" على نقود يونانية من بينها درهم ضرب في عهد الملك "انطيوخس" الثالث من ملوك السلوقيين، ويعود تأريخ هذا الدرهم إلى حوالى السنة "212" قبل الميلاد. وتبين أن بعض الدراهم قد ضرب في "جرها" "Gerhha" ، "الجرعاء"،كما عثر على نقود ضربت من النحاس، تبين أن قطعة منها ضربت في عهد "سلوقيوس" الأول، ضربها باسم الملك "الاسكندر" الأكبر، وأن قطعتين منها ضربتا في أيام "انطيوخس" الثالث. فهي تعاصر الدراهم المذكورة.

أما اهل الحجاز، فقد تعاملوا بالنقود الرومية والساسانية: تعاملوا بالدنانير، وتعاملوا بالدراهم، وتعاملوا بالدانق. وتعاملوا بنقود أهن اليمن، ولعلهم كانوا يتعاملون بنقود أهل الحبشة كذلك. فقد كان أهل مكة خاصة تجاراً يتاجرون مع اليمن ويتاجرون مع العراق وبلاد الشام والحبشة. وتجارتهم هذه تجعلهم يستعملون مختلف النقود.

ولم يرد في الأخبار ما يفيد قيام أهل العربية الغربية أو أي مكان آخر في جزيرة العرب بضرب النقود الجاهلية فيها، لكن ذلك لا يمنع من احتمال عثور النقّابين في المستقبل على نقود محلية ضربت في مكة أو في الطائف أو في يثرب أو في مكان آخر ولو على نطاق ضيق محدود.

وكان تعامل أهل مكة بالدنانير، ترد اليهم من بلاد الشام، ولا سيا دنانير هرقل. وبالدراهم الفارسية البغلية فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر.

وكان المثقال عندهم، معروف الوزن، وزنه اثنانْ وعشرون قيراطاً إلا كسراً، ووزن العشرة دراهم سبعة مثاقيل، فكان الرطل اثنتي عشرة أوقية. وكل أوقية أربعون درهماً. فأقر رسول الله " ذلك ومن جاء بعده إلى أيام "عبد الملك بن مروان"، فأمر أن تضرب الدراهم على خمسة عشر قيراطاً من قراريط الدينار.

وذكر أن الدنانير التي كانت ترد مكة في الجاهليهَ رومية، والدراهم كسروية.

وقد اشْتهرت دنانير "هرقل"، وعرفت ب "الهرقلية" حتى انها كانت تسمى الدنانير عامةّ "الهرقلية"،و الظاهر إن ذلك بسبب كونها مجلوة مطبوعة طبعاٌ حديثاً، لم تطمس أثارها ولم يمض زمن طويل عليها،أو لأن العرب حصلت في عهده على أكثر دنانيرها، فنسبتها اليه.

والدينار عملة من الذهب، عرف علماء اللغة أنها من الألفاظ المعربة، ولكنهم لم يتأكدوا من أصلها، فذهبوا إلى أنها من أصل فارسي. وهي معربة من أصل يوناني هو "ديناريوس" "Dinarius" مختصر Dinarius Aureus "Aureus Denarius"كما جاء ذلك في تأريخ "بلينيوس"، والظاهر أن العرب استعملوا التسمية التي كانت شائعة في بلاد الشام، منذ عهد إصلاح "قسطنطين" الأول "309 - 319 م" لنظام النقد. فأطلقوا على العملة الذهب لفظة دينار.

وقد كان أهل الشام قد اقتصروا على لفظة Dinarius منذ ذلك العهد. وقد ورد ذكر الدينار في القرآن الكريم: )ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤده اليك، ومنهم من إن تأمنه بدينارّ لا يؤده اليك إلا ما دمت عليه قائماً(. والقنطار وزن. وتأويل الكَلام أن من أهل الكتاب الذي إن تأمنه على عظيم من المال كثير يؤده اليك ولا بخنك فيه ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنك فيه، فلا يؤده اليك إلا بالتقاضي والمطالبة.

ويعرف "الدينار" ب "العين". والعين الذهب عامة ، فكأنهم سموا عيناً، لأنه من ذهب.

وقد فكر المسلمون قبل "عبد الملك بن مروان" في موضوع النقود، وفي ضرورة تحويلها إلى نقد اسلامي. وكان "عمر" في جملة من فكر في ذلك.

انه أراد أن يجعل الدراهم من جلود الإبل، فلما استثار ذوي الخبرة، لم يقروه على رأيه فأمسك. وذكر انه امر بضرب الدراهم، فضربت سنة ثماني عشرة من الهجرةْ. وضرب "عثمان" الدراهم كذلك. ثم إن معاوية ضرب الدراهم السود، وضرب أيضاً دنانير عليها تمثال متقلد سيفاً. وضرب "زياد" النقد كذلك. ولما قام "عبد الله بن الزبير" بمكة ضرب دراهم مدورة. وكان أول من ضرب الدراهم المستديرة. وضرب "مصعب بن الزبير" دراهم بالعراق، ثم غيرها "الحجاج"، حتى استقر الأمر لعبد الملك، فعرب النقد على نحو ما هو معلوم.

وقد بقي العرب يتعاملون بالدنانير الرومية إلى أيام عبد الملك،.حيث أمر بضرب الدنانير، فضربت بدمشق. وقد نعت الدينار الجديد ب "أحرش" إذا كانت فيه خشونه لجدته. ومنه الحديث إن رجلاً أخذ،من رجل آخر دنانير حرشاً، وهي الجياد الخشن الحديثة العهد بالسكة التي عليها خشونة النقش. ومن أسماء الدينار "السكِيَ".

وقد ذكر علماء اللغة أن لفظة الدرهم فارسية الأصل، وقد عربت، وقالوا في جمعها دراهم ودراهيم. وهو نقد من الفضة. وقد عرف ب "درم" Diramفي الفارسية وب "درخمة" "درخما" Drachma في اليونانية. والظاهر ان العرب اخذوا بالتسمية الفارسية. وقد استعملوا في تعاملهم دراهم الفرس ودراهم اليونان.

وأشير إلى الدراهم في الآية: )فشروه بثمن بخس دراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين(0. ويذكر المفسرون أنه كان من عادة الجاهليين التعامل بوزن الدراهم بالأواقي إن زاد عددها على وزن أوقية أو كان وزن الأوقية أربعين درهماً. فما نقص عن هذا المقدار،جرى التعامل، عليه بالعدد، وما زاد عليه جرى التعامل عليه بالوزن.

وكانت الدراهم مختلفة كباراً وصغاراً، فكانوا يضربونها مثقالاً، وهو وزن عشرين قيراطاً، ويضربون عشرة قراريط، وهي أنصاف المثاقيل. وكان أهل الجاهلية يتعاملون بها حسب وزنها. وهي دراهم الأعاجم.

وقد قسمّ العلماء الدراهم التي كان يستعملها الجاهليون من أهل مكة وغيرهم إلى نوعين: الدراهم السود الوافية، والدراهم الطبرية العتق. والوافية هي البغلية.

وكان لهم دراهم تسمى "جوراقية". والدرهم الطبري: ثمانية دوانق، والدرهم البغلى: أربعة دوافق، وقيل العكس. والدرهم الجوراقي: أربعة دراهم ونصفْ.

وورد إن الدراهم كانت في أيام الفرس مضروبة على ثلاثة أوزان: منها درهم على وزن المثقال عشرون قيراطاً، ودرهم وزنه عشرة قراريط ودرهم وزنه اثنا عشر قيراطاً.

وعرفت دراهم الأكاسرة ب"دراهم الأسجاد". قيل انها عرفت بذلك، لأنها كانت عليها صور يسجدون لها، وقيل: كانت عليها صورة كسرى، فمن أبصرها سجد لها، أي طأطأ رأسه لها وأظهر الخضوع. وإياها عنى الأسود بن يعفر النهشلي في روابة من الروايات بقوله: من خمر ذي نطف أغنّ منطق  وافى بها كدراهم الأسـجـاد

وذكر في رواية أخرى، إن الأسجاد: اليهود والنصارى، أو معناه الجزية. وكان الفرس، عند فساد أمورهم فسدت نقودهم من العين والورق غير خالصة، إلا انها كانت تقوم في المعاملات مقام الخالصة وكان غشها عفواً لعدم تأثيره بينهم الى أن ضربت الدراهم الاسلامية فتميز المغشوش من الخالص.

وورد انه كانت باليمن دراهم صغاراٌ، في الدرهم منها دانقين ونصف. وورد إن الدرهم اليمني كان دانقاً. ويظهر انه كان من أيام الحميريين، بدليل تسمية "الماوردي" لهذه الدراهم بدراهم حميرية، وكانت كما يقول قليلة. وعلى هذا يكون أهل مكة قد تعاملوا في الجاهلية بعملة الروم،وبعملة الفرس، وهي الدراهم على الأكثر، وبعملة اليمن، وأشار بعض العلماء الى عملة مغربية، لم يذكروا عنها شيئاً.

وذكر أن "عمر بن الخطآب"، أمر بضرب الدراهم على نقش الكسروية، وشكلها بأعيانها، غير أنه زاد في بعضها: "الحمد لله"، وفي بعضها: "محمد رسول الله"، وفي بعضها، "لا إله إلا الله وحده". وكان ذلك سنة ثماني عشرة من الهجرة. وفي آخر مدة عمر وزن كل عشرة دراهم ستة مثاقيل. فلما بويع "عثمان" ضرب في خلافته دراهم نقشها: "الله أكبر".

وفي عهد "معاوية"، ضرب الدراهم السود الناقصة من ستة دوانق، فتكون خمسة عشر قيراطاً، تنقص حبة أو حبتين. وضرب منها "زياد"، وجعل وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، وكتب عليها، فكَانت تجري مجرى الدراهم. ولما قام "عبد الله بن الزبير" بمكة ضرب الدراهم مدورة، وكان أول من ضرب الدراهم المستديرة، وكان ما ضرب منها قبل ذلك ممسوحاً غليظاً قصيراً، فدورها عبد الله. وضرب مصعب بن الزبير دراهم بالعراق، جعل كل عشرة منها سبعة مثاقيل. فلما استوثق الأمر لعبد المْلك بن مروان ضرب الدنانير والدراهم في سنة ست وسبعين من الهجرة.

وجاء في رواية أخرى أن أصحاب رسول الله كانوا يتعاملون بدراهم العجم، فكان إذا زافت عليهم أتوا بها السوق، فقالوا: من يبيعنا بهذه? وذاك أنه لم يضرب النبي، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان ولا علي ولا معاوية. وأن أول من ضرب المنقوشة عبد الملك بن مروان. ونجد بين العلماء اختلاف في أول من أمر بضرب الدنانير والدراهم في الإسلام.

وذكر بعض أهل ألأخبار، أنه كانت لقريش، أوزان في الجاهلية، فدخل الإسلام، فأقرت على ما كانت عليه، كانت قريش تزن الفضة بوزن تسميه درهماً، وتزن ألذهب بوزن تسميه ديناراً، فكل عشرة من أوزان الدراهم سبعة أوزان الدنانير. وكان لهم وزن الشعيرة وهو واحد هن الستين من وزن الدرهم، وكانت لهم الأوقية وزن أربعين درهماً، النش وزن عشرين درهماً، وكانت لهم النواة وهي وزن خمسة دراهم، فكانوا يتبايعون باًلتبر على هذه الأوزان.

وقد أقرهم الرسول على ذلك. وكانوا يحتفظون بالأوزان المقررة، حتى إذا حدث اختلاف على الوزن، رجعوا إلى الوزن المقرر المعتبر. وكان "أبو وداعة ابن ضبيرة السهمي" يمتلك وزن مثقال في الجاهلية، يوزن به.

وقد كانوا يثلمون أطراف الدينار والدرهم، أو بقطعونها قطعاً، فيتعاملون بالقطع حسب الوزن، ويفعلون ذلك غشاً، كما كَانوا يكسرون النقود، لتأكد من صحة معدنها، أو لتحويل الدنانير الى تبر. وقد نهى في الإسلام عن التلاعب بالعملة، مثل قرضهم اطراف الدراهم والدنانير بالمقراض، لغرض الاستفادة من تلك القراضة، اذ يجمعونها فيسكبونها، فيخرجون بذلك النقد المقروض عن سعره.

والدرهم إذا عدل المثقال، فهو درهم وأف، وهو الذي لا يزيد ولا ينقص بل وفي بزنته.

وأطلق علماء اللغة على الدرهم لفظة "الورق"، على الموسر الماك للدراهم المورق، وسموّا الفضة وَرقاً. وقد وردتَ اللفظة في نصوص المسند، وكأنها نوع من أنواع العُمل، أَو وزن. فورد "خمسي، ورقم"، أي "خمسين ورق"، و "عشر ورقم"، أي "عشر ورق"، فكأن لفظة "ورق" هنا اسم علم لنوع معين من العملة، أو وزن معين وعيار كان معروفا عندهم. وذهب بعض العلماء إلى إن الورق: الذهب. وهذا التفسير ينطبق مع ما ذهب اليه المستشرقون من أن لفظة "ورق" في المسند،تعني ذهباَ ولو فسرناها بهذا المعنى ايضاً، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون المراد من "ورقم" عملة خاصة ضربت من ذهب. وارجح إن المراد منها عملة خاصة عرفت بهذه التسمية. وذكر بعض العلماء أن "الورق: المال، ورجل و راق كثير المال. والدراهم بعينها والفضة.

وأطلق أهل الحجاز على الدرهم والدينار لفظة "الناض"، وذلك إذا تحول عينا بعد أن كان متاعاً. وفي حديث "عمر" كان يأخذ الزكاة من ناض المال، وهو ما كان ذهبا أو فضة، عيناً أو ورقا. وقالوا إن النض هو الدرهم الصامت. أما إذا كان الدرهم رديئاً، فيعبرون عنه بلفظة " بهرج" و "قسيّ". فيقولون درهم بهرج، أي رديء، وكل مردود عند العرب بهرج ونبهرج. وذكر بعض العلماء أن اللفظة فارسية من "نبهرة"، وأنها بمعنى الباطل والرديء،والدرهم البهرج الذي لا يباع به لرداءته، والذي فضته رديئة وكل رديء من الدراهم وكل مردود عند العرب بهرج.

وتعرف الدراهم ب "قطاع" بلغة هذيل.

ودرهم زائف مغشوش، مردود لغش فيه. يقال درهم زيف وزائف. وزاف فلان الدراهم جعلها زيوفاً. ودراهم فسول، دراهم زائفة، وأفسل عليه دراهمه، إذا زيفها. "ومنه حديث حذيفة انه اشترى ناقة من رجلين وشرط لهما من النقد رضاهما فأخرج لهما كبساً فأفسلا عليه، ثم أخرج كيساً فأفسلا عليه، أي أرذلا وزيفا منها. وأصلها من الفسل وهو الرديء الرذل من كل شيء". وكان "عبد الله بن مسعود" يكسر الزيوف وهو على بيت المال.

ويعبر عن الدراهم الموزونة ب "دراهم مجربة"، لأنها مجربة. وقد ظهر من التجربة انها صحيحة غر منقوصة.

وقد ورد فى الأخبار، إن الخمسمائة درهم، كانت تعادل في أيام النبي اثنتي عشرة أوقيه ونش. وأن الدرهم سبعة دوانيق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقبل. و "النش" نصف أوقية ، وهو عشرون درهماً، لأنهم يسمون الأربعين درهماً أوقية، ويسمون العشرين نشاً، ويسمون الخمسة نواة.

وقد ذكر علماء اللغة نقداٌ دعوه "النميّ"، وقالوا إنه الدرهم الذي فيه رصاص أو نحاس، وقال بعض آخر إنه الفلس من الرصاص بالروميةّ، وكانت بالحرة على عهد النعمان بن المنذر. قال النابغة أو أوس بن حجر: وقارفت وهي لم تجرب وباع لها  من الفصافص بالنمي سفسـير

و"الدانق" من الأوزان ومن النقد. وهو " داناق"، أيضاً، من أصل فارسي هو "دانك" في الفهلوية، ومن dang و "دانك" danak في الفارسية، وهو "دنك" في الارمة. وهو يعادل سدس الدينار أو سدس درهم. وكان معروفاً عند أهل مكة في الجاهلية.

أما "الفلس"، فلفظة لاتينية يونانية الأصل، عرّبت من أصل Follis اللاتيني، ويراد بها نقود مسكوكة من النحاس. وقد استعملها العرب في تعاملهمواحتفظوا باًلأصل الأجنبي. وقد كان الفلس في أيام القيصر "أنستاس الأول" "أنسطاسيوس الأول" "491 -518م" زهاء ثلثين غراما ووسم بالحرف M. وظهرت بعد ذلك فلوس بأوزان تقل عن هذه. ولما ضرب المسلمون النقد، كانت الفلوس في جملة ما ضرب من نقد.

وذكر بعض أهل الأخبار إن "القيراط" جزء من الدينار أو الدرهم. وقد ذكر "القراط" في الحديث. في حديث رعي الرسول غنم قريش وفي احاديث أخرى. وذكر بعض العلماء إن العرب لم تكن تعرف القيراط الذي هو من النقد. وذكر "ابن الأثر" إن القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشرة، ويظهر أن منهم من كان ستعمله وزناً، ومنهم من جعله جزءاً من الدنانير والدراهم.

الفصل الثاني عشر بعد المئة
الصناعة والمعادن والتعدين

الصناعة حرفة الصانع وعمله الصنعة. ورجل صنع، حاذق في الصنعة، وعماد الصانع على يديه، يستعملها في صنع الأشياء، كما يعتمد على ذكائه في تحويل الأشياء إلى أشياء أخرى أهم منها أو أي شيء آخر يريده أو يطلب منه.وهو بالطبع من أهم العناصر المنتجة اللازمة في الحياة الاقتصادية، فهو محور الانتاج، وعلى قدر انتاج أمه، يِقاس غناها ومقدار تقدمها في الحياة وتكون منزلتها بين الشعوب. فبالصناعة يتم تحويل المواد الخام، الفائضة عن الحاجة، إلى مواد أخرى أفيد منها، لستهلك في الأسواق المحلمة، أو تباع في الأسواق الخارجية.

والحرِفة، الطعمة والصناعة التي يرتزق منها، وهي جهة الكسب. وكل ما اشتغل الإنسان به وضرى به، أي أمر كان فإنه عند العرب يسمى "صنعة" و "حرفة". يقولون: صنعه فلان أن يعمل كذا، وحرفة فلان أن يفعل كذا، يريدون دأبه وديدنه. ذكر أن "علي بن أبي طالب"، قال: "إني لأرى الرجال، فيعجبني، فأقول، هل له حرفة ? فإن قالوا: لا سقط من عيني".

و "المهنة"، عند العرب الحذق بالخدمة وللعمل. وامتهنه: استعمله للمهنة وابتذله، والماهن: العبد والخادم. والمهنة العمل، والعامل هو الذى يقوم بعمل ما، والعملة العاملون بأيديهم، وهم الذين يرتزقون بعمل ايديهم. والعمالة رزق العامل الذي جعل له على ما قلد من العمل ومن العملة: العاملون في طين، أو في حفر، أو في بناء أو غير ذلك. وعامله معاملة سامه بعمل. والاعتمال الذين يقومون بما تحتاج اليه من عمارة وزراعة وتلقيح وحراسة ونحو ذلك. وما يعطاه العامل من أجر العمل هو "العملة".

وأغلب العَمَلة فقراء لا يملكون في شيئاً، رزقهم بعملهم، فإذا مرض أحدهم أو أصيب بعاهة انقطع رزقه. ثم إن أجورهم قليلة وأرزاقهم من عملهم شحيحة، ولذلك كانت حياتهم ضنكة. عليهم العمل قدر الإمكان لإعاشة أنفسهم وذويهم، والمشي على أرجلهم بحثاً عن عمل. ولهذا فلا عجب إذا ما عرفوا ب "بني عمل". و "بنو عمل" المشاة على أرجلهم من المسافرين. الذين وصفهم أحدهم الأعراب فقال: يحث بكراً كلما نـص ذمـل  قد احتذى من الدماء وانتعـل

ونقب الأشعر منـه والأظـل  حتى أتى طل الأراك فاعتزل 

وذكر الله وصـلـى ونـزل  بمنزل ينزله بـنـو عـمـل

لا ضفف يشغله ولاثقل والحرف، أي العمل باليد من الأمور المستهجنة عند الأعراب، وعند أكثر العرب أيضاً فلا يليق بالعربي الشريف الحرّ، أن يكون صانعاً، لأن الصناعة من حرف العبيد والخدم والأعاجم،والمستضعفين من الناس. وقد سبق أن تحدثت عن مكانة الصناع في المجتمع، وعن ازدراء الناس لهم، على الرغم من احتياجهم اليهم، وكونهم الطبقة المنتجة المثمرة في المجتمع وأن أيديهم هي التي تصنع ما يحتاج الإنسان اليه من حاجات، ومدحهم الرجل الصنع اليد، بقولهم: "رجل صنع اليدين". أي حاذق ماهر في الصنعة مجيد من قوم. صنعى الأيدي،حتى أنهم كانوا إذا وصفوا انساناً باًلبلاغة، قالوا: رحل صنع اللسان، ولسان صنع. قال الشاعر حسان بن ثابت: أهدى لهم مدحى قلب يوازره  فيما أراد لسان حائك صنـع

ولا تقوم صناعة، إلا في مكان تتوفر فيه امكانياتها من استقرار وأمن، ومن وجود حاجة إليها، ومن توفر المواد الأولية فيها، والمواد الخام اللازمة لها. ومعنى هذا وجود مكان حضري. أما البداوة، فحاجاتها الى الانتاج قليلة، لسذاجة الحياة وبساطتها فيها. ولهذا تكون الصناعة فيها بسيطة، بساطة تتناسب مع بساطة ذلك المجتمع البدوي، ودرجة بداوته، ولهذا تفاوتت مستويات الصناعة البدوية، يتفاوت مستوى البداوة، وبتفاوت درجة حاجاتها الى الأشياء. فالبداوة المنعزلة عن الحضارة التي قل، اتصال أبنائها بالحضر، وبالعالم الخارجي، وشحت خيراتها ومواردها الأولية، لا يمكن أن تظهر فيها صناعة متطورة، ولا يعقل نموّ عمل مزدهر فيها، لانعدام الموارد الطبيعية المغذية للعامل، وللسادة أصحاب المال، ولعدم وجود حاجة إليها مع تلك البداوة القانعة بالبساطة في الحياة. ومن هنا في، أن الصناعة، لم تتطور، إلا في المجتمعات المتطورة،التي توفرت فيها امكانيات التصنيع، وشعرت بضرورة الاستفادة من الثروات الطبيعية المتوفرة لديها بتصنيعها، أي بتحويلها إلى موارد أخرى يحتاج إليها، وتوفرت فيها الوسائل اللازمة لظهور الصناعة والمجتمعات البسيطة كانت من البداوة أو البدائية، فإنها لا تخلو من وجود صناعات بها. صناعات بدائية ، هي من ناتج حاجات ذلك المجتمع، وناتجها يتناسب بالطيع مع حالة تلك البداوة. ولا يصح نفي وجود الصناعة بها.

وقد لعب الرقيق والموالي دورا كبيرا في أعمال الحرف والزراعة في جزيرة العرب. إذ استخدموا في التعدين وفي الزرع. وقد ذكر "الهمداني " أنه كان بمعدن "شمام" ألوف من المجوس الذين يعملون المعدن، حتى أنه كان لهم بيتا نار يعبدان في ذلك المكان. وذكر أنه كان ب "جهران" قوم من وضيع تبع، أي من الطبقة الوضيعة، وكذلك ب "قتاب"، حيث نسبوا إلى "تبع" قوله: فسكنت العراقَ خيارَ قومي  وسكنَت النبيط قرى قتاب

وكان بمدينة العقيق، وهي معدن،مائتا يهودي. ولم يذكر "الهمداني" متى كانوا هناك ولا سبب وجودهم بهذا الموضع، للاتجار أو للعمل بالمعدن.

وقد نتج من هجرة الأجراء والصناع إلى القرى والمدن اختلاط في السكان، لا يحدث مثله عند أهل الوبر. وهو مما جلب ازدراء الأعراب على الحضر، فكان سكان "ذمار" جمع من حمير ومن أنفار من الأبناء. وكان أهل "جهران" من بطون حمير، وقوم من وضيع تبع. وقد استعمل الهمداني لفظة "أخلاط" للتعبير عن اختلاط سكان موضع ما، ووجود عناصر متباعدة فيه لا ترجع إلى قبيلة واحدة. واستعمل لفظة "خليط" كذلك، لأن مدن اليمن وقراها كانت خليطاً من بطون ترجع إلى عشائر مختلفة. وهي سمة الحياة الحضرية حيث يفد الناس إلى مواضع الحضارة من مختلف البطون والعشائر.

وقد استعمل "الهمداني" لفظة "لخوم العرب" في معنى بطون العرب،وكذلك لفظة "طخوم" في المعنى ذاته. وذلك في اثناء حديثه عن المواضع التي اختلط فيها للسكان لوجود فرص العمل بها والرزق الوافر الجزيل.

الإجارة

والأجر والأجرة يقال فيما كان عن عقد وما يجري مجرى العقد، والأجارة ما أعطيت من أجر في عمل. وهي شرعاً عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم. وهي واسعة تشمل نواحي متعددة من فروع الاستئجار. والأجر، من يشتغل لغيره في مقابل أجر يدفع له. والأجرة، الكراء. وهو ما يعطى الأجير في مقابلة العمل. منهم من يشتغل في الحرف، مثل النجارة والحدادة والبناء وأمثال ذلك، ومنهم من يشتغل في الزراعة، ومنهم من يستأجر لأداء أعمال لأجل، مثل خدمة القوافل، أو حراسة زرع وما شابه ذلك، فاذا انتهى الأجل انتهى العمل.

وما يدفع إلى الأجر في مقابل عمله، يتوقف على الشروط التي اتفق صاحب الأرض مع الأجير عليها. فقد يكون الأجر نقداً، ويقال لذلك "ورقم" "ورق" في لغة المسند. وهو في القليل، لقلة النقد آنذاك. وقد يكون حصة، أي نصيباً يتفق عليه مع الملاك يؤخذ من الحاصل، وقد يكون مقايضة، بأن يدفع للاجير ما يحتاج اليه في حياته من ملبس أو غذاء،او حيوان، وأمثال ذلك، في مقابل جهده وتعبه.

ومن ذلك استئجار الإنسان للقيام بتنفيذ عقد يحدد ويبين ويتفق عليه" كأن يقوم برعي النعم والماشية مقابل مبلغ من مال أوشيئاً آخر يتفق عليه، كالذي روي من أن الرسول رعى غنم قريش على قراريط، 0 أو استئجار شخص أو أشخاص للعمل في سفينة أو في أرض او لارشاد قافلة أو نفر إلى طريق للوصول إلى موضعه. أو استئجار رجل يعمل عملاً محدد بأجل، أي بوقت، كأن يحدد بالساعات أو النهار أو الليل كالحراسة أو أياماً أو شهوراً أو سنة او أكثر آو بغير أجل موقوت. أو استئجار رجل للقيام بعمل محدود معين كالغزو، أو الحمل، أي أن يحمل حملاً ينقله إلى موضع يعين له. أو ينقله من مكان إلى مكان.

ومن ذلك استئجار النبي "عبد الله بن أريقط" من "بني الديل"، ثم من "بني عدي" ليكون هادياً للطريق يوصله إلى يثرب، فساحل به وبأبي بكر وبعامر بن فهيرة، حتى بلغ يثرب. وكان قد ساحل، لأن أهل مكة كانوا يتبعون طريق "بدر" إلى المدينة، أراد التخلص بذلك من تعقيبهم" واستئجار المقاتلين، للقتال عنهم. فقد كان أحدهم يعتذر عن المشاركة بنفسه في القتال لوجود أسباب مانعة، فيرسل غيره للقتال عنه، يدفع اليه أجراً عن ذلك.

و "الكروة" و "الكراء" أجرة المستأجر. والمكاري، هو الذي يكري دابته لغيره، في مقابل "كروة". والمكارين، هم الذين يكرون دوابهم، وتدخل الإبل فيها، فقد كان من أصحاب الإبل من يكاري إبله للتجار ولغيرهم تنقلهم إلى مسافات بعيدة أو قريبة.

ويستخدم الملاكون وسادة لأرض الأجراء ممن لا أرض لهم ولا مال لديهم يحصلون به على أرض يستغلونها، في الاشتغال بأرضهم وبمزارعهم لإصلاحها وزرعها وبنائها. ويعرف هؤلاء ب "ملجا" في بعض نصوص المسند. واللفظة من أصل "لجا" التي هي لجا في عربيتنا. ويقيم اللاجىء في ملجئه ويتمتع بحماية صاحبه وسيده ما دام فيه، يزرع ويبني لسيده في مقابل هذه الحماية التيّ يتمتع بها والحماية التي تحميه من أي ظلم أو اعتداء.

ويعبر عن الأجراء الذين يستخدمهم الملاّكون في زراعة الأرض واستغلالها مقابل أجر يدفع لهم بلفظة "اجرم" في المسندْ. أي أجير وأجراء. والأجراء جماعة كبيرة، تنقلت من ملك إلى ملك، ومن خدمة سيد إلى خدمة سيد آخر، لتخدم ملاّكاً في مقابل أجر يتفق عليه، وعقد يبرم بين المالك والأجير، فإذا انتهى العقد أو العمل، أو رأى المالك انتفاء الحاجة إلى خدمة الأجير، أنهى عمله. وقد كان الأجراء طبقة بائسة لا تملك شيئاً غير عمل يدها، ولهذا كانت مضطرة بحكم فقرها هذا إلى التنقل من مكان إلى مكان للحصول على عمل تقتات منه فكانت من جملة المشكلات الاجتماعية التي تعرضت لها حكومات جزيرة العرب في ذلك الهد.

وجاء في أحد النصوص المعينية: "كل معنم حرم واجرم"، أي: "كل معين أحرار وأجراء". ويقصد ب "كل معين" كل شعب معين. فقسم هذا النص شعب معين إلى أحرار، والى أجراء. وهم أكثر حرية من "الأدم"، أي "العبيد" والرقيق، لأنهم في مشتغلون بأجر وبعقود يتفقون عليها، فاذا انتهى العقد، أو حصل خلاف،جاز للاجير الانتقال الى موضع آخر، أو إلى صاحب محل آخر للعمل لديه، على حين لا يجوز للعبد فعل ذلك، لأنه ملك يمين.

ومن أجراء الزراعة أجراء "المحاينة"، يؤدون خدماتهم موسم الحصاد،. وينالون أجرهم في مقابل حصاد الحصاد، حسب ما اتفق عليه. فهم يحصدون الزرع وينقلونه مع سنبله إلى موضع تجميعه. ويكون ذلك في المزارع الكبيرة التي تحتاج إلى اعداد كبيرة من حصاد الزرع.

واليمن، هي في مقدمة أجزاء جزيرة العرب في الصناعة، ولا نكاد نجد في جزيرة العرب مكاناً يسبقها فيها. وهي الأولى في الانتاج أيضاً. وقد عرفت منتجاتها في كل موضع من بلاد العرب. وهي المكان الوحيد فيها، الذي زادت صادراته فيه على وارداته، وكان مستواه المعاشي فيه أعلى من المستوى المعاشي لبقية أجزاء جزيرة العرب. وكان مستهلكاً ومنتجاً، لحاجته إلى الاستهلاك. ثم هو المكان الوحيد، الذي نجد فيه التمايز الطبقي، والعنعنات الطبقية واضحة ظاهرة، لتباين الظروف المعاشية التي عاشت فيها طبقات المجتمع، فأسياد أغنياء، وطبقات وسط، وطبقات فقيرة معدمة، لا تجد رزقها إلا بشق الأنفس.

ولم تبرز صناعة اليمن في نوع واحد أو في صنف معين، بل برزت في كل نوع من انواعها المعروفة في ذلك العهد، والتي دعت الحاجة إلى ظهورها، والتي وجدت موادها الأولية فيها. مثل صناعة الحديد واستخراج المعادن، وتحويلها إلى مصنوعات، والنجارة و الحياكة، والدباغة، والأصباغ والصموغ، وغير ذلك من صناعات اشتهرت اليمن بها وارتبط اسمها بها.

و "الذهب" هو "ذهبن" في لغة المسند، أي "الذهب". ويقال له التبر أيظاً. وذكر أن "التبر" الذي في المعدن، والذي لم يخرب ولم يصنع. ومن أسمائه "العسجد". وقيل العسجد اسم جامع يطلق على الجوهر كله كالدر والياقوت. وذهب "ابريز"، بمعنى خالص. و "العقيان"، الذهب الخالص، أو الذهب الذي لا يستذاب من الحجارة، وإنما هو ذهب ينبت نباتاً. مما يدل على أنهم يقصدون وجود حبيبات منه خالصة في معادنه، يجمعونها، فيحصلون عليه من غير نار ولا اذابة حجر. وكانوا يطحنون أحجار الذهب،ويذرون تراب المعدن، لاستخلاص الذهب منه. يقال: "ذريت تراب المعدن، طلبت ذهبه". ويقال لتراب الذهب "السحالة"، وهي أيضاً قشر البر والشعير والأرز. وكانوا يضعون المعدن في التنور ليميع، ثم يجعلونه في "الكوج"، ليتخلص المعدن وينقى من الشوائب.

وقد ذكر الجغرافيون العرب أسماء مواضع عرفت بوجود خام الذهب بها، مثل موضع "بيشة" أو "بيش"، وقد كان الناس يجمعون التبر منه، ويستخلصون منه الذهب. و "ضنكان"، وكان به معدن غزير من التبر. والمنطقه التي بين القنفذة ومرسى". حلج". وورد أن ب "بيش" عدة معادن. وذكر "الهمداني" أن بقرية "بنات حرب" شيء من الذهب. وأن معدن "صعاد"، وهو من ديار "عقيل" هو أغزر معدن في جزيرة العرب، وهو الذي ذكره الرسول في قوله: "مُطرت أرض عقيل ذهباً". مما يدل على أنه كان معدن ذهب. وقد ذكر بعض العلماء -أن العرب تسمي معدن الذهب "خُزيَبة".

ومن معادن الذهب، معدن "القفاعة"، ومعدن "الأحسن"، "الحسن" وهو معدن لبني كلاب، من أول عمل المدينة وأدنى عمل المدينة إلى اليمامة. ومعدن "المؤخرة" ، وهو من مياه "بني الأضبط" من بني كلاب. وهو معدن ذهب وجزع أبيضْ، و "ثخب"، وهو جبل بنجد لبني كلاب، عنده معدن ذهب ومعدن جزع ،و "القشَرْاء"، و. "خصْلةّ"، ومعدن "خصلة" بحذائها، وكان به ذهب، ومعدن "شيبان"، وبه معادن الذهب والفضة والصفر ، ومعدن "موزر"، بضرية من ديار كلاب، و "ناضحة" بين اليمامة ومكة ومعدن "الهردة"، ومعدن "المخلفة"، وهو معدن ذهب جيد، بأرض حجور. وقد وصفه الهمداني، وذكر ما كان يستخرج منه من الذهب. وقد ضبط معدن الهردة ب "الهروة" في موضع آخر من "تاج العروس"، وقال إنه عند "الحوأب" وبه معددن ذهب، ومعدن "الهجيرة". ومعدن "الحراضة"، ويقع بين "ينبع" والمروة معادن للذهب ومعدن "الحُفير" بناحية "عماية" وهو معدن ذهب غزير، ومعدن "الحسن"، ومعدن "الثنية" ثنية "حصن بن عصام الباهلي"، ومعدن تياس، ذهب مخف بتياس. و "العقيق": وهو من معادن الذهب. وهو مدينة كان فيها مائتا يهودي ونخل كثير وآبارْ. ومعدن الصبيب، عن يسار الضبيب.

ويظهر أن منجم "مهد الذهب"، هو المنجم الذي كان لبني سُليم، فعرف باسمهم وقيل له: "معدن بني سليم" "معدن سليم"، وقد أقطعه الرسول "بلال بن الحارث". وقد عثرت شركة التعدين السعودية العربية على أدوات فيها استعملها الأولون قبل الإسلام في استخراج الذهب واستخلاصه من شوائبه، مثل رحى وأدوات تنظيف ومدقات ومصابيح، وشاهدت آثار القوم في حفر العروق التي تكون الذهب. وقد عرف معدن "بني سليم" ب "فران" "قران"، وقد نسب إلى "فران بن بلي" دخلوا في "بني سليم" ويأخذ عليه طريق الكوفة إلى مكة.

وتعرف "الفضة"، في نصوص المسند ب "صرفن" "الصرف". والفضة من المعادن المشهورة المعروفة في اليمن. و "الصريف" الفضة الخالصة. وقد كانت جزيرة العرب في جملة الأسواق التي مونت العبرانيين بهذا المعدن.

ومن المواضع التي عرفت بالفضة "عوسجة" في بلاد هذيل. فقد كان معدناً للفضة. ومعدن "شمام"، معدن فضه ومعدن نحاس وصفر، "وكان به ألوف من المجوس الذين يعملون المعدن، وكان به بيتْا نار يعبدان"، ومعدن "شيبان"، و معدن "اليحموم".

وقد ذكر "الهمداني" أن ب "قرية المعدن"، معدن فضة، فضة لا نظير لها في الغزر، وبقربه معدن الرضراض، ، وهو معدن فضة كذلك، لا نظير لهْ.

وذكر صاحب كتاب بلاد العرب أن "خزبة" معدن من معادن اليمامة، وكانت جبالها إنما هي فضة،ثم مسخت معادنها فصارت شيئاً آخر إذا صيرت إلى "الكوج" التي كانت تخلص فبه، وتخلصت تصدعت كتصدع الزجاج، لا ينتفع بها.

و "اللجين" الفضة، و "الوذيلة" القطعة من الفضة، وقبل السبيكة منها، وقيل القطعة من الفضة المجلوة، ولعل ذلك هو الذي حمل الطائيين على تسمية المرآة "الوذيلة"، لأن المراة في ذلك الوقت صفيحة من المعدن مجلوة، ينظر فيها.

وقد كانت السلطات الحاكمة تأخذ "الخمس" من معادن "الفرع"، و "نجران"، و "ذي المروة"، و "وادي القرى". مما يدل على إن الناس كانوا يستغلون مناجم هذه الأرضين في الإسلام.

ويظهر إن ما كان يستخرجه أهل الجاهلية من الذهب والفضة من معادنهما لم يكن بمقياس واسع وبكميات كبيرة تصلح للتصدير إلى الخارج، بدليل اننا لم نعثر على خبر عنه لا في كتابات المسند ولا في روايات أهل الأخبار، ثم انهم لو كانوا يستخرجون المعدنين المذكورين بكميات وافرة،لاستمروا على الاستخراج ولحسنوا كيفية استخلاص المعدنين المذكورين من معدنهما إلى ظهور الإسلام، ولأشير إلى ذلك حتماً في الموارد الاسلامية، ولما سكتت هذه الموارد عن الاشارة اليهما.

وقد استخدم أهل اليمن الرصاص في كثير من الأعمال، منها صبه في أسس الأعمدة َوبين مواضع اتصال الحجارة، لترتبط بعضها بعض. وقد عثر المنقبون على بقايا منه في مواضع متعددة من الأماكن الأثرية باليمن. والرصاص ضربان: أسود، وهو الأسرب والآبار، والأبيض، وهو القلعي. وقد عرف بالانك، والأسرب، والأسرف، والصرفان وشيء مرصص مطلي به. وكانوا يطلون الأواني ويشربون بها، وذكر أن "الانك"، هو الأسرب، وهو الرصاص القلعي، أو أبيضه، أو أسوده، أو خالصه، وذكر أن الانك بمعنى الخالص، وأنهم كانوا يقولون: هذا رصاص آنك، بمعنى هذا رصاص خالص. وقال بعض العلماء: الانك هو القزدير "القصدير". وورد في الحديث: من استمع إلى مغنية صب الله الآنك في اذنيه يوم القيامة. والأسرب، الانك، وهو الرصاص، واللفظة من المعربات، عربت من أصل فارسي. والأسرف، لفظة معربة أيضاً، تعني الأنك من أصل فارسي،هو "سرب". و"الصرفان" هو الرصاص القلعي، وقيل النحاس وأرى أن الرصاص القلعي، هو رصاص استخرج من "القلعة" موضع باليمن، بوادي "ظهر" به معدن حديد، واليه نسبت السيوف القلعية. زعموا أن "الجن" تغلبت عليه.

وللحديد معدن في "رغافة"، باليمن على مرحلة من صعدة. وفي "قساس" ذكر انه جبل بديار بني نمير، وقيل بني أسد فيه معدن حديد. وذكر أهل الأخبار اسم موضع آخر عرف بوجود معدن الحديد فيه، قالوا انه بأرمينية منه السيوف القساسية. وذكر "الهمداني" أن باليمن معادن حديد غير معمولة بنقم و غمدان.

ولعل كثرة الحديد باليمن، واشتهارها به، جعل أهل الأخبار يروون إن أول من عمل السنان من حديد هو "ذو يزن" "ديرون الحميري"، وانما كانت أسنة العرب من صياصي البقر. وقد اشتهرت اليمن بسيوفها، فالسيوف اليمانية هي من السيوف الجيدة التي اكتسبت سمعة طيبة عند الجاهلين.

و"النحاس" الصفر، وقيل ما سقط من شرار الصفر، أو الحديد إذا طرق. والصفر، النحاس الجيد، وقيل هو ضرب من النحاس، وقيل هو ما صفر منه. والصفر الذهب أيضاً.

واستعملت لفظة "هاع" بمعنى سال وذاب، في نصوص المسند، استعملت لمناسبة صب الرصاص الذائب في أسس الأبنية وبين فواصل أحجار الأعمدة، لتشدها شداً محكماً.

والكبريت من المعادن الموجودة فى اليمن. و "ذمار" هي مركزه ومنها يجلب إلى سائر أعمال اليمن. وذكر انهم كانوا يكبرتون أباعرهم، يطلونها بالكبريت مخلوطاً بالدسم والخضخاض، وهو ضرب من النفط أسود رقيق لا خثورة فيه، وليس بالقطران، لأنه عصارة شجر أسود خاثر. وكانوا يستحمون في العيون التي يجري منها الماء مشوباً به، ولها راثحة الكبريت.

و "الجزع" من الأحجار التي تستعمل في الفصوص التي توضع في الأختام.

وقد تحفر عليها كتابة أو صور 1. وقد عثر على فصوص من هذا النوع في مواضع عديدة من الآثار في اليمن وفي العربية الجنوبية والغربية وفلسطين. وذكر علماء اللغة أن الجزع: الخرز اليماني الصيني، وزاد بعضهم الصيني، فيه سواد وبياض تشبه به الأعين. قيل إنهُ سمي جّزعاً، لأنه مجزع، أي مقطع بألوان مختلفة. وقد أشير اليه في شعر امرىء القيس: ومن الجزع: الجزع السماوي، وهو العشاري من وادي عشار.

وقد اشتهرت "ظفار" بالجزع. فقيل: "جزع ظفار". قيل إنه من "ظفار الحقل"، قرب صنعاء على مرحلتين منها وقيل إنه منسوب إلى "ظفار أسد" مدينة باليمنْ. وكان لعائشة عقد من جزع ظفارّ. واستخرج أيضاً من جبل شبام. ومن. معادنه معدن ضهر، ومعدن سعوان، ومعدن عذيقّة، مخلاف خولان. ومن الجزع الموشى والمسيّر، وهو في مواضع من اليمن، منها النقمي.

وعرفت اليمن بالعقيق، تتخذ منه الفصوص، يؤتى به من اليمن من معدن له على مرحلة من "صنعاء" يقال له "مقرأ" "مقرى". وهو أجود من عقيق غيرها. ويوجد عقيق أخر يستورد من الشحر. وقد تختم به. وذكر انه يستخرج من جبل شبام. ومن "الهام"، ومن "الهان"، ومن "شهارة"، ومن قساس. وذكر "الهمداني"، إن العقيق الأحمر، والعقيق الأحمر العتيقين من ألهان.

وقد عرف معدن "بقران" بالأحجار التي تستخرح منها الفصوص البقرانية. وهو في مخلاف بني نجيد من اليمن. وذكر "الهمداني"، أن "البقران" ألوان، ويبلغ المثلث بها مالاً، إذ يشترى بأسعار عالية، وهو أن يكون وجهه أحمر، فوق عرق أبيض، فوق عرق أسود. ويوجد البقران بجبل أنس، وهو ينسب إلى أنس بن ألهان بن مالك.

ومن الأحجار الأخرى: الفصوص السعوانية من سعوان، واد إلى جنب صنعاء، وهو فص أسود فيه عرق أبيض، ومعدنه بشُهارة، وعيشآن من بلد حاشد إلى جنب هنوم، وظليمة والجمش من شرف همدان. والعشاري، وهو الحجر السماوي.

ومن الفصوص الثمينة: "الدهنج" كالزمرد، حصى أخضر تتخذ منه الفصوص، وأجوده: "العدسي". ومن معادنه حرة بني سليم، وحرة النار.

ومن الجواهر الأخرى: "الزمرد"والزبرجد، و "الشذر"، قطع من الذهب تلقط من معدنه بلا إذابة الحجارة، ومما يصاغ من الذهب فرائد يفصل بها اللؤلؤ والجوهر، وقيل خرز يفصل بها، أو اللؤلؤ الصغار.

و "الجمست" معدن يستخرج من "الصفراء" على ثلاثة أيام من المدينة، وهو في جملة ما يقال له "القوارير". والبلور، ويستخرج من البراري من بين الحصى، ومن "ضهر"، و "سعوان"، ومن "عذيقة" مخلاف خولان، ومن وادي عشار، ومن الهان، وشهارة.

و "الدرة" اللؤلؤة العظيمة، وما أعظم من اللؤلؤ. ويستخرج اللؤلؤ من الخليج، وقد اشتهرت اليحرين به منذ أيام ما قبل الإسلام. وأما "الياقوت"، فأجوده الأحمر الرماني وقد استورد من سرنديب "سيلان".

والزاج، مشهور في اليمن، ويقال له الشب اليماني، وهو من الأدوية. و "الشب"، حجارة يتخذ منها الزاج وما أشبهه، وأجوده ما جلا من اليمن، وهو شب أبيض له بصيص شديد، وقد استعمل في دباغة الجلود. وقد أشير اليه في الحديث. وذكر بعض العلماء إن الزاج كثير الأصناف،وهو غير الشب، وينبعثان من معدن واحد، والشب من المعادن الأربعة التي لم تكمل صورتها، وهي الزاج والملح والنوشاذر والشب، والشب يشبه الزاج وفيه بعض حموضة، وأما الزاج فحموضته أكثر، والشب أنواع. وقد ذكروا انه ماء يقطر،فيجمد قبل أن يصل إلى الأرض، فيصير هذا الشب اليماني. ومن معدنه "إسبيل"، جبل من ديار عنس من مذحج، بقربه مقطر الشب، ومعدن الأشعر. ويظهر من أقوال أهل الأخبار انهم كانوا يستخرجونه من "غرض" الجبال، وهي شقوق تكون في الجبل، يحفرون بها، ويستخرجون منها الشب.

ويطلق العرب على الموضع الذيَ يستخرجون المعدن منه "المعدن". وقد عرفوا "المعدنِ" بأنه منبت الجواهر من ذهب ونحوه، ومكان كل شيء يكون فيه أصله ومبدؤه، نحو معدن الذهب والفضة والأشياء. ومنه حديث بلال بن الحرث أن الرسول أقطعه معادن القبيلة جلسيها وغوريها. وهي المواضع التي تستخرج منها جواهر الأرض. وهي ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة أيام، وقيل ناحية من نواحي الفرع، بين نحلة والمدينة. ومن المعادن: معدن الغاف، ومعدن النقرة، منزل لحاج العراق بين إضاخ وماوان، وبها سوق، وبها بركة وثلاثة آبار وآبار صغار للاعراب تنّزح عند كثرة الناس، وعندها تفترق الطريق. فمن أراد مكة نزل المغيثهّ، ومن أراد المدينة اخذ نحو العسيلة فنزلها،. و"العصيان" من معادن بلاد العربْ.

ومن المعادن التي لم يخصص أهل الأخبار نوع معدنها: معدن "البئر"، ومعدن النميرة "التميرة"، ومعدن "حليت"، و معدن "الخربة"، ومعدن "خزبة" ، ومعدن "خصلة"، ومعدن "الشبيكة" ، ومعدن "الشجرتين"، ومعدن "عراقيب"، ومعدن "ذي العوسج"، ومعدن "العيصان" لبني نمير، ومعدن "عيهم"، ومعدن "قساس"، وقد كشف فيه حديثاً معدن الحديد، ومعدن "الكوكبة"، ويظهر انه كان من معادن الفضة، ومعدن المزبدة، ومعدن "النقيب"، ومعدن "منضح"، وهو اسم معدن جاهلي بالحجاز عند جوبة ماء عظيمة يجتمع فيها الماء، ومعدن اللقطْ، ومعدن "ماوان"، وهو معدن مشهور، ومعدن "النصب" من معادن القبلية ، ومعدن "النقرة"، وب "بيش"، وهو مخلاف من مخاليف مكة عدة معادن. ومعدن شمام، و "بحران" ، وهو بناحية الفرع من الحجاز به معدن للحجاج بن علاط البهري، له ذكر في سرية "عبد الله بن جحش"، و "حوراء" بناحية المدينة وبها معدن البرام. ومعدن "فران"، وينسب إلى "فران بن بلي بن عمرو". ومعدن "المحجة" بين العمق وببن أفيعة. ومعدن هبود لبني نمير.

والملح من المواد التي تاجر بها الجاهليون. وتوجد معادنه في مواضع متعددة من جزيرة العرب. وقد كان بعضهم يستحضره من المياه المالحة، ومنهم من كان يستخرجه من مناجم تحفر.، فيستخرج منها. وقد ذكر "الهمداني" أسماء مواضع وجدت فيها معادن الملح. وقد أشير في "المسند" إلى الملح والى الاتجار به، والى وجود كياّلين كانوا يكيلونه ويرسلونه إلى الأسواق لبيعه فيها.

ومن أشهر مواضع الملح في اليمن: جبل الملح في بلاد مأرب، وهو ملح صاف كالبلور، وكان النبي قد أقطعه "الأبيض بن جمال".

وقد استغل التجار "مكر" في المربية الجنوبية تجارة الملج، فأخذوا يستغلون مناجمه، ويحملونه منها قوافل إلى الأسواق. ونظراً إلى سعة هذه التجارة والى كثرة الملح المستخرج، ظهرت جماعة عرفت ب "زلا" "سلا" في لغة المسند، تخصصت بكيل الملح وتعبئته في الجوالق لإرساله الى الأسواق.

الأحجار

واستفيد من الأحجار في البناء، ولاسيما في العربية الجنوبية، إذ كان الحجر مادة البناء عندهم. ويقطع من المقالع قطعاً بعضها ضخمة استخدمت في بناء الأبنية المهمة مثل: قصور الملوك والمعابد والسدود وبيوت السادات.

ولتثبت الأحجار. ولصقها بعضها فوق بعض، استخدم "الجص"، ويقال له "القص" بلغة أهل الحجاز. واللفظة معربة على ما يذكره علماء اللغة. و "النورة" حجر يحرق ويستخدم في البناء، و "البورق"، وهو حجر يحرق أيضاً، ويستعمل لتبييض الجدران، ومواد أخرى تشبه "السمنت" في قوتها وفي صلابتها وفي تثبيت الأحجار بعضها فوق بعض.

ويقال لبعض أنواع الأحجار "المسُنى"، وتعمل منها نصب السكاكين. و "الشزب"، حجر يعمل منه ألواح وصفائح وقوائم سيوف ونصب وسكاكين ومداهن وقحفة. و "الهيصمي" وهو حجر يشاكل الرخام، إلا أنه أشد بياضاً يخرط منه كثير من الآنية.

وقد نحت النحاتون من بعض الحجارة قدوراً للطبخ،عرفت عندهم ب "البرُمة". وقيل البرمة قدر نحت من حجارة أو عمل من حديد أو نحاس. و "المبرم" صانعها أو من يقتلع حجارتها من الجبال فيسويها وينحتها. وقيل للمعدن الذي تقتلع منه هذه الحجارة: "معدن البرم" و "معدن البرام". ومن هذه المعادن "قدقد" ، جبل به معدن البرام.

وكانوا يحفرون المعادن ويدخلون المنجم لاستخراج المعدن منه. وقد ينهار المعدن على حافره فيقتله. والى ذلك اشير في الحديث: "المعدن جبار والبئر جبار والعجماء جبار". ومعناه أن تنفلت البهيمة العجماء فتصيب في انفلاتها انساناً أو شيئاً، فجرحها هدر، وكذلك البئر العادية يسقط فيها انسان فيهلك، فدمه هدر. والمعدن إذا انهار على حافره فقتله فدمه هدر ومعناه إذا انهار على من يعمل فيه فهلك، لم يؤخذ به مستأجره.

النسيج والحياكة

وقد اشتهرت اليمن عند ظهور الإسلام بالنسيج والحياكة. وهي قد أصدرت أنواعاً عديدة من الأقمشة والثياب إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب اكتسبت شهرة بعيدة في كل مكان، لجودة صنعها ونفاسة مادتها. ومن ثياب أهل اليمن الناعمة الثياب التي تعرف باسم "الخال"، وهو ثوب ناعم، وضرب من البرود، وقيل برد أرضه حمراء فيها خطوط سود. و "الوصائل"، وهي ثياب يمانية حمر أو ثياب حمر مخططة، أو برود حمر فيها خطوط خضر". والعصب، وهي ضرب من البرود وضرب من الثياب، يعصب غزلها، أي يدرج ثم يحاك، وليس من برود الرقم. وقيل العصب: برود يمانية يعصب غزلها، أي يجمع ويشدّ ثم يصبغ وينسج، فيأتي موشى لبقاء ما عصب فيه أبيض، لم يأخذه صبغ وقيل برود مخططة. وورد أن "عمر بن الخطاب" أراد أن ينهى عن عصب اليمن. وقال نبئت أنه يصبغ بالبول، ثم قال: نهينا عن التعمق. ويدل هذا الخبر إن صح، على أن البرود العصب، هي البرود المشدودة المصبوغة بالعصب، ولا ينبت العصب والورس إلا في اليمن، وهو يدل أيضاً. على إن العصب صبغة تستخرج من نبات العصب، تصبغ بها البرود ونحوها من الأشياء.

والممرجل "الممرحل"، ثياب من الوشي فيها صور المراجل. ويظهر انها   

المراجل، جمع "المرجل". والمرجل "المرحل" برد يماني، ومن أمثالهم: حديثاً كان بردك مرجليأَ، أي انما كسيت المراجل حديثاً، وكنت تلبس العباء. ويظهر انها كانت موشاة وكانت من ألبسة المترفين، ففي الحديث: "حتى يبني الناس بيوتاً يوشونها وشي المراحل" ، يعني تلك الثياب، ويقال لها أيضاً المراجل بالجيم. وذكر إن "المرجل"، برد فيه تصاوير رجل وما ضاهاه.

وقد صورت بعض ثياب أهل ألجاهلية ونمقت، ومنها ثياب صلبت، أي نقشت بالصلبان. وقد نهى الرسول عن لبس هذه الثياب، وذكر انه نهى عن الصلاة بالثوب المصلب.

والمقطعات من الثياب كل ما يفصل ويخاط من قمص وجباب وسراويلات وغيرها، وما لا يقطع منها كالأردية والأزر والمطارف والرياط التي لم تقطع وانما يتعطف بها مرة ويتلفع بها أخرى. وقيل القصار من الثياب، وبرود عليها وشي.

والحبرة،وهي ضرب من ضروب البرود كذلك، وهي البرود الموشاة المخططة. وقيل ضرب من برود اليمن منمر. وذكر أن الحبير الثوب الجديد الناعم. وفي حديث اًبي ذر: الحمد لله الذي أطعمنا الخمير وألبسنا الحبير. وفيه دلالة على أن "الحبير" من ألبسةَ المتمكنين،َ وليس في وسع الفقراء اقتناؤها.

والمعاجر، من ضروب الثياب المصنوعة في اليمن. والمعجر ثوب تعجر به المرأة،أصغر من الرداء وأكبر من المقنعة. وقيل ثوب يمني يلتحف به ويرتدى. و "السيراء"، وهي ثياب مخططة، ونوع من البرود، فيه خطوط صفر، أو يخالطه حرير والذهب الخالص، وقيل ثوب مسير فيه خطوط تعمل من القزّ كالسيور، أو خطوط من الذهب. وهي من حلل الأغنياء والكبراء. روي أن "أكيدر" أهدى إلى الرسول حلة سيراء، وفي حديث عمر: رأى حلة سيراء تباع.

والثياب السحولية، أثواب كرسف من ثياب "سحول" موضع باليمن تنسج به الثياب السحولية، وتحمل منه إلى سائر الأنحاء. وهي ثياب قطن بيض. قال طرفة: وبالسفح آيات كأن رسومها  يمان وشته ربذة وسحول

وذكر إن السحل ثوب أبيض رقًيق من القطن، أو من الكرسف من ثياب اليمن. والسحيل الخيط غير مفتول، والغزل الذي لم يبرم، فأما الثوب، فأنه لا يسمى سحيلاً ولكن يقال له: السحل، وقيل: السحيل الخيط غيرمفتول، ومن الثياب ما كان غزله طاقاً واحداً. والمبرم المفتول الغزل طاقين. و "المتأم" ما كان سداه ولحمته طاقين ليس بمبرم ولا مسحل. والسحل والسحيل الحبل الذي على قوة واحدة، والمبرم الذي على طاقين. وذكر إن السحيل من الحبل الذي يفتل فتلاً واحداً كما يفتل الخياط سلكه، والمبرم أن يجمع بين نسجتين فيفتلا حبلاً واحداً. ولما توفي الرسول، كفن في ثلاثة أثواب سحولية، ويروى في ثوبين سحوليين.

وقد اشتهرت عدن بصنع البرود كذلك. ورد في الحديث أن الرسول كان قد استعمل هذه البرود. وقد عرفت ب "العدني" وب "العدنيات". وهي ثياب كريمة نسبت إلى عدن، واشتهرت برياطها، فقيل: "رياط عدنيات".

وقد اشتهرت قطر بنوع من الثياب يقال لها: الثياب القطرية، كما اشتهرت بنوع من النجائب: هي "النجائب القطريات". وذكر أنها برود من غليظ القطن، أو هي برود خمر لها أعلام فيها بعض الخشونة، وجاء في الحديث أن الرسول توشح بثوب قطري.

واشتهرت "هجر" بثيابها كذلك، واعتبرت من الملابس الفاخرة التي تستحق الإهداء. ولما أرسل الرسول "سليط بن عمرو العامري" إلى "هوذة بن عليّ الحنفي"، أجاز هوذة "سليطاً" بجائزة وكساه أثواباً من نسج هجر.

وقد اشتهرت برود وثياب اليمن بجودة النسح وبحسن الصنعة والدقة. كما امتازت بألوانها وبوشيها، والوشي النمنمة والنقش. ومنها المرحل، وهي برد فيه تصاوير رحل، والمرط المرحلة، ومنه الحديث كان يصلي وعليه من هذه المرحلات، يعني المرط المرحلةْ.

ومن برد اليمن المعروفة "الخمس"، ويقال لها أيضاً الخميس. ذكر انه انما قيل للثوب خميس، لأن أول من عمله ملك باليمن يقال له الخمسْ، أمر بعمل هذه الثياب فنسبت اليه. و "الفوف" من برود اليمن، وهي ثياب رقاق موشاة.

ولأهل المعافر ثياب جيدة، وهم يستعملون "السكينية" في رؤوسهم، وهم من حمير، وملوكهم "آل الكرندي".

واشتهرت "صحار"، قصبة عمان مما يلي الجبل، بثياب عرفت بها، فقيل لها "ثوب صحاري"، وثياب صحارية. وفي الحديث إن رسول الله كفن في ثوبين صحاريين.

وقد اشتهرت "الحيرة" بنوع من الأنماط، تزين بها الرحال، حتى عرف بها قيل: "الحاري".

واستفيد من لحاء الخزم في صنع الحبال، ويقال لصانعها "الخزام"، وسفّ الخوص على هيأة سفرة، ويقال لذلك السمهة. وصنعت الحصر من بردى وأسل ومن الخوص. وقيل للحصر المنسوج من سقف النخل "الفحل". واما الحصير المنسوج من الدوم، فيقال له "الطليّل". والبارية الحصير. قال بعضهم: الحصير المنسوح من القصبْ.

وتاجر أهل اليمن ب "الخضاب"، ويكون ذلك بالحناء، واذا كان بغير الحناء قيل: صبغ شعره. وذكر أهل الأخبار أن "عبد المطلب" أول من خضب بالسواد من العرب، وكل ما غير لونه، فهو مخضوب. وكانوا يخضبون به الأطراف كذلك. واختضبوا ب "الوسمة" كذلك. وكانوا إذا آرادوا الحصول على لون أسود قاتم ليبدو الشعر به أسود خلطوا الحناء بالوسمة. والحناء ورق نبات، وكذلك الوسمة، يدقان حتى يصران كالطحين الناعم جداً، أو يطحنان، ثم يعجن الطحين بالماء فيخضب به. ويخلطون بالحناء دقيق ورق البشام يخود الشعر.

الفصل الثالث عشر بعد المئة
حاصلات طبيعية

الصبغ

والصبغ ما يلون به. وقد استخرج أهل الجاهلية ألأصباغ من بعض النبات، لاستعمالها في الصناعة أو في البناء وفي صبغ الانسجة. واشتهرت مواضع من جزيرة العرب بحذقها في الصباغة،.وباتقانها استخراج الصبغ من النبات وبعض المعادن.

وقد كانت سلعة مطلوبة رائجة، لأنها جيدة ثابتة لا تتغير بسرعة. وقد عصفر الجاهليون ثيابهم بالعصفر. وهو نبات ينيت بأرض العرب، سلافته الجريال، صبغ أحمر وبزره "القرطم"، الذي يصبغ به منه. وصبغوا ب "الفرصاد" وهو صبغ أحمر ، وب "الفوّة"، عروق يصبغ بها. وقيل هي عروق حمر دقاق لها نبت يسمو في رأسه حب أحمر شديد الحمرة كثير الماء يكتب بمائه وينقش. قال الأسود بن يعفر: جرت بها الريح أذيالاً مظاهرة  كما تجر ثياب الفوة العـرس

واستعملت "الفوة" دواءً لمعالجة الجلد.

و "الاحريض" العصفر، يقال حرض ثوبه إذا صبغه بالاحريض.

و "النكع" اللون الأحمر، وزهرة حمراء يصبغ بها. و "النكعة" ثمر النقاوى، وهو نبت أحمر، ومنه الحديث: كانت عيناه أشد حمرة من النكعة. وهي صمغة القتاد "القتاد". و "الصِرف" صبغ أحمر تصبغ به شرك النعال. و "الك" نبات يصبغ به، وهو صبغ أحمر يصبغ به جلود البقر والمعز وغيرها، و"اللكاء" الجلود المصبوغة بالك.

وأكثر أصباغهم، هي أصباغ أخذت من النبات. وهو شيء طبيعي لسهولة استحصال الأصباغ من النبات، ولتوفره لديهم في الحضر وفي البرّ. أما الأصباغ المستخرجة من المعادن، فهي أقل بكثير من الأصباغ المستخرجة من النبات، لما يحتاج استخراج الأصباغ منها الى مهارة وحذق وتقدم في الصناعة والعلم.

العصير

والعصير، هو ما يحلب من الشيء إذا عصرته، وهو العصارة. ويعصر كل ماله دهن أو شراب أو عسل، وأمثاله. و "المعصرة" موضع العصر، والمعصر، ما يعصر فيه العنب، والمعصار الذي يجعل فيه الشي فيعصر حتى يتحلب ماؤه.، والعواصر، ثلاثة أحجار يعصر بها العنب، يجعلون بعضها فوق بعض.

وتعصر الأشياء للشرب، كالخمور والآشربة، أو للتداوي، لاستعمال العصير دواءَ يتداوى به، أو لاستخراج الدهن من المعصور. وقد استعمل المزارعون المعاِصرَ لعصر الأعناب أو لاستخراج الزيوت من البذور وتسمى "المعصرة" "موهت" في المسند، من أصل "وهت". ومن معاني هذه اللفظة الضغط وشدة الدوس،وهي تستعمل في الحقول كما تستعمل في البيوت وفي محلات الاتجار بالزيوت، و "القطران"، عصارة الأبهل والأرز، وهو ثمر الصنوبر، يطبخ فيتحلب منه، ثم يهنأ به الإبل. ويتخذ القطران من الإثرار، وهو شجر يقتدح سريعاً إذا كان يابساٌ. كما يتخذ من العرعر.

والزفت، كالقير، وقيل هو القار، والزفت المطلى به، وهو غير القير الذي يقير به السفن، انما هو شىء أسود أيضاً يمتن به الزقاق الحمر. وقد نهي في الحديث عن المزيت والمقر، وألزفت أيضاً دواء. وهو شيء يخرج من الأرض يقع في الأدوية. وذكر أهل الأخبار، انهم كانوا يستخرجون "الزفت" من أعجاز شجر "الأرز" وعروقه، وانهم كانوا يستصبحون بخشب الأرز. وقد أشر اليه في الحديثْ. وقد استخرجوا الزفت من شجر "التنوب" وغيره من ضروب الصنوبر، وهو قريب من دهن القطران.

الزيوت والدهون

ويستعمل الحضر الزيت في أكلهم وفي تزييت شعرهم، وفي أمور أخرى.

وهم يحصلون عليه من النبات بعصر لب الثمر المتشبع بالزيت. واليمن هي على رأس الأمصار العربية في انتاج الزيت. زيت الزيتون وغيره، وقد كانت تصدره إلى الحجاز والى مواضْع أخرى من جزيرة العرب. والزيت في اللغة دهن، وهو عصارة الزيتون. ويعد التزييت، أي التدهن بالزيت الجيد المطيب من علائم النعيم والرفاه.

و "السليط"، الزيت عند عامة العرب وعند أهل اليمن دهن السمسم، وقد ذهب بعضهم إلى العكس. وقيل هو كل دهن عصر من حبّ. وذكر أن دهن السمسم هو السريج والحل. و "السيرج"، هو "الشيّرج"، دهن السمسم ، و "الحَل"، هو الشيرج، أي دهن السمسم.

ومن الدهون، دهن يستخرجه أهل اليمن من "الكاذى". والكاذى شجر شبه النخل في أقصى بلاد اليمن، وطلعه هو الذي يصنع منه الدهن. وذكر أنهم كانوا يقلعون طلع "الكاذى" قبل أن ينشق، فيلقى في الدهن ويترك حتى يأخذ الدهن ريحه ويطيبْ. ودهن الغار، دهن يستخرج من شجر الغار، وهو شجر الغار، وهو شجر له حمل اصغر من البندق أسود يقشر، له لبّ يستخرج منه الدهن، وورقه طيب الريح يقع في العطر، ويستعمل ثمره في الأدوية. ويستصبح بدهن الغار.

واستخرج أهل "الشوع" دهناً منه، كما يستخرج أهل السمسم دهناً منه.

وذكر إن "الشوع" شجر البان، الواحدة "شوعة". وهو يريع ويكثر على الجدب وقلة الأمطار، وهو مطلوب مرغوب، فكان الناس يسلفون في ثمره الأموال. و "البان"، شجر يستخرج من حبّ ثمره دهن طيب يستعمل في التدهن وفي معالجة أمراض عديدة. وقد ذكر في شعرء "امرىء القيس".

وزيت مقتت، إذا أغلى بالنار ومعه أفواه للطيب، ودهن مقتت مطيب طبخ فيه الرياحين، أو خلط بأدهان طيبة. والتقتيت جمع الأفاويه كلها في القدر وطبخها.

واستخرج من موم العسل شمع، وهو فى ما يستصبح به. ويذكر علماء اللغة أن "الموم" لفظة مولدة جاءت من الفارسية، وأن لفظة "الشمع" لفظة مولدة كذلكْ. ونظراً لوجود العسل بكثرة في اليمن وفي "السراة" وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب في الجاهلية، فلا استبعد استخدام أهل الجاهليين شمع العسل لصنع الشموع للاستصباح ولأغراض أخرى.

وإلحرض، الأشنان تغسل به الأيدي على أثر الطعام. وشجرته ضخمة وربما استظل بها، ولها حطب وهو الذي يغسل به الناس للثياب، وقد مدح الأشنان النابت بجو الخضارم باليمامة. والحرّاض من يحرقه للقلي، أي الذي يوقد على الحرض ليتخذ منه "القلي" للصباغين. يحرق الحمض رطباً ثم يرش الماء على رماده فينعقد فيصير قليّاً. قال عدي بن زيد العبادي: مثل نار الحراض يجلو ذرى المز  ن لمن شامـه إذا يسـتـطـير

و "القصيص" نبت ينبت في أصول الكمأة، يجعل غسلا" للرأس. وقد ذكر في شعر عدد من الشعراء، منهم امرؤ القيس، وإلأعشى وعدي بن زيد العبادي.

الصمغ

الصمغ في تعريف علماء العربية: غراء القرظ، وهو الصمغ العربي، ولكل شجر صمغ، وهو نضحه فيسيل منه. وكانوا يشرطون الشجر ليخرج منه غراءه، أو كانوا يعصرون بعض النبات، فيخرج منه عصير، يستخرجون منه صمغاً. ومن الأشجار التي استخرجوا منها الصمغ "الصعاب"، يشرط فيخرج منه غراء، وهو شيء مر"، ينعقد كالصبر. واستخرجوا صمغاً من "القرظ"، وهو شجر معروف في بلاد العرب، استخرجوه من عصارته، استفادوا منه في الطب، دعاه الأطباء الاسلاميون: "أقاقيا". و "الصرب"، صمغ أحمر يستخرج من الطلح، وقيل هو صمغ الطلح والعرفط، وهي حمر كأنها سبائك تكسر بالحجارة.

والعرب تسمي صمغ العرفط عسلاً لحلاوته وعسبل اللبنى طيب، وهو صمغ ينضح من شجرة يشبه العسل لا حلاوة له،.ويتبخر به. وعسل الرمث شيء أبيض يخرج منه كالجمان.

و "الأيدع"، صمغ أحمر يؤتى به من "سقطرى" ويتداوى به. داووا بر" الجراح. وذكر إن الأيدع صبغ أحمر، وهو خشب البقم. وقيل هو دم الأخوين. وقيل الأيدع شجر له حبّ أحمر يصبغ به أهل البدو ثيابهم. وان البقم يحمل في السفن من بلاد الهند. وقد اشتهرت جزيرة سقطرى بأحسن أنواع الأيدع والصبر، حتى قيل: صبر سقطرى. وذكر إن "دم الأخوير." هو "القاطر المكي"، وهو عصارة حمراء.

وقد عرفت جزيرة العرب بتصديرها بعض أنواع الصمغ واللثى، وهو شيء يسقط من شجر السمر، أو هو ماء يسيل من الشجر كالصمغ، فإذا جمد، فهو صعرور. وقيل شيء يسيل من الثمام وغيره، وللعرفط لثى حلو يقال له المغافير. والمغافير، هو صمغ شبيه بالناطف ينضحه العرفط، وقد يكون المغفور للعشر والسلم والثمام والطلح وغير ذلك. وورد إن المغافير: صمغ الرمث والعرفط، وذكر أن المغافير عسل حلو مثل الرب إلا انه أبيضْ.

و "العلك"، المضغ، وصغ الصنوبر والارزة والفستق والسر والينبوت والبطم، وهو أجودها. يمضغ في الفم، للتسلية ولمنع العطش بظهور اللعاب في الفم، ولأغراض طبية. وقد اشتهر علك الضرو، المستخرج من شجر الضرو، الذي ينبت باليمن. ويعالج به في الطب.

و "الكندر" اللبان، وهو ضرب من العلك، يستخدم في الطب. واللبان شجيرة شوكة لا تسمو أكثر من ذراعين ولها ورقة مثل ورقة الآس، وثمره مثل ثمرته، وله حرارة في الفم. وهي من الصمغ. وذكر أن اللبان شجر الصنوبر. وذكر أن لحب ثمر البان دهن طيب، وحبه نافع لمعالجة جملة أمراض جلدية وأمراض داخلية. وذكر أن "الشوع"، شجر البان، أو ثمره. قيل إنه يربع ويكثر على الجدب وقلة الأمطار، والناس يسلفون في ثمره الأموال. وأهل الشوع يستعملون دهنه، كما يستعمل أهل السمسم دهن السمسم. وهو جبلي، وقبل ينبت في السهل والجيل.

وورد أن الكندر لا يكون إلاّ بالشحر من اليمن، ومنابت شجره الجبال، وقد استعمل دواء" لمعالجة أمراض عديدة.

والصبر، أنواع فيه العربي والأسقطري، وأجوده "الأسقطري". وهو عصارة شجر، تترك حتى تثخن، ويشمس حتى يجف. وفي اليمن نوع منه أحمر ملمع بصفرةْ.

و "الضجاج" مثل شجر "اللبان" يكون في أرض عمان. وهو صمغ أبيض تغسل به الثياب، فينقيها مثل الصابون. وذكر أنه ثمر نبت أو صمغ تغسل به النساء رؤوسهن.

والمقل، يستخرج من شجر يشبه الكندر، طيب الرائحة، وأكثر نباته فيما بين الشجر وعمان، وذكر أن المقل المكي، هو صمغ الدرم، لأن الدوم هناك يدرك ويصمغ.

و "الدبس" عسل التمر وعصارته، وهو ما يسيل من الرطب. ويقال له: "الصقر" في لغة أهل يثرب، وذكر انه ما سال من جلال التمر. وأطلق أيضاً على تحلب من الزبيب والعنب. و "الصقر" عند أهل البحرين ما سال من جلال التمر التي كنزت وسدك بعضها على بعض في بيت مضرج تحها خواب خضر، فينعصر منها دبس خام كأنه العسل.

والصبيب عصارة ورق الحنا والعصفر، وقيل هو العصفر.

الدباغة

والدباغة حرفة الدبّاغ، دبغ الإهاب بما يدبغ به. والإهاب ألجلد،من البقر والغنم والوحش، أو هو ما لم يدبغ. وقد استخدم الدباغون في ذلك مواد مختلفة، بعضها بدائية، وعالجوا الجلد قبل دبغه لترقيقه وتنظيفه وصقله. وقد اشتهرت في ذلك جملة مواضع، منها: مدينة "جرش" وهي من مخاليف اليمن من جهة مكة، وقد نسب إليها الأدم المعروف ب "أدم جرش"، و "أدم جرشي"، وهي مدينة تسقى بالآبار، يستخرج منها الماء بالدلاء، على الإبل، وقد فتحت في حياة النبي في سنة عشر للهجرة صلحاً على الفيء، وأن يتقاسموا العشُر ونصف العشرْ. وقد اشتهرت بإبلها كذلك، التي نسبت إليها. ومنها "صعدة"، في مخلاف خولان، وكانت تسمى في الجاهلية "جماع"، وكان بها قصر قديم ضخم. ذكر "الهمداني" انها كورة بلاد خولان وموضع الدباغ في الجاهلية، وذلك انها في موسط بلاد القرظ. وقد اشتهرت أيضاَ بالنصال. ونعتها بأنها "بلد الدباغ في الجاهلية الجهلاء، وهي في موسط بلد القرظ، ربما وقع فيها القرظ من ألف رطل إلى خمسمائة بدينار مطوق على وزن الدرهم القفلة".

والأدم من السلع المهمة المشهورة في تجارة أهل الجاهلية. والأديم، الجسد الذي قد تمّ دباغه. وقيل الجلد ما كان أو أحمره أو مدبوغه، وقيل هو بعد الافيق، وذلك إذا تمّ واحمر. ويدخل في الحرف التي تقوم على تحويل الجلد الى سلع، مثل الأحذية، وصنع القباب. التي تضرب للملوك وللسادة وللاشراف امارة على الرئاسة والسيادة. وتصبغ جلودها بلون أحمر في الغالب. وكانت غالية، لذلك لم يستعملها إلا أصحاب الجاه والمال. فكان سادة مكة إذا نزلوا منزلاً ضربوا قباباً من أدم، وكان حكام عكاظ والسادات الذين يحضرون السوق، يضربون لهم قباباً، وأما سائر الناس، فيضربون لهم بيوت الشعر. وبيوت الشعر أرخص، ثمناً من قباب الأدم.

وقد اتخذ العرب بيوتاً من جلد عرفت ب "القشاعة" و "القشوع"، وذكر بعضهم أن "القشاعة" بيت من أدم. وربما اتخذوا من جلود الإبل صواناً للمتاع. وذكر أن البيت من أدم، هو "الطراف". وهو بيت من بيوت الأعراب ليس له كفاء، قال طرفة بن العبد: رأيت بني غبراء لا ينكرونـنـي  ولا أهل هذاك الطراف الممدد 4 

وقد اشتهرت اليمن بدباغة الجلود وبالاستفادة من هذه الجلود في أغراض مختلفة، وبتصدير الجلود إلى أماكن أخرى من جزيرة العرب. ولا تزال اليمن تصنع الجلود على الطريقة القديمة، وتصدرها إلى الخارج، وقد ذكر "ابن المجاور" إن الأديم يدبغ في جميع اقليم اليمن والحجاز، وانهم يبيعونه طاقات بالعدد، وقد اشتهرت مكة يدبغ الجلود كذلك، جلود الجمال والبقر والغزلانْ. واشتهرت الطائف في دباغة الجلود كذلك، وذُكر إن مدابغها كانت. كثيرة، وأن مياهها كانت تنساب الى الوادي فتنبعث منها روائح كريهة مؤذية. وكانوا يدبغون بصورة خاصة الأدم الثقيل المليح. وذكر "الهمداني"، انها "بلد الدباغ، يدبغ بها الأهب الطائفية المعروكة".

وقد ذكر علماء اللغة أسماء مواد كثيرة استعملت في دباغة الجلود، وذكروا أيضاً طرقاً متعددة في كيفية الدبغ وفي أسماء الجلود المدبوغة والمواد التي تصنع من مختلف الجلود. والواقع إن اعتماد العرب الجاهلين على الجلود كان كبيراً، لأنها كانت متيسرة لديهم، وهي أسهل في العمل من الخثسب أو الحديد أو الأشياء الأخرى بالنسبة إلى عمال جزيرة العرب في ذلك العهد.

و "القرظ" من أهم ما استعمل في دباغة الأدم،يجلب فيطحن بحجر الطواحين، ثم يستعمل في الدباغة. ومن "العقيق" يجلب القرظ إلى مكة لاستعماله في الدباغة. وقد أشار بعض الأخباريين إلى ضخامة حجر الطواحين التي يطحن بها القرطْ. واستعمل "الغرف" في الدباغة كذلك.وعرفت الجلود التي تدبغ به بالجلود الغرفية، ومنها جلود يمانية وجلود بحرانية. وسقاء غرفي دبغ بالغرف. وكذلك مزادة غرفيه.

ومن المواد التي استعين بها في دباغة الجلد: "الدهناء". وهي عشبة حمراء لها ورق عراض يدبغ به، و "القرضم" قشر الرمان، ويدبغ به. و"الشث" نبت طيب الريح مر الطعم يدبغ به، قيل ينبت في جبال الغور وتهامة ونجد. وذكر بعضهم "الشب" في جملة ما كان يدبغ به. و "الأرطى" شجر دبغ به، وعرف الجلد الذي يدبغ به بي "المأروط" وب "الأرطى"، وب "أديم مرطى".

وعرف الجلد الذي يدبغ بغير "ألقرظ" ب "الجلد الحوري". و "الأفيق" الجلد الذي لم يتم دباغه، أو الأديم دبغ قبل أن يخرز أو قبل أن يشق. وقيل هو ما دبغ بغير القرظ والأرطى وغيرهما من أدبغة أهل نجد، وقيل هو حين يخرج من الدباغ مفروغاً منه، وقيل رائحته، وقيل ما يكون من الجلد في الدباغ.

الخمور

وقد اتخذوا من التمور. والكروم والشعير والذرة خموراً، وذكر إن الخمر ما أسكر من عصير العنب خاصة. وتستعمل لفظة "الشراب" في معنى الخمر كذلك. وفي الحديث حرمت الخمر وما شرابهم يومئذ إلا الفضيح البسر والتمر، ونزل تحربم الخمر التي كانت موجودة من هذه الأشياء لا في خمر العنب خاصة. وأما ا النبيذ، فهو ما نبذ من عصير ونحوه، كتمر وزبيب وحنطة وشعير وعسل، يقال نبذت التمر والعنب، اذأ تركت عليه الماء ليصير نبيذ، وقد ينبذ في وعاء عليه الماء ويترك حتى يفور فيصير مسكراً. وسواء أكان مسكراً أو غير مسكر، فإنه يقال له: نبيذ، ويقال للخمر المعتصر من العنب نبيذ، كما يقال للنبيذ خمر.

ويظهر من كتب الحديث، إن أكثر خمور أهل المدينة هي خليط من البسر والتمرْ. وأن منهم من كان يخلط الزبيب والتمر، أو الرطب والبسر. وكانوا ينتبذونها في الدباء، والمزفت، والحنتم، والنقير، والمقير.

وذكر أن الخليفة "عمر" حدد المواد التي تعمل منها الخمور بخمسة أشياء: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل. وجعل الخمر ما خامر العقل وقد ذكر هذه الأشياء لأنها كانت هي الشائعة المعروفة عند اهل مكة ويثرب في ذلك العهد على ما يظهر، لأن هناك خموراً عملت من غير هذه الأشياء.

وكان لأهل اليمن شراب عرف عندهم ب "البتع"، وهو من العسل ينبذ حتى يشتد، وذكر أنهم كانوا يطبخون العسل حتى يعقد، فيكون البتع. وشراب عرف ب "المزر"، وهو من الذرة. وخطب "أبو موسى الأشعري"، فقال: "خمر المدينة من البسر والتمر، وخمر أهل فارس من العنب، وخمر أهل اليمن البتع، وهو من العسل، وخمر الحبش السكركة". وقد ذكر "ابن عمر" الأنبذة، فقال: "البتع نبيذ العسل: والجعة نبيذ الشعير، والمزر من الذرة، و اسكر من التمر، والخمر من العنب !ا 3. وذكر أن المثر نبي ذ الذرة والشعير والحنطة والحبوب، وقيل نبيذ الذرة خاصة". ويظهر أن اطلاق المزر على أنبذة الحبوب، هو من باب التجوز والتعميم، وأن الأصل هو نبيذ الذرة.

و "الضري"، الماء من البسر الأحمر والأصفر يصبونه على النبق فيتخذون منه نبيذاً.

وقد اشتهرت "درْنى" بخمورها المصنوعة من الكروم، وقد ذكرها "الأعشى" في شعره. وكان الأعشى، يزورها، وذكر إنها هي "أثافت" التي ذكرها "الأعشى" أيضاً في شعره، فقال: أحب أثافِتَ وقت القطاف  ووقت عصارة أعنابهـا

وكان كثيراً ما يزورها، وله بها معصر للخمر يعصر فيه ما أجزل له أهل أثافت من أعنابهم. وورد انها من قرى اليمامة، كما ذكرت ذلك في موضع آخر. من هذا الكتاب وأنا لا أستبعد استخدام الجاهليين للماء في ادارة المطاحن، وقد ذكر "الهمداني" أن أهل اليمن بأودية: سربق، وشُراد، وبنا، وماوة، والموفد، وجمع، ويصيد، وأودية رعبن، ووادي ضهر، كانوا يديرون مطاحنهم بالماء. ولم يشر "الهمداني" الى تأريخ استعمال هذه المطاحن التي تدار بالماء، ولكني لا أستبعد أخذهم هذه الصناعة من الجاهليين، وقد أشير إلى الطحن والمطاحن والطحين في نصوص المسند. ورد في بعضها إن الحكومات كانت تتقاضى الإتاوة من الناس إما نقدا، وإما "ورقاً"، أي ذهباً سبائك، وإما "طحناً" أي طحيناً، وهو الدقيق. ويقال له "طحنم" و "طحن" في المسند، وإما "دعتم"، أي بضاعة، بمعني مواد عينية. فذكر "الطحين" في هذه النصوص، يشير إلى وجود المطاحن بكثرة في اليمن، وربما كانت تصدر الفائض منه إلى الخارج.

الفصل الرابع عشر بعد المئة
الحرف

من الحرف المتداولة بين الجاهليين النجارة والحدادة والحياكة والنساجة والخياطة والصياغة والدباغة والبناء ونحوها من حرف يحترفها الحضر في الغالب. اما الأعراب فقد كانوا يأنفون من الاشتغال بها،وينظرون إلى المشتغلين بها نظرة احتقار وازدراء لأنها في عرفهم حرف وضيعة، خلقت للعبد والرقيق والمولي، ولا تليق بالحرّ، حتى إن الشريف منهم وذا الجاه، كان لا يحضر وليمة يدعوه إليها شخص من أصحاب هذه الحرف، استنكافاً وازدراءً ؛ لأنه ليس في منزلته ومكانته. وقد كان عمل الرسول كبيراً في نظر رؤساء القوم يومئذ، حينما جوّز حضور طعام الخياط والصائغ وامثالهما، وكان يحضر منازلهم، فعدّ القوم ذلك عملاً غير مألوف ومخالفاً للعرف والتقاليد.

وقد كان أكثر أهل القرى ينظرون إلى الحرف والمحترفين بها نظرة ازدراء كذلك، ويأنفون لذلك من التزاوج معهم، ويعيرون من يتزوج من امرأة أبوها قين أو نجار أو دباّغ أو خياط، ويلحق هذا التعبير الأبناء كذلك. وينظرون هذه النظرة إلى المشتغلين بزراعة الخضر مثل البقول في الغالب، ولا تزال هذه النظرة معروفة في جزيرة العرب. وفي أماكن أخرى خارج حدود هذه الجزيرة كالعراق. وهذه هي مشكلة من جملة المشكلات التي أثرت في الاقتصاد العربي وفي الحياة الاجتماعية، وإن كانت قد أخذت تخف في هذه الأيام.

ولم يكن العرب وحدهم ينظرون إلى الحرف والمشتغلين بها نظرة ازدراء، بل كانت شعوب العالم كلها تقريباً تنظر ألى طبقة أصحاب الحرف مثل هذه النظرة؛ لأن الحرف هي من أعمال الطبقات الدنيا من سواد اناس الرقيق والموالي. اما الحُر، فلم يخلق لها ولم تخلق له. كذلك كانت نظرة قدماء اليونان إلى هذه الحرف، لأنها عندهم من الأعمال التي يقّوم بها سواد الناس ورقيقهم.

وهذه الحرف لم يختص بها الجاهليون وحدهم،بل كانت عامة معروفة ومتداولة عند جميع الشعوب لتلك العهود. وهي لبساطتها وبداءتها متشابهة،لا تجد اختلافاً في آلاتها وادواتها المستعملة عند الشعوب. فأدوات النجار تكاد تكون واحدة، سواء أكانت عند النجار العربي الجاهلي، أو النجار العبراني، أو النجار النبطي. وكذلك قل عن أدوات الحداد والصائغ وغيرها من الطبقات العاملة التي ترتزق وتعيش على هذه الحرف التي تعتمد على اليد.

وتجد في كتب اللغة والأدب وأمثالها ألفاظاً عديدة معربة، استعملها أهل الجاهلية وذلك بتعريبها ونقلها من أصول عجمية معروفة ، فيها الفارسي والارامي واليوناني واللاتيني والحبشي والنبطي. وهي مما يدخل في باب الآلات والأدوات والمآكل والملابس والبيت والثقافة والعلم، دخلت العربية، لأنها كانت مصطلحات متداولة عند أهلها معروفة، أخذها العرب منهم باحتكاكهم وبتأثرهم بهم، وقد صقل بعضها وهذب ووسم بسمة عربية، وأدخل على بعض آخر بعض التعديل ليتناسب مع أسلوب النطق العربي، وقيل بعض آخر على نحو ما كان في أصله واستعمل في العربية حتى صار في ظن من لا وقوف له على العربية انه عربي صميم.

والألفاظ المعربة التي نعنيها، قديمة، دخلت قبل الإسلام بمئات السنين. وقد استعملتها الالسن وتداولتها، وصارت بهذا الاستعمال ألفاظا عربية مستساغة. ومنها ما هو مستعمل حتى الآن. وجمع هذه الكلمات وضبط معانيها وتبويبها وتصنيفها، عمل مهم نافع أرجو أن يتهيأ له أصحاب العلم والاختصاص، فبها نتمكن من الوقوف على الاتصال الفكري الذي كان بين العرب وغيرهم، وبها نتمكن ايضاً من الوقوف على مدى الاتصال ومقدار تغلغله في جزيرة العرب. وبامثال هذه الدراسة سنتمكن أيضاً من تكوين صورة علمية صحيحة للتأريخ الجاهلي وهي صورة ستغير، ولا شك، كثيراً من هذه الاراء القديمة عند كثير من الناس عن الجاهليين، تكونت من دراستهم لروايات أهل الأخبار عن العرب قبل الإسلام.

ولم يخفَ أمر هذه المعربات عن قدماء علماء اللغة، فقد أدركوا وجودها ودخولها في العربية قبل الإسلام، واّلفوا فيها، وأشاروا إليها في معجمات اللغة ووضع بعضهم بحوثاً في معربات القران وهي تفدنا فائدة كبيرة بالطبع في الوقوف على الصلات الثقافية التي كانت بين العرب والعالم الخارج قبل الإسلام، وإن كانت تلك البحوث والمؤلفات قد كتبت بطريقة ذلك العهد، استناداً إلى الروايات دون اثبت منها وتوفر أصولها تتبع مواردها بدراسة اللغات الأجنبية ومقارنتها بالأصل. وهي طريقة أوقعتهم في أغلاط، ولكنها، افادتنا مع ذلك فائدة كبيرة في معرفة هذا الغريب الدخيل، وفي تكوين رأي في الدراسات اللغوية عند علماء اللغة القدامى.

وقد عثر الرحالون والمنقبون على أواح من الخشب وعلى شبابيك ومواد خشبية أخرى في اليمن وفي حضرموت منقوشة نقشاً بديعاً ومحفورة حفراً يدل على دقة الصنعة وإتقان في اله هل. وهي شاهد على تمكن النجار من مهنته، وعلى قدرته فيها، وعلى حسن استعماله ليده عليها في استخدامها للأدوات النجارية في صنع النفائس والطرائف من الخشب.

والحرف وراثية في الغالب، يتعلمها الابن عن والده، وتنحصر في العائلة فتنتقل من الآباء الى الأبناء. ولا يسمح لغريب أن يتعلم أسرار الحرفة وأن يقف عليها وخاصة في الحرف المريحة وفي الحرف التي تحتاج إلى مهارة ودقة وذكاء خوفاً من وقوع المنافسة، وانتقال سر العمل والنجاح إلى شخص غريب فينافس أصحاب الحرفة في عملهم وينتزع منهم رزقهم. لذلك حوفظ على أسرار المهنة ، ولم يبح باسارها حتى لاقرب الناس اليهم، وفي حالة اكتشاف رجل طريقة جديدة غير معروفة في حرفته، فإنه يحتفظ بسره حتى لا يتسرب إلى الغرباء ?منهم من لا يعلّم حتى أولاده سر المهنة إلا في حالة شعوره بعجزه عن العمل أو بقرب وفاته ودنوّ أجله، خشية انتقال السر منهم إلى غيرهم، فينافسونهم على رزقهم ومصدر قوتهم من هذا السر.

وينضم أصحاب الحرف بعضهم إلى بعض مكونين "صنفاً"،أي طبقة خاصة، تتعاون فيما بينها تعاون النقابات الحرفية والمهنية في الوقت الحاضر، يتولى رئاستها أبرز رجال "الصنف". وإذا مات أحدهم تعاونوا في تشييعه ودفنه وفي مساعدة أهله ومؤاساتهم. وذلك لحماية رجال الحرفة من كل سوء قد يقع عليها وللمحافظة على حياتهم، ولا يسمح "الصنف" بدخول غريب بينهم، لأنهم جماعة ورثت حرفتها، فلا يجوز لغريب مزاحمتهم فيها.

ويتجمع رجال بعض الحرف في أماكن معينة،كما هو الحال في الوقت الحاضر، كأن يتجمع الحدادون في منطقة معينة، والصاغة في حي، والصفارون في حي والنجارون في حي، وذلك للتعاون فما بينهم، وتنسب تلك المحلات اليهم.

وقد تشتهر مدينة ما بحرفة من الحرف، فيكون لمنتوجها شهرة واسعة وتباع بأسعار عالية. وقد تشتهر منطقهّ بجملة صناعات. فقد اشتهرت اليمن بالبرود كما اشتهرت بسيوفها، التي اكتسبت شهرة بعدة واسعة في كل جزيرة العرب، واشتهرت بعقيقها كذلك وبأنواع أخرى من التجارات. واشتهرت مكهّ ببعض أنواع العطور واشتهرت ثقيف بالدباغة وبالأدم.

وقد كانت أجور العمل معروفة عند الجاهليين. فتدفع للعمال والصناع أجور يومية، كما تدفع لهم أجور مقطوعة عن عمل معين. وليس لهؤلاء العمال من اتعاب عملهم سوى ذلك الأجر المتفق عليه. أما الرقيق، فلا يدفع لهم في العادة أي شيء، سوى ما يقدم لهم من طعام وملبس وحماية. وعليهم في مقابل ذلك الاشتغال بالشغل الذي يوكل اليهم به أسيادهم، ولا حق له بالنسبة لقوانين ذلك الوقت الامتناع عن القيام بالعمل الذي كلفوا به.

والأجور، قد تكون يومية وقد تكون سنوية وقد تكون مقطوعة. ولا يشترط في الأجر أن يكون نقداً، فقد يدفع عينة، أي مالاً مثل طعام، أو كساء، لندرة النقد في ذلك الوقت. ومن أمثلة الحرف التي تدفع عنها الأجور، حرفة البناء، فيُدفع للعامل أجر يومي في الغالب. والنجارة والحصاد، وتدفع عنها أجور مقطوعة على الأكثر والرعي وأمثال ذلك من حرف، يقوم بها سواد الناس لاعاشة أنفسهم منها.

ويمكن تصنيف وجمع الحرف التي عرفت عند الجاهليين في حرف النجارة، وهي تنجير الخشب وتحويله الى متاع وأثاث أو إلى عمل البناء أو إلى تماثيل وزخارف وما أشبه ذلك، ثم حرف البناء، وتتناول كل ما يتعلق بالبناء من أعمال، ثم حرف الإعاشة، تم حرف التعدين والمعادن، ثم حرف الجلود، وحرف الملابس وحرف التجميل وحرف أخرى.

النجارة

والنجارة من الحرف القديمة المهمة في المدن. وقد عثر على نماذج من مصنوعات خشبية في اليمن تدل على حذق النجار وذكائه وتقدمه في مهنته، ويظهر من روايات أهل الأخبار أن أهل مكة والمدينة لم يكونوا على حظ كبير في النجارة، ولذلك كانوا يستعينون بالرقيق وبالأجانب في أعمال نجارتهم كاليهود أو الروم. وفي الذي رووه عن تسقيف الكعبة في أيام الرسول وقبل نزول الوحي عليه ما يدل على ندرة النجارين في مكة في تلك الأيام. ويعلل أهل الأخبار ذلك بسبب أنفة العربي من الاشتغال بالحرف. فاعتمد على الأجانب وأغلبهم من الرقيق في اداء هذه الحرفة.

والنجار، هو الذي ينجر الخشب. فيقوم بنشره وحفره واصلاحه وعمله على النحو المطلوب وحرفته النجارة. وفي هذا المعنى: نجارة الخشب.

ومادة النجارة، الخشب. وهو نوعان: نوع مستورد من الخارج، إما من الهند، وإما من إفريقية، وهو من النوع الجيد الصلب القوي المقاوم. وهو ثمين غال. لهذا استعمل في صنع الأثاث الفاخر الثمين وفي الأدوات التي نحتاج إلى خشب صلب مقاوم وفي المعابد والقصور وفي الأبنية المهمة، ومن أهم أنواعه الساج والآبنوس والعندل. ونوع هو من حاصل أرض جزيرة العرب وناتجها. وهو دون الخشب الأول في المقاومة والجودة، وفي الاستفادة منه في أعمال النجارة لأن معظمه ليس من النوع الناضج الغليظ الصلد القوي، لا يصلح إلى للاعمال النجارية الاعتيادية وللوقود: ما خلا أنواعا، قلية منه استخرجت من بعض الأماكن مثل "النضار"، وهو خشب غليظ بعض الشيء ينبت شجره في غور الحجاز، وبعض أشجار اليمن والمناطق الجبلية الأخرى.

وترد في كتابات المسند كلمة "عضم" "عض"، ويراد بها "الخشب" في لهجتنا ، ترد في كتابات البناء بصورة خاصة، أي الكتابات التي هي عبارة عن وثيقة بناء، إذ كان أرباب الدور و الأبنية يذكرون المواد التي استخدموها في البناء، وفي جملة ذلك الخشب. وقد وردت لفظة "العضم" في كتب اللغة بمعنى خشبة ذات أصابع يذرىَ بها الطعام. ويشترك العبرانيون مع العرب الجنوبيين في تسمية الخشب ب "عض".

وقد استخدم الخشب في تقوية الجدر، استخدموا الخشب القوي الصلد منه.

ولا تزال آثاره باقية ظاهرة فيما تبقى من أبنية الجاهليين، وبعضه قوي لم يعث به الزمن فسادا، ولم يفْنه، كما استخدم في صنع السقوف والأبواب وفي تقوية السلالم، وفي صنع الشبابيك وأمثال ذلك من الأعمال التي تدخل في صلب البناء، وتكون جزءاً منه. وقد استورد معظم هذا الخشب الصلد القوي الساجْ والآبنوس والصندل من الهند ومن افريقية لعدم وجوده في جزيرة العرب، ولا تزال اثاره وقطع منه باقية على الرغم من مرور مئات من السنين عليه.

واستخدم الخشب في صنع أثاث البيت وفي كثير من الأدوات المستخدمة في حياة الإنسان. وقد عثر على بعض، مصنوعات من الخشب استخدمت أثاثاً، تدل على مهارة صناعها وعلى حسن تصرفهم في صنعها وفي هندستها. ويعبر عن الأثاث في المعينية بلفطة "رثد". وهي في مقابل متاع. وتؤدي أيضاً معنى التنظيم والترتيب وتنسيق الأشياء. وفي المسند لفظة أخرى تؤدي هذا المعنى هي لفظة "ربب" ومعناها السناد والأساس أيضاً. وبالمعنى المذكور ترد لفطة "رثد" في عربية القرآن الكريم.

وقد ذكر في القرآن الكريم أسماء بعض الأثاث، مثل الأرائك والسرر "متكئين على سرر مصفوفة"، "وسرراً عليها يتكئون"، و "على سرر موضونة"، و " على سرر متقابلين"، " فيها سرر مرفوعة"،والكرسي.

وقد تصنع السرر من سعف النخيل، كما تصنع الكرسي في هذه المادة أيضا، وتصنع المشاجب من الأعواد المركبة توضع عليها الثياب. واذا بوعد بين الاشياء المنسوج بها السرير أو غيره من سعف النخل، قيل لذلك مرمل، فيقال: سرير مرمل، إذا كان قد نسج وجهه بالسعف ، وبوعد بشيه بين الأشياء المنسوج بها وقصد بالكرسي، الكراسي الكبيرة المرتفعة، وقد استخدم خاصة لجلوس الملوك، وفي غرف الاستقبال. وقد أشير الى الكرسي في القرآن الكريم. فورد: )وسع كرسيه السماوات والأرض(.

والعرش من الألفاظ الواردة في القرآن الكرم كذلك، وهو من البيت سقفه،   

ويجمع على عروش، والعرش شبه الهودج اًيضا. وقد يصنع من الخشب، يقوم بصنعه النجار، وقد يكون من حجارة أو غير ذلك. ومن ذلك العرش الذي يتربع عليه الملوك، والعرش: الخيمة من خشب وثمام، والتابوت أيضاً أي سرير الموت والخشب تطوى به البئر ، والعرش هو السرير الذي ينام عليه، قد يكون له حاجز يمنع للنائم من السقوط. وقد يكون له حاجز. وهو بهذه التسمية "عرش" عند العبرانيين. وقام النجار بصنع أواني الطعام أيضاً، ولا سيما الأواني الكبار التي تستعمل في إطعام عدد من الناس في المناسبات، وتدخل بيوت الملوك وسادات القبائل والأغنياء الكرماء في الغالب وفي بعض الظروف والمناسبات، مثل المآتم والأفراح. ومنها "الجفنة"، وهي - كما يقول بعض علماء اللغة - أعظم ما يكون من القصاع، يوضع فيها الطعام، ليتناول منه عدد من الناس. وقد افتخر الشاعر "حسان بن ثابت" ب "الجفًنات" دلالة على الكرم والجود. و "القصعة" وهي تلي الجفنة في السعةَ ، يشبع الضخم منها عشرة أشخاص. ثم "الصحفة" وتجمع على "صحاف" وقد وردت في شعر معزوّ للاعشى: والمكاكيك والصحاف من الفضة  والضامرات تحـت الـرجـال

وتصنع من الفضة كذلك، كما رأينا فى هذا البيت المتقدم، وذكر أنها تشيع خمسة أشخاص. ويليها في الحجم والسعة "المئكلة"، تشبع الرجلين والثلاثة. ثم الصحيفة، وتشبع الرجل.

وتصنع بعض هذه الأواني من مواد أخرى، كالأدم، أو من المعدن كما قلت في "الصحاف" حيث تصاغ من الذهب والفضة لبيوت الملوك والأمراء والشيوخ و الأغنياء.

وقام النجار، ولا سيما من تخصص بالقداحة منهم، بعمل القدح النضار، وهو القدح المعمول من النضار، والنضار خشب معروف في الحجاز في أيام الرسول يكون بغور الحجاز، يعمل منه ما رقَّ واتسع وغلط من الأقداح،وذلك لتحمل هذا الخشب ما لا تتحمله الأنواع الأخرى من الخشب المستخرج من الحجاز. وقد كانوا يدفنون هذا الخشب حتى ينضر، ثم يعمل فيكون أمكن لعامله في ترقيقه. وقد كان عند الرسول قدح نضار عريض. ويعبر أيضاً عن الأقداح المنحوتة من الخشب ب "الخشيب".

كما جهر النجارون أصحاب الحرف الأخرى بالأدوات المساعدة التي تهم في حرفهم، فصنع لأهل الطعام "الروسم " أو "الروشم"، وهو خشبة فيها كتاب منقوش يختم به الطعام لئلا يسرق منه، ويستخدمه الحناطون وأمثالهم من باعة الطعام، وقيل: الطابع الذي يطبع به رأس الخابية. واللفظة من الالفاظ المعربة على رأي بعض العلماء. وصنع للمزارعين "النورج"، وهو المدوس ، يداس به الطعام، فقد يصنع من الحديد أيضا. و "الهاون"، وهو المهراس، والمنحاز، ويدق به، وقد أدخل في المعربات. وقد يصنع من حجر، فيدق اللحم أو الحبوب فيه لسحقها.

وصنع النجار "الميتدة"، وهي مطرقة من خشب، يستعملها الأعرابي بصورة خاصة لدق أوتاد خيمته في الأرض. وتعرف ب "مقبه" "مقابه "عند العبرانيين.

وصنع النجار أبواب البيوت، ويقال للخشبة التي تدور فيها رجل الباب"النجران". ويقال لأنف الباب الرتاج، و لمترسه القُنّاح و النجتاف.وعمل"النجيرة": السقيفة من خشب ليس فيها قصب ولا غيرهْ.

وصنع للنجار صناديق من خشب، لخزن الأشياء فيها، تقفل بقفل.وقد عني بزخرفتها بتلوينها أو بالحفر على أوجهها، وذلك بالنسبة للصناديق الثمينة التى تستعملها الطبقات الراقية.

وفي جملة مصنوعات النجار "الحدوج"، مركب من مراكب النساء يشبه المحفة، تركبه نساء الأعاب على الإبل. وذكر إن الحدج مركب ليس برجل ولاهودج تركبه نساء الأعراب. والهودج مركب للنساء مقبب وغير مقبب يصنع من العصي ثم يجعل، فوقه الخشب فيقبب. وذكر انه محمل له قبة تستر بالثياب يركب فيه النساء.

ويستعين النجار بجملة أدوات في صنعته، بعضها من صنع الحداد، لأنها من الحديد، مثل الفأس على اختلاف أنواعها، والمنشار و المحفرة و المحفار، والمنقار والمسحل والمثقب والكلبتان والمسامير والأوتاد وغير ذلك من أدوات تستعمل في قطع الخشب وفي تنظيمه وصقله وهندسته لجعله صالحاً للعمل. ونجد في كتب اللغة ألفاظاً عديدة تتعلق بهذا الموضوع.

ومن الأدوات التي يستعين بها النجارون في قياس تربيع الخشب "الكُوس" وهي خشبة مثلثة.

ويستعمل النجار المنشار في قطع الأخشاب والأشجار. ويقال لنحت الخشب كذلك. أما المنقار،،فهو حديدة كالفأس مستديرة لها خلف ينقر بها، ويقطع بها الحجارة والأرض الصلبة والخشبْ. ولا سيما في نقش الخشب وحفره.والحفرة وتعرف بالمحفار أيضاً ، حديدة يحفر بها الشيء ، وتستعمل في حفر الخشب لأغراض متعددة، مثل نقشه أو الكتابة عليه. وأما المخل، فالمنحت، آلة ينحت بها الخشب كالمبرد. والمثقب آلة يثقب بها. والكَلبتان آلة يستعملها النجار والحداد، يستعملها النجار في اخراج المسامير، ويستعملها الحداد في أخذ الحديد المحمي. وأما المسامير، فما يشد به.

ونجد في "الكتاب المقدس" - في التورأة والانجيل - أسماء أدوات عديدة استعملها النجار في عمله، منها ما استعمل لقطع الخشب واعطائه الشكل المطلوب، ومنها ما استعمل لنشر الخشب وقصه، ومنها ما استعمل لثقبه باستعمال المثاقب الآلية أو اليدوية التي تعمل الثقوب بالطرق وبطريقة الحفر، كما أشر فيه إلى المساميرا. وقد ذكر في القرآن الكريم الواح الخشب التي تستعمل في صنع السفن، و "الدسر" وهي المسامير. والسفن في ذلك العهد من صنع النجارين. وآلات النجارة المذكورة في التوراة وفي الأناجيل،معروفة ومستعملة عند الجاهليين. وقد تصنع الدسر من الخشب.

وهناك نجارون تخصصوا بصنع القوارب والسفن: لاستعمالها في صيد السمك وفي البحار للتجارة البحرية والنقل. ونظراً لعدم وجود الأنهر الكبيره والبحيرات في جزيرة العرب، انحصرت حرفة صنع القوارب والسفن في السواحل. ويستورد أهل هذه السواحل الخشب القوي الصلد من افريقية والهند لصنع السفن الكبيرة التي يكون في مقدورها الابتعاد عن الساحل والسير إلى الأماكن البعيدة.

ولا يستبعد قيام النجار الجاهلي بصنع العربات والمركبات، وذلك لاستخدامها في السلم وفي الحرب. فقد كان المصريون والعراقيون وأهل بلاد الشام يستخدمونها، وليس من المعقول حلم وجود علم للجاهليين ولاسيما لأهل اليمن بصنعها وبالاستفادة منها. والعربة هي "عجله" "ع ج ل ه" عند العبرانيين وتستخدم في نقل الحاصلات. وقد أشير الها في التوراة ، وقد عرفت ب "م "ر ك ب ه" "مركبه" كذلك، وب "مركب" أيضاً، من أصل "ركب" احدى الألفاظ التي ترد في اللهجات السامية. وهي "مركبة" في عربيتنا و "نركبتو Narkabtu" في الأشورية و "مركيثا Markabtha " في السريانية. وقد تعني الحيوان وحده الذي يركب عليه.

ويراد ب "عجله"، العربة التي،تستخدم في نقل الحاصلات الزراعية في الغالب، وقد عثر على صور عربات في الاثار المصرية والأشورية واليونانية والرومانية. وبينها عربات استخدمت في القنال. ولبعضها مظلات لتحمي ركابها من الشمس والمطر. ويسحب العربات الزراعية ثور أو ثوران في الغالب. وقد تستخدم الحمير والبغال. أما عربات القتال فتجرها الخيل. وقد كانت دواليب العربات من الخشب، إلا انها صنعت من الحديد أيضاً. والغالب أن يكون للعربة دولابان، ولكن العربات ذات الأربعة دواليب كانت معروفة أيضاً ومستعملة، ولا سيما في أمور النقل. وقد كان الأكاسرة يستعملونها لنقل عوائلهم، ولها ستائر وسقف.

وذكر علماء العربية أن العجلة: الدولاب. وأن "المركب" واحد مراكب البرّ والبحر. والظاهر أن العجلات والمركبات كانت نادرة الوجود فى أكثر مواضع جزيرة العرب. إذ لا نجد لها ذكراً في أخبار الأخباريين عن الجاّهليين ولا في كتب اللغة.

الحدادة

وقد دفعت حاجة الإنسان إلى المعادن لاستخدامها في أمور حربية وزراعية وفي البيت على انصرافه إلى الاشتغال بها لتحويلها إلى أشياء نافعة. فظهرت الحدادة والصياغة وأمثالها واشتغل بعض الناس بالبحث عن الحديد وعن المعادن الأخرى واستخلاصها من المواد الغريبة المختلطة بها. كما اشتغلوا في خلط المعادن لايجاد أنواع جديدة منها. وقد وقع ذلك بين أهل الحضر في الغالب، أما أهل الوبر، الأعراب، فبساطة حياتهم لم يشعروا بحاجة لهم إلى هذه الصناعات، واذا شعروا بوجود حاجة لهم فيها اشتروها من أهل المدن، واحتقروا الصناعات وأهل الصناعة والمحترفين بالحرف.

ويعرف الحدّ اد ب "القين" كذلك عند الجاهليين. وهو الذي يعدّ للزرّ اع الأدوات التي تستعمل في حرث الأرض،مثل المسحاة والمحراث والمنجل والأدوات الأخرى، يصنعها من الحديد، كما أنه يعد لا عرف الأخرى ولأهل البيوت كثيراً من الآلات،يصنعها من الحديد. وكان فضلاً عن ذلك الخبير الاختصاصي بصنع السلاح على اختلاف أنواعه وتجهيز الحكومات والأفراد بالسلاح الذي يستعمل في الدفاع وفي الهجوم، لذلك كانت حرفته مهمة خطيرة ولا يزال الحداد يعدّ للناس في جزيرة العرب الملاح، كالسيوف والخناجر والدروع والسكاكين والنصال المعدنية وغير ذلك من أدوات كانت تستعمل في الحرب لذلك العهد، وسأفرد لها بحثاً خاصاً.

وذكر بعض علماء اللغة أن القن هو العامل بالحديد. وقال بعض آخر: إن القين الذي يعمل بالحديد ويعمل بالكير، ولا يقال للصانع قين. وذكر بعض اخر أن القين الحدّاد، ثم صار كل صانع عند العرب قيناً. وذكر بعض آخر: أن القين هو الذي يصنع الأسنة،إلى غير ذلك من آراء، وكان من بين أصحاب الرسول من كان قينا، مثل "خباب بن الارت"، ذكر أنه كان يشتغل للعاص ين وائل. وكان العاص هذا من الانادقة، ومثله: عقبة بن أبي معيط، والوليد بن المغيرة، وأبيّ بن خلف. وكان خبّاب يضرب السيوف الجياد وبدقها، حتى ضرب به المثل، ونسبت اليه السيوف. كما اشتهر بها رحل آخر عرف ب "ريش المقعد"، أي النبل. والمقعد اسم رجل كان يريش السهام. والنبل: السهام، والنبّال صاحب النبال وصانعها، وحرفته النبالةْ. وتحبس في الجعبة، يحملها صاحبها معه، فإذا أراد الرمي، فتحها ليستخرج منها ما يشاء.

ومن الحدادين الأعاجم الذين ذكرهم أهل الأخبار، الأزرق بن عقبة أبو عقبة "فلداه" في العبرانية. وتصنع منه الأسلحة بصورة خاصة. وهو معروف في العربية، وعرف بقولهم: ": هو مصاص الحديد المنقى من خبثه".

و يستعين الحدّاد بأدوات في طرق الحديد وفي تغير شكله على النحو إلمطلوب. ومن أهم هذه الادوات "الكير"، و"رْ المنفْاخ، وهو زق ينفخ فيه الحداد، أو جلد غليظ ذو حافات، يستعمل لاثارة النار وإيقادها، كي ترتفع درجات حرارتها فتؤثر في الحديد وتجعله ليناً يسهل طرقه واعطؤه الشكل المطلوب. والكور وهو مجمرة الحدّ اد وهي مبنية بالطين وبالحجارة، وتوقد فيها النار، ويسلط عليها الكير، ويوضع الحديد على النار ليحمى ويلين. ومن أصل "كور" "كور" و "كير"، ويراد بها الموضع الذي تحرق فيه القرابين من بخوِر وذبائح تهيأ للحرق تقرباً إلى الآلهة. ويعرف الكور ب "كور" عند العرانيين. وقد وردت اللفظة في التوراة.

ويطرق القين الحديد المحمى على "السندان"، ليحوله إلى الشكل الذي يريده. ويعرف ب "العلاة" أيضاً.

وقد استغل ايهود انفة أهل المدينة والعرب الصرحاء من الاشتغال بالحدادة، فاحتكروها لأنفسهم، وربحوا منها ربحاً طيباً، وذلك بإنتاجهم الأدوات والآلات الزراعية وبصنعهم الأسلحة اللازمة لكل انسان لحماية نفسه، مثل صنع السيوف والخناجر والدروع. وقد سلحوا أنفسهم بها، كما باعوا منتوجهم من غيرهم. وتصنع الدروع من الحديد الثقيل،كي تقاوم قراع السيوف. وقد تزرد الدروع، لتقاوم في الدفاع، ويقال عندئذ "درع مزرود".

والسرد عند علماء اللغة نسج الدرع، وهو تداخل الحلق بعضها في بعض. والسرد اسم جامع للدروع وسائر الحلق. وسمي سرداً لأنه يسرد فيثقب طرفا كَل حلقة بالمسمار، فذلك الحلق المسرد. والمسرد هو المثقب. وهو السرّ اد. ويراد بالحلقة السلاح عاما، وقيل: الدرع خاصة، وانما ذلك لمكان الدروع ولشدة غنائه. وقد سمي "النعمان" دروعه حاضة.

وتصنع النصال من الحديد أيضا. والنصل حديدة السهم والرمح، ويقال نصل السيف ونصل السكين. وقد ذكر أيضا ان نصل السيف حديدة السيف ما لم يكن له مقبض. فإذا كان لها مقبض ، فهو سيف. وقيل: إن النصل السهم العريض الطويل، والمشقص على النصف من النصل.

ومن المجاز الحداد السجّان، لأنه يمنع من الخروج أو لأنه يعالج الحديد من القيود. وفي هذا المعنى ورد: يقول لي الحداد وهو يقودني=إلى السجن لا تفزع فما بك من باس والحداد البواب، لأنه يمنع من الخروج.

والعتلة: حديدة كأنها رأس فأس عريضة، في أسفلها خشبة تحفر بها الأرض والحيطان، وليست بمعقفة كالفأس، ولكنها مستقيمة مع الخشبة، أو هي العصا الضخمة من حديد، لها رأس مفلطح، يهدم بها الحائط. وقيل: هي بيرم النجار.

ومن مصنوعات الحداد "إلإبزيم"، وهو حلقة لها لسان يدخل في الخرق في أسفل المحمل، ثم يعض عليها حلقتها، والحلقة جميعها "ابزيم". وقد أدخلها الجواليقي في باب المعريات من الفارسية. ومن مصنوعات الحداد "المقدحة"، الأداة التي استعان بها الإنسان في إِيجاد النار. وهي حديدة يقدح بها حجر يوضع عليه مادة قابلة للالتهاب ولأخذ النار، مثل الصوف، فيورى منها النار.

ويهيىء الحداد أقفال الأبواب، وقد يصنعها النجار أيضا. ويوضع خلف الباب وتد من حديد لتسميرها، فلا يمكن فتحه ، كما يهيأ البيت بما يحتاج اليه من أدوات تستعمل في الطبخ وقي الغسيل، وفي الزينة. ويجهز الرجل والمرأة باللأدوات المساعدة للتجميل ك المدرى"، وهو شيء يسرح به شعر الرأس محدد الطرف من حديد، وقد يصنع من غيره مثل الخشب. وهو كسن من أسنان المشط، أو أغلظ قليلا"، إلا أنه أطول.

وقد ذكر أصحاب اللغة بعض أسماء الالات والأدوات التي كان يستعملها الحدادون في حرفتم، نذكر بعضهاً مثل: "القرزم" و "العلاة". والقرزم لوح الإسكاف المدور. و "المطرقة"، و "الفطيس"، وهي أكبر من المطرقة، وهي "الميفعة" أيضاً. و "المبرد" الذي يبرد به الحديد، و "البرادة" ما سقط منه. وأما "فسالة الحدَيد" فا تناثر من الحديد عند الضرب إذا طبع، و"المشحذ" مبرد للحديد، أعظمها وأخشنها. وقال بعض اللغويين: المشحذ المسنُّ، "المفراص" وهو للحديد كالمقراض للثوب، والمنفاخ "المنفاخة" وبي ما ينفخ به الكر، والكير التي ينفخ فيه. وأما المبني من الطين، فهو الكور. و "المشرجع" مطولة لا حروف لنواحيه، ومطرقة مشرجعة، مطولة ولا حروف لنواحيها. أما إذا كان الشيء مربعاً، وقد نحتت حروفه، قيل له "مشرجعة". و "العسقلان"، أصغر مطرقات الصائغ. و "الغدُاف" الحديدة التي يدخل في أحد طرفيها الخاتم ويركزها على الجبأة، والخشبة التي بين يديه. أما "الحملاج"، فنفاخ الصائغ، وهو حديدة مجوفة ينفخ فيها الصائغ إذا أراد النفَخ في كيره. وله الكلبتان والمثقب.

وقد وردت في التوراة لفظة " ا خ ن" "اجن"، وهي "اجانة" و "اجان" في العربية. وهي إناء يعجن فيه العجين،أو يوضع فيه سائل أو أي مادة أخرى. ولا تزال الكلمة حيةّ معروفة. وتصنع من المعدن،في الغالب ولكنها قد تصنع من خشب في بعض الأحيان.

ويستخدم الحدّ اد المطرقة في طرق الحديد المحمى لتحويله إلى الشكل المطلوب. ويقال للمطرقة الكبيرة "الفطيس"، وتقابلها لفظة "بطيش" Pattish، عند العبرانين، ولمد أشار علماء اللغة إلى "الفطيس". ويستخدم ال "قدوم"، وهي مطرقة كذلك، تسمى ب "قردم" "قردوم" عند العبرانيين. وذكر علماء العربية ان "القدوم" التي ينحت بها.

ومن أنواع المطارق مطرقة دعيت ب "جرزن" عند العبرانيين، وتستخدم في القطع: في قطع الأشجار والأخشاب التي تستعمل في البناء. ويرى بعض العلماء أنها أخف من "القردم". وبين "جرزن" و "الجرز " اللفظة العربية تقارب وارتباط. رقد ذكر علماء اللغة أن "الجرز" من السلاح، والعمود من الحديد وأن الجواز بمعنى: قاطع، ولذلك قالوا سيف جراز ومدقة جراز. وهي الفأس في العرانية،و لعلها بهذا المعنى في العربية أيضاً وتستعمل لقطع الأحجار و الاخشاب و لتكسيرها.

والمطارق الحديثة المستعملة قي الشرق الأوسط وفي بلاد العرب، لا تزال محافظة على شكلها وهيئتها التي كانت عليها عند الجاهليين وعند غيرهم قبل الإسلام. كما يظهر ذلك من النماذج التي عثر عليها ومن صور المطارق المصورة على بعض الأثار. وبعض هذه المطارق ذات رأسين، وبعضها ذات حافتين. ويختلف شكلها باختلاف المهمة التي.تستخدم فيها. واستخدمت المطارق في الحروب كذلك، حملها المحاربون معهم في قتال الأعداء وفي فتح الثغرات في الجدر والأسوار وتحطيم الدبابات والآلات الأخرى المستخدمة في حروب تلك الأيام.

الصياغة

و "الصائغ"، من يحترف الصياغة، وذلك في اللهجة العربية الشمالية، ويشتغل في صياغة الذهب والفضة. وقد كان بين أصحاب الرسول من احترف هذه الحرفة. وقد ورد عن أبي رافع الصائغ إن عمر بنْ الخطاب كان يمازحه بقوله: "أكذب الناس الصواغ، يقول اليوم وغدا". وكلام عمر بن الخطاب هذا يدل على أن الصاغة لذلك العهد كانوا يخلفون ايظا في المواعيد، ولا يحافظون على الأوقات.

وقد تحدث بعض الكتبة اليونان عن أثاث وحلي مصنوعة من الذهب والفضة، ذكروا أن السبئيين كانوا يستعملونها في بيوتهم، ولكننا لم نقف على شيء مهم من ذلك، إلا قطعاً متاكلة من المعدن وصلت الينا، لتتحدث عن عمل الصاغة والحدادين في العربية الجنوبية. وأكثرها من المصنوعات المصنوعة من البرنز فلدينا مصباح من البرنز مصاب ببعض العطب، عثر عليه في "شبوة"، على طرفه جسم "أيل" جميل، صنع وكأنه متهيء للوثوب. وهناك قصة أخرى تمثل احداها جملاً، وأخرى حصانا، كما عثر على عصي مصنوعة من البرنز، وعلى ألواح من هذا المعدن أيضاً، عليها كتابات. وهي محفوظة في المتاحف الأوروبية. وهذا الذي عثر عليه هو شيء قليل بالطبع بالنسبة الى ما سيعثر عليه، متى سمح للآثاريين بالبحث عن الآثارو الكشف عن المطمور في جزيرة العرب ، ولا سيما في العربية الجنوبية حيث تشاهد تلول من الأتربة منشرة تضم تحتها كنوزاً ثمينة من الآثار.

ويقال للذهب الأنضر، وقد ذكر بعض، علماء اللغة أن لفظة النضر. اسم للذهب والفضة، وكذلك النضار. أما النضرة فإنها السبيكة من الذهب. ونضار الجوهر الخالص، من التبر.

وتد عرف التبر، بأنه الذهب كله، وقيل: هو من الذهب والفضة وجميع جواهر الأرض من النحاس والصفر والشبه والزجاج وغير مما استخرج من المعدن قبل أن يصاغ ويستعمل. وقيل: التبر هو الذهب المكسور، وقيل الفتات من الذهب والفضة قبل أن يصاغا، فإذا صيغا فهما ذهب وفضة. وورد التبر ما كان من الذهب غير مضروب فإذا ضرب دنانير فهو عين. وقد يطلق التبرعلى غير الذهب والفضة من المعدنيات كالنحاس والحديد والرصاص، وأكثر اختصاصه بالذهب. وورد في الحديث: الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها. وأما "الجذاذ"، فإنه حجارة فبها ذهب، أي الحجر الذي يقلع من مناجم الذهب، ثم يسحن بالمساحن لاستخلاص الذهب من المواد الاخرى. والمسحنة حجر يدق به حجارة الذهب.

والحلي، ويراد بها ما يزي به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة ، هي من أهم أعمال الصائغ عند الجاهليين، يقوم بصنعها من الذهب أو الفضة، ويزينها ببعض الحجارة في بعض الاحيان. وقد اشتهر "بنو قينقاع" في منطقة "يثرب" بإجادتهم حرفة الصياغة واتقانهم لها. ومن هذه الحلي ما يعلق على الصدر، ومنها ما يوضع في الأيدي أو في الأصابع ومنه ما يوضع حول الساق. وما يعلق في مواضع أخرى من الجسد مثل الأذنين أو الأنف أو على الجبين، كما إن بعضه مما يحلى به الحيوان أو الأشياء النفيسة في البيت.

ومن الحلي المشهورة عند الجاهليين، القلادة. وتصنع من الذهب أو الفضة في الغالب، وقد تكون من ربط حجارة أو عظام أو خرز بعضها إلى بعض.

وتربط حول العنق، وتتدلى على الصدر. على أن القلادة في اللغة لفظة عامة تطلق على أمور كثيرة. وقد كان الجاهليون يضعون قلادة في عنق البدن، مثل عروة مزادة، أو خلق نعل،أو غير ذلك، ليعلم أنها هدي. كما كانوا يقلدون الإبل بلحاء شجر الحرم، ويعتصمون بذلك من أعدائهم.

والأسورة من أدوات الزينة كذلك. وقد استعملها أهل الجاهلية، تضعها المرأة في يديها. ويذكر علماء اللغة أن "السوار" لفظة معربة،عربت من الفارسية وأصلها في الفارسية "ستوار"، فأخذها العرب وعربوها. واشتقوا منها "سوّرت الجارية" و "جارية مسوّرة". على أن بعض المحاربين كانوا يستعملون الأسورة، ويتباهون بها في الحروب.

وأما "العصمة"، فقيم ل إنها القلادة، وقيل إنها شبه السوار، توضع حول اليد. وأما المعصم، فإنه موضع السوار من اليد أو الساعد. وأما القرط، فمن حلي الاذن يعلق بشحمة الاذن ، سواء أ كَان درّ ة أم ثومة من فضة أم معلاقاً من ذهب.

والخلخال من أدوات الزينة التي يستعملها النساء، يوضع على الساق يصاغ من الذهب أو الفضةْ. وقد يحشى بالقار، كما تحشى الأسورة أيضا في بعض الأحيان لتبدو غليظة. ويستعمل القير والقار في طلي السفن، لمنع الماء من الدخول فيها. والعرب تسمى الخضخاض قاراً، وهو قطران وأخلاط تهنأ بها الإبل. وقد ذكر انه صعد يذاب، فيستخرج منه القار. ولا يزال أهل البادية والقرى يتحلون بالخلخال. وللاجراس الصغيرة التي تعلق به رين خاص ونغمات. وهو من أدوات الزينة المستعملة بين شعوب الشرق الأوسط منذ القديم. وقد أشير اليه في التوراة.

وقد نهى الإسلام تبختر النساء بالخلخال، واثارتهن نغماتها، في ذلك من اثارة للرجال وتأثير عليهم.

والخاتم من عمل وصنع الصائغ، وهو من حلي الاصبع. ويحلى بالحجارة الكريمة في الغالب، مثل الياقوت والماس والشذر وغير ذلك. ويستعمل الخاتم للختم كذلك أي للطبع بدلاً من التوقيع، وذلك بحفر رمز أو كلمة أو عبارة أو اسم صاحب الخاتم على الخاتم، فإذا أريد كتابة كتاب أو تصديق قرار أو وثيقة ختم به على الشيء المراد ختمه، فيقوم اذ ذاك مقام التوقيع والاعتراف بصحة المذكور. ويقال لما يوضع على الطينة وما يختم على اللبنة الخاتم كذلك. ولذلك عد الخاتم عند الشعوب القديمة رمزاً للتفويض والتصديق والملك. وختم الملك، يدل على ارادة الملك ورضائه وأمره. ولذلك قيل: خاتم الملك.

وقد يصنع الخاتم من الشبه أو الصفر أو الحديد، ويعمل على صور وأشكال متعددة متنوعة. وقد كان خاتم رسول الله من حديد ملوي، عليه فضة. وفي المتاحف وعند الناس عدد كبير من الأختام،عثر عليها في مواقع متعددة من جزيرة العرب. وهي تكون عند علماء الآثار لدراسة خاصة، لما كان لها من أهمية عند الشعوب القديمة ولما في بعضها من دقة في الصنعة ومن تفنن وابداع. وبعض هذه الأختام مستورد من الخارج وبعضه متأثر بالاختام الأجنبية، مثل الأختام العراقية أو الأختام اليونانية أو الفارسية.

ويقوم الصائغ بعمل الزينة للرأس، ومنها التيجان. وقد كان ملوك الحيرة يضعون التيجان على رؤوسهم. وقد ورد في شعر لمالك بن نويرة أن تاج النعمان بن المنذر كاد من الزبرجد والياقوت والذهب.

ومن حلي النساء الفتخ والخرُص والسخاب والحلق. وقد حلي بها الأولاد كذلكْ. وكذلك المسكة من ذهب والسلسلة والأطواق والأجراس والجلاجل. ويراد بالفتخ الخواتيم الضخام. يكون في اليد والرِ جل، بفص وبغير فص. وقيل الخاتم اياً كان، أو حلقة من فضة. وأما المسكة، فسوار من ذبل أو عاج، فإذا كانت من غيرهما أضيفت الى ما هي منه. وتوضع السلسلة في العنق، وأما الأجراس فتوضع في الأرجل.

ومن الحلي: "الحُبلة"، ضرب من الحلي يصاغ على شكل ثمرة "الحبلة" يوضع في القلائد في الجاهلية.

ويقال للنقوش والزينة المزوقة والتصاوير المموهة بالذهب "الزخرف". وذكر علماء اللغة أن "الزخرف " الذهب، وهو الأصل، ثم قيل لكل زينة زخرف، وكذلك كل شيء موّه به. قد ورد في كتب الحديث والأخبار أن الكعبة كانت قد زينت بالزخرف، أي بنقوش وتصاوير، وكانت بالذهب. فلما كان يوم الفتح، لم يدخل الرسول الكعبة، حتى أمر بالزخرف فنحي، وبالصنام فكسرت، فدخل بعد ذلك الكعبة.

وقد ألف أهل مكة وغيرهم استعمال الآنية المصنوعة من الذهب والفضة" فاستعملوا الاكواب والاباريق والكؤوس والقوارير والأواني، وبعضها عليه صور مرسومة أو محفورة. وقد أشر في القرآن الكريم إلى هذه الأواني، وذكرت في كتب الفقه، وقد ورد النهي عن الشرب بأواني الذهب في الحديث ، وفي ذلك دليل على وجودها واستعمالها عند العرب قبل الإسلام.

وقد ذكر علماء اللغة أن من الأواني المستعملة من الفضة الجام ، وعرفوا الكوب بأنه كوز لا عروة له، أو هو المستدير الرأس الذي لا خرطوم له. وقد ذكر في شعر عدي بن زيد العبادي ، وفي شعر نفر آخر من الشعراء الجاهليين ممن ألفوا الحضارة. وورد "أكواب" جمع "كوب" في القرآن الكريم، دليل على استعمال أهل مكة للاكواب.

واللفظة من الألفاظ المعربة عن اليونانية. وتقابل لفظة Cup في الانكليزية. وقد أخذت من هذا الأصل اليوناني.

والكوب، هو في معنى "كوس" عند العبرانيين، أي كأس في عربيتنا. وتصنع الكؤوس من المعدن، كما تعمل من الطين. وعملت كؤوس الملوك وكبار الأغنياء من الذهب والفضة. ولبعضها يد أو علاّقة ليحمل الكأس بها. وقد ذكرت لفظة "كأس" في القرآن الكريم.

واستعمل أهل مكة الاباريق المصنوعة من الذهب والفضة كذلك. وقد ذهب علماء اللغة إلى إن لفظة "ابريق" لفظة معربة، أصلها فارسي هو: "آب رى". وقد وردت لفظة "الاباريق" في القرآن، كما وردت لفظة "ابريق" في شعر منسوب إلى عدي بن زيد العبادي.

وأخذ تجار مكة من الفارسية بعض الألفاظ الحضارية التي لها علاقة بالصياغة، بحكم اتصالهم بالعراق، مثل لفظة "زركش"، وهي من أصل فارسي معناه الراسم والناقش على الذهب.

وصاغ الصياغ خرزاً من الفضة، جعلوها على أمثال اللؤلؤ، وعرفت عندهم باسم "الجمان". وقد وردت لفظة "جمانة" في شعر منسوب للبيد. وذكر الجواليقي أن اللفظة معربة من أصل فارسي، وانها تكلمت بها العرب قديماٌ.

ويصنع الصائغ اطارات للمرائي، جمع المرآة، وهي ما تراءيت فيه،وما ترى فيه صور الأشياء. وقد يصنع الصائغ المرآة على هيأة سبيكة مصقولة من الفضة إذا نظر إليها بان وجه الإنسان.وقد ذكر العلماء نوعاَ من المرائي، دعوه "السَجنجل"، وقد وردت هذه اللفظة في معلقة امرىء القيس،وذكر العلماء أن اللفظة معربة من أصل رومي.

وقام الصائغ بعمل كل ما طلب منه، فعمل قبيعة السيف من الذهب والفضة وزين السيوف بالذهب والفضة، بل صنع بعضهم أنوفاٌ من ذهب لمن أصيبت أنوفهم. فذكر أن صائغاً صنع أنفاً من ذهب لعرفجة بن سعد،وكان قد أصيب أنفه يوم الطلاب في الجاهلية.

وزينت الدروع و الدرق بالذهب كذلك. ووجد الصائغ عملاً مهماً له في المعابد، اذ أمدها بزخارف مموهة بالذهب وضعت على أبوابها وعلى الأماكن المقدسة فيها. كما أمدها بالتماثيل المصنوعة من الابريز وبالقناديل والمصابيح المصنوعة من الذهب و الفضة.

ومن أدوات الصاغة المهمة التي يستعملونها في صناعتهم "الحماليج"، وهي المنافيخ، وتستخدم فيَ إيقاد النار وفي زيادة لهبها كي تتمكن من صهر المعدن أو جعله ليناً ليحوله الصائغ على الشكل الذى يريده.

ومن الأدوات المصنوعة من الحديد ومن النحاس والبرنز أيضاً "التور"و "الطست" و "الطاجن"، وهي أوان يوضع فيها الماء في الغالب. وذكر بعض علماء اللغة انها كلها ألفاظ معربة من الفارسية.

وقد عرف التور بأنه إناء من الأواني، وقيل انه إناء من صفر أو حجارة كالإجانة وقد يتوضأ منه.

ومن الأدوات التي يصنعها النحاسون "القمقّم". ذكر بعض علماء اللغة انه الجرة أو ما يستقى به من نحاس. واللفظة ما تزال حية معروفة في العراق، تطلق على وعاء يوضع في " ماء الورد، يسكب منه في المآتم خاصة.

وقد اشتهرت بعض مواضع اليمن بالمعادن، وتعرف الأرضين المحتوية على خاماتها ب "معْدن" عند أهل الأخبار. ويذكر بعد هذه اللفظة اسم المكان الذي يوجد فيه المعَدن ثم نوعه، فقد ورد مثلا "معدن عشم" و "معدن ضخكان"، وقد اشتهرا بالذهب. وذكر إن ذهبهما من النوع الجيد الجليل. أما "معدن القفاعة"، ففيه ذهب كذلك، لكنه دون ذهب المعدنين المذكورين، وهو خير من ذهب "معدن بني محيد".

وقد استغل الناس مناجم الذهب والفضة والحديد، وعثر عند بعضها على أدوات استخدمت في إذابة المعدن، لاستخلاصه من المواد الغربية العالقة به. وقد ذكر "فؤاد حمزة" في كلام على جبل "تهلل" بجوار السودة في عسير، وبه معدن الحديد ، أنه عثر فيها على اثار عشرات النقر لإذابة المعادن. وقد كانوا يضعون خام الحديد المستخرج من منجمه في هذه النقر ومعه، الخشب والاغصان التي توقد لايجاد النار الكافة لإذابة المعدن واستخلاصه من المواد الغريبة المختلطة في خامه. فإذا ذاب المعدن وخلص من المواد الغريبة التي كانت ممتزجة به، عولج معالجة خاصة لتنقيته ولاستخراج فحمه والمواد الأخرى التي تجعله هشاً قابلاٌ للكسر والثلم بسهولة. وقد يعالج جملة مرّ ات ا إن أريد استعماله في أمور تستدعي استعمال حديد نقي صاف في مثل السيوف الجيدة التي يجب صنعها من هذا الحديد.

واستعمل الأتون أيضاً في إذابة المعادن لتنقيتها وإذابتها ولإحالتها إلى الشكل المطلوب. وتوقد النيران في أسفل الأتون، لتذيب المعدن وتحيله إلى سائل يسيل من فتحة تقع في جانبه ليحوله المعدن إلى الشكل الذي يريده. ويخرج الدخان من فتحة تكون في نهاية مرقد النار، وتقوم هذه المدخنة في تهوية الموقد في الوقت نفسه. وطريقة إذابة المعادن وتنقيتها هذه، معروفة عند الرومان واليونان والفرس والعبرانيين. ويطلق العبرانيون على الأتون، لفظة "اًتون" كذلك.

وأشير إلى معادن أخرى في اليمن، منها: الفضة، وقد وجد في "معدن الرصاص"، موضع بين "فهم" من همدان، بين خولان العالية ومراد، ومعها الرصاص، وعليه كان اعتماد أهل اليمن. وكان في الموضع قرية تسمى "قرية الرصاص"، وأهلها من العرنيين. وقد ارتدوا، فقتلهم رسول الله. وعرف الرصاص الخالص بالآنك. وقد ذهب بعض الباحثين إلى انها من أصل إرمي هو "أنكو" Anko.

ومن المعادن: الجزع، واليفران، والعقيق، وهو في مواضع عديدة من اليمن، بعضه بعدن أبيض، وبعضه بأرض وادعة بين صعدة والحجاز، وفي نجران وبيجان.

والنحاس، هو "نحشت" في العبرانية. ويعرف ب "صبرو" S iparu في البابلية. ومن هذه اللفظة "الصفر"، المستعملة في العراق بمعنى نحاس. وذكر علماء اللغة أن النحاس ضرب من الصفر والآنية شديدة الحُمرة. وذكروا أن الصفر: النحاس الجيد، وقيل ضرب من النحاس والصفار صانع الصفر وقد عرف المشغلون بالمعادن طريقة خلط المعادن، فاستعملوها في أغراض شتى. فخلطوا بين الفضهّ والرصاص أو النحاس في صنع التي، وهي الفلوس. وكانت في الحيرة على عهد النعمان بن المنذر. وخلطوا الحديد بمعادن أخرى، ليتناسب مع طبيعة الأشياء التي يراد صنعها منه.ويكون خلط المعادن بنسب مقدرة معلومة كي تؤدي الغاية المرجوة منه. ومن هذه المعادن: الشبه. وقد ذكر علماء اللغة أنه ضرب من النحاس يلقى عليه دواء فيصفر.

وفي العربية لفظة "فولاذ"، وتعني معنى في الانكليزية، أي نوعاً خاصاً من أنواع الحديد وتقابل لفظة "فلدو" "بلدو" في السريانية و "فلداه" في العبرانية. ويظهر أن الفولاذ كان معروفاً عند الشعوب القديمة قبل الميلاد. ولم يختلف أهل اليمن القدماء عن أهل اليمن المحدثين في طرقهم البدائية في استخراج المعادن واستخلاصها من خاماتها، ولا يزال أهل اليمن يضرمون النار في الحجارة المحتوية على المعدن، فيسيل المعدن بتأثير الحرارة، فإذا سال سكب عليه الماء، فيبرد، وتتكون قطع منه، يستعان بها في صنع ما يحتاجون اليه من آلات وأدوات.

ولا يزال كثير من سكان جزيرة العرب يمارسون الصناعات على الطريقة القديمة، يعتمدون فيها على الأيدي وعلى الآلات البدائية التي ورثوها من الماضي، فيبغون الأدم على طريقتم الموروثة، ويصنعون سرج الخيل وهوادج الإبل، والأحذية، وينسجون الأنسجة من صوف الأغنام أو الماعز أو الوبر، للملابس، ولبيوتهم التي تنتقل بتنقلهم.

والعطارة من الحرف القديمة المعروفة، وقد ذكرت في التوراة. والعطار وإن كانَ اسمه قد جاء من العطر بسبب تعاطيه بيع الطيب والعطور، يبيع أيضا مختلف الأعشاب والعقاقير والأدوية. فهو صيدلي في الواقع، واليه تأتي وصفة الطبيب تعين الأعشاب والعقاقير التي يحتاجها المريض. وقد كان العطارون يبيعون في مكة ويثرب وأماكن أخرى أنواع العطور والطيوب، وفي جملتها المسك. وقد ضرب الرسول المثل "بصاحب المسك" أي العطار، إذ جعله مثال الجليس الصالح للر جل.

ويبيع العطارون عدة أشياء تستعمل في الطب وفي الطعام، مثل الزعفران والكركم وهو أصغر، وذكر أنه "الهُرد"، وهو عروق يصبغ بها. ومثل "المصطكا"، وهو علك رومي، ويدخل في الأدوية أيضاً.

وقد يحمل العطارون آلتهم معهم، يضعونها في خريطة من أدم، يطلقون عليها "القفدانة" و "القفدان". وهي لفظة فارسية معربة، وتطلق على المكحلة كذلك كما يقول بعض علماء اللغة.

حرف الإعاشة

وأعني بها الحرف التي تهيىء الأكل للانسان من تقديم أكل وشراب وما بتعلق بهما من أعمال مساعدة في تهيئة ذلك. فيدخل فيها طحن الحبوب والطبخ والخبز والأواني التي يوضع فيها الطعام وما شابه ذلك من أمور.

ولا بد للانسان من سحق الحبوب وطحنها ليكون في امكانه أكلها والاستفادة منها. لذلك فقد يدقها دقاً بين حجرين أو بآلات صلبة، ثم يلهم الحبوب المدقوقة لهماً أو يحمصها على النار أو يمزجها بمادة أخرى لتكون طيبة المذاق مستساغة في الطعم. وقد يطحنها طحناً، أي يحولها إلى دقيق بواسطة: الرحى، وهي حجران من حيث الأساس أحدهما ثابت وهو الأسفل، والآخر متحرك وهو الحجر الأعلى وهو أصغر قليلاً من الحجر الأسفل، به فتحة توضع الحبوب بها فتنزل منها إلى سطح الحجر الثاني، فتقع بواسطة حركة الحجر الأعلى بين الحجرين وتداس فتسحق، وبواسطة استمرار الحركة وثقل الحجر الأعلى تتحول الحبوب إلى طحين يخرج من بين الحجرين إلى الخارج حيث يسقط في حفرة أمامية عملت لتجميع الطحين بها، وذلك فيما إذا كان الحجر الأسفل مبنياً على قاعدة، أما إذا كان متحركاً فيسقط الطحين على أطراف الرحى على قماش أو أي شيء يوضع تحت الحجر الثاني، ثم يجمع الطحين.

وهذا النوع من الرحى هو من النوع المحسنّ الذي يمثل تقدماً في صناعة طحن الحبوب. وقد عثر على نوع هو أبسط من الرحى المتقدمة، فهو عبارة عن حجر مائل نوعاً ما، أحد طرفيه مرتفع عن الطرف الاخر، يوضع الحبّ عليه ثم يسحق بحجر اسطواني الشكل في الغالب يمسك بالأيدي من مقبض نحت منه على كل طرف من طرفيه ثم يحرك على الحبوب لسحقها، وقد يقبض بطرفي الحجر ثم يحرك نحو الأسفل فالأعلى حتى تسحق تلك الحبوب وتتحول إلى طحين.

ولا أستبعد استعمال العرب الجنوبيين للطواحين الكبيرة التي تدار بالماء، وذلك بالاضافة إلى الطواحين التي تديرها الحيوانات، وذلك لبيع الطحين في الأسواق. وقد كان الناس يستعملون الرحى في الغالب للحصول على الطحين، فلم يكد يخلو بيت منها، ولذلك كانت صناعة الرحى من الصناعات النافقة المربحة في ذلك الزمان.

والطحن من الأعمال التي تخصص بها النساء، وتقوم به الخادمات في البيوت الكبيرة. وقد توضع جملة رحى في البيت الكبير حيث تخبز كميات وافرة من العجين لإعاشة أفراد البيت.

ولمكانة الرحى عند القوم يومئذ، تخصص أناس باصلاح الحجر لتحويله إلى رحى صالحة لطحن الحبوب أو لعمل الزيوت. وليس يصلح كل حجر لأن يكون حجر رحى، ولهذا فعلى الخبيز بالرحى اختيار الحجر الصالح، ثم عليه اصلاحه ليكتسب الاستدارة وعمل ثقب فيه ونقره وغير ذلك مما يتعلق بهذا العمل.وتكون حجارة الرحى مختلفة في الحجم، باختلاف العمل الذي يوكل إليها أداوه. فبعض الرحى كبيرة ثقيلهّ ذات قطر واسع، وتستخدم في طحن بعض المواد الصلبة مثل العفص ومواد الدباغة الأخرى والمواد التي تستخدم في إنتاج الزيت والطحين. ويستخدم الحيوان لإدارة مثل هذه الرحى. وقد عثر على حجارة رحى ضخمة استخدمها العرب قبل الإسلام في تلك الأغراض.

وبائع الحنطة يقال له الحنّاط، يعيش من الإتجار بالحنطة، وقد يبيع معها الشعير والحبوب الأخرى. وقد ورد ذكر "الحناطين" في كتب الحديث.

والخبز في العادة هو من الأعمال البيتية، أي من الأعمال التي تتم في البيت، حيث تقوم الزوجة بخبزه، ويقوم الرقيق أي الخدم بخبزه في البيوت الكبيرة الغنية. وهو من اختصاص النساء.

وقد احترف بعض الناس الخبازه، وعرف واحدهم ب "الخباز"، إذ يصنع الخبز المصنوع من الحنطة أو المصنوع من الشعير أو من الذرة ومن الرز. والخبز على اْنواع، فيه الغليظ وفيه الطري وفيه الناشف، وفيه ما يضاف اليه السكر. وقد ذكر أن من الخبز الغليظ ما يقال له "جرذق" و "جردق" و "الجردقة"، واللفظة فارسية معربة وأصلها "كرده".

والخبز المصنوع من الحنطة، هو أجود أنواع الخبز وأغلاها، ولذلك يعتبر خبزها خبز الأغنياء وخبز الطبقة المتمكنة. اًما خبز الأعراب والفقراء وأهل القرى فهو الخبز المصنوع من الشعير أو من الذرة. ويقتات فلاحو بلاد الشام واليمن بخبز الذرة، لوجوده بكثرة عندهم، ولرخص ثمن الذرة بالنسبة إلى القمح. كما يقتات بعضهم بالخبز المصنوع من "الدخن"، وهو من الحبوب القديمة وقد أشير اليه في التوراة.

ومن أنواع الخبز "المرقق"، أي الرقاق، وقد ورد ذكره في كتب الحديث، ويقال له "المرقوق" في بلاد الشام، ويعرف ب "رقيقيم" أي "الرقيق" عند العبرانيين. ولا زال معروفاً مستعملاً. ويكون ناشفاً رقيقاً يمكن حفظه وخزنه مدة طويلة. ولذلك يدخر للشتاء وللاسفار. ويرقق خبز الرقاق بآلة تسمى: المرقاق.

والخبز الجيد هو الخبز المصنوع من الطحين المنقى الصافي من قشرة الحبوب، وذلك بنخل الطحين في منخل فيسقط لبّ الطحين ويعزل عن القشرة التي تبقى في المنخل، حيث يستعمل لأغراض أخرى كعلف للحيوان، أو لتنظيف الأواني وما شابه ذلك من أعمال.

و "الكعك"، هو نوع من الخبز اليابس. ويحمل في الأسفار أيضاً، حيث يبقى مدة طويلة محافظاً على طعمه ونكهته. وقد ذكره بعض اللغويين في المعربات. والسميذ، نوع من أنواع الخبز اليابس كذلك.

وقد يحلى الخبز، بوضع مادة حلوة فيه، وقد يعجن بالدهن أو الزيت، وقد توضع فيه بعض المواد لاعطائه نكهة خاصة، أو يوضع عليه السمسم أو غيره، كما نفعل اليوم.

ويخبز الخبز عند الحضر وأهل الريف في "التنور". و"التنور" من الألفاظ الواردة في عدد من اللغات السامية، فهو "تنورو" Tanuru في الآشورية. و "تنور" في العبرانية. والتنور العربي هو نفس البابلي القديم نفسه.

وقد عير "حسان بن ثابت" رهط "النجاشي" الشاعر بأنهم لم يكونوا أهل حرب ولا طعان ولا فرسان، وانما هم قوم لا يعرفون غير الأكل والجلوس حول التنانير، يأكلون ما يخبز فيها.

وعاش بعض الناس على بيع الحليب واللبن والزبدة والجبن. أما "اللبن"، فإنه الحليب المثخن، أي الحليب الغليظ. غلظ بتسخينه وبإضافة خميرة اليه. وأما الربدة،فتستخرج من خض الحليب وتحريكه، فتتجمع مادة دهنه وتكون الزبدة. وأما الجبن، فإنه من أكل أهل القرى والمدن في الغالب. أما الأعراب، فلم يستعملوه بكثرة، ولا زالوا على هذه العادة. وقد يستعمل بعضهم اللبن المجفف، فبعد تحويلهم الحليب إلى لبن، يجففون اللبن، ويستعملونه عند الحاجة. وقد ذكر الجبن في التوراة ب "جبينه" من أصل "جبن" احد الألفاظ السامية القديمة.

ويعيش أناس من الجزِارة، فكانوا يبيعون اللحم ويتكسبون بهذه الحرفة، كما كانوا يقومون بالجزارة للناس في مقابل أجر يتقاضونه، قد يكون نصيباً يدفع اليهم من الذبيحة، وقد يكون شيئاً آخر يحصل التراضي عليه. ولكن العادة أن يقوم الذبّاحون بذبح الذبائح لأهل البيوت مقابل دفع شيء اليهم من الذبيحة أو بعض الأشياء التي يحتاجون إليها، وقد يقوم بالذبح أصحاب البيوت أو الخدم أو الطباخون وذلك في العوائل الكبيرة، ولهذا فحرفة الجزارة لم تكن من الحرف الشائعة، لا سيما وأن سواد الناس لم يكن في امكانهم تناول اللحوم في كل يوم، لغلائه بالنسبة لهم، بل كانوا يعيشون على الخبز وبعض الادام الرخيص، ولهذا صار الخبز المادة الأساسية في معيشة الإنسان، ومن هنا قيل له "العيش"، وقيل للطعام: "العيش". كما كان اللبن أساساً لمعيشتهم، وقد يتأدمون بالتمر مع الخبز.

وأحسن اللحوم عند العرب لحوم الإبل ، لا يفضلون شيئاً عليها ، ومنهم من كان يستطيب أكل الضب. وهم في أكل لحم الجمل على عكس يهود، الذين يحرمون أكل لحوم الجمل. أما لحوم الغنم والماعز، فإنها تكون عند أهل القرى والمدن، حيث يبيعها الجزارون. وقد يأكلون لحوم الخيل. وفي الأدب العربي قصص عن ذبح فرس لضيف قادم، حين لا يكون لدى المضيف من حيوان سوى الفرس. وقد يأكلون الحمر الوحشية، والحيوانات الأخرى حيث يصطادونها. أما الدجاج، فإنه من مآكل أهل القرى والمدن حيث تربى عندهم ويبيعونها في السوق.

وكان مأكولهم في غالب الأزمان لحوم الصيد والسويق والألبان، وكان الغالب من أهل باديتهم لا يعاف شيئاً من المأكل لقلتها عندهم. وكان الاصطياد ديدناً لهم، وسيرة فاشية حتى كان ذلك أحد المكاسب التي عليها معاشهم،لاضطرارهم إلى النقلة في الغالب وتشاغلهم بالحروب وغزو بعضهم بعضأ،ولضيق ذات يدهم، فكانوا يتغلبون على كل ذلك بالاصطياد وبمطاردة الحيوانات بكل طريقة ممكنة لأكل لحومها.

والطباخة من الحرف التي كانت معروفة غد الجاهليين. وقد ورد في كتب اللغة والأَخبار وكتب الحديث أسماء بعض الأطعمة التي كان يستعملها أهل الجاهلية وبينها أسماء أطعمة معربة، اقتبسها العرب من الفارسية والارمنية واليونانية. ومن هذه الاطعمة المعربة، "الخرديق" "الخردق"، وهو طعام شبيه بالحساء أو "الخزيرة". وقيل المرفة بالشحم. ذكر العلماء أنها من أصل فارسي، هو "خورديك" و "الحشنكان".

وتقوم المرأة صاحبة البيت بالطبخ، أما إذا كانت الأسرة غنية موسرة، فتستخدم طباخات للطبخ. وقد يقوم "طباخ" بذلك. وفي الولائم الكبيرة حيث يدعى عدد كبير من الناس، يصعب على الطباخات الطبخ بالقدور الكبيرة، ولهذا يقوم الرجال بذلك.

وقد استخدم أصحاب المال والثراء طباخين أعاجم لطبخ الأطعمة لهم، وذلك لاتقانهم عمل الطبخ ولتفننهم فيه،ولمعرفتهم بأنواع المآكل الأعجمية التي لا يعرفها العرب. وقد ذكر أن "عبد الله بن جدعان" جاء بطباخ فارسي، من العراق ليطخ له مأكولات لا يعرفها أهل مكة وقد أعجبته ، ومنها الفالوذج، وهو من مأكولات الفرس.

وتستعمل القدور في طبخ الأكل. والعادة أن تكون هذه القدور من معدن. مثل نحاس أو حديد. ولكنها قد تصنع من الحجارة المنحوتة أو طين مشوي بالنار، أي قدور من فخار. وتستخدم المقلاة للقلي، فيقلى فيها أو في القدر ما يراد قليه من لحم أو غير ذلك. وقد يسلق اللحم، او الخضر سلقاً، ويعبر عن ذلك في العبرانية بلفظة "سلق" كذلك. أما "المرق"، فيقال له "مرق" في العبرانية كذلك. وقد يهيأ الطعام بطريقة الشوي على النار، بان يشوى اللحم أو السمك على النار، ويعبر عن ذلك بالشواء. يعلق اللحم أو السمك بعود أو أعواد أو بعود من حديد، ثم يقرب من اللهيب أو الجمر حتى ينضج اللحم أو السمك فيرفع للاكل.

وقيل للقدر "البرمة" بلغة أهل مكة والجمع "برِام". وقد وردت لفظة "قدر" في القرآن الكريم: "وجفان كالجوابي وقدور راسيات " والمفرد: قدر. و "القدير" ما يطبخ في القدر. وقيل ما طبخ من اللحم بتوابل، فإن لم يكن ذا توابل فهو طبيخ. والقدار: الطباّخ، وقيل الجزّ ار، هو الذي يلي جزر الجزور وطبخها. قال مهُلهل: إناّ لنضرب بالصوارم هامها  ضرب القدار نقيعة القدّام

وعرفت البرمة بقولهم: البرمة: قدر من حجارة والجمع برم وبرام. وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن ، ويطلق على الحجارة التي تنصب عليها القدر أثافي، واحدتها أثفية ، وعلى المسافة بين أثافي القسر التي يجتمع فيها الجحر "الر بعة".

وطعام ابن البادية طعام محدود، لضيق أرضه وسذاجة حياته. أما الحضر، ولا سيما أصحاب الحضارة ومن كان منهم على اتصال بالروم والفرس، فكانت أطعمتهم متعددة متنوعة، فيها تفنن ومهارة في الطبخ. وقد يبقى الأعرابي مدة لا يذوق فيها طعاماً مطبوخاً باللحم، لأن اللحم نادر في البادية، إلا إذا جاء ضيف فنحر له، أو وقع له صيد. ولهذا أكل بعضهم الضباء والأرانب والحيوانات الأخرى التي تقع أيديهم عليها، لحاجتهم إلى اللحوم، وأكَلوا الجراد. والأغلب في لحوم الصيد، لسهولة ذلك.

أما الحضر وسادات القبائل وذوو اليسار، فكانوا يطبخون وقد وردت اسماء بعض أطعمتهم في الشعر وفي الحديث النبوي، ومنها الثريد وهو لحم مقطع يغلى في الماء، وقد يوضع البصل معه أو مادة أخرى، وبعد نضجه يثرد خبز ويلقى اللحم والمرق عليه، فيسمى الأكل ثريداً. وقد كان من الأكل الطيب المحبوب. وقد ذكر في كتب الحديث. ويقدم في الولائم وللضيوف. والخبز ممدوح عند العرب، ولذلك مدح هاشم حين هشم الخبز. والثريد عام في الأشراف، يقدمونه للناس، ويرون أكل الخبز، سبباً في صفاء العقل. ولهذا ذكروا أن كسرى مدحه، حينما سمع حديث هوذة بن علي الحنفي معه، فلما رأى رجاحة عقل هوذة وحسن ذكائه، قال له: "ما غذاؤك ببلدك ? قال:   

الخبر. فقال كسرى: هذا عقل، الخبز، لا عقل اللبن والتمر. ويقال: إن عبد الله بن حبيب العنبري، كان يعاف التمر، ولا يرغب في اللبن، ولا يأكل إلا الخبز، فقيل في المثل " أقرى من آكل الخبز " وكان من الأجواد. وفي كتاب الأغاني: أن كسرى قال كلامه المذكور المتقدم إلى غيلان بن سلمة، وهو من ثقيف، وكان قد جاء مع أبي سفيان في تجارة إلى العراق. وقد خاف أبو سفيان من الفرس ومن احتمال مصادرتهم أموال تجارتهم، فتقدم غيلان، ودخل مع الداخلين إلى بلاط كسرى، وتحدث معه، فأعجب كسرى به، وأخذ يسائله، حتى سر منه، فاشترى منه تجارته، وقال له ذلك القول المذكور، وكساه، وبعث له معه من الفرس من بنى له أُطماً بالطائف، فكان أول أطم بني بها".

وفي المآدب الكبيرة يكون "الثريد"، هو الطعام الرئيسي. ويهيأ بسلق قطع اللحم الملقاة في الماء، وقد يضاف اليه البصل والحمص، فإذا سلق اللحم ونضج، وتولد منه مرق، ألقي مع مرقه على الخبز المثرود في قصع وصحاف، ليأكله المدعوون. والثريد من الأطعمة المحببة إلى نفوس أهل مكة والحجاز. وقد قدم "ابرهة" الثريد إلى الجنود والفعلة الذين أتموا سدّ مأرب، وذلك يوم الاحتفال بانتهاء العمل. وقد يقابل ذلك ما يقال له "سلوق" و "سليقوت" عند العبرانيين. وقد أشير إلى الثريد في قصة ذهاب "هاشم بن عبد مناف" إلى بلاد الشام، والتقائه بهرقل، وتثريده لمن معه ولأهل مكة.

ولازدراء العرب من يزرعون البقول والخضر، أحجم الناس عن زراعتها، فقل وجودها في مطابخ أهل الحضر. أما أهل البادبة، فإن مآكلهم تكاد تكون خلواً من الخضر المطبوخة، لندرة الخضر في البادية، ولأنها تحتاج إلى لحم، وهو نادر في البادية أيضاً. ثم إن الطبخ المعقد، لا يناسب الحياة في الصحراء، لهذا كان المطبخ الجاهلي،مطبخاً يكاد يكون مستغنياً عن الخضرة المطبوخة باللحوم. لا يستثنى من ذلك إلا الساسة المتصلون بالروم وبالفرس وأهل اليمن، والأغنياء من أهل المدن والقرى، فقد كان في امكانهم الحصول عليها،ومن هنا استعملوها في الطبخ، يطبخونها مع اللحم.

لذا صار عماد الأكل الجاهلي والتمر واللبن والسمن والدقيق المصنوع من البر أو الشعير والشحوم والعسل، وذلك عند أهل الحضر في الغالب، والجراد والأقط. واذا دققنا في قائمة المأكولات الجاهلية، رأينا موادها لا تتعدى هذه الأشياء، وهي تختلف باختلاف خلط هذه المواد وباختلاف مزجها وطبخها. ولكنها كلها لا تخرج عن حدود الأشياء المذكورة.

ونجد في قائمة مأكولات أهل الجاهلية أكَلات تقوم على استعمال الدقيق في الطبخ. من ذلك الحساء: وهو طبيخ يتخذ من دقيق وماء ودهن. وقد يحلىّ ويكون رقيقاً يحسى.

وقد يستعمل الدقيق مع الحليب، بأن يطبخ، ومن ذلك الحريرة: الحسا من الدسم والدقيق، وقيل هو الدقيق الذي يطبخ بلبن ؛ وقيل الحريرة من الدقيق والخزيرة من النخال. وقد عرفت قريش باكثارها من أكل أكلة عرفت ب "سخينة"، ولاكثار قريش من أكلها عيرّت نجا حتى قيل لها "سخينة". والسخينة أكلة ارتفعت عن الحساء وثقلت عن أنُ تحسى، وهي طعام يتخذ من الدقيق دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء، وذكر انها دقيقُ يلقى على ماء أو لبن فيطبخ ثم يؤكل بتمر أو يحسى، وقيل تعمل من دقيق وسمن. وذكر أن الناس يأكلون السخينة في شدة الدهر وغلاء السعر وعجف المال.

ويذكر أهل الأخبار أن أول من لقب قريشاً ب "سخينة" "خداش بن زهير"، حيث يقول: يا شدة ما شدنا غـير كـاذبة  على سخينة لولا الليل والحرمُ 

فذهب ذلك على أفواه الناس حتى كان من التمازح به ما كان بن معاوية بن أبي سفيان وبين الأحنف بن قيس التميمي، حين قال له: ما الشيء الملفف فىِ البجاد ? فقال له: السخينة يا أمير المؤمنين، أراد معاوية قول الشاعر: إذا ما موت ميت من تمـيم  فسرك أن يعيش فجيء بزاد 

بخبز، أو بلحم، أو بـتـمـر  أو الشيء الملفف في البجاد

يريد وطب اللبن ، وأراد الأحنف قول خداش بن زهير، يا شدة ما شددنا.. البيت. وحتى قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لكعب بن مالك الأنصاري: أترى الله نسي قولك ? يعني: زعمت سخينة إن سَتغَلب ربها  وليغلبنّ مغالب الـغـلاب "

وورد في بعض ت الروايات أن البيت المتقدم هو من شعر حسان بن ثابت.

ومن المآكل التي يأكلها أصحاب العيال إذا غلب عليهم الدهر: النفيتة، وهي الحريقة، أن يذر الدقبق على ماء أو لبن حليب حتى تنفت، ويتحسى من نفتها، وهي أغلظ من السخينة وقد قيل عنها: حساء بين الغليظة والرقيقة. والحريقة اسم مرادف للنفيته.

ومن المآكل الحدرقة. وهي دقيق يلقى على ماء أو على لبن فيطبخ ثم يؤكل، بتمر أو يحسى وهو الحساء ، فهي مثل السخينة ، والنفيتة والخزيرة والحريرةء وقيل الحريرة أرق منها. و "النجيرة" العصيدة: وهي لبن وطحين يخلطان. ومنها " الصحيرة"، وهي اللبن يغلى ثم يذر عليه الدقيق. ومنها "العكيسة"، وهي لبن يصب عليه الإهالة وهي الشحم المذاب. ومنها "الغريقة"، وهي حلبة تضم إلى اللبن والتمر وتقدم إلى المريض، والنفساء، ومنها "الرغيدة" وهي اللبن الحليب يغلى ثم يذر عليه الدقيق حتى يختلط فيلعق.

ومني مآكلهم: "الاصية"، وهي دقيق يعجن بلبن وتمر،: منها "الرهية"، وهي بر يطحن بين حجرين ويصب عليه لبن. ومنها "الوليقة" وهو طعام يتخذ من دقيق وسمن ولبن، ومنها "الخزيفة"، وهي شحمة تذاب ويصب عليها ماء يطرح عليه دقيق فيلبك به،ومنها "الرغيغة"، وهي طعام من دقيق وماء وليست في رقة السخينة، و "الربيكة"، وهي طعام يخذ من بر وتمر وسمن. ومنها "التلبينة"، وهي حُثالة تتخذ من دقيق أو نخالة ويجعل فيها عسل. ومنها "الوثيقة"، وهي أن يغلى اللحم ثم يرفع. و "العثيمة"، طعام. يطبخ ويجعل فيه جراد وههو "الغشيمة" أيضاً. و "البغيث" و "الغليث" الطعام المخلوط بالشعير.

و "العريقة"،وهي شيء يعمل من اللبن. و "البكيلة" السمن يخلط بالأقِط، وقيل الدقيق يخلط بالسويق ثم يبل بماء أو بسمن أو بزيت.

ومن مآكلهم "الخزيرة"، وهي أن ينصب القدر بلحم يقطع صغاراً على ماء كثير، فإذا نضج، ذر عليه الدقيق. فإن لم يكن لحم، فهو عصيدة. وينسب صنعها إلى سويد بن هرمي. ولذلك قال شاعرهم لبني مخزوم: وعلُمتمُ أكل الحـزير وأنـتـم  على عدواء الدهر صم صلاب 

وعرفت الخزيرة: انها اللحم الغابُ يؤخذ فيقطع صغاراً في القدر ثم يطبخ بالماء الكثير والملح، فإذا أميت طبخا ذر عليه الدقيقّ فعصد به ثم أدم بأي ادام شيء، ولا تكون الخزيرة إلا وفيها لحم، فإذا لم يكن فيها لحم فهي عصيدة. وقيل الخزيرة مرقة،وهي أن تصفى بلالة النخالة ثم تطبخ، وقيل الخزيرة والخزير الحسا من الدسم والدقيق، وقيل الحسا من الدسم.

وضع أهل مكة طعاماً، عد عندهم من رقيق العيش،هو لباب البرّ بصغار المعزىْ، وهناك أكلات أخرى بسيطة، مثل أكل تمر مع لبن أو الزبد مع الرطب، أو خلط لن بلبن آخر ذكر أسماءها علماء اللغة ، لا أرى حاجة إلى ذكرها، لعدم وجود أهمية لها وعلاقة كبيرة بهذا الموضوع.

وقد استورد الحضر بعض مآكلهم من الخارج، لاستساغتهم واستحسانهم،فقد قيل إن عبد الله بن جدعان سيد قريش كان قد زار العراق، ودخل قصر كسرى وأكل عنده. وكان في جملة ما أكل "الفالوذج"، فتعجب منه، وسأل عنه، فوصف له. ويقال انه ابتاع غلاماً يصنعه، وأخذه معه إلى مكة، وصار يأكله وأمر بوضع موائده بالأبطح إلى باًب البيت، ليأكله الناس، وكان ممن أكله أمية ين أبي الصلت، فقال فيه شعراً ومدح صاحبه لجوده وكرمه: إلى ردح من الشيِزى عليها  لبُاب البُرّ يُلبك بالشِـهـاد

والردح: الجفنة العظيمة، والشيزى: خشب أسود تتخذ منه القصاع، واللباب: الخالص، والشهاد: العسل. وقد نسب "البرقوقي" ذلك البيت إلى "ابن الزبعرى"،عبد الله وهو من الشعراء الذين عرفوا بهجائهم للرسول وبدفاعهم عن المشركين.

وكان عبد الله بن جُدعان من أغنى أغنياء قريش، جمع مالا. عظيما، ولكنه كان على خلاف عادة التجار الأغنياء كريماً جواداً متأنقاً ينفق على طعامه وشرابه. كسا بيته بأحسن ما كان في ذلك العهد، كانت أواني شربه من ذهب، وفيه ورد في المثل: أقرى من حاسي الذهب.

ويقال إن ابن جدعان هذا كان في ابتداء أمره صعلوكاً تربَ اليدين، شريراً فاقطاً، لا يزال يجني الجنايات، فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته عشيرته، ونفاه أبوه، وحلف لا يؤويه أبداً، فخرج في شعاب مكة تائهاً حائراً، فرأى شقاً في جبل، فدخل فيه ليستريح، وإذا به يعثر على مقبرة فيها جثث عليها ثياب قد بليت، صارت كالهباء حين لمسها، ووجد كنزاً حمله معه إلى والده ليسترضيه، فرضي عنه، ومن هناك جاء غناه. ويقال إنه كان نخاساً. وروي انه مذ هذا الحادث صار يطعم الناس ويفعل المعروف، وصنع له جفنة كيرة جداً ياكل منها القائم والراكب لعظمها، ووضع له جفاناً في ردحة بيته ليأكل منها من يقصده. وورد إن الرسول ربما كان يحضر طعامه، وقد رأى جفنته، واستظل بها اضخامتها.

ولمكانته هذه ولمنزلته في قومه وبين الناس، آمنت به العرب، ووثقت به، فكانت تدفع اسلحتها اليه، حتى تفرغ من التسوق من سوق عكاظ ومن الحج، فإذا أرادت الرجوع، دفع إليها أسلحتها.

وقد عرف السكر عند الجاهليين، ويقال له: المبرت بلغة حمير. ولايستبعد صنعه في جزيرة العرب أو استيراده من الهند او من اماكن أخرى. وقد ذكر "ديوسقوريدس" Dioscurides أن في الهند وفي اليمن مادةً تشبه الملح في المنظر، تستخرج من سائل،كالعسل ، وفي هذا الوصف ما ينطبق على السكر.

حرف أخرى

ومن الحرف الحلاقة 9 والحجامة. ويجمع الحلاّق في الغالب بين حلاقة الشعر والحجامة. ويستعملَ الحلاق الموسى والمقص في الحلاقة، ويتخذ المرآة لإراءة المحلوق شعره وكيفية قصه، وكذلك يتخذ أدوات زينة وطيب لتطييب الشخص، إذ الحلاقة نوع من أنواع الزينة كذلك. وكانت حلاقة الرأس مختلفة، لا تجري على طريقة واحدة. فلقبائل عادات مختلفة في طريقة حلاقة الشعر وقصه، كما أن الأعراب يختلفون عن أهل المدن في تنظيم شعر رؤوسهم وحلاقته. وهم يدهنون. شعورهم ويتركونها تتدلى في الغالب، وقد يجعلونها ضفائر وجدائل تتدلى على الاكتاف.

واعتماد الحجام على الموسى يشرط به جروحاً خفيفة يمص منها الدم بكأس من الزجاج توضع فوق الشرط، ثم يسحب الحجام الهواء من الفتحة الضيقة المتصلة بقناة داخل الكأس،، فيخرج الدم إلى داخل الكأس. وقد كانت الحجامة من وسائل التداوي في ذلك الزمن. كذلك عد "الفصد"، وهو اخراج الدم من عرق في اليد، نوعاً من أنواع المداوة. ويقال للقائم به "الفصاد". وقد يقوم بذلك الأطباء. واستعمل نوع من الديدان في امتصاص الدم " كذلك. وذلك كنوع من أنواع المعالجات الطبية. ولا تزال هذه الطريقة معروفة عند الأعراب وأهل القرى والمدن. وقد حجم الرسولَ رجلٌ اسمه "أبو طيبة"، وأعطاه أجره عليه ويستعمل الفصاد المبضع في الفصد.

وعاش بعض الناس على بيع الحطب، فكانوا يجمعونه من البادية ومن الجبال ويأتون به إلى المدن والقرى مثل مكة ويثرب فيبيعونه. يقوم بذلك "الحطّابة". وقد نعتت امرأة أبي لهب في القرآن الكريم ب "حمالة الحطب"، وذلك على سبيل الازدراء والتحقير. ويشد الحطب ويربط في بحبل، ويوضع على ظهر الدابة، وقد يحمله الأشخاص لبيعه. والأغلب أن تبيع النساء العاقول والحطب.

والرتم من الحطب الذي يعطي ناراً شديدة ذات لهب، يبيعه الحطابون لأهل المدن، ويقال له "روتيم" في العبرانية. ويتخذ منه فحم، وذلك باطفاء ناره قبل احتراقه. فيتولد من ذلك الفحم.

ومن أنواع الحطب الأطد، وهو: "اطد" في العرانية أيضاً. والعوسج، والحدق. ويقال ل "حدق" في العبرانية كذلك، والسمر، وهو "شمير" عند العبرانيينْ.

وقد كان أكثر من يتعاطى الطبخ والخبازة والجزارة من العبيد. وقد تخصص بعضهم بعمل واحد من الحرفة الواحدة ? مثل بيع نوع واحد من الطبيخ فذكر إن رسول الله دعا اليه مرة عبداً، كان يبيع الخرديق. "القد ار" هو "الجزار".

والموقد، هو الموضع الذي توقد فيه النار، وبعرف ب "ميقده" عند العبرانيين. وقد كان عرب بلاد الشام والعراق يتخذون المواقد للاصطلاء بها في أيام الشتاء، كما يستعمله الطباخ موضعاً للطبخ يضع القدور عَليه ويشعل فيه النار.

وقد عاش اناس على كراء الحمير والإبل للمحتاجين إلى ذلك، ويقال لذلك البرطة. ولمكترها للناس المبرطس.

وقد احترف بعض الأناس حرفة صنع الحصر والسلال والقلل والسرر. صنعوها من الخوص ومن سعف النخيل، لوجودها بكثرة. وصنعها بعضهم من القصب وذلك في الأماكن التي تكثر فيها المياه والرطوبة. ولا تزال هذه الحرف قائمة معروفة.وتصنع بعضها بنسج إلخوص أو الألياف كما هو الحال بالنسبة إلى "الحصر"، جمع حصير المنسوج الذي يبسط في البيوت. وذكر أن الحصير: سقيفة تصنع من بردي وأسل ثم تفرش.

ويستخدم "السفط" فْي حفظ الأوراق: الاشياء الثمينة. ويصنع من القصب والخيزران ومن الخوص أيضاً، حيث يصف صفا.

و "القفة"، نوع مهم من السلال أيضاً. وتكون مختلفة الحجوم. و تستخدم في أغراض متعددة، ومنها نقل الطين، وتعرف عند أهل العراق ب "قفة الطين"، أو لنقل الأحجار. وتصنع من المعدن أو من الأغصان. وأشير إليها ب "Kophinoi " و "Kophinos" "Cophinus "في الأناجيل، من اليونانية حيث تسمى ب "Kophinoi" ،"Kophinos "واللاتينية،حيث تسمى ب ""Cophinus. ولعل بين لفظة "قفة" والتسمية اليونانية اللاتينية صلة.ومن لفظة،"Kophinos"،أخذت لفظةCoffen""، أي تابوت. ويلاحظ أن بين هذه اللفظة ولفظة "كفن" العربية، صلة كبيرة كذلك.

وذكر علماء اللغة إن القفة: الزّبيل، ويسمونها القفعة ويجعلون لها معاليق يعلقونها بها من آخرة الرحل، يلقي الراكب فيها زاده وتمره، وهي مدورة. وعرفت انها شبه زبيل صغير من خوص يجتنى فيه الرطب وتضع فيها النساء الغزل. وعرف الزبيل والزنبيل: الجراب، وقيل الوعاء يحمل فيه، والقفة.

وأما السلة المصنوعة من الخوص، فيقال لها "العلاقة" في العراق في الوقت الحاضر. وتكون صغيرة ومتوسطة. أما الكبيرة، فيقال لها "الكوشر" و "الزنبيل"، ويستعملهما الحمالون في حمل الأشياء للناس.

وتستعمل السلال المصنوعة من الأعواد ومن أغصان الشجر الطرية في حفظ الأطعمة والمطبوخات، لدخول الهواء إليها، ولمنع الطيور والكلاب والقطط من الوصول إليها. وتكون مثل هذه السلال مرتفعة ذات قاعدة أصغر من الوجه العريض الذي يوضع على العرض.

وقد وردت في التوراة والانجيل وفي الكتب اليونانية واللاتينية وفي الاثار المصرية أسماء سلال صنعت في ذلك العهد.تفيدنا في تكوين فكرة عن السلال عند الجاهليين. وقد صنعت بعض تلك السلال من القصب ومن التبن ومن الخوص ومن الأعواد، وهي مختلفة في الأحجام والسعة. ففي التوراة لفظة هي: "س ل" "سل"، وهي "السلة" عندنا. والجمع "سلال". وتصنع في بلاد العرب من الخوص أو من الأغصان الطرية.وتستعمل في نقل الخبز واللحوم والخضر والأشياء الأخرى.

وهي مثل الكيس أحياناَ، يمكن ضمها بعضها إلى بعض وتكون لها يد تحمل بها. وهي في مقابل "الطبق" عند العراقيين. غير إن الطبق ثابت يصنع من اغصان بعض الأشجار مثل الرمان،حيث تكون لينة لا تنكسر. ويكون بأحجام متعددة، منه ما هو صغير الحجم، ومنه ما هو وسط ومنه ما هو كبير يستعمل لنقل الخضر والفواكه من البساتين والحقول إلى مواضع البيع. ومنه ما يستعمله القصابون المتجولون لبيع اللحم.

والسرير: المضطجع والذي يجلس عليه. وكانت أكثر الأسرة مصنوعة من الجريد، وذلك لتوفر الجريد في كل أنحاء جزيرة العرب، وقلة الخشب فيها. ولبست العباءة كذلك. تلبس فوق الملابس. وقد ذكر أن رسول الله كان يلبس العباء.

والبيطرة من الحرف المعروفة عند الجاهليين. وقد كانوا يستعملون الأدوية والكيّ في مداواة الحيوان كما يستعملون بعض الآلات في معالجتها، مثل "المبزغ" وهو مثل مشرط الحجام.

حرف الجلد

والدباغة حرفة مهمة اشتهرت بها أماكن متعددة من جزيرة العرب، ولا سيما بعض القرى والمدن مثل الطائف وجرش مواضع متعددة في اليمن وفي العربية الجنوبية. وهي صناعة تقوم على أساس اصلاح الجلد وإبعاد الصوف والشعر عنه، للاستفادة منه في أغراض نافعة. وقد استخدم الدباغون موادَّ مساعدة تعين على نتف الصوف والشعر من الجلد بسهولة، وبدون أذى له أو للجلد، مثل مادة الجير أو مواد أخرى، كما استخدموا مواد تساعد على حفظ الجلد ومنعه من التلف لدبغه، مثل العفص وغيره من مواد نباتية دابغة. وقد أنف كثير من الناس من هذه الصناعة وتجنبوها، لما ينشأ عنها من روائح كريهة ولاستعمال الدباغين بها مواد تعدّ نجسة في نظر بعض الأديان. كلما منعوا إقامة المدابغ في الأماكن المأهولة المعمورة، وحرصوا على عزلها وحصرها في الاماكن البعيدة عن أحياء السكنى ولا سيما سكنى الطبقات المتنفذة الغنية.

ويقوم الدباغون ببيع ما يدبغونه من التجار. وقد يحمل إلى أسواق بعيدة لاستخدام، في أغراض عديدة، كتحويله إلى قرب يخزن فيها الماء أو يحمل أو أوعية تحفظ فبها الخمور والسمن والسويق والطيب أو أحذية و سيور وغير ذلك من الحاجات. وقد يحوّ له الدباغون أنفسهم إلى هذه الاشياء المذكورة. كما تخصص أناس بحرف تحويل الجلود إلى مواد نافعة يستعملها الإنسان في حياته اليومية، كالمواد المتقدمة والدلاء وأمثال ذلك من أدوات.

والقرب في ذلك الوقت مهمة برداً في حياة الإنسان.فقد كانت مخازن متحركة يخزن فيها أشياء كثيرة ضرورية. فكانت أوعية لحمل الماء في الحضر وفي السفر كما كانت الأوعية الرئيسية لحفظ الخمور والانبذة والزيوت والدهون والشحوم والدبس والمواد الغذائية الأخرى.يحتاج إليها ألاعرابي في حله وفي ترحاله والحضري في مستقره وفي سفره.كان المصريون واليونان والعبرانيون يحفظون الخمور والانبذة في أوعية القرب.وقد أشار الى ذلك بعض الكتبة القدماء. ويعالج اهاب القرب معالجه خاصة ليعطي الشراب نكهة طيبة، ولئلا يتأثر الشراب من رائحة الجلد.

وذكر علماء اللغة أن "القربة" الوطب من اللبن، وقيل هي المخروزة من جانب واحد.

وأما "الجرِاب" فوعاء من اهاب الشاء لا يروعى فيها إلا يابس.فهو وعاء من الجلد إذن خصص لحفظ الاشياء الجافة كالدقيق وما أشبه لحفظه. كما يقال لوعاء الزاد ، المزود.

وتدخل المصارين، وهي أمعاء الحيوانات المذبوحة، في جملة الاعمال التي يقوم بها الدباغون، اذ يتعهدونها بالرعاية والعناية والاصلاح، فينظفونها مما بها من أوساخ وبصلحونها ويعالجونها، ثم يبيعونها من التجار أو يحوّلونها إلى مواد نافعة مفيدة، مثل اتخاذها أوتاراً لآلات موسيقية أو للاقواس لرمي السهام، أي لأغراض حربية. وكلما كانت العناية شديدة بمعالجة هذه الأمعاء، كانت الأوتار ذات قابلية كبيرة على الشد والتوتر، وبذلك يكون مجال رمي السهام بالأقواس كبيراً، وفائدة القوس في القتال عظيمة. وقد كان القواسون أي الرماة بالقوس، قوة ذات أهمية في مصير حرب ما في ذلك العهد.

وتدخل الجلود في أغراض حربية كذلك. فقد استخدمت لحماية الجسم من ضربات إلسيوف ومن تساقط السهام عليه، كما استخدمت في صنع الدروع والخوذ الواقية للرأس، وفي حماية الدبابات والمنجنيقات بتغليفها بجلود ثخينة مقاومة، وتعالج بمواد خاصة أمام تساقط النار أو الماء الحار أو الزيوت ألساخنة عليها، وقد تعمل ستائر منها يحتمي الجنود المشغلون لها تحتها من المواد المقذوفة عليهم. وهناك استعمالات أخرى للجلود أدت للجيوش خدمات كبرى في الحروب، فالقرب، مادة ضرورية في الحرب، لأنها أوعية ومخازن للماء، والماء مادة ضرورية للانتصار في الحروب. و الراوية وهي المزادة من ثلاثة جلود، هي مادة ضرورية في الحرب وفي غير الحرب لما تحمله من ماء، وصنعت الدرق من الجلود، وهي الحجفة تتخذ من جلود ليس فيها خشب ولها عقب. ويراد بالجحفة التروس من جلود خاصة، وقيل من جلود الابل مقورة بلا خشب ولا عقب. وقد كانت معروفة عند الاحباش خاصة. ويراد بالتروس كل الاسلحة التي يتوقى المحارب بها. والتراسة صنعة التروس، واما الصانع، فهو التراس.

وتفرغ اناس لاحتراف انواع خاصة من اعمال الجلود، فصرف بعضهم نفسه الى صناعة القرب والدلاء وادوات السقي، وتخصص قوم بعمل السروج ونحوها من الادوات التس تستعمل في الحيوان مثل اللجام و "الرسن"، كما تخصص اخرون بصنع الأحذية. وذكر بعض العلماء أن بعض هذه الأدوات المصنوعة مثل "الرسن". هي من الألفاظ المعربة وان "الرسن" لفظْة فارسية الأصل، وقد عربت في الجاهلية. وتصنع "القباب"، من الأدم خاصة. وقد تكون كبيرة، ولكنها ذات أحجام مختلفة.

ومن الأدوات المصنوعة من الجلد "الجلبان"، وهي شبه جراب من الأسم، يوضع فيه السيف مغموداً، ويطرح فيه الراكب سوطه وأداته، ويعلقه بآخر الرحل وواسطته. والغرز وهو ركاب الرحل الذي تركب به الابل، ويصنع من الجلد. فإذا كان من خشب أو حديد فهو ركاب. والسقاء وهو ظرف الماء إذا كان من جلده،ويكون في الغالب من جلد رقيق. والركوة دلو صغير يشرب فيه، ويسطحب في الأسفار. والكنانة وهي الجعبة التي يكون فيها النشاب، والقفاز ويعمل لليدين وقد يحشى بالقطن وتكون له أزرار يزرّ بها على الساعدين من البرد.وقد كان يستعمله النساء. وأما "الأرندج" و "اليرندج" فذكر الجواليقي أنها لفظة معربة، وأن أصلها "رندة"، وهي كلمة فارسية، ويراد بها الجلد الأسود المدبوغ بالعفص حتى يسود. وقد وردت لفظة "أرندج" في شعر منسوب إلى الأعشى.

وتصنع الهمايين من الجلود أيضاً. وقد اشتهرت همايين عجر. واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية. ويراد بالهميان الكيسُ تجعل فيه النفقة ويشد على الوسط.

وتحلى الجاهليون بحلي مصنوعة من الجلد أيضاً. ومن هذه الحلي الجمانة: وهي سفينة من أدم ينسج، وفيها خرز من كل لون، تتوشحه المرأة.

ويصنع الخوان من الجلد في بعض الأحيان، ويراد به ما يؤكل عليه الطعام، وهو من الألفاظ المعربة. وأما الصفن، فخريطة الراعي، يكون فيها طعامه وزاده وما يحتاج اليه. وقيل: هو مثل الركوة.

و "العياب"، هي أوعية من الأدم، ويقال للواحد منها "عيبة"، يوضع فيها المتاع والثياب، وتطلق أيضاً على الزبيل الذي ينقل فيه الزرع المحصود إلى الجرين. و "الشن" الوعاء المعمول من أدم، فإذا يبس فهو شن. وفي المثل: "وافق شن طبقه". يضرب لكل اثنين أو اًمرين جمعتهما حالة واحدة اتصف بها كل منهما، وهناك قصص عن أصل هذا المثلْ.

واستعمل النصارى واليهود "الزنار"، يشدونه في وسطهم على القميص أو الثوب أو المسوح الذي يلبسونه، ويتدلى أحد طرفيه إلى قريب من القدمين. ويصنع من الجلد أو الحرير أو القطن أو الوبر أو شعر الماعز. وقد يشد على الوسط عدة مرات. وقد يوضع فيه محل لحفظ منديل فيه، أو محبرة وحبر إذا كان صاحبه من الرهبان أو الكتاب، وقد يوضع خنجر أو سلاح حاد فيه. وهو يشبه في فائدته الحزام فيَ الوقت الحاضر. واذا اشتغل الفلاح أو الأعرابي أو غيرهما بعمل ما رفع الطرف الأسفل من قميصه إلى الزنار أو الحزام، ليسهل عيه العمل، وقد يضع في عبه أي القسم الواقع فوق الزناد من جهة الصدر أشياء عديدة يحملها معه مثل خبزه وطعامه أو نقوده أو أشياء أخرى يحتاج إليها فيَ ترحاله.

وقد كان الجاهليون يستفيدون من جلود السمك أيضًاً، يصنعون منها أشياء متعددة. فالسفن مثلاً وهو جلد الأطوم، وهي سمكة في البحر ذات جلد خشن يستخرج منه السياط والسهام، ويكون على قوائم السيوف.

واستخدم الجاهليون كذلك فراء مختلف الحيوانات في الأيام الباردة، ومن أنواع الفراء نوع يدعى "سبنجونة"، وهي من جلود الثعالب، وهي من الألفاظ المعربة، ونوع اخر يدعى "الفنك"، وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الفنك دابة يفترى جلدها، وذكر أيضاً إن الفنك جلد يلبس.

ومن أنواع الفراء "المساتق" وواحدتها "المسُتُقة". وقد ورد ذكرها في كتب الحديث، جيث قيل إن الرسول كان يلبس "مستقة"، كما ذكر أن عمر كام يصلي وعليه "مستقة". وذكر الجواليقي انها لفظة معربة عن الفارسية، وانها ! مشته". بالفارسية. وقيل: انها فراء طوال الأكمام، وذكر انها جبة واسعةْ.

ويقوم صانع ألأحذية بصنع الأحذية، مثل النعال والخف "والقفش، أو "الكفش" ويراد به الخف أو الخف القصير، واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية. ومن أنواع النعال، النعال السبتية التي لا شعر لها، وتصنع من جلود البقر المدبوغة بالقرظ. و "السبت" كل جلد مدبوغ أو المدبوغ بالقرظ، ومنه تصنع النعال السبتية.

ويقال للخف "الموزج" أيضاً، وقد ذكر الاسم في كتب الحديث وكذلك "الموق". وذكر أن "الموق الخف الغليط يلبس فوق الخف". وقد ذكر الجواليقي أن أصل الموزج فارسي هو "موزه" "موزجان" وأدخل الموق أيضاً في باب المعربات. والجمع "أمواق"، ويظهَر من بيت شعر ل "النمر بن ثولب"، أن العباديين، وهم نصارى الحيرة كانوا يمشون بالأسواق. وهناك نوع أخر من أنواع الخفاف، يقال لها "القسوبية" و "القساب"، و "النعل" هو لباس الرجل المستعمل عند الجاهليين وعند الساميين. وهو "نعلم" أي "نعل" في العبرانية. ولا يزال النعل مستعملاً حتى اليوم. يستعمل في البيت وفي خارجه، وهو يحمي باطن القدمين من حر الأرض في الصيف ومن الحجارة والمواد المؤذية التي تكون على وجه الأرض. وقد يستعمل نعلاً من خشب،يستعمله أهل القرى وأهل المدن في البيوت. والعرب تمدح برقة النعال وتجعلها من لباس الملوك، وتقدم النعال على سائر أنواع الأحذية.

ومن أنواع النعال،: "النعال السبتي". وهي المصنوعة من الجلد المدبوغ بالقرظ. وخص بعضهم جلود البقر، مدبوغة كانت أم غير مدبوغة. وقيل نعال سبتية: لا شعر عليها. وذكر انها نعال أهل النعمة والسعة.

وعرفت "حضرموت" بنعالها، فقيل "نعل حضرمي" و "الحضرمي". وعرفت بأنها النعال المخصرة التي تفيق من جانبيها، كأنها ناقصة الخصرينْ. وقد تفنن في تزيين وزخرفة الجلود. فذهّبوها ورسموا عليها صوراً، وضغطوا عليها بالات لابراز بعض الصور عليها. ومن الجلود المذهبة: "المذاهب"، وهي جلود كانت تذهب، تجعل فيها خطوط مذهبة، فيرى بعضها في أثر بعض، فكأنها متتابعة. وقيل سيورتموّه بالذهب.

والجلود التي يستعملها الاسكافي هي: جلود البقر والجمال والغنم والماعز وقد تستعمل جلود الثعابين والسمك إذا كانت كبيرة سميكة، وذلك بعد إصلاحها ودبغها. ويستعمل الإسكافي والنحات الإزميل. وقد ذكر علماء اللغة إن الازميل حديدة تجعل في طرف رمح الصيد لصيد البقز: بقر الوحش. والمطرقة. وهي من الألفاظ المعربة وأصلها "زميلي" "Zmili" في اليونانية.

الحياكة والنسيج والثياب

والحياكة والنسيج، من الحرف التي لا ينظر الى صاحبها نظرة أحترام وتقدير في المجتمع العربي القديم، ويقوم بالغزل النساء في الغالب. والحياكة والنسج في الحضر في الغالب. وقد ذكر أهل اللغة أسماء بعض آلات الحياكة والنسج، مثل "الحف" وهي الآلة التي تلمظ بها اللحمة أي تلقم وتصفق ليلتقمها السدى.

وقيل: الحفة المنوال، وهو الخشبة التي يلف عليها الحائك الثوب، وقيل: الحف المنسج. و "الوشيعة" وهي المنسج، وهي قصبة في طرفها قرن يدخل ألغزل في جوفها، وتسمى السهم. وقيل لفيقة من غزل، وتسمى القصبة التي يجعل النساج فيها لحمة الثوب للنسج. و "المشيعة" ما يلف عليه الغزل.

و "الثناية" التي يثنى عليها الثوب. و "العدل" خشبة لها أسنان، مثل أسنان المنشار، يقسم بها السدى ليعتدل و "الصيصية" عود من طرفاء،كلما رمي بالسهم فألحمه، أقبل بالصيصة فأدبر بها، وقيل: إنها شوكة الحائك التي يسوّي بها السداة واللحمة. و "النير" لحمة الثوب، وقيل: الخشبة المعترضة التي فيها الغزل. وقد تنسج الثياب على نيرين، ويكون بذلك أصفق واًبقى.

و "الصنار" رأس. المغزل. وأما "المداد" فالعصا في طرفها صنارتان يمدد بهما الثوب. و "الكُفة" الخشبة المعترضة في أسفل السدي. و "الحماران" يوضعان تحتها ليرفع السدي من الأرض. و "المثلث" قصبات ثلاث. و"المبرم" و "البريم"، الحبل الذي جمع بين مفتولين ففتلا حبلاً واحداً. و "المبرم" من الثياب المفتول الغزل طاقين، ولذلك اطلقت اللفظة على نوع خاص من الثياب. والدعائم" خشبات تنصب ويمد عليها السدي. و "الشفشقة" قصبة تشق وتوضع في السدي عرضاً، ليتمكن به من السقي. و "الكحمة" ما يلحم به، وأداة الحائك المنصوبة تسمى "المنوال"، وهو "النول" أيضاً.

وأما المادة التي يغزل منها ويحاك وينسج، فهي الصوف بأنواعه، وشعر الماعز والوبر،والقطن والشاش والبز والكتان والحرير. وأما التي يغزل بها، فهي "المغزل" ومنه نوع بسيط يحمل باليد. وهو قديم جداً معروف في العصور المتقدمة قبل الإسلام، ولا يزال معروفاً ومستعملاً في الزمن الحاضر، ومنه ما هو سريع بعض السرعة. وهو على هيأة دولاب يدار بالأرض، فيكون سريعاً بالغزل بعض السرعة بالنسبة إلى اليد، ويكون مجال الغزل فيه أوسع من مجال الغزل بالمغزل اليدوي البسيط.

ويلف الغزل على آلة تسمى "الهراوة"، وذلك تمهيداً لتقديمها إلى "النساج" لنسجها.

ويقال للمغزل: "المردن" أيضاً. وقيل: "المردن" المغزل الذي يغزل به الردن. والردن الغزل. وقبل: الغزل يفتل إلى قدّام، وقيل هو الغزل المنكوس، وثوب مردون: منسوج بالغزل المردون.

والغزل هو من أعمال النساء في الغالب، فهي تمسك المغزل وتغزل به. وقد يقوم الرجال بالغزل أيضاً. وهناك أنواع من المغازل وهي متشابهة من حيث الأساس والتصميم. وقد عثر على انواع منها في مواضع من جزيرة العرب.

وفيَ التوراة وصف لكيفية إعداد الصوف وشعر الماعز للغزل. فقد كان على الغزال تنظيف الصوف والمادة المراد غزلها قبل غزلها، وذلك بنثر المادة وتنظيفها من المواد الغربية المختلطة بها. وقد تضرب بعصا أو بآلة خاصة، على نحو ما يفعله "النداف" في الوقت ألحاضر، لتلطيف المادة المراد غزلها وجعلها سهلة الغزل. وقد تغسل بالماء ثم تنظف. فإذا وجد إن المادة المراد غززلها صارت نقية صالحة للغزل، غزلت. وقد عثر على صور لعمال كانوا يقومون بغسل المواد قبل غزلها على نهر النيل، وقد صورت على جدران مقابر قدماء المصريين.

وأهل الجاهليهّ مثل من تقدم أيضاً في تنظيف الصوف وشعر الماعز والوبر والكتان وسائر المواد الاخرى المراد غزلها، كانوا ينظفونها ويمشطونها بأمشاط خاصة، لاخراج ما قد يعلق بها فيها من مواد غريبة، يوعالجونها معالجة خاصة، فأذا نظفت وخلصت من الشوائب، غزلت. وقد كانوا يدقون الكتان لتهترئ اليافه وتتشقق فتنفصل، ثم يمشط بالممشقة، حتى يخلص وتبقى فتاته وقشوره، يوؤخذ الكتان لغزله ونسجه. اما الفتات والقشور، فهي المشاقة، وتستعمل في حشو الخفتان وللقبس.

ويقال لمشاقة الكتان وللخشن من ليف الكتان والقنب "اسطبة". ويظهر انها من اصل يوناني هو "Stippi".

ويهيأ الفتاك "السلك"، وهو الخيط. وقد يكون من حرير او قطن او كتان. واذا وضع في الخيط الخرز واللؤلؤ، فيقال لذلك عندئذ "السمط".

ومن اللوازم المستعملة في البيوت وفي الحياة اليومية والتجارية، الحبال، يستعملونها لحاء الشجر في بعض الاحيان، يؤخذ فيدق ويفتل منه حبل، ويقال لذلك "القرَ ن"، أو من شعر الماعز أو من الأصواف، أو من مختلف الألياف المستخرجة من النبات، او من الخوص.

أما الخيوط، فإنها أدق من الحبل، وتصنع من الكتان أو القطن أو الصوف أو الحرير.، ويخيط بها. وأما "الاطنب" و "الطنب". فإنها حبال الخيمة، تستخدم لربط الخيمة. وأما "الوتر"، فيصنع من أمعاء الحيوانات، وتوضع في الأقواس، لرمي السهم، وتستخدم في الآلات الموسيقية كذلك. وتستخدم الحبال رُبُطاً، يربط بها. يربط بها الأسرى والمساجين والحيوانات.

والصوف مادة مهمة في صنع البسط والسجاجيد. وأكثر صوف جزيرة العرب من انوع الخشن، الذي يصلح لصنع السجاد. وتصنع منه الخيام كذلك. والمستعمل في صنع الخيام هو من شعر الماعز في الغالب. أما أصواف الأغنام، فتستعمل في الغزول والأنسجة اللطيفة التي تحتاج إلى صوف ناعم ودقيق. ولا يزال أهل البادية يصنعون خيامهم الشهيرة ذات اللون الاْسود من شعر الماعز. وقد كان عماد العبرانيين في نسجهم على الصوف وشعر الماعز والكتان. وقد عرف البساط الضخم المنسوج من الوبر أو الصوف ب "الاراخ" ، ويقال للفسطاط "البلق".

وقد اشتهرت اليمن بالغزل والنسيج، وعرفت بإنتاج بعض البرد التي اختصت بها حتى عرفت ب "البرد اليمانية". وهي من الأنواع الغالية الثمينة التي لا يشتريها في العادة إلا المترفون والمرفهون. وقد جعل النبي في جملة ما يدفعه أهل الجزية الثياب عوضاً عن النقد إن لم يكن في قدرة من فرضت عليه الجزية دفعها نقداً، كما عرفت بصنع "الحلل" الغالية، اشتهرت بجميع أنواع الغزل والنسيج، غزل القطن والصوف والحرير، وبأنسجة الصوف والقطن والحرير. وقد كان من عادة روْساء اليمن لبس الملابس الثمينة والحلل الغالية المصنوعة في بلادهم، كما كانوا يصدرونها اق الخارح لبيعها في مختلف أسوإق بلاد العرب وفي العراق وبلاد الشام.

وعرفت دور النسيج في اللهجات العربية الجنوبية بي "تعمت". وقد ورد في كتب اللغة: "عمت الصموف والوبر... لف بعضه على بعض مستطيلاَ ومستديراً حلقة فغزله". وورد: "يعمت الغزل".

وقد ازدهرت صناعة غزل القطن ونسجه في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية في القرن السادس للميلاد، فصارت صناعة الغزل والنسيج من أهم الموارد التي يتعيش عليها عدد كبير من الشعب والتي تكون مورداً كبيراً من موارد الدولة. وقد كان للملوك مغازل ودور نسيج تعمل لحسابهم ولهم، وقد عرفت دور النسيج الملكية ب "تعمت ملكن"، أي "المنمسج الملكي" و "دار النسيج الملكية".

وهناك لفظة أخرى في المسند للموضع الذي ينسج فيه وتغزل فيه الغزول هي لفظة: "ح ل ل ت" "حللت"، ويرى "رودوكناكس" انها "حلالة". وأما النساج، فيقال له "انم" في المسند، وهو للمفرد والجمعْ. وعندي إن المراد ب "ح ل ل ت" "حلت"، الحلة. والحلة عند علماء اللغة إزار ورداء، بردٌ أو غيره. وقيل: الحلل الوشي والحبر والخز، وقيل: كل ثوب جيد جديد تلبسه غليظ أو رقبق، وقيل: كل ثوب له بطانة، وعند الاعراب من ثلاثة أثواب القّميص وإلإزار والرداء. فيراد بها الموضع الذي تعمل فيه الحلل.

وقد كانت بعض الحكومات تحتكر صناعة بعض أنواع النسيج، وذلك بصنع أنواع فاخرة منه لاستعمال الملوك، أو للانعام به على الأمراء والكبراء ورجال الدين كالذي كان في مصر. ويوسم بسمة المعمل وبشعار الحكومة أو الحاكم ، ليكون في علم الناس انه من صنع الحكومة. وقد تبيعه الحكومة للناس. وتعد هذه الأنواع من النسيج من أفخر ما تنتجه المناسج، ويعرض في السوق.

وقد كان الملوك والكهنة والأغنياء المتأنقون بملابسهم، يرتدون أنسجة دقيقة مصنوعة صنعاً خاصاً بأيد ماهرة متقنة لعملها،لا تصنع الا الأنسجة الثمينة الغالية. ومن هذه الأقمشة ما كان يصنع من الكتان الخالص أو الصوف الناعم الرقيق، ومنه ما كان يصنع من الحرير الخالص أو المخلوط بمادة أخرى. وقد يقصب القماش بالذهب، يوشى به، كألبسة الملوك ورجال الدين الذين كانوا يرتدون ملابس موشاة ومطرقة في أثناء أدائهم الصلوات واقامة الشعائر الدينية. وقد كان الملوك والكهان يستوردون الأقمشة الجيدة من أماكن أخرىَ اشتهرت باتقانها واجادتها صنع الأقمشة الجيدة، مثل بابل وبلاد الشام والهند ومصر وفارس وغيرها لمثل هذه الأغراض.

وقد اشتهرت منسوجات اليمن في كل مكان من جزيرة العرب، بجودتها وأناقتها، وظلت محافظة على سمعتها هذه إلى الإسلام، فكان أغنياء الحجاز وغيرها من جزيرة العرب يفتخرون بحصولهم عليها ويلبسونها خاصة في أعيادهم ومواسمهم. وكانت البرد المعروفة ب "الحبر"، وهي برد موشاة مخططة، تعد من أثمن البرد اليمانية في القرن السادس والسابع الميلاديين، ولما قدم وفد نجران على الرسول كانوا يتوشحون بها. ولما توفي الرسول، ووضع مسجى في ناحية من البيت، وضعت عليه الحبرة.

ويقال للثوب الجديد الناعم "الحبير". وذكر اًيضاً إن الحبير البرد الموشى المخطط، وأن الحبرة ضرب من برود اليمن منمر، وبائعها حبرى لا حبار. وتعد "ثياب الحبرة" من الثياب الغالية الجيدة التي يلبسها ا لأغنياء والسادات، فلما قدم وفد تجران على النبي بالمدينة " "فدخلوا المسجد عليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير.

واشتهرت اليمن ب "المراجل"، وهي ضرب من البرود. وذكر بعض علماء اللغة أن البرد المُرجل، فيه صور كصور الرجال. وورد ثوب مرجل بمعنى معلم، وبرد مرجل أي برد فيه تصاوير رحل على تفسير بعض علماء اللغة. وورد المرحلات يعني المرط المرحلة، وهي الموشاة، وقّد أشير إليها في كتب الحديث. و "القيصران" وهو ضرب من الثياب الموشاةْ. والعصب ضرب آخر من اابرود اليمانية يعصب غزله ثم يصبغ ثم يحاك وينسج، فيأتي موشى لبقاء ما عصب فيه أبيض لم يأخذه صبغ. وقيل: هي بررود مخططة. ويقال ثوب مبرج إذا كان ثوباَ ذا تصاوير.

وقد عرفت "البرد"، أنها أكسية يلتحف بها، وقيل إذا جعل الصوف شقة وله هدب. وقيل: البرد من برود العصب والوشي، وأما البردة، فكساء مربع أسود فيه صغر تلبسه الأعراب، وأن البرد ثوب فيه خطوط وخص بعضهم به الوشي.

واشتهر بلد المعافر بنوع من اابرد والثياب، حتى قيل "": برد معافري وثوب معافري". وأما "الشرعبية" فضرب من البرود. وذكر انها من الثياب الحارية. واليها أشير في شعر امرىء القيس: فلما دخلناها أضفنا ظهورنـا  الى كل حاري حديد مشطب 

وعرفت "صنعاء" بوشيها وبأنواع أخرى من النسيج.

وعرفت اليمن بنوع من البرودُ سمي "عَصْبأَ" لأن غزله يعصب، أي يدرج، ثم يصبغ، وذكر أنها خاصة باليمن، لأنها تصبغ بالعصب. ولا ينبت العصب والورس إلا باليمن. وقيل العصب برود مخططة، اشتهرت بها اليمن.

والمسندة والمسند وأثواب سند، نوع من البرود اليمانية. والثياب القدمية منسوبة الى موضع باليمن. وثوب "أكباس" "أكباش" من برود اليمن.

وهناك ضرب من البرود قيل له "القطرية" والمفرد "قطري". وكان الرسول متوشحاً بثوب قطري. كما كان على عائشة درع قطري ثمنه خمسة دراهم،وذكر أن البرود القطريةُ حمر لها أعلام فيها بعض الخشونة، وأنها تأتي من "قطر" بسيف البحرين.

وعرفت الأنسجة اليمانية المصنوعة من الكتان في كل مكان من جزيرة العرب. وقد كانت لباس الأغنياء والوجهاء. وتعطي أنسجة الكتان برودة خاصة في الصيف، ولهذا كانت رائجة في كل مكان.وقد كانت مصر ذات شهرة خاصة في تصدير أنسجة الكتان، فقد كان كتانها لطيفاً ناعماً. ولهذا بيع بثمن مرتفع. وذكر علماء العربية أن الكتان لفظة عربية النجار،سمي بذلك لأنهُ يخيس ويلقي بعضه على بعض حتى يكتن.

و "البرجد"، كناية عن كساء ضخم مخطط. وقد ذكر في شعر طرفة. وذكر انه كساء من صوف أحمر.

والعباءة، هي مقابل "س م ل ه" "سمله" "شمله" عند العبرانيين و "Himation"،عند اليونان ،وتلبس فوق الألبسة. وتكون بعضها ثقيلة تصنع من الوبر أو الصوف، وتستعمل في الشتاء خاصة وفي الأوقات الباردة، وبعضها خفيف، يصنع من الصوف أو من شعر الماعز. وتستعمل في الأوقات التي لا يكون فيها البرد شديداً وفي أيام الصيف. وقد يستلقي عليها الإنسان، فتكون بمثابة فراش له. وقد تصنع العباءة من قطعين من القماش، وقد تصنع من قطعة واحدة، وهي أحسنها وأغلاها. وتكون عباءة الأغنياء والرؤساء من قماش جيد منسوج نسجأَ خاصاً محلاة في الغالب من ناحية العنق والصدر والجهة العليا من اليدين بخيوط من الحرير أو الذهب. يروفها "الروّ اف"، بأشكال متعددة فيختلف سعرها لذلك باختلاف الجهد الذي بذله الروّاف في تطريزها وفي زخرفتها.

وتصنع أحسن العباءات من الوبر. وقد تفنن فيها، وتخصصت بعض الأماكن بنسجها. ولا تزال هذه الصناعة باقية تدر على أصحابها ربحاً يتعيشون منه، كما تصنع من أوبار الجمال أشياء أخرى عديدة. على أن القرن العشرين قد علّم سكان الجزيرة تصدير الوبر إلى الخارج إلى المعامل الحديثة لاستعماله مع الأصواف في صناعة الغزل والنسيج.

والشملة: كساء دون القطيفة يشتمل به كالمشمل. والمشملة عند العرب مئزر من صوف أو شعر يؤتزر به، فإذا لفق لفقين، فهي مشملة يشتمل بها الرجل إذا نام بالليل. وقيل المشملة والمشمل: كساء له خمل متفرق يلتحف به دون القطيفة. واشتمل الثوبَ أداره على جسده كله حتى لا تخرج منه يده.

وقد ذكر أن الجاهليين كانوا يستوردون الجبب والأردية والأقمصة والأقمشة من بلاد العراق والشام، وكانت غالية الثمن وذات قيمة عندهم، لحسن صنعتها وإتقان قماشها. وقد كانت للرسول جبة من صنع بلاد الشام ، وكان له طيلسان مدبج،أي منقوش الأطراف بالديباج. وفي جملة ما استورد من مصر من ألبسة وثياب، القباطي وهي ثياب بيض دقيقة رقيقة تتخذ بمصر، والقسي وهي ثياب منسوجة من كتان وابريسم مضلعة، تصدر من مصر، من قرية تسمى القسي فنسبت إليها.

وقد بقيت مصر تصدر القباطي حتى في الإسلام. وذكر علماء اللغة أن القباطي والثياب القبطية منسوبة إلى القبط، أهل مصر الخلص من ولد القبط بن حام بن نوح على رأي بعض النسابين، أو من ولد قبط بن مصر بن فوط بن حام على رأي فريق آخر. وذكر أن لفظة قبطية، وردت في شعر لزهير هو هذا البيت: لِياح كأن بالأتحمية مسبـع  إزاراً وفي قبطية متجلبب 

وورد ذكرها في بيت شعر أخر ينسب له أيضاً هو: ليأتينك مني منـطـق قـذع  باق، كما دنس القبطية الودكُ 

وقد ورد ذكرها في كتب الحديث، فقد ذكر أن الرسول كسا "أسامة" قبطية.

وأشير إلى ثياب بيض قيل لها "القبطرى". وزعم بعض علماء اللغة أن في الكلمة غلط، وأن الراء زائدة.

وعرفت بعض الثياب ب "الأنماط"، جمع "نمط"، وهي الثياب المصبغة. وفي حديث "ابن عمر" أنه كان يحلل بدنه بالأنماط. وذكر أن الأنماط ضرب من البسط له خمل رقيق.

ويقال للنمط الزوج كذلك. وقيل الزوج: الديباج واللون.

وأما السبح، فالسبحه درع عرض بدنه عظمة الذراع ، ولهُ كمّ صغير نحو الشبر، تلبسه ربات البيوت. وقيل هي بردة من صوف فيها سواد وبياض. وقيل ثوب له جيب ولا كمّين له، بلبسه الطيّانون. وقيل هي مدرعة كمُها من غيرها. وقيل كساء أسود، أو القميص. وهي لفظة معربة أصلها بالفارسية "شبي". وذكر إن "السباج" ثياب من جلود.

وقد كانت بعض الثياب المستوردة من بلاد الشام ومصر ومن الأرضين التي تسودها أكثرية نصرانية ترد وعليها صلبان منسوجة. فلما جاء الإسلام، وأمر بطمس الصلبان، كان الرسول إذا رأى الصليب في ثوب قضبه وقطع موضعه أو نقشه.

وإذا كان الحرير المعروف ب "الخسرواني"، معروفاً حقاً عند الجاهليين، فإنه يدل على انه كان مستورداً من العراق، بدلالة اسمه عليه. ويذكر علماء اللغة انه منسوب إلى الأكاسرة، وانه حرير رقيق حسن الصنعة.

ولفظة "حرير" من الألفاظ المستعملة في العربية، غير أن من الصعب تعيين أصلها. وقد ذكر "سترابون" أن اليونان أخذوا الحرير من الهنود. ولذلك أطلقوا عليه لفظة أخذوها من اسم أحد الشعوب الهندية. أما العبرانيون فقد أطلقوا عليه لفظة "مسى". وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن لفظة "سريقوم" "Sericum"، الواردة في النصوص الكلاسيكية تعني الحرير الخام. ووردت في العبرانية لفظة "دمشق"،،Demeshek،، ،يرى بعض العلماء أنها تعني حريراً دمشقياً، أي معمولا" بدمشق. وذهب آخرون الى أن اللفظة، محرفة من لفظة "دمقس" الواردة في العربية ويراد بها نوع من الحرير أو الحرير الخام. والديباج من الثياب المعمولة من الحرير. واللفظة من الألفاظ الفارسية المعربة.

ومن الثياب والأقمشة التي تحمل اسماً معرباً "الدخدار"، وهو كما يقول "الجواليقي" "تخت دار" بالفارسية. وذكر أنه ورد فيَ هذا البيت منسوب إلى عدي بن زيد العبادي: تلوح المشرفية فـي ذراه  ويجلو صفح دخدار قشيب 

وأشير إلى "الديباجة" في شعر "حسان بن ثابت"، ويراد بها الثياب المتخذة من الابريسم.

وقد وردت في القرآن الكريم لفظة "سندس"، وذهب العلماء الى إن المراد بها رقيق الديباج، وذكر بعضهم أنه ضرب من "البزيون" يتخذ من المرعزاء، واللفظة من الألفاظ المعربة.

وأما الاستبرق، فإنه ما خشن من الديباج على رأي بعض العلماء. وأصله من الفارسية، فهو من المعربات.

وكان الأغنياء وسادات القبائل يلبسون الألبسة المنسوجة من الحرير، وهي ثمينة غالية، يستوردونها من الخارج ، وينسج بعض منها في اليمن. وقد نهى الإسلام عن لبس الحرير، لما في ذلك من ترف يميت الرجولة ومن تشبّه بمترفي العجم، ومن تأثير يتركه استعماله في نفوس الفقراء.

ومن أنواع الثياب الجيدة المصنوعة من القز الأبيض "الدمقس،"، وهو ناعم وذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة القديمة الواردة في شعر لامرىء القيس. ويرى بعض الباحثين أن الدمقس تحريف "مدقس" وهو الحربر اللأبيض ، وأن أصلها يوناني هو: "Metaxa" ويعرف الحرير الجيد بالسّرق، وقيل: السرق شقق الحرير أو الأبيض أو الحرير عامة. وذهب بعض العلماء إلى أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن أصلها سَره أي جيد. وقد ورد في الحديث: انك في سرقة من حرير، أي قطعة من جيد الحرير. ويقال للسرق "سريَكون" "Sericum""Sirikon" في اليونانية. ويراد بها الحرير عامة. ومن هذا الأصل جاءت لفظة "السرق" على ما أرى.

ويعرف الحرير ب "مشى" و "دمشق" في العبرانية. وقد ذهب بعض علماء التوراة أن للفظة "دمشق" صلة بدمشق الموضع المعروف. ودمشق من المواضع المشهورة منذ القديم بنسج الحرير. وذهب آخرون أنها من أصل "دمقس"، تحرف فصار "دمشق" ولا علاقة لها بدمشق. وأما لفظة "حرير"، فتعرف ب "Sericum" عند اليونان واللاتين كما ذكرت. أما لفظة "حرير" المستعملة في العربية، فإن من الصعب تعيين أصلها والوقت الذي ظهرت فيه.

والخز: ثياب تنسج من صوف وإبريسم، وقيل انه الثياب المعمولة من الإبريسم. وقيل انه الحرير ، وذكر علماء اللغة أن " اللاذ" ثياب من حرير تنسج بالصين، وأن "الاضريج" الخز الأصفر، وأن المطرف: ثوب مربع من خزّ له أعلام.

وربما كان "الديبوذ" و "الديابوذ" من الثياب التي وصلت إلى الحجاز من الاتصال التجاري بالعراق. واللفظة من المعربات. ذكر الجواليقي انها من الألفاظ الفارسية الأصل، وان المراد بها ثوب ذو نيرين ، وأورد شعراً للاعشى جاءت فيه هذه اللفظة.

وقد وردت في القرآن الكريم لفظ " "سرابيل" جمع "سربل". وذكر علماء اللغة أن "السربال" القميص من أي جنس كان ووردت السربال في شعر منسوب إلى الأعشى: مقلص أسفل السربال معتمر 

وفي هذا المعنى لفظة "سروال"، والجمع "سراويل" والسربال هو "سربالين" "س ر ب ل ي ن" في العبرانية. وهو أيضاً "السروال" في العربية و "الشروال" من أصل فارسي. وقريب من السربال والسروال "اللباس" الطويل المستعمل عند أهل القرى والفلاحين وبين كثير من أهل المدن في الوقت الحاضر. يرشد عند الخصر ثم يعرض وينتهي بفتحتين ضقتين لدخول الرجلين منهما. ولا زال "الشروال" مستعملاً بين الايرانيين والأكراد وفي بلاد الشام. وقد ذكر علماء اللغة أن السروال لفظة معربة من اصل فارسي. وورد "في حديث أبي هريرة: أنه كره السراويل المخرفجة " أي "الواسعة الطويلة". وقد اشتهر الفرس بلبس السراويل، والظاهر أن الرسول كره السراويل الواسعة الطويلة، لأنها كانت من سنة الأعاجم. فأراد عدم التشبه بهم. وأما القميص،، فقد يقال له "الدرع" و ا لسربال.

وأما "القز" "القهز"، فهما ثياب صوف كالمرعزيَ وربما خالطها الحرير.

وأما "الزازفية"،فثياب بيض من كتان. وأما "الخنف" فما غلط من الثياب. ومن الأكسية "الجودياء"، وقد ذكر بعض علماء اللغة أنها لفظة معربة عن أصل فارسي أو نبطي،وذكروا أن الأعشى تصرف بها في شعره فجعلها "اجياد".

وهناك نوع من أنواع القميص أو البرد المنسوجة من الصوف فيها سواد وبياض يقال لها "سبيج" "السبيج" و "السبجة" و "السبيجة". وقد ذكر الجواليقي أنها من الألفاظ المعربة.

والطيلسان: من الألفاظ المعربة، ويراد بها ثوب يلبس على الكتف، أو ثوب يحيط بالبدن ينسج للبس، خال عن التفصيل والخياطة. وذكر أيضاً أنه كساء مدور أخضر، لا أسفل له، لحمته أو سداه من صوف. وقد اشتهرت الفرس بلبسه، ويسمى عندهم ب "تالسان"، حتى استعمل العرب جملة: "يا ابن الطيلسان" أي يا ابن الأعجمي في الشتم ، وذلك من تطلسهم به.

والساج: الطيلسان الضخم الغليظ، وقيل: هو الطيلسان المقوّر ينسج كذلك، قيل: هو طيلسان أخضر. وفي حديث ابن عبّاس، أن النبي، كان يلبس في الحرب من القلانس ما يكون من السيجان الخضر،جمع ساج، وهو الطيلسان الأخضر، وذكر "ابن الأعرابي": السيجان الطيالسة السود.

و "الشوذر" من الألفاظ المعربة القديمة على رأي بعض العلماء، ويراد بها الملحفة والإزار.

وقد اشتهرت اليمن بصنع الأزر، واشتهرت بهذه الصناعة مواضع أخرى. و قد كان العراق يصدر الأزر إلى جزيرة العرب. واشتهرت ازره عند العبرانيين. أطلقوا عليها "ازرت شنعار" "ازرت شنعر"، أي "ازر شنعار"..يريدون بشنعار ما يقال له أرض بابل. وهو من نسيج جيد مبروم. وقد عرفت ب "لُبلتى برمه" "Lubulti birme"،وعرف النساج الذي اختص بهذا النوع من الأزر ب "اشبر برمي" "Ushbar Birimi".

و "القهز" و "القهزى"، ثياب بيض يخلطها حرير. وهي من الألفاظ المعربة..ذكر بعض علماء اللغة أن الأصل الفارسي هو "كهزانة".

والخميصة: ثوب أسود معلم من خز أو صوف. وأما الأنبجانية فكساء له خمل، وقيل: الغليظ من الصوف. والفروج: القباء له فرج من وراء أومن أمام. وأما المِرٌطُ فالكساء يتغطى به.

ومن أنواع الثياب "القباء". وقد ذكر بعض العلماء إن اللفظة فارسية الأصل معربة.

و "النرمق" ثياب لينة بيض، وهي من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأصلها "نرمه". وأما "النمرق" و "النمرقة"، فالوسادة أو الميثرة و الطنفسة. ولاحتياج الإنسان الى الملابس في كل زمن ، كانت حرفة الغزل والحياكة يحترفها كثير من الناس وتعيش عليها أسر عديدة. ويمكن عدّها من اًهم الحرف في ذلك العهد، وعد العمال، المشتغلين بها من أكثرعمال الحرف الأخرى عدداً. ولم يكن المتعاطون لهذه الحرف هم أصحاب معامل النسيج، ولكن أصحابها الأغنياء والمتمولون. أما المشتغلون بها، فعمال يشتغلون فيها بأجر يتقاضونه، ومنهم من كان رقيقاً مملوكاً يعمل لحساب سيده ومالكه، في مقابل قيامه بأوده. والقليل من العمال من كان يملك مصانع نسيج، تعمل له وتدر الربح عليه.

بل كان الملوك يشاركون الشعب في امتلاك دور النسيج وينافسونهم في الإنتاج.وفي نصوص المسند إشارات عديدة الى دور الحياكة والنسيج الملكية، والى انتاجها واشتغالها. ولا يستبعد احتكارهم لها أو احتكار صناعة بعض الأنواع من النسيج وبيع الأقمشة. وقد علمنا في الجزء السابق من هذا الكتاب أن البطالمة كانوا قد احتكروا بيع أنواع معينة من النسيج وصناعتها. وقد ظل احتكار حكومات مصر لأنواع معين آ من النسه في..عروفاً إلى الإسلام، تنسجها في معاسلها، ولا خ للأهللإت بإنتاجها، كما فعل ذلك غير المصريين أيضاً. فصناعة النسيج صمناعة مهمة ذات أرباح وفوائد،وهي من أهم الصناعات في المجتمع. ولأرباحها هذه ولكونها مورداً مهماّ، فكرت بعض الدول في احكارها، للحصول على أرباحها، كما تفعشالسول في الزمن الحاضر في احتكار بعفر الصناعات والمناجم وبعض المصالح ا"هامة مثل سكلك الحديد أو التلفون والبرق وغير ذلك لتكون مورداً يمون الدولة بالمال. ومن أسماء القطن "الطوط"، وقيل: الطوط قطن البردي. وورد في شعر لأمية ابن أبي الصلت: والطوط نزرعه أغن جراؤه  فيه اللباس لكل حول يعضد

ولم يقتصر عمل الحائك على حياكة الأقمشة ونسجها وحدها، لمجل شمل عمله كل شيء يحاك، مثل البسط والطنافس والسجاجيد و "الدرانك" التي هي نحو من الطنافس وإلبسط. ويذكر علماء اللغة أن اللفظة من المعربات. وذكر بعض العلماء أن "الدرنوك" و "الدرموك" ضرب من الستور والفرش، يكون فيها الصفرة والخضرة، وقال بعض آخر: انه ضرب من الثياب له خمل قصير كخمل المناديل، وبه شبه فروة البعير. وورد انه الطنفسة والبسط ذات الخمل. وقد تكون كبيرة تفرش البيت. والأنماط، وهي ضرب من البسط، وضرب من الثياب المصبغة، وثياب من صوف تطرح على الهودج. والنساجة وهي ضرب من الملاحف المنسوجة. والقطيفة وهي دثار مخمل. وقيل هي كساء مربع غليظ له خمل ووبر. والوسادة وهي المخدة. والنمرقة وهي الوسادة، وقيل للصغيرة منها، أو هي الميثرة، وتوضع على الرحل كالمرفقة، غير إن مؤخرها أعظم من مقدمها ولها أربعة سيور تشد بآخرة الرحل.

وهناك حرفة أخرى لها علاقة بالنساجة والحياكة، هي الخياطة. وحرفة الخياط تحويل الأقمشة إلى كسوة، وصنع الثياب والعمائم بتفصيل القماش وقصه ثم خياطته على وفق القياس المطلوب. وهي حرفة تروج في المدن. أما في البادية،فتقوم المرأة بعمل الضروريات، ويلتجئ الرجال الى القرى والمدن في شراء ما يحتاجون اليه من ثياب. ونجد بين أسماء الثياب، ما هو معرب، مما يدل على انه منقول مستورد، وأن الخياطين الجاهليين قد رأوه فقلدوا صنعه.

كذلك نجد بين أسماء اجزاء الثوب أسماء معربة.فذكر علماء اللغة أن "الدخريص" و "التخريص" من المصطلحات المعربة، وأن أصلها فارسي ، وهي تعني "البنيقة" و "اللبنة". وقد وردت "الدخارص" في شعر منسوب الى الأعشى.

ويعبر عن "الخيّاط" بلفظة "درز"،و "بنو درز" الخيّاطون والحاكة.

و "الخِياط" الإبرة. والإبرة، هي التي يخاط بها، وذلك بإدخال الخيط في سمّها أي في ثقب الإبرة ، وتخييط ما يراد تخييطه بها. والخياطة صناعة الخائط. ويقال للذي يسُوّي الابر الآبّار. و "السم" الثقب، ومنه "سم الخياط"، أي سم الإبرة.

ومن أسماء الخياط: "القراريّ". قال الأعشى: يشق الأمور ويجتـابـهـا  كشق القراري ثوب الردن 

ويعبر عن خياطة الخياط الثوب خياطة متباعدة ب "شمج" و "شمرج"، وذلك بأن يباعد بين الغرز. و "الشمرج" الرقيق من الثياب وغيرها.

ويعبر عن الخيط بلفظة "السلك" و "السلكة".

والثوب اللباس ، وهو ما يلبس. ولذلك فهما من الكلمات العامة التي تطلق على أشياء عديدة. وقد اشتهرت بعض الثياب بكونها ثياب رقاق، منها "السبوب" والسب: الشقة البيضاء،و كذلك الخمار. و "الشف"، وهو الثوب الرقيق، و "اللهله" و "النهنه"،الثوب الرقيق النسج. وثوب هلهل وهلهال،رقيق النسج، وهو المتدارك النسج، والمواد التي يستعين بها الخياط في صنع الثياب والاكسية هي الأنسجة المصنوعة من القطن أو الحرير أو الكتان أو الأصواف أو الشاش أو البز أو الكرباس.

ولفظة "قطن"، من الألفاظ التي يصعب تعجين أصلها. وقد ذهب كثير من الباحثين إلى أنها من أصل هندي. وفي التوراة لفظة "كربس" "Karpas"،أي الكرباس،فسرها علماء التوراة بمعنى "فطن". ولفظة "كرباس" معروفة في العربية. وهي من الألفاظ المعربة المعروفة عند الجاهليين. وترد في لغة بني إرم وفي العبرانية واليونانية واللاتينية. وقد ذهب بعض العلماء،أنها من أصل سنسكريتي وانها تعني شجرة القطن. وقد ذكرت اللفظة في تأريخ "هيرودتس"،وعرفها اليونان الذين كانوا في حملة الاسكندر الكبير. ودعوها "Carbasus"و"Carbasina" وقد أشار إلى القطن "هيرودوتس" و "سترابو" وصاحب مؤلف "Periplus maris Erythr" و"لوقان" "Lucan"و "Quintus Curtius" وأشاروا الى صلتها بالهند. واللفظة من الألفاظ الواردة في الفارسية أيضاً. وذهب علماء العربية إلى إن الكرباس ثوب من القطن الأبيض معرب عن الفارسية. وفي حديث عمر: "وعليه قميص من كرابيس"،جمع كرباس وهو القطن. ومن أسماء القطن الخرفع والخرنع. وذكر أن "الطوط"، هو قطن البردي. والبز عند علماء العربية: الثياب، وقيل ضرب من الثياب، وقيل البزُ من الثياب أمتعة البزاز، و البزاز بائع البزَ وحرفته البزازة. والبيزّة الهيئة والشارة واللبسة. وذكر إن "البز" ضرب من برود اليمن.

واللباس والألبسة والملبس كل ما يلبس. والكسوة، اللباس أيضا. والكساء واحد الأكسية. وقد عرفت لفظة الكسوة في العربيات الجنوبية كذلك،إذ وردت في بعض النصوص، "كسوت" "كشوا" "كشوي". وذكر علماء العربية إن الكساء الذي لا بطانة له، يقال له: "كساء سمط".

وفي العبرانية لفظة "بجد" وتقابل "بجاد" و "بجد" في العربية، وتعني اللباس عامة، من دون تمييز. أما لفظة "لبوش"، فهي من أصل "لبس"، وهي في.معنى "لبوس" و "لبس" في العربية. و البجاد عند العبرانيين من الألبسة التي تستعملها الطبقات الراقية.

وذكر علماء العربية أن البجادة كساء مخطط من أكسية الأعراب. وقيل: إذا غزل الصوف بسرة ونسج بالصيصة، فهو بجاد. ويقال للشقة من البجد: قليح وجمعه "قلح". وقيل البجاد الكساء. وقيل انه من وبر الإبل وصوف الغنم مخيطة.

ومن أنواع الأكسية: "المشملة": كساء يشتمل به دون القطيفة. وذكر: المشمل: كساء له خمل متفرق يلتحف به دون القطيفة. وورد في الحديث: "ولا تشتمل اشتمال اليهود"، وهو افتعال من الشملة ،وهو كساء يتغطى به و يتلفف فيه، والمنهي عنه هو التجلل بالثوب وإِسباله من غير أن يعرف طرفه. وهو "سمله" "Simlah" و "Salmah" عند العبرانيين.

و "البرنس": كل ثوب رأسه منه ملتزق به دُرّاعة كان أو ممطراً أو جُبةّ. وذكر أن "البرنس" قلنسوة طويلة، وكان النسّاك يلبسونها في صدر الإسلام. وهو من "البرس"،القطن. وعرف بهذه التسمية أيضاً عند العبرانيين.

والمُلاءة: الريطة،وهى الملحفة والإزار. وذكر أن الريطة الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن لفقين، وقبل: الريطة كلا ملاءة غير ذات لفقين كلها نسج واحد، وقيل: هو كل ثوب لين دقيق. والرائطة: المنديل.

والإزار: الملحفة، والمئزرة: الإزار. والرداء الذي يلبس، والجمع أردية. وذكر أن المئزر من الصوف أو الشعر يؤتزر به، فإذا انفق فهو "شملة" يشتمل بها الرجل إذا نام بالليل.

و الردن: الكُمّ. يقال: قميص واسع الردن. وذكر أن الردن مقدم كمّ القميص، وقيل هو أسفله ، وقيل: هو الكمّ كله.

ويصنع الخياط الهمابين جمع "الهميان"،ويراد به الحزام وبه كيس نجعل فيه النفقة ويشد على الوسط. وقد يصنع من الجلود أيضاً، وهو من الألفاظ المعربة من الفارسية.

أما "الكيس"، فهو لحفظ ولخزن ولحمل الأشياء. ويعرف ب "كيس" في العبرانية كذلك، وقد يصنع من الجلد. وأما "الخريطة"، فإنها "خريط" في العبرانية. وتحفظ فيها الأشياء الثمينة، وقد تحلى وتزخرف. وأما "الصرة"، وهي "صرور" في العبرانية، فلصر الأشياء. ولا تزال هذه الأسماء مستعملة معروفة.

والجاهليون مثل عرب الإسلام في اختلاف ملابسهم، فقد كانت ملابسهم تختلف باختلاف منازلهم ودرجاتهم. فللشرفاء والوجهاء أهل المدن والقرى لبس خاص يميزهم عن الطبقات الدنيا من الناس. وللتجار لبس خاص بهم، أما الأعراب فكانوا يتميزون أيضاً بطريقة لبسهم عن أهل المدن والقرى. ثم انهم عموماً كانوا يختلفون في ألبستهم باخلاف أمكنتهم وبحسب درجة اتصالهم واختلاطهم بالأعاجم. فقد كان عرب العراق قد تأثروا بألبسة الفرس وبألبسة بني إرم، فأخذوا منهم. وتأثر عرب بلاد الشام بالروم، فأخذوا منهم بعض ملابسهم،حتى أسمائها، احتفظوا بها، وقد حفظتها لنا كتب الاسلاميين، وبعضها لا تزال حية نستعملها هذا اليوم. ولا تختلف ألبسة الرأس المعروفة عند الجاهليين عن ألبسة الرأس المستعملة بين الأعراب وفي قرى جزيرة العرب. فقد اقتضت طبيعة الصحراء، أن يحمي الجاهلي رأسه بألبسة واقية تقيه من أذى أشعة الشمس المحرقة ومن الرمال التي تذرها العواصف في العيون وفي الأنوف، فأوجد لنفسه ألبسة رأس مناسبة له ولبساطة حياته. فستر رأسه بقطعة قماش مربعة الشكل في الغالب، تمتد على أطرافه ليتلثم بها وقت ظهور العواصف وارتفاع الرمال، أو وقت ظهور السموم، فيحمي نفسه منها ومن العطش، كما يحمي مؤخر رأسه من أشعة الشمس، ولتحميه من البرد في الشتاء كذلك. ويضع فوق هذه القطعة عقالاً، يصنع من الصوف أو من شعر الماعز أو الوبر، ليمسك قطعة القماش فلا تسقط. وتعرف قطعة القماش هذه بالكوفية و ب "الكفية" في الوقت الحاضر، ويقال لها وللعقال "الكفية والعقال" و "الكوفية والعقال" في اصطلاح المحدثين.

أما عرب بلاد الشام، فقد كانوا يضعون لباداً فوق رأسهم مصنوعاً من مادة مضغوطة من الصوف أو الوبر، يشبه ما يسمى ب "العرقجبن" في العراق "العرقية"، يلف حوله بقماش مختلف الألوان، قد يمتد أحد طرفيه، ليستعمل لثاماً للوجه وستراً للرقبة ، وهو زي الفلاحين والرعاة.

والعمامة من لباس الرأس عند الجاهليين. "والعرب تقول للرجل إذا سوُّد: قد عمم. وكانوا إذا سوّدوا رجلاً عمموه عمامة حمراء،وكانت الفرس تتوج ملوكها فيقال له متوج". ويقال لها "السبائب" كذلك. والعمامة: "السُب".

وعادة صبغ الثياب،من العادات المعروفة عند العرب قبل الإسلام. وكانوا يستعملون في ذلك أصباغاً مختلقة،كالقرف وهو قشور الشجر، والجذور يستخرجون ما فيها من مادة ملونة لصبغ ما يضعونه فيها من ملابس، والأصباغ المستخرجة من بعض النباتات. ولألوان العمائم أو الملابس دخل في المناسبات الاجتماعية،فكانوا يستعملون للحرب مثلاً نوعاً خاصاً من العمائم ذوات ألوان خاصة، تعبر عن المواقع، ويستعملون في الأحزان نوعاً خاصاً من العمائم والثياب، وفي الفرح ملابس خاصة،وهكذا، كما كانوا يقومون بتجميرها في بعض الأحوال.

ويقوم بصبغ الثياب وقصرها الصباغون، يصبغون الملابس كما يصبغون الأقمشة قبل تفصيلها وخياطتها. وذكر أن الكهان كانوا لا يلبسون المصبوغ ، ولعلهم كانوا يفعلون ذلك بسبب اعتقادهم أن تابع الكاهن ينفر من الصبغ.

وفي جملة الأصباغ المعروفة والشائعة عند الجاهلين، العصفر، وهو نبت أصفر يستخرج منه صبغ أصفر، تصبغ به الثياب والاقمشة وأمثالها. ومن هذه الصبغة جاءت لفظة "المعصفرات"، ويراد بها الثياب المصبوغة بالعصفر. والورس وهو صبغ أصفر، يؤخذ من نبت طيب الرائحة تصبغ به الملابس، فيقال ملحفة مورسة،إذا كانت مصبغة بالورس. وقد جاء النهي عن لبس الثياب المعصفرة في الإسلام.

والثوب الأحمر، هو الثوب المصبوغ بلون أحمر، أما "الكرك"،فالثوب الأحمر كذلك. و "ثوب مشرق"، ثوب بن الحمرة والبياض، و "ثوب قتمة" و"مقتوم" ثوب سواده ليس بشديد، و "ثوب مفروك"،مصبوغ بالزعفران، وزبرقت الثوب زبرقة، صفرته. وقد سمي "الزبرقان بن بدر" بذلك، لصفرة عمامته.

ويظهر إن الصباغين كانوا يمطلون بالمواعيد ويخلفون، لذلك ضرب بهم وبالصياغين المثل في الحلف. وورد في الحديث: "أكذب الناس الصباغون و الصوّاغون".

ويستعمل شعر الماعز في الغالب لصنع الخيام،وذلك للاعراب وللتجار والمسافرين وغيرهم. والاتجار بالخام، من التجارات التي كانت رائجة يومئذ ويستعمل شيوخ القبائل والرؤساء والملوك خياماً خاصة مصنوعة من أقمشة غليظة تتحمل المطر والعوارض الطبيعية الأخرى، ولها أسعار غالية عالية، تختلف باختلاف حجمها ونوع القماش المصنوعة منه. ولبعضها قواطع تجزئ الخيممة إلى أقسام تكون شبه غرف يسكن فيها. ويستعمل بعضها مضارب يعقد فيها ديوان الرئيس، وبعضها معابد توضع فيها الأصنام والأشياء المقدسة التي تتنقل مع القبيلة، يحملها الكهنة معهم.وقد أشير إلى هذه الأصنام المتنقلة مع القبائل في الأخبار التي سجْلها الآشوريون عن حروبهم مع الأعراب ، كما كان العبرانيون يصنعون خياماً واسعة تكون مقدسة لخدمة الرب. ومن الخيم الكبار "الفسطاط". ويطلق على الأبنية كذلك.

والبساط، ما بسط. وقد اشتهرت أنواع خاصة من البسط بين الجاهليين. منها بسط عبقر، والبساط العبقري من الأبسطة الجيدة، ومن عادة العرب أنهم إذا استحسنوا شيئاً أو عجبوا من شدته و مضائه نسبوه الى "عبقر". وعبقر عندهم أرض من أرض الجن. وورد "ثياب عبقرية" نسبة إلى عبقر. حتى قالوا: "ظلم عبقري " أي شديد فاحش. ومن أنواع البسط: "النخ". وهو بساط طوله أكثر من عرضه، وهو فارسي معرب، وجمعه نخاخ.

وللعرب طرق في هيأة لبسهم وفي كيفية وضعها على أبدانهم، ولا سيما أهل الحضر منهم. كما كانوا يكيفون لبسهم حسب المناسبات في مثل الغارات والحروب والسفر. ومن ضروب لبسهم، ما يقال له: "الاضطباع"،ويقال له: "التأبط"، وهو أن يدخل الثوب من تحت يده اليمنى فيلقيه على منكبه الأيسر.

ومن ضروب اللبس: "التفضل"، وهو التوشح،أن يخالف اللابس بين أطراف ثوبه على عاتقه. وأما "الفضلة" فالثياب التي تبتذل للنوم لأنها فضلت عن ثياب الصرف. وعرف التوشح: أن يتوشح بالثوب، ثم يخرج طرفه الذي ألقاه على عاتقه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفيهما على صدره. وقيل: التوشح بالرداء مثل التأبط والاضطباع،وهو أن يدخل الثوب من تحت يده اليمنى فيلقيه على منكبه الأيسر، كما يفعل المحرم.

وأما "الاشتمال"، فهو ادارة الإنسان الثوب على جسده كله حتى لا تخرج منه يده. وروي أن النبي نهى عن اشتمال الصّماء. والشملة الصّمّاء، التي ليس تحتها قميص ولا سراويل، وذكر أن اشتمال الصمّاء هو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده ولا يرفع منه جانباً، فيكون فيه فرجة تخرج منها يده، وهو التلفع،وربما اضطجع فيه على هذه الحالة.وذكر الفقهاء: أن الاشتمال هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه فتبدو منه فرجة.

"والسند"، ضرب من ضروب اللبس عند العرب، وهو أن يلبس قميصاً طويلاً تحت قميص أقصر منه. كما أن السند ضروب من البرود،وضرب من الثياب. وذكر أن السناد هي الحمراء من جباب البرود.

وإذا نام الشخص وأدخل رأسه في ثوبه قيل لذلك الكبس والكباس. و "الكمكمة" التغطي بالثياب.

وقد عرف الجاهليون "الكلل". و "الكلة": الستر الرقيق يخاط كالبيت يُتوقى فيه من البق.

ويعبر عن الستر ب "السجف"، وهو قماش يستر به. والسجافة السدافة،أي الحجاب. وكل باب ستر بسترين مقرونين فكل شق منه سجف. وقيل لا يسمى سجفاً إلا أن يكون مشقوق الوسط كالمصراعين.

الفصل الخامس عشر بعد المئة
قياس الابعاد والمساحات والكيل

وقد استعمل الجاهليون قياس الأبعاد والوزن والكيل في معاملاتهم. وهي متقاربة بين الشعوب السامية لاختلاط هذه الشعوب بعضها ببعض، ولمستوى تلك الشعوب في الأيام الماضية، ودرجتها في الثقافة بالنسبة إلى تلك العهود، هذا وتجد الأوزان والمكاييل قد تطورت شيئاً فشيئاً، تطورت بالتدريج من أحوال بدائية حسية يدركها الإنسان البدائي، إلى أن اتخذت أشكالاً تستند الى أسس علمية. ويستعمل الوزن لقياس الكميات. أما المسافات والأبعاد، فتقاس بالطبع بمقاييس تستند إلى أساس تقدير الأبعاد.

ويختلف أهل الجاهلية في الكيل والوزن، اختلاف الناس في هذا اليوم. منهم من يوزن الشيء، ومنهم من يكيله كيلا". كان أهل المدينة يكيلون التمر، وهو يوزن في كثر من أهل الأمصار. وان للسمن عندهم وزن، وهو كيل في كثير من الأمصار. وقد يباع الشيء عدداً، بينما يباع وزناً عند قوم آخرين. والذي يعرف به أصل الكيل والوزن، أن كلّ ما لزمه اسم المختوم والقفيز والمكوك والمدّ والصاع، فهو كيل. وكل ما لزمه اسم الأرطال والأواقي والأمناء، فهو وزن. ودرهم أهل مكة ستة دوانيق، ودراهم الإسلام المعدلة كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل.

وقد كان الجاهليون يستعملون المكاييل في الغالب لقياس الجوامد والمائعات على حد سواء. وذلك كما يتبين من دراسة أسماء المعايير بالقياس إلى المعايير المستعملة عند الرومان واليونان. وكما يتبين من مراجعة معجمات اللغة، حيث تذكر المقياس في قياس الجوامد أحياناً وفي قياس المائعات أحياناً أخرى. وكما يتبين من عدم تفريق بعض اللغويين بين الوزن والكيل.

وقد جاءت في كتب الحديث والفقه وكتب اللغة أسماء بعض العيارات والموازين التي كان يستعملها العرب قبل الإسلام. ويظهر من هذه الكتب أن هذه العيارات والموازين كانت تختلف باختلاف المواضع، وإن اتفقت في الأسماء. فبين مكة والمدينة مثلاً اختلاف في تقدير العيارات، كذلك أختلف العرب في وزن الأشياء في بعض الأحيان، فقد ذكر أن أهل المدينة كانوا يكيلون التمر، وهو يوزن في كثير من الأمصار. ثم إِن بعض المواد تكال وتوزن، فالسمن يكال في بعض الأماكن، ويوزن في أماكن أخرى، ويكال ويوزن في آن واحد في أماكن غيرها وقد ورد في الحديث: "الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل ا لمدينة".

والكيل والوزن سواء في معرفة المقادير. وتعني لفظة "كال" معنى وزن.

وقد ورد عن النبي أنه قال: المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة. وورد الكيل كيل الطعام، يقال: كلتُ الطعام إذا توليت ذلك له. وورد في القرآن الكريم: )ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون(. وذلك إن كان مخصوصاً بالكيل، فحث على تحري العدل. وقد وردت لفظة: "الكيل" و "كيل" و "المكبال" و "كلتم" و "اكتالوا" و "نكتل" في مواضع من القرآن الكريمْ.

ويعبر عن الوزن وعن قياس الأبعاد بلفظة: "كل" "كال" أي "كالَ" في المسند. والوحدة "كلت" أي "كيلة". أما في عربيتنا، فقد استعملت في الوزن والكيل. وجاء الكيل: كيل الطعام. وورد كال البئر، أي قدر ما فيها من ماء. والاسم "الكيلة"، والكيل، والمكيل، والمكيال،والمكيلة، ما كيل به حديداً كان أو خشباً. وكال الدراهم والدنانير وزنها.

وفي معنى "كلت" ترد لفظة "سفرت" "سفرة". وتستعمل خاصة في قياسات الأبعاد، مثل البعد بين مكانين، أي المسافات والأطوال فهي بمعنى مرحلة أي وحدة قياسية للبعد، ومعدل ما يسافره الإنسان أو تقطعه القافلة في اليوم، أي السفرة التي تتمكن منها القافلة في اليوم، فسفرت، هي سفرة في لغتنا، أي مرحلة.

وتعد قياسات الأبعاد والموازين والمكاييل البابلية من أهم وأدق المكاييل والأوزان عند الشعوب الشرقية. فقد استند البابليون في قياساتهم هذه إلى أسس علمية.

وهم في ذلك أدق من قدماء المصريين، ومن اليهود.

والعادة قياس الأبعاد الصغيرة والمسافات القصيرة، بمقاييس تتناسب مع هذه الأبعاد وذلك باستعمال مقاييس صغيرة مثل الاصبع والشبر والذراع، صارت أساساَ للمقاييس التي تقاس بها المسافات اليعيدة، مثل المسافات بين مراحل السفر أو الأبعاد بين اسن والقرى وما شاكل ذلك. إذ لا بد من اتخاذ وحدة قياسية كبيرة في قياس الأبعاد الطويلة، لسهولة الضبط والحفظ، ولهذا اصطلحت الأمم على اتخاذ وحدات كبيرة في قياسات المراحل والأبعاد، سمتها.

وقاس الجاهليون مساحات الأرضبن الزراعية بمقدار البذور المنثورة وبمقدار ما يحرثه ثور واحد أو حيوان في نهار. ويراد بذلك متوسط عمل محراث واحد في الارض. فتقدر مساحة أرض بمقدار كميات البذور التي تنثر في الأرض، وتذكر عندئذ مقدار كيلات البذور المنثورة، ويدل عددها على مساحة الأرض.

ولو تعمقنا ثي دراسة قياس المسافات، فإننا في أن الإنسان قد استعان بأجزاء جسمه في بادئ الأمر في القياسات، فاستعان بالاصبع، واعتبره وحدة قياسية صغيرة لقياس البعد،استعمل عرضه كما استعمل طوله. واستعمل "الكف" قياساً للابعاد كذلك. وهو أربع أصابع عند العبرانيين. واستعل "الشبر" للابعاد التي تزيد على الكف. والشبر هو مسافة ما بين طرف الإبهام وطرف الخنصر، ويساوي ثلاث كفوف. ويعدل من ثمانية قراريط الى أحد عشر قيراطاً. واستعملت "الذراع" وجعلوها تعادل شبرين. وتقدر بنحو قدم إلى قدمين. ثم "الخطوة" وتعادل ذراعين أو ثلاث أقدام أو إثنتي عشر كفاً. ثم "القامة"،وتعادل خطوتين أو أربع أذرع أو ستة أقدام. ثم "القصبة". وتعادل قامة ونصف قامة، أو ستة أفرع. وتعادل تسع أقدام أو ستاً وثلاثين كفاً.

والكف - عند العرب - اليد، أو منها إلى الكوع والشبر ما بين أعلى الإبهام وأعلى الخنصر، ويكال به. ومنه "اشبر"، كيل الثوب بالشبر، يشره شبراً. والذراع من طرف المرفق إلى طرف الاصبع الوسطى، وقبل الذراع والساعد واحد. بقال ذرع الثوب وغيره، قاسه بالذراع. وهو ما يذرع به من حديد أو خشبْ. و "الباع"، قدر مد اليدين وما بي نهما من البدن، ويستعمل في قياس الأعماق، مثل الآبار، وأعماق الماء.

والخطوة ما بين القدمين. والقامة عند العرب، مقدار هيأة رجل، والبكرة بأداتها، وقيل: البكرة التي يستقى بها الماء من البئر. والقامة مقياس أيضاً تقاس به الأعماق.

وذكر الذراع في القراَن الكريم في آية: )في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فأسلكوه(. ويعبر عن المذروع، أي الممسوح بالذراع. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الذراع من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى. وذكر بعض العلماء أن الذراع والساعد واحد. وأما المذارعة فالبيع بالذراع. ويقال ذراع من الثوب والأرض. فتستعمل المذراعة إذن في الأموال المنقولة التي لها اتساع مثل الثياب والأقمشة والخشب وما شابه ذلك، كما يستعمل في ذرع الأرض. وقد اختلف الذراع الجاهلي عن الذراع في الإسلام.

والقصبة من أصل "Kas-pu في البابلية، ومعناه "ساعتان"، أي مسيرة تقطع في ساعتين. وورد "Kas-pu Kakkari" في النصوص البابلية، ويراد بالجملة: ما يقابل "قصبة ارض" أو "ميل أرض" وقد كان أهل مصر في الإسلام يمسحون أرضهم بقصبة طولها خمسة أذرع بالتجاري، فمتى بلغت المساحة اربعمائة قصبة، فاسمها: الفدان.

و "الغلوة"، وكانت مقياساً يونانياً، وتعادل نحو " " خطوة، أو ُثمن ميل. وتسمى "فرسخاً" ايضاً. وذكر علماء اللغة أن "الغلوة" قدر رمية بسهم، وتستعمل في سباق الخيل. وقيل هي قدر ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة ذراع. وذكر بعض علماء اللغة،أن الفرسخ التام خمس وعشرون غلوة. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الفرسخ ساعة من النهار. وقال بعض آخر انه السافة المعلومة، وهو ثلاثة أميال هاشمية أو ستهّ أو اثنا عشر ألف ذراع أو عشرة آلاف ذراع. واللفظة من الكلمات المعربة، وهي Frosong فرسنك في الفهلوية. وقد أشير إلى هذا المقياس الفارسي في بعض مؤلفات الكتبة اليونان مثل "هيرودوتس" و "كسينوفون" "Xenophon" وهو "Farsong"في الفارسية الحديثة. "Prasakha" في لغة بني إرم.

وأما "الميل"، فمقياس روماني، وقد اختلف في طوله، فقيل إنه ثلث الفرسخ، وقيل إنه ثلاثة آلاف فراع أو أربعة آلاف، وقيل أربعة آلاف، خطوة، كل خطوة ثلاثة أقدام. وقيل إنه سدس الفرسخ. وهو من الألفاظ المعربة، من أصل "Miloin"، وذكر علماء اللغة أن الميل هو المنار يبنى للمسافر في أنشاز الأرض، وأنه أيضاً الأعلام المبنية على الطرق لهداية الناس.

وقد استخدم الجاهليون مصطلحات خاصة في تقدير المسافات والأبعاد، ولا سيما في الأسفار. فاستعملوا مصطلح "مسيرة ساعة" ومسيرة ليلة ومسيرة نهار ومسيرة قافلة وأمثال ذلك. وقصدوا بذلك معدل ما يقطعه الإنسان والقافلة في المدد المذكورة. واستعملوا "البريد" في تقدير الأبعاد والمسافات، و "البريد"، فرسخان، كل فرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع،أو أربعة فراسخ، وهو اثنا عشر ميلاً. وفي الحديث: لا تقصر الصلاة في أقل من أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخاً، وفي كتب الفقه: السفر الذي يجوز فيه القصر أربعة برد، وهي ثمانية وأربعون ميلاً بالأميال الهاشمية في طريق مكة.

وقاس الجاهليون المساحات، مثل مساحات البيت أو الملك كالأرضين بالذراع،إن كانت غير كبيرة. أما إذا كانت كبيرة، فقد قيست بمقدار متوسط ما يحرثه "الفدان" في اليوم. وذكر علماء اللغة أن "الفدان" الثوران اللذان يقرنان فيحرث عليهما، وأن الفدان المزرعة ، والآلة، ومقدار محدود من الأرض اصطلح الناس على تحديد مقداره.

وتقاس الأرض بالجريب أيضاً. قال علماء اللغة: الجريب من الأرض مقدار معلوم الذراع والمساحة، وهو عشرة أقفزة،كل قفيز.منها عشرة أعشراء،فالعشير جزء من مائة جزء من الجريب. وقيل: الجريب المزرعة،وقدر ما يزرع فيه من الأرض. وقد استعمل للطعام ولتقدير غلة الأرض،أي وحدة قياس للارضين، ومكيلة في آن واحد، وقال بعض العلماء انه يختلف باختلاف البلدان، ومن وحدات القياس في اليمن: "ا م ت" "امت". وقد ذكرت هذه الوحدة في نصوص المسند. وتقاس بها الأبعاد طولاً وعرضاً، وذكر علماء اللغة أن "الأمت" الحزر والتقدير، يقال كم أمت ما بينك وبين الكوفة، أي قدر، وأمت القوم أمتاً، إذا حزرتهم. فللمعنى اذن صلة بالمعنى المفهوم من اللفظة في لغة المسند.

والشوحط من وحدات القياس الأبعاد كذلك. فورد: "سدثي شو حطم"، أي ستون شوحطاً. وقد ذكر هذا المقياس في كتابات المعنيين. ولعله قصبة أو خشبة، حدد طولها، واعتبرت كالمتر و "الياردة" وحدة أساسية لقياس الأبعاد. و "الشوحط"،في كتب اللغة ضرب من شجر الجبال تتخذ منه القسي، أو ضرب من النبع تتخذ منه القياس. فلا يستبعد وجود صلة بين الشوحط اليماني،وهذا الشوحط،وهو اتخاذ قضب الشوحط،مقياساً معيناً محدداً، لقياس الأبعاد.

وترد في بعض كتابات المسند لفظة "ممد" مع العدد، كأنها استعملت للتعبير عن قياس. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها لا تعبر عن وحدة قياسية قائمة بذاتها، كما تعبر لفظة قدم أو ذراع، بل هي تعبر عن معنى عام، هو مسافة أو كيل أو وزن. ويفهم ذلك المعنى من مكانه الكلمة وموضعها في الجملة، وأما وزن الأشياء، أي تقدير مقدار ثقلها، فيختلف في الغالبّ باختلاف طبيعة الشيء المراد معرفة وزنه وتقدير ثقله. فإذا كان الشئ جافاً قدر بمعايير خاصة، واذا كان سائلاً قدّر بمعايير أخرى. غير إن هذا التفريق ليس يعدّ قاعدة عامة، وانما يختلف باختلاف الأماكن والأعراف والعادات. فقد يزن بعض الناس المائعات بمعايير توزن بها الأشياء الجافة عند أناس آخرين، فالسمن مثلاً يوزن ويكال، والتمر يوزن ويكال، وهناك أمثلة عديدة أخرى من هذا القبيل، وأما الأوزان، أي معرفة الخفة أو الثقل للاشياء التي يراد وزنها لمعرفة مقدارها، فقد كانت توزن بوضعها في إحدى كفتي ميزان ووضع الأوزان في الكفة الثانية. وقد كانت للاوزان البابلية شهرة، وعليها كان اعتماد العبرانيين.

والميزان الآلة التي يوزن بها. وقد ذكر علماء اللغة أسماء أجزاء الميزان. والميزان الذي كان يستعمله الجاهليون لا يختلف عن الميزان المستعمل عند الشعوب الأخرى. ويقوم الوزن على أساس المعادلة بين الكفتين، ويظهر أن الجاهليين كانوا فد أخذوا الأوزان من العراق ومن بلاد الشام، واستعملوها كلها وبأسمائها الأصلية، وذلك بدليل ما نجده في أسماء هذه الأوزان التي استعملوها من مسميات بابلية أو إرمية وفهلوية ويونانية ورومانية. لقد أخذوها بتعاملهم مع أهل العراق ومع أهل بلاد الشام، وأدخلوا مسمّياتها إلى لغتهم بعد ادخالهم بعض التحوير والتغيير عليها لتتناسب مع النطق العربي. وقد كان لا بد لهم من استخدام تلك الموازين كلها أو أكثرها على حدّ سواء، لأنهم تعاملوا وتاجروا مع العراق وبلاد الشام منذ القدم. فكان لا بد لهم من التعامل مع كل بلد بموازينه وبمقاييسه،ومن استعمال هذه الأوزان في بلادهم أيضاً بحكم ذلك التعامل والإتجار، كما نستعمل اليوم الأوزان والمقاييس الأجنبية في التعامل عندنا بدلاً من الموازين والمقاييس القديمة.

ومن الأوزان التي يعود أصلها إلى الروم: "الرطل"، وهو "Litra" عند اليونان. والأوقية، وتقابل "Oncia" "Ounguiya"عند البيزنطيين. و "الدرهم"، وهو وحدة وزن، وقطعة نقد، من "Dhrakhmi". "وقيراط" وهو من "Keration"، ومن وحدات القياس التي يعود أصلها إلى الفارسية: "الدانق"،فإنه من "دانك"،وهو سدس الدرهم، واما "المثقال" فمن أصل آرامي، من "Matqolo".

والقسطاس: الميزان، ويعبر به عن العدالة، كما يعبر عنها بالميزان. ويذكر العلماء إن القسطاس أقوم الموازين. و "القسط" مكيال يسع نصف صاع. و "الفرق" ستة أقساط. وذكر بعضهم إن "القسط" أربعمائة وواحد وثمانون درهماً. والقسط الحصة من الشيء، والمقدار.

ويقاس الذهب بالوزن، وكذلك الفضة، فكان التجّار يحملون معهم الموازين ليزنوا بها هذين المعدنين. وقد كان "الشاقل" هو وحدة القياس للوزن عند الجاهليين. ويقال في العربية: "شقل الدينار وشوقل الدينار، بمعنى وزنه وعايره وصححه". وجاء أن الشقل: الوزن. يقال: اشقل لي هذا الدينار، أي زنه. واللفظة من الألفاظ البابلية التي دخلت الى لغة بني إرم والى العبرانية والعربية.

و "الحبّة" من العيارات المستعملة عند الجاهليين والتي بقيت مستعملة في الإسلام كذلك، ولا تزال تستعمل. أما وزنها فاختلف فيه باختلاف الأزمنة والأمكنة وقد قدرها بعضهم بعُشر الدانق، وقدرها بعض آخر بسدس ثمن درهم، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءاً من درهم.

والقيراط،هو نصف دانق. وذكر بعض العلماء أنه جزء من أجزاء الدينار،وهو نصف عشره في بعض البلاد في الإسلام، وجزء من أربعة وعشرين في بلاد الشام، وهو عند الروم جزء من اربعة وعشرين من أجزاء شيء. وهو من أصل رومي هو "Keration"، ويظهر أو وزنه لم يكن ثابتاً، بل اختلف باختلاف البلدان.

و "المثقال" من الأوزان القديمة عند العرب، وقد وردت لفظة "مثقال"   

في القرآن الكريم بمعنى مقدار ووزن. ويظن بعض المستشرفين إن "المثقال" من أقدم المعايير عند العرب، ويستعطه العطارون والصيارفة وباعة اللؤلؤ والحجارة الثمينة، وهو عبارة عن اثنتين وسبعين شعيرة. وفي بعض الموارد: المثقال عشرون قيراطاً. وهو يقابل ال "Solidus" عند الروم على وفق النظام الذي أقره القيصر "قسطنطين" "Costantine". وهو نظام اتبع في بلاد الشام،وأقره العرب واستعملوه. واللفظة من الألفاظ المعربة عن الإرمية من أصل "متقولو" "Matqolo" على بعض الآراء ،والأوقية من الأوزان التي كانت مستعملة في الجاهلية. وقد اختلف العلماء في ضبط وزنها وتعيين مقداره. فقال بعضهم: هي سبعة مثاقيل، وانها أربعون درهماً. وقال بعض آخر: هي أربعون درهماً. وقد ورد في الحديث: ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة. وفي حديث النبي، انه لم يصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش. قال مجاهد: الأوقية أربعون درهماً،والنش عشرون. وهي تقابل "Uncia" عند الروم.

و"البزمة" وزن ثلاثين درهماً.

وقد أشير في الحديث إلى "نواة من ذهب"، وقد جعل بعض العلماء النواة زنة، وقال بعض آخر: النواة من العدد عشرون أو عشرة، أو هي الأوقية من الذهب أو أربعة دنانير أو ما زنته خمسة دراهم أو ثلاثة دراهم ونصف أو ثلاثة دراهم وثلث.

وقد كان الجاهليون يبايعون الذهب والفضة بالأوزان التي ذكرتها مثل النواة والحبة والشعيرة والمثقال والأوقية. ولما جاء الرسول المدينة وجد أهلها يبايعون اليهود الوقية من الذهب بالدنانير، فقال لهم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاّ وزناً بوزن"، وأما الرطل، فإنه في مقابلَ "Litra" في اليونانية،و "Libra" في اللاتينية. وهو قدر نصف "من". وهو من الأوزان المعروفة عند الجاهليين. وذكر أن الرطل الجاهلي هو ضعف الرطل الإسلامي، وقد اختلف وزنه عند المسلمين باختلاف الأماكن والمواضع والناس. وذكر بعضهم: الرطل اثنا عشر أوقيهّ بأواقي العرب، والأوقية أربعون درهماً، فذلك أربعمائة وثمانون درهماً. وأما "المنّ"، "Mana" "Mna" "Maneh" "Mina" "Mnh" " "منا" و "منو" "Mnu"، في البابلية، فإنه خمسة عشر شاقلاً، وعشرون شاقلاً وخمسة وعشرون شاقلاء،اي انه ورد في ثلاثة أوزان. فعرف كل وزن من هذه الأوزان الثلاثة باسم "من". وهو معروف عند قدماء اليونان، وعند السريان. وهو من الأوزان المعروفة،عند العرب الجاهليين.

وقد ذكر علماء اللغة انه كيل أو ميزان وهو رطلان، والقنطار وزن أربعين أوقية من ذهب، وقيل ألف ومئتا دينار، وقيل، ألف ومئتا أوقية ، وقيل سبعون ألف دينار، وقيل ثمانون ألف درهم، وقيل مئة رطل من ذهب أو فضة. وزعم بعض علماء اللغة انه سرياني، وزعم آخرون انه عربي، ويظهر انه لاتيني الأصل وانه من أصل، "Centenarium Pondus" أي وزن يساوي مئة ضعف وزن أخر. وقد اختلف العلماء في القنطار، وقد ذكر العلماء آراءهم فيه ويظهر إنهم كانوا قد اختلفوا فيه في الجاهلية كذلك،وسبب ذلك على ما يظهر، انهم استعملوه وزناً، أي معياراً، واستعملوه ثمنا، أي بمقدار ما يعادله بالذهب والفضة، وبالنقد، ثم بالمقايضة، مثل قولهم انه ملء ثور ذهب أو فضة.

وقد ذكر في الآية )ومن أهل الكتاب مَن إن تأمنه بقنطار يؤده لك،ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده اليك إلا ما دمت عليه قائماً(. وفي الاية: )وآتيتم إحداهن قنطاراً(. وورد: )والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة(.

وفي الإشارة إلى القنطار في القرآن الكريم دلالة على استعماله في الحجاز وربما في أماكن أخرى من جزيرة العرب كذلك.

والقناطير جمع قنطار. ومعنى القناطر المقنطرة: المال الكثير من الذهب والفضة، والمال الكثير بعضه على بعض. ويظهر من اختلاف المفسرين وسائر العلماء في مقدار القنطار أن العرب لا تحد القنطار بمقدار معلوم من الوزن، ولكنها تقول هو قدر ووزن ، لأن ذلك لو كان محدوداً قدره عندها لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كل هذا الاختلاف.

والمُدّ مكيال، وهو رطلان أو رطل وثلث أو ملء كفي الإنسان المعتدل، إذا ملأهما ومدّ يده بهما، وبه سميّ مداً ،وقيل هو ربع الصاع، لأن الصاع أربعة أمداد. وقد اختلف في مقدار المدّ في الإسلام، وقد ورثوا ذلك من الجاهلية، فقد اختلفوا في مقداره أيضاً باختلاف مواضعهم،   

والصاع من المكاييل التي كان يستعملها أهل الحجاز عند ظهور الإسلام. وقد عرف خاصة عند أهل المدينة. ويأخذ أربعة أمداد. وهو يأخذ من الحبّ قدر ثلثي الصاع في بعض الأماكن. وكان لأهل المدينة صيعان مختلفة. وورد صاع المدينة أصغر الصيعان. كما ورد في كتب الحديث والفقه،صاع النبي وصاع عمر وقد كالوا به التمر والحبوب، وقد اختلف العلماء في مقداره في الإسلام. ومردّ ذلك الى الجاهلية الذين كانوا يختلفون في تقدير الصاع وذكر المفسرون أن "صواع الملك"، أو "صاع الملك" حسب قراءة "أبي هريرة" كناية عن الصاع الذي يكال به الطعام. وذكر أنه الإناء الذي يكال به الطعام، وإناء يشرب فيه، وكان يشرب الملك، وهو من فضة. وكان للعباس في الجاهلية واحد، وهو المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه، كانت تشرب فيه الأعاجم.

والقفيز من المكاييل القديمة المستعملة لتقدير كميات الأشياء الجامدة، ويتسع لنحو عشرة "غالونات"، وأصله من المكاييل البابلية. وقد ذكره المؤرخ "اكسينيفون"،وهو عند العرب أصغر من القاب "Cub".

والوسق من المكاييل التي كان يستعملها العرب قبل الإسلام كذلك. قيل: هو ستون صاعاً. وقيل: هو حمل بعير. وقيل: الوسق مئة وستون منّا. وقال الزجّاج: خمسة أوسق هي خمسة عشر قفيزاً. وكل وسق بالملجم هو ثلاثة أقفزة. وقيل إن الوسق ستون صاعاً. وهو ثلاث مئة رطل وعشرون رطلاً عند أهل الحجاز. وأربع مئة رطل وثمانون رطلاً عند أهل العراق على اختلافهم في مقدار الصاع والمدّ. والأصل في الوسق الحمل. وقيل: الوسق العِدلُ، وقيل: العدلان،وقيل هو الحمل عامة.

و استعملوا الحمل كيلاً، وقد رأينا إن بعضهم عرف الوسق بأنه عدل، أو عدلان،وهو مقدار ما محمله الحيوان. وبهذا المعنى وردت لفظة "الوِقر" وتطلق على حمل البغل أو الحمار أو البعير، فهو شيء تقديري غير مضبوط تماماً. وقد ورد في القرآن الكريم: "كيلّ بعير" ،وذلك تعبيراً عن حمل بعير، وهو مقدار ما يحمل. كما ورد فيه "حمل بعير" في المعنى نفسه.

ولا يزال العرف جارياً بين أهل القرى والبادية في البيع "حمولاً"، جمع "حمل"، وهو حمل "بعير" أو حمار أو غير ذلك من الدواب التي تنقل الشيء الذي يراد بيعه مثل الملح أو "العوسج" أو "العاقول" أو "حطب البادية" أو الزرع إلى الأسواق، فتباع حملا لا وزناً، ويشتريه المشترون على هذه الصفة.

وذكر علماء اللغة، أن الكر، مكيال لأهل العراق، وقد أشير اليه في كتب الحديث. و ذكر أنه ستة أوقار حمار، وهو عند أهل العراق ستين قفيزاً. والقفيز ثمانية مكاكيك. والمكوك صاع ونصف. وهو ثلاث كيلجات. وذكر "الأزهري" أنه اثنا عشر وسقاً، كل وسق ستون صاعاً أو أربعون أردباً بحساب أهل مصر. وهو "كور" في لغة بتي "ارم"، ويعادل عند أهل بابل وقر ستة حمير.

وذكر علماء اللغة، أن "المكوك" طاس يشرب به أعلاه ضيق ووسطه واسع، والصاع كهيئة المكوك. وكان للعباس مثله في الجاهلية يشرب به. وقد ورد في الحديث أن الرسول كان يتوضأ بمكوك. ويسع صاعاً ونصفاً، أو نصف رطل إلى ثماني أواق،أو يسع نصف الويبة، و الويبة اثنان وعشرون، أو أربع وعشرون مدا بمد النبي، أو هو ثلاث كيلجات. وهو صاع ونصف. والكيلجة تسع منّا وسبعة أثمان منا. والمنا رطلان، والرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية أستار وثلثاً، والأستار أربعة مثاقيل ونصف، والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم،، والدرهم ستة دوانق، والدانق قيراطان، وللقيراط طسوجان، والطسوج حبتان،والحبّة سدس ثمن درهم، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءاً من درهم. وذكر أن الكر: ستون قفيزاً، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف، وهو ثلاث كيلجات، والكيلة مقياس استعمله العبرانيون والجاهليون ؛ وهي "Seah"، و "Saton"، في اليونانية "Modius"، وهي تختلف باختلاف اصطلاح الأمم. فالكيلة العبرانية كبيرة بالقياس إلى الكيلة الرومانية، وهي تعادل كيلة وربع كيلة رومانية. وتبلغ ثلث "الأيفة". وتعادل اثنين وعشرين "Sextari". وتستعمل في وزن المواد الجامدة مثل الحبوب.

وأما "الأيفة" "Ephah"، فكلمة مأخوذة من اللغة المصرية، ترد كثيراً في العهد القديم. وهي تعادل ثلاث كيلات "Seah". وتستعمل لقياس المواد الجافة فقط، وتقابل "Atrabe"، و "Metretis"عند اليونان، وهي مجزأة إلى عشرة اجزاء، يقال للجزء الواحد "العمر". "عومير" "اومير" "Omer"، أو الكومة. ويقال له "عشر" "Issaron" أيضاً، وتقسم إلى ستة أقسام كذلك يطلق على كل قسم اسم "سدس".

ولعل لأومير "عومير" "Omer"، صلة ب "الغمر" عند الجاهليين. وهو عندهم قدح صغير يتصافن به للقوم في السفر، إذا لم يكن معهم من الماء إلا يسيراً على حصاة يلقونها في إناء ثم يصب فيه من الماء قدر ما يغمر الحصاة فيعطاها كل رجل منهم. وقيل هو "القعب" الصغير يحمله الراكب معه، يعلقه على رحله. وقيل: الغمر: أصغر الأقداح. قال أعشى باهلة يرثى أخاه المنتشر بن وهب الباهلي: تكفيه حزة فلـذان ألـم بـهـا  من الشواء ويروي شربه الغمر 

والغمر يأخذ كيلجتين أو ثلاثاً، والقعب أعظم منه، وهو يروي الرجل،و "الكيلجة"، مكيال.

و "الكر" من المكاييل المستعملة عند العبرانيين. وذكر علماء اللغة أن الكُر،مكيال لأهل العراق. وقد أشير اليه في كتب الحديث والفقه. ويظهر أنه مكيال للمائعات. ورد: اذا كان الماء قدر كرّ لم يحمل القذر. ومكيال للجوامد أيضاً،وهو ستة أوقار حمار، وهو عند أهل العراق ستون قفيزاً. والقفيز ثمانية "مكاكيك" والمكوك صاع ونصف، وهو ثلاث كليجات. وذكر الأزهري أنه اثنا عشر وسقاً، كَل وسق ستون صاعاً او أربعون اردباً بحساب اهل مصر.

واستعمل الجاهليون "للزق"، وحدة عامة لوزن المائعات. فورد: "زق خمر" مثلاَ ويستعمل خاصة في الخمور.

وقد عثر على عدد من قطع الأوزان المصنوعة من الحديد وبعضها من برونز، وقد استعملت في وزن الأشياء. وقد تأًثر بعضها بالعوارض ولعبت الأيدي ببعض آخر. ونأسف على عدم وقوفنا وقوفاً تاماً على أسماء الأوزان ومقدار ثقلها،لعدم وصول عدد كاف منها الينا عليه كتابة تشير إلى اسمه ومقدار وزنه، ولعل الأيام تجود علينا منها بما يحقق لنا هذه المعرفة أما "الصّبرة": فما جمع من الطعام بلا كيل ولا وزن بعضه فوق بعض.

فهي: الطعام المجتمع كالكومة، ومن ذلك بيع "الصبرة" من التمر. وقد نهى الإسلام عن هذا النوع من البيع، والفالج والفلج مكيال ضخم، وقيل هو القفيز. وقد ذكر بعض الباحثين انه سرياني الأصل، وأن أصله "فالغا" فعرب. قال الجعدي يصف الخمر: ألقى فيها فلجان من مسك دا  رين وفلج من فلفل ضـرم

ومن هنا يقال للطرف المعدّ لشرب القهوة وغيرها "فلجان"، والعامة تقول: فنجان، و "الطسق" مكيال أيضاً، وهو من أصل فارسي، وذكر أنه مكيال لكيل الزيوت وكل أنواع الدهن. وهو ضريبة الأرض كذلك، أي في معنى خراج في الإسلام. كتب عمر إلى "عثمان بن حنيف" في رجلين من اهل المدينة أسلما: ارفع الجزية عن رؤوسهما وخذ الطسق من أرضيهما.

والفرق مكيال بالمدينة، اختلف فيه. فقيل: يسع ستة عشر مداً، وذلك ثلاثة آصع، أو يسع ستة عشر رطلاً، وهي اثنا عشر مداً وثلاثة اصع عند أهل الحجاز. أو هو أربعة أرباع، وقيل الفرق خمسة أقساط، والقسط نصف صاع. وقيل غير ذلك. وذكر أن "الفرق" هو مكيال لأهل اليمن، وقد ذكر في عهد الرسول لقيس بن مالك بن سعد بن لأي الأرحبي الهمداني، إذ جاء فيه: "وأطعمه ثلاثمائة فرق من خيوان، مائتا زبيب وذرة شطران ومن عمران الجوف مائة فرق برُّ".

وقد ذكر بعض علماء اللغة اسم مكيال من مكاييل أهل اليمن دعوه "الذهب"، ويجمع على أذهاب.

ومن المكاييل المذكورة في التوراة والمعروفة عند الجاهليين كذلك، والتي تكال بها الأشياء الجافة: "القبضة"، أي كومة اليد. والكومة كيلة عند الشعوب الأخرى وهي بمعنى "صبرة". ولا يزال البدو يستعملونها، ولكنها ليست من المكاييل الرسمية، بل هي في الواقع كتلة عرفية. وهي تختلف في المقدار والكمية بحسب اتساع قبضة اليد، وقد كان الجاهليون يكوّمون ما يريدون بيعه بالتكوم كوما، ولا زال هذا البيع معروفاً. وقد كان أهل الجاهلية، يبيعون قبضة من التمر، أو قبضة من السويق، أو الدقيق، وذلك بحسب ما تقبضه اليد، أي كفاً منها.

الفصل السادس عشر بعد المئة
الفن الجاهلي

العمارة

لظهور الفن وازدهاره في مكان ما لابد من توفر تربة خصبة فيه تمونه بالمواد الأولية اللازمة، ولا بد من وجود جو يساعد على نمو بذوره وانمائها وازدهارها. وجزيرة العرب أرض كما نعلم غلب عليها الجفاف وتحكمت فيها أشعة الشمس المحرقة والسموم الحارة الجافة، وهي ذات جو مشرق صاف صاحٍ في الغالب، ولكنه جاف يابس، لا تبكيه السماء في الغالب إلا بمقدار، فإذا سالت دموعه، انهمرت انهماراً، وتحولت الى سيول جارفة عارمة سرعان ما تختفي وتزول، بأن تغور في باطن الأرض، وقد تنزل الأمطار نزولاً لا بأس به، فتخضر الأرض وتنبت الأزهار والأعشاب، وتضحك ويضحك الناس معها، وتهيج قرائحهم لفرحهم وطربهم من حصولهم على هذه النعمة الكبرى، التي لا تدوم طويلاً، وهذا أمر يؤسف له، أو قد لا تعود اليهم ثانية إلا بعدّ أجل، لانحباس البخار مولد المطر، فيلجأ المخلوق إلى خالقه يتوسل إليه أن يغيثه بانزال الغيث عليه بكل الوسائل التي يتوصل إليها عقله لاقناعه آلهته بإنزال المطر ليغيث الإنسان والحيوان والنبات.

ولظهور العمارة وفن النحت والزخرف، لا بد من وجود أحجار صالحة للبناء أو للنحت والحفر، حتى يكون في امكان المعمار أو النحات تحويلها إلى أبنية أو أصنام وتماثيل أو ما شاكل ذلك. وأرض سهلة لا حجر طبيعي فيها لا يمكن أن يظهر فيها بناء أو فن إلا إذا كانت قريبة من مواطن الحجر أو من مواطن الحضارة حيث تستوردها عندئذ من تلك الأماكن. لذا نجد الفن الجاهلي قد تركز وانحصر وبرز في العربية الغربية وفي العربية الجنوبية وفي المواضع القريبة من مواضع الحجر ومن اهل المدر في الغالب.

وفي اليمن أنواع من الأحجار الصالحة للبناء وللنحت، كما توفرت فيها، المواد المساعدة الأخرى التي تدخل في انشاء العمارات مثل الجبس. ولهذا قامت فيها بيوت مرتفعة ذات طوابق متعددة، ولا يزال أهل اليمن وبعض أهل المواضع الأخرى من العربية الجنوبية يبنون البيوت والقصور المرتفعة السامقة، وما كان بوسعهم ذلك لولا وجود المواد الصالحة للبناء، التي تستطيع البقاء و مقاومة الطبيعة أمداً. وبفضل المواد المذكورة بقيت أبنية من أبنية الجاهليين اليمانيين إلى الإسلام بقيت محافظة على نفسها وعلى شكلها العام، ولولا يد الإنسان التي لعبت بها وخربت أكثرها لبقيت أزمنة طويلة أخرى ولا شك. ولو كانت تلك الأبنية قد بنيت بالطابوق أو باللبن وبالمواد المستعملة في البناء في وسط وفي جنوب العراق، لما تمكنت من البقاء طويلاً، لأنها مواد لاتتحمل معاركة الطبيعة زماناً طويلا، لذلك تنهار بسرعة إذا لم ترعاها يد الإنسان دوماً بالاصلاح والتعمير.

وقد ساعدت وفرة الرخام والحجارة الصلدة في اليمن في التعويض عن استعمال الخشب القوي الصلد في البناء فاستعمل المعماريون الأعمدة العالية الجميلة ذوات التيجان في رفع السقوف وفي إقامة الردهات الكبيرة وفي "الطارمات " أمام الأبنية، وفي واجهات المعابد بصورة خاصة، استعملوها بدلاً من الخشب الذي لا يتحمل الثقل كما يتحمله الحجر، والذي لا يعمر طويلاً كما يعمر الحجر. وبفضل هذه الحجارة استطاع المعماريون أن يستفيدوا من الماء بإقامة السدود القوية التي تتحمل ضغط السيول العالي عليها، وهذه ميزة لا نجدها بالطبع في العراق.

وقد ساعدت طبيعة اليمن عامل البناء في نحت الحجر وقطعه وصقله وتكييفه بالشكل الذي يريده. وتمكن بذلك من وضع أحجار مصقولة بعضها فوق بعض لتكوين أعمدة منها أو جدر معبد أو حيطان سدود أو قصور بحيث يوضع حجر فوق حجر، فيجلس فوقه بصورة يصعب على الإنسان أن يتبين منها مواضع اتصال الحجر بعضه ببعض. ولولا وجود الحجر الجيد لديه لما تمكن من القيام بإنشاء الأبنية الضخمة المؤلفة من جملة طوابق والتي قاومت الدهر،.ولكان بناؤه من الطابوق، أي من اللبن الذي حُجر بالنار، والطابوق لا يمكن أن يقوم مقام الحجر في البناء، ولا أن يقاوم الطبيعة وأن يعمر طويلاً. ونظراً لصغر حجمه بالنسبة إلى الحجر، ولضرورة ربطه بعضه ببعض بمادة ماسكة مثل الجبس فإن البناء به لا يمكن أن يكون متيناً، ولا يمكن أن يقاوم الرطوبة والعوامل الجوية الأخرى، فيتآكل ويتداعى، ولا سيما في المواضع السهلة ذات الرطوبة، أو التي تتساقط عليها الأمطار بكثرة، فتكوّن سيولاّ عارمة تكتسح ما تجده أمامها من ابنية مبناة بمادة غير متينة متانة الحجر.

وتفيدنا دراسة المباني اليمانية في الزمن الحاضر فائدة كبيرة في تكوين فكرة عن البناء عن أهل اليمن قبل الإسلام. ففي هذا البناء الذي نراه عناصر عديدة لا تزال حيةّ باقية، هي من بقايا البناء اليماني الجاهلي. وما قاله "الهمداني". في صفة بعض المباني والقصور الجاهلية التي كانت قائمة في أيامه ثم زالت، ينطبق على أوصاف القصور والمباني القائمة الآن، كما أن في دراسة أسماء أجزاء البناء وما يستعمل فيه فائدة كبيرة في حلّ كثير من المعضلات الفنية المتعلقة بفن العمارة عند الجاهليين.

وقد زال أكثر المباني الجاهلية، ويا للأسف، بسبب اعتداء الإنسان بجهله، عليها. فقد حمله كسله وجهله على تدمير تلك الأبنية، لاستعمال حجارتها في بناء بيوت جديدة ولأغراض أخرى. ونجد في الأبنية الحديثة، واكثرها أبنية رديئة قبيحة بالقياس إلى القصور القديمة، حجارة ضخمة، بعضها مكتوب كتابة كاملة انتزعت من الأبنية الجاهلية، وبعضها ناقص الكتابة لتلف الكتابة المكملة أو لنقلها إلى موضع آخر. ونجد حجارة مكتوبة وقد طليت بالجبس، لاعطاء الجدار الذي دخلت فيه وجهاً أملس. ونجد في الكتب القديمة. مثل كتب الهمداني إشارات إلى مثل هذه الأعمال، التي ما تزال جارية مستمرة بالرغم من قرار الحكومات المعنية بمنع هذه الأعمال. وقد حطمت تماثيل جميلة عثر عليها بين الرمال ولا تزال تحطم، لأنها في نظر العاثرين عليها أصنام لقوم كفرة، وتماثيل قوم ممسوخين غضب الله عليهم، فلا يجوز الاحتفاظ بها، فهشمت وعبث بها، وبذلك خسر العرب كنوزاً فنية وذخائر لا تقدر بثمن، كان في وسعنا الاستفادة منهما في تدوين تأريخ الجاهليين.

وقد حطمت ودمرت قصور عظيمة في اليمن، بقيت بعضها قائمة إلى الإسلام، مثل قصر "غمدان" بصنعاء، الذي يبالغ أهل الأخبار في وصف ارتفاعه وضخامته، وقد كان مؤلفاً من طبقات بعضها فوق بعض، ثم هدم وقلّ في الإسلام، أمر الخليفة "عثمان" بهدمه، فزالت معالمه. ولو بقي إلى اليوم لكان من المفاخر، ومثل المعابد الضخمة، وقصور الأسر الحاكمة، مثل قصر "شمر" بذي ريدان، وأبنية أخرى قوضت لأسباب عديدة، فضاع بذلك علينا تراث مهم. وفعل مثل ذلك في الأبنية الأخرى. ففي العراق مثلاً، هدمت قصور الحيرة وبيوتها، لاتخاذ حجارتها مادة لبناء الكوفة، و "وجد في قراطيس هدم قصور الحيرة الي كانت لآل المنذر، إن المسجد الجامع بالكوفة بني ببعض نقض تلك القصور، وحسبت لأهل الحيرة قيمة ذلك من جزيتهم". وقد أضاعت علينا هذه الأعمال معالم قيّمة من تراث الجاهليين.

وقد هدم قصر "يهر" "ذي يهر" ببيت حنبص، وهو أثر جاهلي مهم، بقي قائماّ إلى حوالي سنة "295" للهجرة، فأمر بإحراقه "ابن أبي الملاحف" القرمطي، فأحرق، وظلت أخشابه تحترق أربعة أشهر على ما يزعمه الرواة، مبالغة منهم بالطبع.

ولأهل اليمن عادات جميلة أفادتنا فائدة طيبة، وذلك بوضعهم على الجدر حجارة مكتوبة تحمل اسم الدار أحياناً واسم صاحبها واسم الإلهَ الذي تبرك صاحب المبنى بتقديمه إليه تيمناً به، حتى الترميمات والاصلاحات التي يقوم بها أصحاب البناء تدوّن على هذه الحجارة، ولا سيما الترميمات والاصلاحات التي تدخل على المعابد والمباني العامة، تعين عليها بدقة تامة. فيذكر الموضع الذي ابتدأ به والموضع الذي انتهى منه، ويذكر مقدار ما صرف عليه في بعض الأحيان. ومن هذه الكتابات أخذ معظم علمنا بتاريخ اليمن القديم.

ويظهر أن أهل الحجاز لم يكونوا على شاكلة اهل اليمن في بناء البيوت الضخمة من الحجارة والمواد البنائية الأخرى التي يعمرّ بها البناء عمراً طويلاً، بدليل ما نشاهده في اليمن وفي مواطن أخرى من الجزيرة العربية من بقايا معابد ومبان ضخمة، وعدم وجود شيء من ذلك في الحجاز، وبدليل ما أورده أهل الأخبار من قصص عن مباني اليمن العادية، وما شاهدوه من بقاياها في أيامهم هناك، وهي تتحدث عن فن عمراني متقدم، على حين خلت أخبارهم من هذا القصص عن الحجاز، بل يظهر منها أن أكثر أبنية مكة ويثرب لم تكن إلا أبنية صغيرة ضيقة، أكثرها من اللبن أو الطين، وقد عرشت بجريد النخل وبالعيدان وبالأخشاب المحتطبة من التلال والجبال. وقد عرفت بيوت أهل الحاجة في مكة ب "عروش مكة".

وقد امتازت "يثرب" عن مكة بوجود "الأطم" بها، والأطم، هي قصور تتكون من طابقين في الغالب، أو ثلاثة طوابق، تكون ضخمة نوعاً ما يعيش فيها سادتها، وتكون حصوناً لأهل المدينة يتحصنون بها عند دنو خطر عليهم، ويحمون أموالهم بها. وقد بنيت بالآجر وباللبن أحياناً، وبالطين أحياناً أخرى، حيث تجعل الجدر عريضة، لتقف صامدة أمام الدهر وامام المهاجمين، وتتخذ في أعلى الأطم مواضع يقف عليها المدافعون لرشق المحاصر بالسهام، أو بالحجارة، وبصب الماء الحار أو النار عليه إن مر من جدار الأطم. وقد اتخذت الأطم في يثرب، لعدم وجود سور حولها يحميها من الأعداء، ولكونها مكشوفة،، لا تحميها حواجز طبيعية، يتحصن بها أهل المدينة عند دنو الخطر منهم، فلم يجدوا أمامهم من وسيلة سوى بناء هذه الأطم للدفاع عن أنفسهم، على نحو ما فعل أهل الحيرة في مدينتهم، حيث بنوا القصور.

وتوجد في أعالي يثرب إلى فلسطين بقايا حصون وقصور ومواضع قديمة، كانت آهلة عامرة، أما الآن فلم تبق منها غير بقية من آثارها، وهي لا تزال مادة "خاماً" لم تكتشف، ولم تدخل بعثات علمية منتظمة، وتشاهد عندها بعض أحجار مكتوبة، بقلم مشتق من المسند، وبلهجات عربية تختلف عن لهجة "ال"، أي عن العربية التي نزل بها القرآن، مما يدل على انها كانت في الأصل لقبائل كانت لهجاتها لا هي عربية جنوبية ولا هي عربية من عربية أهل البوادي، ولكنها كانت متأثرة بالثقافة التي تدون بالقلم المسند، ثم تأثرت بلغة الأعراب الذين جاءوها من البوادي وذلك قبيل الإسلام،،فنزلت هذه المواضع، وزاحمت أهلها، ثم غلبتهم على أمرهم، فاختفت اللهجات العربية القديمة، وحلت محلها لهجة "ال". وسيجد المنقبون الذين سينقبون في المستقبل في هذه المواضع آثاراً ستحدد لهم الاتجاهات الثقافية والحضارية التي دخلت جزيرة العرب، واللغات التي كانت سائدة فيها.

وفي المسند مصطلحات كثيرة خاصة بالبناء وبالآلات والمواد التي تستعمل فيه، وفي أجزاء البناء واللهجات العربية الجنوبية هي أغنى بمصطلحات البناء من العربية التي نزل بها القرآن الكريم. و ذلك لأن أهل العربية الجنوبية كانوا حضراً في الغالب وأهل مدر، حتى أن أعرابهم كانوا يقيمون في أكواخ وعشش ثابتة مستقرة. لهذا كثرت في لغتهم ألفاظ الحضارة التي تقوم على الإقامة والاستقرار. وظهرت عندهم ألفاظ لمواد تستعمل في البناء مثل أنواع الصخور والحجارة، وكيفية قطعها. وأنواع الخشب المستعمل فيه، وآلات القطع أو آلات المعمار وغير ذلك من مصطلحات لا نجد لها مقابلاً في هذه العربية التي نتكلم بها وذلك لأن حضارة البناء التي ظهرت في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية للاسباب المذكورة لم يظهر ما يماثلها في المواضع الأخرى من جزيرة العرب، حيث قام عمرانها على المدر بالنسبة للحضر. أي على الأبنية المتخذة من المدر أو من اللبن أو من الآجر. ومثل هذه الأبنية، لا تحتاج الى مصطلحات والى آلات كثيرة، ولما كانت الحاجة هي أم الاختراع في اللغات، لذلك قلَّت مصطلحات العمران في اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، بينما كثرت فيها مصطلحات أهل الوبر ومصطلحات البداوة، في مثل أجزاء الخيمة وما يتعلق بحياة الفرس والجمل، حيث قصرت دونها هنا لغة المسند.

وقد درس الآثاريون في الأيام المتأخرة موضوع الفن العربي الجنوبي ووضعوا بحوثاً فيه، استندت على الملاحظات والدراسات التي قاموا بها في مواطن الآثار أو من ملاحظاتهم للقطع الأثرية وللصور التي أخذت لها. وقد وجَد بعضهم مثل الباحثة "جاكلين بيرين" Jacqueline Pirenne، إن الحضارة العربية الجنوبية انما برزت وظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد، برزت بتأثير الحضارة اليونانية - الفارسية عليها. وقد زعمت إن القلم العربي الجنوبي اخذ من القلم اليوناني في ابتداء القرن الخامس قبل الميلاد، وان عناصر الحضارة العربية. الجنوبية، وخاصة الفن منها. مثل النحت والعمارة، قد غرفت من مناهل يونانية - فارسية..أما ما قبل هذا الوقت، فلم يكن لشعوب الشرق الأدنى أي أثر حضاري أو ثقافي على اهل العربية الجنوبية.

وقد درست باحثة أخرى موضوع الفن العربي الجنوبي، هي "برتا سيكال" Berta Segall. ذهب اجتهادها بها إلى أن هنالك مؤثرات حضارية خارجية أثرت على الحضارة العربية الجنوبية، وأرجعت هذه المؤثرات إلى أثر يوناني هيلليني، وأثر سوري حثي وأثر فينيقي وإلى عناصر حضارية اخرى. وذكرت إن هذه المؤثرات أثرت على الحضارة العربية الجنوبية، وتولد من هذا المزيج الأجنبي والعربي حضارة العرب الجنوبيين.

لقد تبين من دراسة الفخار الذي عثر عليه في العربية الجنوبية انه من صنع محلي ومن تصميم محلي أيضاً. وقد تبين أيضاً انه لا يخلو مع ذلك من المؤثرات الأجنبية التي أثرت عليه، ولا سيما على المظهر الخارجي للفخار في مثل الزخرفة والشكل. فقد أثر الفخار العراقي والسوري على الفخار العربي الجنوبي. ويظهر من الفخار الذي عثر عليه في "هجر بن حميد"، انه قد تأثر بمؤثرّات شمالية سورية وعراقية.

وتقدمت معارفنا بعض التقدم بالنسبة للفن المعماري عند العرب الجنوبيين. وتوجد لدينا فكرة عامة عن فن هندسة المعابد، أخذناها من فحص معابد "حقه" و "مأرب"و "تمنع" و "حريضة"و "خور روري". وتقدمت معارفنا أيضاً في موضوع أبنية المقابر والأضرحة عند الجاهليين، وكذلك عن هندسة البيوت. وقد وجد ايضاً أن الفن المعماري قد تأثر بمؤثرات خارجية كذلك. بمؤثرات عراقية وسورية وفينقية ويونانية ومصرية.

ويظهر الأثر اليوناني على سك العملة عند العرب الجنوبيين. فقد ضرب النقد على شاكلة النقد اليوناني، لا يختلف عنه إلا في وجود الحروف العربية الجنوبية على ذلك النقد. فالنقد العربي الجنوبي، هو تقليد ومحاكاة للنقد اليوناني، الذي ظهر في أيام "البطالمة"و "السلوقيين"، ويكاد يكون قالباً لها، أضيفت عليه حروف المسند. فالبومة التي تمثل "أثينا"، والتيَ كانت تضرب على العملة اليونانية، ضربت على النقد العربي الجنوبي، الى غير ذلك من أمور بحث عنها علماء "النمّيات".

ولكننا لا نستطيع أن نقول اليوم إن معارفنا عن الحضارة العربية الجنوبية قد تقدمت تقدماً مرضياًً، وانها صارت واضحة مفهومة، وسوف تبقى معارفنا عن هذه الناحية وعن النواحي الأخرى ناقصة ما دامت أكثر الآثار مدفونة تحت طبقات كثيفة من التربة لم تلمسها الأيدي حتى الان. لقد تقدمت معارفنا عن هذه النواحي على نحو ما ذكرت بسبب قيام بعض الباحثين المحدثين بالتنقيب في بعض المواضع بصورة جدية علمية وبشيء من التعمق في باطن الأرض، وممكن أن نتصور ما سيحصل عليه الباحثون من معلومات عن الجاهلية لو سمح لهم في التنقيب بأسلوب جدي علمي في باطن الأرض وفي مواطن الآثار..

استعمل اللحيانيون لفظة "بنى" "بنا" للتعبير عن بناء شيء. وذلك كما نفعل نحن في عربيتنا. وتشمل اللفظة بناء كل الأبنية، من بناء بيوت أو قبور أو غير ذلك. وقد وردت في عدد من النصوص.

ويعبر عن المبنى بالتعبير نفسه في العربيات الجنوبية، فيقال "مبنى". وإذا أريد التعبير عن تقديم البناء إلى إلهَ أو جماعة.، كأن يسمى باسم الإلهَ ويحبس عليه، فيعبر عن ذلك بلفظة "قتدم" أي قدم بهذا المعنى ألمفهوم منها في عربيتنا، وبمعنى أهدى. وأما الفعل فهو "بنى"، وذلك كما في هذه الجملة: "عسى وبنى"، أي " تملك وبنى". و "هبنى"، وذلك كما في هذه الجملة: " هبنا عقبتهن قلت"، أي "بنى قلعة قلت". ويراد ب "عقبت""عقبة" القلعة. وللفظة علاقة بكلمة "عقبة" التي نستعملها تحن بمعنى صعوبة وعائق، ونجمعها على "عقبات".

واستعمل اللحيانيون لفظة "حفر" بالمعنى المفهوم من اللفظة في عربيتنا. استعملت لكل انواع الحفر: حفر الأسس أو الآبار أو العيون، أو الحفر على الأحجار والخشب، لغرض النقش والزخرفة، أو لأي هدف آخر.

ويشق المعماريون أسساً في الأرض للابنية الفخمة، كالبيوت المؤلفة من طبقات عدة كالمعابد، لتحمل الأرض ثقل البناء. ويختلف عمق الأساس وعرضه باختلاف سمك الجدار وثقل البناء. ويحفر المال الأرض بالقدر الذي يعينه البناء، حتى إذا ما بلغوا العمق المقرر، وضعوا المواد اللازمة كالحجارة أو الكلس المخلوط بمواد أخرى، ثم يترك الأساس مدة حتى يجف ويستقر، ثم يقام عليه الجدار. ويقال لهذا الأساس في العربيات الجنوبية "موثر"، وهي بمعنى "الأس" والأساس والأسس في عربية القرآن الكريم.

وقد ورد في كتب اللغة، "والوثير": الفراش الواطىء، وكذلك الوثر كل شي جلست عليه أو نمت عليه فوجدته وطيئاً، فهو وثير. وتؤدي لفظة "مبحر" معنى: "أساس" وسناد. ف "مبحر" كل بناء هو أساسه وسناده في لغة السبئيين.

وترد لفظة "برا" بمعنى بنى وأنشأ وأقام وشقّ وما شابه ذلك. وترد بعدها لفظة: "هشقر" في الغالب. ومن هذا الأصل لفظة: "مبرام" "مبرا" بمعنى برىء من الدين، وبراءة الذمة. وترد لفظة "برأ" في كتب اللغة بمعنى الخلق. و "البرية": الخلق، وأصله الهمن، والجمع البرايا والبرّيات. والبرى: التراب.

وأما "هشقر" فمعناها أكمل الشيء، وانتهى منه. وأتمه وغطاه وستره. وهي من أصل: "شقر"، وترد من هذا الأصل لفظة "تشقر" و "شقرم"، بمعنى الأعلى والنهاية، و ذلك كما في هذه الجملة: "بتورببم اد شقرم"، أي من الأساس إلى الأعلى، أو إلى النهاية. و "ربب" معناها الأساس.

أما اعلى البناء ونهايته، أي تاجه الذي ينتهي عنده، فيقال له "تفرع". و "تفرع" نهاية الجدار وأعلاه، والمكان الذي ينتهي فيه.

ومن العبارات الواردة في بعض النصوص المتعلقة بالبناء، هذه العبارة: "بن موثر هو عدي مريمن"، وهي في معنى العبارة: "بن أشرس عد شقرن" التي ترد في النصوص المعينية، ومعناها من "الأساس إلى أعلى". فلفظة "موثر" وكذلك لفظة "أشرس" هما بمعنى الأساس أي أساس البناء، و"عد" حرف جرّ بمعنى إلى، و "مريمن"و "شقرن" كلاهما بمعنى أعلى، أي أعلى البناء.

ويقال لتعلية البناء "تعلى". أما تقوية البناء والجدر وحمايتها من السقوط، فيعبر عنه ب "تصور"، من أصل "صور" ومعناها وضع أوتدة وأعمدة عند الجدار أو البناء للتقوية والإحكام. وهي بذلك قريبة من معنى "الظئر" في لهجة القرآن الكريم.

ويعبر عن إتمام بناء ما أو اكمال شيء آخر بلفظة "تقه"و "قه"، بمعنى "وقه" أي أكمل وأنجز. وهي مرادفة للفظة: "تفرع"، وللفظة "هوعب" أيضاً. وكلها بمعنى الإنجاز والإكمال والانتهاء من عمل ما. ولفظة "قه" هي من أصل "وقه". وتعني جملة: "إتقه عن" انتهى. وقد ذهب "رودوكناكس " إلى أن لفظة "وكن" هي بهذا المعنى اي اكمل وانجز في بعض الأحيان.

ويعبر عن اصلاح البناء وترميمه بلفظة "هحدث"، وهي فعل ماض أي "أحدث"، ومعناها أقام ورمم وأحدث وأنشأ. أما سقوط حائط أو سقف أو ما شابه ذلك، فيعبر عنه بلفظة "تل" و "تلت"، ومن هذا الأصل لفظة "تلو"، أي الخرائب والتلال، وتقابلها لفظة "خيل"في المعينية، و."ذخبل"، أي تداعى وسقط ووقع.

وفي معنى الاصلاح والترميم أيضاً لفظة "غوث" الواردة فى الكتابات المعينية. وقريب من هذا المعنى معنى "غوث" في لهجة القرآن الكريمّ، ففي الإغاثة معنى المساعدة والاصلاح وترميم التصدع وإصلاحه.

وترد مع هذه اللفظة لفظة أخرى، هي "سعذب"، وهي فعل ماضٍ بمعنى أعاد وأرجع الشيء إلي ما كان عليه، من أصل "عذب". وأما حرف السين الداخل على أول اللفظة فإنه في مقام حرف الهاء في السبئية، يدخلان على المصدر فيحولانه إلى فعل ماضٍ.

ويقال لمقدم كل بناء "صلوتن" "الصلوة". وقد وردت اللفظة في كتابات دوّنت لمناسبة إقامة سدود كذلك. ووردت في بعض الكتابات هذه الجملة: "بن ذت هورتن عدي صلوت بين ذن محرمن وميسلن"، ومعناها: " من هذه الجهة الخلفية إلى الجهة الأمامية أو الصالة الأمامية بين هذا الحرم وموقد النار".

ويقال للجهة الخلفية من البناء "هورتن". من أصل: "ورت"، بمعنى وراء. و "وَرَه" في لغة أهل العراق، وذلك كما نرى في هذا النص.

وتؤدي لفظة "صلوت"معنى "فناء" أيضاً، وقد تؤدي معنى موضع منعزل أو مكان للصلاة، وقد يراد به فنِاء يؤدي إلى "مبسل" يقع مقابله تماماً.

وللفظة "صلوتن" "صلت" "صلوت" معنى آخر بعيد عن هذا المعنى بعداً كبيراً، هو "وثيقة" و "شهادة" و "عقد"، فتكون في معنى "سمع" و "اسمع" التي تطلق على هذا المعنى أيضاً في العربيات الجنوبية.

ويقال للباب "خلف" و"خلفتن"،في السبئية. ويراد ب "خلف " و "خلفتن" "الخلفة" الشباك كذلك. وقد كان أصحاب القصور يستعملون الشبابيك كثيراً في قصورهم، ويزينونها بالرخام الرقيق وبالزخارف لتظهر جميلة خلابة، ويقصد ب "خلف" و "خلفتن" المنافذ الخلفية كذلك.

وتتكون الأبواب من "مصرع"، أو من "مصرعي"، ويراد بذلك "مصراع" واحد أو مصراعان.

ويعبر عن الباب ب "الخلف" في عربيتنا كذلك. وأما لفظة "مصرع الباب" و "المصرع" و "مصراعا الباب" فمعروفة في عربيتنا كذلك.

ويعبر عن الباب العظيم، أو الباب المغلق وفيه باب صغير، أو مما يغلق ه الباب بلفظة "رتج" "رتاج" في اللحيانية. ولفظة "رتاج" لفظة معروفة في عربيتنا كذلك.

ويعبر عن السلالم والدرجات بلفظة "احلين"، تطلق على السلالم من أية مادة مصنوعة، من الحجر أو الخشب، كما يعبر عنها بلفظة "علوم" و "علوه " أيضاً، لأنها طريق يؤدي الى أعلى.

ولفظة "علية"، والجمع "علالي"،هي عند أهل الحجاز بمعنى غرفة أيضاً، والجمع "غرف"و "غرفات" وقد وردت لفظة "غرف"و "غرفات" في القرآن الكريم.

وعبر عن السقف وسطح البناء بلفظة "ظلتن"و "ظلل"أي "الظلة" و "الظل". وذلك لاستظلال الإنسان بالسقوف وحمايتها للبيوت والغرف من وهج الشمس.

ويعبر عن الشيء المسقوف مثل ذي سقف أو ما شابه ذلك بلفظة "مسقفن"، أي "المسقف"، من أصل "سقف". ووردت لفظة "مسقف" بمعنى الموضع المسقوف.

ويعرف المكان الذي ينفذ منه النور إلى مكان ما "مصبح" في الحضرمية. ويمكن إن نقراها "مصباح" كذلك. فالمصبح الكوة أو النافذة التي ينفذ منها الثور إلى مكان ما. والنور هو "صبحت" في الحضرمية، وذلك كما ورد في هذه الجملة: "صبحت عينو"، أي "نور عينه".

وأما الموضع الذي ينفذ النور إليه، ويستقر فيه، وقد يكون مسقوفاً وربما لا يكون مسقوفاً، فيقال له "منحل". وعلى هذا المنحل يكون المصبح أي المنفذ الذي ينفذ النور منه.

ويعبر عن الجدار والسور بلفظة "جنا" في لغة المسند.

وقد فسر بعض علماء العربيات الجنوبية لفظة "بره" بمعنى مجاز. ومن هذا الأصل أخذت كلمة "ابرى"، ولعلها تؤدي معنى خارج كذلك.

وترد لفظة "أدرف" في مصطلحات البناء كذلك، وتعني طرف البناء، وطرف كل شيء. وقد استعملت للتعبير عن تحصين جانب القلعة أو الحصن مثلاً، أو تحصين جوانب وأطراف برج ما.

ويعرف مقدم البناء أو مقدم أي شيء ب "قدم" وب"انف"0 أم الجهة المضادة للمقدمة فيقال لها "معذر"، فمعذر أي بناء أو أي شيء هو الجهة الخلفية لذلك البناء أو لذلك الشيء، كما تطلق هذه اللفظة على الأسوار الخفية للمدينة.

ويقال للطابق الأعلى من البناء "علوهو" "علوه"، و "علين" "عليان"، لعلوّه بالقياس إلى الطابق الذي تحتة. أما الطابق الأسفل، فيقال له "سفله" "سفلهو".

ويقال للبيت إذا كان فوق البيت "علية" والجمع "علالي". وتقابل لفظة "علية" لفظة "غرفة" والجمع "غرف" و "غرفات". والغرفة عُلّية من البناء. وسميت منازل الجنة "غرفاً".

ويعبر عن العمل الفني المتقن بلفظة "نكل"، ومن هذا الأصل لفظة "نكلو" و "نكلتو" في الأشورية.

وقد كان أصحاب الأبنية يذكرون المواد التي استخدموها في الأبنية بكل تفصيل لا يكتفون بذكر اسماء المواد حسب، بل يذكرون حتى صفاتها. فإذا كان الحجر غير مهندس ولا مصقول ذكروه، وإذا كان مصقولاَ ومهندساً ومقطوعاً عبروا عن ذلك بلفظة "تقرم".

ويقال للحجارة الحادة أو الملساء "زلت"، وهي تقابل لفظة "زِلّة" في لهجتنا وهي بمعنى أرض ذات حجارة ملساء أو حادة في اللهجتين المعينية والسبئية كذلك، وتعني لفظة "صلال" ألواحاً من الحجر في اللهجة الحضرمية. وأما الجمع فهو "ازلت".

وتؤدي لفظة "زلت" معنى سيلان الزفت أو القار على أرض ما كأرض غرفة مثلاً أو أرض شارع أو حمّام لتبليط الأرض بهذه المواد. وذلك كما يفهم من هذه الجملة: "زلت أوسطهس" أي "وزفت أو وقير الأواسط"، ويراد بالأواسط وسط الأشياء، أو الشيء.

ويقال للحجارة المكسرة الناتجة عن تكسير الأحجار الأخرى أو عن القلع "جريم" "جرب". ويراد بها الحجارة المقطوعة أيضاً. وتوضع هذه الحجارة في أماكنها على نحو ما قلعت من المقلع، فلا تصقل، ولا تمسها آلات الصقل. أما الحجارة المقلوعة التي تصقلها الأيدي وتنقحها، فتعرف ب "منهمتم" "منهمة". وتبنى هذه الحجارة مع الحجارة الأخرى، وتوضع بينها مواد البناء التي تلزم تلك الحجارة. والعادة هي أن توضع الحجارة المصقولة المعمولة المهندسة في جبهة الجدار لتكسبه منظراً جميلاً حسناً، توضع وراءها الحجارة الأخرى المقطوعة، وذلك لأن صقل جميع الحجارة التي تدخل في البناء يستنفذ وقتاً كبيراً كما يكلف ثمناً باهظاً. ويضع المعمار الحجارة بالطبع وضعاً متناسياً بحيث لا تكون مرتفعة أو منخفضة وتملأ الفرج ومواضع اتصال الحجارة بمواد البناء التي تلزمه وتمسكه ببن الحجارة.

وقد توضع الحجارة ل "جرب" على شكل طبقة واحدة في الجدار أو على هيأة طبقات وصفوف للزينة، وتجد هذه الطريقة في أبنية الحبشة كذلك.

ومن هذا الأصل جاءت لفظة "جربة" و "جروب" بمعنى المدرجات التي يضعها الفلاحون على الجبل، وذلك لزرعها بأنواع المزروعات، ولا سيما الكروم. وكذلك الأسوار التي تحيط بالبساتين.

وهناك من يرى أن "منهمتم" من "منهمت" "منهمة" تعني على العكس الحجارة المقلوعة غير المصقولة. و "حجر منهوم" بمعنى مقطوع غير مصقول.

وهناك لفظة أخرى تطلق على الحجارة المنحوتة المهندسة باليد هي "تقرم" من أصل "نفر". وهناك نوع آخر من الحجر يقال له "بلق". وقد ذكر علماء اللغة أن "البلق" الرخام وحجارة باليمن تضيء ما وراءهما كالزجاج.

ويعبر عن قطع الحجارة من الصخر وعن صقلها لجعلها صالحة للبناء، بلفظة "اثع" في اللحيّانية. وأرض اللحيانيين أرض بلدة صخرية، لذلك استخرج اللحيانيون حجر أبنيتهم منها فبنوا بها بيوتهم، كما نحتوا الصخور وجعلوها على هيأة كهوف لكي تكون ملاجئ لهم.

ويعبر عن تكسير الصخور وثقبها وعمل خرق بها بلفظة "جوبن"، وتعني "الجوب". والجوب هو عمل نقب في الحجر، أو ممر. وأما لفظة "جوب" فجمع "جوبة"، ويراد بها الفراغ بين شيئين.

ويُستعان بفؤوس ومطارق في تكسير الحجارة وهندستها واصلاحها لتتخذ الشكل المطلوب. فتستخدم المطارق الثقيلة في كسر الحجارة. وتكون ذات رؤوس مختلفة الأشكال تناسب المهمة التي تؤدى بها. وتستعمل الفؤوس في هندسة جوانب الحجارة وصقلها، وهي ذات أشكال مختلفة كذلك، منها ذات رأس حاد نابت يتصل بقاعدة عريضة وتستخدم في نقر الحجارة، ومنها ذات رأسين حادين عريضين، ولها خصر في الوسط وتستخدم في شذب أطراف الحجارة وصقلها.

ولا تزال هذه المطارق والفؤوس مستعملة في مثل الأعمال التي قام بها الجاهليون.

ويعبر عن تزيين الحائط وزخرفته بالحجارة أو بالأخشاب التي يوضع بين حجر الجدار وطابوقه بحيث تبرز للعيان وتوضع في أبعاد متناسقة، يعبر عن ذلك بلفظة "موسم"، ومن هنا لفظة "وسم" التي تعني التزيين والتزويق أيضاً. فلفظة "موسم" تعني الزخرفة والنقش في البناء.

وأما الحجارة المصنوعة وما يقال له "طابوق" في العراق، أي الحجارة المكونة من الطين المشوي، فيقال لها "لبتم" "لبت". ويراد بها اللبن كذلك اي الطين المجفف. وعادة مزج الحجارة المصنوعة أي الطابوق بالحجارة الطبيعية المقلوعة سواء أكانت مصقولة أم غير مصقولة هي عادة معروفة في البناء في الشرق.

وأما اللبن، أي الطين المجفف بالهواء وبأشعة الشمس والمصنوع بقوالب ولكنه لم يوضع في النار لإحراقه، فيقال له: "لبن" أيضاً. وقد ورد "لبن شمس" أيضا. ويطلق العبرانيون لفظة لبنة على اللبن، وعلى الطابوق أي اللبن المفخور بالنار.

وقد عثر المنقبون على لبن جاهلي في أماكن متعددة من جزيرة العرب. وقد كان أهل الحجاز يستعملونه في أبنيتهم، لم ينفردوا بالطبع في ذلك وحدهم، بل كان يفعل ذلك كل الجاهليين، وقد بني مسجد الرسول باللبن. وكان الرسول ينقله مع الناقلين وهو مختلف الحجم. بعضه واسع ثخين، وبعضه متوسط أو صغير. ويكثر استعماله في الأمكنة التي تقل فيها الحجارة، وتتقلب على طبيعة أرضها، الربة الطينية، فيكون من السهل على أهلها اقامة ابنيتهم باللبن بارتفاعات مختلفة تبعاً لمتانة البناء ورغبة صاحب البناء في الارتفاع. وقد عثر على آثار قلاع وحصون وأسوار بنيت باللبن. ويمكن لمثل هذه الأبنية البقاء مدة طويلة، لجفاف أجواء الشرق الأوسط وقلة الأمطار فيه، ولا سيما إذا كانت ذات أسس وقواعد وجدر ثخينة وفي أماكن جافة بعيدة عن رطوبة الأرض.

أما الطابوق، أي الآجر، فيتكون من طبخ اللبن في الكورة أي الأتون، أو بتكديس اللبن طبقات وصفوفاً، ووضع الوقود بينها، فإذا اشتعلت النار يصلد اللين ويشوى فيكون آجراً. وطريقة صنع الآجر بإحراق اللبن في الأتون، لا تزال شائعة معروفة في جزيرة العرب. وهي طريقة صنع الطابوق عند الفراعنة والسومريين والأشوريين والبابليين وغيرهم من الشعوب.

ولم يكن في استطاعة الفقير بناء بيته باللبن أو بالطابوق، بل كان يشيد بيته بنفسه بالطين، فيقيم جدره بالطين طبقة طبقة، إذا جفت طبقة وضع فوقها طبقة أخرى، وهكذا، ويسقف بيته بالأغصان، وبسعف النخل، ويضع فوقها طبقة من الطين لتخفف عنه وهج الحرّ في أيام الصيف، وتمنع عنه سقوط المطرى عليه عند نزوله، أما الأعرابي فلم يكن له بيت دائم، لا من الآجر ولا من اللبن، بل كان بيته خيمة تتنقل معه حيث يشاء، يستظل بها وينام تحتها، فهي بيته الحقيقي.

ويقوّى الطين الذي يصنع منه اللبن أو تقام به جدر البيوت أو تفرش به سقوف البيوت بالتبن، يخلط مقدار مناسب منه بالتراب، ثم يعجن الخليط ويترك مدة حتى يختمر، ثم يستعمل عندئذ، فيكون أقوى وأدوم بقاءً من اللبن أو الطوف المصنوعين من التراب الصرف. وهذه الطريقة معروفة أيضاً عند العراقيين والمصريين وعند غيرهم من الشعوب في العهود القديمة ولا تزال مستعملة عند حفَدَتهم. ويعرف التبن ب "تبن teben"عند العبرانيين.

وتطين جدر البيوت الفقيرة والريفية بالطين، وذلك لتكون مُلساً خالية من الثقوب. ويستعمل الطيّانون آلة تسمى المسجة. ويذكر علماء اللغة أنها يمانية، وأنها خشبة يطين بها، وهي المالجة بالفارسية ويعبر عن تطيين الحائط بلفظة وسج، وذلك إذا مسج الحائط بالطين الرقيق. وقد ذكر علماء اللغة أن السجة والسجة صنمان.

ويقال للحجارة المربعة، سواء أكانت مقلوعة أم مصنوعة، "ربعتم" "ربعت"   

"ربعة" أي "مربعة". وهي تدخل في البناء إما مستقلة، وإما مع أنواع أخرى من الطابوق والحجارة. وقد توضع على مسافات وابعاد متناسبة ومتناسقة، لتكون نوعاً من أنواع الزخرف في الجدر، وقد ذكر "الهمداني"في صدد ذلك هذه الجملة: "المكعب و ذلك بكعاب خارجة في معارب حجارته على هيأة الدروق الصغار". وهذا النوع من الزخرفة معروف في اليمن. أما في الحبشة، فقد كانوا يضعون حجارة منحوتة على هيأة رؤوس قردة للزينة.

ويعبر عن إدخال الحجارة بين حجارة أخرى للزينة أو الزخرفة أو ملء الفراغ بين جبهتي جدار بحجارة صغيرة لسدّ الفراغات "ولج". أما "مولجم" "مولج"، فتعني الموضع الذي وضعت تلك الحجارة فيه. والايلاج هو إدخال شيء في شيء.

وأما الحفر على الحجر أو الجدار، بقصد التزيين والزخرفة، فيعبر عنه بلفظة "فتخ"، وتقابل بلفظة "بتاخو Patahu". والحفر والنقش العميق على الحجارة و الطابوق من مذاهب التزيين المتبعة في الشرق حتى الان. وقد ذهب "رودوكناكس" إلى أنها تعني معنى "ولج" كذلك، أي ادخال الحجارة المحفورة والمنقوشة والمنحوتة بين حجارة جدار ما مثلا للتزيين والتزويق.

وتؤدي لفظة: "فلزتم" "فلزت" "فلزة"، معنى: أبعاد وطريق جانبي واخلاء وحفر ونقب. وقد أريد بها عمل ثقب في جدار في بعض الكتابات. وكان من عادة أهل اليمن صهر الرصاص وصبه بين حجارة الأعمدة وفي أسسها، وذلك لربطها وتقويتها، ويقال لذلك: "صهرم" من "صهر"، التي تعني جعل الرصاص مائعاً يصب في المكان المراد تقويته أو تثبيته، أو لأي غرض آخر من هذ الصهر. وقد استعملوا الرصاص المصهور في سدّ "مأرب" كذلك، استعملوه مادة ماسكة تمسك بعض الصخور التي تؤلف الجدر الأمامية وفي مواضع أخرى منه.

وقد استعمل المهندسون العرب الجنوبيون "القيطران" القار في البناء. استعملوه خاصة في الأماكن الرطبة والتي تسيل عليها المياه وفي الأسس لمنع الرطوبة، كما، استخدموه في رصف الشوارع ورصف قيعان السدود. فقد وجدت آثار قيعان بعض السدود وهي مرصوفة ومكسوة بطبقة من القطران.

وفي معنى "قطر" ترد لفظة "قثر" و "قتر" أيضاً. و "القتار" بمعنى الدخان. ومن هنا المعنى جاءت جملة: "قتر اللحم" اي شوُي وظهرت رائحته. وفي معنى "قطر" لفظة "هيع" أيضاً. ومعناها "سال" و "ماع". ولهذا استعملت في النصوص ذات الصبغة الدينية في القرابين حيث تسيل دماؤها، وفي الري لسيلان الماء، وفي صهر المعادن.

وفسر بعض الباحثين لفظة "هيع"، بمعنى بنى، أي أنشأ بناء، وفي مقابل لفظة "برا" في المسند.

واستعملت مواد دهنية مستخرجة من زيوت بعض الأشجار في منع الرطوبة أو الماء من التسرب إلى الأسس والجدر والسقوف.

والخشب هو "عض" في العربيات الجنوبية. وقد استعمله العرب الجنوبيون في تسقيف بيوتهم، ولعمل الأبواب، كما أدخلوها في البناء كذلك لتقويته.

أما لفظة "عضن" "العض"، فقد ذهب "رودوكناكس" إلى أن المراد بها نوع خاص من الخشب، نوع ذو رائحة زكية، يستعمل خاصة للحرق في مذابح المعابد.

ويلاحظ من فحص بقايا بعض الأبنية القديمة من عهود ما قبل الإسلام أنها خالية من المواد الماسكة التي توضع عادة بين الحجر لتثبيته بعضه على بعض. ومعنى هذا أن المهندسين المعماريين كانوا قد وضعوا هذه الحجارة بعضها فوق بعض على نحو يجعلها كأنها متداخلة بعضها في بعض فتثبت مدة طويلة وتتماسك وتصبح وكأنها، قد لصق بعضها ببعض بمادة من المواد المستعملة في العادة في تثبيت الحجارة مثل، الجص أو الكلس أو الطين، ويسمى ب"الخلب" عند أهل اليمن اليوم.

والحجارة التي أقصدها هي صخور اقتطعت من الجبال، وأكثرها هي صخور كبيرة وهي بعد أن تّسوى وتشذب وتهذب يوضع بعضها فوق بعض بحيث تتثبت بعامل الثقل وبهذه الطريقة تقام الجُدُر، ويجري ذلك في المباني الضخمة الكبيرة التي تستعمل فيها الصخور. وأما أوجه الجدر من الداخل فقد تملح بمادة كالجص لتجعلها مُلساً ناعمة، وبذلك تسد الفرج بين محال اتصال الصخور.

واستعملت في مباني أخرى المواد البنائية التي توضع بين الآجر والصخور الصغيرة والحجارة لتثبيتها ولضمان تماسكها. ومن هذه المواد الجص والطين والكلس، وقد تكحل الفواصل التي بين الأحجار بالكلس وبالجص لسد الفرج بينها وللزينة ايضاً. وأما الجدر الداخلية فتكسى بطبقة لتجعلها جميلة ملُساً على نحو ما يفعله أهل اليمن وما يفعله غيرهم في الزمن الحاضر. وقد وجدت البعثات الأثرية التي نقبت في العربية الجنوبية بقايا جدران بيوت، وقد كسيت بطبقة ملساء من الجص، تدل على مهارة البناء في ذلك الوقت. وقد تزخرف المواضع البارزة من الجدار بزخرف يصنع بقوالب خاصة توضع عليها المادة اللينة التي يراد زخرفتها، فإذا جفت رفع القالب عنها، فتظهر بارزة بالحفر التي تكون حولها.

وتكسى الجدر الخارجية للبناء بالجص والكلس في بعض الأحيان. فإذا كسيت بالجص، ظهرت بيضاً ترى من مسافات بعيدة، جاء في شعر لعدي بن زيد: شاده مرمراً وجلله كلساً  فللطير في ذراه وكور

وقد ورد أن الجص لغة، والعرب تسميه القصة.

ولم يكتفِ المتفنن العربي الجنوبي باقامة الأبنية حسب، بل استخدم الحجارة للتعبير عن شعوره وعن خواطره، ينحتها على الصخور ويبثها على ألواح الحجر. وإذا كان العربي الصحراوي قد عبر عن شعوره وعن خواطره بالشعر ينظمه أبياتاً أو مقاطع أو قصائد، يسر نفسه بها، ويسر الآخرين، فقد عبر العربي الجنوبي عن مشاعره وخواطره بنوع آخر من الشعر، هو الشعر المادي المتمثل في البناء وفي النحت والتصوير بالإضافة إلى الشعر المعروف الذي لم يترك لنا أثراً مكتوباً منه ويا للاسف.

والعربي الجنوبي متفنن بطبعه مذواق، لم يكتفِ بهندسة الحجارة وصقلها وتزيينها، بل اهتم بالألوان كذلك وبالمظاهر الخارجية للبناء. فاتخذ الحجارة الملونة للبناء، وكوّن منها مناظر متعددة الألوان، محاكاةً للطبيعة، وتأثراً على النظر. وبنى جدران قصر غمدان من حجارة ذات ألوان مختلفة، فبنى سافاً بالحجارة البيضاء. وبنى سافاً آخر بحجارة سُود، وبنى سافاً ثالثاً بحجر أحمر، وسافاً آخر بحجر أخضر وهكذا، وذلك إمعاناً في التفنن وفي التزويق ولا شك. وكسا السقوف والأبواب والأعمدة وبعض الجدران بصفائح الذهب والفضة وبالحجارة الكريمة وبسن العاج والأخشاب الغالية الثمينة، فأكسب البناء روعة وجمالاً وخشوعاً. ونجد ذلك في المعابد وفي القصور.

واستعمل المعمار العربي الجنوبي الرخام لإكساء أوجه الجدران أو في فرش أرض الغرف والمعابد ليكسبها بهجة وجمالاً، واستعمله ألواحاً رقيقة تزخرف بالصور والنقوش، لتعبر عن مباهج الحياة، كما استعمل ألواحاً رقيقة شفافة منه لتكون مكان الزجاج المستعمل في النوافذ في وقتنا الحاضر. ولا يزال أهل اليمن يستعملون الرخام المرقق في نوافذهم، توارثوا ذلك عن آبائهم وأجدادهم، وهو يعطي النافذة رونقاً وجمالاً لا يتوافران في الزجاج.

وتكون النوافذ والشبابيك في جدار الغرفة المطل على صحن الدار. أما الجدر المقامة على الطرقات والأزقة، فتكون خالية منها وذلك لئلا ينفذ منها اللصوص أو الأعداء إلى الدار، وليمنع المارة من التطلع إلى داخل الغرف والبيوت. أما البيوت المرتفعة المكونة من طابقين فأكثر، فقد حليت بالنوافذ، ومن هذه النوافذ ما كان يصنع من الخشب ومنها ما كان يصنع من الحجارة، ولا سيما الرخام. وجعل العربي الجنوبي الطوابق العليا مواضع للدفاع عند الحاجة، ولا سيما في الأماكن المنعزلة النائية، وجعل لمزارعه مواضع مرتفعة مبنية أو من الأخشاب أو على الأشجار لمراقبة من يحاول السرقة وسلب الفلاح ثمار أتعابه.

والنافذة ضرورية جداً بالنسبة للابنية العالية التي عرفت بها العربية الجنوبية، وذلك للدفاع بواستطها عن البيوت ولدخول النور والهواء اليها، وقد صنعت من لوح من الرخام، عملت فيه ثقوب، لدخول الهواء منها. وتعمل الألواح المصنوعة من الرخام ألحواحاً رقيقة جداً، وقد تكون شفافة كالزجاج، لتنير الغرف. ولا تزال نوافذ بيوت العربية الجنوبية محافظة على طرازها القديم. وقد استخدمت بعض النوافذ الجاهلية في بناء. وقد صنعوا النوافذ من الخشب أيضاً، زخرفوها بزخارف جميلة وأحاطوها بأحجار أو بمرمر لتمسكها ولتعطيها منظراً جميلاً.

ويعبر في اللحيانية بلفظة "بت"، أي "بيت" عن معنيين، عن معنى "بيت"، أي موضع سكن، وعن معنى نعبد. وذلك كما في هذه الجملة: "بنيو بت هصن لذ غبت" ومعناها" "بنوا بيت هصن لذي غابة"، و "ذو غابة" هو إلهَ اللحيانيين، أو بتعبير آخر: "بنوا معبد هصن للإلهَ ذي غابة". ويعبر عن البناء والبناية بلفظة "مبنى"في لغة سبأ. وهي من أصل "بنا" "بنى".

وقد ذكر علماء اللغة اسماء الدور بحسب نوع بنائها من حيث المادة أو المساحة أو الارتفاع وغير ذلك. ويقال للدار المنزل كذلك والدارة والمنزلة والمباءة والمعَان والوطن والمغنى والمثوى والمربع. والصرح هو كل بناء مرتفع. وأما الأطم والأجم فالحصن.

والدار المسكن والبيت، وترد اللفظة في النصوص اللحيانية، قال "ابن الكلبي": "بيوت العرب ستة: قبة من أدم، ومظلة من شعر، وخباء من صوف، وبجاد من وبر، وخيمة من شجر، وقنة من حجر، وسوط من شعر، وهو أصغرها". وقال البغدادي: الخباء بيت يعمل من وبر أو صوف، أو شعر، ويكون على عمود أو ثلاثة، والبيت يكون على ستة أعمدة إلى تسعة. والخيمة في عرف العرب: كل بيت من بيوت الأعراب مستدير، أو ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام ويستظل بها في الحر، أو أعواد تنصب وتجعل لها عوارض وتغلل بالشجر فتكون أبرد من الأخبية. أو عيدان تبنى عليها الخيام، أو ما يبنى من الشجر والسعف يستظل به الرجل إذا أورد إبله الماء. والخيمة عند العرب البيت والمنزل وسميت خيمة لأن صاحبها يتخذها كالمنزل الأصلي. وورد أن الخيمة لا تكون إلا من أربعة أعواد، ثم تسقف بالثمام ولا تكون من ثياب، وأما المظلة، فمن الثياب وغيرها.

و "القبة" من البناء ومن الأدم. وقيل: القبة من الخباء بيت صغير مستدير وهو من بيوت العرب. و "المظلة": الكبير من الأخبية، قيل: لا تكون إلاّ من الثياب، وهي كبيرة ذات رواق، وربما كانت شقة وشقتين وثلاثاً، وربما كان لها كفاء، وهو مؤخرها. قال بعض العلماء لا تكون المظلة إلا من الشعر خاصة. إلى غير ذلك من آراء. والخباء: ما يعمل من صوف أو وبر، وقد يكون من شعر، وقد يكون على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك، فهو بيت.

ويظهر من تضارب آراء العلماء في تعريف الأسماء المذكورة، انهم أخذوا معانيها من موارد مختلفة من رعاة ومن شبه حضر ومن أعراب، ومن جهات مختلفة، فكان كل مورد يفسر الشيء تفسيراً يختلف عنه عند مورد آخر، فتضاربت من ثم تلك الآراء.

ويقال لصحن الدار: حُرّ الدار وقاعتها وباحتها وساحتها وصرحتها وبحبوحتها. وفي الدار البيت. والمخدع، وهو البيت في البيت، والنفق والسرب، فالبيت تحت البيت ويتألف البيت من غرف. والغرفة في أعلى هي "العلية" والجمع علالي. والخزانة هي التي يحفظ فيها الشيء. والمرقد، هو المضجع.

وما يحيط بالبناء هو الحائط والجدار. والأُس هو أصل الحائط. والرهص، هو البناء من الطين الموطوء، ينضد بعضه فوق بعض، ويقال للنضدة الواحدة دمص، أما النضدة السفلى، فيقال لها رهص. والخط الواحد من الحائط ساف، ويقال للصف الواحد من اللبن أيضاً ساف. وإذا أقيم الآجر بعضه فوق بعض، فهو السميط. ويزال للحائط حين يبلغ العقد أو الثقيف أو التقبيب، ارتفع الحائط. ويقال للعقد: عقد الأزج وللبيت مغمى إذا سقف بالخشب، وبيت مقبب إذا كان ذا قباب. أما إذا كان على هيأة السنام، فيقال له بيت مسنم. والبرزخ الفرجة بين الأزَجَين في صهوة البيت، والهدف ترس الأزج.

وتقوى الجدر بالأوتاد، وذلك برز الوتد في الحائط عند البناء، وقد عثر على أوتاد من الخشب مرزوزة في بقايا أبنية السبئيين والمعينيين وغيرهم لتقوية الجدر، أو لاستعمالها لأغراض أخرى، مثل تعليق أشياء عليها، أو استعمالها بمثابة السلالم للتسلق إلى أعلى.

وفي الدار الصُّفَّةُ، وتسمى بحسب الجهة المتجهة إليها. ويقال صفة فراتية إذا كانت الشمس لا تقع فيها رأساً. و "المقنوءة" مكان ظله دائم ويكون بارد الهواء. والزاوية ملتقى الحائطين في البيت. والكوة الثقب في أعالي البيت. ويقال لها الشاروق. والمشكاة التي في الحائط. ويقال لها الأوقة ويقال بيت مأوَّق.

ويقال للسطح الإجار والصهوة. وسقف البيت أعلاه الداخل. وأما سمكه، فما كان بين قراره إلى سقفه. والطّاية السطح. والدرج المرتقى إلى السطح إن كان من خشب دعي ب "سلم". وكل مرقاة عتبة. والفرغ الخلاء بين المرقاتين. والعلاوة هي أعلى الحائط الذي لا يغمى. والتفاريج والطنف آجر أو نحوه يجتح به أعلى الحائط ليقيه المطر إن يسيل عليه. وهو الكثة والافريز. والهرادة من الخشب لأعالي الحيطان، والنجيرة سقيفة بخشب لا يخالطها غيره.

ويسقف البيت بالخشب، يوضع عليه عُرضاً، ويسس "العراص"، ثم تلقى عليه اطراف الخشب الصغار. وقد يطيَّن، أو يجصّص، أو يِبنى فوقه ليمنع المطر من السقوط من خلال الخشب على البيت، وحرّ أشعة الشمسن من النفاذ إليه.

وكانت بيوت أزواج النبي من اللبن، ولها حجر من جريد مطرورة بالطين، وعلى أبوابها مسوح الشعر. وهذه كانت صفة معظم بيوت أهل يثرب والمدينة، ما عدا بيوت الأثرياء، فقد كانت من حجر وكلس ولها كل وسائل الترفيه والراحة المتوفرة بالقياس إلى ذلك الزمان.

واللبن جمع لبنة. وأما الذي يعمل اللبن، فهو اللبان. والملبن الآلة التي بضرب بها. والسابل، الأداة التي ينقل عليها. والسميقان والأسمقة خشبإت يدخلن في السابل. والطوب هو الآجر، والطباخ هو الذي يطبخ أتونه، والأطيمة: أتون الجرار والقصاع وامثالها. والبلاط: الحجارة تفرش بها الأرض. ويقال أرض مبلطة، إذا فرشت بالبلاط.

وقد عرف بعض علماء اللغة اللبن بأنه المضروب من الطين مربعاً للبناء، وتقابل لفظة "اللبنة" كلمة Libbatu في الأشورية، و "لبيتو"و "لبنتو"في الإرمية.

والطياّن، الذي يعمل الطين، ويطين الحائط أو السطح، ويشتغل بالطين. والملاط ما رق من الطين. ونحوه السيّاع. ويقال للمالج الذي يمسح به وجه الحائط المسجّة والمسيعة. وأما الخيط الذي يقدر به البناء، فيقال له "المطحر". والشّيد والشص الجص. والجصّاصة موضع الجص. والملاّحة مجمد الملح.، والجيار والكلّس الصاروج. والصاروج النورة وأخلاطها. والثلاجة مكبس الثلج.

و توضع في سطوح الدور ميازيب لتسبل منها مياه الأمطار إلى أسفل، وتعرف ب "المثاعب"، وواحدها "مثعب"، ويكون من خشب وغيره. ويسيل الماء. الى "البالوعة" ويقال لها "البلّوعة" كذلك. ولفظة "مئزاب"و "مرزاب" من الألفاظ المعربة عن الفارسية، ولكنها من الألفاظ القديمة الداخلة إلى العربية.

وموضع الطبخ في الدار هو المطبخ. وأما المخبز فهو موضع التنور. ويقال للتنور الوطيس والهيلم والمسِعر كذلك. والكرامة طبق التنور، والمناقة حجره. وأما الساعور، فتنور صغير في الأرض.

والسور هو حائط الحصن والمدن. وأما الربض، فحائط حول السور. والشرف هو ما أشرف فوق الحائط، ويتشرف الناس من ورائه. ويعبر عن "السور " ب "حل" Hel في العبرانية، أي "حائل"، وهو الحائط الذي يحيط بالمدينة.

وتطلق لفظة "حال" و "حويل" على الحائط، وعلى الحدّ التي يفصل بين ملكين، لأنه حائل يحول بين الأملاك وبين الأشياء، فلا تختلط ويمتزج بعضها ببعض.

الفصل السابع عشر بعد المئة
القصور والمحافل وألاطام

وقد أورد علماء اللغة العربية، جملة ألفاظ لها صلة بالمباني الضخمة وبالمباني العالية. منها: "قصر" والجمع "قصور"، و "محفد" والجمع "محافد"و "أطم"، و "مجدل"، و "حصن" و "برج" وغير ذلك. من ألفاظ لبعض منها صلة بالناحية الحربية، لذلك أترك أمرها إلى ذلك الباب، وسأقتصر هنا على الكلام على المباني الأخرى التي تخص الحياة الاجماعية في الأكثر.

والقصر البيت الكبير الفاخر، وتقابل لفظة "قصر" كلمة "قصرو" في لغة بني إرم. وقد أطلقها علماء اللغة على البيوت الكبيرة لأهل الجاهلية في اليمن، فقالوا: "قصور اليمن". واشتهر من بينها "قصر غمدان" و "قصر سلحين"، وقد اطلقها عرب العراق على حصونهم التي كانوا يتحصنون بها عند دنو خطر عليهم، فكانت الحيرة مكونة من "قصور"، أقامها أشرافها، واتخذوها بيوتاً لهم، وحماية لأموالهم، وملجأ يلجأ إليه أتباعهم عند دنو الخطر، للدفاع عن سادتهم وعن أموالهم، يصعدون الى أعلى القصر، فيرمون المهاجم بالحجارة والخزف والسهام والنار، ويصبون عليه الماء الحار. ولما هاجمها "خالد بن الوليد"، أخذ يحاصرها قصراً قصراً، ويفتحها، وبذلك سقطت المدينة، المؤلفة من هذه القصور. ولا تزال اللفظة معروفة في العراق، فيعرف حصن "الأخيضر" المشرف في البادية ب "قصر الأخيضر"، ويطلق على بعض قرى عين التمر القصور، لأنها كناية عن بيوت تحمى ب "قصر"في الأصل.

وتخزن في غرف الطابق الأرضي من القصر الميرة، وما يحتاج إليه، وكذلك الماشية، أما الطابق الثاني، أو ما بعده، فيتخذ مسكناً، لأهل القصر، وقد تعمل به منافذ صغيرة، ليرمي منها المدافعون المهاجمين بالسهام وبالحجارة، لمنعه من الدنو من القصر، ويدافع عنه من السطح كذلك.

والمحفد من الألفاظ الواردة في كتب اللغة، وجمعها "محافد". وتعني في العربية الجنوبية القلعة والحصن، أي المكان الحصين المنيع الذي يتحصن فيه الجنود للدفاع. وتعرف ب "محفدن" في العربية الجنوبية، أي "المحفد".

وترد لفظة "صحفت " مع "محفد". وأما"صحفت"، فقد فسرت بمعنى المجاز أو الطريق أو الممر أو الخندق. وهي في معنى لفظة "ضخف " التي تعني الحفر، ومنها "مضخفة" التي تعني المسحاة. ويكون الخندق حول المحفد، يحميه من غارات الأعداء، فيحول بينهم والوصول إلى سوره. وتؤدي لفظة "صحفت" معنى ممر في داخل الحصن يربط بين السور وداخل الحصن. والمجدل، هو القصر المشرف. فهو نوع من أنواع الأبنية الضخمة. وهو الحصن في داخل المدن عند العبرانيين، ويقابل لفظة Castellum في اللاتينية. وقد وردت لفظة "مجدل" و "مجادال" أي في صيغة الجمع في النصوص اللحيانية بمعنى البرج والحصن.

وأما الأطم فالحصن و الجمع أطام. وهي القصور و الحصون. وقال "الأصمعي" الأطام الدور المسطحة السقوف، موشاة أي منقوشة. وهي معروفة عند أهل "المدينة". وقد تحارب الأوس والخزرج عندها، فأرخوا بهذا اليوم. وكانت الأوس والخزرج تتمنع بها، فأخربت في أيام "عمان".

وتقوّى الحصون بسكك الحديد أحياناً، وبكل وسائل التقوية والإسناد، لتتمكن من الصمود أمام العدو، ومن تحمل ضربات الآلات التي تستخدم للهدم. ويعبر عن التقوية هذه بلفظة "سكم"، أي "سك".

وقد فسر بعض علماء العربيات الجنوبية لفظة "صرحت" "صرحة" "صرحس" التي ترد في كثير من الكتابات المتعلقة بأعمال البناء، بالطبقة الثانية من البناء أو أعلى كل بناء. وفي كتب اللغة: "الصرح: بيت واحد بنى منفرداً ضخماً طويلاً في السماء"، وقيل "القصر" أو كل بناء عال مرتفع. وفي التنزيل: إنه صرح ممرد من قوارير، والجمع صروح. وقال بعض المفسرين: الصرح بلاط اتخذ لبلقيس من قوارير.

وترد لفظة "مرحت" بهذا الشكل في بعض الكتابات، كما ترد بغير تاء، أي "صرح". وقد وردت على هذه الصورة: "صرحس" في بعض الكتابات المعينية، كما وردت على هذا الشكل: "صرحسن" أي "الصرح".

والغالب بين علماء اللغة أن الصرح البيت العالي، وقد قيدّ بعضهم ذلك بالبيت العالي المزوق. وحيث إن البيوت المرتفعة العالية هي في اليمن وفي مواضع من العربية الجنوبية الأخرى في الغالب، ونظراً لورود اللفظة في كتابات العرب الجنوبيين، فإننا نستطيع أن نقول باحتمال أخذ الحجازيين لفظة "الصرح" و "صرح" من العرب الجنوبيين.

الأعمدة والاسطوانات

ومن الرخام أقيمت أعمدة جميلة كسيت تيجانها بالنقوش وبالزخرف الأخاذ. وقد تمكن المعماريون من وضع الصخور بعضها فوق بعض وضعاً فنياً في غاية الدقة جعلها تظهر وكأنها قطعة واحدة. فقد صقلوا الصخور صقلاً تاماً بدقة وعناية، وجعلوا نهايتها متطابقة تماماً. فإذا جلست بعضها فوق بعض، انطبقت على بعضها، وبدت وكأنها قطعة واحدة يصعب التمييز بين مواضع انطباقها. وقد نقروا أحياناً في أواسط الرخام نقراً عميقة، ثبتوا في داخلها أوتاداً من الرصاص أو الحديد، لتربط بين قطع الرخام، ولتكون لها سنداً وقوة، فلا تسقط. وقد وجدت مثل هذه الأوتاد بين الصخور المكونة لسد مأرب، وكذلك في قصر "غمدان".

وأقيمت الأعمدة على قواعد تحمل الصخور الثقيلة المؤلفة منها تربط بينها أوتاد مربعة في الغالب، وتكون القواعد أكبر حجماً من العمود ليستقر ثقل الأعمدة عليها، ولتكون أثبت على سطح الأرض. وتقوى هذه القواعد بصب الرصاص عليها. وقد وجد إن المعماري العربي الجنوبي تعمد في جعل الجدران المرتفعة ميالة إلى الجدار الداخلي كلما ارتفع البناء، بمعنى انه يجعل الجدران الخارجية أقرب الى واجهة الجدران الداخلية في أعالي البناء من القواعد، فتكون المسافة عندئذ بين الجدارين عند السقف أقرب وأقصر منها عند القاعدة. ويظهر انه تعمد ذلك لأغراض هندسية واقتصادية، تستدعيها المحافظة على الحجارة من عبث الطبيعة بها وتقوية لها، وتخفيفاً عنها، واقتصاداً في مواد البناء.

وأقيمت بعض الأعمدة على أرض البناء رأساً من دون قاعدة بارزة يرتكز عليها بمعنى إن المعمار لم يجعل قاعدة العمود أوسع وأعرض من هيكل المجموع، فيظهر العمود وكأنه قد نبت من الأرض.

وقد عثر المنقبون على أنواع متعددة من الأعمدة، تيجان بعضها مربعة أو ذات زوايا مستقيمة. منها ما هو بسيط بدون زخرفة ولا نقوش، ومنها ما هو مزخرف أو عليه بعض النقوش أو بعض الحروف أو الكتابات. ومن جملة الزخرف الذي زين تيجان الأعمدة زخرف يمثل زهرة الزنبق وأنواعاً أخرى من الزهور.

وتمثل الأعمدة المربعة الشكل أو المستطيلة والخالية من الزخرف أقدم أنواع الأعمدة بالنسبة للفن المعماري العربي الجنوبي. ونجد نماذج منها في خرائب معبد "قرنو" عاصمة معين. وفي "مرواح" "الخريبة" وفي "مأرب" "حرم بلقيس" "محرم بلقيس" وقد اقتطع المعمار هذه الأعمدة من الصخور، كتلا كتلاً، ثم أمر بصقلها وتشذيبها حتى حوّلها إلى قطع أكسبها شكلاً هندسياً، قواعدها مربعة أو مستطيلة، وضعها بعضها فوق بعض الى الارتفاع المقصود، مكوناً منها اسطوانة تحمل البناء.

من كتاب: Qataban and Sheba "ص 224" ونرى في هذه الصورة تاج أحد الأعمدة، وقد زخرف بحيث ظهر وكأنه كتلة من رؤوس خرفان أو حيوانات لها قرنان كالوعل وقد أبدع الفنان في حفره حتى ظهر الحجر كأنه مجموعة حيوانات وقفت بعضها إلى جانب بعض، وزخرفت قاعدة الحجر، كما ترى في الصورة ويظن بعضهم أنه رمز الإلَه القمر.

وقد أبدع الفنان في الحفر، وأجاد في الزخرفة وفي اتقان عمله، واعطى عمله روعة، فترى الحفر على مستوى واحد، وقد عمل بدقة ومهارة. واتقان العمل. والإبداع في الفن من المزايا التي امتاز بها أهل العربية الجنوبية حتى اليوم.

وهناك أنواع من الأعمدة تكون من ثمانية أضلاع، وأنواع أخرى تتكون من ستة عشر ضلعاً، عثر عليها في مدينة "تلقم"، وتتكون تيجانها من ست درجات: ثلاث منها على هيئة نصف اسطوانة: بطونها إلى الخارج وقاعدتها العمود، وثلاث على هيأة صفائح مستطيلة ذات ستة عشر ضلعاً. وقد نحتت هذه التيجان ورتبت على هذا الشكل: الدرجة السفلى مكونة من مستطيل ذي ستة عشر ضلعاً، وفوقه درجة على هيئة نصف أسطوانة يليها مستطيل ذو ستة عشر ضلعا، وهكذا إلى أن ينتهي التاج بالدرجة السادسة للتاج.

وقد عثر على نماذج من الأعمدة المثمنة الأضلاع في معبد "صرواح" ب "أرحب"، وفي "حقه" وفي "العرين" وفي "بيت غفر" وفي "سوق النعم" وفي "شبام كوكبان" وفي "مأرب"، وفي مواضع أخرى. ويرجع عهد هذا النوع إلى ما قبل الميلاد، وممتد إلى ما بعده. ويرى بعض الباحثين إن أكثر هذه الأعمدة قد ظهر في فترة من الزمن تقع فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثاني من بعد الميلاد.

وقد رأى "كلاسر" Glaser عموداً مثمناً ذا تاج "كورنثي" في مسجد "منقط" بالقرب من "يريم"، يرى الباحثون انه من صنع عامل يوناني.

وهم يرون أن أصله من مدينة "ظفار" التي لا تبعد كثيراً عن هذا المكان، جيء به من هناك إلى هذا المسجد. وقد كانت "ظفار" مركزاً خطيراً وعاصمة لحمير، وفيها أسس "ثيوفيلوس" كنيسة حوالي سنة "354" للميلاد. وصارت هذه المدينة مركزاً لأسقفية تشرف على نجران وهرمز وسقطرى. وقد عثر في هذا المسجد على قطع أخرى أثرية، عليها آثار الصلبان وكتابات حبشية وآثار اخرى تشير إلى أصل نصراني، يظهر انها من أيام استيلاء الحبشة على اليمن، وانها ترجع إلى ما بين سنة "525" و "570" للميلاد. وفي خلال هذه المدة كان احتلال الحبشة للعربية الجنوبية.

ولا استبعد أن يكون من بين هذه الأعمدة التي نحت الصليب فوقها، أعمدة جاهلية أُخذت من المعابد الوثنية، ثم حفر الصليب عليها، لتتناسب مع الطقوس النصرانية. أو أنها كانت معابد وثنية قديمة، فلما استولى الحبش على اليمن، أو عند اعتناق أهل تلك المواضع للنصرانية حوّلوا تلك المعابد إلى كنائس وأحدثوا فيها بعض التكييف والتغيير لتكون في وضع يناسب الكنيسة، فكان في جملة ما أدخلوه عليها حفر الصلبان على أعمدة تلك المعابد.

وتظهر الأعمدة المكونة من ستة عشر ضلعاً، وكأنها اسطوانة، أي عموداً ذا شكل دائري. لأن الأضلاع صارت ضيقة متقاربة أعطت العمود شكل اسطوانة. وقد عثر على نماذج من هذه الأعمدة في مدينهّ "تلقم" وفي معبد "صرواح" بأرحب، وفي "مرواح" "الخريبة" و في "الفراس"، وفي جامع المتوكلية بصنعاء.

ويرى بعض الباحثين إن الأسطوانات، أي الأعمدة المدوّرة ذات الشكل الاسطواني التام، قد ظهرت بعد الأعمدة المذكورة، وأنها ترجع الى الأزمنة المتأخرة لذلك من تأريخ اليمن.

ومن العربية الجنوبية انتقلت هذه الأعمدة إلى بلاد الحبشة، حيث نجدها في معابد الحبشة القديمة. وقد أخذ أهل تلك البلاد هذا النوع من الأعمدة في جملة ما أخذوه من حضارة أهل العربية الجنوبية. وقد رأينا إن أهل سبأ كانوا قد أقاموا حكومة لهم في إفريقية، وقد ترك أهل العربية الجنوبية، ولا شك أهل سبأ منهم، آثاراً في اليمن في مختلف النواحي، ما تزال ظاهرة للعيان.

وقد استعملت الأعمدة المصنوعة من الخشب لحمل السقوف، ولاسيما في البيوت وتوجت هذه الأعمدة بتيجان في الغالب، جعلت على هيآت وأشكال مختلفة. ولا يزال الناس يستعملون هذه الأعمدة في بناء البيوت.

وقد نوّع المعمار هندسة تيجان الأعمدة والأساطين، بأن جعلها أشكالاً وأنماطاً، راعى وحرص على أن يجعلها تتناسب مع شكل العمود الذي سيوضع التاج فوقه، أو الاسطوانة التي سيوضع عليها. وقد مرّ هذا التنويع في أدوار وأطوار، كما مرت صناعة الأعمدة والأساطين بهذه الأدوار كذلك. لقد كان التاج في بادئ أمره جزءاً أساسياً من أجزاء العمود، أي قطعة منه. هي القطعة الأخيرة من قطع العمود. وعلى هذا الجزء أقام قواعد السقف من غير أن يميزه عن الأجزاء الباقية من أجزاء العمود بأي شيء. ثم بدا له أن قي يجعل للقطعة الأخيرة حافة عليا بارزة، وأن يجعل أعلاها أوسع من أسفلها الذي هو قاعدة التاج التي ترتكز على بقية أجزاء العمود. وذلك لأسباب فنية تتعلق بالبناء وبعقد عقود سقوف المعابد. تم أخذ يجعل التاج قطعة حجر تكون أوسع مساحة من مساحة القطعة من العمود الذي سيوضع فوقها، أي أوسع من مساحة العمود نفسه، وصار يزخرفه ويتفنن في زخرفته، حتى ظهرت عنده جملة تيجان أقيمت عليها سقوف المعابد والقصور.

وقد عثر على تيجان بسيطة هي عبارة عن حجر وضع فوق العمود، ولكي يربط هذا التاج بالعمود ربطاً محكماً، ويجلس فوقه جلوساً تاماً هندسياً، فقد ربط بالعمود بوتد يقوم مقام المسمار في ربط أجزاء الخشب بعضها ببعض، يدخل في التاج وفي العمود ليربط بين بينهما ويجعلهما وكأنهما قطعة واحدة من حجر. وقد توضع بين التاج والعمود مادة بنائية لتشد بين الحجرين وتمسك بينهما، فضلاً عن "المسمار" الذي يدخل في الثقب الموجود في الحجرين، إن كان ذلك "المسمار" متحركاً أي متنقلاً، أو في الثقب المحفور في الحجر المقابل، إن كان ذلك "المسمار" أو الوتد ثابتاً وقد نحت في أحد الحجرين حتى صار مرتفعاً كقطب الرحي، ليدخل في التجويف المعمول في الحجر الثاني المقابل وبذلك يتماسك الحجران.

وقد وجد "كلاسر" تاج عمود، ظهر أنه كان مؤلفاً من حجرين، حجر مربع الشكل أطرافه قائمة الزوايا، وأضلاعه الخارجية عدلة، ثم حجر آخر أقيم تحته، أي فوق العمود، أطرافه الخارجية منحوتة نحتاً جعل الأطراف مائلة نحو العمود، أي إلى الجهة السفلى. وربما كان هذا النوع من التيجان مرحلة من مراحل تكبير التاج وتطويله بجعله يتألف من جملة طبقات. كما عثر على تيجان جعلت جملة طبقات، طبقة مصقولة ملساء، وطبقة منحوتة ومزخرفة زخرفة هندسية أو بأشكال أخرى حسب ذوق المهندس المعمار الذي وضع تصميم المكان.

عثر على نماذج أخرى عديدة من التيجان، تفنن في نحتها وفي تكوينها المعمار. وتمثل بعض منها شخصية ذلك المعمار تمام التمثيل. فهي مستقلة تمثل طابع العمارة العربية الجنوبية. ولكننا نجد بعض التيجان وكأنها تقليد ومحاكاة لتيجان أجنبية. فبينها تيجان تشبه تيجان أعمدة بعض معابد مصر التي تعود إلى ما قبل الميلاد، ونجد بعضاً وكأنه محاكاة لتيجان يونانية أو رومانية أو فارسية أو حبشية. وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن عدداً من تيجان الأعمدة الموجودة اليوم في بعض دور الحكومة بصنعاء، أو في المساجد أو في بعض البيوت هي من أيام الاحتلال الحبشي أو الساساني لليمن. ولا يستبعد أن يكون كل من بينها تيجان وأعمدة أخذت من كنيسة "القليس".

ولما كانت العربية الجنوبية على اتصال بالعالم الخارجي، منذ عصور ما قبل الميلاد، وقد شهدت فتوحاً أجنبية، كما كانت لها صلات تجارية مع الروم والإفريقيين والهنود والفرس، فلا يستبعد استخدام العرب الجنوبيين للأعاجم في أعمال البناء، وتأثرهم بالأساليب المعمارية الاجنبية، ولا سيما في أثناء الفتح الحبشي لليمن، فقد ذكر أهل الأخبار أن الحبش استعانوا في بفعلة من الروم في بناء "القليس"، كما أن الروم كانوا قد شيدوا كنائس في عدن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد بنيت هذه الكنائس وفقاً لأسلوب الفن البيزنطي النصراني ولا شك. وقد كان بين الفرس من يحسن البناء ويتقنه، كما كان لأهل العربية الجنوبية اتصال بالفرس قبل هذا الفتح، وكانت فيها جاليات منهم ولا سيما في الأقسام الجنوبية الشرقية، فأثروا بذلك في طراز البناء.

وما قلته من لم تفنن المعمار العربي الجنوبي في تنويع الأعمدة وتيجانها ينطبق أيضاً على القواعد التي أقيمت الأعمدة عليها. فبعد أن كانت قاعدة العمود أو الاسطوانة بسيطة، لا تمتاز عن العمود بأي شيء، بل كانت قطعة واحدة منه، ليست لهما عن بقية الأقسام أية ميزة، رأى المعمار تميزها عن بقية الأقسام، فجعلها أوسع من العمود، وأعطاها أشكالاً هندسية وزخرفية ميزتها عن العمود وعن تاجه. فنجد قواعد أعمدة على شكل مربع أو على شكل مستطيل أو على شكل دائري. ثم نجدها بسيطة تماماً، ونجدها مزخرفة ومزوقة. ونجدها وقد نحتت على شكل تظهر وكأنها من طبقات مختلفة.

وعلى هذه الأعمدة والتيجان والاسطوانات أقيمت سقوف المعابد والقصور وبيوت السادات عقدت عقداً على نحو ما نراه في الوقت الحاضر من بناء المساجد وبعض الأسواق القديمة والأبنية الأثرية. ولا يستبعد استعمال أهل اليمن للقباب في معابدهم وفي قصورهم، فمادة البناء متوفرة عندهم، والإمكانيات الفنية موجودة عند المعمار العربي الجنوبي. عقدت على عقود وأقواس ينتهي مركز ثقلها بتيجان الأعمدة أو برؤوس الأعمدة على طريقة بنائهم للمساجد في هذه الأيام.

ولم تجر حتى الآن حفريات علمية واسعة في اليمن وفي بقية أنحاء العربية الجنوبية، كما أن دراسات المتخصصين الضليعين بعلوم العربيات الجنوبية قليلة، وهذا كان علمنا بالآثار العربية الجنوبية ضحلاً لا يعين على تكوين رأي علمي واضح صحيح في آثار تلك الأرضين وفي صلة الحضارة العربية الجنوبية بغيرها من الحضارات.

لقد وضع "كلاسر" مخططات تقريبية لبعض المعابد والأبنية القديمة في اليمن، مثل معبد صرواح ومعبد "محرم بلقيس" حرم بلقيس، وهو معبد إلهَ سبأ الرئيس "المقه" وأماكن أخرى، كما وضع غيره مخططات أخرى. ولكن هذه الدراسات تقريبية وغير كاملة. ولا بد من وقت للبحث في هندسة هذه الأماكن بحثاً علمياً دقيقاً. ومثل هذه البحوث لا تقوم إلا بحفريات عميقة منتظمة، توصلنا إلى أسس تلك الأبنية وما طمر في الأرض من آثار تتعلق بتلك الأماكن.

وقد تمكن المنقبون في هذا اليوم من تثبيت معالم بعض المعابد ولا سيما معبد "المقه" بمأرب، حيث شخصوا بعض معالمه، إلاّ أن تحديده بصورة مضبوطة واضحة، وتعيين مواضع العبادة فيه، تحتاج إلى دراسات أثرية واسعة وبمقياس كبير. فقد أمكن مثلاً تنظيف بعض مواضع معبد "اوم" "اوام" بمدينهّ "مأرب" من الأتربة، لتظهر معالمه، وأمكن بذلك من الحصول على معلومات أثرية لا بأس بها عنه، غير أن معارفنا عنه لا تزال قليلة، لأن البحث العلمي لم يتم على هذا المعبد حتى الان، وترى في الصورة بقايا الأعمدة التي كانت تحمل سقوف المعبد، كما تشاهد بعض بقايا جداره، وهو من المعابد المهمة التي كانت في "مأرب"

وقد نسى اسم هذا المعبد القديم، الذي كان يسميه السبئيون معبد "اوم" "أوّام". وكانوا يتقربون إليه بالهدايا والنذور، تقدم باسم رب هذا المعبد "بعل اوم". وهو "المقه" إلَه الأكبر، إلَه القبيلة القديم. وهو القمر ويسمى معبده في هذا اليوم ب "محرم بلقيس"، ويقع على مسافة ميلين تقريباً من قرية "مأرب" الحديثة. وتقع معظم ساحة المعبد وجدره وأبنيته تحت الرمال. وما لم ترفع هذه الكثبان الرملية عنه، فإنه من المستحيل التحدث عن حديثاً علمياً . وقد سرق الناس أحجار السقوف وأعالي جدار المعبد، لاستعمالها في بناء، ولما زار "كلاسر" المعبد ووصفه، رأى سقف المعبد، أي البيت الذي يتعبد فيه، وكذلك أعالي سوره، وكانت زيارته له سنة "1888م"، ولا نجد اليوم من آثار السقف وأعالي الجدران شيئاً، بسبب سرقة الأحجار، ولولا الرمال التي غطت الأرض والجدران وساحة المعبد، وحفظت في باطنها أحجارها وبعض الأعمدة الضخمة التي صعب على الإنسان قلعها لما بقى من حجارة هذا المعبد شيئاً.

وقد بني هذا المعبد في أيام "المكربين"، وفد وجدت فيه كتابة تعود إلى أيام المكرب "يدع ايل ذوح ين سمهعلي" مكرب سبأ. ويرى "البرايت" انه حكم في منتصف القرن السابع قبل الميلاد. وربما كان هذا المكرب قد جدد بناء هذا المعبد الذي أقامه مكربون سبقوه في الحكم.

وتجد في هذه الصورة بقايا جدار معبد "اوم"، وبقايا نوافذ حجرية، وقد تخللتها ثقوب لدخول الهواء و النور منها، وقد نقشت وزخرفت. وقد جدد ورمم بناء المعبد مراراً، وأضيفت عليه جملة زيادات، كما يتبين ذلك من الكتابات التي عثر عليها المنقبون داخل المعبد، وقد دوّنت لمناسبات التجديد و إدخال الإضافات، ثم من طراز الهندسة الذي نراه في البناء ومن تنوع الأحجار ومادة البناء.

وهذه صورة أخرى، أخذت أثناء قيام بعثة "وندل فيلبسى" بأعمال الحفر في معبد "اوام" و ترى الأعمدة قائمة، والعمال يشتغلون في إزاحة الأتربة التي طمرت ذلك المعبد القديم.

وهذه صورة أخرى لمعبد "اوم" اوام"، في أثناء قيام بعثة "وندل فيلبس" بالحفر فيه.

ونرى في هذه الصورة أعمال الحفر لبعثة "وندل فيلبس" وهي تجرى في معبد "عثتر" بمدينة "تمنع" عاصمة قتبان. ويعود عهده إلى القرن الأول قبل الميلاد.

وتوجد في خرائب "مأرب" آثار معبد آخر خصص لعبادة "المقه" كذلك، هو معبد "برن" "بران". ويعرف موضعه ب "العمايد" عند أهل مأرب الحالين. وذلك لوجود أعمدة من أعمدته القديمة ظاهرة على سطح الأرض. ولم يقم العلماء بالتنقيب عن هذا المعبد المهم.

وقد بقيت في العربية الجنوبية بقية من أصول الهندسة المعمارية الجاهلية، تظهر معالمها في المباني الضخمة التي تكون بيوت الحكام والأسر الغنية، والتي تضم في الغالب أحجاراً قديمة مكتوبة و غير مكتوبة، وتراثاً قديماً موروثاً ورثه المعمارون من عرب ما قبل الإسلام.

وترى في الصورة نموذجاً من الريازة القديمة المتمثلة في مسجد "الأشرفية" بمدينة تعز، وهي ريازة أخذت من الفن الجاهلي. وترى الضريح، وقد أقيم على طراز عربي قديم، لا يشبه الأضرحة التي توجد في البلدان العربية الأخرى، لاستمداده هندسته من هندسة الأضرحة القديمة في العربية الجنوبية.

ونرى في هذه الصورة المأخوذة لجامع "الجندية" فناً، يختلف عن فن بناء المساجد في العراق أو في بلاد الشام، فلعقود هذا الجامع ولأعمدته واسطواناته صلة بالأبنية العربية الجنوبية القديمة. وأنت إذا دققت في هذه الصورة ترى طراز بناء القسم الأيمن منها يختلف عن طراز بناء الجزء الأيسر منها، ومع ذلك فإن للطرازين صلة بالفن العربي الجنوبي. وترى سطح السقف، وقد زين بأفاريز لها صلة بالأفاريز التي كان يعملها العرب الجنوبيون على مثل هذه المواضع من أسوار مدنهم، وأبنيتهم الضخمة من دور و قصور.

ونرى في الصورة التالية التي هي صورة مسجد بمدينة "تعز"، فناً، له جذور وأصول قديمة، استمد روحه من الفن العربي الجنوبي الذي يعود إلى أيام ما قبل الإسلام. وهو فن له استقلال في الشخصية، ومزايا تميزه عن الفن في المواضع الأخرى من جزيرة العرب. ونرى بعض قباب مساجد اليمن لها شخصية مستقلة، ترشدنا إلى إنها من أصل ذلك الفن اليماني العريق في القدم.

وعندي إن من الواجب في هذا اليوم دراسة الفن المعماري القائم حالياً في العربية الجنوبية، المتجلي في الأبنية القائمة الباقية التي لها طابع عربي جنوبي خاص، من قصور ودور ومساجد وأضرحة، ودراسة فن الزخرفة المتمثلة في النقش على الحجر، من زخرف قديم وزخرفة حديثة، ودراسة الأعمال الفنية السائدة اليوم، مثل النجارة والحفر والقش والرسم وما شاكل ذلك، لأن مثل هذه الدراسة تساعدنا كثيراً في الوقوف على الفن العربي الجنوبي.

وقد أبدع أهل العربية الجنوبية في فن الزخرفة. و "الزُخرف" في تفسير علماء العربية الذهب في الأصل، ثم، سميت كل زينة زخرفاً، ثم شبه كل مموه مزوّر به. وفي حديث يوم الفتح أنه لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنحيّ.

وأمر بالأصنام فكسرت. الزخرف هنا نقوش و تصاوير. ومن النقوش التي عثر عليها في العربية الجنوبية نقوش حيوانات وأشجار وصور بشر حفرت على الأحجار أو المعادن أو الأخشاب، وعلى ألواح من الجبس، استعملت في أغراض مختلفة للزينة. ومنها احجار منقوشة، نقشت عليها عناقيد عنب وأغصان وأوراق، وما شاكل ذلك. وجد علماء الآثار أن بعضاً منها يعود عهده إلى القرون الأولى من الميلاد.

وإذا كانت المعابد شاهداً على الفن وعلى التفكير الديني لقوم من الأقوام، فإن المقابر هي شاهد كذلك على وجهة نظر القوم إلى العالم الآخر، عالم ما بعد الحياة. فما في القبر من أدوات وأشربة وطعام وآنية، أو من بساطة وسذاجة، تشير إلى تفكير القوم في شكل الحياة الآخرة وفي كيفيتها وفي درجة تعلقهم وتمسكهم بالالهة وبالدين.

وخير مثال على ذلك، أهرامُ مصر وآثارها، فإنها آثار قبورية، تمثل مبلغ تغلغل الدين في نفوس الحاكمين وفي الشعب، ووجهة نظرهم إلى عالم ما بعد الحياة. لقد أنفق الحاكمون على قبورهم اكثر مما أنفقوه على قصورهم في الدنيا. إن بهم - بعد الموت - حاجةّ إلى كل ما يحتاج اليه الإنسان في الحياة. ولهذا ادخروه في هذه المقابر، ليستفيد منها الميت بعد انتقاله إلى العالم الآخر ورجوع الحياة إليه. أما العربي، فلم يهتم بقبره اهتمام المصري به، فلم يترك "المكربون " ولا الملوك ولا الأمراء ما تركه الفراعنة والكهان والأمراء في قبورهم، لا كله ولا بعضه. إنه لم يكن يحفل بالحياة الآخرة احتفال أهل مصر بها، لذلك نجد قبره ساذجاً، ثم هو لم يدخل فيه طعاماً ولا شراباً ولا أثاثاً، ولم يدخل فيه كذلك خدماً وحشماً من بقايا الحاشية المسكينة التي أدخلت إلى القبر قسراً لتخدم سيدها في العالم الآخر، كما خدمته في العالم الأول.

وقد يقال إن لفقر بلاد العرب دخلاً في ذلك، ولكن ما بال أهل اليمن، وقد كانوا في سعة وخير، لا يفعلون في قبورهم بعض ما فعله أهل مصر. وما بال قبور ملوكهم ساذجة، لا تحوي ذهباً ولا حجارة كريمة ولا تصاوير وتماثيل وتوابيت وجثثاً للضحايا التي تدفن مع الميت ? إن ذلك، إن دلّ على شيء، فإنما يدل على اختلاف في وجهة نظر القوم عن وجهه نظرِ المصريين مثلاً عن الحياة الآخرة، ونحن لا نتكهن في الزمن الحاضر عن وجهة نظرهم في ذلك الزمن، لعدم وجود كتابات جاهلية أو آثار تتحدث عن تلك الحياة.

وإذا قلنا إن تلك القبور كانت ساذجة خالية من الكنوز التي يجدها الناس في اهرامات مصر، فإن ذلك لا يعني إن قبور الجاهليين، كانت خالية من النفائس تماماً.فقد عثر في بعض منها على أساور من ذهب وخواتم وتماثيل وجرار بل وعلى سيوف وخناجر وسكاكين، وضعت مع الميت في قبره، كما يروي أهل الأخبار إن بعض الجاهليين كانوا يتعقبون المقابر القديمة، فينبشونها لاستخراج ما فيها من أشياء نفيسة، حتى ذكروا إن ثراء "عبدالله بن جدعان" انما كان من المقابر القديمة التي كانت بمكة، فرووا قصصاً عن قبور زعم إن الناس عثروا فيها على كنوز، وقد سبب هذا القصص إقدام الناس على نبش المقابر الجاهلية لاستخراج ما قد يكون في جوفها من ذهب وكنوز، مما أفسدها وأزال معالمها وأضاع علينا تراث الجاهليين.

وقد ذكر "أبو علي لغدة" الأصفهاني، إن " بجلدان هضبة سوداء، يقال لها بتعة، وبها نُقُبٌ، كل نقب قدر ساعة، كانت تلتقط فيه السيوف العادية، والخرز، يزعمون أن فيه قبوراً لعاد، وكانوا يعظمون ذلك الجبل".

وقد عثر على بعض المقابر الجاهلية في العربية الجنوبية، ظهر منها إن القبور ساذجة لا تكلف فيها ولا تعقيد في الغالب. ولكنها مختلفة باختلاف الأرضين والقبائل وطبيعة الأرض. فقد عثرعلى قبور اتضح منها إن الجاهليين في بعض أماكن من اليمن، وضعوا الميت في تابوت قائم الزوايا، مصنوع من الحجر، وقد غطي بغطاء من الحجر كذلك. ومثل هذه القبور لا تكون في العادة إلا في الأماكن التي تتوفر فيها الحجارة. أما في الأماكن الصحراوية والترابية التي لا تتوافر فيها مثل هذه الحجارة، فلم يكن من الممكن وضع الميت في مثل هذا التابوت، ولهذا كانوا يدفنونه في الأرض في لحد، ثم يهال على الميت التراب. وقد عثر على جملة قبور تكوّن مجموعة واحدة يحيط بها حائط معقود بالحجارة يتراوح ارتفاعه، من متر إلى خمسة أمتار. وهي مدافن أسرة واحدة في الغالب. وقد أشير إلى أمثال هذه المقابر في الكتابات. كما عثر على قبور هي غرف نحتت في الصخور، وقد كُتب على باب الغرفة، أي القبر، اسم صاحب القبر أو أسماء المدفونين في الغرفة. وقد وصف "هريس" بعض هذه القبور.

وعثر على بقايا مقبرة خارج سور مأرب من ناحية الشمال والغرب، تبين من فحصها ودراستها إن بعض الموتى قد دفنوا وقوفاً، وبعضهم قد دفنوا على الطريقة المألوفة أي اضطجاعاً على الأرض. ومن هذه المقبرة العامة الجاهلية حصل "كلاسر" على عدد كبير من شواهد القبور، التي وضعت فوق قبور أصحابها لتدل عليهم و لتشير إلى صورة صاحب القبر واسمه.

وقد عثر في معبد "اوم" "اوام"، المعروف بمحرم "بلقيس"، على مقابر، لها أبواب تؤدي إليها، ذات غرف، اتخذت مواضع لوضع الجثث بها.

وجد أن بعضها كانت مقابر للمكربين وللملوك، فقد عثر على اسم "سمه علي ينف" "سمهعلي ينف" "سمه علي ينوف"، مكتوباً على حجر في أحد القبور، وعثر على اسم آخر هو: "يثع امر بين بن يكرب ملك وتر" وهما من الملوك الذين اعتنوا بهذا المعبد، فأضافوا إليه اضافات، ولعلّ الحفريات المقبلة ستكشف عن أسماء ملوك آخرين قبروا في هذا المعبد الكبير، الذي كان المعبد الرئيسي لشعب سبأ في عاصمته مدينة مأرب "هجرن مربن"، "هجرن مرب".

وقد عثر في هذه المقابر على مباخر، يظهر أنها استخدمت لتبخير القبر عند دفن الموتى، وفقاً لطقوسهم الدينية، كما عثر على قطع من الأحجار الكريمة وبعض المصوغات المعمولة من الذهاب، ونظراً لوجودها مبعثرة، يظن أن الأيدي قد عبثت بها، فنهبت ما كان أهل الموتى قد دفنوه مع الميت من أشياء ثمينة.

ووصف "فون ريده" نوعاً من الأضرحة وجده في "صهوة" بحضرموت. وقد وصفه بأنه بناء على هيأة مكعب، طول كل ضلع منه زهاء 25 قدماً، وبارتفاع مماثل. وقد شيد من حجارة مربعة كبيرة، ويبلغ سمك حائطه قدمين.

وهو مقسم في الداخل إلى قسمين. يكون القسم الواحد غرفة يفصل بينهما حائط يبلغ ارتفاعه ست أقدام من مدخل البناء. ويتكون السقف من حجارة عرضها قدمان. ونجد في جوانبه ثلاثة أهرام للزخرفة. وعلى البناء كتابة قبورية تشير إلى القبر.

ولتخليد ذكرى صاحب القبر، ولوقوف الناس عليه، استخدم العرب الجنوبيون كغيرهم شواخص قبور، هي عبارة عن أعمدة من الحجر رباعية أو غير رباعية يكتب في أعلاها اسم المتوفى. وقد يصور تحت الكتابة صورة تمثل الميت، أو ترمز إلى شيء ديني. وقد عثر "كلاسر" على عدد من هذه الشواهد القبوربة في مأرب.

وقد تكون الشواخص على هيأة صخور مستطيلة، يكتب عليها اسم صاحب القبر. وقد تزخرف هذه الصخور. وتنتهي الكتابة بلفظة "صلم" في بعض الأحيان، بمعنى صنم، أي صورة، ويراد بها صورة المتوفى، أو الرمز الدال على شيء مقدس. وقد تدوّن الكتابة في القسم الأسفل من الشاهد، وتحفر الصورة في القسم الأعلى منه. وعثر كلاسر أيضاً على نوع آخر ساذج من الشواهد، هو عبارة عن نصب يشتمل على الكتابة وتحتها عينان فقط. وتثبت هذه الشواهد في الأرض. وقد وجد لبعضها حافة رقيقة كحد السكين، وذلك لتسهيل تثبيتها في الأرض، ومقاومتها لعبث الهواء والآفات الأخرى فيها.

ويقال للقبر "مثبر"و "هقبر" "القبر" في اللحيانية. وقد عثر المنقبون على أحجار قبور، كتبت عليها اسماء الموتى، وصورت عليها صور تشير إلى الميت، وحفرت عليها بعض الرموز والإشارات المستعملة في طقوسهم الدينية.

وقد وجدت في المقبرة الملكية لملوك أوسان تماثيل لبعض ملوك هذه الأسرة الصغيرة التي حكمت مملكة أوسان، وقد كتبت على قاعدة التماثيل أسماء الملوك، ويتبين من وجودها في هذه المقبرة، أن آل الميت دفنوا مع الملك المتوفى تمثالا له، ربما ليدل على قبره. وكتب لذلك عليه اسمه ليعرف، ولم يعثر على مواد أخرى ثمينة، ويظهر أنها كانت موجودة غير أن السرّاق سرقوها، فلم يبق فيها غير ما فات عنهم، فلم يصلوا إليه. وقد موّنت المقابر الأخرى التي سلمت علماء الآثار والباحثين بألواح من الحجر، نحتت عليها صور المتوفين، فوضعت شواخص على القبور، ليعرف بالشاخص صاحب القبر، كما عثر على مثل هذه الشواخص في باطن القبر، مما يدل على أنها دفنت مع الميت في القبر.

ونرى في الصورة التالية تماثيل صغيرة استخرجت من مقبرة قديمة، ويلاحظ إن الأنف دقيق، وقد حفرت العيون حفراً، وجعلت واسعة نوعاً ما في بعض التماثيل. وقد نقرت بعض هذه القبور نقراً في الصخور، وهي صغيرة لا تتسع إلا لميت واحد، ولكن المنقبين وجدوا مقابر جماعية، تضم افراد العائلة الواحدة.

وعثر في المقابر التي ضمت جدت نساء على أقراط حلي نسائية، وعلى أشياء أخرى تستعملها المرأة. وقد أمكن بواسطتها من تشخيص صاحبة القمر، ومن الوقوف على مكانة أسرتها ومنزلتها. وتوجد بعض الحلي في المتاحف، وهي جميلة تدل على مهارة "الصائغ" العربي الجنوبي. وفي جملة ما عثر عليه قلادة، عمل القسم الرئيسي منها على شكل هلال، بداخله زخارف، كما ترى في الصورة السابقة الي عثر على أصلها في مقبرة قديمة من مقابر "تمنع" عاصمة قتبان.

ووجدت مصوغات أخرى من ذهب، لا يزال الصاغة يصوغون من أمثالها في العربية الجنوبية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. منها ما يعلق على الرأس، ومنها ما يعلق على الرقبة، ومتها ما يوضع على الزند أو المرفق أو الأرجل، ويلاحظ إن لفن الصاغة في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية طابع خاص يميزه عن فن الصاغة في البلاد الأخرى. وقد وضع الصاغة شعارات دينية على بعض المصوغات تيمناً وتبركاً بها. ولهذا فمن المستحسن مقارنة المصوغات الحالية مع المصوغات الجاهلية التي عثر وسيعثر عليها، للتوصل بهذه المقارنة إلى معرفة تأريخ هذه الحرفة عند العرب.

وقد وجدت مجامر قديمة في مواضع متعددة من اليمن. وقد استعمل بعضها في المعابد، واستعمل بعض آخر في البيوت حيث يحرق فيها البخور أو بعض الأخشاب ذوات الروائح الطيبة العطرة لتطييب القادم. ولا تزال هذه العادة المعروفة قبل الإسلام مستعملة في اليمن، وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب، كما في "بيشة" مثلاً، وذلك على سبيل التقدير والتكريم والاحترام.

الفصل الثامن عشر بعد المئة
الخزف والزجاج والبلور

الخزف: ما عمل من الطين وشوي بالنار فصار فخاراً، وبائعه الخزّاف. والفخّار: الخزف. وذكر انه ضرب من الخزف تعمل منه الجرار والكيزان وغيرها. وورد في القرآن الكريم: )من صلصال كالفخار(.

والفِخارة من الحرف المعروفة عند الجاهليين. ومادة الفخار الطين يسوّى على الشكل المطلوب. فإذا جف، فخر بالنار. وأواني الشرب أي الجرار هي من أكثر الفخار استعمالاً حيث يوضع فيها الماء، والكيزان. واستعمل الفخار لخزن المواد الغذائية أيضاً، ولحفظ الأشياء الثمينة مثل الذهب والنقود والحلي، ولأغراض أخرى عديدة، ويكون في كَل الأماكن الأثرية مادة مفيدة للآثاريين.

وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى إن "الكوز" لفظة معربة، عربت عن الفارسية، وذهب آخرون إلى انها عربية أصيلة، وصانعها هو "الكوّاز". وعرف الخزف بأنه كل ما عمل من طين وشوي بالنار حتى صار فخاراً. أما صاحبه، فهو الخزّاف.

وقد عثر على جرار على هيأة "الثومة"، أي ذات عنق طويل، وأما أسفلها فواسع، في مواضع متعددة من جزيرة العرب وفي بلاد الشام. وتعرف ب "بقبق"و "بقبقة". وهي "بقبق" "بقبوق" في العهد القديم.

وللتربة أهمية كبيرة في صنع الخزف، ولهذا اشتهرت بعض المواضع ذات التربة الجيدة بجودة فخارها، فكانت تصدره إلى أماكن أخرى. كما أن للعناية التي يبذلها الفخار في عجن الطين وفي تنقيته من الشوائب أهمية كبيرة في صناعة الفخارة.

ولم يشر أهل الأخبار إلى الآلات التي يستعين بها الخزاف والكواز الجاهلي في صناعته. ولكن سكوتهم هنا لا يكون دليلاً بالطبع على عدم استعانة الفخار والكواز بالآلات، فليس من المعقول صنع أنواع الفخار بغير آلة. فإن عملها باليد وبغير آلة، أمر يكاد يكون صعباً. وكل الخزف الذي عثر عليه، يدل على أنه صنع بآلة ؛ لأنه على شكل منتظم. والآلة التي يستخدمها الخزاف في صناعته، هي دولاب يدير قرصاً من الخشب، يوضع عليه الطين ثم يحرك، فيدور القرص ويدور الطين الذي عليه معه، ويعالجه الخزاف بيده ليعطيه الشكل الذي يريده. ولصنع خزف جيد لا بد من العناية بالطين، فيختار ترابه من تربة جيدة خالية من الأملاح والرمال، ثم يعجن بعناية، ويترك مدة ليختمر جيداً. وإلا كان الخزف رديئاً. وقد يدهن الخزف بعد جفافه بدهن ملون أو ينقش بنقوش، ثم يفخر بالنار.

واستخدم "الأتون"، لتحويل المواد التي صنعها الخزاف من الطين الى خزف. والأتون هو "كورة" في أسفله موقد توقد فيه النيران، فيرتفع لهيبها وتصعد حرارتها من خلال فتحات تكون في قاع الأتون الذي هو سقف الموقد إلى أعلى مارة بين مصنوعات الطين الموضوعة في باطن الأتون لتشويها فتتحول بذلك إلى خزف وفخار. وتكون الأتونات مرتفعة لها فتحة في أعلاها وفتحة في الجانب تغلق أثناء العمل، وتفتح بعد نضوج الخزف والفخار. ولا يزال الخزافون والفخارون يصنعون بضاعتهم بهذه الأتونات على النحو المذكور. ويذكر علماء العربية أن الأتون لفظة معربة. وأنها تطلق على أخدود الجبار والجصاص وأتون الحمّام.

وقد كان الجاهليون يدهنون الجرار أحياناً، لسدّ مساماتها لمنع السوائل من السيلان منها، فكانوا يضعون النبيذ فيها مثلاً والسمن وامثالهما. وصانعها هو الجرّار. وقد كان أهل يثرب يحملون الخمر في جرار حمر، يطلقون عليها اسم "الحنتمة"، و ذكر إن "الحنتم" الخزف الأخضر أو كل خزف. وورد: الحنتم جرار مدهونة خضر كانت تحمل إلى المدينة فيها الخمر ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم. وقد نهي عن الدباء والحنتم. وانما نهي عن الانتباذ فيها لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها. وقد أشير إليها في شعر للنعمان بن عدي: من مبلغ الحسناء أن حليلهـا  بميسان يسقى من رخام وحنتم 

وطالما استعملت الجرار لخزن الأشياء النفيسة فيها مثل الذهب والنقود والحلي وما شاكل ذلك، إذ توضع هذه الأشياء في داخل جرة ثم تسد وتدفن حتى لا يقف عليها اللصوص والطامعون في المال. وقد عثر الجاهليون والمسلمون على كنوز كانت مخبأة في جرار طمرت تحت التراب.

والقلال من صنع الخزاف. وعرفت القلة بأنها الحب العظيم، وقيل الجرة العظيمة، أو الجرة عامة. وقيل الكوز الصغير. وذكر انها إناء للعرب كالجرة الكبيرة، إلى غير ذلك من آراء، يظهر من غربلتها إن القلُة جرة كبيرة، بدليل ما ورد عنها في الحديث من اشارات تفيد كلها إن القُلة كبيرة. وقد اشتهرت "هجر" بقلالها، فقيل "قلال هجر". وهجر قرية قريبة من المدينة،وليست هجر البحرين. وكانت تعمل بها القلال. واشتهرت الأحساء بقلالها أيضاً.

وعرف "الحُب" بالجرة الضخمة وبالحابية، وبأنه الذي يجعل فيه الماء. وذكروا أنه فارسي معرب. وعرفوا "الخابية" بالحُب، سمي بالخابية لأنه يستر الشيء ويخفيه.

وقد عثر المنقبون على قلل وجرار وكؤوس من خزف، وجدت على بعضها كتابات، عثر على كثير منها في المقابر، مما يدل على أنها دفنت مع الموتى في القبر. وقد يستنتج من ذلك أن أصحاب الموتى كانوا يتصورون أن موتاهم سيحتاجون اليها فى حياتهم الثانية لشرب الماء بها، ولذلك دفنوها معهم، وقد يدل دفنها معهم، على أنهم أرادوا بذلك وضع ما كان يستعمله الميت في حياته لإظهار تقديرهم للميت، وأنهم يتنازلون عنها إليهم، ولذلك دفنوا معه حليّه وسلاحه وما كان عزيزاً عنده، فقد عثر في المقابر على رؤوس حراب، وعلى سيوف وخناجر، وسكاكين، ولا يعقل دفن هذه الأشياء مع الميت وفي قبره عبثاً، بل لابد وأن يكون لهم رأي فيه.

وقد استعملوا القدور المصنوعة من الحجر. كقدور "البُرَم" المصنوعة من حجر صلد قوي يستخرج من موضع يسمى "المعدي" لا يبعد كثيراً عن الطائف.

والأعراب أقل من أهل المدر استعمالاً للفخار، وذلك بسبب وضعة وطبيعة حياته، فالفخار ثقيل وهو سهل الكسر، ويجب بذل عناية في حفظه، وحياة الأعرابي حياة تنقل، ولا توجد لديه أوعية لحفظ الفخار من الكسر، ولهذا استخدم الأدوات المصنوعة من الجلود والمعدن والخشب بدلاً من الفخار.

ومن أواني الشرب "الراقود"، وهو دنّ، يسيع باطنه بالقار. وذكر "الجواليقي" إن اللفظ من الألفاظ الفارسية المعربة. و "القافزة"، وهي "القاقوزة"و "القازوزة". وهي مشربة أو قدح، أو الصغير من القوارير و الطاس.

ولابد أن يكون بين الجاهليين أناس تخصصوا بصنع الزجاج وعمله، فقد عثر على أواني معمولة من الزجاج وعلى قطع زجاج. وقد ذكر علماء اللغة أسماء أدوات من الزجاج، مثل "الباطية"، وهو إناء واسع الأعلى ضيق الأسفل. وذكر بعض العلماء أن الباطية شيئ من الزجاج عظيم، يملأ من الشراب ويوضع.

بين الشَّرب يغرفون منها وهو "الناجود" على رأي بعض علماء اللغة. وتصنع الأقداح والقوارير والقناديل والأسرجة من الزجاج أيضاً، والمصباح، هو السراج يصنع من الزجاج كذلك، وفيه موضع لوضع الفتيلة عليه، لتأخذ وقودها الذي يساعد على إدامة اشتعالها منه. وهذا الوقود هو الزيت.

وقد ذكر الزجاج في القرآن الكريم: )مثل نوره كمشكاة فيها مصباح،المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب درّي يوقد من شجرة مباركة(. وذكر علماء اللغة أن الزجاج: القوارير، وان الزجاجة القنديل. وأن القوارير: أواني من زجاج في بياض الفضة لصفائها.

والمصباح: السراج، وهو قرطه الذي تراه في القنديل وغيره. وعرف السراج، بأنه المصباح الزاهر الذي يسرج بالليل، والمسرجة الي فيها الفتيل. و "القنديل"، لفظة معربة، عربت عن اللاتينية من لفظة Candel.

وتعني مصباح وسراج ونبراس. وتقابل لفظة "نبراس" لفظة "نبرشتا" Nebrastha في لغة بني إرم. ولفظة "منوراه" "منوره" Manorah في العبرانية.

والقنديل، لفظة أعجمية تخصصت بالمصابيح المحمولة. وقد يعلق القنديل وقد يتصل برجل تحمله. وتقابله لفظة "نبرشتا" في لغة بني إرم. أي "النبراس" في عربيتنا. و "منوره" "مينوره" في العبرانية. وقد أشير إلى القناديل في التوراة. وتستعمل في المعابد وفي بيوت الأغنياء. وقد تصنع من الذهب والفضة والبرونز، على أشكال متنوعة.

ومن مصنوعات الزجاج "المرآة". وهي "مرات" في العبرانية أيضاً. وقد صنعت من المعادن المصقولة كذلك. مثل النحاس. ووردت في التوراة لفظة "هجلونيم" فسرت بمعنى "مرآة اليد"، وتعني "المجلاة" في عربيتنا. والكأس، هو إناء الشرب، يشرب به. ويصنع من مواد مختلفة فقد يكون من الزجاج وقد يكون من معدن مثل الذهب أو الفضة أو الحديد وقد يكون من فخار. ويقال له "كوس" عند العبرانيين. وقد ينقش ويحلى بزخارف وباللؤلؤ والحجارة الكريمة. وقد ذكر "الكأس" في القرآن الكريم.

والراووق، المصفاة، وقيل: الباطية والناجود. وذكر بعض علماء اللغة إن الراووق الكأس. وقد وردت اللفظة في شعر لعدي بن زيد العبادي: قدمته على عقار كعين الديك  صفى سلافَـهُ الـراووقُ

وقد عرف أهل العربية الجنوبية "البلور" لوجوده في اليمن وفي أماكن أخرى. وهم يستخرجونه من نوع خاص من الحجر ويصقلونه بعناية، والغالب عليه اللون الأبيض غير إن بعضه ذو الوان اخرى، هو لون الحجر الذي أخذ منه.

ولا يزال أهل اليمن يمارسون صقل الحجارة الكريمة التي يستخرجونها من بعض الجبال، مستعملين في ذلك الماء والتراب الناعم على حجارة رملية ويصنعونها بأشكال مختلفة ويستعملونها في صنع الحلي. وهي ذوات ألوان متعددة: بيِض وسوُد وخُضر وزرق وصفر وحمر، ومنها ما يجمع عدة ألوان متمازجة. ويعد جبل نقم وجبل الغراس من أهم المواطن التي تستخرج منها مثل هذه الحجارة على مقربة من صنعاء.

وقد عُني العرب الجنوبيون بشق الطرق وتمهيدها، وبعمل القناطر والجسور وقد بلّطوا بعض الطرق بالحجارة وبمادة تشبه "السمنت"، وترى اليوم بقايا قناطر عملوها في الأودية للعبور عليها، وقد دمر الكثير منها بسبب الحروب والاهمال.

ونرى في الصورة بقايا قنطرة جاهلية وقد تطرق اليها الخراب من كبر العمر. و قد عملت على وادٍ يفصل بين الجبال.

الفصل التاسع عشر بعد المئة
الفنون الجميلة

وبين الآثار التي عثر عليها الرحالون، أو نقلت إلى بعض متاحف الغرب، عدد من التماثيل والصور المنحوتة على الحجارة، وهي قليلة في الوقت الحاضر لا تعطينا فكرة واضحة عن الفن العربي الجنوبي، وبعضها يمثل فناً عربياً جنوبياً أصيلاً، فلا يشبه المنحوتات اليونانية أو الرومانية، أو المصرية، أو الايرانية، أو غيرها، وبعض آخر له شبه بفن بعض هذه الشعوب، مما حمل المستشرقين على أن يذهبوا إلى أن هذا التشابه هو نتيجة تقليد ومحاكاة لذلك الفن.

ونلاحظ على هذا التمثال الذي عثر عليه في مقبرة قديمة عند "تمنع" عاصمة "قتبان"، ويعود عهده إلى القرن الأول أو الثاني قبل الميلاد، إن المثَّال حاول جَهد إمكانه اعطاء تمثاله الذي صنعه طابعاً عربياً جنوبياً، لكنه لم يتمكن من ذلك، وقد دوّن في أسفله إسم صاحبه، وهو "جبا ام هنعمت"، "جبأ أوام هنعمت".

ومن الصعب إصدار حكم عام على الفن العربي الجنوبي استناداً الى هذه التماثيل والصور المنحوتة أو البارزة، لأنها قليلة غير مغنية وغير كافية لإصدار حكم في هذا الموضوع، ثم هي من صنع أيد متعددة، فيها أيدٍ قوية ذات موهبة، وفيها أيدِ ضعيفة إنتاجها بدائي يشبه فن البدائيين، لاتناسق فيه ولا تناسب بين الأجزاء. وقد نشأ ذلك بالطبع عن تفاوت مواهب المشتغلين بهذه الصناعات وعن وجود أناس اتخذوا الحفر في المرمر حرفة يتكسبون بها، وقد يكون لأنهم ورثوا تلك الحرفة، فاشتغلوا بها، مع عدم وجود قابليات فنية لديهم.

وقد عبر عن النحات، أي المثال الذي يصنع التماثيل بلفظة "هصنع"، أي الصانع في اللغة اللحيانية. ويعبر عن صنع التمثال بلفظة "نحت"، أي حسب تعبيرنا عن نحت التماثيل في الوقت الحاضر0 و تطلق لفظة "هصنع" على الرسام كذلك وعلى المعمار.

ويلاحظ أن الفن العربي الجنوبي مثل أكثر الفنون الشرقية الأخرى،لا تجاري الفن اليوناني في هيأة الجسم في موضوع إبراز جماله. فإذا ما نظرت إلى تمثال أو صورة بارزة أو حفر عربي جنوبي، ترى فرقاً واضحاً بين عمل الفنان في هذه الصور وعمل الفنان الهلليني اليوناني المعاصر له. ففي عمل هذا الأخير نرى عملاً فنياً جميلاً راقياً، يبرز جمال الفن وروحية "الفنان"، وهو عمل يقرب القطعة المعمولة إلى قلبك، ويجعلها تؤثر فيك تأثيراً عميقاً، على حين لا نرى مثل هذا الإبداع في الفنون الشرقية في الغالب.

وفي الفن اليوناني تناسق وتناسب بين الأجزاء. راعى الفنان فيه النسب الطبيعية للجسم فمثلها في تماثيله، وأظهرها بمظهر يشعرك بقوه فنه وبتمكنه من التعبير عن أحاسيسه. أما الفن الجاهلي، عموماً عربي جنوبي أو من موضع آخر، فإنه لم يتمكن من تحقيق هذا التناسق ولا النسب ولا الاتساق والتوازن بين الأعضاء. ولم يتمكن الفنان مع كل ما بذله من جهد من اظهار الجمال الفني على القطع التي صنعها، ولا من اعطائها حياة ودماً وروحا أخاذة تجعلك تشعر انك امام فنان عبر عن إدراكه الفني وعن الحس الذي يشعر به احسن تعبير باية طريقة أو مدرسة من مدارس الفن. وبأية وسيلة من وسائل التعبير عن الذوق الفني الذي تملك الفنان فجعله يعبر عنه بطريقته التعبيرية الخاصة بهذا الانتاج المجسم لروحه والذي نسميه الفن.

ولا تملك المتاحف في الوقت الحاضر تماثيل جاهلية بالحجم الطبيعي للانسان.

ويظهر إن اعتبار كثير من الناس للتماثيل أصناماً قد أدى بهم إلى اتلافها والقضاء عليها. وهناك أمثلة عديدة تؤيد هذا الرأي ذكرها القدامى والمحدثون. بل إن هذه النظرة لا تزال عند البعض. ثم إن الناس لم يكونوا يدركون قيمة الأثر في حفظ تأريخ أمتهم، ولهذا فلم يكونوا يهتمون بالتماثيل ولا بالأحجار المكتوبة ولا بكل أثر من الآثار. وتوجد اليوم قطع تماثيل يظهر انها من تماثيل حطمها الإنسان بيده وهشمها بنفسه، إما للقضاء على معالم الوثنية المتجسمة في نظره في هذا التمثال، وإما للاستفادة من أحجاره في أغراض البناء أو أغراض أخرى تفيده.

ومن بينها رؤوس تماثيل أو أقدام تمثال، أو جسم تمثال بلا رأس ولا أرجل.

أما التماثيل الصغيرة، فقد وصل عدد منها دون أن يمسها أي سوء. وقد استخرج عدد منها من باطن الأرض، استخرجه المنقبون والمواطنون الذين أخذوا يحفرون التلول الأثرية للبحث عن أثر يبيعونه لتجار العاديات. ونجد فى دور المتاحف وعند جماع العاديات عدداً منها.

ومن بين التماثيل الكاملة التي تستحق الدراسة والانتباه ثلاثة تماثيل لملوك من مملكة "أوسان". يبلغ ارتفاع احداها "89" سنتمتراً. وقد نحتت من المرمر.

وهي تمثل مرحلة من مراحل التطور في فن النحت عند العرب الجنوبيين. وقد حاول النحات جهد امكانه بذل أقصى ما عنده من فن وقابلية وموهبة في اعطاء هؤلاء الملوك ما يليق بهم من جلال ووقار ومظهر، وإبراز ملامحهم وملابسهم، ولكنه فشل في نواحٍ ووفق قدر استطاعته في نواحٍ. وقد نحت شعر الرأس وجعله متدلياً طويلاً مجعداً. وجعل للتماثيل قواعد استقرت عليها، دوّن عليها أسماء أصحابها. وقد اختلف الباحثون الذين بحثوا في خصائص النحت البارزة على هذه التماثيل في تقدير عمرها، فذهب بعض منهم إلى أنها ترجع إلى القرن السادس أو إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وذهب بعض منهم إلى أنها ترجع الى القرن الأول قبل الميلاد، بينما رأى آخرون أنها من نحت القرن الأول بعد الميلاد.

وهناك تماثيل صغيرة لرجال ونساء وأطفال بعضها من حجر وبعضها من معدن تكشف لنا عن عادات وتقاليد المجتمع في ذلك العهد. في مثل الكشف عن الحلي التي كانوا يحلوّن بها جيد المرأة وعنقها، أو التي تحلى بها الأيدي أو الأرجل، كما تكشف بعضها عن ملابس المرأة والرجل والأطفال في تلك الأوقات، ولهذا فإن لهذه التماثيل أهمية كبيرة لا من الناحية الفنية حسب، بل من الناحية التأريخية أيضاً لأنها تتحدث عن العوائد الاجتماعية كذلك.

وتعبر بعض شواخص القبور عن شعور الحزن والاسى في نفس من أمر بحفر تلك الشواخص أو نحتها. فقد حرص صانعها على أن تكون معبرة عن المناسبة التي عملت من أجلها على أكمل وجه. واكملها برموز و إشارات دينية لها صلة وعلاقة بالحياة الثانية، وتزيد في فوائد هذه الشواخص بالنسبة لعمل الباحث، التماثيل التي وضعت مع الميت في قبره، لتعبر عنه. فهي تعبير آخر عن هذا الشعور المؤسف في شكل آخر من أشكال الفن.

وقد كانت العادة آنذاك، دفن تماثيل مع الموتى، أو صوراً محفورة على الصخر، فقد عثر في مصر وفي الجاز وفي بلاد الشام على مثل هذه التماثيل مدفونة في القبور، على مقربة من الأجداث. بعضها تماثيل رجال وبعضها تماثيل أطفال، ومن النادر تماثيل نساء، ولعل ذلك بسبب النظرة الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك العهد، من إعطاء الأولوية للرجل في المجتمع ثم للأولاد الذكور.

ونرى في هذه الصورة رأس رجل عربي جنوبي، حفر النحات عيني الرجل حفراً، وجعلها واسعة، فبدتا وكأنهما قد قلعتا، وأوصل اللحية بشعر الرأس، حتى أحاط الشعر بالرأس والوجه، وصار كأنه هالة. أما الفم، فصغير مفتوح، ولم يتمكن النحات من حفره حفراً يقارب الطبيبة، ولم يتمكن كذلك من إبراز معالم الأنف. أما الجبين فأملس، وأما الوجنتان، فملساوان كذلك، وأما الحجر المنحوت، فمن الرخام.

وإذا قارنت هذا التمثال والتماثيل العربية الجنوبية بالتماثيل اليونانية، أو بالتماثيل اليونانية التي عثر عليها في جزيرة "فيلكا" في الكويت، تجد فرقاً عظيماً من النواحي الفنية، فالفنان اليوناني له إدراك عظيم للقيم الفنية، له قدرة عظيمة على إبراز الملامح، وفي تقدير النسب بين الملامح وأعضاء الجسد، ثم هو متمكن تماماً من كيفية إظهار الحاجبين وحفر الأنف، و إبراز العينين. ومع مرور مئات السنين على الفن اليوناني، فإنك تستطيع أن تجد فيه حتى يومنا هذا الإبداع والجمال والاتساق والانسجام. خذ هذه الصورة، التي هي تمثال من الطين المحروق، عثر عليه في جزيرة فيلكا، ويعود عهده إلى حوالي "200" سنة قيل الميلاد، ثم قارنه بصور التماثيل التي عثر عليها في العربية الجنوبية ترى فرقاً كبيراً جداً بين الفنين.

ولكننا نجد مع ذلك في الفن العربي الجنوبي، محاولة نستحق التقدير، تظهر في طموح الفنان العربي الجنوبي ورغبته جهد إمكانه في إظهار شخصيته ومواهبه الفنية، وهو لو وجد التقدير الذي كانت يظهره اليونان للفن، لأبدع ولا شك إبداعاً كبيراً في عمله الفني.

وقد عبر الفنان العربي الجنوبي عن مشاعره بطريقة أخرى، هي طريقة الحفر على الحجر أو المعدن أو الخشب أو أية مادة أخرى يمكن الحفر عليها. وذلك بطريقتين: طريقة الحفر أي نقش الصورة أو ما يراد تخليد أثره على المادة حفراً كأن تحفر صورة إنسان أو حيوان حفراً عليها بأن تجعل معالم الصورة محفورة حفراً، عميقاً نازلاً في تلك المادة. فالحفر في هذه الحالة هو رسم محفور. وطريقة الحفر البارز، وذلك بجعل الأثر المراد تخليده بارزاً ظاهراً فوق سطح المادة التي حفر عليها. وذلك بأن يؤشر معالم ما يراد تخليده ويرسم، ثم يحفر ما حوله من سطح المادة التي رسم عليه، فتبرز الصورة وترتفع بهذا الحفر عن سطح تلك المادة.

وعثر على عدد من تماثيل الحيوانات، نحتت من المرمر ومن أحجار أخرى، فعثر على تمثال بقرة، وعثرت بعثة "وندل فيلبس"على تماثيل ثيران في خرائب مأرب. كما عثر بعض الباحثين على تماثيل أسود أو خيل. وقد تمكن الفنان من التعبير عن موهبته الفنية في بعض المنحوتات، وأجاد في إبراز مظاهر بعض أعضاء جسم تلك الحيوانات التي نحتها. وقد وصلت بعض هذه التماثيل وهي مهشمة، وقد فقدت بعض منها بعض أجزاء جسمها، فأضاع هذا الفقدان على الباحثين امكانية اعطاء رأي فني علمي عن هذه المنحوتات.

ومن الصعاب التي اعترضت "الفنان" العربي الجنوبي مسألهّ التعبير عن   

الحركات، ورسم الأشياء المتجاورة، والتمييز بين البعيد والقريب، والتفريق بين المنازل الاجتماعية، كالسيدة المصون صاحبة البيت وبين خادمتها. وهي مشكلات تواجه كل فنان، ولا يتغلب عليها بالطبع إلا من له قدرة وعلم بالتصوير والنحت. ومن جملة النواقص التي نلاحظها على الصور المحفورة أن أكثر القطع المحفورة لم تتمكن من التنسيق بين وضع صاحب الصورة. فبينما نجد الوجه مثلاً وهو متجه إلى الأمام، كأن صاحبها ينظر اليك، نرى الساقين والقدمين جانبيتين وهذا الوضع لا يتناسب بالطبع مع وضع القسم الأعلى من الجسم.

وقد نشأت عن صعوبة التعبير عن الأشياء المتجاورة، مثل رسم ثورين متجاورين يجران محراثاً، أو فرسين مربوطين معاً في محراث، مشكلة لم يتمكنوا من التغلب عليها، فلجأوا الى طريقة بدائية في الغالب، يتحدث وضعها عن هذا العجز، هو رسم أحد الحيوانين مثلاً، وكأنه تحت الحيوان الثاني المجاور له، و ذلك كما نرى في الصورة التي يمثل فلاحاً يحرثه ويجرّ محراثه ثوران، فوضع الفنان الثور الجانبي الأيمن فوق الثور الجانبي الآيسر، ظاناً إن ذلك قد عبر عن هذا الوضع، فبدا الثوران وكأن أحدهما قد ركب الآخر.

وقد عثر على لوح يمثل وجه انسان مستدير، رسم كأنه مع الجبين دائرة كاملة. وقد حفر الشعر على صورة قوس يكاد يحيط بالوجه إلا الحنك، وقد برز الشعر متموجاً، وقد فصلت بين الأمواج قواطع جعلت الشعر خصلاً. أما العينان فصغيرتان بالنسبة إلى الأنف. وبدا الفم مقفلاً وقد حلق صاحب الرأس ذقنه، وترك له شاربين طويلين يتصلان بالشعر المتدلي من الرأس. أما الأذنان فقد اختفتا تحت الشعر ولا أثر لهما في الصورة. والرقبة غليظة وقد أحاطت بها حيتان ارتفعتا إلى أعلى على هيأة قوس. ويظهر في هذه الصورة أثر الفن الساساني.

وقد عبر النحات عن تجعد شعر الرأس بحفره بصورة تشعرك انه يعبر عن شعر متجعد. وذلك بإحداث ثغرات تظهر الشعر وكأنه عقد، وقد جعله متدلياً إلى الكتفين، أو نازلاً على الجبين حتى الحاجبين، ولأجل أن يريك العينين وكأنهما في صورة طبيعية وضع أحجاراً ملونة أو أصباغا في بعض الأحيان على باطن العين لتظهر التمثال وكأنه بعينين حقيقيتين. تنظران إلى الأشخاص.

وحال حفر الأزهار وعناقيد العنب ورؤوس الحيوانات وبعض الكروم هي خير من حيث الإجادة من تصاوير الإنسان أو الحيوانات كاملاَ. وقد عثر على قطع رسمت فيها التيوس وهي من الحيوانات الكثيرة في اليمن، وقد رسمت بصورة تتمثل فيها القوة والحيوية.

وقد استعمل العرب الجنوبيون الكروم كثيراً للزخرفة، ولا يستبعد ذلك منهم فالكروم من النباتات المحبوبة الكثيرة في اليمن. وقد درّت عليهم أرباحاً طائلة واستعملت للاكل وللشرب. وهي تعطي نبيذاً طيباً وخمراً مشهوراً. فلا غرابة إذا ما استعملوه بكثرة للزينة، يحفرون صوره في اطارات الألواح أو الصور، أو يكبسون صوره في الجبس.

وعثر على قطع فنية نفيسة، من الحجر النفيس الغالي المحفور،أي من الأحجار الكريمة، حفرت عليها صور ذات صلة بالأساطير الدينية، مثل القطعة النفيسة المحفوظة في المتحف البريطاني، ويظهر انها من صنع فنان قتباني، حفر عليها أيلين أو وعلين وقد وقف كل واحد منهما على جانب، وقفا على القدمين الخلفيتين ورفعا القدمين الأماميتين إلى أعلى، وصور النحات القدم المقابل للشخص الذي يقابل القطعة أو ينظر اليها وقد عقف، أي بوضع منحن. أما القدم المقابل للقدم المعقوف، فلم يتمكن النحات من اعطائها الوضع الصحيح، ونجد رأسي الحيوانين وقد اتجها إلى الداخل، فكأنهما يريدان الكلام مع بعضهما أو الالتقاء، ولاظهار قرني الحيوانين معقوفين، نحت النحات عليها نحوتاً على شكل "الجزر"، أو الورق الرفيع. ووضع للحيوانين ذيلين قصيرين، وقد جعل آلة الذكر للحيوانين منتصبتين، وجعل تحت القدم المرتفع لكل حيوان رمزاً، له فم مفتوح متصل برقبة أو بجسم ينتهي بدائرة صغيرة، ثم بما يشبه كرة قائمة على ثلاثة أرجل. ووضع بين الحيوانين "طغراء" قراءته: "اب عم"، "ابي عم"، أي "أبى" "عم" إله قتبان.

وبين الأحجار الكريمة المحفورة التي عثر عليها في خرائب اليمن. أحجار أصلها من العراق ومصر ومن أحجار يونانية من أيام القياصرة ومن العصور الهيلينية، وقد نحتت على بعض منها حروف بالمسند المعبرة عن بعض المعاني الدينية أو عن أسماء أصحابها. وهي تستعمل خاتماً في الأصابع، وتختم بها الوثائق والرسائل.

وقد وضعوا "الدُّمى" على ألواح الأبواب، إما للزينة، وإما لدفع الشر والأذى أو للتبرك والتقرب. وقد قيل إن "الدمية" الصورة المصورة أو الصنم. وقد عرفوا "الدمية" بالصورة وبالصنم وبالصورة المنقشة بالعاج، ونحوه. وعرّفوها أيضاً بالصورة المصورة لأنها يتأنق في صنعتها ويبالغ في تحسينها.

وقد اتخذ العرب الجنوبيون من الحجر أثاثاً لهم، فنحتوا منه أسرّة وعروشاً.

وقد عثر على قطع من المرمر، هي من بقايا عروش أو كراسي عملت لبعض الأغنياء. وعثر على كراسي مصنوعة من أحجار أخرى. كما عثر على صناديق صنعت من حجر، وقد زوقت واجهاتها وزخرفت وحفرت عليها بعض الصور التي تمثل الأوراق والنباتات والأزهار والنوافذ أو واجهات البيوت.

واتخذوا من الحجارة مذابح Altars. وللمذابح مكانة في الطقوس الدينية ورسوم العبادة عند الجاهليين. ويقال لها: "مذبحت" و "مذبح" و "حردن". تذبح عليها حيوانات كبيرة مثل ثيران. وقد عثر على نماذج منها في مختلف المعابد. وقد زين بعض منها وزخرف.بصور حيوانات حفرت عليها أو نحتت كما حفرت عليها رموز لها علاقة بالعبادة والآلهة. وهي تفيدنا من هذه الناحية في الوقوف على فن الزخرف والنقش وعلى كل ما له من علاقة بالحياة الدينية عند الجاهليين.

وللمباخر والمجامر والمحارق أهمية أيضاً بالنسبة لمن يريد الوقوف على الفن الجاهلي. وقد عرفت المحارق ب "مصرب" و "مشود". وهي مواضع لحرق ما يقدم إلى المعبد من ضحايا عليها. وعرفت المجامر ب "مسلم"، وأما المبخرة، فهي "مقطر". وقد عثر على نماذج عديدة منها. وقد صنعت من مواد مختلفة من مرمر ومن معادن. مثل البرنز أو الذهب أو الفضة. وقد تفنن في صنعها، وبعضها مفتوح ليس له غطاء، وبعض آخر له غطاء. وقد نقش على بعض منها اسم الطيب الذي يحرق بالمجمرة، واسم صاحبها والمعبد أو الإله الذي خصصت به.

ولم يصل إلينا ويا للاسف من مصوغات الذهب والفضة شيء كثير. والصياغة صناعة اشتهر بها العرب الجنوبيون، حتى بالغ في ذلك بعض الكتاب اليونان، فأشاروا للى أوانٍ وأثاث وأدوات منزلية أخرى مصنوعة من الذهب والفضة.

ولكننا لم نر شيئاً مما ذكروا، ولم يروا هم ذلك أيضاً بالطبع، وإنما رووا ذلك عن طريق السماع.

وبعرف الذهب ب "ذهب" في العربيات الجنوبية. وأما الفضة، فيقال لها "صرف". وقد وردت أرض "شبا" في جملة الأماكن التي مونت العبرانيين بالذهب، حمله اليهم تجار "شبا".

وترد في الكتابات جمل مثل: "قدم تمثالاً من ذهب"، مما يدل على أن العرب الجنوبيين كانوا ينذرون إلى الهتهم إن منت عليهم وأجابت طلبهم بأن يقدموا لها نذراً هو تمثال من ذهب. غير أن الباحثين لم يعثروا حتى اليوم إلاّ على عدد محدود من تماثيل صيغت من ذهب، بل عثروا على تماثيل من البرنز. لذا ذهب بعضهم إلى إن العرب الجنوبيين قصدوا بكلمة "ذهبن"، أي "الذهب"، معدن البرنز، وذهب بعضهم إلى أنهم قصدوا معادن طليت بماء الذهب.

وفي جملة ما هو محفوظ من أعمال الصاغة، قلادة جميلة من الذهب عثر عليها في خرائب مدينة "تمنع" سبق أن وضعت صورتها قبل صفحات. وقلائد أخرى وصفائح من الذهب حفرت عليها صور بعض الحيوانات. كما عثر على معادن مطلية بطبقة من ذهب.

وقد وصلت قطع فنية نفيسة مصنوعة من المعادن، تدل على ذوق عال وعلى مهارة في الصنعة واتقان. من ذلك مصباح يضيء بالزيت، مصنوع من يتكئ على قاعدة. أما موضع الزيت، فينساب انسياباً جميلاً، وقد صنع بشكل متناسق، وارتفع فوق المصباح من الطرف العريض تمثال "ايل" جميل جداً ربطه بالصباح حزمة انفتحت عند اتصالها بالمصباح على هيئة أصابع يد. فلما ارتفعت، اتصل بعضها ببعض على هيأة ضفيرة، الى موضع اتصالها بالأيل. وقد انكسرت يدا الحيوان وكانت ممتدة. أما الرقبة والرأس والقرنان، فقد صنعت بدقة وبمهارة، وعلى الجملة القطعة تدل على تطور كبير في فن الصناعات اليدوية عند العرب الجنوبيين، وذلك كما نراه في الصورة المذكورة.

ونرى في قطعة أخرى مصنوعة من البرنز فناً وخيالاً، نرى رجلاً قد وضع على رأسه غطاءً يشبه الخوذة، وأمسك بيديه أسدين، فاليد اليمنى أمسكت بيد أسد، واليد اليسرى أمسكت بيد الأسد الأخر وقد أدار الأسدان رأسيهما إلى الجانبين، وكأنهما يتلويان من شدة القبض عليهما، وإن كانت لا يمثل أجزاء الأجسام تمثيلاً كاملاً، تعطي انطباعاً حسناً، وتعبر عن الفكرة تعبيراً طيباً.

وهنك قطعة مصنوعة من البرنز كذلك، تمثل منظراً رمزياً: ففي الوسط، راقص يشبه شكله شكل الشيطان في الأساطير، وقد اتصل فوق رأسه، وعلى الغطاء عمود يحمل طيرا ماداً جناحيه. ويقابل الطائر أيلان، انتصب كل أيل على جانب منا جاني الطير، و كأنهما يتقاتلان، ويحمل الأيلان حيوانين.

ونرى في هذه الصورة تمثالاً من البرنز لثور يرمز إلى الإلهَ القمر، وقد عثر عليه في "ظفار".

ونرى في هذه الصورة تمثال رجل صنع من النحاس، تظهر على شعر رأسه نتوءات بارزة كأنها الخرز، ربما يمثل زينة، أو تعبر عن شعر صاحبها المتموج. أما الوجه، فلا يمثل وجه أهل اليمن، بل كأنه بمثل وجهاً ل "بوذا"، أي وجهاً متأثراً بالفن الهندي الصيني القديم. الأنف فيه ضخم، والفم كبير، وقد غطى الجسيم بقميص له رأس يغطي الرقبة ويصل إلى الحنك، وتجد القميص مفتوحاً تحت الخصر، وأما أعلى القميص فمغلق، وقد شد على الخصر "خنجر" مستقيم، على طريقة أهل اليمن في حمل الخناجر إلى هذا اليوم، وقد مدّت اليد اليمنى إلى أعلى، وظهرت أصابع الكف واضحة مفصلة. أما اليد البسرى، فقد مدت إلى أعلى قليلاً، وكفها مقبوض، مكوناً ثقباً، يظهر أنه صنع لوضع عصا في الثقب، أو شيئاً آخر يرمز إلى سيادة ومنزلة اجتماعية. ونجد الجسم لا يتناسب مع ضخامة الرأس والكتفين، فهو ضئيل ضعيف. وفي الأذن صغيرة بالنسبة إلى الرأس. وقد وضعت في مقدم الشعر. ونرى إن الوجه عليق، مما يدل على أن بعض الناس كانوا يحلقون شعر أوجههم في تلك الأيام. وأما الرقبة فغليظة. وهناك قطع أخرى هي عبارة عن تماثيل بشر أو حيوانات مثل حيات أو جمال أو خيل أو جرذان وأمثال ذلك، وقد صنعت من البرنز كذلك، بعضها في غاية الجودة والاتقان. ومن بين هذه القطع المتقنة عصا انتهى طرف منها على هيأة أفعى، نرى فيها الأناقة والرشاقة، وعصا أخرى رأسها على هيئة حيّة وقد تدلى إلى أسفل. والقطعتان من الصناعات المتأخرة ومن أواخر أيام دولة حمير.

وبين القطع القديمة المصنوعة من البرنز، تمثال رجل ماش يبلغ ارتفاعه "93" سنتمتراً، رجله اليسرى متقدمة على اليمنى، ويرى القسم الاعلى من الجسيم عارياً إلا من جلد أسد أو فهد لف على الظهر، ويتصل طرفاه بالصدر. أما الوركان فقد غطيا بمئزر شد على الجسم بحزام عريض. وقد جعل المثّال الرأس وكأنه قد غطي بخوذة مجعدة، كناية عن الشعر، وقد تدلى على الجبين. ووضع شيئاً أشبه بالريشة للمحافظة على الشعر، وجعل للرجل لحية عبر عن تجاعيد شعرها بعقد. وجعل العينين واسعتين، اما الأنف فكبير ملتحم، وأما الفم فصغير. وأما الجسم عموماً، فهو نحيف. وقد عثر على هذا التمثال في المدخل المؤدي إلى "حرم بلقيس". ويرى بعض الباحثين أنه يعود إلى القرن السابع أو السادس قبل الميلاد. وأن صاحبه كان من كبار الموظفين في أيامه، وربما كان بدرجة حامل أختام الملك أو كاتم أسراره، وقد قدم التمثال تقربة ونذراً إلى الإلهه "المقه". ووجد اسم صاحبه مدوّناً على الكتف الأيسر منه، وهو "معدكرب" "معديكرب".

وبين التماثيل المصنوعة من البرنز تمثال امرأة وهي ترقص، وقد لبست فستاناً طويلاً يمتد على سروال، وكأنه يمثل الزي الفارسي القديم، المعروف في العراق، وقد أبدع صانع التمثال في عمله فجعله حياً ينبض بالحياة، وقد ضيق خصر المرأة، وجعل الساقين بعضها فوق بعض، ليأخذ جسمها وضع راقصة وهي في حالة رقص، كما ترى في هذا التمثال.

ونجد في مصنوعات المعادن مصنوعات تتحدث عن وجود اثر عراقي عليها، ومصنوعات أخرى تثير إلى وجود أثر مصري أو يوناني أو هندي عليها، وقد نسب بعض الباحثين وجود هذا الأثر إلى الصلات التجارية التي كانت تربط بين الأرضين المذكورة و بين العربية الجنوبية، كما نسبوه إلى اثر الرقيق المشترى من تلك البلاد والمستورد إلى العربية الجنوبية، حيث كلف بأداء الحرف اليدوية. وحيث أن هذا الرقيق كان من بلاد مختلفة، لهذا ظهر التنوع في هذه الصناعات.

ومن المصنوعات البرنزية التي يظهر عليها اثر الفن اليوناني مجموعة التماثيل التي عثر عليها في بيت "يفش" في خرائب "تمنع"، وتماثيل أخرى حفظت في متحف "صنعاء". وتمثالين لزنجيين عثر عليهما في موضع "نخلة الحمرا" "نخلة الحمراء" على مسافة خمسين كيلومتراً جنوب شرقي "صنعاء". وتماثيل أخرى لبعض الحيوانات، مثل تمثال حصان وتمثال آخر لأسد.

والتماثيل البرونزية التي عثر عليها في بيت "يفش" بمدينة "تمنع"، هي من الآثار المهمة التي عثر عليها في أرض قتبان. ونظراً للأثر "الهليني" البارز على جسم الأسد وعلى وجه راكبه المحافظ على الملامح اليونانية يرى الباحثون انها من القطع الفنية التي ربما يعود عهدها إلى القرن الأول للميلاد، حيث كان اليونان اذ ذاك يمخرون عباب البحار، وكان تجارهم ينقلون المصنوعات اليونانية إلى مختلف الأنحاء من العالم، لبيعها ولشراء ما يحتاجون إليه من النفائس التي لا توجد في بلاد اليونان وما وراءها. والظاهر إن الفنانين العرب، وقفوا على قطع فنية يونانية، فقلدوها وعملوا على صنع مثلها،وقد ضربوا على القاعدة الحروف المسند، الدالة على صاحب البيت. ومن هذه التماثيل تمثال أسد، امتطى على ظهره ولد بيده اليمنى لجام، وبيده اليسرى شيء يشبه القفل، وقد صنع الأسد وكأنه يريد الوثوب، وذلك كما تراه في الصورة. وقد قدّر تأريخ صنعه فيما بين السنة 75 و55 قبل الميلاد. ومنهم من يجعله بعد ذلك، أي في القرن الأول للميلاد.

وقد تبين من هذه التماثيل أن العرب الجنوبيين، كانوا ينتعلون نعالاً على نحو أنعلة هذا اليوم، وهي سميكة لتقاوم الأرض فلا تأكلها عند المشي، كما تبين لنا من دراسة هذه التماثيل أن بين ملابس العربية القديمة قبل الإسلام وبين ملابس العرب في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية في الوقت الحاضر تشابه كبير. ومن الممكن في هذا اليوم عمل دراسة عن ملابس العرب الجنوبيين بالاستعانة بهذه التماثيل وبالصور المحفورة على الأحجار، التي تمثل مختلف طبقات المجتمع في ذلك العهد.

تمثالان صنعا من البرز، ويرى على التمثال أثر الفن "الهيليني" واضحا بارا.

من كتاب Qataban and Sheba )ص 189( أما الخشب المزخرف، فهو وجه آخر من أوجه الفن وأضرابه، وقد استعمل في البناء وفي أثاث البيت وفي صنع التماثيل والألواح المكتوبة وفي أغراض أخرى. وقد عثر المنقبون على نماذج منه. ولما كان الخشب معرضاً للتلف والهلاك أكثر من المعدن والحجر، لذلك فإن يد الطبيعة قد لعبت بالكثير منه، كما استعملته يد الإنسان قبل الإسلام وبعده في أمور أخرى غير الأمور التي خصصها أصحاب تلك الأخشاب لها، لذلك زالت معالم الكثير منها، واستعمل بعض منه في الوقود وفي اعمال البناء. ولا زلنا لا نملك نماذج من الأثاث المعمول من الخشب، مثل صناديق لحفظ الألبسة والأشياء الأخرى التي تحتاج إلى حفظ، وسرر منامة وكراسي وغير ذلك مما يستعمله الإنسان في حياته من مصنوعات الخشب.

إن الفنان العربي الجنوبي حاول جهد طاقته إظهار شخصيته في أعماله الفنية، وهو وإن كان قد حاكى غيره وقلده في بعض الأمور، غير أنه نجح في اعطاء فنه صورة المحيط الذي عاش فيه. فنرى السحنة اليمانية على وجوه بعض التماثيل، ولا سيما في أوجه الرجال. ونجد الطابع العربي الجنوبي يبرز على بعض المصنوعات. وسوف يزداد علمنا ولا شك في المستقبل بالفن العربي الجاهلي في المستقبل حين تهدأ الأحوال وتقوم البعثات العلمية بالحفر العلمي المنظم في جزيرة العرب، فربما يعثر على أعمال فنية تغير وجهة نظر العلماء المكتوبة عنه في هذا اليوم.

وأما الحديث عن الفن في الحجاز قبل الإسلام، فحديث مقتضب مختصر، لأن البحث العلمي لم يبدأ هناك حتى الان. فاقتصر علمنا عنه على ما ورد في الموارد الاسلامية وحدها. وما ورد في هذه الموارد هو اشارات عارضة ذكرت عرضاً في أحوال لا علاقة لها بالفن بل في البحث عن أمور أخرى، مثل: فتح مكة، حيث أشير إلى وجود تصاوير وأصنام في الكعبة، أمر الرسول بطمسها وازالة معالمها وبكسر كل ما كان هناك من أصنام، ومثل ما جاء في كتب الحديث والفقه عن "الصور والتماثيل" في باب النهي عنهما في الإسلام. وذلك يدل على إن بعض أهل مكة وسائر مواضع الحجاز الأخرى، كانوا يضعون الصور والتماثيل في بيوتهم، وان طائفة من الناس كانت تصوّر وتتعيش من بيع الصور، وأن طائفة أخرى كانت تنحت وتعمل التماثيل، وأن طائفة من النساجين والخياطين كانوا يجعلون صور انسان أو حيوان على الستائر أو الملابس لتزويقها، فنهى عن ذلك الإسلام.

ونحن لو أخذنا بروايات أهل مكة عن بناء الكعبة، خرجنا منها على أن الكعبة لم تكن عند ظهور الإسلام وبعد تعميرها الأخير قبل البعثة، شيئاً يذكر من ناحية الفن والهندسة المعمارية، فهي لم تكن سوى بيت مكعب، تحيط بحرمه البيوت، ولم يكن الحرم واسعاً وله سور، وانما كان ساحة مفتوحة تجاوز عليها أهل مكة، فأدخلوا جزءاً منها في بيوتهم، ولذلك اضطر الخلفاء إلى توسيعها، بشراء البيوت المجاورة وهدمها لاعادة ادخالها في الحرم. ونحن لا نجد اليوم أثراً باقياً على وضعه وحاله من آثار الجاهلية سوى "الحجر الأسود"، وبئر زمزم، أما الأشياء الأخرى مثل الكعبة، فإنها من بناء الإسلام.

أما بيوتها، فلا علم واضح لنا عنها، لأن أهل الأخبار لم يتحدثوا عنها حديثاً فيه إفاضة، وقد ورد في خبر إساءة الجوار لرسول الله، أن رسول الله كان يجلس تحت ظلة أمام باب داره، فكان جيرانه يرمونه بالحجارة، مما يدل على أنهم كانوا يبنون ظللاً على أبواب بيوتهم يجلسون تحتها على "دكة" ويستظلون بها من حرارة الشمس حين وقوفهم أمام الباب. ولا بد وأن تكون بيوت تجار مكة، من حجارة وكلس، وقد تكون من طابقين أو أكثر، ولكن الأخبار لا تتحدث بحديث مفصل عنها.

وفي أعالي الحجاز، آثار من بقايا أبنية ومن تماثيل وكتابات مكتوبة ومن تصاوير نقشت على الصخور، تعبر عن حالة النقّاش الذي نقشها، وهو من الأعراب. وفي جملة الصور مناظر إنسان يصيد غزالاً، أو يجاهد في قتل أسد أو حيوان مفترس، أو فارساً قد امتطى ظهر فرسه، أو مناظر قطعان حيوانات وحشية أو أليفة، وما شاكل ذلك من مناظر تمر على عيون الرعاة. وبعض هذه الصور مما يعود عهده إلى ما قبل الميلاد. وهي تستحق الدرس وتوجب على عشاق الفن دراسة النواحي الفنية والتعبيرية في هذه الصور المرسومة على الأحجار والصخور.

وفي المتحف البريطاني حجر، رمز إليه ب B.M.120928 كتب عليه بالحروف الصفوية "هف زبن بن أحرب" أي "هذا لزبان بن أحرب". وقد حفر صورة جمل تحت الكتابة، جعله لاعباً بذنبه، وله سنام ضخم لا يتناسب حجمه مع جسم الجمل، وله رقبة ورأس، أقرب إلى رقبة الزرافة ورأسها من رأس و رقبة الجمل. ولكن الرسم لا بأس به بصورة عامة، إذا أدركنا أن راسه من الأعراب الذين عاشوا قبل الإسلام.

ونجد في الأحجار الصفوية الأخرى، صور فرسان، وهم يتحاربون، أو يتسابقون، وصور خيل وحيوانات أخرى. وبعض هذه الصور في غاية من الاتقان والإبداع، وبعضها تمثل فناً بدائياً، لكنه يعبر عن وجود قابلية لدى راسمي هذه الصور الذين كانوا أعراباً يتنقلون في البوادي، وهم مع ذلك كتبة، لأننا نجد أسماء من رسم هذه الصور مكتوبة تحتها أو حولها لتدل عليهم.

واما العربية الشرقية، فقد عثرت البعثات التي نقبت بها على أعمال فنية عديدة، وقد عثر في "أبو ظبي" وفي أماكن أخرى من الخليج على آثار لم تكن معروفة من قبل. وقد أشرت في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب إلى عثور المنقبين عن الآثار على آثار مهمة في البحرين وفي جزيرة "فيلكا" من جزر الكويت، وهي تشير إلى اثر الاختلاط الذي كان بين الهند، وفارس والروم والعراق وبين سكان الخليج، قبل الميلاد بعهود طويلة. ولا بد وأن تنبت في هذه الأرضين حضارة مختلطة، لأنها على ساحل البحر، وعلى طريق يعتبر من أهم طرق العالم في التجارة وفي المواصلات الدولية في القديم وفي الحديث.

وفي جملة ما عثر عليه في جزيرة "فيلكا" بقايا معبد يوناني، بناه جنود الاسكندر حين أقاموا واستقروا بها، وقد تمكنت البعثة "الدانماركية" التي نقبت في هذه الجزيرة من العثور عليه، ونظفت ساحته حتى ظهر على هذه الصورة التي تراها في الصفحة السابقة.

وفي جملة ما عثر عليه في جزيرة "فيلكا" نقود تعود إلى أيام "السلوقيين" خلفاء الاسكندر، وآثار اليونانيين الذين أقاموا في هذه الجزيرة منذ جاء جيش الاسكندر لفتح الهند. فاستقر قسم منهم بها وأنشأ معبداً فيها، عثر في أنقاضه على بقايا أعمدة حجرية استخدمت لرفع سقفه، يظهر عليها الأثر الهليني بكل وضوح، وعلى أحجار منقورة مزخرفة وعلى كتابات. وقد استخدم الحجر في أعمال البناء، كما ترى ذلك في الصورة المأخوذة لموضعه، بعد تنظيفه وإعادة دائرة الآثار والمتاحف في الكويت للاحجار الى مواضعها. كما عثر في هذه الجزيرة على جرار كثيرة تعود إلى العهد البرونزي، تشبه الجرار الخزفية التي لا زال الناس يستعملونها في مواضع متعددة من جزيرة العرب.

ومن أبدع ما عثر عليه في هذه الجزيرة، تمثال صغير من الطين المحروق يمثل "أفروديت"، يعود عهده إلى حوالي السنة "350" قبل الميلاد، وهو تاريخ انشاء هذا المعبد، ومخربشة جميلة، تمثل شجرة، يظهر انها كانت قد وضعت في أعلى واجهة المعبد. وتمثال رأس الاسكندر، تحيط به الهالة، وتمثال آخر، صنع من الطين المحروق، وعدد كبير من الأختام، حفرت عليها مناظر مختلفة، فيها صور حيوانات، يعود عهدها إلى القرن الثالث قبل الميلاد.

أما علم الفن العربي في العراق، فنحن لا نستطيع أن نتكلم عنه إلا بإيجاز مخل، وسبب ذلك، أن الحيرة التي كانت عاصمة المناذرة، والتي كانت من أكبر المستوطنات العربية، هدمت في الفتح الإسلامي وما بعده لاستخدام طابوقها وأخشابها في بناء "الكوفة". فقد بني مسجد الكوفة بأنقاض قصور الحيرة، فزالت بذلك معالم تلك المدينة، ولم يبق منها أي شيء بتوالي الأيام.

ويظهر من الأخبار الواردة في كتب أهل الأخبار، أن اهل الحيرة كانوا يتخذون "إيواناً" في قصورهم. يجعلونه موضعاً يجلسون فيه. عرف بالإيوان الحيري. وقد كانوا يزخرفون الجدر باستعمال "الآجر" المزخرف. كما كانوا يطلون الجدر على الطريقة العراقية القديمة بطبقة من "الجص"، ليظهر أملس أبيض، وكانوا يطلون الجدر الخارجية للبيوت بهذه الطبقة، ومن هنا ?? بدت مدينتهم وكأنها مدينة بيضاء، فقيل لها الحيرة البيضاء.

???????? ????التصوير

وقد عثر المنقبون والباحثون عن الآثار القديمة على رسوم بشر وحيوان ونبات نقشها الجاهليون على الصخور والحجارة، يرمز بعض منها إلى أمور دينية وأساطير قديمة. ويعبر البعض الاخر عن مواهب فنية عند حافري هذه الصور، وعلى مقدرة تقدر في الرسم، وعلى وجود ميول فطرية عند أصحابها في الفن، وفي محاولة إبراز العواطف النفسية والتعابير بلغة فنية يفهمها كل إنسان، هي لغة الرسم والنقش.

وفي أخبار أهل الأخبار إن أهل الجاهلية كانوا يتقربون إلى الصور،كما كانوا يزينون بيوتهم بالصور وبالنسيج المصور، كما كانوا يستعملون ستائر ذات صور، ويلبسون ملابس ذات صور ورسوم. ولما فتح الرسول مكة، أمر بتحطيم ما كان بها من أصنام وأوثان. وقد ذكر أهل الأخبار، انه كانت في الكعبة حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وجد صور الملائكة وغيرهم، فرأى ابراهيم مصوراً في يده الأزلام يستقسم بها، وصورة عيسى بن مريم وأمه، وصورة الملائكة أجمعين. فأمر الرسول بطمس تلك الصور، فغسلت بالماء، ومسحت بثوب بلّ بالماء، فطمست، إلا صورة عيسى بن مريم وأمه، إذ أمر الرسول بابقائها كما تقول الروايات، فبقيت إلى ايام "عبد الله بن الزبير"، فلما تهدم البيت، تهدمت الصورة معه.

وفي شعر "امرى القيس" اشارة إلى التصوير. ففي البيت: بلى ربّ يومٍ قد لهوت وليلة  بآنسة كأنها خط تمـثـال

اشارة إلى التصوير. فالخط، الكتابة والرسم، والتمثال الصورة، والصنم، أي التمثال المجسد. والتماثيل الصور. وقد كانوا يصورون الصور ويرسمونها قبل الإسلام.

ولكننا لا نملك اليوم صوراً زيتية أو صوراً أخرى مرسومة بالألوان أو بالحبر أو الصبغ الأسود على أدم أو قراطيس، أو الواح، فإن مثل هذه الصور لا يمكن إن تعمر طويلاّ تحت الأتربة لذلك تبلى ولا استبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على مثل هذه الصور، لما ذكرته من وجود الصور والتصوير عند الجاهليين.

وقد كان الجاهليون يقتنون الصور يضعونها في بيوتهم للزينة، كما كان هناك مصورون يعيشون من بيع الصور التي يرسمونها، وصناع تماثيل، ينحتونها أو يعملونها بالقوالب بجعل عجين الجبس فيها، فإذا جفّ أخذ شكل التمثال، فيباع. وقد أشير إلى التصوير وصنع التماثيل في الحديث، بمناسبة ما ورد فيه من كره الإسلام للتصوير، أو تحريمه كما ذهب إليه البعض، فقد كره في الإسلام تصوير كل ذي روح، مثل تصوير إنسان أو حيوان، وكره بيع المصورات، واتخاذ التصوير حرفة يتعيش منها. وقد سأل بعض المصورين "ابن عباس" رأيه في التصوير، وهي حرفته التي كان يتعيش منها، فنهاه عنها، إلا إذا صور شجراً أو شيئاً لا روح فيه. وكانت معيشة هذا المصور من صنعة يده، يصنع التصاوير ويبيعها للناس.

وقد كانت الوثنية لا تتعارض مع التصوير، بل كانت تشجعه وتشجع الفنون الجميلة. فقد كانت الأصنام عماد سنتهم، واليها كانوا يتقربون، وكانوا يضعونها في بيوتهم للتقرب إليها والتبرك بها، كما أنهم لم يكرهوا الغناء ولا الموسيقى، لما لهما من صلة بأعيادهما وبالطقوس الدينية.

وقد منع من بيع الأصنام، أي التماثيل في الإسلام، كما حرم بيع الصور المتخذة من جوهر نفيس، وكان بين أهل مكة وغيرها من القرى أناس يتعيشون من بيعها، ويتفننون في صنعها، فماتت بذلك هذه الحرفة التي هي من الفنون الجميلة، مثل التصوير.

الفصل العشرون بعد المئة
أمية الجاهليين

الشائع بين كثير من الناس إن العرب قبل الإسلام كانوا في جهالة عمياء وضلالة، لا يقرأون، ولا يكتبون، وان الكتابة كانت قليلة بينهم، واستدلوا على رأيهم هذا باطلاقهم لفظة "الجاهلية" على ايامهم، وبما جاء من انهم كانوا قوماً "أميين لا يكتبون". واستدلوا على ذلك بحديث ذكر إن الرسول قاله، هو "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب".

وقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن معنى "الجاهلية"، وعن الآراء التي قيلت فيها، حديثاً فيه إفاضة وإحاطة، وقد قلت فيما قلته إن تفسير الجاهلية بالجهل، الذي هو ضد العلم، تفسير مغلوط، وان المراد من الجاهلية السفه والحمق والغلظة والغرور، وقد كانت تلك أبرز صفات المجتمع الجاهلي آنئذ، وتحدثت في كتابي: "تأريخ العرب قبل الإسلام" عن معنى الأمية وذلك في اثناء كلامي على أمية الرسول وآراء العلماء فيها من مسلمين ومستشرقين، وقلت إن للأمية معنى آخر غير المعنى المتداول المعروف، وهو الجهل بالكتابة والقراءة. فقد ذكر "الفرّاء" وهو من علماء العربية المعروفين، إن الأميين هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب. ويراد بالكتاب، التوراة والانجيل. ولذلك نعت اليهود والنصارى في القرآن ب "اهل الكتاب"، وهذا المعنى يناسب كل المناسبة لفظة "الأميين" الواردة في القرآن الكريم، وتعني الوثنيين اي جماع قريش وبقية العرب، ممن لم يكن من يهود وليس له كتاب.

وللعلماء آراء في الأمية، وذلك لما لها من صلة بالرسول، ولما كان القرآن قد نعت قوم الرسول بالأميين، وجعل الرسول أمياً مثلهم، فقد ذهبوا إلى إن العرب كانوا قبل الإسلام أميين بمعنى انهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون إلا من شذّ منهم وندر، وإلا أفراداً من أهل مكة، زعموا انهم تعلموا الكتابة من عهد غير بعيد عن الإسلام، ولو أخذنا أقوالهم مأخذ الجد، وجب علينا القول بأنهم انما تعلموها في حياة الرسول أي قبل الوحي بسنين ليست بكثرة، وان مكة كانت المدينة الوحيدة التي عرفت الكتابة في جزيرة العرب، وهو كلام لا يقوم على علم. فقد كان بيثرب كتاّب يكتبون بكتاب مكة، وكان في أماكن أخرى كتّاب يكتبون بكتابهم أيضاً، فضلاً عن انتشار الكتابة بالمسند في العربية الجنوبية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب.

والرسول أمي، لم يقرأ ولم يكتب، فإذا أراد كتابة رسالة أو عهد أو تدوين للوحي، أمر كتابه بالتدوين. على ذلك أجمع المسلمون. وقد وردت في القرآن آيات مثل: )اقرأ باسم ربك(، وآية )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون(. اخذها البعض على إن فيها دلالة على إن النبي كان يقرأ ويكتب، واستدل أيضاً ببعض ما ورد في كتب الحديث والسير، وفيه ما يفيد انه كان ملماً بالقراءة والكتابة، كالذي ورد في صلح "الحديبية" انه "هو الذي كتب الكتاب بيده الشريفة. وهو ما وقع في البخارى".

وما جاء في السيرة لابن هشام: "فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكتب الكتاب هو وسهيل". وما جاء في البخارى: "وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الكتاب ليكتب، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد". وقالوا إن في هذا المذكور وفي غيره من مثل ما ورد من إن الرسول "لما اشتد وجعه، قال: ائتوني بالدواة والكتب اكتب لكم كتاباً لا تضلون معه بعدي أبداً"، ومثل ما ورد "في حديث أبي بكر رضي الله عنه، انه دعا في مرضه بسواة ومزبر فكتب اسم الخليفة بعده"، دلالة مريحة على قدرته على الكتابة والقراءة. وللعلماء كلام في الأدلة المذكورة، ولهم آراء في تفسير الآيات التي تعرضت لموضوع الأمية. والأمية في تفسير علماء اللغة من لا يكتب، أو العييّ الجلف الجافي القليل الكلام. قيل له أُمي لأنه على ما ولدته أمه عليه من قلة الكلام وعجمة اللسان، أو الجهل التام بالقراءة والكتابة. "لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب"، أو لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة، أو الأمي الذي على خلقه الأمة، لم يتعلم الكتاب، فهو على جبلته. وقد ورد في الحديث: "إنا أمة أمية لا نكتب"، أو "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، أو "بعثت إلى أمة أمية"، فذهبوا إلى إن العرب كانوا على أصل ولادة أمهم، لم يتعلموا الكتابة ولا الحساب، فهم على جبلتهم الأولى. "وكل شيء للعرب، فإنما هو بديهة وارتجال... ثم لا يقيده على نفسه ولا يدرسه احداً من ولده. وكانوا اميين لا يكتبون".

وقد وردت في القرآن الكريم لفظة "الأمي"، و "اميون"، و "اميين"، ونعت الرسول ب "النبي الأمي"،وردت في سور مكية وفي سور مدنية. وردت لفظة "الأمي" في سورة الأعراف، وهي من السور المكية، ووردت لفظة "أميون" و "الأميين" في سورة البقرة، وسورة آ ل عمران، وسورة الجمعة، وهي من السور المدنية. ويلاحظ إن الآيتين المكيتين، خاصتان بالرسول، فنعت فيهما ب "النبي الأمي"، اما الآيات المدنية، فقد قصد بها "الأميين"، الذين ليس لهم كتاب بمعنى المشركين.

وقد بحث "الراغب الاصبهاني" في معنى "الأمية" فقال: "والأمي: هو الذي لا يكتب ولا يقرأ من كتاب وعليه حمل: هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم. قال قطرب: الأمية: الغفلة والجهالة. فالأمي منه، وذلك هو قلة المعرفة. ومنه قوله تعالى: )ومنهم اميون لا يعلمون الكتاب إلا اماني(، اي إلا إن يتلى عليهم. قال الفراء: هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب. والنبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل، قيل منسوب إلى الأمة الذين لم يكتبوا لكونهم على عادتهم. كقولك عامي لكونه على عادة العامة. وقيل: سمي بذلك لأنه لم يكن يكتب ولا يقرأ من كتاب، وذلك فضيلة له لاستغنائه بحفظه واعتماده على ضمان الله منه بقوله: سنقرئك فلا تنسى. قيل سمي بذلك لنسبته إلى أم القرى".

وقد ذهب بعض العلماء إلى إن الأميين من لا كتاب لهم من الناس، مثل الوثنيين والمجوس، قال الطبري في تفسير الآية: )وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم ? فإن اسلموا فقد اهتدوا(: "يعني بذلك جل ثناؤه، وقل يا محمد للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى والأميين، الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب أ أسلمتم..". وذهب كثير من المفسرين إلى إن الأميين الذين لا كتاب لهم، اي الذين ليسوا يهوداً ولا نصارى. وورد: "إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يكره إن يظهر الأميون من المجوس على اهل الكتاب من الروم"، قال الطبري: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يكره إن يظهر الأميون من المجوس على اهل الكتاب من الروم، ففرح الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: انكم اهل كتاب والنصارى اكل كتاب، ونحن اميون، وقد ظهر اخواننا من اهل فارس على اخوانكم من اهل الكتاب". فالمسلمون اهل كتاب، والمجوس اميون كمشركي مكة وبقية العرب المشركين، لا لكونهم، لا يقرأون ولا يكتبون، بل لأنهم لم يؤمنوا بالتوراة والانجيل.

ويلاحظ إن الآية: )وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين (، والآية: )ومن اهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده اليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده اليك إلا ما دمت عليه قائماً، ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل( ؛ والآية: )ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا اماني (، وكذلك: )هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم (، لا تؤدي معنى الأمية، بمعنى الأمة الجاهلة بالقراءة والكتابة، لعدم انسجام التفسير مع المعنى،وانما تؤدي معنى وثنية، أي امة لم تؤمن بكتاب من الكتب السماوية، أي في المعنى المتقدم.

"والأمي والأمان -بضمهما - من لا يكتب أو من هو على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب، وهو باق على جبلته. وفي الحديث: إنا أمة امية، لا نكتب ولا نحسب. اراد انه على اصل ولادة امهم، لم يتعلموا الكتابة والحساب، فهم على جبلتهم الأولى.

وقيل لسيدنا محمد، صلى اللَه عليه وسلم، الأمي لأن امة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب، وبعثه الله رسولا، وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه الخلة احدى آياته المعجزة، لأنه صلى الله عليه وسلم، تلا عليهم كتاب الله منظوماً تارة بعد اخرى، بالنظم الذي انزل عليه، فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه، ففي ذلك انزل الله تعالى: )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولاتخطه بيمينك، إذا لارتاب المبطلون(. وقال الحافظ ابن حجر في تخريج احاديث الرافعي إن مما حرم عليه صلى الله عليه وسلم: الخط والشعر، وانما يتجه التحريم إن قلنا انه كان يحسنهما، والأصح انه كان لا يحسنهما، ولكن يميز بين جيد الشعر ورديئه. وادعى بعضهم انه صار يعلم الكتابة بعد ان كان لاّ يعلمها لقوله تعالى من قبله في الآية. فإن عدم معرفته بسبب الاعجاز. فلما اشتهر الإسلام وأمن الارتياب عرف حينئذ الكتابة. وقد روي عن ابن ابي شيبة وغيره: ما مات رسول الله صلى الله طيه وسلم، حتى كتب وقرأ، وذكره مجالد للشعبيّ. فقال ليس في الآية ما ينافيه. قال ابن دحية: واليه ذهب ابو ذر الفتح النيسابوري والباجي وصنف فيه كتاباً، ووافقه عليه بعض علماء افريقية وصقلية. وقالوا: إن معرفة الكتابة بعد اميته لا تنافي المعجزة، يل هي معجزة اخرى بعد معرفة اميته وتحقق معجزته، وعليه تتنزل الآية السابقة والحديث فان معرفته من غير تقدم تعليم معجزة. وصنف ابو محمد بن مفوز كتاباً رد فيه على الباجى وبيّن فيه خطأه، وقال بعضهم يحتمل إن يراد انه كتب مع عدم علمه بالكتابة وتمييز الحروف، كما يكتب بعض الملوك علامتهم وهم اميون، والى هذا ذهب القّاضي ابو جعفر السمناني".

وقد تعرض "الألوسي" لهذا الموضوع في تفسيره الآية: )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذاً لارتاب المبطلون. بل هو آيات بينات في صدور الذين اوتوا العلم، وما يجحد آياتنا إلا الظالمون(. فقال: "واختلف في انه صلى الله عليه وسلم، أكان بعد النبوة يقرأ ويكتب ام لا? فقيل انه عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن الكتابة، واختاره البغوي في التهذيب، وقال: انه الأصح. وادعى بعضهم انه صلى الله عليه وسلم، صار يعلم الكتابة بعد إن كان لا يعلمها، وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية، فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر امر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ. وروى ابن ابي شيبة وغيره: ما مات صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ. ونقل هذا للشعبي فصدقه، وقال: سمعت أقواماً يقولونه وليس في الآية ما ينافيه. وروى ابن ماجه عن أنس قال: قال صل الله عليه وسلم: رأيت ليلهَ أُسري بي مكتوباً على الجنة: الصدقة بعشر امثالها، والقرض بثمانية عشر.

ثم قال: ويشهد للكتابة احاديث في صحيح البخاري وغيره، كما ورد في صلح الحديبية: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله، الحديث.

وممن ذهب إلى ذلك ابو ذر عبد بن احمد الهروي، وابو الفتح النيسابوري، وابو الوليد الباجي من المغاربة، وحكاه عن السمناني. وصنف فيه كتاباً، وسبقه إليه ابن منية. ولما قال ابو الوليد ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة وسبّ على المنابر، ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدّعاه، وكتب به الى علماء الأطراف، فأجابوا بما يوافقه، ومعرفة الكتابة بعد اميته صلى الله عليه وسلم، لا تنافي المعجزة، بل هي معجزة اخرى لكونها من غير تعليم.

وقد رد بعض الأجلة كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح إنا أمة أمية نكتب ولا نحسب. وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله: كتب، فمعناه امر بالكتابة، كما يقال: كتب السلطان بكذا لفلان. وتقديم قوله تعالى: من قبله على قوله سبحانه: ولا تخطه كالصريح في انه عليه الصلاة والسلام لم يكتب مطلقاً. وكون القيد المتوسط راجعاً لما بعده غير مطرّد. وظن بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده، فقال: يفهم من ذلك انه عليه الصلاة والسلام كان قادراً على التلاوة والخط بعد انزال الكتاب، ولولا هذا الاعتبار، لكان الكلام خلواً من الفائدة. وأنت تعلم انه لو سُلّم ما ذكره من الرجوع، لا يتم امر الإفادة إلا إذا قيل بحجية المفهوم، والظانّ ممن لا يقول بحجيته.

ثم قال الألوسي في تفنيد هذه الردود ما نصه:   

ولا يخفى إن قوله عليه الصلاة والسلام: إنا امة امية لا نكتب ولا نحسب، ليس نصاً في استمرار نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام. ولعل ذلك باعتبار انه بعث عليه الصلاة والسلام، وهو واكثر من بعث اليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب اميون، لا يكتبون ولا يحسبون، فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الاكثر بعد. واما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالمكاتية، فخلاف الظاهر. وفي شرح صحيح مسلم للنووي عليه الرحمة نقلاً عن القاضي عياض: إن قوله في الرواية التي ذكرناها: ولا يحسن يكتب فكتب، كالنص في انه صلى الله عليه وسلم كتب بنفسه، فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه. ثم قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا".

وبحث "القرطبي" في هذا الموضوع أيضاً، فقال: " وما كنت تتلو من قبله من كتاب، الضمير في قبله عائد إلى الكتاب، وهو القرآن المُنزل على محمد، صلى الله عليه وسلم، أي وما كنت يا محمد تقرأ قبله، ولا تختلف إلى اهل الكتاب، بل أنزلناه اليك في غاية الإعجاز والتضمين للغيوب وغير ذلك، فلو كنت ممن يقرأ كتاباً، ويخط حروفاً لارتاب المبطلون أي من اهل الكتاب، وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وقالوا الذي نجده في كتبنا انه امي لا يكتب ولا يقرأ وليس به. قال مجاهد: كان اهل الكتاب يجدون في كتبهم إن محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يخط ولا يقرأ، فنزلت هذه الآية؛ قال النحاس: دليلاً على نبوته لقريش، لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يخالط اهل الكتاب ولم يكن بمكة اهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم، وزالت الريبة والشك.

الثانية: ذكر النقاش في تفسير الآية عن الشعبي انه قال: ما مات النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كتب. واسند أيضاً حديث ابي كبشة السلولي ؛ مضمنه: انه صل الله عليه وسلم، قرأ صحيفة لعيينة بن حصن، وأخبر بمعناها. قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف، وفول الباجي رحمه الله منه.

قلت: وقع في صحيح مسلم من حديث البراء في صلح الحديبية إن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لعليّ: اكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال له المشركون: لو نعلم انك رسول الله تابعناك - وفي رواية بايعناك - ولكن اكتب محمد بن عبدالله، فأمر علياً إن يمحوها، فقال علي: والله لا أمحاه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها، فأراه فمحاها وكتب ابن عبدالله. قال علماؤنا رضي الله عنهم: وظاهر هذا انه عليه السلام محا تلك الكلمة التي هي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيده، وكتب مكانها ابن عبدالله. وقد رواه البخاري بأظهر من هذا. فقال: فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الكتاب فكتب. وزاد في طريق أخرى: ولا يحسن إن يكتب. فقال جماعة، بجواز هذا الظاهر عليه وانه كتب بيده، منهم السمناني وأبو ذر والباجي، ورأوا إن ذلك غير قادح في كونه أمياً، ولا معارض بقوله: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، ولا بقوله: إن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، بل رأوه زيادة في معجزاته، واستظهاراً على صدقه وصحة رسالته، وذلك انه كتب عن غير تعلم لكتابة، ولا تعاطٍ لأسبابها، وانما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها ابن عبدالله لمن قرأها، فكان ذلك خارقاً للعادة، كما انه عليه السلام عِلم علم الأولين والآخرين من غير تعلم ولا اكتساب، فكان ذلك أبلغ معجزاته، وأعظم فضائله. ولا يزول عنه اسم الأمي بذلك، ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة: ولا يحسن ان يكتب. فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال: كتب. قال شيخنا أبو العباس احمد بن عمر: وقد أنكر هذا كثير من متفقهة الأندلس وغيرهم، وشددوا النكير فيه، ونسبوا قائله إلى الكفر، وذلك دليل على عدم العلوم النظرية، وعدم التوقف في تكفير المسلمين، ولم يتفطنوا، لأن تكفير المسلم كقتله على ما جاء عنه عليه السلام في الصحيح، لا سيما رميُ من شهد له أهل العصر بالعلم والفضل والإمامة، على إن المسألة ليست قطعية، بل مستندها ظواهر أخبار آحاد صحيحة،غير ان العقل لايحيلها، وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها.

قلت: وقال بعض المتأخرين من قال هي آية خارقة، فيقال له: كانت تكون آية لا تنكر لولا انها مناقضة لآية أخرى وهي كونه أمياً لا يكتب، وبكونه أمياً في أمة أمية قامت الحجة، وأفحم الجاحدون، وانحسمت الشبهة، فكيف يطلق الله تعالى يده فيكتب وتكون آية. وانما الآية الا يكتب،والمعجزات يستحيل ان يدفع بعضها بعضاً. وانما معنى كتب وأخذ القلم، أي أمر من يكتب به من كتاّبه، وكان من كتبة الوحي بين يديه صلى الله عليه وسلم، ستة وعشرون كاتباً.

الثالثة - ذكر القاضي عياض عن معاوية انه كان يكتب بين يدي النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال له: ألقِ الدواة وحرّف القلم وأقم الباء وفرّق السين، ولا تعوّر الميم، وحسن الله، ومدّ الرحمن، وجوّد الرحيم. قال القاضي: وهذا وان لم تصح الرواية انه صلى الله عليه وسلم، كتب، فلا يبعد ان يُرزق علم هذا، وُيمنع القراءة والكتابة.

قلت: هذا هو الصحيح في الباب انه ما كتب ولا حرفاً واحداً، وانما امر من يكتب وكذلك ما قرأ ولا تهجى. فإن قيل: فقد تهجى النبي، صلى الله عليه وسلم، حين ذكر الدجّال،.فقال: مكتوب بين عينيه ك ا ف ر، وقلتم إن المعجزة قائمة في كونه أمياً، قال الله تعالى: وما كنت تتلو من قبله من كتاب، الآية. وقال: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. فكيف هذا ? فالجواب ما نص صلى الله عليه وسلم، في حديث حذيفة، والحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضاً. ففي حديث حذيفة: يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، فقد نص في ذلك على غير الكتاب ممن يكون أمياً. وهذا من أوضح ما يكون جلياً".

وقد ذهب "الطبرسي" في تفسيره للآية المذكورة إلى إن الرسول ساوى قومه في المولد والمنشأ، لكنه جاء بما عجز عنه الآخرون من كلام الله والنبوة، فهو أمي مثلهم. ثم عرض رأي "الشريف المرتضى"، القائل: "هذه الآية تدل على ان النبي، صلى الله عليه وسلم، ما كان يحسن الكتابة قبل النبوة، فأما بعد النبوة فالذي نعتقده في ذلك التجويز، لكونه عالماً بالكتابة والقراءة والتجويز لكونه غير عالم بهما من يخر قطع على أحد الأمرين. وظاهر الآية يقتضي إن النفي قد تعلق بما قبل النبوة دون ما بعدها، ولأن التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوة، لأن المبطلين انما يرتابون في نبوته صلى الله عليه وسلم، لو كان يحسن الكتابة قبل النبوة. فأما بعد النبوة، فلا تعلق له بالريبة والتهمة فيجوز ان يكون قد تعلمها من جبرائيل عليه السلام، بعد النبوة".

وتعرض "الجاحظ" لهذا الموضوع أيضاً، فقال نقلاً عن كلام شيخ من البصريين، "إن الله انما جعل نبيه أمياً لا يكتب ولا يحسب ولا ينسب، ولا يقرض الشعر، ولا يتكلف الخطابة، ولا يتعمد البلاغة، لينفرد الله بتعليمه الفقه واحكام الشريعة، ويقصره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب، من قيافة الأثر والبشر، ومن العلم بالأنواء وبالخيل، وبالأنساب وبالأخبار، وتكلف قول الأشعار، ليكون إذا جاء بالقرآن الحكيم، وتكلم بالكلام العجيب، كان ذلك أدل على انه من الله.

وزعم إن الله تعالى لم يمنعه معرفة آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقص حظاً من الحاسب الكاتب، ومن الخطيب الناسب، ولكن ليجعله نبياً، وليتولى من تعليمه ما هو أزكى وأنمى. فإنما نقصه ليزيده، ومنعه ليعطيه، وحجبه عن القبائل ليجلي له الكثير".

وقد رد "الجاحظ" على كلامه هذا، بقوله: "وقد أخطأ هذا الشيخ ولم ُيرد إلا الخير. وقال بمبلغ علمه ومنتهى رأيه. ولو زعم إن أداة الحساب والكَتابة، وأداة قرض الشعر ورواية جميع النسب، قد كانت فيه تامة وافرة، ومجتمعة كاملة، ولكنه صلى الله عليه وسلم صرف تلك القوى وتلك الاستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوة، وأشبه بمرتبة الرسالة، وكان إذا احتاج إلى البلاغة كان أبلغ البلغاء، واذا احتاج إلى الخطابة كان أخطب الخطباء، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، ولو كان في ظاهره، والمعروف من شأنه انه كاتب حاسب، وشاعر ناسب، ومتفرس قائف، ثم أعطاه الله برهانات الرسالة وعلامات النبوة، ما كان ذلك بمانعٍ من وجوب تصديقه، ولزوم طاعته، والانقياد لأمره على سخطهم ورضاهم، ومكروههم ومحبوبهم. ولكنه اراد ألا يكون للشاغب متعلق عما دعا إليه حتى لا يكون دون المعرفة بحقه حجاب وان رق، وليكون ذلك أخف في المؤونة، واسهل في المحنة. فلذلك صرف نفسه عن الأمور التي كانوا يتكلفونها ويتنافسون فيها، فلما طال هجرانه لقرض الشعر وروايته، صار لسانه لا ينطلق به، والعادة توأم الطبيعة. فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطق من كل منطيق، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف. وكانت آلته أوفر وأداته أكمل، إلا انها كانت مصروفة إلى ما هو أردَ.

وبين ان نضيف إليه العجز، وبين ان نضيف إليه العادة الحسنة وامتناع الشيء عليه من طول الهجران له، فرقٌ.

ومن العجب إن صاحب هذه المقالة لم يره عليه السلام في حال معجزة قط، بل لم يره إلا وهو إن أطال الكلام قصر عنه كلُ مطيل، وان قصر القول اتى على غابة كل خطيب، وما عدم منه إلا الخط واقامة الشعر، فكيف ذهب ذلك المذهب، والظاهر من امره عليه السلام خلاف ما توهم!?".

فهذا هو رأي الجاحظ في امية الرسول.

واما حديث:. "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، فيعارضه حديث آخر ينسب إلى الرسول هو: "قريش اهل الله، وهم الكتبة الحسبة". "وبقال قريش اهل الله، لأنهم كتبة حسبة". والقرآن الكريم نفسه، يفند إن قريشاً لم يكونوا يحسنون الكتاب أو الحساب، لما فيه من آيات تناقض هذا الرأي. وفي الحديث، أحاديث كثيرة يجب عدم الأخذ بها، لأنها ضعيفة، ويشبه ان يكون الحديث المذكور واحد منها. ومن هذه الأحاديث الضعيفة، حديث: "حق الوالد على ولده ان يعلمه الكتابة والسباحة، والرماية، وان لا يرزقه إلا طيباً"، وحديث: " حق الوالد على ولده ان يحسّن اسمه، ويزوّجه إذا أدرك، ويعلمه الكتاب". والحديث المذكور من الأحاديث التي يرجع سندها إلى "ابي هريرة" وفي الأحاديث المنسوبة إليه احاديث كثيرة يجب عدم الأخذ بها.

ولو أخذنا بالحديث على علاته، وقبلناه دون نقد، كما يفعل كثير من الناس، وجب علينا الفول إن الرسول كان يقرأ ويكتب. ورد: "وذكر صاحبُ الشرعة أيضاً، انه صلى الله عليه وسلم، قال لمعاوية رضي الله عنه، وهو يكتب بين يديه: ألقِ الدواة، وحرّف القلم، وانصب الباء، وفرّق السين، ولا تعوّر الميم، وَحسّن الله، ومد الرحمن، وجوّد الرحيم"، وانه قال "لزيد بن ثابت" وهو احد كتّابه: "إذا كتبتَ بسم الله الرحمن الرحيم فبيّن السين فيه"، فهل يعقل صدور هذا الوصف، وهذه التسمية للحروف، وهذه المصطلحات من رجل أمي، لا يقرأ ولا يكتب. وقد روى الرواة هذين الحديثين مع تعارضهما لأقوال العلماء، ورووا أيضاً إن "ابا ذر" الغفاري سأل الرسول ": "يا رسول الله، كل نبي مرسل بمَ يرُسل ? قال: بكتاب منزّل. قلت: يا رسول الله، اي كتاب أنزل على آدم ? قال: ا ب ت ث ج إلى آخره. قلت: يا رسول الله، كم حرف ? قال: تسع وعشرون. قلت: يا رسول الله، عددت ثمانية وعشرين، فغضب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى احمرت عيناه، ثم قال: يا ابا ذر، والذي بعثني بالحق نبياً ! ما أنزل الله تعالى على آدم إلا تسعة وعشرين حرفاً. قلت: يا رسول الله، فيها ألف ولام. فقال عليه السلام: لام ألف حرف واحد، أنزله على آدم في صحيفة واحدة، ومعه سبعون ألف ملك. من خالف لام ألف، فقد كفر بما أنزل على آدم ! ومن لم يعدّ لام ألف فهو بريء مني وأنا بريء منه ! ومن لايؤمن بالحروف، وهي تسعة وعشرون حرفاً لا يخرج من النار ابداً". وبعد فهل نقبل بحديث من هذا النوع، وكل ما فيه يطعن في صحته !   

ويظهر صراحة من الآية: "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين"، إن مرادها من الأميين، ليس الجهل بالكتابة والقراءة، وانما العرب الذين لم يكن عندهم كتاب منزل من السماء. ودليل ذلك ما اورده "الطبري" في تفسيرها من اقوال وروايات. فقد قال: "والأميون هم العرب"، قال "قتادة": "هو الذي بعث في الأميين رسولاّ منهم. قال: كان هذا الحي من العرب امة أمية ليس فيها كتاب يقرأونه، فبعث الله نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، رحمة وهدى يهديهم به"، وقال: " كانت هذه الأمة أمية لا يقرأون كتاباً"، وقال: "انما سميت امة محمد صلى الله عليه وسلم الأميين لأنه لم ينزل عليهم كتاباً"، وقوله: " ويعلهم الكتاب. يقول ويعلمهم كتاب الله وما فيه من امر الله ونهيه وشرائع دينه،والحكمة يعني بالحكمة السنن".

وقال: "ويزكيهم ويعلمهم الكتاب أيضاً، كما علم هؤلاء. يزكيهم بالكتاب والأعمال الصالحة ويعلمهم الكتاب والحكمة كما صنع بالأولين"، وقال في تفسير " وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين. يقول تعالى ذكره، وقد كان هؤلاء الأميون من قبل ان يبعث الله فيهم رسولاً منهم في جور عن قصد السبيل وأخذ على غير هدى مبين، يقول يبين لمن تأمله انه ضلال وجور عن الحق وطريق الرشد". وقال "ابن كثير" في تفسيرها: " وذلك ان العرب كانوا قديماً متمسكين بدين ابراهيم الخليل عليه السلام فبدلوه وغيروه وقلبوه وخالفوه، واستبدلوا بالتوحيد شركَاً وباليقين شكاً... فبعث الله محمداً صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل لجميع الخلق، فيه هدايته والبيان لجميع ما يحتاجون إليه، من امر معاشهم ومعادهم". وقال "القرطبي": قال ابن عباس: الأميون العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب، لأنهما لم يكونوا اهل كتاب".

فالأميون اذن هم العرب، لأنهم كانوا اهل شرك، وليس لهم كتاب، وليس للفظة صلة بالأمية التي تعني الجهل بالقراءة والكتابة.

واما حديث: " إنا امة أمية لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا: مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين". وقد نسب سنده إلى "ابن عمر"، فحكمه حكم الحديث السابق، وقد فسر الحساب، بأنه حساب النجوم وتسييرها، لا الجهل بالحساب.

وقد ذهب "شبرنكر" الى ان الرسول كان يقرأ ويكتب، وانه قرأ "اساطير الأولين"، و "شبرنكر"من المستشرقين العاطفيين، الذين يأخذون بالخبر، مهما كان شأنه فيبني حكماً عليه.

وقد ذهب بعض المستشرقين إلى إن المقصود من الأميين هنا الوثنيون. وان الأمية هذه اخذت من اليهود الذين كانوا يطلقون لفظة "امت"و "اميم " على غيرهم، يريدون بها الوثنيين. كما في جملة: "امت ها عالولام " Ummot ha Olam وقد أطلق اليهود على الغرباء وعلى كل من هو غير يهودي، "كوي" Goy للواحد، و "كويم" Goyim للجمع. وتقابل هذه اللفظة لفظة Gentile في اللاتينية. ويقال للغريب عنهم "اخريم" Ahrim و Nochrim، كذلك، تمييزاً لهم عن العبرانيين الذين يذهبون إلى انهم أمة مقدسة مفضلة على العالمين.

وذهب بعض المستشرقين اليهود إلى ان لفظة "الأميين" معربة من اصل "كوى" و "كوييم" المذكور.

والذي أراه إن لفظة "أمي" و "أمية" لم تكن تعني عند الجاهليين معنى عدم القراءة والكتابة والجهل بهما، وانما كانت تعني عندهم: مشركين ووثنين، وهو المعنى الذي ورد في القرآن الكريم. والذي نعت الرسول فيه بالأمي، لأنه من العرب، ومن قوم ليس لهم كتاب، عرفوا بذلك من قبل اهل الكتاب اليهود. أما تفسيرها بالجهل بالكتابة والقراءة، فقد وقع في الإسلام، اخذوه من ظاهر معنى لفظة "الكتاب" الواردة في القرآن، فظنوا انها تعني "الكتابة " بينما المراد منها الكتاب المُنزل، لعدم انسجام تفسيرها بالكتابة مع معنى الآية، ودليل ذلك انهم لما فسروا "الأمية" بمعنى عدم القراءة والكتابة حاروا في ايجاد مخرج لهذا التفسير، فقالوا ما قالوه في تفسيرها من انها سميت بالأمية لأنها علي خلقة الأمة، أو لأنها على الجبلة والفطرة، وأصل ولادة الأمهات وما شاكل ذلك من تفاسير مضطربة باردة، تخبر إن علماء اللغة لم يجدوا لها أصلاً ووجوداً عند الجاهليين فلجأوا إلى هذه التعليلات. ولو كانت الأمية معروفة عند أهل الجاهلية بهذا المعنى لاستشهدوا عليها بشعر من أشعار الجاهليين أو المخضرمين، ولما لجأوا إلى هذه التفاسير المتكلفة، لأن من عادتهم الاستشهاد بالشعر في تفسير الألفاظ، ولا سيما الألفاظ الغريبة، فعدم استشهادهم بشاهد من شعر أو نثر في تفسير الأمية هو دليل على إن اللفظة بهذا التفسير من الألفاظ التي ولدت في الإسلام، وانها لم تكن عربية خالصة، وانما سمعوها من اهل الكتاب.

وعندي إن يهود يثرب هم الذين أطلقوا لفظة "الأميين" على العرب المشركين، على عادتهم حتى هذا اليوم في نعت الغرباء عنهم بألفاظ خاصة مثل "كوييم"، لتمييزهم عن أنفسهم، باعتبارهم "شعب الله المختار" المؤمن بإله اسرائيل.

ومما يؤيد هذا الرأي، اننا نطلق في عربيتنا لفظة "الأمي" على من لا يعرف القراءة والكتابة معاً، بينما نطلق على الشخص الذي يحسن القراءة ولا يحسن الكتابة قارىء، أو قارئة، وذلك لوجود جماعة كانوا يحسنون القراءة، ولكنهم لا يكتبون.

ونجد اليوم من النساء من يحسنَّ القراءة ولا يكتبن، ولما نزل الوحي على الرسول: باقرأ، قال الرسول: ما أنا بقارىء، أو لست بقارىء، ولم يقل: أنا أمي، مما يدل على ان الأمية انما صارت تعبر عن عدم القراءة والكتابة فيما بعد.

ثم اننا لا نجد في اللغات القديمة لفظة واحدة في معنى "الأمية" التي نستعملها في عربيتنا في الوقت الحاضر، اي في معنى الجهل بالقراءة والكتابة معاً، وانما يقال لا يقرأ أو لا يكتب، أو يجهل القراءة والكتابة، فلا يعقل خروج العربية على هذه القاعدة. واستعمالها الأمية قبل الإسلام مصطلحاً للتعبير عن الجهل بالكتابة والقراءة معاً. ولم أعثر في النصوص الجاهلية على هذه اللفظة أو على لفظة اخرى تؤدي هذا المعنى.

ولا يعقل ان يكون اليهود أو غيرهم قد أطلقوا الأمية على العرب، بسبب جهل العرب الكتابة والقراءة. فقد كان سواد يهود ونصارى جزيرة العرب أمياً أيضاً، لا يقرأ و لا يكتب، إلا ان القرآن الكريم أخرجهم من الأميين، واستثناهم، وأطلق عليهم "اهل الكتاب"، وذلك يدل دلالة واضحة على إن المراد من "الأميين" العرب الذين لهم كتاب، اي العرب الذين لم يكونوا يهوداً ولا نصارى لا من لا يحسن الكتابة والقراءة. والقرآن الكريم هو الذي هدانا إلى لفظة "الأميين " فلم ترد اللفظة في نص من نصوص الجاهلية، وبفضله ايضاً عرفنا مصطلح "أهل الكتاب" دلالة على اهل الديانتين.

وأنا لا أريد ان أثبت هنا إن العرب قاطبة كانت أمة قارئة كاتبة، جماعها يقرأ ويكتب، وانها كانت ذات مدارس منتشرة في كل مكان من جزيرتهم،   

تعلم الناس القراءة والكتابة والعلوم الشائعة في ذلك الزمن، فقول مثل هذا هو هراء، ما في ذلك شك، ولا يمكن أن يدعيه أحد ثم إن شيوع القراءة والكتابة بالمعنى المفهوم عندنا، لم يكن معروفاً حتى عند أرقى الشعوب إذ ذاك مثل اليونان والرومان والساسانيين في عالم ذلك العهد. فسواد كل الأمم كان جاهلاً لا يحسن قراءة ولا كتابة، وانما كانت القراءة والكتابة في الخاصة وفي أصحاب المواهب، والقابليات الذين تدفعهم مواهبهم ونفوسهم على التعلم والتثقف وتزعّم الحركة الفكرية بين أبناء جنسهم. ومن هنا كانت كل الأمم أمية من حيث الأكثرية و الغالبية، انما اختلفت في نسبة المتعلمين والمتخصصين والمجتهدين ودرجتهم فيها.

وفي هذا تتباين وتختلف أيضاً، فقد كان اليونان والرومان والعالم النصراني في الدرجة الأولى في العهد الذي قارب الإسلام، يليهم الفرس واليهود والهنود. أما العرب، فقد كانوا يتباينون في ذلك أيضاً تبايناً يختلف باختلاف أماكنهم كما سأبين ذلك.

فأهل البوادي، ولا سيما البوادي النائية عن الحواضر، هم أميون ما في ذلك من شك، لأن طبيعة البادية في ظروفها المعلومة لا تساعد على تعلم القراءة والكتابة، ولا على ظهور العلوم وتطويرها فيها، غير اننا لا تعني انهم كانوا جميعاً أميين، لا قارىء بينهم ولا كاتب. فقد كان بينهم من يقرأ ويكتب، بدليل هذه النصوص الجاهلية التي عثر عليها مبعثرة في مواضع متناثرة من البوادي، وفي أماكن نائية عن الحضارة. وهي كتابات أعراب ورعاة إبل وبقر وأغنام، دوّنوها تسجيلاً لخاطر، أو للذكرى، أو رسالة لمن قد يأتي بينهم، فيقف على أمرهم، ومن هنا نستطيع أن نقول إن أعراب الجاهلية، كانوا أحسن حالاً من أعراب هذا اليوم، فقد كان فيهم الكاتب القارىء، الذي يهتم بتسجيل خواطره، وباثبات وجوده بتدوينه هذه الكتابات، وأن الأمية المذكورة لم تكن أمية عامة جامعة، بل أمية نسبية، على نحو ما نشاهده اليوم في مجتمعاتنا من غلبة نسبة الأمية على نسبة المتعلمين.

وأما أهل الحواضر، فقد كان بينهم من يقرأ ويكتب، كما كان بينهم الأمي أي الجاهل بالقراءة والكتابة. كان منهم من يقرأ ويكتب بالقلم المسند، وكان بينهم من يقرأ ويكتب بالقلم الذي دوّن به القرآن الكريم، فصار القلم الرسمي للاسلام، بفضل تدوين الوحي به، كما كان بينهم من يكتب بقلم النبط وبقلم بني إرم. وكان بينهم من يكتب ويقرأ بقلمين أو أكثر.

وقد سبق إن ذكرنا إن الأحناف كانوا يكتبون ويقرأون، ورأينا بعضاً منهم كان يكتب بأقلام اعجمية، وكان قد وقف على كتب أهل الكتاب، وكانوا أصحاب رأي ومقالة في الدين وفي أحوال قومهم. وذكرت انهم قالوا عن بعضهم، مثل "ورقة بن نوفل"، انه كان "يكتب الكتاب العبراني،فيكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب".

وقد ذكر "الهمداني" إن العرب كانت "تسمي كل من قرأ الكتب أو كتب:، صابئاً، وكانت قريش تسمي النبي، صلى الله عليه وسلم، أيام كان يدعو الناس بمكة ويتلو القرآن: صابئاً". فالصباة على تفسير "الهمداني"، هم الكتبة وكل من قرأ الكتب، وعلى ذلك يكون الحنفاء في جملة الصباة.

وقد ذكر أهل الأخبار انه كان لدى "الأكاسرة" ديوان خاص يدون فيه كل ما يخص عرب الحيرة وسائر العرب بالعربي، ويتولى أيضاً ترجمة كل ما يرد إلى الدولة بالعربية إلى الفارسية، ويترجم ما يصدر بالفارسية من الحكومة إلى العرب بالعربية، وان في جملة من اشتغل في هذا الديوان وقام بالترجمة فيه "زيداً العبادي"، أبا الشاعر الشهير "عدي بن زيد العبادي"، وزعم "ابن الكلبي" إن ملوك الحيرة كانوا يملكون دواوين فيها أخبارهم ومقدار مدد حكمهم وما قيل في مدحهم من شعر، وفي خبر صحيفة المتلمس وقراءة أحد غلمان الحيرة للصحيفة التي كان يحملها ما يشير إلى معرفة غلمان أهل الحيرة القراءة والكتابة.

وفي كل هذه الروايات والأخبار تفنيد لزعم من ذهب إلى إن العرب قبل الإسلام كانوا جميعاً في جهالة وأمية.

بل ورد في روايات أهل الأخبار في ترجمة عدي بن زيد العبادي المذكور: إن كان في الحيرة معلمون، يعلمون الأطفال القراءة والكتابة، يذهبون إلى بيوت الأطفال يعلمونهم إن شاء أهلهم، أو يعلمونهم في الكتاتيب. وقد ورد أيضاً: إن من الكتاتيب ما كانت تعلم بالعربية ومنها ما كانت تعلم بالفارسية. فكان جدّ عدي ين زيد العبادي مثلاً ممن تعلم في دار أبيه، وخرج من أكتب الناس في يومه "وطلب حتى صار كاتب ملك النعمان الأكبر. وكان أبوه زيد ممن حذق الكتابة والعربية، ثم علم الفارسية. ولما تحرك عدي، وأيفع، طرحه أبوه في الكتاب، حتى إذا حذق أرسله المرزبان مع ابنه شاهان مرد إلى كتاب الفارسية، فكان يختلف مع ابنه، ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية، حتى خرج من أفهم الناس بها، وافصحهم بالعربية، وقال الشعر وتعلم الرمي بالنشاب، فخرج مع الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها".

وذكر أهل الأخبار إن "لقيط بن يعمر الإيادي" الشاعر كتب صحيفة إلى قومه إياد، يحذرهم من كسرى. وكان كاتباً ومترجماً في قصر كسرى، يكتب من الفارسية إلى العربية ومن العربية إلى الفارسية، فلما أراد كسرى الانتقام من قومه، كتب اليهم قصيدة في صحيفة، فيها: سلام في الصحيفة من لقيط  إلى من بالجزيرة من إياد

وذكر إن "سعد بن مالك" أرسل ابنه "المرقش" الشاعر المعروف وأخاه إلى رجل من أهل الحيرة، فعلمهما الكتابة، فكانا يكتبان أشعارهما، وذكر انه كان يكتب بالحميرية، وانه كتب أبياتاً بها على خشب رحل "الغفيلي الذي تركه وحده لما مرض، فلما قرأوا الكتابة ضربوا "الغفيلي" حتى أقر.

وكان جفينة العبادي، وهو من نصارى الحيرة، وظئراً لسعد بن أبي وقاص، كاتباً، قدم المدينة في عهد عمر، وصار يعلم الكتابة فيها. وقد اتهمه "عبيد الله بن عمر" بمشايعة أبي لؤلؤة على قتل أبيه، فقتله وقتل ابنيه.

ولما نزل "خالد بن الوليد" الأنبار، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم ? فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا - فكانت اوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب، ثم لم تزل عنها - فقال: ممن تعلمتم الكتاب ? فقالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشدوه قول الشاعر: قومي إياد لو انـهـم أمـم  أو لو أقاموا فتهزل النعـم

قوم لهم باحةُ العـراق إذا  ساروا جميعاً والخط والقلم 

ووجد "خالد بن الوليد" أهل "النقيرة" يعلّمون أولادهم الكتاب في كنيستها. وهي قرية من قرى "عين التمر". ومنها كان "حمران" مولى "عثمان بن عفان". ولما فتح "خالد" حصن عين التمر، وغنم ما فيه، "وجد في بيعتهم أربعين غلاماً يتعلمون الانجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم"، ثم أخرجهم، فقسّمهم في أهل البلاء، فكان منهم نصير، أبو موسى ابن نصير، وسيرين أبو محمد بن سيرين، وخمران مولى عثمان وغيرهم.

فنحن في العراق أمام مدارس تعلم العربية في القرى وفي الأماكن التي تكون غالبية سكانها من العرب، وتعلمهم أمور دينهم من نظر في الأناجيل وفي الكتب الدينية النصرانية والعلوم اللسانية المعروفة إلى غير ذلك من علوم ومعرفة وثقافة.

وورد في روايات أهل الأخبار ان عدداً من الشعراء الجاهليين كانوا يكتبن ويقرأون. وكان منهم من إذا نظم شعراً دوّنه ثم ظل يعمل في اصلاحه وتنقيحه وتحكيك ما نظمه إلى أن يرضى عنه. فينشده الناس. وممن كان يكتب ويقرأ سويد بن الصامت الأوسي، صاحب مجلة لقمان، والزبرقان بن بدر، وكعب ابن زهير، وكعب بن مالك الأنصاري، والربيع بن زياد العبسي، وكان هو واخوته من الكملة. وقد كتب إلى "النعمان بن المنذر". شعراً يعتذر إليه فيه.

وذكر ان أهل "دومة الجندل" كانوا يكتبون ويقرأون، وان أهل مكة انما تعلموا الكتابة من أحدهم. وورد إن قوماً من "طيء" تعلموا الكتابة والقراءة من كاتب الوحي لهود. وذكر إن "بشر بن عبد الملك" السكوني، أخو "أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن" السكوني الكندي صاحب دومة الجندل، وكان نصرانياً، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين، تعلم الخط العربي من أهل الحيرة، ثم أتى مكة في بعض شأنه، فرآه "سفيان بن أمية بن عبد شمس " و "أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب" يكتب فسألاه أن يعلمهما، الخط، فعلمهما الهجاء، ثم أراهما الخط، فكتبا. ثم إن بشراً وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم "غيلان بن سلمة الثقفي"، فتعلم الخط منهم، وفارقهم بشر ومضى إلى ديار مضر، فتعلم الخط منه "عمرو بن زرارة بن عدس " فسمي عمرو الكاتب. ثم أتى بشر الشام، فتعلم الخط منه ناس هناك.

وتعلم الخط من الثلاثة الطائيين: "مرامر بن مرة"، و "أسلم بن سدرة"، و "عامر بن جدره"، الذين وضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلمه منهم أهل الأنبار - رجل من طابخة كلب، فعلمه رجلاً من أهل وادي القرى، فأتى الوادي يتردد، فأقام بها،وعلم الخط قوماً من أهلها.

وقد وصف الشاعر "أبو ذؤيب" الهذلي كاتباً من اليمن وهو يكتب كتاباً، ولم يكن خط هذا الكتاب بالقلم العربي، قلم أهل مكة، وانما كان بقلم أهل اليمن وهو المسند. وذلك كما يظهر من تعابير هذا الشاعر الواردة في شعره، إذ يقول: عرفتُ الديار كرَقْم الـدوا  ة يزبره الكاتب الحميريّ

برقم ووشى كما زخرفت  بميشمها المُزدَهاة الهدي

أدانَ وأنـبـأه الأولــو  ن أن المدان المليُّ الوفيّ

فنمنم في صحف كالـريا  طِ فيهن إرث كتاب محيّ 

وهي قصيدة عدتها أربعة عشر بيتاً، ذكر في أولها دروس الديار وطموسها إلى أن رثى ابن عمه "نشيبة" بخمسة أبيات من آخرها.

ويظهر من هذه الأبيات إن ذلك الكاتب الحميري كان يكتب بالحبر الموجود في دواة على شيء يصلح للكتابة عليه كأديم أو قرطاس، ولم يكن يستعمل المزبر المعمول من حديد لنقش الحروف على الحجر. وهذا مما يدل على ان أهل العربية الجنوبية كانوا يكتبون على مواد الكتابة الأخرى بالحبر والقلم، فعل أهل مكة وأهل الحيرة ودومة الجندل.

وذكر أهل الأخبار أيضاً، إن رجلين من "بني نهد بن زيد" يقال لهما "حزن" و "سهل" كانا يكتبان ويقرأ ان، وكانا قد زارا "الحارث بن مارية" الغساني، وكان عندهما حديث من أحاديث العرب، ولهما ظرافة وأدب وصحبة، فنزلا منزلاً طيباً من قلب الحارث، فحسدهما "زهير بن جناب الكلبي" وكان من ندماء الملك، فأراد افساد مكانهما عنده، فقال له: "هما يكتبان إليه بعورتك وخلل ما يريان منك". يريد اخباره انهما كانا يتجسسان عليه فيكتبان بأخباره إلى خصمه "المنذر" الأكبر، ملك الحيرة، جدّ النعمان بن المنذر.

وأما عرب بلاد الشام، فلم يذكر أهل الأخبار شيئاً عن علمهم بالكتابة والقراءة، ولكن ذلك لا يمكن أن يكون دليلا على جهلهم بها. ولا سيما انهم كانوا على اتصال ببني إرم في بلاد الشام وبعرب بلاد العراق، ثم انه يجوز انهم كانوا يكتبون بقلم بني إرم، على عادة معظم شعوب الشرق الأدنى إذ ذاك، في الكتابة به، لأنه كان قلم العلم والثقافة والأدب في ذلك الحين. ثم اننا سمعنا إن ملوكهم المتنصرين كانوا يرأسون مجالس المناظرات في أمور الدين، ويبحثون مع رجال الدين في موضوعات دينية، ويدافعون عن مذهب اليعاقبة في طبيعة المسيح، ومثل هؤلاء الملوك لا يعقل أن يكونوا جهلة أميين لا يقرأون ولا يكتبون.

وقد سبق أن تحدثت عن،الكتابات الصفوية وعن كتابات عربية شمالية أخرى، عثر عليها السياح والمستشرقون في مواضع متعددة من "الصفاة" وفي البوادي، كتبت على صخور وهشيم صخور منثور، دلّ البحث فيها على انها كتابات أعراب، كان أصحابها يتنقلون من مكان إلى مكان طلباً للمرعى والصيد.

وتدل تلك الكتابات الصفوية على إن أعراب الجاهلية كانوا في أيام الجاهلية أحسن حالاً من حيث علمهم بالكتابة والقراءة من أعراب هذا اليوم. فالكتابات الصفوية الكثيرة المبعثرة في البوادي، هي كتابات أعراب، متجولين، كانوا يرعون الإبل وبقية الماشية،فكانوا يسلوّن أنفسهم بالكتابة والتصوير على الحجارة، بينما لا نكاد نجد بين اعراب هذا اليوم من يكاد يقرأ ويكتب.

كما تحدثت عن كتابات ثمودية، وثمود قوم من لبّ العرب ومادة العرب البائدة الأولى في عرف النسابين، وتحدثت أيضاً عن القلم المسند بلهجاته ولغاته، فهل يصدق بعد هذا قول من زعم إن العرب قبل الإسلام كانوا في جهالة عمياء، لا يقرأون ولا يكتبون.

ولا يعقل أن يكون المذكورون أميين كتبوا للتسلية والتلهية، وان الأوامر والقوانين التي دوّنها ملوك اليمن قبل الإسلام وأعلنوها للناس بوضعها في المحلات العامة وفي الأماكن البارزة كانت مجرد تدوين أو تزويق وتزيين، لا للاعلان ولإفهام المواطنين بمحتوياتها. إن تدوين تلك الكتابات ووضع الحجارة الفخمة المكتوبة للاعلان، دليل على إن في الناس قوماً يقرأون ويكتبون ويفهمون، وان الحكومات انما أمرت بتدوينها لإعلام الناس بمحتوياتها للعمل بها، كما تفعل الحكومات في الوقت الحاضر عند إصدارها أمراً أو قانوناً بإذاعته بالوسائل المعروفة على الناس للوقوف عليها، وان من بين الحجارة الصفوية واللحيانية والثمودية المكتوبة، ما هو رسائل وكتب وجهت إلى أشخاص معروفين، كما نفعل اليوم في توجيه الرسائل إلى الأقرباء والأصدقاء.

ووجد عند ظهور الإسلام قوم كانوا يكتبون ويقرأون ويطالعون الكتب بمكة ولهم إلمام بكتب أعجمية، ومن هؤلاء. "الأحناف" وقد ذكر عن بعض إنهم كانوا يجيدون بعض اللغات الأعجمية،. وانهم وقفوا على كتب اليهود والنصارى وعلى كتب اخرى. وفي معركة "بدر" اشترط الرسول على من أراد فداء نفسه ولم يكن موسراً من أهل مكة، أن يعلم عشرة نفر من المسلمين القراءة والكتابة، كما كان من عادة أهل مكة تدوين ما يجمعون عليه وما يلزمون أنفسهم به في صحف يختمونها بخواتمهم وبأسمائهم لتكون شواهد على عزمهم كالذي فعلوه في الصحيفة. وذكر إن أمية بن أبي الصلت كان فيمن قرأ الكتب ووقف عليها، وذكروا غيره أيضاً.

وذكر أهل الأخبار إن قوماً من أهل يثرب من الأوس والخزرج، كانوا، يكتبون ويقرأون عند ظهور الإسلام، ذكروا فيهم: سعد بن زرارة، والمنذر ابن عمرو، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وكان يكتب بالكتابين العربية والعبرية أو السريانية، ورافع بن مالك وأسيد بن حُضير، ومعنى "معن" بن عدي البلوي، وأبو عبس بن كثير، واوس بن خولى، وبشير بن سعيد، وسعد بنُ عبادهَ، والربيع بن زياد العبسي، وعبد الرحمن بن جبر، وعبدالله ابن أُبي، وسعد بن الربيع، وقد رجعوا أصل علمهم بالكتابة والقراءة إلى قوم من يهود يثرب، مارسوا تعليم الصبيان القراءة والكتابة، دعوهم "بني ماسكة"، ويظهر، إن صحت هذه الرواية، إن يهود يثرب كانوا يكتبون بالعربية أيضاً، وانهم كانوا يعلمونها للعرب. وتعرض البلاذري لهذا الموضوع فقال: "كان الكتاب في الأوس والخزرج قليلاً، وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، وكان تعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول، فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون". ونجد هذا الخبر في موارد أخرى، أخذته دون أن تشير إلى السند، فظهر وكأنه حقيقة مسلمة وخبر متواتر، حتى جاز على المحدثين، فبنوا عليه حكماً، هو أن الكتاب كان في يثرب قليلاً، حتى جاء الإسلام، فانتشر بها، وانه لو كانت الكتابة منتشرة عندهم، لما كلف الرسول القارئين الكاتبين من أسرى بدر، بأن يعلم كل واحد منهم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة، فداءً لنفسه من الأسر.

ويظهر إن يهود يثرب، وربما بقية يهود، مثل يهود خيبر، وتيماء وفدك ووادي القرى، كانوا يكتبون بقلمهم، كما كانوا يكتبون بالعربية، ويظهر من استعمال "البلاذري" جملة: "وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، وكان تعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول"،إن يهود يثرب كانوا يكتبون بالعربية، كما كان يكتب بها صبيان المدينة، وكانوا يعلمون الكتابة لصبيان يثرب في مدارسهم. وفي هذا الخبر وأمثاله دلالة على إن الكتابة كانت معروفة بين أهل يثرب أيضاً قبل الإسلام، وانها كانت قديمة فيهم، ولهذا فلا معنى لزعم من قال انها انتشرت بيثرب في الإسلام، وان الكتابة كانت قليلة بها قبل هذا العهد.

وقصد أهل الأخبار بجملة "وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، الكتابة بالخط العربي الشمالي، لا بالقلم المسند، لأن هذا هو مرادهم من "الكتاب العربي" و "كتاب العربية"، ويظهر إن اليهود قد تعلموا الخط العربي من عرب العراق وبلاد الشام، أو من التجار والمبشرين الذين كانوا يفدون إلى الحجاز، وأما القلم المسند، الذي هو قلم العرب الجنوبين، فلم يكن مستعملاً في يثرب، وإلا لأشير إليه، مع انها من القواعد المتعصبة للقحطانية، وحاملة الدعوة الى اليمن قبل الإسلام وفي الإسلام. وهذا يدل على إن المسند كان قد طورد في جزيرة العرب قبل الإسلام، وأن سلطانه كان قد تقلص كثيراً، خارج العربية الجنوبية قبل نزول الوحي على الرسول، وربما كان القلم العربي الشمالي قد دخل العربية الجنوبية أيضاً قبل الإسلام، فأخذ ينافس المسند فيها، ولا سيما في المناطق التي تركزت فيها النصرانية وتحكمت في أهلها، فأخذ النصارىَ يقاومون ذلك القلم، لأنه قلم الوثنية، ويعلّمون أولاد النصارى القلم العربي الشمالي، لأنه قلمهم الذي كانوا يعلمون به في كنائس العرب في العراق وفي دومة الجندل وبلاد الشام.

وقد أطلق العرب على الذي يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي، وقيل الحساب أيضاً، والجَلَد أي الشجاعة، وقول الشعر، وأصحاب الشرف والنسب: الكملة. وجمع بعض أهل الأخبار إلى ذلك استواء القامة وكمال الإنسان. ومن هؤلاء الكملة: "سعد بن عبادة بن دليم" سيد الخزرج، وهو من أسرة غنية تطعم الفقراء، ولها أطم يأوي إليه الفقراء للأكل. ولما نزل النبي يثرب، كانت جفنة "سعد" تدور مع النبي، وكان يعشي كل ليلة أهل الصفة.

ومن الكملة: الربيع بن زياد العبسي. وكان هو واخوته من الكملة. و "رافع بن مالك"، و "أسيد بن حضير"، و "عبد الله ين أبي"، و "أوس بن خولى"، و "سويد بن الصامت"، و "حضير الكتائب".

ويظهر من النظر إلى قائمة أسماء من أدخلهم أهل الأخبار في الكملة، إن الكتابة والرماية والعوم، لم تكن الشروط الأساسية الكافية، لكي يعد الإنسان كاملا، فقد توفرت هذه الشروط في أناس آخرين، لم يدخلوا مع ذلك في الكملة، وانما هنالك أشياء اخرى بالاضافة إلى الأمور المذكورة، هي الشرف وكمال الجسم والعقل والامتناع عن الهجر في الكلام، والتحلي بالحكمة وبالفطانة واللب وقول الشعر المحكم الحكيم.

وكان "عبد الرحمان بن جبر"، أبو عبس الأنصاري، يكتب بالعربية قبل الإسلام. ومات سنة أربع وثلاثين.

وكان "المنذر"، "منذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان" الخزرجي من الكتبة. وكان أحد السبعين الذين بايعوا الرسول، وأحد النقباء الاثني عشر. "وكان يكتب في الجاهلية بالعربية". قتل يوم بئر معونة. وكان "أبو جبيرة بن الضحاك" الأنصاري، ممن يكتب. وقد تولى الكتابة للخليفة "عمر".

وكان "قيس بن نشبة" عم الشاعر "العباس بن مرداس" السلمي، أو ابن عمه من الكتبة. ذكر انه كان ممن قرأ الكتب وتأله في الجاهلية. والعباس بن مرداس نفسه كان كاتباً، ذكر انه لما سمع إن رجلاً من أهل مكة اشترى إبلاً لقيس بن نشبة فلواه حقه، وان "قيساً" قام بمكة يقول: يا آل فهرٍ كنت في هذا الحرمفي حرمة البيت وأخلاق الكرم أظلم لا يمنع مني من ظلم بلغ ذلك "عباس بن مرداس" فكتب إليه أبياتاً منها

واَئتِ البيوت وكن من أهلها مدداً  تلـــق ابـــن حــــــرب وتـــــــلـــــــق الـــــــمـــــــرء عـــــــبّـــــــاســـــــا

فقام العباس بن عبد المطلب وأخذ له بحقه، وقال: أنا لك جار ما دخلت مكة، فكانت بينه وبين بني هاشم مودة.

وفي جملة من كان يكتب ويقرأ من أهل مكة "حرب بن أمية". واليه ينسب قوم من أهل الأخبار ادخال الكتابة بين قريش. وهو أبو "أبي سفيان ابن حرب"، فهو جدّ "معاوية بن أبي سفيان". وورد إن الذي حمل الكتابة إلى قريش بمكة "أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة". فهو ناشر الكتابة على هذه الرواية بين أهل مكة. والاثنان على رأي أهل الأخبار من أقدم كتّاب مكة اذن، بل هما ناشرا الكتابة بها. وقد ذهب "ابن قتيبة" إن "بشر بن عبد الملك العبادي" علم "أبا سفيان بن أمية"، و "أبا قيس بن عبد مناف بن زهُرة" الكتاب، فعلّما أهل "مكة". وقد ذكر "السيوطي" عن "أبي طاهر" السلفي في "الطيوريات" بسنده عن "الشعبي"، انه "قال: أول العرب الذي كتب بالعربية حرب بن أمية بن عبد شمس". تعلم من أهل الحيرة، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار..

ولو أخذنا برأي من قال إن "حرب بن أمية" أو "أبو سفيان بن أمية"، ما أول من علم أهل مكة الكتابة، نكون قد جعلنا "بني أمية" أول من أدخل القلم إلى مكة، بفضل تعليم "بشر" لهم هذا القلم. ومنهم انتشر بين أهل مكة في عهد غير بعيد عن ايام النبي.

وذكر إن في جملة من كان يكتب قبل الإسلام."عمرو بن عمرو بن عدس"، وذكر "ابن النديم" إن "أسيد بن ابي العيص" كان من كتّاب العرب. وذكر انه كان في خزانة "المأمون" كتاب بخط "عبد المطلب بن هاشم" في جلد أدم، فيه ذكر حق "عبد المطلب بن هاشم" من أهل مكة على فلان بن فلان الحميري، من أهل وزل صنعا عليه ألف درهم فضة كيلاً بالحديدة ومتى دعاه بها أجابه. وكان الخط شبه خط النساء.

وكان "حنظلة بن أبي سفيان" ممن يحسن الكتابة والقراءة بمكة. فقد ورد في الأخبار انه كتب من مكة إلى والده "أبو سفيان"، وكان إذ ذاك مع العباس بن عبد المطلب بنجران، يخبره خبر الرسول. وكان والده يكنى به. وقد قتله "علي بن أبي طالب" يوم "بدر".

وكان "بغيض بن عامر بن هاشم" من كتاّب قريش قبل الإسلام. وهو الذي كتب الصحيفة على بني هاشم. وورد إن "أبا الروم بن عبد شرحبيل" واسمه "منصور بن عكرمة" هو الذي كتب الصحيفة.

وكان "الوليد بن الوليد" وهو أخو "خالد بن الوليد" ممن يكتب ويقرأ، وكان "خالد" ممن يقرأ ويكتب كذلك. وكان الوليد سبب اسلام "خالد". فقد كان قد فر من مكة ولحق بالرسول عمرة القضية، وكتب إلى أخيه خالد، إن الرسول قال له: "لو أتانا، لأكرمناه، وما مثله سقط عليه الإسلام في عقله"، فوقع الإسلام في قلب خالد. وكان سبب هجرته.

وكان "نافع بن ظريب بن عمرو بن نوفل ين عبد مناف بن قصي " القرشي ممن يكتب. أسلم يوم الفتح. وهو الذي كتب المصاحف لعمر بن الخطاب، أو المصحف، وذكر انه كان يكتب المصاحف، وانه كتب المصاحف لعثمان، فيظهر انه كان من نسّاخ المصاحف، ينسخها للناس.

وكان "حاطب بن أبي بلتعة" من الكتّاب. وكان حليفاً لبني أسد بن عبد العُزى، ويقال حالف الزبير، وقيل مولى "عبيد اللّه بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد". وهو الذي كتب كتاباً إلى أهل مكة يخبرهم بتجهيز رسول الله اليهم، فنزلت فيه: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم". وقد شهد مع علي بن ابي طالب على كتاب رسول الله لسلمة بن مالك السلمي، الذي كتب الرسول به اقطاعه ما بين ذات الحناظي إلى ذات الأساود.

وكان الحكم بن أبي أحيحة سعيد بن العاصي، وهو الذي سماّه رسول الله "عبدالله" من اولئك الذين أمرهم الرسول إن يعلم الكتاب بالمدينة. وكان كاتباً قتل يوم "مؤته".

يقول أهل الأخبار: ولما نزل الوحي كان "في قريش سبعة عشر رجلاً كلهم يكتب: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وطلحة، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وحاطب بن عمرو، أخو سهيل بن عمرو العامري من قريش، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وأبان بن سعيد بن العاص بن أمية، وخالد بن سعيد أخوه، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح العامري، وحويطب بن عبد العزى العامري، وأبو سفيان بن حرب بن أمية، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، ومن حلفاء قريش: العلاء الحضرمي".

ولكننا لو أحصينا أسماء من كان يكتب من اهل مكة، ممن نص أهل الأخبار على أسمائهم، وممن لم ينصوا على اسمهم، وانما ذكروهم عرضاً في اثناء كلامهم عنهم فذكروا انهم كانوا يكتبون ويقرأون، لوجدنا إن عددهم أكثر بكثير من هذا الرقم المذكور، رقم سبعة عشر كاتباً، أو بضعة عشر نفراً، وهو عدد ورد اليهم على ما يظهر من خبر آحاد، انتشر في الكتب، فصار متواتراً منتشراً حتى في كتب المؤلفين في هذا اليوم، اتخذوه دليلاً على أمية العرب قبل الإسلام.

وقد استعان الرسول بقوم كتبوا له، أشار العلماء إلى أسمائهم. منهم من كتب له الوحي، فعرفوا من ثم ب "كتاب الوحي". ومنهم من كتب له بريده ورسائله، ومنهم من تولى له تدوين المغانم وأمور الزكاة والخرص والصدقة وما إلى ذلك من امور اقتضاها تطور الظروف والأحوال، ومنهم مثل "زيد بن ثابت " من كتب له بالعربية وبالعبرانية أو السريانية. وذكر إن بعضهم كان مثل زيد يكتب بغير العربية أيضاً. وكان ممن كتب له: "علي بن ابي طالب"، و "عثمان بن عفان"، و "معاوية بن أبي سفيان"، و "حنظلة الأسيدي"، و "خالد بن سعيد بن العاص"، و "ابان بن سعيد"، و "العلاء بن الحضرمي"، و "عبد الله بن أبي سرح".

وروي إن "أول من كتب له أبي بن كعب، وكان إذا غاب أُبي كتب له زيد بن ثابت".، وكان يكتب في الجاهلية.

وجاء في ترجمة أنس بن مالك: أن أمه جاءت به يوم قدم الرسول يثرب وقالت له: "يا رسول الله، هذا ابني وهو غلام كاتب". ومعنى هذا أن غلمان يثرب كانوا يقرأون ويكتبون.

وقد ورد في أخبار "بدر" أنه كان في أسرى قريش قوم يقرأون ويكتبون، وقد امر رسول الله بفك رقاب هؤلاء الأسرى على أن يكون فداؤهم تعليم كل واحد منهم عشرة من صبيان المسلمين الكتابة والقراءة. وقد علّم كل واحد منهم صبيان يثرب الكتابة فانتشرت الكتابة بينهم.

وذكر أن ممن كتب لرسول الله: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير بن العوّام، وخالد وابان ابنا سعيد بن العاص، وحنظلة الأسيدي، والعلاء بن الحضرمي، وخالد بن الوليد، وعبداللّه بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وعبدالله بن عبدالله بن ابي بن سلول، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهيم بن الصلت، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وشرحبيل بن حسنة، وعبدالله ابن الأرقم الزهري. وذكر أن عدد من كتب للرسول ثلاثة وأربعون كاتباً.

وأول من كتب للنبىّ من قريش "عبدالله بن سعد بن أبي سرح"، وأول من كتب له مقدمه المدينة "أبي بن كعب"، وهو أول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان بن فلان. وهو من كتاب الوحي والرسائل. وقد كان "عبد الله بن الأرقم الزهري" من كتاب الرسائل للرسول، وأما الكاتب لعهوده إذا عهد وصلحه إذا صالح، فعلي بن أبي طالب. وقد وردت في أواخر بعض كتب الرسول أسماء كتاب تلك الكتب.

وفي طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أمر بتدوينه رسول الله لنهشل بن مالك الوائلي من باهلة، كتبه "عثمان بن عفان".

وكان "علي بن أبي طالب" من كتاب الوحي، والكاتب لعهود الرسول إذا عهد، وصلحه إذا صالح. ذكر أنه تعلم الكتابة وهو صغير، ابن أربع عشرة سنة، تعلمها في "الكتاب".

وكان من كتّاب رسول الله الذين كتبوا له الرسائل إلى سادات القبائل يدعوهم فيها إلى الإسلام: خالد بن سعيد بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية، وعبدالله بن زيد، وأُبي بن كعب، وعليّ. وجُهيم بن الصلت، والأرقم ابن أبي الأرقم المخزومي، والزبير بن العوّام، والعلاء بن الحضرمي، وعقبة، والعلاء بن عقبة، وعثمان بن عفّان، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وثابت بن قيس بن شماس.

وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، من كتاب الرسول، وقد كان أول مرتد في الإسلام. ارتد وكان قد خالف في كتابه إملاءه، فأنزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتباً فهرب، فلما كان يوم "الفتح" التجأ الى "عثمان" أخوه من الرضاعة فأجاره، واستجار له "عثمان" عند النبي فأجاره له. وقد عينه "عثمان" عاملاً على مصر، وافتتح إفريقية، ومات سنة ست وثلاثين، أو سبع وخمسين، أو تسع وخمسين. وروي انه كان أول من كتب له من قريش.

وهناك رواية يرجع سندها إلى "أنس بن مالك"، تذكر أن "رجلاً كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه سميعا بصيراً، كتب سميعاً عليماً، وإذا املى عليه سميعاً عليماً، كتب سميعاً بصيراً. وكان قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان من قرأهما قرأ قرآناً كثيراً، فتنصر الرجل، وقال إنما كنت أكتب ما شئت عند محمد.. قال: فمات". ولا نعرف كاتباً ينطبق عليه هذا الوصف سوى "عبدالله بن سعد بن أبي سرح". فهو المراد بهذه القصة. وهي قصة لا يمكن أن تكون صحيحة، لأن ارتداد "عبدالله" إنما كان بمكة، فدليل النص عليه في سورة الأنعام، وهي سورة مكية، فكيف يكون قد قرأ سورة البقرة وآل عمران، ثم تنصر، وهما سورتان مدنيتان.

وفي "عبدالله" نزلت الآية: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، أو قال: أوحى إليّ ولم يوحَ إليه شيء. ومن قال: سأنزل مثل الذيّ أنزل الله"، على رأي أكثر المفسرين. "كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيما يملي عزيز حكيم، فيكتب غفور رحيم، فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حوّل، فيقول نعم سواء. فرجع عن الإسلام، ولحق بقريش. وقال لهم: لقد كان ينزل عليه عزيز حكيم، فأحوّله ثم أقول لما أكتب، فيقول: نعم سواء. ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة". وورد في رواية أخرى: "وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه سميعاً عليماً، كتب هو عليماً حكيماً: وإذا قال: عليماً حكيماً، كتب سميعاً عليماً، فشك وكفر. وقال: إن كان محمد يوحى إليه، فقد أوحي إليّ وإن كان الله ينزله، فقد أنزلت مثل ما أنزل الله. قال محمد: سميعاً عليماً. فقلت أنا: عليماً حكيماً. فلحق بالمشركين، ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار، فأخذوهم فعذّبوا".

وورد في رواية أخرى: "كان قد تكلم بالإسلام فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم يكتب له شيئاً، فلما نزلت الآية التي في المؤمنين: ولقد خلقّنا الإنسان من سلالة. أملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله: ثم أنشأ خلقاً آخر، عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت عليّ، فشك عبدالله حينئذ، وقال لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً، لقد قلت كما قال. وذلك قوله: ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله. وارتد عن الإسلام".

وورد أنه كان يقول: كنت أصرف محمداً حيث أريد. كان يملي عليّ. عزيز حكيم، فأقول: أو عليم حكيم، فيقول: نعم كلُّ صواب. فهدر النبي دمه. وذكر أنه "قال لقريش: أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد. وكان يملي عليه الظالمين، فيكتب: الكافرين، يملى عليه سميع عليم، فيكتب: غفور رحيم وأشباه ذلك. فأنزل الله: ومن أظلم ممن افترى على الله كَذباً، أو قال أوحي إليّ، ولم يوح إليه شيء. ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله. فلما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله بقتله، فكلمه فيه عثمان بن عفّان، فأمر رسول الله بتركه.

وقد ذكر "الجاحظ" أنه "كتب لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فخالف في كتابة املائه. فانزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتباً، فهرب حتى مات بجزيرة العرب كافراً". والصحيح أنه هرب، فلما كان يوم الفتح أمن النبي الناس إلا أربعة نفر وامرأتين. عكرمة، وابن خطل، ومقيس ابن صبابة، وابن أبي سرح، فأما عبدالله فاختبأ عند عثمان، فجاء به حتى اوقفه على النبى، وهو يبايع الناس، فاستجار له عثمان، فأجاره. وعاش وشهد فتح مصر مع "عمرو بن العاص"، وأمرَّه "عثمان" على مصر. واختلف في وفاته، فقيل مات سنة "536" وقيل عاش إلى سنة تسع وخمسين. وكان أخاً لعثمان في الرضاعة.

وكَان "جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي"، ممن تعلم الخط في الجاهلية، فجاء الإسلام وهو يكتب، وقد كان كتب لرسول الله. ذكر انه كان هو و "الزبير بن العوّام" يكتبان أموال الصدقات. وهو الذي كتب كتاب الرسول إلى "يحنه بن رؤبة" بتبوك، وكتابه ليزيد بن الطفيل الحارثي.

وذكر اسم "الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي" في جملة من كتب للرسول. ففي طبقات ابن سعد، أنه كتب له كتابه لعبد يغوث بن وعلة الحارثي، وكتابه لعاصم بن الحارث الحارثي، وكتابه للأجب، رجل من "بني سُليم".

وكان اسمه "عبد مناف بن أسد بن عبدالله بن عمر بن مخزوم"، ويكنى "أبا عبدالله"، كان من السابقين الأولين، قيل أسلم بعد عشرة، وقيل قبل ذلك. وكان رسول الله يجلس في داره التي على "الصفا"، حتى تكاملوا أربعين رجلاً، وكان آخرهم إسلاماً "عمر" فلما تكاملوا أربعين رجلاً خرجوا،وأقطعه النبي داراً بالمدينة.

و "عبدالله بن الأرقم بن أبي الأرقم" من كتاب الرسول كذلك. كان يجيب عنه الملوك، وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب ويختم ولا يقرأه لأمانته عنده، "قال عمر: كتب إلى النبي، صلى الله عليه وسلم كتاب. فقال لعبدالله بن الأرقم الزهري: أجب هؤلاء عني، فأخذ عبدالله الكتاب فأجابهم، ثم جاء به، فعرضه على النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: أصبت، قال عمر ? فقلت: رضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما كتبت، فما زالت في نفسي يعني حتى جعلته على بيت المال". وكتب لأبي بكر وعمر، وكان على بيت المال أيام عمر، وكان أميراً عنده. وذكر أنه كان إذا غاب عن الرسول، وغاب زيد بن ثابت، واحتاج الرسول إن يكتب إلى أحد أمر من حضر إن يكتب. فمن هؤلاء عمر وعلي وخالد بن سعيد و المغيرة.

وكان عبدالله من الأرقم بن عبد يغوث الزهري، والعلاء بن عقبة، يكتبان بين الناس المداينات وسائر العقود والمعاملات. وذكر إن "عبدالله بن الأرقم" الزهري، كان من المواظبين على كتابة الرسائل عن النبي.

وكان "حنظلة بن الربيع بن صيفي" الأسيدي، من كتاب الرسول، وقد نعته الطبري ب "كاتب النبي". وعرف ب "الكاتب". وهو من "بني أسيد"، وبنو أسيد من أشراف تميم. وهو ابن أخي "أكثم بن صيفي" حكيم العرب. وقد عرف ب "حنظلة الكاتب". وذكر انه كان " خليفة كل كاتب من كتاّب النبي، إذا غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب. وكان يضع عنده خاتمه، وقال له: ألزمني، واذكرني بكل شيء لثالثة. فكان لا يأتي على مال ولا طعام ثلاثة ايام إلا أذكره، فلا يبيت رسول الله وعنده شيء منه". ومات بمدينة الرها.

ومن كتّاب الرسول: "شرحبيل بن حسنة" الطابخي. ويقال الكندي، ويقال التميمي. وهو ممن سيره "أبو بكر" في فتوح الشام. وكان أميراً على ربع من أرباع الشام لعمر بن الخطاب، وقد مات في طاعون "عمواس".

وكان "خالد بن سعيد بن العاص" "خالد بن سعيد بن العاصي"ممن كتب للرسول. كتب له كتابه إلى "بني عمرو بن حمير". وهو من السابقين الأولين. وقد استعمله الرسول على صدقات مذحج وعلى صنعاء، فلم يزل عليها الى أن مات رسول الله. وكان له اخوة هما: أبان وعمرو بن سعيد بن العاص، وكانا ممن عملا للرسول. فلما توفي الرسول، رجعا مع خالد عن أعمالهم، فخرجوا إلى الشام، وفي جملة ما كتبه خالد، كتاب الرسول لبني أسد، وكتابه للعدّاء بن خالد بن هوذة ومن تبعه من عامر بن عكرمة، وكتابه لراشد ابن عبد السلمي، وكتابه لحرام بن عبد عوف من "بني سُليم"، وكتابه لبني غاديا، وهم قوم من يهود، وكتابه لبني عريض، قوم من يهود، وكتابه لثقيف، وكتابه لسعيد بن سفيان الرعليّ.

وكان "ابان بن سعيد بن العاص" "العاصي"، وهو اخو خالد، ممن أسلم بعد هجرة الرسول إلى يثرب. ويقال ايام خبير. وكان هو الذي تولى إملاء مصحف عثمان على زيد بن ثابت، يوم جمعه في خلافة عثمان، أمرهما بذلك عثمان. وذلك في رواية من جعله حياً إلى ايام الخليفة "عثمان". وزعم في روايات أخرى انه قتل يوم أجنادين سنة ثلاث عشرة، أو يوم اليرموك. وقيل قتل يوم مرج الصفر. وذكر في رواية انه توفي سنة سبع وعشرين في خلافة عثمان.

وكان "طلحة" من الكتبة. وهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى. وكان تاجراً، وكان عند وقعة بدر في تجارة في الشام. ولما قدم المدينة آخى النبى بينه والزبير. وذكر انه آخى بينه وبين "كعب بن مالك" حين آخى بين المهاجرين والأنصار. وكان من الأغنياء، كانت غلته ألفاً وافياً تهل يوم. والوافي وزنه وزن الدينار، وعلى ذلك وزن دراهم فارس التي تعرف بالبغلية.

والزبير بن العوّام في جملة من كتب للرسول. كتب له كتابه لبني معاوية بن جرول الطائيين.

و "أبو عبيدة بن الجراح"، من هذه الجماعة الكاتبة القارئة. وهو من الأوائل الذين دخلوا في الإسلام، كان إسلامه قبل دخول النبي دار "الأرقم"، وقد آخى الرسول بينه وبين "سعيد بن معاذ".

و "العلاء بن الحضرمي"، وهو "عبدالله بن عماد"، وكان أبوه قد سكن مكة وحالف حرب بن أمية، وكان للعلاء عدة إخوة منهم: "عمرو بن الحضرمي"، وهو أول قتيل من المشركين، وماله أول مال خمس في المسلمين، وبسببه كانت وقعة بدر. وقد استعمل النبي "العلاء" على البحرين. وهو الذي كتب للرسول كتابه لبني معن الطائيين، وكتابه لأسلم من خزاعة.وكان أخوه "ميمون بن الحضرمي" صاحب بئر "ميمون" التي بأبطح مكة، احتفرها في الجاهلية. وذكر "المسعودي" أن العلاء ربما كتب بين يدي النبي مع "ابان ابن سعيد".

و "يزيد بن أبي سفيان" أخو "معاوية" من الكتاب كذلك توفي سنة "18" أو "19" للهجرة. وهو ممن أسلم يوم الفتح، وقد كان عمر قد استخلفه على "الشام" بعد وفاة "معاذ"، فلما مات استخلف أخاه "معاوية".

وكان "معاوية بن أبي سفيان" من كتبة الرسول. وذكر أنه كان "من الكتبة الحسبة الفصحاء". ومعنى هذا أنه كان يتقن الكتابة والحساب. ولم يذكر من ذكر سيرته متى تعلم الكتابة. ولا استبعد أن يكون قد تعلمها بمكة قبل دخوله في الإسلام. وهو ممن ولد قبل الإسلام وأسلم عام الفتح. فتكون كتابته للرسول اذن بعد هذا العام. ومن كتبه التي كتبها للرسول كتابه لربيعة بن ذي مرحب الحضرمي، وكتابه لبني قرة بن عبدالله بن أبي نجيح النبهانيين، وكتابه لعتبة بن فرقد، وكتابه لوائل بن حجر لما أراد الشخوص إلى بلاده. وذكر "المسعودي" أن "معاوية" كتب للرسول قبل وفاته بأشهر.

و "المغرة بن شعبة" من دهاة العرب وشياطينهم. أسلم قبل عمرة الحديبية. وكان يقال له "مغيرة الرأي". وكان رسول "سعد" إلى "رستم"، أصيبت عينه باليرموك، وروي انه كان أول من وضع ديوان البصرة، واول من سلم عليه بالامرة. وهو الذي كتب كتاب رسول الله إلى أهل نجران. وكتابه ليزيد بن المحجل الحارثي. وكتابه لبني قنان بن ثعلبة من بني الحارث، وكتابه لبني جُوين الطائيين، وكتابه لعامر بن الأسود بن عامر بن جوين الطائي، وكتابه لبني الجُرمز بن ربيعة، ومم من جهينة. وذكر انه والحصيٍن بن نمير كانا يكتبان ما بين الناس.

و "معيقيب" ابن أبي فاطمة، من "ذي أصبح" وقيل من "بني سدوس".

وكان حليفاً لبني عبد شمس. اسلم بمكة. وقد ولاه "عمر" بيت المال، ثم كان على خاتم "عثمان". وورد انه كان حليف بني أسد، وكان يكتب مغانم رسول الله.

وكان "عقبة بن عامر بن عبس" الجهني الصحابي المشهور من الكتاب وصف بأنه "كان قارئاً عالماً بالفرائض والفقه، فصيح اللسان، شاعراً كاتباً، وهو أحد من جمع القرآن". وعثر على مصحفه بمصر على غير تأليف مصحف "عثمان" "وفي أخره: كتبه عقبة بن عامر بيده". ونجد في طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أمر الرسول بكتابته لعوسجة بن حرملة الجهني في آخره: "وكتب عقبة وشهد".

وجاء في خبر ضعيف أنه كان للرسول كاتب يقال له "السجل"، وكاتباً يقال له: "ابن خطل، بكعب قدام النبي، صلى الله عليه وسلم، فكان إذا نزل: غفور رحيم، كتب رحيم غفور، وإذا نزل: سميع عليم، كتب عليم سميع. وفيه: فقال ابن خطل: ما كنت أكتب إلا ما اريد، ثم كفر ولحق بمكة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قتل ابن خطل، فهو في الجنة.فقتل يوم الفتح وهو متعلق بأستار الكعبة". وهذا وهم، وقد خلط صاحب هذا الخبر بين "عبدالله بن أبي سرح" وبين "ابن خطل" الذي لم يرد في الأخبار انه كتب للرسول.

وذكر "ابن دحية" أن في "بني النجار" كاتباً كان يكتب الوحي للرسول ثم تنصر. وهو خبر لا نجده في الموارد الأخرى، ولم ينص على اسم الكاتب، والأغلب في نظري أنه من الأخبار الموضوعة، وضع على بني النجار للإساءة اليهم، وضعه من كان يتحامل عليهم.

ويظهر إن كتّاب الرسول قد وزعوا الأعمال الكتابية فيما بينهم، أو إن الرسول هو الذي وزع تلك الأعمال عليهم، حيث خصص كل واحد منهم بعمل من الأعمال. فقد روي إن علياً وعثمان كانا يكتبان الوحي فإن غابا كتب أبي بن كعب وزبد بن ثابت. وان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية يكتبان بين يديه في حوائجه، وان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان ما بيٍن الناس. وان عبدالله بن الأرقم والعلاء بن عقبة يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء. وان زيد بن ثابت يكتب إلى الملوك مع ما كان يكتبه من الوحي. وإن معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي يكتب مغانم رسول الله. وان حنظلة بن الربيع "ربيعة" بن المدقع بن أخي اكثم بن صيفي الأسدي، "الأسيدي"، خليفة كل كاتب من كتاّب النبي، إذا غاب عن عمله فغلب عليه اسم الكاتب. وكان يضع عنده خاتمه. وقال له: الزمني واذكرني بكل شيء لثالثة. فكان لا يأتي على مال ولا طعام ثلاثة ايام إلا اذكره، فلا يبيت رسول اقه وعنده شيء منه. فهو كاتب عام يكتب للرسول في كل أموره، وهو خليفة كل الكتّاب. ولهذا غلبت عليه لفظة "الكاتب". وقد كانت وفاته في خلافة "عمر"، ومات في "الرها" من بلاد مضر.

وذكر أن "المغيرة بن شعبة" و "الحصين بن نمير" يكتبان ايضاً فيما يعرض من حوائجه.

و "حذيفة بن اليمان " "توفي سنة 36 ه" ممن بكتب خرص النخل. وخصص" المسعودي" عمله بخرص الحجاز.

وذكر "عبدالله بن زيد" الضمري في جملة كتاّب رسول الله إلى الملوك.ونجد في طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أرسله رسول الله "لمن أسلم من حدَسٍ من لخم"، كتبه له "عبدالله بن زيد".

وكان "العلاء بن عقبة" فيمن كتب للنبي. وذكر أن الرسول كان يبعثه والأرقم في دور الأنصار. وكانا يكتبان بين الناس المداينات والعهود والمعاملات. وفي جملة ما كتبه للرسول كتابه لبني شنَخْ من جهينة، وكتابه للعباس بن مرداس السلمي، أنه أعطاه "مدفواً". وذكر أنهما كانا يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء.

و "أُبي بن كعب بن قيس" من كتّاب الوحي، وهو من يثرب من "بني النجار" من "الخزرج". وقد عرف ب "سيد القرّاء"، وكان أقرأ الناس للقرآن. وكان أحد فقهاء الصحابة وأقرأهم لكتاب الله. وكان ممن كتب للنبى قبل "زيد بن ثابت" ومعه أيضاً. وذكر انه كان أول من كتب لرسول الله مقدمه المدينة، وأول من كتب في آخر الكتاب: "وكتب فلان" وكان إذا لم يحضر دعا رسول الله "زيد بن ثابت" فكتب. وكان وزيد يكتبان الوحي بين يدى الرسول، ويكتبان كتبه إلى الناس وما يقطع وغير ذلك. ونجد في طبقات ابن سعد، صور كتب دوّنها أُبي للرسول، منها كتابه لخالد بن ضماد الأزدي، وكتابه لعمرو بن حزم، وهو عهد يعلمه فيه شرائع الإسلام وفرائضه وحدوده، حيث بعثه إلى اليمن، ومنها كتابه لجنادة الأزدي، وكتابه للمنذر ابن ساوى، وكتابه إلى "العلاء بن الحضرمي"، بشأن ارسال ما تجمع عنده من الصدقة والعشور، وكتابه لجماّع في جبل تهامة كانوا قد غصبوا المارة من كنانة والحكم والقارة ومن اتبعهم من العبيد، وكتابه لبارق من الأزد. وقد شهد على صحته أبو عبيدة بن الجرّاح وحذيفة بن اليمان.

وزيد بن ثابت من الأنصار، من "بني النجار". ولما قدم الرسول المدينة استكتبه، فكتب له الوحي، كما تولى له أمر كتابة الرسائل. ذكر أنه تعلم الكتابة على أسرى "بدر" في جماعة من غلمان الأنصار. فقد "كان فداء الأسرى من أهل بدر أربعين أوقية أربعين أوقية، فمن لم يكن عنده علّم عشرة من المسلمين، فكان زيد بن ثابت ممن عُلّم". وذكر أنه جاء إلى أبيه وهو يبكي، فقال ما شأنك ? قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه أبداً.

وروي أنه في السنة الرابعة من الهجرة أمر الرسول زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود، وقال لا آمن أن يبدّلوا كتابي. فتعلم كتابهم، وتولى أمر كتابة رسائل الرسول اليهم، والرد على رسائلهم. ونسب إليه اتقانه الكتابة بلغات أخرى. ذكر المسعودي منها: الفارسية والرومية والقبطية والحبشية. وأنه تعلم ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن، وكان يكتب إلى الملوك ويجيب بحضرة النبى ويترجم له وقيل إنه كان من أعلم الصحابة بالفرائض. وكان هو الذي تولى قسم غنائم اليرموك. وتولى جمع القرآن في أيام أبي بكر، بتكليف من الخليفة. وذكر أنه كان "رأساً بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض". وقد عرض زيد القرآن على رسول الله، "وكان آخر عرض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، القرآن على مصحفه، وهو اقرب المصاحف من مصحفنا".

وكان حين قدم رسول الله المدينة ابن احدى عشرة سنة. وكان يوم "بعاث " ابن ست سنين وفيه قتل ابوه. ويظهر انه كان قد تعلم الكتابة وهو صغير. ذكر انه أتي بزيد النبي مقدمه المدينة، فقيل هذا من بني النجار وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأ عليه فأعجبه ذلك، فقال: تعلم كتاب يهود، فإني ما آمنهم على كتابي. فتعلمها، وتولى الكتابة بالعبرانية أو السريانية بين الرسول واليهود، فضلاً عن كتابة رسائله وما ينزل عليه من الوحي حين يكّون عنده لذلك عدّ من البارزين في قراءة القرآن. وبرز في القضاء والفتوى والفرائض،وعدّ من اصحاب الفتوى، وهم ستة: عمر وعليّ وابن مسعود وأُبي وأبو موسى، وزيد بن ثابت، وهو الذي جمع القرآن.

وهو الذي جمع القرآن في عهد "ابي بكر"، وقد اختلفت في سنة وفاته، فقيل مات سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وأربعين، وقيل سنة احدى أو اثنتين، أو خمس وخمسين. وفي خمس وأربعين قول الأكثر، وذكر ان حسان رثاه بقوله: فمن للقوافي بعد حسان وابنـه  ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت 

وعهد رسول الله إلى "زيد" احصاء الناس والغنائم، وتقسيمها عليهم حسب حصصهم.

وكان "ثابت بن قيس بن شماس" الأنصاري ممن كتب للرسول. كتب له كتابه لوفد ثُمالة والحدّان. وقد شهد على الكتاب ووقع عليه "سعد بن عبادة"، و "محمد بن مسلمة". وكان خطيب الأنصار. وقد قتل يوم اليمامة". وهو الذي أمره الرسول أن يجيب على خطاب خطيب. "تميم" ولسانها الناطق "عُطارد ابن حاجب". فكان خطيب المسلمين.

و "محمد بن مسلمة"، هو من الأوس. ولد قبل البعثة، وهو أول من سُمّي في الجاهلية محمداً. أسلم قديماً على يدي "مصعب بن عمير"، وآخي الرسول بينه وبين "أبي عبيدة". واستخلفه الرسول على المدينة في بعض غزواته. وقد كتب للرسول كتابه لمهري بن الأبيض. توفي سنة "43" أو "46".

وكان "أوس بن خولي" من كتاب يثرب، ولما كان صلح "الحديبية " وأراد الرسول تدوين الصلح "دعا أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل: لا يكتب إلا ابن عمك عليّ، أو عثمان بن عفان، فامر علياً فكتب". وهو من الخزرج. ولما الرسول بين الأنصار والمهاجرين آخى بينه وبين شجاع بن وهب. وكان من "الكملة"، ولما قبض الرسول وأرادوا غسله، حضرت الأنصار، وابت على المهاجرين إلا أن يحضر منها أحد، فقيل لهم: اجتمعوا على رجل منكم، فاجتمعوا على أوس بن خولي، فحضر غسل رسول الله ودفنه مع أهل بيته. وتوفي في خلافة عثمان.

وكان "عبد الله بن رواحة" الخزرجي من كتاّب الرسول ومن الشعراء المعروفين بيثرب ومن السابقين الأولين من الأنصار وأحد النقباء ليلة العقبة. وكان الرسول يقول له: "عليك بالمشركين"، فينظم الشعر فيهم. وكان يناقض "قيس بن الخطيم" في حروبهم، ولما دخل الرسول مكة في عمرة القضاء كان ابن رواحة بين يديه، وهو يقول: خلّوا بني الكفار عن سبيله  اليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله  ويذهل الخليل عن خليلـه

ومدح الرسول، وكان من جيد مدحه له قوله: لو لم تكن فيه آيات مبينة  كانت بديهته تنبيك بالخبر 

وذكر بعض أهل الأخبار أنه لما نزلت: "والشعراء يتبعهم الغاوون. قال عبدالله بن رواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات". وسورة الشعراء التي فيها آية: )والشعراء يتبعهم الغاوون( وما بعدها، من السور التي نزلت بمكة إلا هذه الآية وما بعدها، وهي أربع آيات في آخرها، نزلت بالمدينة في شعراء الجاهلية، ثم استثنى منهم شعراء المسلمين منهم: حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة، فقال تعالى: )إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً، وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(، فصار الاستثناء ناسخاً له من قوله والشعراء يتبعهم الغاوون.

وهناك كتبة آخرون كتبوا الكتاب والكتابين والثلاثة للرسول، ذكر "المسعودي " أنه لم يثبت اسماءهم في جملة أسماء من كتب للرسول لأنه لم يكتب من أسماء كتاب الرسول إلا من ثبت على كتابته واتصلت أيامه فيها وطالت مدته وصحت الرواية على ذلك من أمره دون من كتب الكتاب والكتابين والثلاثة إذ كان لا يستحق بذلك أن يسمى كاتباً ويضاف إلى جملة كتابه.

وذكر إن كتاب النبي كانوا يكتبون بالخط المقور، وهو النسخي. أما الخط "المبسوط" ويسمى باليابس، فقد استعمل في النقش على الأحجار وأبواب المساجد وجدران المباني، وفي كتابة المصاحف الكبيرة، وما يقصد به الزينة والزخرف، وغلب علبه اطلاق لفظ "الكوفي".

وكان بشير بن كعب العدوي ممن قرأ الكتب. وذكر انه كان من التابعين. وكان "عبدالله بن عمرو بن العاص" ممن قرأ الكتب، وكان يكتب الحديث بين يدي رسول الله، ويقرأ بالسريانية.

وذكر أهل الأخبار إن رجلاً من أهل اليمن كان يقرأ الكتب، وان امرأة اسمها "فاطمة بنت مرّ"، كانت قد قرأت الكتب كذلك.

وكان من النساء من يحسن القراءة والكتابة. منهن: "الشفاّء بنت عبدالله بن عبد شمس" القرشية العدوية. من رهط "عمر". أسلمت قبل الهجرة، وهي من المهاجرات الأول. وكانت من عقلاء النساء، وكان "عمر" يقدمها في الرأي. وكان رسول الله يزورها ويقيلّ عندها في بيتهّا، وكانت قد اتخذت له فراشاً وإزاراً ينام فيه، وقد أمرها الرسول أن تعلم "حفصة" الكتابة، فعلمتها، كما علمتها "رقية" تسمى "رقية النملة". وقد تعلمت الكتابة في الجاهلية.

وكانت "حفصة" زوج النبي وابنة "عمر" تكتب. وكانت "ام كلثوم " بنت "عقبة" تكتب. وكذلك كانت "عائشة بنت سعد"، و "كريمة بنت المقداد"، و "شميلة".

وورد إن "عائشة" زوج الرسول، انها كانت تقرأ المصحف ولا تكتب. ولا شك في انهما تعلمتا القراءة في الإسلام.

وورد في بعض الأخبار أن العرب كانت تسمي كل من قرأ الكتب او كتب: صابئاً. وكانت قريش تسمي النبي ايام كان يدعو الناس بمكة ويتلو القرآن صابئاً.

وقد اشتهر أهل اليمن بشيوع الكتابة والقراءة فيهم، فكان غلمانهم يتعلمونها ويرددون قراءة ما يكتبون ويقرأون وقد أشير إلى ذلك في شعر "لبيد" فورد: فنعاف صارة فالقنان كأنها=زبر يرجعها وليد يمان متعود لحنٌ يعيد بـكـفـه  قلماً على عسب، ذبلن وبان 

والزبر: الكتب، فقال: كأن تلك المنازل كتب يرددها وليد يمان، أي غلام يمان، لأن الكتاب فيهم، لأنهم اهل ريف. متعود لذلك: فهِمٌ، ولحِنُّ: بمعنى فهم، يعيد بكفه قلماً، يكتب في العسب والبان. وكانوا يكتبون في العسب والبان والعرعر. فيظهر من ذلك أن أهل اليمن، حتى غلمانهم، كانوا يكتبون، ويردد الأطفال الكتب، لحفظها ولتعلمها، على نحو ما يفعلون في الكتاتيب هذا اليوم.

ويظهر أن ثقيفاً كانت قد حذقت الكتابة وبرزت بها. فقد ورد أن عمر بن الخطاب قال: "لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"، وأن عثمان بن عفان قال: "اجعلوا المملي من هذيل والكاتب من ثقيف". وذكر أن "غيلان بن سلمة بن معتب"، و هو ممن أسلم يوم الطائف، كان كاتباً كما كان معلماً.

وورد في الأخبار أن الجاهليين كانوا يضعون الكتب التي ترسل إلى الملوك من الافاق، على لوح ضمت إليه ألواح من جوانبه، فلا يمسها إلا يد الملك، يأخذ ما يشاء ويترك ما يشاء ويجيب على ما فيها. وفي هذا الخبر دلالة على شيوع الكتابة والمراسلات عند الجاهليين، وعلى وجود ديوان خاص لدى الملوك، يتولى، النظر في المراسلات. وفي هذا المعنى ورد في شعر لبيد: أو مذهبٌ جدد علـى ألـواح  هن الناطق المبروز والمختوم 

ويظهر إن قوماً من الشعراء كانوا يكتبون و يقرأون. و منهم من كان على ثقافة و علم. ورد في شعر للشاعر "لبيد" قوله: رجلا السيولُ عن الطلول كأنها  زُبر تجدّ متونها أقـلامـهـا

و لا يمكن صدور هذا البيت، إلا من رجل كاتب له ذكاء حاد، و ربما كان ذلك الشاعر كاتباً يدون شعره و يحفظه عنده، فوصفه مثل هذا للطول، لا يمكن أن يقال إلا من رجلٍ له علم بالكتابة، و حذق و دراية.

و في البيت الآتي: فمدافع الريّان عُرّي رسمهـا  خلقاً كما ضمن الوحي سِلامها 

أشار إلى الكتابة كذلك، فالوحي هو الكتابة، و السِّلام الحجارة، أي كان ما بقي من رسمها بعد أن عربت، مثل ما يبقى من الكتابة في الأحجار.ويؤخذ من ذلك إن الحجارة كانت- كما ذكرت في مواضع من هذا الكتاب - مادة من مواد الكتابة عند الجاهليين.

وفي شعر لبيد: فنعاف صارةَ فالقنان كأنها  زُبر يرجعها ولـيد يمـان

مُتعود لحنٌ يعيد بـكـفّـه  قلماً على عُسب، ذبلن وبان 

دلالة واضحة على إلمامه بالكتابة والقراءة، وعلى وقوفه على خط أهل اليمن، وعلى دراسة غلمان اليمن للزبر، وهي الكتب.

بل ورد: إن لبيداً كان يدون شعره، ويهذبه بعد كتابته، وانه كان يكتب. روي: "إن عمر بعث إلى المغيرة بن شعبة، وهو على الكوفة، يطلب إليه أن يستنشد من قبله من شعراء الكوفة ما قالوه في الإسلام. فأجابه الأغلب، وردّ عليه لبيد قائلا: إن شئت ما عفى عنه - يعني الجاهلية - فقال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق، فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها، وقال: أبدلني اللهُ هذه في الإسلام مكان الشعر. فكتب المغيرة بذلك إلى عمر، فنقص عطاء الأغلب خمس مئة، وجعلها في عطاء لببد".

وكان الشاعر "المرقش"، وهو من شعراء الحيرة، كاتباً قارئاً، تعلم الكتابة والقراءة في "الحيرة" مع أخيه "حرملة" عند رجل من أهل الحيرة. وكذلك كان الشاعر "لقيط بن يعمر الإيادي" كاتباً قارئاً، وقد عرف بين أهل الأخبار ب "صحيفته" التي أرسلها إلى قومه "إياد"، ينذرهم فيها بعزم "كسرى" على غزوهم، وهي قصيدة افتتحت بهْذا البيت: سلام في الصحيفة من لقيط  إلى من بالجزيرة من إياد

ويجب ألا ننسى الشاعر: "أمية بن ابي الصلت"الذي لم يكن كاتباً قارئاً حسب، بل كان واقفاً على كتب أهل الكتاب كذلك، وكان يقرأها، ويقتبس منها، وقد استخدم في شعره ألفاظاً ذكر انه أخذها من كتب أهل الكتاب.

ونضيف إلى من تقدم: "الزبرقان بن بدر"، و "النابغة الذبياني " و "الربيع بن زياد العبسي"، و "لبيد بن ربيعة العامري"، و "كعب ابن زهير بن أبي سلمى".

ودعوى إن الجاهليين كانوا أميين وعلى الفطرة والبديهة، لا يحسنون كتابة وقراءة خلا نفر بمكة وأشخاص بيثرب، دعوى باردة سخيفة، لا يمكن لمن له إلمام بأحوال الجاهلية أن يصدق بها. فأهل الأخبار الذين يروون هذه الرواية، يعودون فيخطئون أنفسهم، بسرد أسماء رجال من جزيرة العرب ومن العراق وبلاد الشام، ذكروا انهم كانوا يقرأون ويكتبون، بل ذكروا أكثر من ذلك، ذكروا إن منهم من كان يقرأ العبرانية أو السريانية، كالأحناف، ثم انهم يذكرون أخبار مراسلات سادات القبائل في مختلف مواضع جزيرة العرب مع الرسول، ومكاتبة مسيلمة مع النبى وتأليفه كتاباً زعم انه وحىِ نزل عليه من السماء مثل ما نزل على الرسول، فهل يعقل بعد ذلك، قول قائل إن العرب كانوا أميين، خلا نفر. وقد رأينا انهم تركوا آلاف الكتابات باللهجات العربية الجنوبية وبالثمودية والحيانية والصفوبة، بل قد نجد الكتابة في بعض قبائل الجاهلية مثل قبائل الصفاة، اكثر اتساعاً وانتشاراً مما عليه الحال بين قبائل هذا اليوم.

وبعد، فالأمية الجماعية التي فرضها أهل الأخبار على الجاهليين، فجعلوهم اميين مائة بالمائة، لم تكن امية صحيحة، وإنما جاءت من وهم في فهم المراد من المواضع التي اشرت إليها من القرآن، بدليل مناقضة أهل الأخبار أنفسهم، بذكر أسماء من ذكرناهم وممن لم نذكرهم ممن كان يقرأ ويكتب بهذا القلم العربي الذي دوّن به القرآن. وبدليل ما أوردته من أقوال المفسرين في الأمية، من أنها الوثنية، لا الأمية بمعنى الجهل بالكتابة والقراءة حتماً، لعدم انسجام هذا المعنى مع تفسير الآيات، ثم إن القرآن الكريم حين تعرض للأمية، بمعنى عدم القراءة والكتابة، قال: )وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به، ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون. وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لأرتاب المبطلون(. فعبر بذلك تعبيراً مبيناً عن معنى عدم القرإءة و الكتابة، بأفصح عبارة، فقال: "وما كنت تتلو من قبله من كتاب، لا تخطه بيمينك"، ولو كانت الأمية بهذا المعنى لما أهمل ذكرها في هذا المكان. ومن ذلك الوهم جاءت الأحاديث الضعيفة من أنه كلن من أمة أمية لا تحسب ولا تكتب، ولعاطفة دينية، شددوا في أمية العرب، فحِعلوها جميعاً اميين، لاظهار معجزة للرسول - هو في غنى عنها- في انه ظهر بالنبوة في امة أمية، وجاء من الله باًحسن بيان، وهي حجة له على أهل الكتاب والمشركين.

وبعد، فقد فهمنا من روايات أهل الأخبار، إن أهل مكة انما تعلموا الكتابة في عهد غير بعيد عن الإسلام. فهل يعني هذا انهم لم يكونوا يحسنون الكتابة والقراءة قبل هذا العهد ابداً? والذي اراه ان ذلك شيء غير معقول، وان أهل مكة كانوا يكتبون ويقرأون، كانوا يكتبون بالمسند، القلم الذي كتب به أكثر أهل جزيرة العرب قبل الإسلام، بدليل ما نقرأه في كتب أهل الأخبار من زعمهم ان أهل مكة كانوا يجدون بين الحين والحين كتابات مدونة بالمسند في مقبرة مكة القديمة وفي مواضع أخرى منها، وفي عثور الناس على هذه الكتابات دلالة على أن سكان مكة كانوا يكتبون بالمسند أو بأقلام مشتقة منه، ولا يعقل عدم استعمال أهل الحجاز لهذا القلم، وقد وجدنا انه والأقلام المشتقة منه، قد كونت قلم اهل هذه البلاد قبل الإسلام، والظاهر انهم وجدوا إن القلم الذي كان يكتب به النبط وبقية العرب، مثل عرب الحيرة، كان أسهل استعمالاً ومرونة من القلم المسند البطيء الحركة، وانه لا يأخذ حجماً كبيراً بالقياس إلى الخط العربي الجنويي، لذلك فضلوه على هذا القلم، واستعملوه عوضاً عنه، دون أن يجروا عليه تحويراً أو تغييراً، لاصلاح ما فيه من خلل، فلما جاء الإسلام، أجرى عليه ما أجرى من تحوير وتغيير وتطوير.

الفصل الحادي والعشرون بعد المئة
الخط العربي

للعلماء الذين اشتغلوا في موضوع نشوء الخط عند البشر، والقلم الأول الذي تفرعت منه سائر الأقلام، نظريات في تأريخ الكتابة وظهورها، وفي المراحل التي مّرّت عليها من أول عهد مرت فيه وهو عهد الكتابة الصورية Pictography إلى وصولها إلى مرحلة الحروف. وهذه النظريات مع أنها مرت بمناقشات وبحوث وتحددت حتى أصبحت معروفة عند علماء الخطوط، لم تستقر حتى الآن. لأن ما وصل الينا من نماذج كتابية أثرية، لا يكفي لابداء رأي مقبول أو رأي قاطع في أصل الخط وفي منشئه وفي الأمة التي أوجدته. ولا أعتقد أن في امكان أحد القطع في ذلك، ما لم يعثرالمنقبون في المستقبل على نماذج عادية غير معروفة، تكون كافية لإبداء رأي علمي فيَ هذا الموضوع.

واختراع الكتابة من الاختراعات الكبرى التي غيرت مجرى البشر،وهو اختراع لا تقل أهميته عن أعظم الاختراعات والاكتشافات والمغامرات التي قام بها الإنسان منذ يومه الأول حتى هذا اليوم. ومنها هروب الإنسان من أحضان أمه الأرض، وعقوقه بحقها، والتبطر بها، وذهابه إلى القمر ثم إلى ما وراء القمر من عوالم سابحة راقصة في هذا الذي نسميه السماء. ونحن لا نحفل اليوم بموضوع أهمية اختراع الكَتابة، بالنسبة إلى تقدم العقل البشري، ولا يعرف معظم الناس عنه أي شيء، ولا يحفلون به، لأنه صار من القديم البائد. كل قديم بائد يكتب عليه النسيان. وسيأتي يوم ولا شك ينسى فيه الجاءون من بعدنا بمئات وبآلاف من السنين، يوم هروب الإنسان من الأرض، ولا ينظرون إليه إلا كما ينظر الإنسان الأمي الجاهل إلى مبدأ الكتابة أو إلى اختراع النار أو اختراع الطباعة أو غير ذلك من المخترعات التي إذا مضى وقت طويل على اختراعها نسيتها ذاكرة البشر، ونسيت كل أثر تركته في تطور حياة هذا الإنسان المغامر المغرم بالبحث عن المجهول.

ولعلي لا أخطأ إذا قلت إن الإنسان قد فكر في الكتابة منذ أيامه الأولى أي منذ شعر بنفسه، وصار يُعبر عما في ذاته، فكر بها لأنه كان في حاجة إلى تسجيل أعماله ومعاملاته وكلامه، ليتمكن من تذكرها عند الحاجة والى مراجعتها. كما فكر في تسجيل حوادثه وشعوره وتأثره بالمرثيات الجميلة أو المحزنة،وبالخواطر التي كانت تمر عليه، وبكل إحساسه وعواطفه. وكان كلما تقدم عقله وتوسعت مداركه شعر بحاجته إلى تدوين أعماله وأحاسيسه، فعمد إلى الطرق البدائية في التدوين، ثم طوّرها تدريجياً حتى وصل إلى مرتبة الكتابة الصورية، أي أنه استخدم الصور في مقام الألفاظ. بأن يرسم صورة، فإذا رآها أحد عرفها وسماها باسمها.وعرفت هذه الطريقة بالكتابة الصورية. غير أن هذه الطريقة وإن عبرت بعض التعبير عن مشاعر الكاتب، إلا أنها كانت عاجزة عن التعبير عن الأمور الروحية وعن الألفاظ المعنوية، وعن الأمور الحسابية، وغير ذلك. لذلك لم يقنع بها بل أخذ يشحذ ذهنه لإيجاد طريقة أخرى مختصرة وبسيطة ولها قابلية على رسم المعاني والاحساس، فأوجد من الكتابة الصورية، اختزالاً نسميه: الكتابة المقطعية. أي انه اختزل الصور، وجزأها إلى مقاطع. وأخذ منها مقاطعها الأولى. فسماها بأسمائها الأصلية. فوصل بذلك إلى مرحلة المقاطع. وتمكن بسليقته وبذكائه من تحليل الأسماء والألفاظ التي يراد تدوينها إلى مقاطع، وتدوين أي كلمة بمقاطعها التي تتألف منها. وقد سهلت هذه المرحلة عليه كتابة الكلمات التي تعبر عن الآراء ومن تسجيل جمل وصفحات فيها الفاظ مادية محسوسة وألفاظ ليست بمسميات لأشياء مادية وإنما هي تعبير عن معان وإحساس. مثل موت وحياة ورأي وما شاكل ذلك. إلا أنه وجد أن هذه الطريقة لا تزال طريقة صعبة عسيرة، وأن على الإنسان أن يحفظ صور مئات من العلامات التي تعبر عن المقاطع لتدوين رسالة. لذلك فكر في اختزالها أيضاً وفي غربلتها وجزم المقاطع للوصول إلى الجذور الأساسية للالفاظ وقد نجح في عمله هذا فتوصل إلى إيجاد الحروف. فبلغ بذلك النهاية.

وهي المرحلة الحقيقية للكتابة. وبذلك استطاع أن يدوّن كل ما يدور بخلده من آراء بحروف، يضعها بعضها إلى بعض ليولد منها الألفاظ التي تدوّن بعضها إلى بعض لتعبر عما يريد الكاتب تدوينه.

وما ذكرته يمثل مجمل رأي العلماء في تطور الكتابة من الرموز والعلامات البدائية إلى بلوغها مرحلة الكمال والتمام. وقد أخذوا رأيهم هذا من الصور والنقوش التي عثر عليها في الكهوف وعلى الصخور وفي المقابر في مختلف أنحاء العالم. ولكن رأيهم هذا يتشعب ويتضارب عندما يتعرض للأصل الذي أوجد الحروف، والمكان الذي صار له شرف ايجاد الكتابة، وحل المشكلة المستعصية التي دوخت الإنسان، مشكلة تدوين ما يدور بخلده بيسر وسهولة. فذهب بعض الباحثين إلى إن الكتابة انما ظهرت في العراق، وذهب بعض اخر إلى انها ظهرت في لبنان، وذهب بعض إلى انها من نبت أرض النيل، وذهب آخرون إلى انها من ثمرات جزيرة "كريت". ولكل رأي ودليل وحجة تقوم على دراسة الكتابات والنصوص التي عثر عليها في تلك الأرضين.

والذين يرون إن العراق هو وطن الكتابة الأول، يرون إن الخط انما ظهر   

بتأثير عبادة النجوم، و ذلك في أرض "كلديا"، وكان الكهنة قد وضعوا رموزاً للنجوم، ومن تلك الرموز أخذت الأبجدية الأولى، وتفرعت الألفباء السامية الغربية التي صارت أُماً لمجموعة من الأبجديات، ومن قائلي هذه النظرية والمدافعين عنها المستشرق "هومل".

وهناك طائفة من العلماء رأت إن الأبجدية الأولى هي وليدة أرض النيل. وأن الذين أوجدوا الأبجدية انما أخذوها منها. وكان المصريون قد استعملوا في بادىء أمرهم الكتابة الصورية، ثم اختزلوها وأولدوا منها "الكتابة الهيروغليفية". وهي كتابة متطورة مقدمة بالنسبة إلى الكتابة الصورية. وقد صارت هذه الكتابة أماً لأقدم الكتابات. إذ تعلمها أهل "سيناء" وأهل بلاد الشام، ثم اختزلوها وجزموها، حتى أوجدوا من هذا الجزم الحروف الهجائية.

وعثر المنقبون في طور سيناء في "سرابيط الخادم" على كتابة قديمة يعود عهدها الى سنة "1850" قبل الميلاد، دفعت بعض العلماء مثل "مارتن اشبرنكلنك" على القول بأن هذه الكتابة هي وليدة الكتابة الهيروغليفية، وانها الحلقة المفقودة التي توصل بين الهيروغليفية وبين مرحلة الحروف. وذهب إلى إن العمال الذين كانوا يشتغلون في مناجم طور سيناء انما اهتدوا إلى التدوين بالحروف من معرفتهم للهيروغليفية. إذ اختزلوا المقاطع، وأخذوا بالجزء الأول من كل مقطع وسمّوا ذلك الجزء باسم من أسماء الصور بلغتهم، فتكونت عندهم مجموعة من الحروف كونت الأبجدية الطور سينائيهّ، بلغ عددها اثنين وعشرين حرفاً، أصبحت نموذجاً للابجديات الأخرى التي اعتمدت عليها.

وقد انتشرت هذه الأبجدية من "طور سيناء" إلى الشرق فوصلت إلى الشام وجزيرة العرب، وصارت أصل الأبجديات في هذه الأماكن غير انها لم تستعمل في العراق، حيث كانت الكتابة المسمارية، ولا في مصر، حيث كانت الكتابة "الهيروغليفية". وقد تغيرت أشكالها باستعمالها الطويل، وتحرفت بمرور الزمن، وتبدلت الأسماء التي وضعها كتاب طور سيناء لحروفهم، كما تبدلت من حيث الترتيب وبذلك تولدت منها اقلام جديدة.

ورأى بعض العلماء إن الخط الكنعاني الذي هو من الخطوط القديمة، قد اشتق من الخط الهيروغليفي، لوجود شبه بين الحروف الكنعانية وبعض الصور الهيروغليفية. ورأى بعض آخر انه مشتق من الكتابة المسمارية. ورأى آخرون انه اشتق من الأبجدية "الطورسينائية"، إذ يصعب تصور اشتقاق الخط الكنعاني من الهيروغليفية رأساً لبعد ما بين الكتابتين،وإن كان هناك شبه بين بعض الحروف الكنعانية والصور الهيروغليفية. ومن الخط الكنعاني تولدت بعض الأقلام السامية المتأخرة.

وذهب باحثون إلى أن الفينيقيين هم أول من اخترعوا الأبجدية، ومن هذه الأبجدية الفينيقية تولدت الأبجديات الأخرى، وذهب قسم منهم إلى أن الفينيقيين، إنما أخذوا أبجديتهم هذه من الهيروغليفية، بأن شذَّبوها وجزموا مقاطعها، وأولدوا منها الحروف. ونظراً إلى وجود هوة كبيرة بين الكتابة الفينيقية وبين الهيروغليفية، رأى بعض الباحثين، أن الفينيقيين، إنما أخذوا خطهم من الخط الطورسينائي، ثم طوروه وحسنَّوه وأوجدوا منه خطهم الذي أولد جملة خطوط.

وطائفة أخرى من العلماء، رأت أن وطن "الألفباء" الأول هو جزيرة قبرس أو جزيرة كريت، حيث عثر فيهما على نماذج قديمة للكتابة اتخذوها حجة يستند إليها في هذا الرأي. وقد زعم أصحاب هذه النظرية أن أهل ساحل البحر الأبيض إنما تعلموا الكتابة من أهل "كريت" أو "قبرس". وذلك باحتكاكهم بهم، وبهجرة الفلسطينيين Philistines، من جزيرة "كريت" إلى سواحل فلسطين التي عرفت باسمهم "فلسطية" Philistia، ثم أطلقت على المنطقة التي قيل لها فلسطين كلها. ومن الفلسطينيين أخذ الفينيقيون الأبجدية.

وقد عثر الباحثون على عدد من الكتابات القديمة في جزيرة "كريت"، تبين من دراسة بعض منها أنها مكتوبة على طريقة الكتابة الهيروغليفية ويرجع عهدها إلى ما بين "2000" إلى "1600" قبل الميلاد. كما عثروا على كتابة صورية يعود عهدها إلى حوالى السنة "700 ا" قبل الميلاد. وعثروا على كتابات أخرى حملتهم على القول بأن "كريت" كانت الموطن الأول للكتابة، ومنها انتقلت الكتابة إلى مواضع أخرى من البحر الأبيض. كما بينت ذلك في الفقرة السابقة.

وقد عثر المستشرق "كلود شيفر" M.. Claude Schaeffer، المعروف بتنقيبه عن النصوص "اليغاريتية" Ugarit في شهر "نوفمبر" من عام 1949 م على آجرة صغيرة من الصلصال المفخور بالنار حجمها "5" سنتيمترات في 15 ملمتراً في موضع "رأس الشمرة" الواقع على مسافة عشرة أميال من شمال اللأذقية، ظهرأنها على صغرها وتفاهتها البادية عليها من أهم ما عثر عليه من نصوص. فهذه الآجرة الصغيرة التي لا تلفت اليها الأنظار هي لوح في غاية من الأهمية كَتبت عليه الأبجدية "اليغاريتية"المؤلفهّ من ثلاثين حرفاً، وهي على الرغم من صغر حروفها مكتوبة كتابة واضحة بخط قوي جلي. وقد كان العلماء يبحثون عن هذه الأبجدية بكل شوق، والظاهر إن أحد الطلاب كتبها على هذا اللوح، ويرجع عهده إلى القرن الرابع قبل الميلاد.

وهذه الأبجدية "اليغاريتية" مكتوبة كتابة اسفينية، ولذلك رأى بعض الذين بحثوا في "اليغاريتية" انها وليدة الكتابة المسمارية. ورأى بعض آخر انها متأثرة بالهيروغليفية من حيث تكوين الحروف الصامتة، وأما من ناحية الرسم، فإنها متأثرة بالكتابة المسمارية. وتتألف من ثلاثين حرفاً، فهي تتضمن جميع الحروف في الأبجديات السامية الشمالية الغربية المكونة من اثنين وعشرين حرفاً صامتاً. ونجد انها أوردت هذه الحروف على ترتيب الأبجدية الإرمية والعبرانية، خلا انها وضعت خمسة أحرف أخرى لم ترد في العبرانية بين هذه المجموعة، فتكوَّن منها سبعة وعشرون حرفاً تضاهي الأبجدية الكنعانية، ثم أضاف إليها كتبة "اليغاريتية" أحرفاً أخرى، فأصبح مجموف الحروف ثلاثين حرفاً تألفت منها الأبجدية "اليغاريتية".

نرى مما تقدم إن آراء علماء الخط تكاد تتفق على إن مخترعي الأبجديات هم أناس يجب أن يكونوا من أهل الشرق الأدنى أو من حوض البحر الأبيض، من أهل جزيرة "كريت" أو "قبرس". وآراؤهم هذه هي بالنسبة إلى الأقلام المشهورة التي لا تزال مستعملة وحية معروفة مثل الخطوط المستعملة في اوروبة، وفي اميركا، ومثل الخط العربي والعبراني والسرياني وبالنسبة إلى أفلام أخرى ماتت، غير إن العلماء المتخصصين يعرفون عنها شيئاً ويقرأون نصوصها مثل الكتابات المسمارية وأمثالها. إلا إن هناك أقلاماً هي قديمة أيضاً، ولها اهمية كبيرة، ونصوص وكتابات، لذلك يجب البحث عنها، لمعرفة تأريخها ودرجة صلتها بالأقلام التي نتحدث عنها. للوقوف على البواعث التي دفعت أصحابها على ايجادها والمراحل التي مرّت بها. فليس من الصواب إهمال تلك الأقلام وغض النظر عنها باعتبار انها أقلام بعيدة عن أقلامنا، وهي تمثل ثقافة بعيدة عن ثقافتنا.

كذلك يجب البحث عن الرسوم والرموز والإشارات التي سجلها الإنسان البدائي للتعبير عن نفسه ولتخليد ما كان يدور بخلده. ومقارنة ذلك مع أمثاله في كل أنحاء العالم، فإذا فعلنا ذلك وجمعنا كل الأقلام القديمة مثل أقلام الصين والهند وبقية أقلام اقطار آسية وأقلام إفريقية واميركا، ودرسناها دراسة علمية. صار في إمكاننا تكوين رأي عام علمي تقريبي عن تأريخ ظهور الخط عند البشر: متى كان ذلك وأقدم من بدا به، مع بذل الجهد للبحث عن نماذج جديدة من الخطوط في كل مكان من العالم لنزيد بها على علمنا المتجمع من الكتابات التي وصلت الينا ولا نضيف عليه علماً جديداً وليكون حكماً قريباً من المنطق والعلم.

والرأي عندي أنه لأجل الإحاطة بتأريخ تطور الخط، لا بد من الاستمرار في البحث عن كتابات أخرى جديدة ومن دراسة مظاهر أشكال الحروف وكيفية ترتيبها وكيفية النطق بها، أي الإحاطة بأسماء الحروف. فإن هذه الأمور تساعدنا كثيراً على فهم تطور الخط عند البشر وعن صلته بعضه ببعض ومن التوصل إلى نتائج علمية قويمة، لا تقاس بالنتائج التي تبنى على مجرد الظن والتخمين والتصور.

والذي نلاحظه اليوم أن حروف الخطوط السامية المستعملة عند الغربيين، تكاد تتفق في أسمائها وفي ترتيبها، ويثير هذا التشابه إلى وحدة الأصل، والى أن الأبجديات المذكورة قد تفرعت كلها من شجرة واحدة، ونبعت من منبع واحد. فكلها تبتدئ بحرف واحد، هو "الألف" وكلها تجعل الباء حرفاً ثانياً، ثم إن في وحدة تسمياتها مع اختلاف اللغات التي تدوّن بها دليلاً كافياً على إثبات أن هذه الأبجديات هي من أصل واحد. وعلى أن الأسماء الحروف علاقة وثيقة بالصور وبالكتابة الصورية للغة الأم التي اخترعت تلك الحروف وأوجدتها من مرحلة المقاطع. وإذا ثبتتا أسماء الحروف، وعرفنا من أين أخذت، وإذا استطعنا العثور على أقدم نص للأبجدية، يكون في إمكاننا ابداء رأي علمي في منشأ الحروف وفي المكان الذي كان له شرف إيجادها، أو الأماكن التي ساهمت بصور مستقلة في إيجاد الحروف. وهذا ما أراه. لأني أعتقد أن الإنسان فكّر في أول ما فكر به في إيجاد وسيلة يسجل بها أعماله وأفكاره، وان تفكيره هذا لم ينحصر في بقعة واحدة، بل وجد في كل مكان. حتى في البيئات البدائية، إذ نجد الشعوب البدائية تتخذ وسائل للتعبير عن آرائها وعن تدوين أفكارها بطرق تتفق مع مستواها العقلي ودرجتها في الثقافة.

والحرف الأول، وهو الألف، يعني "ثوراً"، ولذلك مثل في الهيروغليفية وفي كتابة طور سيناء بشكل رأس ثور، وأما الحرف الثاني، وهو الباء أو Beth، فإنه يعني "بيتاً"، وقد صور في الهيروغليفية وفي كتابة طور سيناء بشكل يصور مقدمة بيت. وأما الحرف الثالث، وهو الجيم، فإنه "كمل" "كيمل"، أي الجمل، وصورته لا ترمز إلى الجمل رمزاً تاماً. وأما حرف الدال، فيقال "دالت"، ومعناه باب. وأما حرف الهاء، فإنه من He "هى" بمعنى شباك. وأما الواو، فهو يشير إلى وتد. وأما الزاي، فإنه من زين بمعنى سلاح. وأما الحاء، فإنه من "حيث" بمعنى حائط، وأما الياء، فإنه من "يود" بمعنى يد أو يد مفتوحة. واخذ حرف الكاف من "كاف" "كف" بمعنى كف اليد، أو يد مقبوضة. وأما حرف اللام، فإنه من "لمد" "لامد"، ومعناه عصا لضرب الثور. وأما الميم، فإنه من "ميم" بمعنى ماء. وأما النون، فإنه من نون بمعنى سمكة. وأما حرف السين فهو سامخ، بمعنى آلة يعتمد عليها كالعصا. وقد أخذ حرف العين من عين، عين الإنسان. وأخذ الفاء من فم "بم" Pe بمعنى فم، وأخذ حرف لصاد من "صادى"، بمعنى صياد. وحرف القاف من قوف Kof بمعنى الرأس إلى الخلف، وحرف الراء، من ريش بمعنى رأس، وحرف الشين من "شين"، شن" بمعنى سن. وأما التاء، فمن كلمة "تاو" "تو" بمعنى علامة أو صليب، وهكذا.

ولمسألة ترتيب الحروف اهمية كبيرة لا تقل عن اهمية أسماء الحروف. ويظهر إن ترتيب " أبجد هوز حطي..، الخ"، وهو ترتيب سار عليه العرب أيضاً، هو ترتيب قديم، وقد عرف عند السريان وعند النبط والعبرانيين،وعند "بني إرم" ويظن انهم أخذوه من الفينيقيين. وقد سار عليه الكنعانيون أيضاً، غير انهم زادوا عليه الأحرف التي اقتضى وجودها في طبيعة لغتهم. وقد وضع علماء العربية بعد "قرشت" التي يمثل حرف التاء فيها آخر حروف الأبجدية الحروف التي لم ترد في ترتيب "ابجد هوز"، وهي موجودة في العربية ويقال لها "الروادف".

أما الترتيب السائر اليوم في كتابة الحروف العربية مبتدئين بالألف ومنتهين بالياء، فهو ترتيب اسلامي، وقد وضع على ما يخيل إلي لتيسير حفظ أشكال الحروف للطلاب، لأنه راعى الجمع بين الحروف المتشابهة، ولم يتجنب مع ذلك الترتيب الأصل المراعى في نظام "أبجد هوز" تجنباً تاماً. وضعه "نصر بن عاصم" في ايام الحجاج.

ومن الفينيقيين الذين كانوا يقطعون البحار والبراري للاتجار مع مختلف الشعوب، انتشرت الكتابة بالحروف إلى حوض البحر الأبيض. فقد كان تجارهم يسجلون ما يبيعون ويشترون ليضبطوا بذلك أعمالهم، فظن من كان يتعامل معهم من اليونان وغيرهم انهم كانوا يقومون بأعمال سحرية. ولما عرفوا انهم انما يكتبون ذلك لضبط اعمالهم وتجارتهم تعلموا منهم سر الكتابة، ثم سرعان ما أخذوا يكتبون.

وبذلك انتشرت الكتابة في اوروبة. ويظهر إن انتقال الخط إلى اوروبة كان في القرن العاشر قبل الميلاد. وقد حافظ اليونان القدامى على أشكال الحروف الفينيقية وعلى طريقتهم في التدوين من اليمين إلى اليسار. وحافظوا على أسماء الحروف كذلك. ثم وجد اليونان إن الحروف الفينيقية هي حروف صامتة ولا توجد فيها حروف تعبر عن الحركات. فأكملوها بإضافة الحركات إليها. ثم طوروها بالتدريج. وكان في جملة التطورات الابتداء بالكتابة من اليسار نحو اليمين. وعن اليونان اخذ الرومان وغيرهم من الشعوب الأوروبية الكتابة، وأخذ كل قوم منهم يوجد منها طرقاً جديدة في الخط حتى صارت على نحو ما هي عليه في هذا اليوم.

??الخط العربي

والعرب من الشعوب التي عرفت الكتابة ومارستها قبل الإسلام بزمان طويل كذلك. بل عرفوا الكتابة قبل الميلاد ببضع مئات من السنين. وقد عثر في مواضع من جزيرة العرب على كتابات دونت باليونانية وبلغات أخرى. وتبين من دراسة النصوص الجاهلية، إن العرب كانوا يدوّنون قبل الإسلام بقلم ظهر في اليمن بصورة خاصة، هو القلم الذي أطلق عليه أهل الأخبار "القلم المسند" أو "قلم حمير". وهو قلم يباين القلم الذي نكتب به الآن.. ثم تبين انهم صاروا يكتبون في الميلاد بقلم آخر، أسهل وألين في الكتابة من القلم المسند، أخذوه من القلم النبطي المتأخر وذلك قبيل الإسلام على ما يظهر. كما تبين إن النبط وعرب العراق وعرب بلاد الشام كانوا يكتبون أمورهم بالإرمية وبالنبطية، و ذلك لشيوع هذين القلمين بين الناس، حتى بين من لم يكن من "بني إرم" ولا من النبط، كالعبرانيين الذين كتبوا بقلم إرمي إلى جانب القلم العبراني، ولاختلاط العرب الشماليين ببني إرم واحتكاكهم بهم، مما جعلهم يتأثرون بهم ثقافياً، فبان هذا الأثر في الكتابات القليلة التي وصلت الينا مدونة بنبطية متأثرة بالعربية.

ويظهر من عثور الباحثين على كتابات مدونة بالمسند في مواضع متعددة من جزيرة العرب، ومنها سواحل الخليج العربي، بعض منها قديم وبعض منها قريب من الإسلام، إن قلم المسند، كان هو القلم العربي الأصيل والأول عند العرب. وقد كتب به كل أهل جزيرة العرب، غير إن التبشير بالنصرانية الذي دخل جزيرة العرب، وانتشر في مختلف الأماكن، أدخل معه القلم الإرمي المتأخر، قلم الكنائس الشرقية، وأخذ ينشره بين الناس لأنه قلمه المقدس، الذي به كان يكتب رجال الدين. ولما كان هذا القلم أسهل في الكتابة من المسند، وجد له أشياعاً وأتباعاً بين من دخل في النصرانية وبين الوثنين أيضاً، لسهولته في الكتابة، غير انه لم يتمكن مع ذلك من القضاء على المسند إذ بقي الناس يكتبون به. فلما جاء الإسلام، وكتب كتبة الوحي بقلم أهل مكة لنزول الوحي بينهم. صار قلم مكة هو القلم الرسمي للمسلمين، وحكم على المسند بالموت عندئذ، فمات ونسيه العرب، إلى إن بعثه المستشرقون، فأعادوه إلى الوجود مرة أخرى، ليترجم لنا الكتابات العادية التي دونت به.

وهناك أقلام عثر عليها المستشرقون في أعالي الحجاز، تشبه القلم المسند شبهاً كبيراً، لذلك رأى الباحثون انها من صلب ذلك القلم ومن فروعه للشبه المذكور، ولأنها متأخرة بالنسبة له، فلا يمكن أن تكون هي الأم. وقد سمي قلم منها بالقلم الثمودي نسبة إلى قوم ثمود، وسمي قلم آخر بالقلم اللحيانى، نسبة إلى "لحيان". وعرف القلم الثالث ب "الكتابة الصفوية"، نسبة إلى ارض "الصفاة" الأرض التي عثر بها على أول كتابة مكتوبة بهذا القلم.

وقد عرف علماء العربية القلم المسند، ومنهم حصل هذا القلم على اسمه.ولكنهم لم يعرفوا من أمره شيئاً يذكر. وكل ما عرفوه عنه أنه خط أهل اليمن القديم، وأنه خط حمير.وأن قوماً من أهل اليمن بقوا أمداً يكتبون به في الإسلام ويقرأون نصوصه. كما عرفوا القلم الذي دوّن به القرآن الكريم، ودعوه "القلم العربي" أو"الخط العربي" حيناً و "الكتاب العربي" أو "الكتابة العربية" حيناً آخر تمييزاً له عن المسند. ولم يشيروا إلى أسماء خطوط جاهلية أخرى.

وقد تكلم "الهمداني" ومشايخه من قبله عن المسند، كما أشار إليه "ابن النديم"، وذكر أن نماذج منه كانت في خزانة "المأمون". غير أن علمهم به لم يكن متقناً على ما يظهر من نقولهم عنه. كما تحدثت عن ذلك في أثناء كلامي عن "الهمداني". ولم يكن لهم إدراك عن كيفية تطوره. وقد دعوه بالخط الحميري. وعرّفوه بأنه خط مخالف لخطنا هذا، كانوا يكتبونه أيام ملكهم فيما بينهم. قال "أبو حاتم" هو في أيديهم إلى اليوم باليمن. هذا ولم أجد في المؤلفات الإسلامية المعروفة في هذا اليوم ما يفيد بان أحداً من العرب الإسلاميين كان له علم متقن بالعربيات الجنوبية، أو كان له علم بتأريخ العربية الجنوبية القديم، وفي الذي ذكروه عن الخط المسند وعن لغات العرب الجنوبيين وتاريخهم تأييد لما أقوله.

والعرب تسمي "الكتاب العربي" أي خطنا: "الجزم"، وذكروا أنه إنما سمي جزماً لأنه جزم من المسند، اي قطع منه، وهو خط حمير في أيام ملكهم ولا أستبعد احتمال كون كلمة "الجزم" تسمية ذلك القلم في الجاهلية، وأما تفسير أهل الأخبار لسبب التسمية، فهو من نوع التفاسير المعروفة المألوفة عن اهل الأخبار، يضعونها حينما يجابههم شخص يريد معرفة سبب تسمية شيء بالاسم الذي عرف به. ودليل ذلك ما ذكره "البطليوسي" من أن أهل الأنبار كانوا يكتبون المشق، وأن اهل الحيرة كانوا يكتبون "خط الجزم" وهو خطهم، وهو الذي صار خط المصاحف. و "المشق" في تفسير علماء العربية مدّ حروف الكتابة ومعنى هذا أن خط أهل الأنبار، كان متصل الحروف ممدودها، بينما غلب على القلم الحيري، الشكل التربيعي الجاف ذو الزوايا للحروف. وهو شكل تكون الكتابة به أبطأ من للكتابة بالقلم المشق. ونظيره هو القلم الكوفي في الإسلام، الذي اختص بأنواع معينة من أغراض الكتابة، ومنها الكتابة على الأحجار والخشب. ونظراً لبطء الكتابة به على الغالب لم يستعمل بكثرة في الكتابة.

ولعل سبب اخلاف قلم الأنبار عن قلم أهل الحيرة، هو في المنبع الذي استقى كل من أهل المدينتين قلمه منه. فقد استعمل نصارى العراق في كتبهم الطقوسية القلم "السطرنجيلي"، المشتق من القلم التدمري. وكتبوا به الأناجيل والكتب المقدسة وأحجار المباني، مثل الأحجار التي توضع فوق ابواب المعابد كالكنائس أو البيوت أو القبور وما شاكل ذلك. وهو خط ثقيل يحتاج إلى بذل وقت في نقشه والى جهد في حفره على الخشب أو الحجر، بل وفي الكتابة به أيضاً. واستعملوا قلماً آخر أسرع منه وأسهل وأطوع في الكتابة به من "السطرنجيلي"، كتبت به الأعمال التجارية والمخابرات والرسائل والكتب، كتبوا به بقلم القصب وبالحبر، فكان منه خط النسخ.

هذا وقد كتب النبط بقلمين كذلك: قلم قديم، ثقيل في الكتابة تكثر فيه الخطوط المستقيمة والزوايا والتربيعات فهو على شاكلة "السطرنجيلي"، والخط الكوفي. كتبوا به على الأخشاب والحجارة والمعادن والصخور، حيث حفروا الكتابة حفراً، كما استعملوه في ضرب نقودهم. وهو ثقيل في الكتابة لذلك لم يستعمل في الأغراض اليومية كتدوين المعاملات التجارية والمراسلات وما شاكل ذلك من أمور تستدعي السرعة، بل استخدم الكتاب قلماً آخر لهذه الأغراض، هو القلم المدوّر الذي يشبه النسخ، والذي نستطيع أن نسميه "المشق"، قلم أهل الأنبار. وهو قلم متأخر ظهر عندهم بعد القلم الأول.

ونجد اكثر شعوب الشرق الأدنى على هذه العادة في اتخاذ قلم خاص يكتبون به الكتب المقدسة والأحجار التذكارية، التي توضع فوق أبواب المعابد وفي داخلها أو على القبور للذكرى والتأريخ. لذلك يجتهد فيه أن يكون مزوقاً ذا زوايا وتربيعات وزخرف ونقوش، باعتبار أنه إنما يدوّن للتخليد ولتدوين شيء مقدس ثمين. ومن هذه النظرة تولدت طريقة رسم الحروف الأولى لكلمات الجمل أو عنوان الفصول بحروف بارزة مغايرة للحروف الأخرى التي تدوّن بها الكلمات التالية. واتخذوا أقلاماً أخرى راعوا فيها السهولة والليونة في الكتابة. لتدوين الكتب الأخرى التي لا صلة لها بالدين ولتدوين الأعمال اليومية. جعلوا حروفها مدوّرة أو مقوسة، ليمكن الكتابة بها بسهولة بدون حاجة إلى بذل عناية في رسم خطوطها المستقيمة والمربعة والزوايا التي تكوّن الحروف.

وقد تحدث "الجاحظ" عن الخط، فقال: "وليس في الأرض أمة بها طِرق   

أو لها مسكة، ولا جيل لهم قبض وبسط، إلا ولهم خط. فأما اصحاب الملك والملكة والسلطان والجباية، والديانة والعبادة، فهناك الكتاب المتقن، والحساب المحكم، ولا يخرج الخط من الجزم والمسند المنمنم كذا كيف كان، قال ذلك الهيثم بن عدي وابن الكلبي". فالخط العربي الجاهلي، قلمان: جزم ومسند، ولا ثالث لهما. المسند خط العربية الجنوبية وخط من كتب بهذا القلم من بقية أنحاء جزيرة العرب، والجزم، خط أهل مكة والمدينة وعرب العراق وغيرهم من العرب الشماليين.

ولما كان عرب العراق قد خالطوا بني إرم وأخذوا من ثقافتهم، ومنهم من اعتنق دينهم، فدخل في النصرانية. فلا أستبعد استعمالهما قلمين، أو أكثر في الكتابة. قلم رُوعي فيه ما رآه نصارى العراق في "السطرنجيلي"، والمسمى أيضاً بالخط الرهاوي، وقلم آخر استعملوه للكتابات السريعة. ولا أستبعد احتمال كتابة أهل الأنبار أو أهل الحيرة أو غيرهم من عرب العراق بالقلمين معاً. القلم الذي دعاه البطليوسي بالمشق، وهو على حد قوله قلم أهل الأنبار، والقلم الحيري، وهو الجزم على رأيه أيضاً. ويذكر إن القلم السطرنجيلي قد استنبط في مطلع القرن الثالث للميلاد. وقد استنبطه "بولس بن عرقا" أو "عتقا الرهاوي". وشاع استعماله بين الناس.

هذا وللعلماء المسلمين مؤلفات في تأريخ الخط العربي وتطوره، ولهم نظريات وآراء في منشأ الخط، منها آراء تنسب إلى "ابن الكلبي"، وهو في مقدمة علماء الأخبار في هذا الباب. واليه يرجع أكثر من جاء بعده في رواية أخباره عن منشأ الخط، وعن كيفية تطوره حتى بلغ مبلغه هذا في الإسلام. ومنها آراء تنسب إلى غيره كابن عباس.

ونستطيع تلخيص وجهات نظرهم في منشأ الخط العربي في الملخصات الآتية: 1- كان منشأ الخط في اليمن، ثم انتقل منه إلى العراق حيث تعلمه أهل الحيرة، ومنهم تعلمه أهل الأنبار،ومنهم تعلمه جماعة نقلوه إلى الحجاز. فالأصل، على رأي هؤلاء، هو القلم المسند وكان كما يقولون بالغاً مبلغ الاتقان والجودة في دولة التبابعة، لما بلغت من الحضارة والترف.

2- أول من كتب الخط العربي حمير بن سبأ، وكانوا قبل ذلك يكتبون بالمسند، سمي بذلك لأنهم كانوا يسندونه إلى "هود".

3- أول ما ظهرت الكتابة العربية بمكة من قبل "حرب بن أمية" وقد أخذها من طارىء طرأ على مكة من اليمن. وقد أخذ ذلك الطارىء علمه بالكتابة من كاتب الوحي لهود.

4- أول من كتب بالعربية اسماعيل. كتب على لفظه ومنطقه موصولاً، حتى فرق بينها ولده هميسع وقيذر.

5- أول من وضع الكتاب العربي نفيس، ونضر، وتيماء، ودومة. هؤلاء ولد اسماعيل، وضعوه موصولاً، وفرقه قادور بن هميسع بن قادور.

6- إن نفيس، ونضر، وتيما، ودومة ؛ بني إسماعيل، وضعوا كتاباً واحداً وجعلوه سطراً واحداً غير متفرق، موصول الحروف كلها، ثم فرقه نبت، وهميسع، وقيذار، وفرقوا الحروف وجعلوا الأشباه والنظائر.

7- كان قلم "الجزم" في نظر بعض العلماء أساس القلم العربي وقد سمي بالجزم، لأن مرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة، وهم من طيء من بولان، سكنوا الأنبار واجتمعوا فوضعوا حروفاً. مقطعة وموصولة.

فأما مرامر فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام. وقد اقتطع مرامر الخط من المسند فسمي الجزم، لأنه جزم أي اقتطع، ولذلك قيل له الجزم قبل وجود الكوفة، فتعلمه منهم أهل الأنبار، وتعلمه منهم أهل الحيرة وسائر عرب العراق، وتعلمه من أهل الحيرة بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، وكان له صحبة بحرب بن أمية لتجارته عندهم في بلاد العراق، فتعلم حرب منه الكتابة، ثم سافر معه بشر الى مكة فتعلم منه جماعة من أهلها، فلهذا أكثر الكتاّب من قريش.

8- أول من وضع الخط العربي "أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت"، وهم قوم من الجيلة الأخيرة، وقيل: إنهم بنو المحصن بن جندل ابن يصعب بن مدين، وكانوا نزولا مع عدنان بن أد، فكان "ابجد" ملك مكة وما يليها من الحجاز، وكلمن وسعفص وقرشت ملوكاً بمدين، وقيل ببلاد مضر، فوضعوا الكتاب على أسمائهم، ثم وحدوا بعد ذلك حروفاً ليست من أسمائهم، وهي الثاء والخاء والذال والظاء والضاد والغين فسموها الروادف.

9- أول من وضع الخط العربي وألف حروفه ستة أشخاص من طسم، كانوا نزولاً عند عدنان بن أدد، وكانت أسماؤهم: أبجد هُوز حطي كلمن سعفص قرشت، فوضعوا الكتابة والخط على أسمائهم، فلما وجدوا في الألفاظ حروفاً ليست في أسمائهم ألحقوها بها، وسموها الروادف، وهي ثخذ ضظغ.

10- أول من خط هو: مرامر بن مرة من أهل الأنبار، وقيل إنه من بني مرة. ومن الأنبار انتشرت الكتابة في الناس. ذكروا أن قريشاً سُئِلوا: من أين لكم الكتابة ? فقالوا: من الأنبار.

11- تعلم بشر بن عبد الملك الكتابة من أهل الأنبار وخرج إلى مكة وتزوج "الصهباء بنت حرب بن أمية". وتعلم منه حرب، ومنه ابنه سفيان، ومنه ابن اخيه معاوية بن أبي سفيان، ثم انتشر في قريش، وهو الخط الكوفي الذي استنبطت منه الأقلام.

12- كان الكتاب العربي قليلاً في الأوس والخزرج، وكان يهودي من يهود ماسكة قد علّمها، فكان يعلمها الصبيان، فجاء الإسلام وفيهم بضعة عشر يكتبون، منهم سعد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأُبي بن كعب، وزيد ابن ثابت، يكتب الكتابين جميعاً العربية والعبرانية، ورافع بن مالك، وأسيد ابن حضير، ومعن بن عدي، وأبو عبس بن كثيم، وأوس بن خولي، وبشير بن سعد.

13- أول من وضع الحروف العربية ثلاثة رجال من بولان، وبولان قبيلة من طيء، نزلوا مدينة الأنبار، وهم مرامر بن مُرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة، اجتمعوا فوضعوا حروفاً مقطعة وموصولة، ثم قاسوها على هجاء السريانية. فأما مرامر، فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام، ثم نقل هذا العلم إلى مكة وتعلمه من تعلمه وكثر في الناس وتداولوه.

14- اول من كتب الكتاب العربي، رجل من بني النضر بن كنانة، فكتبته العرب حينئذ.

15- رأى نفر من العلماء إن أهل مكة انما تعلموا الكتابة من إياد أهل العراق وكانوا يكتبون، ورووا في ذلك شعراً زعموا إن "أمية بن أبي الصلت" قائله، منه: قوم لهم ساحة العـراق إذا  ساروا جميعاً والخط والقلم 

16- أول من وضع حروف ا ب ت ث نفر من اهل الأنبار من إياد القديمة، وعنهم اخذت العرب.

17- الذي حمل الكتابة إلى قريش بمكة، أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة، وقيل حرب بن أمية.

18- من حمير تعلمت مضر الكتابة العربية.

19- أصل الخط العربي من الأنبار، وانما سكن الأنبار والحيرة بقايا العرب العاربة وكثير من المستعربة فنقلوا ذلك.

20- وضع الكتاب العربي عبد ضخم وبيض ولد أميم بالحجاز، ولهم يقول حاجز الأزدي: عبد بن ضخم إذا نسبتـهـم  وبيض أهل العلو في النسب 

ابتدعوا منطقاً لـخـطّـهـم  فبين الخط لهجة الـعـرب

21- أول من كتب الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها، آدم - عليه السلام - قبل موته بثلاثماية سنة، كتبها في طين وطبخه، فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتاباً فكتبوه، فأصاب إسماعيل - عليه السلام - الكتاب العربي.

22- أول من كتب بالعربية مرامر بن مرة، رجل من أهل الأنبار. ومن الأنبار انتشرت في الناس.

23- تعلمت قريش الكتابة من الحيرة، وتعلم أهل الحيرة الكتابة من الأنبار. وذكر بعض علماء العربية أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وأنهم لم يعرفوا نحواً ولا إعراباً ولا رفعاً ولا نصباً ولا همزاً.

وهذه هي آراء علماء العربية في اصل الخط عند العرب، وفي كيفية منشئه وظهوره.

وقد ذكر "ابن النديم" مختلف الروايات التي كانت شائعة في أيامه عن القلم العربي. وذكر منابعها أحياناً واهمل ذكرها أحياناً أخرى. وفي جملة من أشار اليهم "ابن عباس"، فنسب إليه قوله إن أول من كتب بالعربية ثلاثة رجال من بولان على نحو ما ذكرت قبل قليل. و "محمد بن إسحق" و "ابن الكلبى"، و "ابن الكوفي"، و "كعب الأحبار" و "مكحول" و "عمر بن شبة" في كتاب مكة، و "ابن أبي سعد". وذكر أنه كان في خزانة المأمون كتاب بخط عبد المطلب بن هاشم في جلد أدم. فيه حق عبد المطلب على رجل من حمير، عليه ألف درهم فضة كيلاً بالحديدة. وكان خطّه شبه خط النساء. وذكر أن من كتاب العرب أسيد بن أبي العيص. وأن الناس عثروا على حجر كان على قبره كتب عليه اسمه.

ولدينا رأي آخر يقول: "كانت الكتاّب في العرب من أهل الطائف، تعلموها من رجل من أهل الحيرة، وأخذها أهل الحيرة عن أهل الأنبار". وهو رأي نبع من المنابع المتقدمة.

وقد جزم قوم من العلماء إن أول من كتب بالعربية "مُرامر بن مرّ"، "مرُامر بن مرُّة"، وذهب قوم إن أول من كتب بخطنا "عامر بن جدرة"، وتوقف قوم هل هو خلاف أو يمكن التوفيق. وذهب آخرون إلى إن أول من كتب بالخط العربي عامر بن جدرة ومرامر بن مرة الطائيان، ثم "سعد بن سبل". وقال "شرقي بن القطامي" إن أول من وضع خطنا هذا رجال من طيء منهم مرامر بن مرة. قال الشاعر: تعلمت باجاد وآل مـرامـر  وسودت اثوابي ولست بكاتب 

وإنما قال وآل مرامر، لأنه كان قد سمى كل واحد من أولاده بكلمة من أبجد، وهي ثمانية. وأول من كتب بالعربية مرامر بن مرة من أهل الأنبار، ويقال من أهل الحيرة. ويقال انه سئل المهاجرون من أين تعلمتم الخط ? فقالوا: من الحيرة. وسئل أهل الحيرة من اين تعلمتم الخط ? فقالوا: من الأنبار.

والذين يذكرون إن "بشر بن عبد الملك" أخو "أكيدر بن عبد الملك" الكندي صاحب "دومة الجندل"، الذي تعلم الكتابة من أهل الأنبار، وخرج إلى مكة، فتزوج "الصهباء بنت حرب بن أمية" أخت "أبي سفيان"، وعلّم جماعة من أهل مكة الكتابة، فلذلك كثر من يكتب بمكة من قريش، يروون شعراً لرجل من أهل دومة الجندل، زعموا انه قاله إظهاراً لمنة قومه على قريش، هو: لا تجحدوا نعماء بشر عـلـيكـمـو  فقد كان ميمون النـقـيبة أزهـرا

أتاكم بخط الجزم حتى حفظـتـمـوه  من المال ما قد كان شتى مبعـثـرا

واتقنتمو ما كان بالمـال مـهـمـلاً  وطامنتمو ما كان منـه مـنـفـرا

فأجـريتـم الأقـلام عَـوداً وبـدأة  وضاهيتمو كتاّب كسرى وقيصـرا

وأغنيتمو عن مسند الحـيّ حـمـيرٍ  وما زبرت في الصحف أقيال حميرا 

فبشر بن عبد الملك، هو الذي نقل "الجزم" إلى "مكة". والجزم هو الخط الذي دوّن به القرآن، أي القلم الذي نكتب به اليوم. فأغنى به أهل مكة عن الكتابة بقلم المسند قلم حمير الثقيل، وصاروا يكتبون بالقلم وبالحبر، على طريقة الفرس والروم يدوّنون به أموالهم. ويظهر من ذلك أن القلم المسند، كان ثقيلاً في الكتابة، ولهذا وجد أهل مكة صعوبة في تدوين أمورهم به، فعدلوا عنه إلى القلم الجزم.

ولو صح هذا الشعر، فإن البيت الأخير منه يدل على أن أقيال حمير وغيرهم كانوا يكتبون بخطهم: المسند على الصحف، وأنه قد كانت عندهم كتابات دوّنوها به بالحبر والقلم على الصحف والأدم ومواد الكتابة الأخرى، ولم يكونوا يكتفون بالكتابة به على الأحجار فقط، لأننا نجد أن كتاباتهم الواصلة الينا إنما قد كتبت بهذه الطريقة حسب. وسبب عدم وصول هذه الصحف الينا، أنها من مادة سريعة العطب، لذلك لم تتمكن من المحافظة على حياتها فذهبت مع أهلها، وقد يعثر على شيء منها مدفون تحت الأرض بصورة يمكن أن يستفاد منها كما استفيد من المسند المنقوش على الحجر.

وورد إن رجلاً قال لابن عباس: "معاشرَ قريش، من أين أخذتم هذا الكتاب العربي قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، تجمعون منه ما اجتمع، وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام ? قال: أخذناه من حرب بن امية. قال: فممن أخذه حرب ? قال: من عبدالله بن جدعان، قال: فممن أخذه ابن جدعان ? قال: من أهل الأنبار، قال: فممن أخذه أهل الأنبار ? قال: من أهل الحيرة، فال: فممن أخذه أهل الحيرة ? قال: من طارئ طرأ عليهم من اليمن من كندة. قال: فممن أخذه ذلك الطارئ ? قال: من الخفلجان بن الوهم كاتب الوحي لهود عليه السلام".

وذكر بعض العلماء إن أول من وضع الخط العربي وألف حروفه وأقسامه ستة اشخاص من طسمٍ، كانوا نزولاً عند عدنان بن أدد، وكانت اسمائهم: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت، فوضعوا الكتابة والخط على اسمائهم، فلما وجدوا في الألفاظ حروفا ليست في اسمائهم ألحقوها بها، وسّموها الرّوادف، وهي: ثخذ ضظغ.

وذكر بعض اهل الأخبار إن "كلمن" كان رئيس ملوك مدين الذين وضعوا الكتابة العربية على عدد حروف اسمائهم، وقد هلكوا يوم الظلة، فقالت ابنة كلمن ترثي اباها:   

كلمن هدم ركـنـي  هلكه وسط المحله

سيد القوم أتاه الحتف  ناراً وسط ظـلـه

جعلت نار علـيهـم  دارهم كالمضمحله

ويوم الظلة غيم تحته سموم، أو سحابة أظلتهم، فاجتمعوا تحتها مستجيرين بها مما نالتهم من الحر، فأطبقت عليهم. وقد أشير إلى عذاب يوم الظلة في القرآن الكريم. وذكر أن هذا العذاب أصاب قوم "شعيب" لتكذيبهم رسالته، فرفع الله غمامة فخرجوا اليها ليستظلوا بها فأصابهم بها عذاب عظيم. التهبت عليهم وأحرقتهم. ولما كان أبجد هوز ملوك مدين، وأهل مدين هم قوم شعيب، ربط اهل الأخبار مصيرهم بمصير قوم شعيب، وجعلوا نهايتهم. يوم الظلة، فالكتابة على رأي هؤلاء تعود إلى هؤلاء الملوك، الذين هلكوا بذلك اليوم.

ورويت الأبيات على هذه الصورة: كلمن هدّم ركـنـي  هُلكهُ وسط المحله

سيد القـوم أتـاه ال  حتف تحت ظـلـه

كونت ناراً،وأضحت  دار قومي مضمحله 

ووردت على هذه الصورة: كلمن هـدّم ركـنـي  هلكه وسط المحلـه

سيد الـقـوم أتـــاه  الحتف ناراً وسط ظله 

جعلت ناراً عـلـيهـم  دارهم كالمضمحلـه

وقد تعرض "المسعودي" لموضوع الحروف، فقال: "وقد كانوا عدة ملوك تفرقوا في ممالك متصلة ومنفصلة، فمنهم المسمى بأبي جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقزشت، وهم على ما ذكرنا بنو المحض بن جندل، وأحرف الجمل على أسماء هؤلاء الملوك، وهي التسعة والعشرون حرفاً التي يدور عليها حساب الجمل". "وكان ابجد ملك مكة وما يليها من الحجاز، وكان هوز وحطي ملكين ببلاد وج، وهي أرض الطائف، وما اتصل بذلك من أرض نجد، كلمن وسعفص وقرشت ملوكاً بمدين، وقيل: ببلاد مصر، وكان كلمن على ملك مدين، ومن الناس من رأى أنه كان ملكاً على جميع من سمينا مشاعاً متصلاً على ما ذكرنا، وأن عذاب يوم الظلة كان في ملك كلمن منهم".

وأورد "المسعودي" أبياتاً زعم أن "المنتصر بن المنذر المديني" قالها في هؤلاء الملوك، هي: ألا يا شعيب قد نـطـقـت مـقـالة  أتيت بها عمراً وحيّ بني عـمـرو

هُمُ ملكوا أرض الحجـاز بـاوجـهٍ  كمثل شعاع الشمس في صورة البدر 

ملوك بني حُطيّ وسعفص ذي الندى  وهوّز أرباب البنـية والـحـجـر

وهم قطنوا البيت الحرام ورتـبـوا  خطوراً وساموا في المكارم والفخر 

وقد وردت في "تاج العروس" على هذا النحو، وقد نسب قولها إلى رجل من اهل مدين، ذكر انه قالها يرثيهم: ألا يا شعيب قد نطـقـت مـقـالة  سبقت بها عمراً وحيّ بني عمـرو

ملوك بني حطّي وهـوّز مـنـهـم  وسعفص اهل في المكارم والفخر

هم صبحوا اهل الحجـاز بـغـارة  كمثل شعاع الشمس أو مطلع الفجر 

وروي إن "عمر بن الخطاب" لقى أعرابياً فسأله هل تحسن القراءة? فقال: نعم. قال: فاقرأ أم القرآن ? فقال الأعرابي والله ما أحسن البنات فكيف الأم ! فضربه عمر بالدرة وأسلمه إلى الكتاب ليتعلم. فمكث حيناً ثم هرب، ولما رجع لأهله أنشدهم: أتيت مهاجرين فعلموني  ثلاثة أسطر متتابعـات

كتاب الله في رقٍ صحيح  وآيات القرآن مفصلات

فخطّوا لي أبا جاد وقالوا:  تعلم سعفصاً وقريشـات

وما أنا والكتابة والتهجي  وماحظ البنين مع البنات

ويرجع أهل الأخبار "الروادف"، أي الحروف: الثاء، والخاء، والذال، والضاد، والظاء، والغين إلى ايام الملوك المذكورين في بعض الروايات. وهي حروف لم ترد في تركيب الأبجديات السامية القديمة، لأنها غير واردة في أكثر لهجاتها، لذلك وضعها أحل الأخبار في آخر الأبجدية، فأكملوا بذلك الأبجدية العربية. وقد ألحقها الكتاب بها بعد أن تبين لهم بالطبع أن في العربية حروفاً غير موجودة في الأبجدية المذكورة، فأوجدوها بوضع علامات كل الحروف المذكورة التي لم تكن معلمة، فعبرت عن أسماء الحروف الناقصة واستعملوها في الكتابة دون أن يعملوا على إيجاد حروف جديدة للتعبير عن الحروف الناقصة.

ولعلماء العربية مثل "سيبويه" والمبرد والسيرافي وغيرهم آراء في الأسماء المذكورة يفهم منها إن منهم من جعل بعض تلك الأسماء مثل "أبا جاد" و "هواز" و "حطيا" أسماءً عربية، وبعضاً منها مثل: سعفص وكلمن وقرشنات أعجميات. ومنهم من جعلها أعجميات. ويظهر من مراجعة آرائهم هذه انهم كانوا قد عرفوا ترتيب حروف الأبجدية على النحو المتقدم، فلما قرأوها على انها كلمات، كما كان يفعل "بني إرم" وغيرهم في تعليمهم الكتابة والقراءة للمبتدئين تولد عندهم هذا القصص، الذي قد يكون مصدره قصص قديم. ثم تولد لديهم قصص كونهم ملوكاً من مدين، أو رجالاً من أهل الأنبار إلى آخر ما رأيناه من قصص عن منشأ الحروف، ليجدوا بذلك مخرجاً في تعليل تلك التسميات.

وذكر بعض أهل الأخبار أن أول من أتى أهل مكة بكتابة العربية "سفيان ابن أمية بن عبد شمس"، ثم انتشرت.

وترجع أسانيد الروايات المذكورة إلى "عبدالله بن عباس"، و "كعب الأحبار"، و"الشعبي" و "أبي ذر"، و "عوانة"، و "ابن الكلبي"، و "الشرقي بن القطامي"، و "الأصمعي" و "الهيثم ين عدي".

ويظهر من هذه الروايات ومن روايات أخرى أن رأى علماء العربية أن الخط العربي لم يكن أصيلاً في الحجاز، وإنما دخله من اليمن، أو من العراق أو أرض مدين، وأن أهل مكة إنما تعلموه من الأماكن المذكورة، في وقت غير بعيد عن الإسلام، لا يمكن أن يرتقى عنه بأكثر من قرن، إن لم يكن أقل من ذلك، وفقاً لرواياتهم هذه. وأن أقدم من كتب به هم أهل مكة. ولذلك قدم أهل الأخبار خط أهل مكة على سائر الخطوط التي عرفت في الإسلام. وجعلوه أول الخطوط العربية وبعده المدني، أي خط أهل المدينة.

أما أن أصله من اليمن فدعوى لا يمكن الأخذ بها، لأن أهل اليمن كانوا يكتبون بالمسند، والمسند بعيد عن هذا القلم الذي يسميه أهل الأخبار: القلم العربي أو الكتاب العربي أو الخط العربي بعداً كبيراً. وقد بقوا يكتبون بقلمهم هذا زمناً في صدر الإسلام. ثم إن الروايات التي ترجع علم مكة بالخط إلى اليمن، هي آحاد بالنسبة إلى الروايات الأخرى التي تنسب أخذ الخط من العراق.

وأما دعوى مجيئه من مدين، أي من أعالي الحجاز إلى مكة، فدعوى أراها غير مستبعدة. لأن أهل هذه المنطقة كانوا قبل الميلاد وبعده من النبط. والنبط هم عرب. وقد سبق إن تحدثت عنهم. وكانوا يكتبون بخط أخذ من قلم "بني إرم"، حروفه منفصلة ومتصلة، وترتيب أبجديته هو ترتيب "بني إرم" أي "أبجد هوز". وقد طوّروه بعض التطوير، فصار الكاتب يكتب به بالحبر بسرعة، وهو سريع وسهل أيضاً عند حفره على الحجر أو المعدن أو الخشب، ويناسب التاجر و الكاتب ورجل الفكر. وقد وصلتنا كتابات كثيرة كتبتَ به. وفي ضمنها الكتابات الخمسة التي اعتبرها العلماء النموذج الأول والأقدم للكتابات المدونة بلغة قوم كانوا يتكلمون بالعربية، غير إن عربيتهم كانت متأثرة بالنبطية عند الكتابة. أو انهم كانوا يكتبون بالنبطية، غير إن نبطيتهم لم تكن صافية نقية، بل كانت متأثرة بلغتهم اليومية العربية. وفي ضمنها كتابة "النمارة" التي يعود عهدها إلى سنة "328" للميلاد، وكتابة "حرّان اللجا" التي هي أقرب هذه الكتابات إلى عربيتنا. ونظراً إلى ما نجده من تشابه في رسم الحروف بين أقدم الكتابات العربية وبين الخط النبطي، وفي قواعد الإملاء وترتيب الأبجدية، فلا يستبعد أن يكون أهل مكة قد أخذوا هذا الخط فكتبوا به. باحتكاكهم بأهل أعالى الحجاز وبلاد الشام حيث كانوا يتاجرون معهم، أو بمجيء النبط اليهم للإتجار تعلمه أهل مكة منهم.

وذهب الدكتور "خليل يحيى نامي"، إلى أن اصل الكتابة العربية من الحجاز، لما كان للحجاز من مكانة روحية عند العرب ولاشتغالهم بالتجارة. والمكانة الروحية والتجارة تستدعيان القراءة والكتابة أخذوها من التجار النبط الذين كانوا يتوافدون عليهم للاتجار أو من اختلاطهم بالنبط اثناء ذهابهم إلى بلاد الشام. فهو يرى أن الخط النبطي هو والد الخط العربي، ودليله أن ترتيب الحروف على طريقة أبجد هوز، وترتيبها من حيث حساب الجمل، أي جعل كل حرف من حروف أبجد هوز في مقابل رقم حسابي، بردان في عربيتنا على نحو ما ورد عند النبط. مما يدل على إن الخط العربي أخذ من ذلك الخط، أضف إلى ذلك تشابه رسم الحروف المنفصلة والمتصلة في القلمين.

وأما موضوع أخذ أهل مكة خطهم المذكور من العراق، فرأي لا أستبعده أيضاً، فقد كان عرب العراق يكتبون، ولهم مدارس لتعليم الكتابة ملحقة بالكنائس والأديرة، وقد كان بين أهل مكة وبين عرب العراق ولا سيما الأنبار والحيرة اتصال تجاري وثيق، وكان تجار مكة يأتون بتجارتهم إلى الحيرة ويقيمون بها، فلا يستبعد تعلمهم أو تعلم بعضهم الخط من أهل الحيرة ومن أهل الأنبار. كما كان للتبشير يد في نقل هذا الخط إلى الحجاز وربما إلى مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد كان هؤلاء المبشرون يكتبون بقلم نبطي أو بقلم إرمي متأخر، وهو والد القلم العربي الذي نكتب به. وقد كان المبشرون من أهل العراق نشطون في التبشير في جزيرة العرب، فلا يستبعد إن يكون من بينهم مبشرون حيريون نقلوا الكتابة إلى "دومة الجندل" والحجاز ومواضع أخرى من جزيرة العرب.

وقد ذهب بعض المستشرقين إلى إن كتبة الوحي، إنما كتبوا بخط أخذ من "الجزم"، أي من خط أهل الحيرة. وذلك بحكم اتصال أهل مكة بالحيرة، اتصالاً تجارياً، فتعلموه منهم. فهم يوافقون بذلك بعض الروايات العربية التي ترجع علم أهل مكة بالكتابة إلى الحيرة..

وقد بقي اهل الحيرة يكتبون للولاة، ويقرأون عليهم ما يرد اليهم من رسائل اهل العراق وبلاد الشام، وذلك لحسن خطهم واتقانهم الكتابة. فكان لأبي موسى الأشعري كاتب، ولما سأله "عمر" عن سبب اتخاذه كاتباً من النصارى أجابه: "له دينه ولي كتابته". ولما أراد "عمر" اختيار كاتب حاذق حافظ ذكر له غلام نصراني من أهل الحيرة.

ومما يلفت النظر ويسترعي الانتباه، هو أن المنطقة التي يذكر أهل الأخبار أنها كانت الأرض التي نبت بها الخط العربي، وهي الأنبار والحيرة، لم تعط الباحثين حتى الان أي نص مكتوب. كما أن مكة المدينة الآخذة للخط لم تعطنا أيضاً أي نص جاهلي مكتوب. مع أن نصوص هذه الأرضين تهمنا بصورة خاصة، لما لها من علاقة بالخط العربي الذي نتكلم عنه، وباللغة التي نزل بها القرآن الكريم ونظم بها الشعر الجاهلي، وبالأدب الجاهلي. فلِمَ لم تصل نصوص الينا من العراق ولا من مكة مع أن أهل مكة كانوا يكتبون عند ظهور الإسلام، وكذلك أهل الحيرة كانوا يكتبون، ولهم دواوين في أخبارهم، رجعَ إليها ابن الكلبي، كما نص على ذلك. هل سبب عدم وصولها، أن الذين كتبوا بهذا القلم إنما كتبوا على مواد سريعة التلف وبالحبر، ولذلك، تلفت، ولم تتمكن من العيش طويلاً، كما تلفت مخطوطات أهم منها شأناً مثل النسخ الأولى للقرآن الكريم، والنسخ الأصلية من رسائل وكتب الرسول إلى الملوك والأمراء والى أصحابه. وكذلك خطوط الخلفاء الراشدين وسجلات دواوينهم وما شاكل ذلك من وثائق. قد يكون ما ذكرته هو السبب في عدم وصول نص من هذه الأرضين الينا، وقد تكون هنالك أسباب اخرى. على كل، علينا ألاّ نيأس من المستقبل، فلعل الباحثين سينقبون في باطن الأرض وينبشون الأماكن الأثرية فيجدون أشياء، هي تحت قشرة الأرض في الوقت الحاضر. فيكون من يأتي بعدنا سعداء بالطبع لوقوفهم على أشياء حرمنا من رؤيتها نحن فصرنا في جهل من أمرها، وصاروا هم في نعيم من العلم.

وقد ذهب "جرجي زيدان" إلى إن المضريين الذين تحضروا وأقاموا في العراق وفي بلاد الشام، اقتبسوا الكتابة من جيرانهم، فكتب منهم من كتب بالعبرانية وكتب منهم من كتب بالسريانية، ولكن القلمين النبطي والسرياني ظلا عندهم إلى ما بعد الفتوح الإسلامية، فتخلف عن الأول الخط النسخي "الدارج" وعن الثاني الخط الكوفي نسبة إلى مدينة الكوفة. وكان الخط الكوفي يسمى قبل الإسلام الحيري نسبة إلى الحيرة، وهي مدينة عرب العراق قبل الإسلام وابتنى المسلمون الكوفة بجوارها.

ومعنى ذلك إن السريان في العراق كانوا يكتبون ببضعة أقلام من الخط السرياني، في جملتها قلم يسمونه "السطرنجيلي" كانوا يكتبون به أسفار الكتاب المقدس، فاقتبسه العرب في القرن الأول قبل الإسلام، وكان من أسباب تلك النهضة عندهم وعنه تخلف الخط الكوفي. وهما متشابهان إلى الآن.

ثم تعرض إلى ناقل الخط إلى مكة، فقال: "واختلفوا فيمن نقله إلى بلاد العرب، والأشهر أن أهل الأنبار نقلوه، وذلك أن رجلاً منهم اسمه بشر بن عبد الملك الكندي أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، تعلم هذا الخط من الأنبار وخرج إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان والد معاوية، فعلم جماعة من أهل مكة، فكثر من يكتب بمكة من قريش عند ظهور الإسلام، ولذلك توهم بعضهم أن أول من نقل الخط إلى العرب سفيان بن أمية.

ولما أراد ابداء رأيه في أصل الخط العربي جمع بين الرأيين: الرأي القائل أن أصل الخط العربي من العراق، والرأي القائل أن أصله من حوران، فقال: "والخلاصة على أى حال إن العرب تعلموا الخط النبطي من حوران في أثناء تجاراتهم إلى الشام، وتعلموا الخط الكوفي من العراق قبل الهجرة بقليل، وظل الخطان معروفين عندهم بعد الإسلام. والأرجح أنهم كانوا يستخدمون القلمين معاً: الكوفي لكتابة القرآن ونحوه من النصوص الدينية، كما كان سلفه السطرنجيلي يستخدم عند السريان لكتابة الأسفار المقدسة النصرانية، والنبطي لكتابة المراسلات والمكاتبات الاعتيادية. ومما يدل على تخلف القلم الكوفي عن السطرنجيلي - فضلاً عن شكله - أن الألف إذا جاءت حرف مدّ في وسط الكلمة تحذف، وتلك قاعدة مطردة في الكتابة السريانية، وكان ذلك شائعاً في الإسلام، وخصوصاً في القرآن، فيكتبون "الكتب" بدل "الكتاب"، و "الظلمين" بدل "الظالمين".

والقلم الكوفي هو من أقدم الأقلام العربية الإسلامية. وهو كما ذكرت قبل صفحات، قريب الشبه بالقلم السطرنجيلي، قلم المصاحف عند نصارى العراق، ومن أجل أقلامهم لاستخدامه في كتابة الكتابات الدينية، ومنها الأناجيل. وقد أخذ من القلم الحيري على ما يظهر، لأن أهل الحيرة كانوا يكتبون "الجزم"، والجزم وليد السطرنجيلي، ذلك لأن الكوفة نشأت في خلافة "عمر"، فانتقل إليها في جملهّ من انتقل إليها أهل الحيرة، الكتاب بالقلم الجزم. ولهذا صار قلم الكوفة ثقيلاً في الكتابة ذا زوايا مربعة وحروفاً مستقيمة، والكتابة تميل إلى التربيع. وفد أخذ من "الجزم"، ونسب الى الكوفة لظهوره لأول مرة بها في الإسلام.

ولا يستبعد أيضاً أخذ أهل مكة خطهم المدور المسمى "النسخ" من "حوران " أو من "البتراء" و "العلا" فبين مكة والمكانين المذكورين اللذين سكن بهما النبط اتصال وثيق. أو من الحيرة او الأنبار. فالخط المدور هو قلم النبط المتأخر، وقلم كتبة العراق أيضاً، وهو والد القلم "النسخ". ومن الخطأ اعتبار "النسخ" وليد الخط الكوفي. لأن الخط الكوفي هو الجزم أو قلم آخر مثله اشتق من القلم المربع الزوايا "السطرنجيلي"، بينما النسخ وليد القلم المدور الذي أستطيع تسميته بالمشق مجاراة للبطليوسي، الذى شخصه بأنه قلم أهل الأنبار.

ويرى بعض الباحثين أن القلم العربي قد أخذ من قلم بني إرم. وذلك أن السريان الذين هم من "بني إرم" كانوا قد طوروا القلم الإرمي، وكتبوا بقلمين: قلم قديم كتبت به الأناجيل والكتب المقدسة، وهو المربع، ذو الحروف المستقيمة ذات الزوايا المربعة، الذي هو الخط "الاسطرنجيلي"، وقلم سهل ذو حروف مستديرة أي على شكل أقواس، هو قلم النسخ. وقد عرف العرب القلمين وكتبوا بهما، فسموا السهل النسخ والآخر الكوفي.

وحجتهم في ذلك إن القلم العربي أخذ بترتيب "أبجد هوز حطي"، وهو ترتيب وجد في لغة "بني إرم"، كما أخذ بهذا الترتيب بحساب الجمل. وهو ترتيب موجود عند بني إرم أيضاً. كما أخذ بقواعد من قواعد رسم الحروف في الإملاء موجودة في خط "بني إرم"، مثل قاعدة ربط أو فصل الحروف عند تدوين الكلمة، وقاعدة حذف الألف عند وقوعه في وسط الكلمة، في رحمان ومساكين ويتامى ومساجد وكتاب وابراهيم واسحاق واسماعيل، فإنها كتبت في خط المصاحف بدون ألف. ومثل حذف ألف فاعل وتفاعل في السريانية وفي العربية أيضاً، كما في بارك حيث كتبت "برك" في خط المصاحف، ومثل حذف الألف من ضمير الجمع المتكلم "نا"، كما في "ارسلنك" و "اصطفينه" و "بشرنه"، في موضع "ارسلناك" و "اصطفيناه" و "بشرناه"، وذلك في خط المصاحف، وحذف ألف جمع المؤنث السالم في السريانية وفي العربية، كما "صدقت" و "طيبت"، بدلاً من صدقات وطيبات. ومن هذا القبيل أيضاً، تدوين "شهد" و "كفرين"، بدلاً من شاهد وكافرين. ومثل حذف ياء المتكلم في السريانية وفي القلم العربي القديم، كما في كتابة يرب في موضع يا ربي.

ورأيي إن القول الجزم في أصل قلم أهل مكة، هل هو من العراق أو من بلاد الشام، يجب أن يكون للكتابات. فمتى عثرنا على كتابات مدونة بالعربية بالحيرة أو بالأنبار أو بالأماكن الأخرى من العراق تعود إلى الجاهلية والى صدر الإسلام وعلى كتابات مثلها من حيث الزمن يعثر عليها في بلاد الشام وفي الحجاز أو نجد أو أي مكان آخر من جزيرة العرب، وقارناها بعضها ببعض، وطابقنا فيما بين خطوطها ورسم حروفها وما شاكل ذلك، جاز لنا حينئذ القول بأصل قلم مكة والأقلام الأخرى المشابهة له. وبأصل اللغة التي دونت به، ومزاياها والأماكن التي كانت تتكلم بها. وعندئذ نحل مشكلة أصل اللغة العربية الفصحى أيضاً، وهي من اهم مشكلات تأريخ الأدب الجاهلي ولا شك.

وأما جمهرة المستشرقين المعاصرين الذين عنوا بدراسة تطور الخطوط السامية، ومنشأ الخطوط العربية، فقد رأوا إن الخط العربي الذي دوّن به القرآن أخذ من الخط النبطي المتأخر الذي كان يستعمله النبط، وهو خط تولد من القلم الإرمي المتفرع من الفينيقية على رأي المستشرق "هومل". وقد استعمل في تيماء وبين النبط الذين كانوا يقيمون في أعالي الحجاز وفي سينا. وقد عثر على كتابات دونت في مواضع مختلفة من الحجاز واليمن.

وسند القائلين بهذا الرأي ودليلهم هو عدد من الكتابات عثر عليها السياح، كتبت بلهجة غير بعيدة عن اللهجة العربية التي نزل بها القرآن، وبحروف مرتبطة، وبالقلم النبطي المتأخر الشبيه جداً بأقدم الخطوط العربية ولا سيما الكوفية منها.

ومن مميزاته ارتباط بعض حروفه ببعض وكتابة بعض الحروف في نهاية الكلمة بشكل يختلف عن رسم الحروف التي من نوعها المستعملة في أوائل الكلمة أو أواسطها.

ولهذه الكتابات على قلة عددها أهمية كبيرة لدى العلماء، لما لها من خصائص ومميزات لغوية تفيد في دراسة تطور اللهجات العربية، وفي دراسة تطور القلم العربي. وقد تكون مقدمة لعدد آخر من الكتابات المكتوبة بهذا الخط.

وأقدم هذه الكتابات الكتابة التي يقال لها كتابة "ام الجمال" الأولى ويعود تأريخها إلى سنة "250" أو "270" للميلاد. وقد وضعت شاهداً على قبر "فهر برسلي" "فهر بن سلي" مربي "جديمت" "جدمت" "جديمة" جذيمة ملك "تنوح" "تنوخ"، وعثر عليها في موضع يقال له "أم الجمال"، في جنوب حوران من أعمال شرق الأردن. ويعتقد "ليتمان"، إن تأريخ هذا النقش لا يبعد كثيراً عن تأريخ كتابة أخرى هي كتابة النمارة "ن م ر ت".

ونجد في هذه الكتابة حروفاً غير مرتبطة وحروفاً مرتبطة مشابهة لبعض حروف الخط الكوفي. وقد كتبت بالإرمية، ومع ذلك فإن لها أهمية لوجود أسماء عربية فيها، ولأن القبائل العربية الشمالية كانت تستعمل الإرمية في الكتابة.

وقد عثر الباحثون على كتابات معدودة سبقت هذه الكتابة، دُوّنت بالقلم النبطي أيضاً، هي كتابة عثر عليها في "وادي المكتب" في طور سيناء، يعود تأريخها إلى سنة "106" من سقوط "سلع"، المقابلة لسنة "210" للميلاد، وكتابة ثانية يعود تاريخها إلى سنة "126" من سقوط "سلع" إي سنة " 230 " للميلاد.

وقد وجدت في وادي فران بطور سيناء كذلك، وكتابة ثالثة هي من كتابات "طور سيناء" أيضاً، وقد أرخت بسنة "148" من سقوط "سلع" أي سنة "253" للميلاد، وكتابة رابعة عثر عليها في الحجر، وتأريخها سنة "162" من سقوط "سلع"، أي سنة "267" للميلاد.

ولكن هذه الكتابات بعيدة بعض البعد عن القلم العربي، وأما لغتها فنبطية، وفي نص "الحجر" "مدائن صالح"، وقد حوى كلمات كتبت بقلم ثمودي.

ولذلك فإن له ميزة من هذه الناحية على الكتابات الأخرى، ومنطقة الحجر من المناطق التي عثر فيها على عدد من كتابات قوم ثمود. ونظراً إلى أن نص "أم الجمال" أقرب إلى الخط العربي من الكتابات المذكورة التي سبقته، لذلك قدمته عليها.

وتلي كتابة أم الجمال الأولى في الزمن كتابة النمارة، وقد عثر عليها المستشرق الفرنسي "دوسو" M. Rene Dussaud في النمارة في الحرة الشرقية من جبل الدروز، و "النمارة" قصر صغير كان للروم. وجدها على قبر امرئ القيس الأول ابن عمرو ملك العرب المتوفى في يوم 7 بكسلول من سنة 223، المقابلة لسنة 328 للميلاد، وقد دونت سنة الوفاة، وهي سنة تأريخ الكتابة كذلك وفقاً لتقويم "بصرى" وهو التقويم الذي كان يستعمله عرب هذه الأطراف ونبطها. وتعدُّ هذه الكتابة أول كتابة وأقدم كتابة عثر عليها حتى الان مدونة باللهجة العربية الشمالية القريبة من لهجة القرآن، وإِن كتبت بالقلم النبطي المتأخر وباسلوب متأثر بالإرمية.

وعثر على كتابة في خرائب "زبد" بين قنسرين ونهر الفرات جنوب شرقي حلب، كتبت بثلاث لغات: اليونانية والسريانية والعربية، يرجع تأريخها إلى سنة "612" للميلاد "823" للتقويم السلوقي. والمهم عندنا هو النص العربي، ولا سيما قلمه العربي. أما من حيث مادته اللغوية، فإن أكثر ما ورد فيه أسماء الرجال الذين سعوا في بناء الكنيسة التي وضعت فيها الكتابة. وقد قرأ العالم "ليدزبارسكي" الكلمة الأولى منه "بسم"، أما الكلمة الثانية، فهي "الإلهَ" فأصبح مطلع النص: "بسم الإلَه"، فإذا كانت القراءة هذه صحيحة، تكون لكلمة "بسم الإلهَ" أهمية كبيرة في موضوع الفكرة الدينية. أما العالم "ليتمن" فقد قرأ الكلمة الأولى منه "بنصر"، فتكون فاتحة النص: "بنصر الإلَه".

وقد دوّن النص العربي على هذه الصورة: 1 -..م الإلهَ سرحو بر امت منفو وهنى برمر القيس.

2 - وسرحو بر سعدو وسترو وشريحو بتميمى.

ومعناه: بسم الإله. سرحو بن أمت منفو، وهيء بن امرىء القيس، وسرحو بن سعدو، وستر "ستار" "ساتر" وشريح. أتّموا.

والنص العربي، ليس ترجمة للنص السرياني أو اليوناني، لذلك ذهب بعض الباحثين إلى احتمال كونه متأخراً بالنسبة إلى النصين المذكورين، أي انه كتب بعدهما. وهو يتناول تخليد عمل المذكورين في بناء الكنيسة.

وعثر المستشرقون في حرّان اللجا في المنطقة الشمالية من جبل الدروز على كتابة أخرى مدونة باليونانية والعربية قبل لها "نقش حَرّان"، وقد وضعت فوق باب كنيسة، وصاحبها "شرحيل بر ظلمو" "شراحيل بن ظالم" "شرحيل بن ظالم"، ويعود تأريخ الكتابة إلى عام "463" من "الأندقطية الأولى"، وتقابل سنة "568" للميلاد0 أما النص العربي، فقد أرخ بسنة "463" أيضاً، وأضيف إلى هذا التأريخ عبارة "بعد مفسد خيبر بعم" أي "بعام". ومعنى هذا إن حدثاً تأريخياً كان قد وقع في هذا التأريخ بسنة صار الناس هنالك يؤرخون به، فأرخ النص يه. ويرى "ليتمن" إن ذلك يعني وقوع غزو على خيبر ربما قام به أحد ملِوك غسان.

وهذا النص هو من أهم النصوص المتقدمة وأكثرها قيمة بالنسبة لمؤرخ اللغة العربية، لأنه نص دوّن بلهجة القرآن الكريم، باستثناء أثر سهل للنبطية برز عليه. ولأهميته هذه أدوّنه على نحو ما جاء في النص العربي: "انا شرحيل بر"بن" ظلمو بنيت ذا المرطول "سنت" سنة 463 بعد مفسد خيبر "بعم" "بعام". فأنت أمام نص عربي واضح، تفهمه من دون صعوبة ولا مشقة. على حين نجد النصوص الأخرى وقد كتبت بنبطية متأثرة بالعربية الشمالية بعض التأثر. ولهذا فإني أفرّق بين هذا النص وبين النصوص السابقة له، وأعدّه أول نص وصل الينا حتى هذا اليوم كتب بلهجة عربية القرآن الكريم.

وتعد الكتابة التي عثر عليها في موضع "أم الجمال" وقيل لها كتابة "أم الجمال الثانية" تفريقاً لها عن كتابة أم الجمال الأولى، أحدث ما عثر عليه من كتابات بهذا القلم الذي نتحدث عنه، وباللهجة النبطية المتأثرة بلهجة القرآن، أو باللهجة العربية الشمالية القريبة من لهجة القرآن. وهي لا تحمل تأريخاً. غير أن من عالج أمرها من المستشرقين يرى أنها تعود إلى القرن السادس للميلاد. ولغتها قريبة من اللغة العربية المعروفة، كما أنها متحررة من النبطية والإرمية إلى حد كبير.

وعثر في اليمن على بعض كتابات نبطية لعلها من آثار التجار النبط الذين كانوا يذهبون إلى اليمن بقصد التجارة، ولا سيما في القرنين الأولين للميلاد، أو من آثار تجار أهل الحجاز أو من أهل اليمن، كانوا قد تعلموا الكتابة بهذا القلم الذي أخذ ينتشر بعد الميلاد لأنه أسهل في الاستعمال من المسند الذي يحتاج إلى دقة في الرسم، والى بطء في الكتابة. ولوحظ أن إحدى هذه الكتابات كتبت بالقلم النبطي المتأخر الذي يشبه القلم الذي استعمل في نقش "فهر بن سلي".

ولكن العلماء لم يتمكنوا من العثور على عدد كاف من الكتابات المدونة بهذا القلم، تكفي لإصدار حكم علمي عن وقت دخول القلم النبطي المتأخر إلى الحجاز واليمن ومدى انتشاره بين الناس. ولما كان القلم النبطي المتأخر قد ظهر بعد الميلاد على رأي أكثر العلماء، يكون هذا الخط قد وصل الحجاز واليمن بعد الميلاد بالطبع بالاتصال التجاري والقوافل التي كانت تقوم برحلاتها بين اليمن وبلاد الشام، وبواسطة النصرانية التي وجدت لها سبيلاً إلى اليمن.

ويلاحظ أن الذين كتبوا بالقلم العربي الشمالي، الذي أخذ منه قلم مكة، هم من العرب النصارى في الغالب، فأهل الأنبار، والحيرة، وعين الشمس، ودومة الجندل، وبلاد الشام، كانوا من النصارى، فلا استبعد احتمال استعمال رجال الدين للقلم السرياني المتأخر، الذي كوّن القلم النبطي في كتابة العربية، لحاجتهم إلى الكتابة في تعليم أولاد النصارى الكتابة، وتثقيفهم ثقافة دينية، فكانوا يعلمونها في المدارس الملحقة بالكنائس، وربما نشروها في البحرين، أي في سواحل الخليج حيث كانت هنالك جاليات نصرانية، وفي الأماكن الأخرى من جزيرة العرب التي كانت النصرانية قد وجدت سبيلاً لها بينها، ولا استبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على كتابات مطمورة كتبت بهذا القلم.

وتفيدنا دراسة شكل خط هذه النصوص فائدة كبيرة في الوقوف على تطور الخط العربي، فبين رسم هذه الخطوط وبين رسم أقدم الخطوط العربية الاسلامية تقارب كبير، يشير إلى اشتقاق القلم الذي دوّن به الوحي من هذا القلم، وهو القلم الذي كان يكتب به عرب العراق كذلك على ما أرى. وهو قلم وصل بين حروفه، وفصل في مواضع أخرى. وهو يختلف بذلك عن القلم المسند الذي استعمل حروفاً منفصلة فقط، ولم يعرف الحروف المتصلة، كما إن شكل حروفه بعيد جداً عن شكل حروف هذا القلم، وهو أسهل وأسرع في الكتابة على الكاتب من المسند.

ونرى في هذه الصورة التي تضم رسم الحروف في الخط النبطي المتأخر والقلم العربي القديم، تشابهاً كبيراً في الشكل، ينبئك بوجود نسب بين القلمين، وان القلم العربي القديم، قد تولد منه. ولا أستبعد إن يكون قلم أهل الحيرة هو هذا القلم نفسه، استعملوه في تدوين العربية. وقد رأينا إن النصوص القليلة المكتوبة بنبطية متأثرة بالعربية، قد كتبت بهذا القلم، وبينها نص "النمارة" الذي هو شاخص قبر "امرئ القيس" أحد ملوك الحيرة.

وإني لا أستبعد احتمال عثور المنقبين والباحثين في المستقبل على كتابات عربية قديمة تعود إلى الجاهلية الملاصقة للاسلام والى أيام الرسول بكثرة تمكن العلماء من وضع رأي واضح عن منشأ وتطور الخط العربي القرآني.

وقد استعملت جملة "الخط العربي القرآني"، لأن القرآن هو في الواقع صاحب الفضل على هذا الخط في تخليده وتثبيته لأمر الرسول بتدوين الوحي به، أي بهذا القلم العربي القديم الذي أتحدث عنه، الذي أخذه اهل مكة عن اهل "الحيرة"، أو عن "بشر بن عبد الملك" السكوني، من "دومة الجندل"على رواية أهل الأخبار. واني أرى إن للبحث عن الكتابات العربية القديمة في الحجاز وفي "دومة الجندل" و "الحيرة" و "الأنبار" و "عين التمر"، وفي القرى العربية الأخرى التي أقيمت على الفرات وفي بلاد الشام أهمية كبيرة بالنسبة لبحثنا في تأريخ نشوء وتطور الخط العربي القرآني، لأني اكره الطرق التي يأخذ بها بعض الباحثين من اللجوء إلى الحدس والظن في وضع آراء علمية قاطعة ومهمة، مثل الخط ومنشئه وتطوره وما شابه ذلك، لمجرد رأي ورد عند أهل الأخبار، أو ظن مال إليه عالم، وعندي إن آراءاً مثل هذه يجب ألا تقال إلا باستناد على دليل مادي ملموس، مثل أثر، أو مصدر تأريخي قديم محترم.

والصورة التي نراها في الصفحة المقابلة تمثل نماذج من القلمين: القلم النبطي المتأخر، والقلم العربي القديم، مأخوذة من مختلف الصور الأصلية التي عثر عليها العلماء في مختلف الأنحاء من العراق وبلاد الشام وجزيرة العرب.

ويرى المستشرق "وايل" Weil أن الترتيب الذي يرد للحروف العربية على طريقة: "أبجد هوز حطي... الخ"، هو ترتيب أخذه العرب من النبط أو اليهود، وقد أخذه النبط والعبرانيون من القلم الإرمي. وتشير هذه الطريقة بكل جلاء إلى اشتقاق القلم العربي من القلم النبطي المتفرع عن الخط الإرمي. اما الترتيب الذي عند الكنعانين، فهو هذا الترتيب مع زيادة الأحرف التي اقتضى وجودها في طبيعة لغتهم. ويرى بعض العلماء أن العبرانيين أخذوا ترتيبهم هذا من الكنعانيين. ونجد هذا الترتيب عند الفينيقيين أيضاً، ولهذا يرى بعض الباحثين أن العبرانيين والآراميين أخذوا الكتابة من الفينيقيين، وأخذوا منهم استعمال الحروف للعدد أيضاً، على نحو ما نجده في العربية من استعمالها في حساب الجمل.

وقد وضع علماء العربية بعد "قرشت" التي يمثل حرف "التاء" فيها آخر حروف الأبجدية التي بلغ عدد حروفها اثنان وعشرون حرفاً، الحروف التي لم ترد في هذه الأبجدية، ولكنها ترد في العربية، ودعوها ب "الروادف". وضعوها بصورة ينفي عنها كل نشاز قد يظهر بين رسمها ورسم الحروف الأخرى، وذلك باعتمادهم على تكرار الحرف، وبذلك أولدوا الروادف المذكورة.

ويظهر من الروايات العربية القديمة أن كتاّب الجاهلية المتصلة بالإسلام وكتاب صدر الإسلام كانوا يسيرون في تعلم الكتابة على طريقة "أبجد هوز" أي على طريقة الآراميين والنبط والعبرانيين. وقد ورد في الأخبار أن الناس في أيام "عمر ابن الخطاب"، كانوا يتعلمون الكتابة على طريقة "أبجد هوز". قال "القلقشندي": "وقد جاء أنها كانت تُعلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويشهد لذلك قول الأعرابي في أبياته: أتيت مهاجرين فعَلَّموُنـي  ثلاثة أسطر متتابعـات

وخطّوا لي أبا جاد وقالوا:  تعلّم سعفصاً وقريشات"

والترتيب الذي يعمل به الآن في البلاد العربية من الابتداء بالألف ثم بالباء، فالتاء، فالثاء، فالجيم، فالحاء، فالخاء... هو ترتيب وضع في زمن "عبد الملك بن مروان"، عمل به "نصر بن عاصم"، و "يحيى بن يعمر" العدواني. وقصد به ضم كل حرف إلى ما يشبهه في الشكل، وقد ساّد هذا الترتيب ومشى. وجرى عليه اصحاب الصحاح ولسان العرب والقاموس، وتاج العروس،وأصحاب معاجم اللغة في هذا اليوم.

أما ما ورد في بعض الروايات من إن "أبا ذر الغفاري" سأل رسول الله عن الحروف، فقال له انها تسع وعشرون، وانها نزلت على ترتيب: "1 ب ت ث ج"، أي على الترتيب الذي نسير عليه فيَ الوقت الحاضر، وانه عجب من قول الرسول له انها تسع وعشرون، لأن حروف العربية هي ثمان وعشرون، ومن تأكيد الرسول له انها تسع وعشرون، نزلت كلها على آدم. فخبر غير صحيح ولا يُعوّ ل عليه، وهو موضوع، لما ذكرته من إن الترتيب المذكور انما ظهر في الإسلام.

هذا وإن مما يؤسف له كثيراً اننا لا نملك اليوم كتابة واحدة من الكتابات المدونة في أيام الرسول، ولا نملك أي نسخة من نسخ القرآن أو من صحفه المدونة في ايامه. فلا نملك اليوم نسخة حفصة للقرآن الكريم، ولا نسخة "عثمان ابن عفان" ولا النسخ التي دونت بأمره لتوزع على الأمصار، ولا أية نسخ أخرى من النسخ التي دوّنها الصحابة لأنفسهم. ولا نملك النسخ الأصلية للمراسلات التي كان يأمر الرسول بتدوينها لترسل إلى الملوك أو سادات القبائل والأمراء.

نعم يقال إن هناك نسخاً من المصاحف ترجع إلى ايام الخلفاء، وقد دوّن بعض منها بأقلام أجلةّ الصحابة، وان هناك بقية من رسائل الرسول وان هناك كتابات يرجع تأريخها إلى ايام الرسول، ولكن المتبحرين في العلم العارفين بكيفية تثبيت أعمار الوثائق لم يتمكنوا من البت في صحة هذه الدعاوى، ولم يقطعوا بصحة هذه الوثائق. لذلك فليس لنا أمام هذه الحجج التي أبديت عن هذه الآثار سوى التحفظ والتوقف عن ابداء رأي فيها، فلعل الأيام تهيئ للقادمين من بعدنا وثائق جديدة تعود الى الأيام التي نبحث فيها.

هذا وان من الممكن التثبت في الوقت الحاضر من صحة الوثائق المنسوبة إلى أيام الرسول أو أيام من جاء بعده، بعرضها على الفحوص المختبرية الحديثة، التي باستطاعتها تقدير أعمارها، وتثبيت أسنانها، ولكني لا أعلم إن أحداً عرض هذه الوثائق لمثل هذه الفحوص.

هذا وللمادة التي دونت عليها تلك الكتابات ولندرة الورق إذ داك ولغلاء ثمنه، ولعدم ادراك الناس في ذلك الوقت لأهمية حفظ الوثائق، ولتعرض تلك الوثائق إلى عوامل عديدة من عوامل التلف والبلى مثل الحريق والماء والأرضة وما شاكل ذلك، دخل ولا شك في اختفاء الخطوط القديمة التي دونت في الجاهلية المتصلة بالاسلام وفي صدر الإسلام، مما أضاع علينا فوائد كثيرة كنا سننتفع بها لو كنا نملك تلك الوثائق، ولكن من يدري فلعل الأيام ستعطف على الباحثين المساكين المتعطشين دوماً إلى الوقوف على أخبار الماضين، فتقدم لهم وثيقة أو جملة وثائق تكون خير هدية لهؤلاء، لا يوازيها في نظرهم اي ثمن من الأثمان التي تقاس بالورق وبالجنيهات أو الدولارات. ولكني أود أن أبين إن هذه الحقبة من الجاهلية المتصلة بالاسلام وكذلك أيام الرسول وأيام الخلفاء الراشدين هي حقبة شحيحة جداً بالكتابات، فما عثر عليه من الكتابات فيها محدود، مع انها من أهم الأزمنة بالنسبة لنا لأنها ذات صلة وعلاقة مباشرة بظهور الإسلام. وينطبق ما أقوله هنا على كتابات المسند كذلك وعلى الكتابات المدونة باللهجات الجاهلية الأخرى، ولجميعها اهمية كبيرة بالنسية للمؤرخ الذي يريد شرح تأريخ تلك الأيام التي ظهر فيها الإسلام. وفي جملة هذا التاريخ تأريخ تطور الخطوط العربية.

واذا كان ما ذكره الدكتور "م. حميد الله" عن الكتابات التي وجدها على الطرف الجنوبي لجبل سلع في المدينة المنورة، والتي يرى ان تأريخها يرجع إلى غزوة الخندق، ايَ إلى السنة الخامسة من الهجرة، صحيحاً من الوجهة العلمية، فإننا نكون أمام أقدم كتابات عثر عليها حتى الآن بعربية القرآن الكريم. وهي ستفيد الباحثين ولا شك في التعرف على تأريخ تطور الخط العربي، وعلى أساليبه. وربما يعثر الباحثون في المستقبل على كتابات قد تكون أقدم من هذه أو من أيامها، لأن البحث عن الكتابات والآثار بصورة منتظمة وعلمية لم يأخذ مجراه في الحجاز حتى الآن.

وأشار "عثمان رستم" Osman R. Rostem إلى وجود كتابات بخط كوفي وبخطوط عربية أخرى في جبل سلع وفي وادي العقيق وعند جبل أحد وفي مواضع أخرى في مؤلفه عن الكتابات المدونة على الصخور في الحجاز، لكنه لم يشر إلى تواريخ تلك الكتابات ولم ينشر صورها كلها هذا وقد أشار غيره إلى وجود هذه الكتابات. إلا أن أكثر ما كتب عن هذا الموضوع، لم يكتب بقلم أصحاب الاختصاص ولم يصور تصويراً جيداً أو يدرس دراسة علمية في مكان وجوده. ثم إن معظم الكتابات لا تزال مهملة غير مصورة ولا منقولة مستنسخة، لذلك فإن إبداء رأي علمي عن أصلها وتطورها غير ممكن في الوقت الحاضر. ولعل الحكومة السعودية ستهتم بهذه الناحية المهمة، فترسل إلى الباحثين العرب والمسلمين أو المستشرقين تستفتيهم في أمر هذه الكتابات. بعد أن تطلب من المتخصصين دراستها في مكانها وأخذ صور جيدة لها، وطبع نسخ بواسطة الجبس أو بوسائل أخرى لهذه الكتابات، ليكون من الممكن دراستها دراسة علمية.

الإعجام والحركات

ولا بد لي هنا من التعرض لناحيتين مهمتين من نواحي تطور الخطوط عند العرب، هما: الإعجام والحركات.

ويراد بالإعجام، تنقيط الحروف المرسومة بشكل متقارب أو بشكل واحد، لتمييزها بعضها عن بعض، وذلك لأن هذه الحروف مثل الباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء، والدال والذال، والراء والزاء، والسين والشين، والصاد والضاد، والطاء والظاء، والعين والغين، والفاء والقاف، إذا كتبت من غير نقط صار من الصعب على الإنسان التمييز بينها لأنها تكتب بشكل واحد، فيلزم على القارئ عندئذ الرجوع إلى علمه في اللغة وسليقته في الفهم لإدراك المعنى، لأنها بشكل وبرسم واحد. فالباء والتاء والثاء بل وحرفا النون والياء أيضاً، إذا كتبت في الكلمة ولا سيما في الوسط، بغير نقط، صار من الصعب تمييز هذه الحروف بعضها عن بعض، وإدراك المعاني الصحيحة والمراد من الكتابة نتيجة لذلك. فللتغلب على هذه المشكلة أعجم علماء الخطوط بعض هذه الحروف، بوضع نقط فوقها أو تحتها لتمييزها بعضها عن بعض، وعرف هذا التنقيط بالإعجام.

وقد وقع الاعجام في الإسلام على رأي أكثر العلماء. بعمل أبو الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد الفراهيدي وآخرون في قصص لا علاقة لذكره في هذا المكان. وهو مكان خصص لأقلام الجاهلية. أما بالنسبة إلى الجاهلية، فإننا لا نملك وثيقة معجمة. ونقش "حرّان اللجا " المكتوب بعربية شمالية مشوبة بالنبطية، خال من الاعجام أيضماً، وكذللك النقوش الأخرى المكتوبة. بالنبطية المتأثرة بالعربية الشمالية. ولهذا فإني لا أستطيع الادعاء بأن الإعجام كان معروفاً بالقلم العربي المكي الجاهلي ولا بغيره من الأقلام العربية الجاهلية.

غير أن هناك رواية تنسب لابن عباس، تزعم أن الثلاثة الذين هم من بولان من طيء ومن أهل الأنبار، لما وضعوا الحروف وضعوها مقطعة وموصولة، ثم وضع أحدهم وهو "عامر" الاعجام. أي إن العرب وضعوا الاعجام في الوقت الذي اخترعوا فيه قلمهم العربي، وجاء في كتاب النشر في القراءات العشر: "ثم إن الصحابة رضي الله عنهم، لما كتبوا تلك المصاحف جردوها من النقط والشكل ليحتمله ما لم يكن في العرضة الأخيرة مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما أخلوا المصاحف من النقط والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين..". وفي هذا الخبر دلالة على معرفة الصحابة بالنقط والشكل.

وهناك خبر يرفع سنده إلى "ابن مسعود"، يذكر أنه قال: "جوّدوا القرآن ليربو فيه صغيركم، ولا ينأى عنه كبيركم"، وقد شرح الزمخشري ذلك بقوله: "أراد تجريده من النقط والفواتح والعشور لئلا ينشأ نشءٌ فيرى أنها من القرآن". فيفهم من هذا الخبر أن التنقيط كان معروفاً، وأن "ابن مسعود" عرفه، وأنه رأى تجريد القرآن من النقط ليصرف الصغير همه في فهمه فهماً عميقاً وفي إدراكه إدراكاً صحيحاً عن دراسة، لأن تجريده يحمل الطالب على بذل الجهد في فهم غامضه ومشكله ومعناه فيرسخ فهمه في عقله، أما إذا كانت الحروف معجمة ومشكلة، فلا يجد الطالب ما يحمله على بذل الجهد وإجهاد نفسه لفهم القرآن. فتفتر همته عن فهمه، ولا يبذل نفسه بذلاً مرضياً في تعلم كتاب الله.

وخبر آخر يدل على وجود الإعجام عند العرب، رواه "سفيان بن عيينه"، يفيد إن "زيد بن ثابت" نقّط بعض الحروف.

وورد إن بعض الباحثين عن الكتابات الاسلامية القديمة عثروا على أثار للنقط في بعض الوثائق القديمة. فقد ذكر الدكتور "جروهمن "" انه وجد في وثيقة من وثائق البردي المدونة بالعربية واليونانية ويعود تأريخها إلى سنة "22" للهجرة حروفاً منقطة. وهذا التنقيط إن صح وثبت، فإنه يدل على وجود التنقيط في هذا العهد. كذلك ذكر "مايس" G. C. Miles انه وجد حروفاً منقوطة في كتابة عثر عليها قرب الطائف يعود عهدها إلى سنة "58" للهجرة. وإذا صح إن هذه النقط قديمة قدم الخط، فإن معنى هذا إن الكتابة على الحجر قد عرفت التنقيط أيضاً في هذا العهد وقبله، إذ لا يعقل أن تكون أول كتابة على الحجر استخدمت التنقيط.

ونسب بعض أهل الأخبار الاعجام إلى "أبي الأسود الدؤلي"، كما نسبوا إليه النقط. وهو وَهْم وقعوا فيه من عدم ادراكهم للعمل الذي قام به "أبو الأسود" فظنوا انه استعمل النقط في الحالين: في النقط الذي هو الشكل، وفي النقط الذي هو الإعجام. والذي عليه الجمهور إن الإعجام كان من عمل "نصر بن عاصم". فلما كثر الخطأ في قراءة القرآن بسبب عدم تمييزهم بين الحروف المتشابهة، وتفشي وباء الجهل بعدم التمييز في القراءة بين الحروف المتشاكلة "فزع الحجاج إلى كتابه، وسألهم أن يضعوا لهذه الأحرف المتشابهة علامات تميزها بعضها من بعض، فيقال إن نصر بن عاصم قام بذلك، فوضع النقط أفراداً وأزواجاً، وخالف بين أماكنها، بتوقيع بعضها فوق الحروف وبعضها تحت الحروف، فغبر الناس بذلك زماناً لا يكتبون إلا منقوطاً، فكان التصحيف مع استعمال النقط أيضاً يقع، فأحدثوا الإعجام، فكانوا يتبعون النقط بالإعجام.

وذكر إن "نصر بن عاصم" و "يحيى بن يعمر"، وكانا ممن أخذا العلم عن أبي الأسود الدؤلي نقطا للإعجام بنفس المداد الذي كان يكتب به الكلام، حتى لا يختلط بنقط استاذهما أبي الأسود، التي كانت بمداد يخالف المداد الذي كتب به الكلام. "وقد انتشرت تلك الطريقة وأضاف إليها الناس علامة التنوين فكانت نقطتين الواحدة فوق الأخرى، وزاد اهل المدينة التشديد فجعلوها قوسين يجعلان فوق المشدد المفتوح، وتحت المكسور، وعن يسار المضموم، ووضعوا نقطة الفتحة داخل القوس، والكسرة تحت حدبته والضمة على شماله، ثم استغنوا عن النقطة وقلبوا القوس مع الضمة والكسرة، وأبقوه على أصله مع الفتحة، وزاد أهل البصرة السكون فجعلوه جرة أفقية فوق الحرف منفصلة عنه".

والمشكلة الثانية في العربية، هي مشكلة الحركات، أي كيفية النطق بحروف الكلمة وبأواخر الكلم ليظهر المعنى حسب موقع الكلم من الاعراب. والعربية من اللغات العالمية التي احتفظت بخاصية الاعراب بينما تركتها لغات أخرى كانت لغات معربة في الأصل. لأن اهمال الحركات فيها يؤدي إلى وقوع أخطاء كبيرة في فهم معنى الكلام، لذلك وجب التغلب على هذه المشكلة بوضع علامات تعبر عن الحركات.

وسبب وجود هذه المشكلة في العربية، هو أن أقلام العربية القديمة هي مثل الأقلام السامية الأخرى مؤلفة من حروف صامتة فقط، ولا توجد فيها حروف تمثل الحركات، تكتب في الكلمة. كما هو الحال في اليونانية وفي اللاتينية وفي الأبجديات الغربية الأخرى المشتقة منهما، فيقرأ الإنسان الكلمة قراءة صحيحة بغير خطأ لوجود حروف الحركات مع الحروف الصامتة، ويكتب كتابة صحيحة، لأنه حين يكتب الكلمة ويلفظها يكتبها بحروف صامتة وبحروف الحركات. ويذكر أهل الأخبار أن العرب كانوا يفهمون معنى الكتابة بحدة ذكائهم وبطبعهم وسليقتهم فلم يخطئوا في فهم المعنى، فلم يجدوا حاجة إلى الشكل، فلما جاء الإسلام،ودخل الأعاجم بكثرة فيه واختلطوا بالعرب واختلط العرب بهم، فشا اللحن في الكلام، وظهرت الحاجة إلى تقويم الألسنة فوضع أبو الأسود الدؤلي مبادئ النحو والشكل. أي علامات الحركات. وسلك الناس طريقته ووسع من جاء بعده جادة هذا العلم، حتى صار من أهم العلوم عند العرب.

وعلينا أن نفرّق بين التنقيط أي الإعجام عند العرب وبين التنقيط عند غيرهم من الشعوب السامية. فالتنقيط عند العرب هو لتوضيح الحرف. بمعنى تعيينه وتثبيته لتمييزه عن الحرف الاخر المشابه له. أما في اللغات السامية الأخرى، فقد استعمل التنقيط فيها للتعبير عن الحركات. فالحركات في بعض اللغات السامية يعبر عنها بنقاط توضع فوق الحرف أو تحته. كما استعملت الخطوط المستقيمة وما يشبه الضمة للتعبير عن الحركات عند بعض لغات أخرى. ولم يستعمل الاعجام أي تنقيط الحرف لتمييزه عن حرف آخر مشابه له إلا في القليل، وذلك بسبب أن الحروف عندها غير متشابهة كثيراً، ولذلك فلا يلتبس أمر قراءتها على أحد، فلم تظهر الحاجة فيها الى إزالة اللبس بالتنقيط، ومن هنا اختلف مبدأ التنقيط في العربية عن مبدأ التنقيط في اللغات السامية الأخرى.

والتنقيط في كلتا الحالتين اي في حالة استخدامه للتعبير عن الحركات، اي الشكل، أو في حالة استعماله للإعجام، أي لتمييز الحروف المتشابهة، هو عمل متأخر عن الكتابة عند العرب وعند غيرهم. وسبب ذلك إن الكتابة صنعة اختص بها رجال الدين والعلماء والمثقفون ثفافة عالية، وهم طبقة خاصة كانت فوق مستوى الجماهير، وكان من مصلحتهم حضرها بأنفسهم وبأولادهم وجعلها صنعة خاصة بهم جهد الامكان. وعدم السماح لغيرهم من سواد الناس بتعلمها وممارستها. بأن جعلوا لها ادباً وقواعد وشروطاً يجب أن تتوفر فيمن يمارس هذا الفن. جمعوها في "أدب الكاتب" أو "أدب الكتاب". وكان في جملة قواعد هذا الأدب تصعيب الصنعة وتعقيدها حتى لا يطرقها إلا الذكي الأريب. واتخاذ أقلام خاصة، يكون لكل قلم قواعده وأصوله في رسم الحروف، وإهمال التنقيط أو الشكل، لأن من مستلزمات الكاتب أن يكون فطناً يستنبط المعنى بذكائه بربط الكلمات بعضها ببعض. وهو ما يعجز عنه القارئ الكاتب الاعتيادي. فتجريد الكتابة من النقط والشكل امتحان يميز الكاتب العالم عن غيره ممن تعلم كيف يقرأ ويكتب وكفى حتى لقد وقر في ذهنهم إن من ينقط الكتابة ويشكلها ويرسلها إلى كاتب، فكأنما أراد بذلك إهانته ورميه بالجهل والغباء، اذ عنى بهذا التنقيط والتشكيل المرسل إليه لا يفهم المعنى إلا إذا نقطت له الكلمات، فكيف الحال اذن إذا كانت الرسالة ممن هو دون من أرسلت إليه في المنزلة والمكانة، ومن رجل من طبقة سوية إلى رجل أعلى طبقة منه. فكان من أدب الكتاب عندهم الترفع عن مستوى القراء الكاتبين، بترك النقط والشكل. كانوا يقولون: " كثرة النقط في الكتاب سوء ظن في المكتوب إليه". نظر "عبدالله بن طاهر" خط كتاب وقع اليه، فقال: "ما أحسنه لولا كثرة شونيزه أي نقطه".

غير إن الحاجات دفعت بالناس ولا سيما بذوي الأعمال منهم إلى التماس أيسر الطرق وابسطها في تدوين أمورهم. فاختزلوا الخطوط وبسطوها ودفعوا التعسير بالتيسير. وكان من التيسير، وضع علامات للحركات ونقط للإعجام. أما اليونان فصاغوا من الحركات حروفاً كتبوها جنباً إلى جنب مع الحروف الصامتة، فحلّوا بذلك أهم مشكلة من مشكلات الكتابة. وأما الشعوب السامية، فاتخذت التنقيط والعلامات فوق أو تحت الحرف أو في داخله لتميز بذلك حرفاً متشابهاً عن الحرف الذي يشابهه، أو لتعيين حركته. وأما الحبشية، التي أخذت قلمها من المسند، فاتبعت طريقة اليونان وتغلبت بذلك على المشكلتين وظهرت بذلك أقلام شعبية تنقط وتشكل، استعملها السواد، أما أرباب العلم من الكتاب، فقد أبوا كتابة الكتب المقدسة وكتب العلم والتراث بخطوط السواد، وأبوا إِلا الكتابة بالقلم القديم، والمحافظة على الضبط القديم، لأنه في نظرهم جزء من النصوص فلا يمكن اجراء أي تغيير عليها. أما ما سوى ذلك فدوّن بالأقلام الشعبية التي أوجدتها ضرورات التيسير وتطور الزمن.

وأغلب روايات اهل الأخبار أن الخط العربي الأول لم يكن مشكلاً. وأن الشكل إنما وجد في الإسلام. وكان موجده "أبو الأسود الدؤلي" المتوفى سنة "69" للهجرة، فاستعل النقط بدل الحركات، ثم أبدل "الخليل بن أحمد الفراهيدي"، النقط برموز أخرى هي الفتحة والكسرة والضمة. ويرى بعض الباحثين أن نقط "ابو الأسود الدؤلي"، هو على نحو النقط في الخط النسطوري السرياني، ويحتملون تعلمه قاعدة التنقيط منهم. وكان عندهم نقط كبيرة توضع فوق الحرف أو تحته لتعيين لفظه أو تعيين الكلمة الواقع هو فيها: اسم هي أم فعل أم حرف. مثل قولهم: كتب، فيمكن إن تكون اسماً جمع كتاب، أو فعلاً ماضياً معلوماً أو مجهولاً، وكان عندهم أيضاً نقط هي حركات وضعها يعقوب الرهاوي قبيل ذلك الزمن. وهي عبارة عن نقط كانت ترسم في حشو الحروف، ثم تحولت إلى نقط مزدوجة تنوب عن الحركات الثلاث، وما زالت عندهم إلى اليوم. فالظاهر أن أبا الأسود اقتبس هذه الحركات، ويؤيد ذلك انه لما أراد التنقيط أتوه بكاتب فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه ؛ وإذا ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وان كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف. فكان العرب بعد ذلك يستعملون هذه النقط، والغالب إن يكتبوها بلون غير لون الخط. وقد شاهدنا في دار الكتب المصرية مصحفاً كوفياً منقطاً على هذه الكيفية، وجدوه في جامع عمر وبجوار القاهرة، وهو من أقدم مصاحف العالم، ومكتوب على رقوق كبيرة بمداد أسود وفيه نقط حمراء اللون، فالنقطة فوق الحرف فتحة، وتحته كسرة، وبين يدي الحرف ضمة كما وصفها ابو الأسود.

ويرى بعض المستشرقين أن ضبط الكتابة العربية قد بدىء به قبل الإسلام. وذلك لأن عرب العراق وعرب بلاد الشام كانوا يكتبون بالسريانية، وقد عرفت السريانية مشكلة الشكل وعالجتها، فلا بد وأن يكون العرب الذين أخذوا قلمهم من السريانية أو النبطية المتأخرة قد وقفوا على المشكلتين فعالجوهما على نحو ما.

وأود إن أبين بهذه المناسبة إن تنقيط "ابو الأسود" للحروف لم يكن إعجاماً، بل كان شكلاً، اي ضبط حركة الحرف من حيث الضم أو الفتح او الكسر أو السكون حسب تكوين الحروف للكلمة. فهذا كان تنقيط "ابو الأسود الدؤلي " أما شكل الوقت الحاضر، فهو من اختراع "الخليل بن احمد الفراهيدي". ولذلك يجب علينا التفريق بين تنقيط "ابو الأسود"، وبين الاعجام الذي هو تنقيط الحروف المتشابهة لإزالة اللبس بينها، ثم التفريق بين شكل "ابو الأسود"، وبين شكل "الخليل بن أحمد" واضع الشكل المتبع الآن، لموت طريقة "ابو الأسود"، في الشكل، وتخصيص النقط بالاعجام، ومن هنا وقع البعض في لبس من أمر النقط والاعجام، فلم يفرقوا بينهما. والصحيح هو ما قلته من إن النقط هو الشكل في الأصل، فبهذا المعنى كان في أيام "الدؤلي" إلى أن قامت الحركات التي هي الضمة والفتحة والكسرة مقام نقط الدؤلي، فوجد الناس في الحركات سهولة مكنتهم من التفريق بين إعجام الحروف وتشكيلها، فخصصوا النقط بالإعجام والحركات بالشكل، وبذلك زال اللبس الذي إدى إلى وقوع أخطاء في فهم المراد من الإعجام ومن الشكل الذي هو الحركات.

والتنقيط من الأمور التي كان يراعيها العبرانيون منذ القدم في قراءة التوراة. فقد كانوا ينقطون بعض حروف الكلمات لتنبيه القارئ إلى أهمية الكلمة ولمكانتها المقدسة، وعرف هذا التنقيط ب Puncta extraodinaria عند رجال الدين، فقد نقطوا لفظة "عانقه" في الآية: "فبادر عيسو وِتلقاهّ وعانقه وألقى بنفسه على عنقه وقبّله وبكيا"، ونقطوا لفظة "فامحني"، من الآية: "والآن إن غفرت خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت"، ولفظة "يمحوها" في الاية: "فيكتب الكاهن هذه اللعنات في الكتاب ويمحوها بالماء المر"، وقد فعل ذلك في الأناجيل أيضاً، كما في لفظة "محا" الواردة في الاية: "ومحا الصك الذي كان علينا بموجب الأقضية الذي كان لهلاكنا وأخذه من الوسط وسمّره في الصليب". ثم زاد علماء التوراة وكتّابها زيادات أخرى في أصول التنقيط ووضع العلامات الخاصة على الحروف التي هي الإعجام، وصيّروها علماً خاصاً بالتوراة اشير إليه في "السوفيريم" وفي التلمود.

ونجد في "انجيل متى" اشارة الى التنقيط في الحروف، جاء: "الحق اقول لكم: انه إلى أن تزول السماء والأرض، لا تزول ياء أو نقطة واحدة من الناموس حتى يتم الكل". وفي هذه الآية إشارة إلى تدقيقاتهم في الكتابة،وتمييزهم بين حرف وآخر بالنقط.

وكان كتاّب الأناجيل والكتب المقدسة، إذا أضافوا كلاماً من عندهم على النص، أو فسروا لفظة من ألفاظه، كتبوه بخط ثخين عريض، ليتبين للقارى إن ما هو مدون ليس من صلب الكتاب المقدس، وانما هو إضافة لتفسير أو لشرح.

وأود أن أبين، إن موضوع النقط الذي هو الإعجام وموضوع الشكل من الموضوعات التي لم تدرس دراسة كافية علمية حتى الآن. وهما مما لا يمكن البت فيهما الان، إلا إذا عثر على كتابات جاهلية عربية وعلى كتابات تعود إلى أيام الرسول وما بعده، وإلا بعد نشر ما ألفه العلماء عن النقط والشكل. فقد ألف العلماء في ذلك كتباً، أشار إليها "ابن النديم"، فقال: "الكتب المؤلفة في النقط والشكل للقرآن: كتاب الخليل في النقط، كتاب محمد بن عيسى في النقط، كتاب اليزيدي في النقط، كتاب ابن الأنباري في النقط والشكل،كتاب أبي حاتم السجستاني في النقط والشكل بجداول ودارات، كتاب الدينوري في النقط و الشكل".

وهناك مؤلفات أخرى دونت في "لامات القران"، وفيَ هجاء المصاحف، وفي اختلاف المصاحف وأمثال ذلك، تفيدنا كلها في تكوين رأي عن تطور الخط العربي في أوليات أيامه ولا سيما في صدر الإسلام.

وقد سار الخط العربي الشمالي على نسق أغلبية الخطوط السامية مثل الخط النبطي والإرمي والعبرإني فاتجه من اليمين إلى اليسار. ونظراً لوجود حروف منفصلة وحروف متصلة فيه، دونت كتابة الكلمات فيه بالجمع بين النوعين من الحروف، وبذلك سهُل أمر الكتابة بهذا القلم، وصار على غرار القلم النبطي في السرعة. وللتمييز بين الكلمات، لم يستعمل الخطوط العمودية النازلة بين الكلمات للفصل بينها، على نحو ما كان في المسند، بل سار على طريقة النبط في وضع فراغ صغير مناسب بين كل كلمة وأخرى، دلالة على انفصالها بعضها عن بعض.

أما المسند، فقد اشتهر عند علماء العربية بأنه خط حمير، ولذلك قال له بعضهم "الخط الحميري"، و "القلم الحميري"، كما قال له المستشرقون فيما بعد. وهي تسمية مغلوطة على كل حال، لأن الحميريين لم يكونوا أول من أوجد هذا الخط، لقد سبقهم في استخدامه السبئيون والمعينيون وأقوام عربية اخرى، وقد عرفه بعض علماء العربية بقوله: "المسند: خط لحمير مخالف لخطنا هذا، كانوا يكتبونه ايام ملكهم فيما بينهم، قال ابو حاتم: هو في أيديهم إلى اليوم باليمن". وقد ذكر "ابن خلدون" أن حمير كانت تمنع من يريد إن يتعلم المسند إلا بإذنها.

والأبحاث التي قام بها الباحثون عن الخط العربي قبل الإسلام، لا تزال في مراحلها الأولى، ولا يمكن في نظري نضج هذه البحوث والوصول إلى نتائج علمية مرضية إلا إذا قام المتخصصون بالتنقيب تنقيباً علمياً في جزيرة العرب كلها، وهذا ما يستغرق بالطبع وقتاً طويلاً. ولا يستبعد أن يتوصل المنقبون إلى معرفة أبجديات واقلام قد تكون اقدم عهداً من هذه الأقلام التي تحدثت عنها، وقد يجدون أقلاماً اخرى جديدة تسمى بأسماء جديدة، قد تغير من هذه النظريات العلمية التي تلوكها ألسُنُ العلماء في هذا اليوم. فقد عثر على نصوص يظهر أنها بقلم ثمودي في موضع "ينبع النخل" الذي يبعد مسافة أربعين كيلومتراً عن "ينبع". كما وجدت كتابات بخطوط جاهلية وبخط عربي من صدر الإسلام في "جبل سلع" عند المدينة، وفي "وادي العقيق" الذي لا يبعد كثيراً عن المدينة. وكذلك في "وادي رانونا" الواقع جنوب المدينة على مسافة ثمانية كيلومترات، حيث وجدت نقوش صور حيوانات كذلك. وفي "الصويدرة"، و "بستان شهار"، وهو موضع يقع على مسافة كيلومترين جنوب الطائف، حيث يذكر من رآه انه وجد فيه كتابات تظهر وكأنها كتابات يونانية. ووجدت كتابات بعضها بدائية أو من شكل جديد في مواضع اخرى من الحجاز،قد تكون أقلاماً جديدة، كتبت بلهجات لا نعرف عنها اليوم شيئاً.

لقد كان من الشائع بين الباحثين إن المنطقة الواقعة فيما بين المدينة والطائف منطقة فقيرة بالكتابات، ولكن عثور بعض الباحثين على كتابات ثمودية وعلى كتابات أخرى وفي ضمنها كتابات قديمة تمثل أقدم أنواع الخط الذي دوّن به القرآن الكريم، قد مزّ ق حجب ذلك الشائع، وسوف يقف الباحثون ولا شك على كتابات أخرى جديدة في مواضع أخرى من الحجاز ولا سيما في المواضع الواقعة على طرق القوافل القديمة. وعندئذ سيزيد علمهم عن الأقلام العربية الجاهلية وعن علم الناس بلهجات العرب قبل الإسلام، ولا سيما بلهجات أهل الحجاز لما في ذلك من فائدة في الوقوف على اللغة التي نزل بها الوحي.

هذا - وأعود فأقول - إن من الخطأ مجاراة أهل الأخبار رأيهم في أن الكتابة العربية قد نقلت أول ما نقلت إلى مكة، ثم انتشرت منها إلى "يثرب" والى الأماكن الأخرى. إذ يروي أهل الأخبار أنفسهم أنه كان بيثرب قبل الإسلام رجال كانوا يقرأون ويكتبون بهذا القلم، ومنهم من كتب للرسول. وأما ما ذكروه من أن الرسول طلب من أسرى "بدر" ممن لم يكن يستطيع فداء نفسه، تعليم عشرة أطفال من أهل يثرب القراءة والكتابة في مقابل فكّ أسرهم، فليس فيه دليل على عدم وجود قارئين كاتبين بها، وإنما فعل النبي ذلك لتكثير الكتابة فيها، ولنشر التعليم بين المسلمين.

وقد أخطأ "ريجس بلاشير"في رأيه القائل: "لدينا مصادر أكثر قدماً، تدفعنا إلى الاعتقاد بأنها كانت كثيرة الاستعمال في الطائف بعكس انتشارها في المدينة الذي لقي صعوبات"، ثم قال في الملحوظة "5": "من الجائز أن يكون اليهود قد قاوموا انتشار الطريقة الكتابية العربية"، واستدل على الحالتين باستعانة الرسول بأسرى بدر لتعليم المسلمين القراءة والكتابة، لأن المصادر المحلية كانت غير كافية. ولا أعرف شيئاً عن المصادر القدَيمة التي ذكر أنها تشير إلى كثرة الكتابة بالطائف، عكس المدينة، لأنه لم يشر إليها، وإنما قال قولا عاماً،لم يؤيده بذكر أسم المورد الذي استقرى رأيه منه. ولعله قصد ما ورد في حديث تدوين القرآن من اجعلوا المملي من قريش، أو من هذيل، والكاتب من ثقيف، وهو حديث لا صلة له بقلة أو بكثرة انتشار الكتابة في مكان، ثم إنه يتناول مكة كذلك، كما يتناول المدينة، ونحن لو أحصينا عدد من كان يكتب من أهل يثرب من الصحافة لما وجدناه يقل عن عدد كتاب الطائف قبل الإسلام، بل هو فوقه بكثير، كما رأينا فيما سلف. أما قوله: من الجائز أن يكون اليهود قد قاوموا انتشار الكتابة في يثرب، فيخالفه ما ورد في الأخبار من أن احد يهود "بني ماسكة" كان يعلم أهل يثرب الكتابة، وتعلم أهل يثرب الكتابة بالعربية، لا يضر اليهود شيئاً، حتى يقاوموا تعلمها، بل ربما كان العكس هو الصحيح، -لأن في تعلمهم الكتابة والقراءة يجعلهم أقرب إلى التفكير والتأمل والاستقرار والميل إلى الهدوء والوقوف على الكتب من الجهلة الأميين، الذين تتحكم العواطف والعنجهيات في عقولهم، فتبعدهم عن حياة الهدوء والمسالمة.

ولم يصل إلى علمي إن أحداً من الباحثين قد تمكن حتى الآن من الحصول على كتابات في العربية الجنوبية مدونة بهذا القلم الذي نكتب به، ولكن هذا لا يمكن أن يكون دليلا على عدم استعمال أهل تلك البلاد له، فقد يجوز أن يكونوا قد استعملوه في أمورهم التجارية وفي مراسلاتهم وأعمالهم الأخرى، استعمال أهل مكة ويثرب له، إلا انه لم تبق منه بقية بسبب كونه قد كتب على الأدم والمواد الأخرى السريعة التلف، فلم تبق منه بقية، شأن كتابات أهل مكة ويثرب المكتوبة على هذه المواد. إذ لا يعقل عدم وصول هذا القلم إلى نجران والى صنعاء والى الأماكن التي وجدت النصرانية سبيلاً لها بينها، وقد كان النصارى يكتبون به، وهم من أهمالعناصر التي ادخلته الى جزيرة العرب.

ان القلم الذي دون به الوحي، والذي صار بفضله القلم الرسمي العربي ولعدد كبير من الشعوب الاسلامية، حمل في نفسه مثل اكثر الخطوط السامية وغيرها،نقاط ضعف، عولجت بعضها وتغلب عليها، كما في موضوع تشابه الحروف مثل الباء والتاء والثاء، حيث تغلب عليها بالتنقيط، وكما في كيفية التلفظ بالحركات، حيث عولج بوضع علامات لها فوق أو تحت الحروف، ومثل حرف "المد" والتنوين، وأمثال ذلك، مما جعل قارئ الكتاب يلاقي صعوبة كبيرة في قراءة الخط وفي فهم المراد منه، تجلت في المحاولات التي ظهرت في صدر الإسلام لإصلاح هذا الخلل، الذي ورد اليهم من نقلهم الخط نقلاّ،دون اجراء اصلاح عليه، ومع ذلك فلا تزال هناك مواطن ضعف فيه يجب التغلب عليها، تجدها مدونة في البحوث التي نقرأها بين الحين والحين في موضوع إصلاح الخط العربي، لا مجال لسردها ولسرد حججهاْ وأدلتها في هذا المكان.

أصل الخط

ولقد اهتم المسلمون في موضوع أصل الخط عند البشر وفي منشئه وكيفية ظهوره. وذهبوا إلى إن أول من وضع الخطوط آدم، كتبها في طين وطبخه، فلما أظل الأرض الغرق أصاب كل قوم كتابهم. وقيل "أخنوخ"، وهو "ادريس". وقالوا: " كان ادريس النبي عليه السلام أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبسها، وكان من قبله يلبسون الجلود". وعرف عندهم ب "هرمس الأول"، "وهو المثلث النعم، فإنه كان قبل الطوفان. ومعنى هرمس لقب، كما يقال قيصر وكسرى. وتسميه الفرس في سيرها اللهجد، وتفسيره ذو عدل. وهو الذي تذكر الحرانية نبوته، وتذكر الفرس أن جده كيومرث، وهو آدم. ويذكر العبرانيون أنه أخنوْخ، وهو بالعربية ادريس". وقالوا: "إن ادريس أول من درس الكتب، ونظر في العلوم، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، وهو أول من خاط الثياب ولبسها". وذكروا أنه عرف ب "هرمس الهرامسة"، تمييزاً له عن "هرمس الثاني"، وهو "هرمس البابلي"، وعن "هرمس الثالث"،وهو "هرمس المصري". وانه هو باليونانية أرميس وعرب بهرمس. ومعنى أرميس عطارد وانه بالعبرانية "خنوخ"وعرُب "أخنوخ". وسماه الله في كتابه العربي المبين ادريس. وان معلمه اسمه "اغثاذ بمون"المصري. إلى غير ذلك من قصص نجده في كتب أهل الأخبار.

وهو في زعم أهل الأخبار "أخنوخ بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش ابن شيت ين آدم". ومولده بمصر في مدينة "منف". ووصفوه وصفاً كأنهم كانوا معه وقد شاهدوه وجالسوه، فقالوا: " كان عليه السلام رجلاً آدم اللون تام القامة، أجلح، حسن الوجه، كث اللحية، مليح التخاطيط، تام الباع، عريض المنكبين، ضخم العظام، قليل اللحم، براق العين أكحل، متأنياً في كلامه، كثير الصمت، ساكن الأعضاء، إذا مشى أكثر نظره إلى الأرض، كثير الفكرة، به حدة وعبسة، يحرك إذا تكلم سبابته". وكان كثير الأسفار. زار الهند، وجاء إلى فارس وبابل. وعرف ب "ارمس"عند اليونان. وهو "اسم عطارد. ويسمى عند اليونان أطرسمين". " استخرج سائر الصنائع والفلسفة والطب". وهو. الذي علم "اسقلبيوس"الطب.. وهو أول من تكلم في شيء من الطب على طريق التجربة وامام الطب، وأبو أكثر الفلاسفة.

"وأول من تكلم في الأشياء العلوية من الحركات النجومية، وان جده كيومرث، وهو آدم علمه ساعات الليل والنهار، وهو أول من بنى الهياكل ومجّد الله فيها، وأول من نظر في الطب وتكلم فيه. وانه ألفّ لأهل زمانه كتباً كثيرة، وأشعاراً موزونة وقواف معلومة بلغة أهل زمانه في معرفة الأشياء الأرضية والعلوية. وهو أول من أنذر بالطوفان، ورأى إن آفة سماوية تلحق الأرض من الماء والنار، وكان مسكنه صعيد مصر، تخير ذلك فبنى هناك الأهرام ومدائن التراب، وخاف ذهاب العلم بالطوفان فبنى البرابي، وهو الجبل المعروف بالبرابر بأخميم وصوّر فيها جميع الصناعات وصناعها نقشاً وصوّر جميع آلات الصناع،. وأشار إلى صفات العلوم لمن بعده برسوم حرصاً منه على تخليد العلوم لمن بعده، وخيفة أن يذهب رسم ذلك من العالم".

ونسبوا له النبوة والقول بالتوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحض على الزهد والعدل والصيام أياماً معروفة في كل شهر والجهاد على الأعداء وايتاء الزكاة معونة للضعفاء، وغلظ عليهم في الطهارة من الجنابة والحمار والكلب. وحرّم المسكر من كل شيء من المشروبات، وشدد فيه أعظم تشديد، وجعل لهم أعياداً كثيرة، وقربانات. ورتب الناس ثلاث طبقات: كهنة وملوكاً ورعية. وجعل مرتبة الكاهن فوق مرتبة الملك، لأن الكاهن أقرب إلى الله من الملك والرعية.

و "هرمس"من "أرمس" Ermis، اسم إلَه من آلهة اليونان. ويقابل الإلَه "تحوت" Thot عند قدماء المصريين. وينسب المصريون إليه اختراع كل علم. ويقابل " Mercurius عند الرومان. وهو "عطارد" عند العرب.وقد عرف عند المسلمين ب "هرمس المثلث النعم"وب "المثلث النعم"، وقد أخذ ذلك عن اليونانية، إذ لقب فيها ب "طريسميجيسطيس" Hermis Trismegistes ومعناه ثلاثي التعليم. وقد عرّبوه فجعلوه "اطرسمين". وقد وقف المسلمون على قصص قديم شاع بين البابليين والمصريين والعبرانيين واليونان والرومان والفرس عن أصل المعرفة وكيف ظهرت بين البشر، فمزجوا بينها وجسّموها في قصص ادريس. وفي جملة ذلك اختراع الكتابة، فنسبوها إليه.

ولأهل الأخبار آراء في كيفية ظهور الكتابة عند كل امة من الأمم. أخذوها من أهل الكتاب أيضاً ومن القصص والأساطير. فذكروا مثلاً إن الله أرسل ملكاً اسمه "سيمورس"، علم آدم الكتابة السريانية، على ما في أيدي النصارى. وتفرعت منها ثلاثة أقلام، وهي: المفتوح ويسمى اسطرنجالاً، وهو أجلهّا وأحسنها، ويقال له الخط الثقيل ونظيره قلم المصاحف. والتحرير المخفف، ويسمى اسكوليثا، ويقال له الشكل المدور، ونظيره قلم الوراقين. والسرطا وبه يكتبون الترسل، ونظيره في العربية الرقاع. وذكروا إن أول من كتب بالفارسية "جم الشيد بن اونجهان""جمشيد""جم شيد"، "وكان ينزل أسان من طساسيج تستر، فزعمت الفرس انه لما ملك الأرض ودانت له الجن والارض وسخر له ابليس، أمره ان يخرج ما في الضمير إلى العيان فعلّمه الكتابة، وزعموا إن أول من كتب بالعبرانية عابر بن شالخ، وضع ذلك بين قومه فكتبوا يه. وزعموا إن اليونان لم يكونوا يعرفون الخط حتى ورد رجلان من مصر، يسمى أحدهما قيمس والاخر أغنور ومعهما ستة عشر حرفاً، فكتب بها اليونانيون،ثم استنبط أحدهما أربعة احرف، فكتب بها. ثم استنبط آخر يسمى سمونيدس أربعة أخر، فصارت أربعاً وعشرين.

ترى مما تقدم أن أهل الأخبار أخذوا أخبارهم المتقدمة عن نشوء الخط، من اهل الكتاب ومن الأساطير المترسبة من القصص الساذج القديم الذي كان شائعاً عند الشعوب القديمة، ثم صاغوه صياغة اسلامية،دون نقد ولا تمحيص، ومراجعة لاستخراج عناصر السذاجة والخرافات منها، وسبب ذلك أن ملكة النقد كانت هزيلة عندهم، وقد تقبلت كل ما سمعته من "أهل العلم الأول" دون نقد ولا تمحيص، تقبلت حتى الخرافات والأباطيل المخالفة لأبسط قواعد المنطق والعقل.

قلم النبط

وقلم النبط هو على عكس الأقلام العربية الأخرى التي عرفناها، وهي: المسند،والقلم الثمودي، والصفوي، واللحياني، قلم يرجع أصله إلى القلم الذي ينتمي إليه قلم بني إرم وقلم تدمر، والى المجموعة السامية الشمالية للخطوط. وقد تطور القلم النبطي، كما تطور غيره من الخطوط، فصار له قلم قديم وقلم متأخر، امتاز بميله إلى ربط حروفه بعضها ببعض، حتى اكتسب شكلاَ يمكن قراء القلم العربي الشمالي من التعرف عليه بسهولة، وبعد استعراض قليل له. وقد عمل مهندسو هذا الخط في تمديد بعض الحروف نحو اليسار، حتى ابتعدت عن سمياتها في الأبجدية الإرمية بعض البعد.

إن هذا التطور الذي مر به الخط النبطي،يظهر لنا إن النبط لم يكونوا يقنعون بالأخذ والاقتباس، وإنما كانوا يكيفون ما يتلقونه من غيرهم ويطورونه حتى يكتسب شخصية خاصة مستقلة.

هذا ولا بد لي من الإشارة إلى أن الألف في اللهجة النبطية قد تقوم مقام الهمزهَ في أبجديتنا في بعض الأحيان،وقد تقوم مقام المدة "آ" A عند وجودها في وسط اللفظة وفي نهايتها. وقد يحل محلها الحرفان ال "و" وال "ي"كما في "روفو" في موضع "رأفو"، و "رُأف"و "اروس"في موضع "أرأس"، ولما كانت الألف من الحروف الساكنة في الأبجديات السامية في الغالب، فاستعمالها في موضع الألف الممدودة وإحلال بعض حروف العلة في موضعها في النبطية وفي بعض الاْبجديات السامية، يدل على إن الأبجديات السامية المتأخرة نظرت اليها على أنها من حروف العلة المعبرة عن بعض الأصوات.

وحرف ال "ج"هو "كيمل"في الأبجديات السامية، وهو قريب في النطق من الكاف "ك""كاف" الفارسية. غير أن الكتابات النبطية المتأخرة استعملت هذا الحرف في مواضع كثيرة على نحو نطقنا بالجيم في عربيتنا.

الفصل الثاني والعشرون بعد المئة
المسند ومشتقاته

والمسند من الأقلام العتيقة، وهو أعتق من القلم النبطي المتأخر، وهو أقدم الأقلام التي عرفت في جزيرة العرب حتى الآن. وقد أظهرت الاكتشافات الحديثة إن استعماله لم يكن قاصراٌ على اليمن حسب، بل لقد كان القلم المستعمل في كل أنحاء بلاد العرب. وقد استعمله العرب في خارج بلادهم أيضاً،لأنه قلمهم الوطني الذي كانوا به يكتبون فعثر في موضع قصر البنات على طريق "قنا"على كتابات بهذا القلم، كما عثر على كتابة بهذا القلم كذلك بالجيزة كتبت " في السنة الثانية والعشرين من حكم بطلميوس بن بطلميوس". وهي ليست بعد سنة "261" قبل الميلاد بأي حال من الأحوال. وعثر على كتابات بالمسند في جزيرة "ديلوس"من جزر اليونان.

وذكر السائح الانكليزي "وليم كنت لوفتس" William Kennett Loftus انه لاحظ فجوة في "وركاء" Uruk في العراق، فبحْث فيها، فتبين له انها كانت قبراً وجد في داخله حجر مكتوب بالمسند، فيه: إن هذا قبر "هنتسر بن عيسوبن هنتسر".

ولهذه الكتابة المدونة بالمسند، أهمية كبيرة جداً، لأنها أول كتابة وجدت بهذا الخط في العراق. وهي تشير إلى الروابط الثقافية التي كانت بين اليمن والعراق، والى وجود أشخاص في هذا المكان كانوا يستعملون المسند، سواء اكانوا عراقيين أم يمانيين.

وقد عثر على كتابات بالمسند في مواضع من الحجاز، ويظهر أنه كان قلم الحجازيين قبل الميلاد. وقد وصل هذا القلم إلى بلاد الشام. فقد عثرت بعثة علمية قامت بأعمال الحفر في ميناء "عصيون كبر." "عصيون جابر" Ezion Geber على جرار عليها كتابات بحروف المسند رأى بعض العلماء أنها معينية، تفصح عن الأثر العربي في هذا الميناء المهم الذي حاول سليمان أن يجعله ميناء اسرائيل على البحر الأحمر.

ويظهر من روايات أهل الأخبار أن غير اهل اليمن، لم يكونوا يستعملون المسند في كتابتهم، ولا يتعاطونه، كالذي يستفاد من قصة "قيسبة بن كلثوم السكوني"، وكان ملكاً وقع في أسر بني عامر بن عقيل، فذكر انه كتب بالسكين على مؤخرة رجل أبي الطمحان حنظلة بن الشرقي احد بني القين بالمسند، يخبر قومه بوقوعه في.الأسر. ولم يكن أحد من غير أهل اليمن يكتب بالمسند، فلما قرأه القوم، ساروا إلى بني عامر، وفتكوا بهم، وأنقذوا قيسبة منهم.

ورواية أهل الأخبار هذه لا يمكن أن تكون دليلاّ على عدم وقوف غير اهل اليمن على المسند في العهود البعيدة عن الإسلام. ولا على عدم استعمالهم لذلك القلم في حياتهم اليومية، لأن علم أهل الأخبار بأحوال الجاهليين لا يرتقى كما سبق أن قلت إلى عهود بعيدة عن الإسلام، ولأن في أكثر الذي ذكروه عنهم، قصص ونسج خيال، يستوي في ذلك حتى ما ذكروه عن الجاهلية الملاصقة للاسلام، ثم إن في الذي عثر عليه السياح من كتابات مدو"نة بالثمودية أو بأقلام أخرى مشتقة من قلم المسند ما يفند الرواية المذكورة في عدم استعمال غير أهل اليمن للمسند وفي عدم وقوفهم عليه. ويمكن حمل كلامهم في عدم استعمال أهل الحجاز أو غيرهم للمسند على أيام الجاهلية القريبة من الإسلام. حيث ظهر القلم العربي الشمالي.

والرواية لا يمكن أن ترتقي إلى زمن بعيد عن الإسلام. فنحن نعلم إن "حنظلة بن شرقى" المعروف بالطمحان، وهو من "بني القين بن جسر"كان شاعراً فاسقا من المخضرمين. وكان نديماً للزبير بن عبد المطلب في الجاهلية، ثم أدرك الإسلام، ولو صدقنا الرواية المذكورة وأخذنا بها، وجب إن تكون الكتابة قد وقعت قبيل الإسلام، ومعنى ذلك إن "قيسبة" وهو من "بني السكون" كان يكتب بها، أي إن المسند كان معروفاً ويكتب به خارج اليمن في هذا العهد، ولهذا يكون قول "الاصبهاني": "وليس يكتب به غير أهل اليمن"، مغلوطاً، لأن "قيسبة"لم يكن من أهل اليمن، حتى يصح قوله.

وكشفت العروض ونجد وأماكن أخرى عن سر كان العلماء يبحثون عنه في شوق، فقدّمت للعلماء عدداً من الكتابات المدونة بالمسند، وبذلك ثبت علميا إن "المسند" كان معروفا قبل الإسلام في كل جزيرة العرب، وربما كان القلم العام للعرب قبل المسيح، أي قبل ظهور أقلام أخرى ولدت على ما يظن بعد الميلاد.

ففي سنة 1911 للميلاد عثر"الكابتن شكسبير" Capt. W. H. Shakespear على كتابتين بالمسند في موضع "حنا""الحنأة "وفي خرائب "ثج""ثأج"التي تبعد خمسين ميلا تقريباً عن ساحل الخليج و زهاء مئة ميل من شمال غربي القطيف. وقد نشر ترجمة الكتابتين "ماركليوث". وعثر بعد ذلك على كتابة أخرى في موضع "ثج""ثأج"دخلت في ملك أمير الكويت، وقد نشر ترجمتها. "ركمنس"، وهي حجر قبر لشخص من قبيلة "شذب". وعثر على كتابة أخرى في هذا الموضع، وقد بلغ عدد ما عثر عليه في هذا المكان أربع كتابات.

وعثر عمال شركة البترول العربية السعودية الأمريكية "أرامكو"في أثناء الحفر على مقربه من "عين جوان""جون""جاوان "عام 1945 للميلاد على حجر مكتوب تكسرت بعض أطرافه بالمعاول قبل معرفته، اتضح بعد أنه حجر قبر لامرأة يقال لها "جشم بنت عمرت""عمرت"بن تحيو من أسرة "عور" "آل عور"من قبيلة شذب.

واستخرج "كورنول" ؛P.B. Coronwall لوحا مكتوباً بالمسند كان مدفوناً في أحد بساتين القطيف، دفنه اصحاب البستان، وقد ذكر أنه نقل من جزيرة "ثاروت". أو من موضع لا يبعد كثيراً عن القطيف، وقد وجد أن هذا اللوح هو مثل الألواح التي عثر عليها قبلاّ، شاهد قبر، وضع على قبر رجل يقال له "ايليا بن يرخما بن شصر من أسرة سمم من عشيرة ذال من قبيلة شذب". ويرى بعض الباحثين أن صاحب القبر كان نصرانياً، عاش في القرن الخامس أو السادس للميلاد".

وعثر على شاهد قبر آخر مدوّن بالمسند، هو شاهد قبر "شبام بنت صحار ابن عنهل بن صامت"من قبيلة "يدعب"، وجد على مقربة من القطيف. و "يدعب"يطن من بطون قبيلة "شذب". ويظهر إن قبيلة "شذب" كانت من القبائل المعروفة في العروض، وكانت ذات عدد من البطون، ولا تحمل الكتابة تأريخاً، ويرى الذين درسوها أنها تعود إلى القرن السادس للميلاد. واما الرقم الذي ذكر في نهاية النص وهو رقم "90"، فالظاهر انه يشير إلى عمر صاحبة القبر.

هذا ما عثر عليه من كتابات بالمسند في العروض. وأما في أواسط جزيرة العرب وفي باطنها وفي الأماكن التي لم يكن يتصور العثور فيها على أثر لحضارة، فقد عثر فيها على كتابات بهذا القلم كذلك، ولهذه الكتابات أهمية كبيرة ؛ لأنها أول وثيقة تاريخية لا يتطرق إليها الشك، ترد الينا عن هذه المناطق التي لم يرد لها ذكر مفصل عند المؤرخين السابقين، لأنها أول دليل عملي يثبت انتشار هذا الخط في اواسط جزيرة العرب. عثر "فلبي" في هذه المناطق على فخار وآثار أرسلها إلى المتحف البريطاني ظهر انها تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد. ويظن من فحصها انها من آثار السبئيين. كما عثر على كتابات وصور، وبقايا مقابر و عظا م.

وقد صور "فلبي"بعض الكتابات، وصور بعضاً آخر رجال شركة البترول العربية السعودية الذين وصلوا إلى هذه المواضع للبحث عن البترول. وقد وصلت تصاوير عدد منها إلى العلماء فنشروا نصوصها وترجماتها، مثل كتابات "القرية"أو "قرية الفأو"التي سبق أن تحدثت عنها. وقد وجد اسم الصنم "ودّ"مكتوبا بحروف كبيرة بين تلك الكتابات، وحيث أن هذه الكنوز الثمينة إنما عثر عليها ظاهرة على سطح الأرض، وحيث أن الباحثين لم يفحصوا الكهوف فحصاً دقيقاً، ولم ينظفوها من الأتربة والرمال التي في داخلها، فإننا نأمل العثور على أشياء ثمينة ذات بال بالنسبة للتأريخ الجاهلي إذا اهتمت الحكومة العربية السعودية بهذا الأمر، وقامت بتجهيز بعثة علمية من المتخصصين بالأثريات العربية، أو سهلت للعلماء وللبعثات سبل الوصول إليها، وحافظت على تلك الآثار من التلف وعبث العابثين.

ووجد "فلبي" كهوفاً ومقابر في مواضع أخرى من "وادي الفأو"، وقد وجدت حيطان بعض الكهوف "سردب""سرداب"مكسوة بالكتابات "والوسم"والتصاوير المحفورة. ويظهر أن أبنيه ضخمة كانت في هذه الأماكن.

وعثرت شركة "أرامكو"على رأس نحت من الحجر في "القرية" كتب عليه بالمسند أنه "ثار ونفسي علزن بن قلزن غلونن"، أي "اثر وقبر علزان ابن قلزان الغلوني". كما وجدت كتابات بهذا القلم عند جبل عبيد وفي حصن ناطق وفي شمال موضع "خشم كمدة"على مسافة "100" كيلومتر من شمال قرية الفأو في وادي الدواسر، وفي "و ادي هبن""حبن "على "120" ميلاً شمال شرقي عدن. وفي "عين قرية" على "30" ميلا تقريبا من شمال "زفر" وفي "منخلى" في جنوب خشم العرض حيث يعتقد البدو أن هذا الموضع هو بئر من آبار عاد.

لم يفسر علماء العربية سبب تسمية "المسند" مسنداً، وقد قرأت لإسرائيل ولفنسون تعليلاً لتسمية هذا القلم مسنداً، فقال: "والخط المسند يميل إلى رسم الحروف رسماً دقيقأ مستقيما كل على هيأة الأعمدة. فالحروف عندهم على شكل العمارة التي تستند إلى أعمدة. وعلى العموم فإن لحضارة جنوب بلاد العرب عقلية تنحو نحو الأعمدة في عمارة القصور والمعابد والأسوار والسدود وأبواب المدن، ومن اجل ذلك يوجد عندهم ميل شديد لإيجاد حروف على هيأة الأعمدة، أي إن الحروف كلها عبارة عن خطوط تستندّ إلى أعمدة.

وقد تنبه علماء المسلمين إلى شكل هذه الكتابات وأطلقوا عليها لفظة المسند، لأن حروفها ترسم على هيأة خطوط مستندهّ إلى أعمدة".

وهو رأي سبقه إليه "ليدزبارسكي" Lidzbarski إذ أشار إلى أثر العمارة والأعمدة في شكل هندسة حروف الخط المسند وهو تفسير يشبه تفاسير الأخباريين واللغويين للاسماء والأعلام التي لا يعرفون من أمرها شيئاً، فيلجأون إلى الخيال ليبتكر لهم سبباً وتعليلاّ يناسب الكلمة،ويتصورون عندئذ أنهم قد أوجدوا السبب، وأن من يأتي بعدهم سيكتفي بذلك ويأخذ به.

وكذلك كوّنت كلمة "المسند" في مخيلة "اسرائيل ولفنسون"ولدى "ليدزبارسكي"فكرة استناد خطوط الحروف وقيامها بعضها إلى بعض استناد المباني،وقد وجدا من مباني اليمن وقصورها ما قوى هذا الخيال عندهما، مع إن كلمة "المسند" التي تطلق في المؤلفات العربية الاسلامية على خط أهل اليمن قبل الإسلام لا علاقة لها بالقصور والمباني،واستناد أجزاء الحرف الواحد بعضها إلى بعض. وانما تعني شيئاً آخر، تعني خط أهل اليمن القديم لا أكثر ولا أقل. وكلمة "مسند""مزند "في العربية الجنوبية تعني "الكتابة" مطلقاً، وقد وردت في مواضع متعددة من الكتابات والنقوش، فورد في نص أبرهة مثلاً "سطرو ذن مزندن"، وترجمتها: "سطروا هذه الكتابة"، وتؤدي كلمة "سطرو" المعنى نفسه الذي يرد في لغتنا، وهو: "سطروا"، اي كتبوا ودونوا، فكلمة "مزندن"التي صارت "المسند"في عربيتنا تعني في العربية الجنوبية ما تعنيه كلمة الخط أو الكتابة في لغة القران، ولم تكن مخصصة عند اليمانيين بخط حمير، أو غير حمير،وانما حدث هذا التخصيص في المؤلفات الاسلامية فصار فها "المسند" اسم علم لخط حمير وحده. ولا ندري متى حدث ذلك: أحدث في الجاهلية المتصلة بالاسلام "ام في الإسلام ? واذا كان هذا التخصيص قد وقع في الإسلام، فإننا لا نستطيع أيضاً التكهن عن الوقت الذي ظهر فيه هذا.التخصيص، لأننا،لا نملك مصادر اسلامية تشير إلى هذا ولا مؤلفات من صدر الإسلام يمكن إن نجد فيها ما نبحث عنه. ويتألف المسند من تسع وعشرين حرفاً وأبجديته مثل الأبجديات السامية الأخرى من حيث انها تتألف من الحروف الصامتة ولا حركة في الكتابة فيها ولا ضبط في أواخر الكلمات ولا علاقة للسكون او للتشديد. ويفصل بين الكلمة والكلمة التي تليها فاصل هو خط مستقيم عمودي. وقد يكتب الحرف المشدد مرتين كما في اللغات الأوروبية.

ومما يلاحظ على الكتابات المعينية انه لم يطرأ عليها تغيير كبير في العهود التي مرت بها. اما الكتابات السبئية، فيمكن التمييز بين القديم منها والمتأخر في الأسلوب، وفي شكل الكتابة.

وللمسند ميزات امتاز بها عن القلم العربي، فحروفه منفصلة، وهي بشكل واحد لا يتغير بتغير مكان الحرف من الكلمة. فإذا جاء الحرف في أول الكلمة أو في وسطها أو في آخرها، كتب بشكل واحد. وقد جعلت هذه الخاصية هذا القلم ميزة أخرى، هي ميزة الكتابة به من أي جهة شاء للكاتب إن يبدأ بها. فله إن يكتب من اليمين إلى اليسار وله أن يكتب من اليسار إلى اليمين، وله إن يمزج بين الطريقتين، بأن يكتب على الطريقة الحلزونية، من اليمين إلى اليسار" ثم من اليسار إلى اليمين، ثم من اليمين إلى اليسار، أو العكس، وله أن يكتب من أعلى إلى أسفل أو العكس وهكذا، ثم إن حروفه غير متشابهة لذلك لم يعرف المسند الإعجام، ولو كتب له إن يكون قلم المسلمين ليسّر لنا اليوم وقتاً ومالاً في موضوع الطباعة به. ولكنه أبطأ في الكتابة نوعاً ما من الخط العربي لشكل حروفه الضخمة بالنسبة إلى الحروف العربية المختزلة، فالخط العربي يمتاز عليه بهذه الناحية فقط. أما موضوع الشكل، فالمسند غير مشكول،بل يكتب بحروف صامتة فقط.

وفي القرن التاسع عشر وما بعده كشف المستشرقون النقاب عن أقلام أخرى لم يعرفها علماء العربية، هي: القلم الثمودي، والصفوي،واللحياني. وكتابات أخرى كتبت بلهجات محلية عثر عليها في الجوف، وفي الحجر وفي العلا، وفي مناطق أخرى كجبل شيحان، وكوكبان، وجبل سمر، لها بعض الخصائص والمميزات اللغوية. والظاهر إن خط هذه الكتابات كان مستعملاّ بين السواد في الأمور الشخصية.

أما القلم الثمودي، فقد عثر على كتاباته في العربية الغربية، وفي الجمهورية العربية السورية وفي المملكة الأردنية الهاشمية وفي الحجاز، فقد عثر على كتاباته في مواضع متعددة من الحجاز، فيما بين المدينة ومكة وعلى مقربة من الوجه والطائف، وفي "ريع الزلالة"عند السيل الكبير على طريق الطائف مكة. وعثر على كتابات ثمودية في "حائل" وأماكن أخرى من نجد وفي اليمن. وفي هضبات شبه جزيرة سيناء.

هذا وقد عثر على كتابات ثمودية كثيرة في "ربع الزلالة""سيل الغربان"، إلى الشمال من الطائف على مسافة أربعين كيلومتراً منها. وفي وادي "الاب"،وفي مواضع أخرى من الحجاز ونجد، مما يدل على انتشار الثموديين في مواضع واسعة من جزيرة العرب.

وأما القلم الصفوي، فقد عثر عليه في منطقة الصفاة شرقي الشام، وفي بادية الشام، ولا يعني هذا إن هنالك قبائل كانت تسمى قبائل صفوية،لا بل هو اصطلاح أطلقه المستشرقون على الخطوط التي وجدت في ناحية الصفاة، وهي تشتمل على كتابات قريبة من كتابة لحيان وثمود. كما عثر على كتابات صفوية في مواضع من بادية العراق.، ويوجد عدد منها في ملك مديرية الآثار القديمة العامة في العراق. كما عثر على عدد كبير منها في المملكة الأردنية الهاشمية. وقد نشرت نصوص بعض منها في جريدة الآثار للمملكة الأردنية الهاشمية.

والموطن الرئيسي للكتابات اللحيانية هو منطقة العلا، ولا سيما موضع "الخريبة" والصخور الواقعة إلى شرقه، حيث عثر فيها على مئات من الكتابات التي تعود إلى شعب لحيان.

والأقلام الصفوبة والثمودية واللحيانية، مثل المسند، ليس لها علامات لا للفتح ولا للكسر ولا للضم ولا للاشباع ولا لاتحاد الفتحة والواو والباء "أي الإمالة Diphthoneg"الخ..، كما إن حروفها تأخذ صوراً متعددة، فيرد الحرف الواحد في كل قلم من الأقلام المذكورة بصور مختلفة، ولذلك تجابهنا صعوبات كبيرة في محاولتنا قراءة الكلمات والجمل قراءة صحيحة. ويحتاج القارئ إلى مرانٍ طويل ودراسات للهجات العربية الأخرى لضبط الكلمات في هذه اللهجات، ومعرفة معانيها.

وقد لاحظ المستشرقون مشابهة كبيرة بين الأقلام المذكورة وبين المسند، كما وجدوا هذه المشابهة بين عدد منْ الأقلام التي استعملت في غير جزيرة العرب والمسند،وبعد مقابلات بينها ودراسات ذهبوا إلى تفرعها من المسند. وهذه الأقلام المذكورة صورة كلها متأخرة عن المسند، وتعود تواريخ قسم منها إلى ما قبل الميلاد، ومنها ما يعود تاريخه الى ما بعد الميلاد.

ومما يلاحظ على هذه الأقلام اختلاف صور أكثر الحروف فيها، فقد تكون للحرف صورتان، وأحيانا ثلاث صور أو أكثر، غير إن هذا الاختلاف ليس كبيراً في الغالب بحيث يتعذر معه تمييز أشكال الحرف الواحد، ولا تجد فيها الوضوح والبساطة التي نجدها في المسند، كما لا نجد فيها هذه الخطوط المستقيمة المنقوشة بدقة وعناية في الكتابات المعينية أو السبئية أو الحضرمية أو القتبانية أو الحميرية، فكأن كتابهم كانوا يرون العجلة في الكتابة والاسراع في التسطر لضيق الوقت، لذلك لم تكن حروفهم دقيقة واضحة.

وأما الأقلام التي تشبه حروفها المسند. واستعملت عند أقوام عاشوا في أقطار لم تكن من جزيرة العرب، فمنها القلم الحبشي القديم، وقد عثر على كتابات به في منطقة "يحا""بها" Jeha، وهي تمثل أقدم نماذج الكتابات الحبشية،وقلمها هو القلم السبئي القديم، وفي "اكسوم" تعود إلى القرن الرابع للميلاد،وكتابات نصرانية كتبت باللهجة "الجعزية"وتعود إلى القرن الخامس للميلاد. وقد استعملت في هذه الكتابات الجعزية.الأصوات مع الحروف، وبذلك اختلفت عن الأبجديات السامية التي استخدمت الحروف الصامتة حسب، وذلك بإضافة شيء يشبه الحركات في صلب الحروف يقرأ معها ولاتفهم هي بدونها. ومع ذلك احتفظت بالأشكال الأصلية للحروف العربية الجنوبية، ولم تبتعد عنها كثيراً. ويمكن إدراك أثر المسند في الكتابة الحبشية المستعملة في الوقت الحاضر دون كبير عناء.

وذهب كثير من المستشرقين إلى أثر المسند نفسه أو بالواسطة في عدد من الأقلام الأخرى، منها كتابات عثر عليها في إفريقية Meroitische Schrift في إحدى اللهجات الكوشية أو النوبية. والخط البربري القديم الذي يعود إلى أيام قياصرة رومة. والقلم البراهمي " Brahma Script-Devanagri Alphbet"، حيث نلاحظ شبهاً كبير بين حروف هذا القلم والمسند. ولا يستبعد أثر المسند فيه ؛ لأن العلاقات بين العربية الجنوبية والهند كانت قديمة جداً.

يظهر أن المسند كان القلم الرئيسي في جزيرة العرب قبل الإسلام، وأن جزيرة العرب كانت تكتب به قبل المسيح. وأن أقلاماً تفرعت منه قبل المسيح وبعد المسيح، لأسباب لا تزال غير واضحة، وقد.تكون لأشكال الحروف التي تتطلب دقة في الرسم علاقة بذلك، فمال الكتاّب إلى ابتكار اشكال مرنة لا تحتاج إلى عناية في الرمم، فاستخدموها في الكتابة لسهولتها. فتولدت منه الكتابات ا لمذكورة.

أصل القلم المسند

ذكرت أن أكثر المستشرقين رأوا أن القلم العربي الذي دون به القرآن الكريم، أخذ من القلم النبطي المتأخر. أما المسند، فقد رأى كثير منهم أنه اشتق من الأبجديات السامية الشمالية كذلك. وذهب بعضهم إن انه تفرع من الأبجدية السينائية ومنهم من قال إن الأبجدية العربية الجنوبية تفرعت من نفس الأصل الذي أوجد الخط الفينيقي، فهي لنلك من أقدم الأبجديات المعروفة. ونحن إذا أنعمنا النظر في شكل الأبجدية الطورسينائية والمسند، نجدهما لا تتشابهان إِلا في رسم حرفين أو ثلاثة. وتتكون الأبجدية الطورسينائية من اثنين وعشرين حرفاً كالفينيقية والعبرانية. أما الأبجدية العربية الجنوبية، فتتألف من تسعة وعشرين حرفاً، أي بزيادة سبعة أحرف على أبجدية طور سيناء.

وحجة القائلين أن المسند قد أخذ من القلم الفينيقي، وأن الأبجدية الفينيقية هي أقدم الأبجديات وأم الأبجديات.ولكننا إذا أنعمنا النظر في رسم حروف الأبجديتين، نجد التشابه بينهما في هيأة الحروف ورسمها ليس كبيراَ، كما أن الأبجدية العرّبية الجنوبية تزيد عليها في سبعة أحرف،وهذه الأحرف الزائدة لا تختلف عن الأحرف المشتركة بين الأبجديتين في هندسة الرسم والشكل. فلعل الأبجديتين قد تفرعتا من أصل واحده، فلا يعد المسند لذلك فرعا نبت من الفينيقية.

وزعم نفر من الباحثين في تطور الخط أن المسند مشتق من القلم الكنعاني، ولكن بعض علماء العربية الجنوبية ينكَر هذا الرأي. إذ يرى أن المسند أقدم عهداً من الأبجدية الكنعانية، وأن الكتابات العربية الجنوبية أقدم زمناً من أقدم الكتابات الكنعانية،فلا يصح إذن القول بأن المسند مشتق من القلم الكنعاني. ومما يلاحظ على الأبجديتين إن الأبجدية الكنعانية يعوزها من الحروف: ذ، ض، ظ، س "سامخ"، ث، غ. ولكن الأبجديتين تشتركان اشتراكاً تاماً في الحروف: ج، ط، ل، ن، ع، ش، ق، ت، و. وتختلفان في بعض الحروف اختلافاً كبيراً، وليس بمستبعد أن تكون الأبجديتان قد تفرعتا من أصل واحد.

والرأي عندي إن من الصعب البت في الوقت الحاضر في موضوع أصل المسند،لأن صور الأبجديات القديمة الواصلة الينا لا تزال قليلة، ولا نجد بين صورها وبين صور المسند تشابهاً كبيراً بحيث يمكن إن نستنبط من هذا التشابه حكماً يفيدنا في تعيين أصل المسند. والتشابه بين حروف قليلة لا يمكن إن يكون سبباً للحكم باشتقاق خط من خط. وعندي إن الأبجدية العربية الجنوبية تمثل مجموعة خاصة، تفرعت من أصل لا نعرف من أمره اليوم شيئاً،لان شكل حروف المسند لا يشبه شكل حروف الأبجديات المعروفة، فلننتظر. فلعل المستقبل يكشف للعلماء النقاب عن أبجديات مجهولة.

ولا يعقل بالطبع إن يكون اهل العربية الجنوبية قد أوجدوا خطهم من العدم، من غير استعانة بعلم مسبق عن الحروف والأبجديات، بل لا بد إن تكون أبجديتهم قد أخذت من أبجدية أخرى، ومن فرع من فروع الخط الذي أوجدته البشرية، ودليل ذلك إن أسماء الحروف الأساسية التي ترد في كل أبجدية هي واحدة، وفي وحدة الأسماء دلالة على وجود اصل واحد، تفرعت منه الخطوط. والمسند بالنسبة لنا، هو خط قائم بذاته، يشابهه الخط الحبشي، ومن فروعه الأبجدية اللحيانية والثمودية و الصفوية. فكل هذه الأبجديات هي من فصيلة واحدة رأسها المسند، أما ما فوق المسند، فلا نعرف من أمره أي شيء.

وفي المسند حرف لا وجود له في أبجديتنا يكون على هذا الشكل: وهو بين الزاي والسين، ولذلك يجعله البعض سيناً حين ينقلون نص كتابة عربية جنوبية الى عربيتنا، أو إلى اللغات الأورربية. كما يقرأ حرف الجيم "6" "كيما"في المسند على نحو نطق المصريين بهذا الحرف في لسانهم.

ومن القلم المسند أخذ الأحباش قلمهم الذي يكتبون به، نقله اليهم السبئيون الذين هاجروا إلى الحبشة قبل الميلاد وأقاموا لهم حكومة هناك وأثروا في الأحباش، فكان من تأثرهم فيهم هذا القلم الحبشي.

وحروف المسند منفصلة غير متصلة، أعني انها ليست كحروف الأبجدية التي نكتب بها، بل الحروف فيها مستقل بعضها عن بعض غير متصل به. ولتمييز الكلمات بعضها عن بعض، وضع الكتاب خطوطاً مستقيمة عمودية تشير إلى انتهاء الكلمة والى ابتداء كلمة جديدة. وتبدأ الكتابة عندهم من اليمين في العادة،وتنتهي في اليسار، غير انهم قد يكتبون من اليسار أيضاً، وينتهون بالسطر في اليمين. وقد يمزجون بين الطريقتين في فيبتدئون في اليمين مثلا، وينتهون بالسطر في اليسار، ثم يبدأون في السطر الذي يليه من اليسار، وينتهون في اليمين، ويبدأون بالسطر الذي يليه من اليمين لينتهي باليسار،ويبدأون في الثالث من اليسار وينتهون باليمين، وهكذا حتى تنتهي الكتابة. أما إذا ابتدأوا بالكتابة من اليسار، فينتهون بالسطر في اليمين، ثم يبدأون في السطر الثاني باليمين لينتهوا به في اليسار، وليبدأوا بالسطر الثالث من اليسار ولينتهوا به في اليمين، وهكذا يسيرون على هذا المنوال حتى تنتهي الكتابة. ويلاحظ إن لشكل حروفهم خاصية جعلتها تصلح لأن يكتب بها في اول الكلمة أو في وسطها أو في أواخرها من.دون حاجة لاجراء اي تعديل على جسم الحرف العام، لأنها حروف منفصلة غير مربوطة. وهي تمتاز من هذه الناحية عن حروف أبجديتنا، التي ترتبط فيها الحروف، فتستعمل حرف العين مثلاً في أول الكلمة بصورة تختلف عن صورة هذا الحرف إذا استعل في الوسط، وتستعمل هذا الحرف في آخر الكلمة بصورة تختلف عن استعماله في أول اللفظة أو في وسطها، أي انها تحدث تغييراً على جسم الحرف. ولهذه الخاصية صار في الامكان الابتداء بحروف المسند من أية جهة أراد الكاتب أن يكتب بها من ناحية اليمين أو من ناحية اليسار، أو بالجمع بين الطريقتين من غير أي تأثر في قابلية القارئ على القراءة، كما صار من السهل على المبتدئ بالكتابة والقراءة تعلم الخط بالمسند بكل سهولة، لوجود شكل واحد لا يتغير للحروف. فهو لهذا صار أسهل تعلماً من الخط الذي نكتب به الان ذي الأشكال المتعددة الحروف، كما انه خال من التنقيط الموجود في عربيتنا لتمييز الحروف المتشابهة في هذا الشكل بعضها عن بعض، وهو مما سبب لنا مشاكل خطيرة في كيفية ضبط الحروف والألفاظ عند وقوع التصحيف، بسقوط نقطة من الكتابة سهواً، أو بوضع النقطة في موضع يجب ألا توضع فيه، أو بوقوع سهو في عدد النقط.

وقد راعى الكتاب استعمال الخطوط العمودية للفصل بين الكلمات مراعاة تامة،لأنها هي العلامة الوحيدة التي ترشد القارئ إلى انتهاء لفظة وابتداء لفظة جديدة، ولم يخطر ببالهم وضع فراغ بين نهاية كلمة وابتداء كلمة جديدة، أو لأنهم لأمر ما لم يستعملوا هذا الفراغ خشية حصول التباس قد يفسد على القارئ قراءته، وقليلاّ ما خالف كتابهم هذه الطريقة فأغفلوا وضع هذه الأعمدة الفاصلة. ولم يستعل كتاّبهم علامةّ ما دالة على انتهاء جملة وابتداء جملة أخرى جديدة أو انتهاء فصل وابتداء فصل جديد، كذلك لم يستعملوا ما نستعمله نحن في الزمن الحاضر من علامات فواصل لأداء معاني خاصة يقتضيها الكلام وعلامات استفهام، لأن هذه الأشياء من الأمور المتأخرة التي أدخلت على الكتابات الغربية، ولم تكن معروفة عند الأقدمين.

وحروف المسند حروف غير مشكلة، فليس فوقها أو تحتها حركات كما هي الحال في عربيتنا حين نرغب في تحريك الحروف. وهي غير منقطة كذلك فلا نقط فوق بعض الحروف أو تحتها لتمييزها عن غيرها من الحروف المشابهة لها كما هي الحال في ابجديتنا أيضاً، ولم يرمز عن الحركات بحروف أو برموز تستعمل مع الحروف الصامتة داخل الكلمة ليتمكن بها القارئ من النطق بالكلمة النطق الصحيح كما حدث ذلك في الأبجديات اللاتينية، وفي الأبجديات الأخرى التي سارت على نهجها وسبيلها ولم يرمزوا عن حرف المدّ بشيء ولا عن السكون أو التشديد. وهذا مما جعلنا في حيرة من النطق بكلماتهم نطقاً صحيحاً مضبوطاً، وجعل القارئ الحديث يذهب مذاهب مختلفة في كيفية ضبط الكلمة وفي كيفية النطق بها. فلفظة مؤلفة من حروف صامتة وحدها، لا يمكن إن ينطق بها النطق الصحيح المضبوط ولا يمكن معرفة معانيها بسهولة، وقد ولدت هذه الطريقة مشكلات كثيرة لنا من حيث التوصل إلى معرفة نحو تلك اللهجات وصرفها.

ولا توجد في المسند علامة لتشديد الحرف، وقد يكتب الحرف مرتين كما هي الحال في الأبجديات الأوروبية للدلالة على أن الحرف مشددٌ، ويكون ذلك في الكتابات المعينية.

واقتصار الكتاب على استعمال الحروف الصامتة وحدها، جعل من العسير علينا البت في كيفية النطق بالكلمات و التعرف بسهولة على مواضع الكلم من الإعراب.

ولولا الاستعانة باللهجات العربية الباقية المستعملة في اليمن،وبلغة القرآن الكريم، وبالمعجمات، وباللغة الحبشية، لكان من الصعب على القارئين للكتابات العربية الجنوبية التوصل إلى فهم معانيها والى قراءتها قراءة مضبوطة أو قريبة من القراءة الصحيحة، والتوصل إلى استخراج القواعد منها. فبفضل هذه المواد المساعدة، يمكننا من الوصول إلى ما توصلنا إليه عن تلك اللهجات المكتوبة بالقلم المسند. ومن جملة المسائل التي جعلت فهم النصوص العربية الجنوبية أمراَ صعباً على الباحث في بعض الأحيان، اشتمالها على اصطلاحات غير موجودة في العربية، وعلى كلمات غير موجودة في اللغات السامية الأخرى ثم إن بعضها قد كتب كتابة موجزة صيرتها غامضة غير مفهومة، ولهذا اضطر علماء العربيات الجنوبية إلى تلخيص معناها على وجه التقريب.

ومما يؤسف عليه كثيراً أن كتبة المسند لم يتركوا لنا كتابة تشير إلى ترتيب حروف الهجاء عندهم، وأسمائها التي كانت تعرف بها عند قرّائهم وكتاّبهم. وعدم وصول كتابة بهذا الموضوع منهم إلينا، خسارة كبيرة، إذ أصبح من الصعب التحدث عن كيفية ظهور الخط بين العرب الجنوبيين وعن صلاته بالخطوط الأخرى، وبنا أشد الحاجة إلى معرفة كيفية توصل الإنسان إلى هذا الاختراع العظيم الذي غيَّر تأريخ البشرية وأحدث فيها انقلابا لا يدركه المرء إلا إذا تصور البشرية وهي جاهلة لا تحسن قراءة ولا كتابة، فما الذي كان يمكن إن نعرفه لولا وجود هذه العلامات الصغيرة المحدودة التي نسميها حروفا والتي نكتب بها وندوّن بها كل ما يجول في خواطرنا من آراء دون أن نعرف عظم قيمة هذه العلامات التي ميزت الإنسان عن الحيوان، ورفعته عنه إلى أعلى الدرجات ! ولو قدر للعلماء الحصول على ألواح فيها الأبجديات مرتبة بحسب الطريقة التي كانت تسير عليها الشعوب القديمة في تعلمها، وخاصة إذا كانت مقرونة بأسمائها التي كانت تعرف بها، لصار في وسع العلماء التوصل إلى نتيجة علمية مقبولة بشأن نشأة الخط وتطوره. فإن في استطاعتهم عند ذاك الحكم من نظرهم إلى أقدم هذه الكتابات والى أصول كلمات المسميات - على أقدم مكان ظهرت فيه تلك الكتابة، وعلى تعيين اسم الشعب الذي كان له شرف هذا الاختراع. وهو اختراع لم يظهر بالطبع فجأة إلى العالم، أي انه لم يكن من ابتكار رجل واحد فاجأ الناس به، بل هو اختراع مرت عليه قرون حتى بلغ ما بلغه من شكل الحروف. مرّ في مراحل كثيرة بدائية في بادئ الأمر، ثم انتقل من تلك الأشكال إلى أشكال أرقى منها، حتى اهتدى عقل الإنسان إلى معرفة الحروف. ولم يتوصل بالطبع إلى هذه المرحلة بسهولة، إذ يقتضي ذلك وجود علم عند الإنسان عن تكون الكلمات من حروف،وهو لم يتوصل إلى هذا العلم الا بعد تعب استمر قروناً، وبتعاون كتاّب مختلف الشعوب لتحليل كلمات الإنسان إلى عناصرها الأولى، و عناصرها الأولى هي هذه الحروف.

وقد كان من الضروري وضع أسماء للحروف، ليميز بها حرف عن حرف آخر. وقد وضع مخترعو الحروف تلك الأسماء، وهي أسماء لا تزال البشرية تعيدها مع شيء من الاختصار والتحريف، وقد يمكن التوصل من تلك الأسماء إلى أسماء تلك الشعوب القديمة التي ساهمت وعملت في ترقية ذلك الاختراع العظيم. فإن لتلك الأسماء علاقة وصلة بمسميات مادية، وبالامكان تشخيص مواطن تلك المسميات بالرجوع الي الأماكن التي عرفت واشتهرت بها، ومن ثم نتوصل إلى تعيين تلك الشعوب على وجه التقريب.

وتختلف أشكال حروف المسند اختلافاً كبيراً عن حروفنا المألوفة التي نكتب بها. ولما كانت هذه الحروف حروفاً منفصلة غير متصلة كما هي،الحال في حروفنا، فهي لذلك في أثناء كتابة الكلمات لا تتصل ببعضها ولا يلتقي فيها حرف بحرف آخر. وهذا السبب كان شكل الحرف في المسند لا يتبدل ولا يتغير بتغير موضعه في الكلمة، بل يحافظ على وضعه في أول الكلمة أو في وسطها أو في آخرها، إلا في بعض الأحيان حين يكتبون من اليسار نحو اليمن، فيغيرون اتجاه الحرف بأن يجعلوه نحو اليمين.

وقد يتحد حرف النون الساكن مع الحرف الذي يليه ويسقط من الكتابة، ففي كلمة "بنت" أسقط الكتاب حرف النون من الكلمة، واكتفوا بهذا الشكل: "بت " أي بالحرفين الباء والتاء.

ولا توجد في المسند تاء قصيرة، أي التاء التي نكتبها تاء قصيرة في أواخر الكلم. فاتاء هي تاء طويلة أبداً، وردت في أول الكلمة، أو في وسطها، أو في آخرها، فلفظة "سنة" تكتب "سنت"، "وعمرة"، اسم امرأة يكتب "عمرت"، وهكذا.

وهناك كتابات برزت حروفها، وذلك إن كاتبها خطها على الحجر أولاّ،ثم حفر ما حولها وفي باطنها بمزبر صلد، أو بسكين أو بالة حادة، فظهرت الكتابة بارزة، وقد استخدمت مثل هذه الكتابات لتوضع على أبواب المعابد وعلى واجهات الدور وفي المناسبات التذكارية، كما فعل الاسلاميون في كتاباتهم التخليدية التي وضعوها على واجهات القصور والمساجد والأبنية المهمة،أما الكتابات المحفورة فقد استخدمت في الأعمال الاعتيادية في الغالب، وهي أسهل في الكتابة من الكتابة البارزة، ولا تحتاج إلى وقت طويل يصرفه الكاتب على الحفر لابراز الحروف.

وأما الفاصل الذي يفصل بين الكلمات، فهو على هذا الشكل:   

ويعبر عن العدد من الواحد إلى الأربعة بخطوط عمودية، فيرمز الخط العمودي الواحد عن "الواحد"، ويرمز الخطان العموديان المتوازيان عن الرقم "2"، وإذا أرادوا كتابة الرقم "3" وضعوا ثلاثة خطوط عمودية متوازية للدلالة عليه. أما الرقم "4"، فيمثل بأربعة خطوط عمودية متوازية. وأما الرقم "5" فيرمز عنه بالحرف "خ" الذي هو الحرف الأول من كلمة "خمس". وإِذا ارادوا الإشارة إلى الرقم "6" وضعوا خطاً عمودياً على الجانب الأيسر لحرف "الخاء" الذي يرمز عن الخمسة، ومن هذا الحرف والخط العمودي الكائن مكانه في موضع العشرات بالقياس إلى حسابنا يتكون الرقم "6". وإذا أرادوا الرقم "7" وضعوا خطين عموديين على الجانب الأيسر للحرف خمسة، فيعبر هذا المجموع المكون من الخاء ومن الخطين العموديين المستقيمين عن الرقم "7". وإذا ارادوا الرقم "8"، وضعوا على الجانب الأيسر من الحرف خاء ثلاثة خطوط تشير إلى الرقم "3"، فيتكون بذلك من حرف الخاء الذي يرمز عن الخمسة ومن الثلاثة،المجموع ثمانية، وهو الرقم المطلوب. أما الرقم "9"، فيتكون من مجموع رقم "5" الذي يرمز عنه الخاء ومن الرقم "4" الذي تمثله خطوط عمودية أربعة. وأما الرقم عشرة، فيرمز عنه بحرف العين الذي يمثل الحرف الأول من كلمة عشرة. وأما الرقم "100" فيرمز عنه بالحرف الأول من الكلمة مئة، أي بحرف الميم. وأما الرقم "1000" فرمز عنه بالحرف ألف، أي بالحرف الأول من الكلمة أيضاً، فيلاحظ من هنا أن العرب الجنوبيين استعملوا الحروف الأولى من أسماء بعض الأرقام عوضاً عن الأرقام نفسها،ولم يتبعوا الطرق التي نتبعها اليوم في كتابة أمثال هذه الأعداد. والظاهر إن استعمالهم حرف الخاء مقام العدد "5"، جعلهم يحارون بعض الحيرة في التعبير عن العدد "55" الذي يبدأ مثل العدد "5" بحرف الخاء" فتخصيص هذا الحرف بالعدد "5" جعل من غير الممكن تخصيصه بالعدد "50" كذلك. ولما كان من الصعب كتابة ال "5" عشر مرات للتعبير عن العدد "50" الذي هو حاصل جمع عشر خمسات خاصة لأن هذا العدد يتضاعف ويتكرر، فكروا في حل آخر يحل لهم هذه المشكلة. مشكلة ايجاد حرف أو علامة ترمز عن الرقم "50". وقد وجدوا ذلك الحل من حقيقة العدد "50" الرياضية. فالعدد "50" هو نصف ال "100" كما هو معلوم. ولما كان حرف الميم يرمز عن المئة، والمئة هي حاصل جمع خمسين مع خمسين، فيكون حرف الميم هو حاصل جمع خمسين مع خمسين. ولما كان حرف الميم في المسند هو على شكل خط عمودي يرتكز عليه مثلثان قاعدتهما ملتصقة على ذلك العمود، فإن كل مثلث من ذينك المثلثين يعبر في الواقع عن الرقم "50"، فهداهم تفكيرهم هذا إلى رفع المثلث الأسفل ليبقى مثلث واحد هو المثلث الأعلى مرتكزاً على الخط العمودي، ليعبر عن قيمته المتبقية وهي خمسون، وصار هذا الرمز الذي هو نصف حرف الميم رمزاً عندهم للعدد "55". وبذلك أوجدوا لهم حلاّ لتلك المشكلة التي لا بد انها شغلت بال كتّابهم مدة من الزمن.

وأما الأعداد التي تلي العشرة فيبدأ بها بحرف العين أولا" ومعناه عشرة، ثم تليه بقية الزيادة أي مقدار زيادة ذلك العدد عن العشرة. فإذا أرادوا الرقم "11" مثلاَ بدأوا بحرف العين، ثم وضعوا بعده أي على يساره خطاً عمودياً واحداً بمعنى واحد، ويكون المجموع أحد عشر. أما إذا أرادوا الرقم "12"، فإنهم يضعون مستقيمين عموديين على يسار حرف العين ليدل ذلك على عشرة زائد اثنين وهو اثنا عشر. واذا أرادوا "13" وضعوا ثلاثة خطوط عمودية مستقيمة لتدل عليه. أما إذا أرادوا "4 ا" فإنهم يضعون أربعة خطوط عمودية، ليكون مجموعها مع العشرة أربعة عشر. أما إذا أرادوا "15"، فإنهم يكتبون حرف العين ثم يضعون من بعده وعلى جهة يساره حرف الخاء الذي هو بمعنى خمسه. واذا أرادوا ""6 ا" وضعوا بعد حرف العين ما يرمز عن الستة، وهكذا بقية الأعداد إلى العدد "19" 0 أما العدد "20" فانهم يكنون عنه بكتابة حرف العين مرتين، ومعنى ذلك عشرة مضافاً إليها عدد عشرة والجمع عشرون. واذا أرادوا الرقم "21" كتبوا حرف العين مرتين ليرمز عن العشرين ثم وضعوا خطا عمودياً واحدا على جهة يساره ليرمز عن الرقم "1"، فيكون المجموع عشرين وواحداً، وهكذا يكتبون بقية الأعداد ابتداء بالعشرين اي بحرفي العين مضافاً العدد المقصود حتى الرقم "30" فيضعون له ثلاثة أحرف من حرف العين. أما ال "40" فيضعون له أربعة أحرف من حرف العين، ثم يستمرون على طريقتهم في العدد بعد الأربعين على الطريقة المألوفة في الابتداء بالعدد العشرات، ثم كتابة الرقم المقصود الذي هو دون العشرة من بعد إلى الرقم التاسع والأربعين. فإذا أرادوا الرقم "50"وضعوا الرمز الخاص الذي تحدثت عنه، وهو نصف حرف الميم. أما الرقم "60" فرمز عنه بهذا الرمز، أي نصف حرف الميم مضافاً إليه الحرف عين رمز العشرة ليشير إلى مجموع العددين وهو ستون. أما الرقم "70"فيتكون من هذا الرمز مضافاً إليه حرفان للعين. وأما الرقم "80" فيكون بإضافة ثلاثة أحرف عين على الجهة اليسرى للرقم "50". وأما الرقم "90" فيتكون من رمز "50" مع إضافة أربعة أحرف عين إليه.

وتكتب الأرقام ما بعد المئة إلى الألف على الترتيب الاتي: يكتب الحرف رمز المئة في الأول، ثم يوضع الرقم الذي يلي المئة على جهة يساره على النحو الذي شرحته إلى حد الرقم "199" فإذا أرادوا كتابة "200" كتبوا حرفي ميم، واذا أرادوا "300" وضعوا ثلاثة أحرف من حروف الميم، وإذا أرادوا "400" وضعوا أربعة أحرف من حروف الميم، وإذا أرادوا "500" وضعوا خمسة أحرف من حروف الميم، وهكذا تزاد كتابة الميم بزيادة عدد المئات حتى تصل إلى تسع، ويكون الرقم عندئذ تسع مئة، أما الألف،فيرمز عنه بحرف الألف كما ذكرت.

وطريقة التعبير عن الأعداد في حالة الآحاد وفي العشرات وفي المئات هي طريقة واضحة مفهومة بعض الفهم كما رأينا، إذ عبر عن الأرقام من واحد إلى أربعة بخطوط مستقيمة، وعبر عن الخمسة بحرف الخاء تزاد عليه خطوط بزيادة الأرقام المطلوبة،حتى تصل إلى الرقم "10"، فيعبر عنه بحرف عين. وفي باب العشرات يقدم حرف العين الذي هو عشرة على الأرقام المقصودة التي هي دون العشرة، وتتبع هذه الطريقة إلى المئة. أما في حالة المئات إلى الألف فيبتدئ العدد بالمئات، ثم تليه العشرات، فالآحاد، فهو في نفس المبدأ الذي وضعه علماء الرياضيات عندهم للعشرات، أي على قاعدة تفضيل العدد الأكبر من ناحية العدّ على العدد الأصغر، فقدموا العشرات على الآحاد، وقدموا المئات على العشرات، ثم الآحاد أما في حالة الاعداد الالوف، فلم يتقيد كتّاب حسابهم بهذه القاعدة، بل ساروا على طرق أخرى، فكتبوا حروف الالف بعد الاعداد الالوف التي ارادوا كتابتها. فللتعبير عن ألفين وضعوا حرفي ألف، وهما مجموع ألف مع ألف أخرى،وللتعبير عن ثلاثة آلاف وضعوا ثلاثة أحرف ألف، وهكذا ساروا في كتابة بقية الاعداد الآلاف، غير انهم ساروا على طريقة أخرى في كتابة العدد ستة عشر ألفاٌ مثلاً. فوضعوا ستة أحرف ألف، ووضعوا إلى الجانب الأيسر من الحرف الألف الأخير الحرف عين رمز العشرة، وقد رمزت العشرة هنا عن العدد "10000"، ورمزت الحروف الستة عن "6000"، ومن مجموع الستة آلاف والعشرة آلاف يتكون العدد "0 0 0 6 1"، وفي كتابة العدد"0 0 0 31" كتبوا حرفاً واحداً من حروف الألف ليدل على الرقم ألف، ووضعوا على الجهة اليسرى منه ثلاثة أحرف عين وتعني ثلاثين ألفاً. ومن الألف والثلاثين ألفاً يتكون العدد "31000". أما في حالة كتابة الرقم "40000"، فقد اكتفوا بكتابة أربعة أحرف من حروف العين، مع أن هذه الأحرف تعني مجموع أربع عشرات، أي أربعين، بينما أرادوا بهذه الأحرف العدد "40000" في هذا الموضع. أما في رقم مثل "45000"، فقد كتبوا خمسة أحرف من حروف الألف أولاً، ثم وضعوا أربعة احرف من العين في أيسر آخر ألف، والمجموع هو خمسة آلاف وأربعون ألفاً. وفي الرقم "63000" وضعوا ثلاثة أحرف من "الألف" لتعني ثلاثة آلاف، ووضعوا نصف حرف ميم وهو رمز الخمسين، وفي أيسره حرف العين رمز العشرة،وبذلك عبروا عن الستين. ولورود هذا الرقم بعد عدد آلاف قصدوا به ستين ألفاَ. ومن مجموع ثلاثة الاف والستين ألفاً، يتكون العدد ثلاثة وستون ألفاً. وقد اكتفوا في كتابة الرقم "50000ا" بكتابة الرمز الخمسين وهو نصف حرف ميم، ووضعوا إلى الأيسر منه حرف ميم رمز المئة، وقصدوا بذلك خمسين ومئة ألف. ولو كانوا قد كتبوا حرف الميم أولاء، ثم وضعوا نصف محرف الميم إلى يساره، لكان حاصل جمع العددين خمسين ومئة. وبتقديم نصف حرف الميم وتتغير اتجاه مثلثي حرف الميم ومثلث نصف حرف الميم بجعله نحو اليمين،عبروا عن الرقم "150000" 0 أما في كتابتهم الرقم 200000، فقد كتبوا ميمين، وقد عبر كل ميم في هذا الموضع عن مئة ألف.

ويرى بعض المتخصصين بقراءة النصوص العربية الجنوبية. إن كتّاب المسند لم يتركوا كتابة حروف الألف التي تشير إلى الأعداد الآلاف إلا إذا كان العدد مدوراً، وآلافاً خالية من الأرقام الآحاد، كما رأينا في الرقم "40000"، و "150000"، و "200000".

وقد سار كتّاب المسند على قاعدة كتابة الرقم لفظاً، أي كتابة مقداره بالكلمات، وتدوين المقدار المكتوب بعد الرقم، وقد حملهم على اتباع هذه الطريقة خوفهم من الوقوع في الخطأ في قراءة الأرقام والرموز التي خصصوها بالأرقام، كما انهم اصطلحوا على رسم مستطيل تتخله خطوط تجعله على هيأة شباك تقريباً، يوضع في أيمن الرقم، أي.قبل ابتدائه، ومستطيل آخر يوضع في يسراه أي في نهاية الرقم تماماً للدلالة على إن ما هو مكتوب بين هذين الرقمين هو عدد، وبذلك تسهل قراءته.

ولم يصل الينا إن كتّاب المسند استخدموا علامات خاصة بكسور الأعداد، كالأنصاف أو الأرباع أو الأثلاث أو الأخماس أو ما شاكل ذلك، أو انهم استعملوا علامات خاصة للجمع أو الطرح أو القسمة أو الضرب أو علامات للتربيع أو للجذور وأمثال ذلك من العلامات المستعملة في علوم الرياضيات. وقد عبروا عن كسور الأعداد بذكر ألفاظها. واذا لم تصل الينا كتابات في موضوعات رياضية، فلا نستطيع إن نجزم في موضوع أمثال هذه العلامات عند العرب الجنوبيين. فلعل الأيام تكشف لنا عن كتابات رياضية ترينا إن رياضيي العرب الجنوبيين كانوا أرقى كثيراً مما نظن الآن.

وللوقوف على صور الأعداد عند العرب الجنوبيين أدون نماذج من الإرقام، مقرونة بما يقابلها من الأرقام التي نستعملها عندنا في الحساب: وأما الفواصل التي تشير الى الأرقام وتوضع في أول الرقم وعند منتهاه، فهي على هذا الشكل: ومادة الكتابة عند العرب الجنوبيين، هي الحجارة والصخر والخشب والمعادن، يكتبون عليها بالحفر، ولم أسمع أن أحداً من الآثاريين حتى الآن عثر على كتابات بالمسند مدونة بالحبر على القراطيس والجلود والرق أو على ورق البردي على نحو ما كان يفعله المصريون وغيرهم. والظاهر أنهم لم يكونوا يتبعون طريقة كتّاب بابل في الكتابة على ألواح الطين. التي تجفف بعد ذلك بالشمس أو بالنار، فتكون كتابة ثابتة مدوّنة على مادة صلبة، لأن الباحثين لم يعثروا على كتابات بالمسند مدونة على هذه الطريقة.

غير إن عدم وصول كتابات بالمسند مدونة على القراطيس أو الجلود، لا يعني إن العرب الجنوبيين لم يكونوا يعرفون الكتابة عليها وعلى مواد مشابهة لها، إذ لا يعقل عدم وقوف العرب الجنوبيين على استعمال الجلود والقراطيس وعظام الحيوانات مادة للكتابة، وقد كان استعمالها، في العالم يومئذ شائعاً معروفاً. ومرد السبب في عدم وصول شيء من الكتابات المدونة على تلك المواد، إلى قابلية هذه المواد للتلف، وحاجتها إلى العناية الشديدة، بدليل عدم وصول شيء ما من الكتابات المدونة على الجلود وعلى جريد النخل وعلى اللخاف والعظام والقراطيس من صدر الإسلام ومن أيام الرسول خاصة مع أهميتها وقدسيتها. وليس في استطاعة أحد أن ينكر إن القرآن الكريم قد كتب على هذه المواد المذكورة، وان الرسول قد أمر فكتبت له عدة كتب وعقود ومواثيق، ولكن بادت أصولها.

والبحث في أصل المسند مثله في أصل الخط، ما زال موضع جدل بين العلماء الباحثين في العربيات.الجنوبية. فمنهم من يرجع أصله إلى الخط الفينيقي، ومنهم من يرجعه إلى كتابات سيناء حيث عثر فيها على كتابات قديمة جداً يعدها الباحثون أقدم عهداً من الكتابات العربية الجنوبية، وقد وجد بين بعض حروف هذه الكتابات وحروف المسند شبه جعلهم يذهبون إلى اشتقاق المسند من خطوط سيناء ومنهم من يذهب إلى اشتقاق المسند من الخط الكنعاني، للتشابه بين بعض حروف الخطين. وللتوصل إلى معرفة منشأ الخط المسند، لا بد من تعيين تاًريخ لأقدم كتابة مدونة بالمسند، ولم يتفق العلماء على تأريخ ثابت معين. انما رجع بعضهم تأريخ اقدم الكتابات إلى سنة 1500 أو 1300 قبل الميلاد، على حين لم يرتفع آخرون بتأريخ أقدم كتابة عثر عليها بالمسند إلى أكثر من 755 أو 850 قبل الميلاد. ولضبط هذا التأريخ أهمية جد عظيمة في البحث عن أصل منشأ ذلك الخط. ثم انه لا بد في تعيين أصل الخط المسند من النص على أسماء الحروف نصاً ليس في أمره شك، ثم لا بد أيضاً من النص على نظام ترتيب حروف المسند عند العرب الجنوبيين. وكل هذه الأمور غير متفق عليها، واذن فليس من الممكن في مثل هذه الظروف التوصل إلى حل عّلمي يوافق عليه جميع الباحثين في العربيات الجنوبية.

واذا كان أغلب الكتابات في موضوع واحد، هو التقرب إلى الآلهة بهدايا وبنذور، كان أسلوبها يكاد يكون واحداً، فهي تبدأ عادة باسم المهدي أو بأسماء المهدين، ثم يعقب ذلك فعل يشير إلى التقديم مثل استعمال فعل قدّم أو أهدى وما شاكل ذلك من أفعال مناسبة، ثم اسم الإله أو أسماء الآلهة التي قدمت لها الهدايا، يليها بيان السبب التي من أجله قدمت،. مثل شفاء من مرض أو وفاء لنذر، أو طلباً من الإلهَ أو الآلهة إن تطيل عمر المهدي، أو تشفيه من مرضه، أو لتحل له مشكلاّ وقع فيه أو مشكلات تحيط به.

القلم اللحياني

ومن القلم المسند اشتق القلم اللحياني، والقلم الثمودي، والقلم الصفوي، و ذلك لأن القلم المسند متقدم في الوجود على هذه الأقلام، فلا يمكن إن يكون قد أخذ منها. ثم إن المناطق التي وجدت فيها الكتابات اللحيانية والكتابات الثمودية، كانت في حكم المعينيين والسبئيين، بدليل عثور العلماء على كتابات معينية فيها. وهذه الكتابات أقدم عهدا من الكتابات اللحيانية والثمودية، ولذلك ذهب الباحثون في اللحيانيات والثموديات إلى اشتقاق خطها من الخط المسند.

ولم ينقل أهل أعالي الحجاز القلم المسند نقلاّ تاماً، بل عدّلوا بعض حروفه وغيرّوا فيها بعض التغيير، فظهر من ذلك القلمِ القلمُ اللحياني والقلم الثمودي، غير اننا نجد أن كتابات القلم اللحياني تختلف بعض الاختلاف. وقد قسّمها "ورنر كاسكل"إلى نوعين: كتابات لحيانية متقدمة، وكتابات لحيانية متأخرة. وقد بني تقسيمه هذا على أساس قدم الكتابات وتأخرها في التأريخ. والواقع اننا نجد الكتاّب قد تحرروا في كتابة حروفهم في جميع العهود، في العهد المتقدم وفي العهد المتأخر، بحيث لم يتركوا لنا مجالاّ للاخذ بهذا التقسيم. فنراهم وقد كتبوا بعض الحروف بأوضاع قد تزيد على الخمسة. غير أننا إذا ما تصفحنا هذه الحروف المختلفة الأشكال،لا نجدها تختلف اختلافاً بينا، إنما يرجع هذا الاختلاف في الواقع إلى ضعف وقوة يد الكاتب الذي حفر تلك الكتابات على الحجارة أو الخشب أو المواد الأخرى التني حفر الكتابة فيها. فمنهم من كان قوياً في حفره للحروف، ومنهم من كان ضعيفاً، فبان هذا الاختلاف في هيئات رسم الحروف. ومن هنا أرى إن اختلاف صور الحروف، لا يدل حتماً على تطور الخط، بقدر ما يدل على مهارة أو ضعف الكاتب في الكتابة.

والقلم اللحياني مثل المسند خال من الشكل، وخال من الرموز أو الحروف التي تشير إلى المدّ أو التشديد أو اًلإشباع أو الإشمام أو الإمالة وما شابه ذلك. وقد أوجد هذا النقص لقراء الكتابات اللحيانية مشكلات كثيرة في فهمها وفي ضبط الكلمات والأسماء فيها. فلفظة "زد"مثلا" المكتوبة بحرفين، قد تقرأ على أشكال مختلفة، قد تقرأ "زَ د"و "زٍ د"و "زُ د"و "زاد"و"زَيدْ" و "زود"، إلى غير ذلك من أشكالَ. وهي قد تكون اسماً، كما قد تكون فعلاً أو مصدراً، وعلى القارئ استخراج نوعها من موقعها في الجملة ومن مقتضى الحال. ومثل ذلك عن "شم"التي تعني "شيم"اسم رجل، و"كتب"بمعنى "كاتب"اسم رجل أيضاً، مع أن للكلمة عدة معان يفهمها الإنسان من موقع اللفظة في النص.

ولم يتقيد كتاب الكتابات اللحيانية تقيداً تاماً بكتابة الفواصل العمودية الني تستعمل للفصل بين الكتابات، كما تقيد بها كتّاب المسند. غير أنهم لم يسيروا في كتاباتهم على وتيرة واحدة، فنراهم يخالفونها اًحياناً فيفصلون الألفاظ بفواصل. وقد رفعت الفواصل عن الألفاظ المؤلفة من مقطع واحد، مثل مع، وكتبت مع اللفظة التي تليها. أما إذا اجتمعت لفظتان، كل واحدة منهما ذات مقطع واحد مثل "و" حرف عطف و "لِ" فالكتاب يكتبونهما على طريقة كتّاب المسند أي ممزوجتين، على هذا الشكل: "ول".

وتجد في هذه الصورة كتابة لحيانية متأخرة، يظهر منها وكأن صاحبها قد كتبها على عجل، فالخط فيها سريع ضعيف يدل على عجلة، والحروف غير واضحة، وقد كتبت بطريقة الحفر بقلم من حديد أو سكين أو آلة حادة أخرى على الحجر، حفراً سريعاً، كما نكتب بسرعة في القلم. ومن هنا يختلف القلم اللحياني عن القلم المسند، يختلف عنه في عدم تمسك كتّابه بكتابة الحروف بصورة واضحة بينة وبخط قوي واضح يقرأ بسهولة. ولعل لموقع اللحيانيين ولموقع من كتب مثلهم بسرعة وبغير نظام ثابت وتقيد بهندسة الحروف وأشكالها، فيما بين الأبجديات الشمالية، والأبجدية العربية الجنوبية أثراً في هذا التغير، إذ نكاد نلمس من قراءتنا لهذه الخطوط انها تحاول الهروب من نظام المسند، المستند على الشكل الهندسي المرتب للحروف، الذي يفصل بين الحروف، والذي يحتاج الكاتب فيه إلى التأني في كتابة الحرف، فيضيع بعض الوقت بسبب ذلك، كما يحتاج إلى إشغال مكان واسع للحروف. بينما نرى الأبجديات الشمالية تقلص من حجم حروفها وتحاول جهد امكانها ربطها بعضها ببعض اختصاراً في الوقت وفي المكان وفي الجهد. وحروف هذه الأبجديات وإن بقيت محافظة على استقلالها وعلى أشكالها الدالة على انها من نبت المسند،إلا انها اتخذت صوراً متعددة، كما انها لم تتقيد بما تقيد به المسند في نظامه من السير على طريقة السطور، وهو نظام يسهل على القارئ قراءة الكتابة من اليمين إلى اليسار، أو من اليسار نحو اليمين، أو بطريقة "حلزونية"، بل خرجت على هذا النظام، ولا سيما في حالة الكتابات الثمودية والصفوية، فكتبت بصور غير منتظمة، على صورة هلال، أو كرة، أو نسيج العنكبوت، مما جعل من الصعب على القارئ فهم الكتابة، ويظهر إن ذلك انما وقع بسبب إن الكتبة كانوا من الرعاة أو الفلاحين، وان الكتابات التي عثر عليها هي من كتاباتهم، وقد كتبوها تعبيراً عن خاطر عنّ لهم، فهي لا تمثل اذن كتابات رسمية أو كتابات جماعة من المثقفين الذين يعتنون بحسن الخط، وانما هي خواطر دونت على اي حجر وجده الكاتب، ودوّنها بالشكل الذي وجده يناسب ذلك الحجر.

وهذه الكتابة التي تراها في هذه الصورة هي كتابة محفورة على لوح من الحجر، وهي من الكتابات اللحيانية المتأخرة، المحافظة على نظام السطور. وخطهّا وإن كان ضعيفاً غير أنه واضح نوعاً ما ونجد الشبه كبيراً بينه وبين المسند.

الخط الثمودي

والخط الثمودي مثل الخط المسند والخط اللحياني والخط الصفوي، خال من الشكل ومن التشديد ومن الإشباع ومن علامات للحركات تكتب مع الحروف في صلب الكلمة. ولهذا يلاقي قارئه من الصعوبات ما يلاقيه قارىء القلم المسند والقلم اللحياني. فكلمة "بت" يمكن إن تقرأ بأوجه متعددة كأن تقرأ "باتَ" فعلاً ماضياً، و "بيت" اسماً، ولفظة "عف"، تكتب بهذه الصورة، ويقصد بها "عوف" إن كتبت مع الأسماء. ولفظة "زد" هي "زيد"، ولفظة "تم" هي "تيم"، ولفظة "منت" هي "مناة"، وقد يراد بها "منيت"، أي المنية. وجملة "قنص اسد" تحتمل أن تكون على هذا النحو: "قنَصَ أسدٌ"، وقنص اسم رجل، وهو مبتدأ خبره "أسدٌ". ويحتمل أن تكون على هذه الصورة: "قنص أسداً" فتكون جملة فعلية "قنص" فيها فعل ماضٍ، والفاعل مستتر تقديره هو، واسداً مفعول به.

غير أن بعض الكتابات قد استعملت حروف العلة: الواو والألف والياء، في بعض الأحيان لسد النقص الحاصل من عدم وجود الحركات، كما في "نور"، و "اموت" "أموت" حيث قامت "الواو" بأداء واجب إلى "أو" "U وكما في لفظة "دين"، وعظيم، حيث قامت الياء بأداء الحركة "إي" "I "ي"، وكما في "موت" "بيت" و "عليت" بمعنى كنت معتلاً، و "رضو" اسم" الإلهَ، و "مو" بمعنى ماء، و "لى" بمعنى "لي"، و"ذى" بمعنى "هذا"، و "اتا" بمعنى "أتى"، وأمثال ذلك. غير إن هذا الاستعمال لم يكن عاماً، وإنما كان خاصاً يرد في بعض الكتابات. ونجد هذه الكلمات التي ذكرتها، خالية من الحروف المذكورة، في نصوص أخرى، مما يدل على أن هذه حالات كتابية خاصة، ولم تكن قاعدة عامة متبعة في كل الكتابات.

ومن مميزات القلم الثمودي أنه لم يتقيد باستعمال الخطوط العمودية للفصل بين الكلمات، ولهذا نجد الحروف والكلمات متصلة بعضها ببعض في كثير من الكتابات لا يفصل فاصل بينها. وقلما نجدها تستعمل بعض العلامات مثل النقط أو الخطوط الصغيرة لتحديد الجمل. ثم إنه أطلق لنفسه العنان في اتباع الجهة التي يسير عليها الخط، فتراه تارةّ يسير سيرنا في الخط، أي من اليمين إلى اليسار وباتجاه أفقي، وتارة أخرى يتجه من اليسار الى اليمين. وأحياناً من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى في أحيان أخرى، كما تراه يتخذ شكل قوس في بعض الأحيان، أو أشكالاً أخرى، كأن يمزج بين هذه الطرق بحسب رغبة الكاتب وشكل المادة التي يكتب عليها. وعلى قارىء النص لذلك الأنتباه إلى هذه الاتجاهات، لمعرفة مبدأ الكلام من منتهاه.

ونجد بعض الكتابات الثمودية، وكأنها رموز أو طغراء؛ إذ نجد حروفها وقد تداخل بعضها في بعض، أو بعض حروف منها وقد تشابكت بحيث يصعب على القارىء حلها. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها نوع من "الوسم"، غير أن من المهتمين بالثموديات من لا يوافقونهم على هذا الرأي، وإنما يرون أنها تمثل رموزاً دينية، أو الأحرف الأولى من أسماء كاتبيها، أو أسماء بعض الآلهة، أو ما شاكل ذلك مما كان له معنى معروف في نفوس أصحابه، وقد خفي ذلك علينا، لعدم وجود مفاتيح لدينا تحل لنا هذه الكتابات المتخذة طابع الرموز و الإشارات.

ونجد الكتابات الثمودية تعاف بعض حروف الكلمات أحياناً وتختزلها، كما في "ب"، التي تعني "ابن"، فقد تركت حرف النون واكتفت بالباء. ويستطيع القارىء ادراك معنى "ب " من القراءة. وكما في "ل" بمعنى "لنا" و "لي"، و "ب" بمعنى "بي"، أي انها تقطع الضمير اللاحق بحرف الجر في بعض الأحيان.

الابجدية الصفوية

والأبجدية الصفوية مثل الأبجدية اللحيانية والأبجدية الثمودية، أصلها من القلم العربي الجنوبي. وهي تتألف من ثمانية وعشرين حرفاً، غير إن كتاب هذا القلم قد تلاعبوا به كما تلاعب كتاب القلم اللحياني والثمودي بحروف المسند، وأوجدوا لهم منها أشكالاً أخرى ميزتها عن الأصل، فأخذ الحرف الواحد أشكالاً متعددة، تباعد أشكال بعضها تباعداً كثيراً عن الأصل، حتى عسرت على القارىء قراءة النص، وهذا مما أوجد مشاكل لقراء هذه النصوص في قراءتها قراءة صحيحة.

و "هاليفي" الذي هو أول من تمكن من تشخيص الأبجدية الصفوية، واول من سمّاها بهذه التسمية، لم يتوفق في الواقع إلا في معرفة "16" حرفاً من الحروف الثمانية والعشرين التي تتكون منها الأبجدية الصفوية. أما الحروف الباقية، فقد أخطأ في تشخيصها، حتى جاء "بريتوريوز" فتمكن من تشخيص خمسة أحرف أخرى، كما تمكن الأستاذ "ليتمان" من تشخيص هوية سبعة احرف، فاكتمل العدد ثمانية وعشرين حرفاً.

ومن الصعوبات التي تعترض قارىء الكتابات الصفوية في قراءة هذه الكتابات وفي فهمها أن للحروف فيها كما قلت آنفاً جملة رسوم، وان بعض رسوم الحرف الواحد هي رسوم لحرف آخر. فبعض صور الباء هي أيضاً صور للظاء، ولهذا قد تقرأ "باء"، كما تقرأ "ظاءً". ويتشابه كذلك رسم الخاء مع التاء، واللام مع النون، والهاء مع الصاد، وكذلك رسوم حروف أخرى، فكانت من هذا كله صعوبات كبيرة تعترض الباحث في قراءة هذه النصوص وفي تثبيت معناها، ولا سيما إن هذه الأبجدية هي كالأبجديات الأخرى خالية من الشكل ومن التشديد ومن حروف العلة في أكثر الأحيان ومن المقاطع، فلا فرق فيها في الكتابة بين الفعل والاسم والفاعل والمفعول به، وفيها مصطلحات وتراكيب نحوية غير معروفة في عربيتنا أو في اللهجات السامية الأخرى. وعلى الباحث إعمال ذكائه في كشف المعاني ومواقع الكلم في هذه النصوص.

وهناك صعوبة اخرى تعترض الباحث في قراءة النصوص الصفوية تكمن في عدم وجود قاعدة معينة للابتداء في الخط. فالكاتب بهذا القلم حر كما يظهر من الكتابات في اختيار الجهة التي يبدأ بها في الكتابة، فله إن يبدأ بكتابته من اليمين إلى اليسار، أي على نحو ما نفعله نحن في كتابتنا وعلى نحو ما فعله اكثر كتاّب المسند، وله أن يكتب من اليسار إلى اليمين، أي على نحو ما يفعله الكاتبون بالأبجدية اللاتينية، وله إن يمزج بين الطريقتين كما رأينا ذلك في بعض كتابات المسند، كما إن له أن يبدأ بالكتابة من أعلى إلى أسفل، وله إن يعكس الوضع فيكتب من أسفل إلى أعلى، وله أن يبدأ بالكتابة من أيسر الجهة السفلى للحجر ويتجه إلى اليمن، ثم إلى اليسار وفي أي اتجاه أحبّ وأشتهى، وله أن يختار العكس، أو أية جهة شاء، حتى انك لترى بعض الكتابات وكأنها خيوط متداخلة، وعلى القارىء إن ينفق جهداً طويلاً في استخراج رأس الخيط واستلاله للوصول إلى منتهاه.

والكتابات الصفوية مثل الكتابات الثمودية واللحيانية هي في أمور شخصية، فهي إِما في بيان ملكية شيء، أو في تعيين قبر أي كتابات قبورية، أو في رجاء وتوسل إلى الآلهة. وإما تسجيل خاطر، مثل تذكر أهل أو صديق أو حبيبة أو نزول في مكان أو في تعليق على كتابة قديمة. وكتابات مثل هذه تكون قصيرة في الغالب، وقد تكون من كلمة واحدة في بعض الأحيان. ولما كان معظمها في هذه الأمور، صارت أساليبها في الانشاء متشابهة، لا تختلف أحياناً إلا في أسماء أصحابها. وهي لذلك لا تفيدنا كثيراً من ناحية الدراسات اللغوية، غير أنها مع ذلك أفادتنا فاثدة كبيرة في نواحي أخرى، من مثل الكشف عن أسماء آلهة العرب الجاهلين، أو أسماء القبائل والأشخاص والنبات والحيوان وبعض العادات وغير ذلك مما يتصل بحياة العرب قبل الإسلام.

وترى في هذه الصورة كتابة صفوية وقد كتبت على شكل ثعبان، إذ لم يسر كتابتها على طريقة الكتابة بالسطور، وتكتب بعضها فوق بعض. وهي من الكتابات المؤرخة، وترى بعض الحروف مشابهة لحروف المسند، أما البعض الآخر، فقد ابتعد كثيراً عن الأصل.

وفي هذه الصورة لثانية كتابة صفوية، وقد كتبت على النحو الذي نراه في الصورة، وقد تصرف كاتبها في الحروف، تصرفاً تظهر عليه روح الاختزال وتصغير حجم الحرف وهي من الكتابات المؤرخة.

والصفوية مثل اللهجات العربية الأخرى في خلوّها من الشكل، لذلك تجابه الباحث في قراءة كتاباتها ما يجابهه قارىء اللهجات الأخرى من مشكلات في فهم الكتابات فهماً صحيحاً واضحاً، فلا بدّ من الاستعانة بعربية القرآن الكريم وباللهجات السامية لفهمها فهماً صحيحاً، ولم يحفل الكتاب بتثبيت الحروف في صلب الكتابة باعتبارها تعبيراً عن الحركات، ولم يستعملوا المقاطع المعبرة عن الأصوات، لضبط النطق. وقد يكتب فيها الحرف مرتين في مواضع نستعمل لها الشدّة في عربيتنا.

ومادة الكتابات الصفوية، هي الحجارة الطبيعية بأشكالها المختلفة، يأخذها الكاتب فيحفر عليها بآلة ذات رأس حاد الكلمات التي يريد تدوينها. أما الورق أو المواد المشابهة الأخرى المستعملة في الكتابة، فلم يعثر على شيء منها مكتوب بهذه الأبجدية.

ويجب إن أبين إن هذه الكتابات اللحيانيهّ والثمودية، والصفوية، لا تعني انها خطوط "بني لحيان"، و "قوم ثمود" بالضرورة، فبين الكتابات المنسوبة إلى مجموعة من هاتين المجموعتين ما لا يمكن عده من كتابة قوم من "بني لحيان" ولا من قوم ثمود، وانما هي من كتابات قبائل أخرى، وقد أدخلت في الخط اللياني أو في القلم الثمودي، لمجرد تشابه الخط. وقد ذكرت إن الكتابة الصفوية، انما عرفت بهذه التسمية، بسبب عثور العلماء عليها في "الصفاة" في الغالب، فنسبوها إلى هذه الأرض، مع إنها قبائل وعشائر مختلفة. ويلاحظ إن التباين في إشكال الحروف داخل المجموعة الواحدة مثل اللحيانية، والثمودية والصفوية، لا يقل عن التباين الذي نراه بين صور الحروف المكونة لهذه المجموعات. فأنت ترى في هذه الصورة وقد كتب حرف الألف في الصفوية بصور متباينة، تكاد تجعل من الصعب التوصل إلى إنها تمثل كلها هذا الحرف، ثم ترى الحرف نفسه في "الثمودية"، وقد كتب بصور متباينة، ويقال نفس الشيء بالنسبة لهذا الحرف في الكتابة اللحيانية. ونجد هذا التباين في كل الحروف الباقية كذلك، أما المسند، فلا نجد فيه هذا التباين، مما يحملنا على ارجاع سببه إلى ضعف وقوة يد الكتاب، والى تباين القلم الذي يكتب به. فالمسند قلم، استعمل في تدرينه قلم حاد قوي، حفر الكتابة على الحجر حفراً وبعناية، بسبب إنها وثائق وكتابات ذات أهمية بالنسبة لكاتبها، أما الأقلام الأخرى، فقد استعملت في التعبير عن خواطر في الغالب، لذلك سجلها كاتبها بأي أداة وجدها أو كانت عند تؤدي إلى إحداث خدش أو خفر على المادة التي وجدها أمامه صالحة للكتابة، فنقش عليها رأيه بسرعة وبغير تأنق، فظهرت الخطوط متباينة متغاريرة لهذا السبب، كما ترى في هذه الصورة

الترقيم

لقد تحدثت عن الترقيم عند الصفويين، وذكرت أنهم ساروا في من الواحد إلى الخمسة على أساس وضع خطوط عمودية، يمثل كل خط منها العدد "1". فإذا أرادوا كتابة الرقم "1"، وضعوا خطاً واحداً يمثله. وإذا أرادوا كتابة "2"، وضعوا خطين عموديين. وإذا أرادوا العدد "3"، وضعوا ثلاثة أعمدة. وإذا أرادوا العدد "4"، كتبوا أربعة خطوط عمودية. وأما إذا أرادوا الرقم "5" وضعوا خمسة خطوط.

وكتابة الأرقام من المسائل العويصة التي جابهت الكتّاب في الأزمنة القديمة. وقد كان كتاّبهم يكتبون بالحروف، ولكنهم كانوا إذا أرادوا تدوين الأرقام تحيروا: هل يكتبونها كتابة بالحروف أو يجعلون لها رموزاً خاصة تشير إلى الأعداد. وقد وجدنا أن العرب الجنوبيين كانوا قد اختاروا الخط العمودي لتمثيل الرقم "1"، فإذا أرادوا الرقم "2"، وضعوا خطين، وإذا أرادوا الرقم "3"، وضعوا ثلاثة خطوط. وإذا أرادوا الرقم "4"، وضعوا أربعة خطوط. ولصعوبة الاستمرار على هذه الطريقة، بسبب كبر الأعداد، اختاروا الحرف الأول من لفظة خمسة وهو الخاء لتمثيل العدد "5"، واختاروا الحرف "ع" وهو الحرف الأول من العدد عشرة لتمثيل هذا العدد، واختاروا رموزاً أخرى كما رأينا لمعالجة مشكلة العدد عندهم، فحلوا بذلك عقدة الترقيم بعض الحل، ولم يبلغوا منه التمام.

وقد اختارت بعض الشعوب النقط، بدلاً من الخطوط. فالرقم "7" مثلاً تمثله سبع نقط، والرقم "31" تمثله ثلاث نقط. وسارت شعوب أخرى عل طريقة الخطوط فرمزوا عن الرقم "5" بخمسة خطوط، وعن الرقم "0 ا" بعشرة خطوط عمودية، وعن الرقم "5ا" بخمسة عشر خطاً عمودياً. ودفعتهم صعوبة كتابة الأرقام الكبيرة بهذه الطريقة، إلى التفكير في طريقة أخرى تكون مختصرة بعض الاختصار وسهلة في التعبير عن قيم الأرقام، فاختار بعضهم النقطة رمزاً عن العدد "0 ا"، واختار بعض آخر خطاً أفقياً ليكون ذلك الرمز، وبذلك سهلت عليهم كتابة الأرقام الآحاد مع العشرات. فإذا أرادوا كتابة الرقم "0 ا"، وضعوا نقطة واحدة"."أو خطاً افقياً على هذا الشكل - ليشير الى الرقم "10"، وإذا أرادوا الرقم "1 ا"، كتبوه على هذه الصورة: "10" أو "- 1".

وإذا أرادوا الرقم "15"، كتبوه على هذا الشكل "0 111 11" أو على هذا الشكل: "- 11111".

وغيّر الفينيقيون وبنو إرم وأهل تدمر بعض التغيير في شكل الخط الأفقي الدال على العدد "10"، بأن جعلوا في طرفه الأيمن خطاً ممتداً إلى الأسفل قليلاً على شكل زاوية متجهة نحو اليسار. ثم أجرى النبط تعديلاً يسيراً في هذه العلامة الجديدة بأن جعلوا رأسها متجهاً إلى أعلى اليمين، اي نحو الزاوية اليمنى للمادة التي يكتب عليها. أما مؤخرتها، فقد وجهوها نحو الجهة الجنوبية اليسرى.

وقد سار الفينيقيون وبنو إرم على طريقة الترقيم بالخطوط العمودية للأعداد من "1" إلى العدد "9". ولتسهيل قراءة الأعداد التي تزيد قيمتها العددية على ثلاثة، جعلوا كل ثلاثة خطوط متقاربة، بحيث تظهر في شكل مجموعة واضحة، وتمثل هذه المجموعة الرقم "3"، ووضعوا على يسار هذه المجموعة ما يكملها لتكوين العدد المطلوب. فكانوا إذا أرادوا مثلاً كتابة الرقم "5"، كتبوه على هذه الصورة: "111 11" اي الرقم "3" الذي تمثله ثلاثة خطوط عمودية منضمة بعضها إلى بعض، ثم الرقم "2" الذي يمثله خطان منضمان، وبين هذين الرقمين فراغ قليل يفصل بين العددين. واذا أرادوا الرقم "6" كتبوه مجموعتين متجاورتين، كل مجموعة ذات ثلاثة خطوط منضمة، وبين المجموعتين فراغ صغير. غير إن بعض الكتابات كتبت الرقم "6" على هذا الشكل: 111 أي انها وضعت الرقمين ثلاثة أحدهما فوق الآخر، ليشير هذا الوضع إلى حاصل جمع العددين، وهو ستة.

وقد اصطلح النبط على اتخاذ علامة خاصة بالعدد "4" جعلوها على هيأة التاء في المسند، أي على هذا الشكل: "?"، كما اصطلحوا على اتخاذ علامة اخرى خاصة بالرقم "5"، شكلها قريب من شكل الرقم "5" في الحروف اللاتينية، اي على هذا الشكل تقريباً: " 5". على حين رمز غيرهم مثل أهل تدمر عن الرقم "5" برمز يشبه حرف ال" Y" في الأبجدية اللاتينية. فإذا أرادوا كتابة الرقم "6"، وضعوا الرقم الذي يرمز عن العدد "5"، ووضعوا خطاً على يساره ليشير بذلك إلى العددين خمسة زائداً واحداً "5 + 1" " Y ا" ومجموعهما. ستة. واذا أرادوا الرقم "7"، كتبوا خمسة زائداً خطين يوضعان على يسار الرقم "5"، ليتكون من العددين العدد "7"، " Y11"، وهكذا العدد "9".

وقد سار الكتّاب في ترقيم الأعداد التي بعد العشرة على طريقتهم التي اتبعوها في السير أفقياً في الترقيم، إلا في حالات قليلة ساروا على طريقة وضع الأرقام بعضها فوق بعض، وجعلوا للرقم "20" علامة تتألف من نقطتين إحداهما فوق الأخرى، أو من خطين أفقيين أحدهما فوق الآخر على شكل علامة مساوٍ "=" في علم الحساب، أو من علامة تشبه حرف الشين في المسند "4"، أو من علامة تشبه حرف ال " N" في اللاتية. ووضع النبط للعشرين علامة تشبه ال " 3" اللاتيني في بعض الأحيان، وتشبه الرقم " 8" اللاتيني في أحيان أخرى، غير انهم فتحوا النهاية السفلى من الرقم " 8" جعلوها مفتوحة في الغالب.

وتكتب الأعداد الآحاد على الجهة اليسرى من العشرات، فإذا أردنا كتابة الرقم "11"، كتبنا الرقم "10" أولاً ثم العدد "1" من بعده ويكتب الى يسار الرقم "10". فإذا أردنا كتابته على الطريقة الفينيقية أو الإرمية، كتبناه على هذه الصورة: "- ا". واذا أردنا كتابته على طريقة اهل تدمر أو طريقة النبط، وضعنا العلامة التي وصفتها الخاصة بالعشرة، ووضعوا الى يسارها خطاً واحداً يمثل العدد "1"، واذا أرادوا العدد "12"، وضعوا خطين بعد الرقم "10"، واذا أرادوا "13" وضعوا ثلاثة خطوط. واذا أرادوا "14"، وضعوا أربعة خطوط. أما إذا أرادوا الرقم "15"، فإن منهم من وضع خمسة خطوط بعد الرقم عشرة كما كان يفعل الفينيقيون، ومنهم من اتبع هذه الطريقة وطريقة تمثيل العدد بخطوط، فوضع خمسة عشر خطاً لهذا العدد. ومنهم من وضع بعد العلامة الخاصة بالرقم "10" العلامة الخاصة بالرقم "5" كالنبط وأهل تدمر.

أما مكررات العشرة، فتكتب على هذه الصورة. إن كان العدد العشرات   

من الأعداد الزوجية فيكتب العدد بقدر احتواء العدد المراد تسجيله على العدد عشرين. فإذا أردنا كتابة الرقم "40"، كتبنا الرقم "20" مرتين، وإن كان العدد "60"، كتبنا العدد "20" ثلاث مرات. وإن كان العدد "80"، كتبناه أربع مرات. أما إذا كان العدد العشرات من غير الأعداد الزوجية كما في مثل ثلاثين، فإننا نكتب العدد "20" أولاً ثم نضع الرقم "0 ا" على يساره، فيتكون من مجموع قيمة العددين "30" 0 أما إذا أردنا الرقم "70" مثلاً، كتبنا العدد "20" ثلاث مرات، ثم العدد "10" على الجهة اليسرى من الأرقام الثلاثة. وقد كتب هذا العدد في بعض الكتابات الإرمية بست نقُط: ثلاث نقط في أعلا وثلاث نقط في أسفلها، ونقطة على الجهة اليسرى من المجموعتين وفي مقابل الموضع الوسط الذي يكون الحد الفاصل بين المجموعتين وعلى هذا الشكل "000" أما العدد مئة، فقد رمز عنه بعلامات متعددة، منها هذه العلامات: "15" و " "و "". ونرى أن العلامة الأولى هي توسيع للرقم الذي رمز إليه عن العشرة. وقد اتخذ النبط علامة تشبه الرقم "9"، أو الحرف " P" في اللاتينية. وقد سبق أن ذكرت إن العرب الجنوبيين كانوا قد اتفقوا على اعتبار الحرف الأول وهو الميم من لفظة مئة هو الرمز الذي يشير إلى العدد، واعتبروا نصف هذا الحرف رمزاً على العدد "50" باعتبار إن الخمسين نصف المئة،فنصف الحرف ميم هو رمز عن هذا العدد.

أما العدد الألف، فقد وجدت له في بعض الكتابات علامات خاصة. وقد رمز عنه الفينيقيون وبنو إرم بعلامة هي عبارة عن خط مائل يتصل به ما يشبه نصف القوس من جهة اليمين، ورأس الخط مائل إلى ايمن، أما أسفله فمتجه نحو اليسار.

و لم ترد في الكتابات الصفوية أرقام كثيرة، لذلك لا نستطيع أن نحكم على طريقتهم في الترقيم وفي العدّ. غير أن في استطاعتنا القول، استناداٌ إلى هذه النماذج،القليلة التي وصلت الينا، انهم اتبعوا في الترقيم الطريقة النبطية وطريقة أهل تدمر، ولم يتبعوا طريقة العرب الجنوبيين في تدوين العدد. ويمكن ارجاع سبب ذلك إلى اتصالهم اتصالا مباشراً بالنبط وبأهل تدمر، والى تأثرهم بثقافتهم. ولما كانوا محتاجين إلى تدوين الأرقام اضطروا إلى اقتباس طريقة النبط وأهل تدمر في كتابة الأعداد بالأرقام.

ونجد في الجدول المقابل كيفية تدوين الأرقام في الفينيقية الآرامية،والتدمرية، والنبطبة. وهي تختلف اختلافاً بيناً عن صور الأرقام التي نستخدمها اليوم في عربيتنا. ونلاحظ إن من بين الترقيم في المسند، وبين الترقيم في هذه الأبجديات تشابه كبير إلى حد الرقم "4"، ثم يختلف، فقد اخذ العرب الجنوبيون الحرف الأول من لفظة "خمسة"، وجعلوه رمزاً إلى العدد "5"، بينما اتبع الباقون طريقة التخطيط بالرقم "1" إلى العدد "9" في الفينيقية، ثم بدلوا الطريقة. وسلكت هذا المسلك الأبجدية الارامية، أما الابجدية التدمرية والابجدية النبطية، فقد اتبعتا سبيلا" آخر، فيه اختلاف في بعض الأعداد، ولكن بينهما تجانسا بوجه عام. مما يدل على أنهما أخذا الترقيم من منبع واحد.

الفصل الثالث والعشرون بعد المئة
الكتابة و التدوين

لا خلاف في أن التدوين كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام، بدليل ما تحدثنا عنه من وجود الاْلوف من النصوص الجاهلية التي عثر عليها في العربية الجنوبية وفي العربية الغربية وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب. كتبت بلهجات عربية متنوعة، تختلف عن عربية القرآن الكريم، اختلافاً متبايناٌ، أقربها إلى عربيتنا الكتابة التي وسمت ب "نص النمارة""أو كتابة النمارة، التي هي شاهد قبر "امرئ القيس"، المتوفى سنة "328" للميلاد، والكتابات الأخرى التي كتبت بعده.

ولا خلاف بين العلماء في أنهم لم يتمكنوا حتى الآن من العثور على أي نص جاهلي مكتوب بهذه اللهجة التي نزل بها القرآن، والتي ضبط بها الشعر الجاهلي، لا من الجاهلية البعيدة عن الإسلام، ولا من الجاهلية القريبة منه، مع أنهم تمكنوا من العثور على كتابات جاهلية مدونة بلهجة عربية أخرى، تعود إلى عهد لا يبعد كثيرا عن الإسلام، مثل النص المعروف بنص "حران"المدون سنة "568 م".

وإذا صح أن الكتابة المعروفة ب "أم الجمال"الثانية، هي كتابة جاهلية أصيلة، تكون أول نص يمكن أن نعتبره بحق وحقيقة من النصوص المدونة بلغة القرآن والشعر الجاهلي. ويرجع العلماء الذين درسوه تأريخه إلى أواخر القرن السادس للميلاد. وقد جاء فيه: 1 - الله غفرا لاليه 2 - بن عبيده كاتب 3 - الخليدا على بنى 4 - عمرى كتبه عنه من 5 - يقروه ولكن عبارة واسلوب تدوين الكتابة، يوحيان للمرء، أنها من الكتابات المدونة في الإسلام. واًنا أشك في كونها من مدونات أواخر القرن السادس للميلاد، حتى إذا ذهبنا أن صاحبها كان نصرانياً، وأن لفظة "غفرا" من الألفاظ الدينية التي كان يستعملها النصارى، فلا غرابة من ورودها في نص جاهلي، لأنها كتابة نصرانية. وحجتي أن أسلوبها يفصح عن اسلوب الكتابات الإسلامية القديمة التي دونت في صدر الإسلام. وقد تكون في القراءة بعض الهفوات والشطحات، على كلّ فإن الزمن بين العهدين غير بعيد، ثم إن استعمال "التاء القصيرة" في "عبيدة " الاسم الوارد في السطر الثاني من النص لم يكن معروفاً في هذا العهد ولا في صدر الإسلام، لذلك أرى أنها من الكتابات الاسلامية. وفيها هفوات.

وبناءً على ما تقدم نقول إننا لم نتمكن من الحصول على نص جاهلي مدوٌن بلغة عربية قرآنية، لا شك في أصالته، ولا شبهة في كونه جاهلياً. وأن أقدم ما عثر عليه من كتابات بهذه العربية، هي كتابات دوّنت في الإسلام. في رأسها الكتابات التي عثر عليها مدوّنة على جبل "سلع"قرب المدينة، يرى "الدكتور حميد الله "أنها ترجع إلى السنة الخامسة للهجرة.

ثم الكتابة التي كتبت على شاهد قبر رجل اسمه "عبد الله بن خير"، أو "عبد الله بن جبر."الحجازي أو الحجري،المحفوظة في دار الآثار العربية بالقاهرة ويعود عهدها إلى "جمادى الآخرة "من سنة احدى وثلاثين.

ولا خلاف بين الباحثين في أن كل ما وصل الينا من نصوص جاهلية إنماهو بلغة النثر، إذ لم يعثر حتى الان على نص مكتوب شعراً. ونظراً إلى وجود التدوين عند أصحاب هذه النصوص، ونظراً لأن الشعر، شعور، لا يختص بإنسان دون إنسان، وبعرب دون عرب،فأنا لا استبعد احتمال، تدوين الجاهليين الشعر أيضاً، مثل تدوينهم لخواطرهم وأمورهم نثراً. دوّنوه بلهجاتهم التي كتبوا بهاّ. وهي بالنسبة لهم لهجاتهم الفصيحة المرضية. أما سبب عدم وصول شيء مدون منه الينا، فقد يعود حسب رأيي، إلى أن تدوين الشعر والنثر يكون في العادة على مواد قابلة للتلف، مثل الجلود والخشب والعظام وما شاكل ذلك، وهي لا تستطيع مقاومة الزمن، لا سيما إذا طمرت تحت الأتربة، ثم هي معرضة لالتهام النار لها عند حدوث حريق، أو للتلف إن أصابها الماء، أضف إلى ذلك أنهم كانوا يغسلون الجلد المكتوب، للكتابة عليه مرة أخرى،لغلاء الجلود، وهو ما حدث عند غير الجاهليين أيضاً. ونجد في المؤلفات الاسلامية أمثلة كثيرة على غسل الصحف المكتوبة للكتابة عليها من جديد. ورسائل النبي وكتبه وأوامره إلى عماله ورسله على القبائل، فقد فقدت وضاعت مع ما لها من أهمية في نظر المسلمين، وقل مثل ذلك عن كتب الخلفاء، فلا نستغرب من ضياع ما كان مدونا من شعر جاهلي،فقد نص مثلاً على إن الشاعر "عدي ابن زيد"العبادي، وكان كاتبأَ مجوداً بالعربية وبالفارسية حاذقاً باللغتين قارئاً لكتب العرب والفرس، كان يدون شعره وهو في سجن النعمان ويرسل به إلى الملك، يتوسل إليه فيه أن يرحم به، وأن يعيد إليه حريته، وكان الشعر يصل إلى الملك، فلما طال سجنه صار يكتب إلى أخيه أبي بشعر، لم تبق من أصوله المكتوبة أية بقية، وقد ضاعت أصول شعره المكتوب المرسل إلى النعمان كذلك،حتى اننا لا نجد أحداً من رواة شعره يروى أنه رجع اليها فنقل منها، مما يبعث على الظن أنها فقدت من عهد بعيد عن بداية عهد التدوين.

ويدفعنا موضوع التدوين إلى البحث عن تدوين الأدب والعلم عند الجاهليين،وعما إذا كان للجاهليين أدب منثور وعلم مدوّن ? لقد ذهب بعض الباحثين إلى وجود هذا الأدب عند أهل الجاهلية، وتوقف بعض آخر، فلم يبد رأياً في الموضوع، وتوسط قوم، فقالوا باحتمال وجود تدوين أو شيء منه عندهم، إلا أنهم أحجموا عن الحكم على درجة تقدمه واتساعه في ذلك العهد. لعدم وجود أدله ملموسة يمكن اتخاذها سنداً لابداء رأي واضح علمي في هذا الموضوع.

وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أنه لو كانت هنالك مدوّنات في الأدب، لما خفي ذكرها وطغى اسمها حتى من ذاكرة أهل الأخبار، ومن أحاديث الرواة. إنه لو كان أهل الجاهلية قد زاولوا التأليف وتدوين العلم، لما اقتصر علم أهل الأخبار في الأدب على ذكر قطع من الحكم، يشك في صحتها، وعلى إيراد الشعر رواية وعلى رواية بعض القصص والأمثال، وسردهم كل شيء يتعلق بأمر الجاهلية رواية. وانه لو كان لديهم تأليف منظم، لسار على هديهم من جاء بعدهم في الإسلام، وسلكوا مسلكهم في التدوين: تدوين الكلام المنثور وتدوين الكلام الموزون المقفى، وحيث أن احداً لم يذكر اسم مدون من مدونات أهل الجاهلية، وحيث أن المسلمين لم يشرعوا بالتدوين إلا بعد حين، فلا يمكن لأحد النص بكل تأكيد على وجود تدوين عند الجاهليين.

ولم نعثر على خبر في كتب أهل الأخبار يفيد أن أحداً من الرواة والعلماء أخذ نص كلام حكيم من حكماء الجاهلية، أو خبر أو شعر من صحف جاهلية،أو من كتب ورثوها من ذلك العهد. هذا "قس بن ساعدة"الايادي، مع ما قيل عنه من أنه كان كاتبا قارئاً للكتب، واقفاً على كتب أهل الكتاب، خطيباً عاقلاً حكيماً، وان العرب كانت تعظمه وضربت به شعراؤها الأمثال، وأنه كان خطيب العرب قاطبة، نجدهم يختلفون في خطابه المعروف، ويروونه بمختلف الروايات، حتى ذكر أن الرسول كان قد سمعه، وسمع خطابة، فلما جاء ذكره، وأراد أن يتذكر خطابه، وجد بين الصحابة اختلافاً في تلاوته، لأنه لم يكن مدوناً، ولو كان مدوناً لم يختلف فيه.

وليس في الأخبار عن الجاهلية خبر يفيد أن السدنة أو غيرهم من الساهرين على الأصنام والأوثان وبيوتها ألفوا كتباً في الوثنية وفي أحكامها وقواعدها. أما اليهود والنصارى، فقد كان لهم علماء يشرحون للناس في معابدهم أحكام دينهم، ويعلمونهم الكتابة والقراءة وما في كتبهم المقدسة من أوامر ونواه. فكان " ايو الشعثاء، وهو رجل ذو قدر في اليهود، رأس اليهود التي تلي بيت الدراسة للتوراة". وهو من يهود بني ماسكة. وكان آخرون بينهم يعلمونهم أحكام دينهم في بيت المدارس.

وفي لغة الجاهليين مفردات تستعمل في القراءة والكتابة، مثل: قلم،وقرطاس، ودواة، ومداد، ولوح، وصحف، وكتاب، ومجلة، وغير ذلك لا يشك في استعمال الجاهليين لها، لورودها في القرآن الكريم. وورودُها فيه، دليل على استعمالهم لها. وورد بعضها أيضاً في الحديث النبوي وفي الشعر الجاهلي. ويفيدنا حصر هذه الألفاظ وضبطها في تكوين رأي علمي صحيح سديد في الكتابة والقراءة عند الجاهليين، والمؤثرات الخارجة التي أثرت في العرب في هذا الباب، وفي تكوين رأي قاطع في الجهة التي أمدت العرب كثيراً أو قليلا بعلمهم في قلمهم العربي الشمالي الذي يكتب به إلى هذا اليوم.

وأعتقد إن من واجب علماء العربية في هذا اليوم، العمل على حصر ألفاظ العلوم والحضارة والثقافة التي ثبت لديهم استعمال الجاهليين لها، وتعيين تأريخ استعمالها وأصولها التي وردت منها إن كانت أعجمية دخيلة، والاستشهاد بالأماكن التي وردت فيها، ففي هذا العمل العلمي، مساعدة كبيرة للباحثين على تشعب علومهم وموضوعاتهم في الوقوف علي تطور الفكر العربي قبل الإسلام. ولا أقصد الإحاطة بالمفردات الواردة في الشعر الجاهلي أو القرآن الكريم أو الحديث النبوي أو معجمات اللغة وغيرها من الموارد الاسلامية وحدها، بل لا بد من اضافة المفردات الواردة في الكتابات الجاهلية التي عثر والتي سيعثر عليها إلى تلك المادة لأنها مادة العصر الجاهلي وجرثومة اللغة، وبدونها لا تسعنا الاحاطة بلغة أهل الجاهلية وبتطور فكرهم ابداً.

ومن يراجع الموارد العربية وعلى رأسها المعجمات، يدرك الصعوبات التي يلاقيها المرء في الحصول على مادة ما،لعدمُ وجود الفهرسة للالفاظ والمواد في معظم هذه الموارد، فعلى المراجع قراءة صفحات وأجزاء أحياناً للحصول على شيء زهيد. ولهذا زهد معظم المؤلفين في مراجعة ما هو مطبوع مع أهميته ودسم مادته، لأن الصبر قاتل، والاكثار من المراجعة عمل شاق مرهق، والحياة تستلزم السرعة والانتاج بالجملة، وقد ماتت همم الماضين، وحلت محلها عجلة المستعّجلين الذين يريدون الانتاج السريع الخفيف الجالب للاسم والمال.

وبعض الألفاظ الخاصة بالكتابة والقراءة، هي ألفاظ معربة، وإن وردت عند الجاهلين واستعملت قبل الإسلام بزمن طويل، عرّب بعضها عن اليونانية، وعرّب بعض آخر عن الفارسية أو السريانية أو القبطية، وذلك بحسب الجهة التي ورد منها المعرب ووجد سبيله إلى العربية، ويمكن التعرف عليه بمقابلة اللفظ العربي مع اللفظ المقابل له عند الأمم المذكورة، وبضبط الزمن الذي استعمل فيه والظروف المحيطة به، للتأكد من أصله، فقد يكون عربيا أصيلاَ انتقل من العرب إلى تلك الأقوام، وقد يكون العكس، نتمكن من الحصول على دراسة علمية قيمة في باب المعربات والتبادل الفكري بين الجاهليين والأعاجم.

والقلم، هو من أدوات الكتابة المذكورة عند الجاهليين. وقد ذكر في القرآن الكريم. اقسم به في سورة "ن والقلم"، وعظم وفخم شأنه في سورة العلق. يكتب به على الورق والرق والجلود والقراطيس والصحف ومواد الكتابة الأخرى، وكان يتخذ من القصب في الغالب، فتقطع القصبة قطعاً يساعد على مسكه باليد، ثم يبرى أحد رأسيها، ويشق في وسطه شقاً لطيفاً خفيفاً يسمح بدخول الحبر فيه، فإذا أريدت الكتابة به، غمس في الحبر، ثم كتب به. ويعرف هذا القلم بقلم القصب، تمييزاً له عن الأقلام المستعملة من مواد أخرى.

ولفظة "القلم" من الألفاظ المعربة عن أصل يوناني، فهو"قلاموس"في اليونانية، ومعناها القصب، لأن اليونان اتخذوا قلمهم منه.

وينبت القصب في مواضع من جزيرة العرب حيث تتوافر المياه. وقد أشار "بلينيوس" Pliny، في تأريخه إلى قصب Kalamus عربي، وقصب ينمو في الهند، وذكر أنهم يستعملونه في عمل الأنسجة.

وهناك نوع من القصب قوي متين، يطول فيستعمل في أغراض متعددة، يقال له "قنا"، ومنه "القنى"و "القناة"التي يستعملها المحاربون، وتعرف ب "قنة"في العبرانية. وكانوا يستوردونه من "صور".

وقد وردت لفظة "القلم"و "قلم"في شعر عدد من الشعراء الجاهليين في شعر لبيد وعديّ بن زيد العبادي والمرقش وأمية بن أبي الصلت وغيرهم ممن وقفوا على الكتابة وكانت لهم صلات بالحضارة وبأصحاب الديانات. وذكر أن الخط يكون بالقلم.

ويعرف القلم ب "المِزْبرَ"كذلك، من أصل زبر بمعنى كتب. وقد ذكر في الحديث النبوي. ويعرف ب "المِرقمَْ"أيضاً، إذ هو أداة للرقم، أي الكتابة.

ويقط القلم بمقطة، وتستعل السكين في بريه أيضاً. ويعتني بذلك حتى يكون القلم جيداً سهلاً في الكتابة. ويقال للسكين: المدية على بعض لهجات العرب. والقلم قبل أن تبريه: أنبوبة، فإذا بريته، فهو قلم. وما يسقط منه عند البري: البُرايةُ. والمِقطُّ: ما يقط عليه. والقط: القطع عرضاً، والقدّ: أن يقطع الشيء طولا.

وهناك انواع أخرى من الأقلام غير قلم القصب، صنعت من الحديد. وقد استعمل العبرانيون وغيرهم أقلاماً من حديد ذات رؤوس من الماس، ليكتب بها على صفائح من الحجر أو من المعدن، كما استعملوا القلم الحديد أو القلم الرصاص وأقلاماً من معادن أخرى للكتابة بها على صفائح من الخشب مغطاة بشمع. ولهذا القلم رأسان: رأس محدد للكتابة، ورأس مفلطح. لمحو الغلطات وتسوية سطح الشمع ثانية، كما استعملت الفرشاة لرسم الحروف، واستعمل أيضاً ريش الطيور. وقد عرف القلم المصنوع من الحديد. ب "عيت" ET عند العبرانيين.

وذكر إن "زيد بن ثابت" دخل على رسول الله وهو يملي في بعض حوائجه، فقال: "ضع القلم على أذنك فإنه أذكر للمملى به".

وقد استعملوا السكين والآلات الحادة في الكتابة على الخشب أو الحجر، كما استخدموا الفحم وكل ما يترك أثراً على شيء، مادة للكتابة. وذلك حين يعن لهم خاطر أو حين يريدون ابلاغ رسالة أو تقييد أمر هام، مثل وقوع اعتداء على شخص، فيكتب ما وقع له، وهو لا زال متمكنا من الكتابة،على ما قد يكون عنده، حتى يعلم بمصيره من قد يمر به ميتا. وقد حقر "قيسبة بن كلثوم السكوني" على رحل "أبي الطمحان القيني" رسالة، دوّنها بسكين. ودوّن أحدهم، وهو يحتضر، خبر قتله على راحلة قاتله، بعد أن غافله، ذكر فيها اسم قاتله. وهناك أمثلة أخرى من هذا القبيل، توسل فيها كاتبوها بمختلف الوسائل لايصال رسائلهم إلى من يريدون وصولها لهم. وقد وصلت بعضها وجاءت بالنتائج التي كان يريدها أصحابها منها.

وأما المادة التي يكتب بها، فهي عديدة، أهمها: الحبر، ويعرف أيضاً بالمداد ويصنع من مواد متعددة تترك أثراً في المادة التي يكتب عليها. من ذلك الزاج وسخام المصابيح، يمزج مع مادة لزجة مثل صمغ العفص أو صمغ اخر، فيكتب به. ولما كان الحبر أسود، قيل له "ديو"في العبرانية، وقد عرف بهذا المعنى أي "سواد"في اليونانية كذلك وعرف ب Atramentumفي اللاتينية، وهي في المعنى نفسه.

وقيل للمداد "نقِس"، وقد وردت اللفظة في بيت شعر للشاعر "حميد بن ثور" حيث قيل إنه قال: لمن الديار بجانب الحبـس  كخط ذي الحاجات بالنقس 

وأشير إلى "المداد"في شعر ل "عبد الله بن عنمة"، حيث يقول: فلم يبق إلا دمـنة ومـنـازلٌ  كما رُدّ في خط الدواة مدادها 

وقد ذكر "المداد" في القرآن: "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر، قبل أن تنفد كلمات ربي"، "يقول عز ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قل يا محمد لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات ربي لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات ربي"، فالمداد إذن من الألفاظ التي كانت مستعملة قبل الإسلام.

وقد صنُع الحبر من مواد مختلفة، صنعه العبرانيون من سخام المصابيح، أما المصريون فصنعوه من مواد متعددة، فصار اتقن من المداد العبراني، ولذلك حافظ على بريقه ولونه، كما أنه لا يمحى بسهولة، بينما كان الحبر العبراني قابلا" للغسل بكل سهولة. ولا نجد بين العلماء اتفاقاً في أصل معنى "الحبر"، مما يدل على أن اللفظة من المعربات. أما المداد، فذكر علماء اللغة، أنه ما مددت به السراج من زيت ونحوه، ثم خص بالحبر. والظاهر أنها أخذت من سخام الزيت الذي يحترق في السراج، وأنها تعني "سواد"، على نحو ما نجده في لفظة Melan اللاتينية، التي تعني السواد، سواد السراج، وخصصت بالحبر.

وليست لدينا اخبار عن كيفية صنع الحبر عند الجاهليين، ولم يصل الينا نص جاهلي مدون بالحبر نتمكن بتحليل مادته من الوقوف على تكوينه. ولكننا نستطيع أن نقول إن حبر الجاهليين لم يكن مختلفا عن أنواع الحبر المستعملة عند الشعوب الأخرى في ذلك العهد وأبسطها الحبر المصنوع من الفحم المسحوق، مضافاً إليه الماء وقليل من الصمغ في بعض الأحيان، والحبر المصنوع من بعض المواد المستخرجة من زيوت بعض الأشجار وعصارتها، أو من مسحوق عظام الحيوانات المحروقة أو من بعض الأوراق المؤكسدة بالحديد وببعض المعادن. ويراد بالحبر "الحبر الأسود في الغالب، غير إن القدماء كانوا يستعملون أصباغاً مثل الأحمر والأخضر، في تلوين الشروح "والملاحظات والأمور المهمة التي تلفت النظر، كما استعملت في التصوير وفي رسم بعض الرسوم التوضيحية، كما يظهر ذلك من الأوراق القديمة التي عثر عليها في مصر وفي اليونان وغير ذلك من الأماكن. وقد ورد في كتب الحديث النبوي وموارد اسلامية أخرى، إن الجاهليين كانوا يستعملون الصور والنقوش. ويريدون بالنقش تلوين الشيء بلونين أو عدة ألوان. ويقولون له: النمنمة كذلك. وكان منهم مصورون يصورون الإنسان والحيوان والأشجار وغير ذلك. وقد نهى الرسول عن تصوير كل ما هو ذو روح. وهذا التحريم هو دليل شيوع التصوير واستعمال الصور عند الجاهليين.

ويحفظ الحبر في أداة، يقال لها "الدواة"و "المحبرة"، يحملها الكاتب معه، فيعلقها بحزامه، أو يضعها تحت ثيابه، ويكون لها غطاء يمنع الحبر أن ينساب منها، ويكون بها تجويف تخزن فيه الأقلام والمقطة. وقد تكون المحبرة كأساً صغيرة ذات غطاء يخزن الحبر فيها. وقد عرفت لذلك ب"كست هسفر" "كَاست هاسيفر"، أي "كأس الكتاب" في العبرانية. وقد بقي الكتاّب وطلاب العلم والعلماء يستعملون تلك المحابر القديمة إلى عهد قريب، إذ حلت محلها الأقلام الحديثة المحملة بالحبر، وما زال بعض رجال الدين ومن يعنون بجمال الخط وتحسينه يستعلمون أقلام القصب والحبر القديم على الطريقة القديمة المذكورة. وقد عرفت المحبرة الكبيرة التي يحفظ فيها الحبر والأقلام والمقطة ومواد الكتابة الأخرى ب "قلمارين""قلماريون""ق ل م ر ي ن"في "المشنا" أي المقلمة في العربية، تمييزاً لها عن أداة أخرى عرفت ب "ترنتوق"، وهي مقلمة توضع فيها الأقلام والمبراة. وهناك لفظة أخرى، هي "ليلرين"وتقابل Libelari في اللاتينية يطلقها المتأدبون على المقلمة.

وقد أشير إلى الدوي، أي المحابر في بيت شعر ينسب لأبي ذؤيب: عرفت الديار كخط الدوي  ي حبره الكَاتبُ الحميري 

وذكر أن من أسماء المحبرة "ن"وأن "ن والقلم" بمعنى الدواة والقلم.

وقد كان من عادة الكتاب ترميل الكتابة لتجف، وكانوا يضعون الرمل في إناء خاص ثم يذرون منه في شيئاً على الكتابة.

وأما المواد التي يكتب عليها، فعديدة، تتوقف على ظروف المكان ومقدرة أهله المالية، منها الحجر والخشب ومختلف أنواع المعادن والطين وورق الشجر والجلود والقراطيس واكتاف الإبل واللخاف والعسب وإلقضم وغير ذلكْ. والى الحجر المكتوب.، يعود الفضل الأكبر في حصولنا على معارفنا عن عرب اليمن قبل الإسلام، وعرب بلاد الشام وأعالي الحجاز. فلولاه لكان علمنا بهم نزراً يسيراً.

والعسب، جريد النخل، وهي السعفة مما لا ينبت عليه الخوص. ولوفرته في الحجاز استعمله كتاب الوحي وحفظة القرآن في تدوين الوحي عليه. وقد رجع إليه زيد بن ثابت في جملة ما رجع إليه من مواد يوم كُلِّف جمع القرآن الكريم. وقد ورد "عسيب يماني" في شعر لامرئ القيس، هو قوله: لمن طلل أبصرته فشجانـي  كخط زبورٍ في عسيب يماني 

وقد ورد عن "زيد بن ثابت"، إن "أبا بكر" لما أمره بجمع القرآن، أخذ يتتبعه من "الرقاع والعسب واللخاف"، واللخاف: حجارة بيض وورد في حديث "الزهري": "قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن في العسب والقضيب والكرانيف".

وذكر "لبيد" العسب في شعره حيث ورد: متعودِ لحن يعيد بكـفـه  قلماً على عسب ذبلن وبان 

والجريد من مادة التدوبن عند أهل الحجاز. والجريدة السعفة، بلغة أهل الحجاز، وفي الحديث: كتب القرآن في جرائد، جمع جريدة.

واستعمل "الكرناف" "الكرانيف"و "الكرب" مادة للكتابة كذلك. وقد ورد أن كتبة القرآن استعملوا الكرانيف مادة لتدوين الوحي. والكرانيف والكرب، أصول السعف. الغلاظ العراض التي تلاصق الجذع، وتكون على هيأة الأكتاف. قال الطبري قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، " ولم يكن القرآن جمع، وإنما كان في الكرانيف والعسب".

واستعمل الجاهليون كتف الحيوان أيضاً، وهو عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان للكتابة عليه، وقد كتب عليه كتبة الوحي. وفي الحديث: ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده. أو ائتوني باللوح والدواة والكتف. ولما كانت العظام مادة مبذولة ميسورة في استطاعة الكاتب الحصول عليها بغير ثمن، وهي صالحة للكتابة بكل سهولة عل شكلها الطبيعي أو بعد صقل وتشذيب قليلين، لذلك أستعملها الكتاب بكثرة. فكانت مادة مهمة استعملها كتبة الوحي في تدوين القرآن. وقد ذكر "ابن النديم" أن في جملة العظام التي كتب عليها العرب: اكتاف الإبل.

وكانوا إذا كتبوا في الأكتاف حفظوا ما كتبوه في جرة أو في صندوق حتى يحفظ، ويكون في الامكان الرجوع إليه. وقد كانت الأكتاف في جملة المواد المكتوبة التي استنسخ "زيد بن ثابت" منها ما دوّن من القرآن.

واستعملوا الجلود مادة من مواد الكتابة: الجلد المدبوغ والجلد الغير المدبوغ، وقد كانوا يدبغون الجلد أحياناً ويصقلونه ويرققونه حتى يكون صالحاً مناسباً للكتابة. وقد يدبغونه ويصبغونه، وقد ذكر علماء اللغة أنواعاً من أنواع الجلود التي استعملوها في كتابتهم، منها: القضم، جمع قضيم، الجلد الأبيض يكتب فيه. وقيل الصحيفة البيضاء، أو أي أديم كان. وقد أشير إليه في شعر للنابغة: كأن مجرّ الرامسات ذيولها  عليه قضيم نمقته الصوانع 

وأشير إلى "القضيم"، و "القضيمة" في شعر "زهير بن أبي سلمى"، وفي شعر "امرئ القيس".

ويظهر من تفسير العلماء للكلمة، إن "القضيم" الصحف البيضاء المستعملة من الجلد. وذلك بأن تقطع وتصقل حتى تكون صالحة للكتابة. وقد ورد إن كتبة الوحي استعملوا القضم في جملة ما استعملوه من مواد الكتابة.

وأما الأدم، وهي الجلود المدبوغة، فقد كانت مثل القضم من مواد الكتابة الثمينة. وقد استعان بها كتبة الوحي في تدوين القرآن. كما كانت مادة لتدوين المراسلات والعهود والمواثيق. وقد أشير إلى "الأديم" في شعر للمرقش الأكبر". وذكر إن بعضه كان أديما أحمر، أي مدبوغ بمادة حمراء، ومن أنواعه "الأديم الخولاني". والظاهر انه كان من أوسع مواد الكتابة استعمالاً في أيام الجاهلية وصدر الإسلام، لوجوده عندهم، ولرخص ثمنه بالنسبة إلى الورق المستورد من مصر أو من بلاد الشام. وقد جاء في بعض الأخبار إن بعض مكاتبات الرسول كانت في الأدم.

وكان الدباغون يدبغون الأهب ويصلحونها بصقلها، فإذا دبغ الإهاب صار أديماً. وقد ذكر إن أهل مكة كانوا يشترون قطع الأديم، ويكتبون عليه عهودهم ومواثيقهم وكتبهم. ولما توفي "سعيد بن العاص" جاء فتى من قريش يذكر حقاً له في كراع من أديم بعشرين ألف درهم على "سعيد"، بخط مولى لسعيد كان يقوم له على بعض نفقاته، وبشهادة "سعيد" على نفسه بخطه. فأعطي حقه على ما كان مدوناً في قطعة الأديم.

وذكر بعض علماء اللغة أن القرطاس: الكاغد، يتخذ من بردي يكون بمصر. وذكر بعض آخر أن القرطاس الصحيفة من اي شيء كانت، يكتب فيها، والجمع قراطيس. وقد وردت لفظة "قرطاس" و "قراطيس" في القرآن الكريم. وورود اللفظة في القرآن الكريمّ دليل على وقوف العرب عليها. وهي من الألفاظ التي دخلت إلى العربية من مصر أو من بلاد الشام، حيث استورد أهل مكة والعربية الغربية مختلف التجارة منها، ومنها القراطيس، ويعرف القرطاس في اليونانية ب Khartis.

ويظهر أن أهل بلاد الشام كانوا قد استعملوا اللفظة اليونانية، فلما نقل الجاهليون القرطاس منهم وتعلموه عنهم، استعملوا المصطلح اليوناني بشيء من التحريف والتحوير ليناسب النطق العربي، وقد نص بعض علماء اللغة على أن اللفظة من الألفاظ المعربة.

وتقابل لفظة "قرطاس" لفظة Papyri فيَ اللغة الانكليزية. وقد كان القدماء في مصر وفي حوض البحر المتوسط يكتبون على القراطيس. وهي على صورة لفات تلف كالأسطوانة تحفظ في غلاف حذر تلفها وتمزقها. وأسفار اليهود هي على هذه الصورة. ولا زالت معابدهم تستعمل توراتهم المكتوبة على هيئة "سفر" أي مكتوبة على هيأة صفحات متصلة بعضها ببعض على شكل اسطوانة، يسحب أحد طرفيها الذي يوصل باسطوانة أخرى، ثم يقرأ من السفر.

وذكر علماء اللغة أن "الرقاع"، هي القرطاس.

ووردت لفظة "رق" في القرآن الكريم: )والطور وكتاب مسطور في رق منشور(. وقد فسّر العلماء الرق بأنه ما يكتب فيه شبه الكاغد، أو جلد رقيق يكتب فيه، أو الصحيفة البيضاء. وقد اشتهرت جملة مواضع في الحجاز وفي اليمن بترقيق الجلد ودباغته، ليصلح للعمل، وفي جملته الرق المستعمل في الكتابة. ويعرف الرق ب "رقو" Raqo و "رق" Raq في الإرمية. وتؤدي اللفظة في هذه اللغة المعنى نفسه المفهوم منها في عربيتنا، ولهذا ذهب بعض العلماء الي إن اللفظة من أصل إرمي. ومن أجود أنواع الرق، الرق المعمول من جلد الغزال. وذكر إن الصحابة اجمعوا على كتابة القرآن في الرق، لتشره عندهم، ولطول بقاء الكتابة فيه.

وقد كان الكتاّب يستعملون الرق في المراسلات وفي السجلات وفي الكتب الدينية. فقد استعمل الفرس جلود البقر المدبوغة لكتابة كتبهم الدينية عليها، واستعمل العبرانيون جلود الغنم والمعز والغزال لكتابة التوراة والتلمود عليها. وقد اشترطوا في الجلود أن تكون من جلود الحيوانات الطاهرة. استعملوها صحائف منفصلة، واستعملوها صفائح على هيأة الكتب، كما استعملوها مدورة ملفوفة قطعة واحدة يتصل كل رأس منها بقضيب، فتكون لفتين متصلتين، وذلك بربط قطع الجلود بعضها ببعض وتثبيتها لتكون صحيفة واحدة طويلة مستطيلة، يقال لها "مجلوت" "م ج ل و ت"، أي المجلة، من أصل "جلل"، بمعنى لف وأدار.

وفي الشعر الجاهلي إشارات إلى استعمالهم "الرق" في كتاباتهم، وقد أشار بعضهم إلى سطور الرق، وكيف رقشها كاتبها ونمق الكتابة مسطرها، وكيف خط مملي الكتاب ما أريد إملاؤه في الرق. وقد عبر عن الخطاط الذي خط السطور على الرق بالمرقش وبالكاتب. ومن أنواع الرق الجيد، الرق المصنوع ب "خولان" والذي عرف ب "الأديم الخولاني".

ونجد الشاعر المخضرم "معقل بن خويلد" الهذلي، يشير إلى "مملي كتاب " يملي على كاتب، بخط على رق، وذلك بقوله: فإني كما قال مملي الكـتـا  ب في الرق اذ خطه الكاتب

يرى الشاهد الحاضر المطمئن  من الأمر ما لا يرى الغائب

ومعقل من سادات قومه، ومن شعرائهم المعروفين، وكان أبوه رفيق "عبد المطلب" الى "أبرهة".

وأما "القتب"، فالإكاف الصغير الذي على قدر سنام البعير. ويصنع من الخشب. وقد كتب الناس على "القتب". وقد استخدم "الرحل" مادة للكتابة عليها، عند الحاجة والضرورة.

وقد استعملت الألواح مادة للكتابة، ومن هذه الألواح ما صنع من الحجر، بنشر الحجر وصقله، ومنها ما صنع من الخشب، ومنه من لوح الكتف أي العظم الأملس منه. واللوح كل صفيحة عريضة خشباً أو عظماً. وأشير في القرآن الكريم الى اللوح، فورد: )بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ (. وورد )وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة ( وغير ذلك. فيظهر من ذلك أن الألواح كانت تكتب فيحفظ بها ما يراد حفظه من آراه وأفكار.

وقد كان بعض الصحابة والتابعين يستعملون الألواح لتقييد ما يريدون حفظه وتقييده من أقوال الرسول ومن سيرته أو غير ذلك. فذكر أن "ابن عباس" كان يأتي "أبا رافع" ويسأله: ما صنع رسول الله يوم كذا ? ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها. وأن مجاهداً كان يسأل "ابن عباس" عن تفسير القرآن ومعه الواحه، يكتب فيها ما يمليه عليه. وعرف اللوح ب "السبورجه"، وهي لفظة فارسية الأصل.

وقد ورد في حديث زيد بن ثابت عن جمع القرآن أنه جمعه من الرقاع واللِّخاف والعُسُب. وقصد باللخاف حجارةً بيضاً رقاقاً، واحدها لخفة. كان يكتب عليها أهل مكة.

والحجارة هي المورد الرئيس الذي استخرجنا منه علمنا بتأريخ العرب الجنوبيين وبتأريخ أعالي الحجاز وأماكن أخرى من جزيرة العرب. ويضاف إلى ذلك الصخور الصغيرة والحصى الكبيرة، فقد نقش عليها الجاهليون أوامرهم وأحكامهم وخواطرهم ورسائلهم وذكرى نزولهم في مكان، فالفضل يعود إلى هذه الكتابات في حصولنا على أخبار الجاهليين المذكورين.

وقد كتبوا على الخزف، وبقي الناس يكتبون على الحجارة والخزف الي الإسلام. فقد كان "ابو الطيب" اللغوي، وهو "عبد الواحد بن علي"، يعلق عن "أبي العباس" ثعلب على خزف، ثم يجلس فيحفظ ما دوّنه عليه.

ويقال لما يكتب في الحجارة وينقش عليها "الوحي". والوحي الكتابة والخط. وبهذا المعنى ورد في شعر شعراء جاهليين واسلاميين، مثل شعر "لبيد"، حيث قال: فمدافع الرياّن عُرّي رسمهـا  خلقاً كما ضمن الوحي سلامها 

وشعر "زهير" حيث يقول: لمن الديار غشيتها بالفدفدكالوحي في حجر المسيل المخلد وأما الورق، فأريد يه جلود رقاق يكتب فيها، ومنها ورق المصحف

ويظهر انهم أطلقوا اللفظة على القطع الرقيقة من الجلود أو من المواد الأخرى التي كانوا يكتبون عليها، تشبيهاً بورق الشجر. ولذلك فإنها لا تعني نوعاً معيناً من الورق. كما يجوز إن يكون المراد من الورق المستورد من بلاد الشام أو من مصر، أو المصنوع من صقل الكتان ونسيج القطن وغير ذلك.

ولقلة وجود القصب الصالح لصنع الورق في جزيرة العرب، لا نستطيع أن نذهب إلى وجود صناعة ورق من هذه المادة في هذه البلاد، بل كانوا يستوردونه من مصر مصدر الورق المصنوع من القصب، والمعروف ب "البابيروس".

والصحيفة المبسوط من الشيء، والتي يكتب فيها، والكتاب، وجمعها صحائف وصحف، ومنها )إن هذا لفي الصُّحفُ الأولى: صحف ابراهيم وموسى (، و )رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة، فيها كتب قيمة (.

وقد أشير إلى الصحيفة في كتب السيرة حين اتفقت قريش على مقاطعة بني هاشم، وكتبت بذلك صحيفة، كتبها "بغيض بن عامر بن هاشم"، أو "منصور بن عبد شرحبيل" المعروف بأبي الروم على بعض الروايات. والمصحف ما جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدفتين. والتصحيف قراءة المصحف وروايته على غير ما هو لاشتباه حروفه.

وقد قيل للقران؛ المصحف، وإنما سُمي المصحف مصحفاً لأنه أصحف أي جُعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدفتين. ونقرأ في الأخبار أن بعضاً من الصحابة والتابعين كانوا يملكون صحيفة أو صحفاً دوّنوا فيها حديث الرسول أو أمراً من مور الشعر وأخبار العرب وأمثال ذلك، فكان "عبدة لله بن عمرو بن العاص" قد كتب حديث الرسول في صحيفة؛ وقد أذن الرسول له أن يكتب حديثه فيها.

وقد أشير إلى الصحيفة في شعر "المتلمس"، ويظهر من الشعر الذي ذكرت اللفظة فيه، أنه قصد بها رسالة، أي كتاباً أمر ملك الحيرة "عمرو بن هند" بتدوينه، وأعطاه إليه، ليحمله إلى عامله على البحرين على نحو ما ورد في خبره. كما أشير إلى الصحيفة في شعر شعراء آخرين.

ويقال للصحيفة طرس، ويجمع على طروس. ويقال إن الطرس الصحيفة المكتوبة، وقيل: الكتاب الممحو الذي يستطاع أن تعاد فيه الكتابة. والتطريس: فعلك به. وطرّس الباب سوّده، والطِلس: كتاب لم ينعم محوه، فيصير طرساً. والتطريس اعادة الكتابة على المكتوب الممحو.

ورأى بعض العلماء أن الصحف ما كان من جلود. وذهب بعض آخر إلى أنها من جلد أو قرطاس. وأن القرطاس والصحيفة، هما في معنى واحد، وهو الكاغد.

وذكرت "الصحيفة" في شعر للقيط بن يعمر الإيادي، هو قوله: سلام في الصحيفة من لقيط  إلى من بالجزيرة من إياد

و ذلك في قصيدته التي كتبها اليهم، يخبرهم فيها بمسير "كسرى" عليهم، ويحذرهم من قدومه.

كما ذكرت في شعر لعدي بن زيد العبادي، وصف فيه قصة "الزباّء" و "جذيمة" و "قصير"، حيث يقول: ودست في صحيفتها إليه  ليملك بُضعها ولأن تدينا 

وكان من عادة أهل الجاهلية تدوين أحلافهم في صحف، توكيداً للعهد، وتثبيتاً له. وقد أشير إلى ذلك في الشعر وفي الأخبار. ورد في شعر قيس بن الخطيم: لما بدت غُدوة جبـاهـهـم  حنت الينا الأرحام والصحف 

وأشير إليها في شعر ينسب لدرهم بن زيد الأوسي، يخاطب الخزرج بما كان بينهم من عهود ومواثيق، إذ يقول: وإن ما بينـنـا وبـينـكـم  حين يقال الأرحام والصحف 

ولما قاطعت قريش "بني هاشم وبني المطلب"، كتبت بذلك كتاباً عرف ب "صحيفة قريش"، وختموا عليها ثلاثة خواتيم، وعلقّوها في سقف الكعبة، وقيل: بل كانت عند ام الجلاّس مخربة الحنظلية، خالة أبي جهل، وقيل عند هشام بن عبد العزى.

وترد الصحف بمعنى الوثائق، وكل تسجيل يراد الاحتفاظ به للرجوع إليه عند الحاجة، فالديون تسجل في صحف وكتب، والأمور الهامة تسجل فيها كذلك، هذا "علباء بن أرقم بن عوف" الشاعر اليشكري، يذكر ديَناً دوّن في صحيفة، فيقول: أخذت لدين مطمـئن صـحـيفة  وخالفت فيها كل من جار أو ظلم 

وقد ورد ذكر صحف الدين هذه في كتاب الرسول إلى ثقيف، إذ جاء فيه: "وما كان لثقيف من دين في صحفهم اليوم الذي أسلموا عليه في الناس فإنه لهم".

وذكر أن الناس كانوا يكتبون بالمهارق قبل القراطيس في العراق. وقد ذكر "المهرق" في شعر حسّان: كم للمنازل من شهر وأحوال  كما تقادم عهد المهرق البالي 

وكانوا يغسلون الصحف المكتوبة للاستفادة منها، بكتابة شيء جديد يراد كتابته عليها، وذلك لغلاء مادة الكتابة وصعوبة الحصول عليها، فيطمسون معالم الكتابة السابقة بغسلها بالماء مثلاً، فإذا جفت كتبوا عليها. وقد تسبب هذا الغسل إلى وقوع خسارة كبيرة بالنسبة لتدوين العلم، إذ غسل هذا الماء مادة علمية ثمينة كانت ستفيدنا كثيراً بالطبع لو بقيت مدونة على الصحف. فخسرنا نحن خسارة ثمينة ولا شك لا تعوض.

واستعمل الجاهليون السبورة في الكتابة. ويريدون بها جريدة من الألواح من ساج أو غيره، يكتب عليها. فإذا استغنوا عنها محوها، وهي معربة. وقد رواها جماعة من أهل الحديث "ستورة"، وبهذا المعنى وردت السفورة، وهي معربهّ كذلك.

والمهارق من الألفاظ المعربة، يرى علماء اللغة انها من الفارسية، وان أصلها "مهركُرده" "مهركرد"، أي صُقلت بالخرز. وقد عرفها بعض علماء اللغة بأنها ثياب بيض أو حرير أبيض، تسقى بالصمغ وتصقل، ثم يكتب عليها. وقيل: هي الصحائف، الواحد مهرق. وذكر الجاحظ إن الكتب لا يقال لها مهارق، حتى تكون كتب دين، أو كتب عهود، أو ميثاق وأمان.

ويظهر من الشعر المنسوب للحارث بن حلزة اليشكري، إن أصل المهارق من الفرس ولهذا عبر عنها بقوله: "كمهارق الفرس". ولعله قصد كتباً وصحفاً دينية من ديانتهم المجوسية. وقد وردت اللفظة في شعر ينسب للاعشى وفي شعر آخر ينسب للحارث بن حلزة اليشكري المذكور.

قال "الجاحظ": "والمهارق، ليس يراد بها الصحف والكتب، ولا يقال للكتب مهارق حتى تكون كتب دين، أو كتب عهود، وميثاق، وأمان". وقال قبل ذلك: "لولا الخطوطُ لبطلت العهود والشروط والسجلات والصُّكاك، وكل إقطاع، وكل انفاق، وكل أمان، وكل عهد وعقد، وكل حوار وحلف، ولتعظيم ذلك، والثقة به والاستناد إليه، كانوا يدعون في الجاهلية من يكتب لهم ذكر الحلف والهدنة، تعظيماً للامر، وتبعيداً من النسيان، ولذلك قال الحارث بن حلزة، في شأن بكروتغلب: واذكروا حلف ذي الـمـجـاز  وما قدّم فيه، العهود والكفـلاء

حذر الجور والتعـدي، وهـل  ينقض ما في المهارق الأهواء

وقد أشار "الحارث بن حلزة" اليشكري إلى "مهارق الفرس"، و ذلك في قوله: لمن الديار عفون بالحبس  آياتها كمهارق الفـرس

ونوع آخر من "المهارق". عمل من الكرابيس، أي من الثياب المصنوعة من الكرباس وهو القطن الأبيض، وذلك بسقي الكرباس، بصمغ أو بإطلائه بشيء آخر يسد المسامات، ثم يصقله بالخرز. فهو إذن من النوع الجيد الغالي بالنسبة إلى مواد الكتابة، ولذلك كانوا يستعملونه في الأمور الكتابية الجليلة.

وقد أشير في شعر "الأسود بن يعفر" إلى سطور يهوديين في مهرقيهما مجيدين في الكتابة، هما من أهل "تيماء" أو من "أهل مدين". ولم يشر إلى نوع القلم الذي كتبا به، وأغلب الظن أنه قلم عبراني.

وقد استعمل الجاهليون "الصكوك" في تعاملهم. وذكر علماء اللغة أن "الصك" الذي يكتب للعُهدة، وكانت الأرزاق تسمى صكاكاً لأنها كانت تخرج مكتوبة. ومنه الحديث في النهي عن شراء الصكاك، وذلك أن الأمراء كانوا يكتبون للناس بأرزاقهم وأعطياتهم كتباً، فيبيعون ما فيها قبل أن يقبضوها معجلاً، ويعطون المشتري الصك ليمضي ويقبضه، فنهوا عن ذلك لأنه بيع ما لم يقبض. وذكروا أن اللفظة من الألفاظ المعربة، أصلها فارسي. واستعملت الصكوك في الدين. فورد "صك دين".

وقد أمدتنا جزيرة العرب بحجارة كثيرة مكتوبة، ولكنها لم تمدنا باللبن المكتوب أو الطين المكتوب المشوي بالنار إلا في النادر. مع أن الكتابة على الطين أسهل من الكتابة على الحجر. ولعلى وجود الحجر بكثرة في العربية الغربية والجنوبية ومقاومة الحجر للبلى والتلف هما اللذان دفعا أهل هذه البلاد على تفضيل الحجر في الكتابة على الطين. ولا يستبعد عثور الاثاريين والمنقبين في المستقبل على كتابات جاهلية مسجلهَ على الطين ولا سيما في المناطق الماحلة أو التي يقل فيها وجود الحجر، هي الآن مطهورة في باطن الأرض.

وأعطوا للصحف أسماء إذا كانت قد كتبت في أغراض خاصة. فإذا كانت الصحيفة اعطاء أرض لشخص، كإقطاعه أرضاً، يعطى الشخص صحيفة مدونة بذلك، تثبت له تسجيل الأرض المقطعة باسمه يقال لها "الوصر" و "الاصر". وقد ذكر علماء اللغة إن الاصر: العهد والعقد. وقيل العهد الثقيل. وان سطور "الوصر" الصك اللذي تكتب فبه السجلات. والأصل اصر، سمي به لأن الأصر العهد ويسمى كتاب الشروط كتاب العهد والوثائق، ويطلق غالباً على كتاب الشراء، قال عدي بن زيد: فأيكم لم ينـلـه عـرف نـائلـه  دثراً سواما وفي الأرياف أوصارا 

أما اذا كانت الصحيفة صحيفة جوائز، كان يعطي الملك جوائز لأصحابه وأتباعه، قيل للصحف التي يدون قدر الجائزة أو نوعها عليها القطوط والمفرد: القط. وقد ذكرها الأعشى في شعره: ولا الملك النعمان يوم لقيته  بإمته يعطي القطوط ويأفق 

وورد ذكرها في شعر المتلمس، إذ قال: وألقيتها بالثنى من جنب كافر  كذلك ألقى كل قط مضلـل

وقد عرفت "القط" انها الصك بالجائزة، وهي الصحيفة للانسان بصلة يوصل بها. وقبل القط الصحيفة المكتوبة وكتاب المحاسبة. قيل: سميت قطوط لأنها كانت تخرج مكتوبة في رقاع وصكاك مقطوعة.

وقد كانت الحاجة تدفع الكتّاب إلى تدوين ما يريدون تقييده وكتابته على ملابسهم وعلى راحة أيديهم، بل على نعالهم أحياناً. روي عن "سعيد بن جبير" انه قال: "كان ابن عباس يملى علي في الصحيفة حتى أملأها وأكتب في نعلي حتى أملأها". وقد كانوا يكتبون على الهودج أو على أي شيء يجدونه أمامهم، مثل الرحل، لندرة الورق عندهم ولحاجتهم إلى تسجيل ما يسمعونه، أو ابلاغ قومهم بسر أو برسالة، فيغافل المرسل من يعرف أنه قاصد الجهة التي يريدها فيحفي بسكينه عل الراحلة ما يريد تبليغه من سر. وورد عن "سعيد بن جبير" قوله "كنت أكتب عند ابن عباس في صحيفتي حتى أملأها، ثم أكتب في ظهر نعلي، ثم أكتب في كفي". وروى انهم كانوا يكتبون على أكفهم بالقصب عند البراء، وان "الزهري" ربما كتب الحديث في ظهر نعله مخافة إن يفوته.

ولفظة: "كتب" التي نستعملها اليوم، ومن أصلها اشتقت لفظة "كتابة " و "كتاب" وكاتب وأمثالها، هي من الألفاظ العربية الشمالية المعروفة المتداولة عند الجاهليين. وقد وردت لفظة "كتاب" بمعان متعددة، منها هذا المعنى المعروف، ومنها الصحيفة مع المكتوب فيها. وقد قصد بها التوراة في مواضع من القرآن الكريم. وأريد ب "أهل الكتاب" اليهود والنصارى، أهل التوراة و الانجيل.

وقد استعملت اللحيانية لفظة "كتب" أيضاً، فوردت في عدد من الكتابات. وعبرت عن "الكتابة" و "الخط" بلفظة "هكتب". والهاء أداة للتعريف عندهم، ويجوز انهم كانوا ينطقون بها على هذه الصورة: "هكتاب"، أو "ها كتاب"، أي: "الكتاب" و "الكتابة".

ومتى فكر الإنسان في الكتابة تذكر "القراءة". فالكتابة التدوين، والقراءة قراءة الشىء المدوّن. ولهذا يقال: القراءة والكتابة، كما يقال: قارىء كاتب، أي يحسن ويجيد الحالتين. فقد كان البعض يقرأون ولا يكتبون. روي أن "عائشة" كانت تقرأ المصحف، ولا تكتب، وأن "أم سلمة" كانت مثلها تقرأ ولا تكتب.

ونجد لفظة "كتاب" في شعر عدد من الشعراء الجاهليين. وقد استعمل "عدي ابن زيد العبادي" "كتاب الله" في شعره، ولما كان هذا الشاعر نصرانياً، يكون قصد ب "كتاب الله" الإنجيل ولعله قصد التوراة والإنجيل معاً. وجاءت جملة: "آيات الكتاب" في شعر "تميم بن أبي بن مقبل العامري". أما زهير، فقد استعمل لفظة "كتاب" أيضاً في معنى الشيء الذي يكتب ويدوّن عليه ليحفظ لوقت الحساب.

وتؤدي لفظة "كتاب" معنى رسالة. فقد كانوا يطلقون على الرسالة لفظة "كتاب"، والجمع "كتب". ومن ذلك ما ورد في خبر "كتب رسول الله إن الملوك " و "خبر كتاب مسيلمة إلى رسول الله والجواب عنه".

ولفظة "دفتر"، في معنى جماعة الصحف المضمومة، وهي الكراريس.

وفي قول عمرة: "ولو انطبق عليكم الدفتر"، يعني ولو أن تكتبوا آخر الناس. ولا أظن إن اللفظة قد دخلت العربية في أيام عمر، بل لا بد وأن تكون من الألفاظ المستعملة في الجاهلية. وذكر أن الدفتر جريدة الحساب والكراسة.

والكراسة الجزء من الصحيفة والكتاب. يقال: "هذا الكتاب عدة كراريس"، و"كرّاس أسفار". وترد اللفظة في لغة بني إرم، بمعنى "كتيب" وجزء من كتاب يحتوي في الغالب ثماني ورقات.

وكانوا يسجلون عقودهم وأخبارهم في كتب، أي صحف، من ذلك ما ورد في قصة النعمان مع "الحارث بن ظالم"، فقد ورد انه كتب إليه كتاباً وكان يومئذ بمكة يؤمنه إن عاد اليه، فلما جاء إلى "النعمان"، وقال له: أنعم صباحأ أبيت اللعن، انتهره الملك بقوله: لا أنعم الله صباحك. فقال الحارث: هذا كتابك ! قال النعمان: كتابي والله ما أنكره أنا كتبته. وكان "عبد الرحمن ابن عوف"، قد كاتب "أمية بن خلف" في أن يحفظه في صاغيته بمكة، وأن يحفظه في صاغيته بالمدينة، وكتبا هذه المكاتبة في كتاب.

وترد لفظة "كتاب" بمعنى اعلان واحقاق حق، كالذي ورد في خبر "رؤيا" "عاتكة بنت عبد المطلب"، عن مصير معركة "بدر"، وقول قريش للعباس: "يا بني عبد المطلب ! أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ! قد زعمت عاتكة في رؤياها انه قال: انفروا من ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقاً ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء، نكتب عليكم كتاباً انكم أكذب أهل بيت في العرب".

ويعبر عن الكتابة بالخط، وتعني لفظة خطَّ، كتب. في القرآن الكريم: "وما كنت تتلو من قبله من كتاب، ولا تخطه بيمينك". وقد عبر عنها بالقلم كذلك، فقيل: القلم العربي، والقلم الحميري. ويراد بالقلم الحميري المسند، ويقولون له الخط المسند كذلك. وقد بقي ناس من أهل اليمن يكتبون به في الإسلام. وقد وردت لفظة "هخطط"، أي الخط والرسم، في النصوص الصفوية. وهذا يدل على أن هذه اللفظة هي من الألفاظ التي كان يستعملها العرب الشماليون. والهاء في "هخطط" أداة التعريف "ال" في عرببتنا.

وتعبر كلمة "سطر"عن معنى خط وكتب. و "السطر" الخط والكتابة. ووردت لفظة "يسطرون" في القرآن الكرم في سورة "ن" بمعنى يكتبون. ووردت لفظة "سطر" في نص "أبرهة" بهذا المعنى أيضاً. كما نجدها في نصوص عربية جنوبية أخرى، مما يدل على ورودها في اللهجات العربية الجنوبية كذلك. وتقابلها لفظة "سرتو" Serto و "سورتو"Sourto من الفعل "سرت" Srat في الإرمية. ومن هنا ذهب بعض الباحثين في الإرمية إلى أن "سطر" العربية هي "كلمة سريانية الأصل". وهو رأي يمثل وجهة نظر طائفة من الباحثين ترجع أصول أكثر المصطلحات الحضارية والثقافية الواردة في العربية إلى أصل سرياني. وفيه تسرع وبعد عن العلم.

والسطر، الصف من الشيء. والتسطير، كتابة بسطور، أي الخط والكتابة.

وقد كان معظم الجاهليين يجعلون كتابتهم سطوراً سطراً فوق سطر، ليكون من الممكن تتبع الكتابة إلا بعض الكتابات الصفوية والثمودية واللحيانية التي اتخذت اشكالاً مختلفة، تارة على هيأة هلال، وتارة أخرى على شكل دائرة، وحيناً على شكل غير منسق ولا منظم، إذ كان أصحابها رعاة في الغالب متنقلين، فلم تكن كتابتهم متقنة، كما أنهم لم يكونوا يملكون ورقاً وقرطاساً، فكتبوا على أية حجارة وجدوها، فاختلف شكل الخط لذلك.

والتسطير التخطيط. أي تدوين السطور وتخطيطها على شكل خطوط. ومن المجاز خططت عليه ذنوبه، أي سطرت. ووردت لفظة "اسطرن" "الأسطر" بمعنى الوثيقة والسطور في كتابات المسند.

ونجد في شعر للشاعر "الشماخ"، وصفاً للخط، كتبه حبر بتيماء من أسطر، عرض فيها وأثبج. إذ يقول: اتعرف رسماً دارساً قد تغبرا  بذروة أقوى بعد ليلى واقفرا

كما خط عبرانية بـيمـينـه  بتيماء حبر ثم عرض أسطرا 

"والتعريض إن يثبج الكاتب ولا يبين الحروف ولا يقوم الخط".

وترد لفظة: "النقش" بمعنى الكتابة والتدوين والتخطيط. ورد: رجّع النقش، والوشم، والكتابة: ردد خطوطها، وترجيعها أن يعاد عليها السواد مرة بعد أخرى. ومنه رجع الواشمة. قال لبيد: أو رجع واشمة أسف تؤورها  كففا، تعرض فوقهن وشامها 

وقول زهير: مراجيع وشمٍ في نواشر معصم

وفي هذا المعنى أيضاً لفظة "زَبرَ". و "الزبر" الكتابة. ويذكر علماء اللغة انها تعبر عن معنى النقش في الحجارة كذلك. وأما "المزِبر"، فهو "القلم " كما ذكرت ذلك قبل قليل. وقد ورد في حديث وفاة الرسول انه دعا بدواة ومزبر، أي قلم. وذكر إن الزبور الكتاب. وقد وردت اللفظة في القرآن الكريم. فلفظة "زبر" بالفتح اذن فعل ماضٍ بمعنى كتب، وفي هذا المعنى أيضاً لفظة "ذمَرَ". فنقول "ذمرتُ الكتابَ"، أي زبرته وكتبته. وقصد ب "الزبور" في القرآن الكريم، المزامير، أي "مزامير داوود". وتقابل لفظة "زمره" "زمره" في العبرانية.

ويظهر من البيت المنسوب إلى لبيد: فنعاف صارة فالقنان كأنها  زبر يرجعها وليد يمـان

ومن البيت المنسوب إلى "أبي ذؤيب": عرفت الديار كرقم الـدوا  ة يزبرها الكاتب الحميري 

إن أهل اليمن كانوا قد اشتهروا بالكتابة والقراءة بين الجاهليين وان ولدان أهل اليمن كانوا يرجعون أي يقرأون ويكررون ما هو مزبور أمامهم لحفظه. وان "الكاتب الحميري"، أي كاتب أهل اليمن كان معروفاً مشهوراً، يحمل الدواة ويكتب بها على مادة الكتابة. "قال أعرابي حميري: أنا أعرف تزبرتي اي كتابتي.

وأشير إلى "خط زبور" في شعرٍ امرىء القيس: أتت حجج بعدي عليها فأصبحـت  كخط زبورٍ في مصاحف رهبان 

وذكر علماء اللغة أن "الزبور" الكتاب، وفي هذا المعنى ورد قول لبيد: وجلا السيول عن الطلول كأنها  زبر تحد متونها أقـلامـهـا

وذكروا إن الزبور قد غلب على كتاب "داوود"، أي "المزامير"، وكل كتاب زبور. وقيل: هو الكتاب المقصور على الحكمة العقلية دون الأحكام الشرعية.

واستعمل "الهمداني" جملة: "زبر حمير القديمة ومساندها الدهرية"، وقال إن "أبا نصر" الحنبصي، كان قد قرأها وكان بحاثة عالماً بها. وقد فرّق بين "الزبر" وبين "المساند"، مما يدل على أنه قصد بالزبر شيئاً آخر يختلف عن المساند، ربما أراد بالزبر صحفاً أو مجموعة صحف، أو كتاب، أما المساند، فالكتابات المدوّنة على الحجر.

ومن المصطلحات المعبرة عن معنى كتب ونقش وختم لفظة "رقم". و"كتاب مرقوم"، بمعنى مكتوب، وأما المرقم فالقلم، لأنه يرقم به. وذكر بعض علماء اللغة أن الرقم: الخط الغليظَ، وقيل: تعجيم الكتاب..وقد ورد في القرآن الكريم: "كتاب مرقوم". وذكر أن: "الرقيم"، الكتاب. والكتابة والختم، "وفي الحديث أنه كان يسوي الصفوف حتى يدعها مثل القدح أو الرقيم، أي مثل السهم أو سطر الكتابة". وليس بين الرقوم والخطوط فرق.

يقول علماء العربية: "ورقم الكتاب: أعجمه وبيّنه، أي نقطه وبين حروفه. وكتاب مرقوم: قد بيُّنت حروفه بعلاماتها من التنقيط". وإن الإعجام التنقيط بالسواد، مثل التاء عليها نقطتان. وأن التنقيط بمعنى وضع النقط على الحروف، أي إعجامها. ويحملنا قولهم هذا على الذهاب إلى أن الاعجام كان معروفاً بين الجاهليين.

وفي هذا المعنى، اي الرقم والترقيم والرقيم ترد لفظة "الترقين"، و"الرقن"، و "المرقون"، و "الرقين"، و "ترقين الكتاب: المقاربة بين السطور. وقيل نقط الخط واعجامه ليتبين، وأيضاً تحسين الكتاب وتزيينه". "والترقين تسويد مواضع في الحسبانات لئلا يتوهم أنها بيضت كيلا يقع فيه حساب".

وقد وردت لفظة "المنمق" وجملة "الكتاب المنمق" في شعر ينسب لسلامة ابن جندل، هو: لمن طللٌ مثل الكتاب المنمـق  خلا عهده بين الصُّليب فمطرق 

وذكر علماء اللغة إن معنى "نمق" كتب. فيقال: نمق الكتاب ينمقه، أي كتبه وحسنّه وزيّنه بالكتابة وجوده. وفي هذا المعنى نبق، فيقال: نبق الكتاب ونمقه إذا سطره. أما لفظة، دبج، فتعني النقش والتزيين.

وذكر علماء العربية إن "الرقش" الخط الحسن، وان الرقش والترقيش: الكتابة والتنقيط، وان "رقش ""، بمعنى نقط الخطوط والكتاب. وأن الترقيش: التسطير في الصحف. ويظهر إن للكلمة علاقة بتنميق الخط وتحسينه وتجويده، وان الخط المرقش، هو الخط المنمنم المزوّق المنقط المعتنى به. قالوا: ومن هنا سمي الشاعر "المرقش" مرقشاً. وهو المرقش الأكبر عم "المرقش الأصغر". ويدل هذا التفسير لمعنى "الترقيش" على إن التنقيط كان معروفاً عند الجاهلين. ورووا له قوله:   

الدار قفر والرسوم كمـا  رقش في ظهر الأديم قلم 

وقد وردت لفظة "رقش" في شعر ينسب للاخنس بن شهاب التغلبي، هو: لابنة حطاّن بن عوف منازل=كما رقش العنوان في الرق كاتب كما وردت في شعر لطرفة، هو: كسطور الرق رقشـه  بالضحى مرقش يشمه 

و "اللمق" الكتابة في لغة "بني عقيل"، وسائر "قيس" يقولون: اللمق: المحو. وقال بعضهم: "لمقه بعدما نمقه، أي محاه بعدما كتبه". فهو ضد. يقال لمقه إذا كتبه ولمقه إذا محاه.

و "النبق" الكتابة، مثل النمق. ونبق الكتاب ونمقه إذا سطره.

و "القرمطة" في الخط دقة الكتابة وتداني الحروف والسطور، وقرمط الكاتب إذا قارب بين كتابته. وكان الامام "علي"، يقول للكاتب: "فرج ما بين السطور وقرب بين الحروف".

و "النمنمة"، خطوط متقاربة قصار، وكتاب منمنم، منقش، ومرقش ومزخرف، أي به زخرفة. ولكل وشي نمنمة. فيظهر من ذلك أن بعض صحف وكتب أهل الجاهلية كانت منمنمة ذات رقوش ونقوش ووشي. وقد نعت "الجاحظ" الخط المسند ب "المنمنم".

ويعبر عن الكتابة بلفظة "النقر" على سبيل المجاز.وقد ورد "نقر في الحجر" بمعنى كتب، وذلك لأن الحجر المكتوب، هو حجر منقور، ظهرت الكتابة عليه بطريقة النقر. وكل ما ورد الينا من الكتابات الجاهلية قد كتب على الحجر أو الخشب بالنقر والحفر.

والمشق السرعة في الكتابة. وقيل مشق الخط يمشقه مشقاً: مدَّه. فالمشق الخط الممدود الذي كتب بسرعة وبعجلة. ولذلك عبرّ عن القلم السريع الجزي في القرطاس ب "قلم مشاق". وورد أن أهل الأنبار كانوا يكتبون بالمشق. وهو خط فيه خفة.

ويعبر عن الكتابة الفاسدة المكتوبة بخط رديء فاسد ب "كتابة مخربشة" وب "كتاب مخربش". وبهذا المعنى أيضاً "الخرمشة". فالخربشة والخرمشة في معنى واحد.

وقد كانوا يستنسخون الكتب والصحف والأسطر كما نفعل. فقد ورد إن منهم من استنسخ كتباً في الجاهلية والاسلام، أي ينقلون الكتابة نقلاً بنصها وحروفها حرفاً حرفاً حتى تكون عند الناقل نسخة كاملة تامة للكتابة التي نقل عنها. والكاتب ناسخ ومنتسخ. والاستنساخ اكتتاب كتاب عن كتاب حرفاً حرفاً. وفي هذا المعنى ورد في القرآن: )إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون(، أي نستنسخ ما تكتب الحفظة.

وترد لفظة "الترقين"، بمعنى ترقين الكتاب وهو تزيينه، وقيل "رَقَّن الكتاب" قارب بين سطوره، والترقين في كتاب الحسبانات. والمرقن: الكاتب. وقال بعضهم: "الترقين خط يخط في التأريخ أو العريضة اذا خلا باب من السطر، لكي يكون الترتيب محفوظاً به. وهو بمنزلة الصقر في حساب الهند وحساب الجمل، واشتقاقه من "رقان" وهو بالنبطية الفارغ". وقيل الترقين: نقط الخط وإعجامه ليتبين، وتسويد مواضع في الحسبانات لئلا يتوهم انها بيضت كيلا يقع فيه حساب.

ولفظة "قرأ" من الألفاظ الجاهلية المعروفة. وهي أصل لمعان عديدة ذوات صلة بالقراءة. وتعبر جملة "قارأه مقارأة وقِراء" عن معنىّ دراسة. ومن الأصل المتقدم قارئ وقرّاء وقراءة. ولفظة "اقرأ"، هي أول لفظة نزل بها الوحي، وأول كلمة من القرآن، كما ذكر ذلك أكثر المفسرين وأصحاب كتب السير والاخبار، كما وردت لفظة "قارئ" في حديث أول نزول الوحي على الرسول. وفي تفسير سورة "اقرأ". وأما "المقارىء" فبمعنى الذي قرأ الكتب.

وتؤدي لفظة "تلا" معنى قرأ، والتلاوة القراءة. وترد لفظة مبروز بمعنى منشور، استشهد على ذلك بشعر للبيد، هو: الناطق المبروز والمختوم.

ومن أصل "درس" المدرس ودارس ومدارس ومدراس، وهي تقابل "درش" في العبرانية والسريانية. وقد ذكر علماء اللغة أن المدْراس الموضع الذي يدرس فيه كتاب الله، ومنه مدراس اليهود، وأن المدارسة وَالدارسة القراءة، وأن المدراس صاحب دراسة اليهود، كما ذكروا أن الآية: )وليقولوا دارست( في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، معناها "قرأت على اليهود وقرأوا عليك"، وتعني دارس النبي اليهود. وقيل: دارست ذاكرتهم. و "المِدْراس"، من "مدراش" في العبرانية، وتعني المدارسة بالمعنى العام. وخصصت بالشروح والتفاسير التي وضعها الأحبار على الأسفار. وتؤدي لفظة "درس" و "درش" الدراسة العميقة للفهم والتعلم، فهي أعمق غوراً من معنى قرأ. وقد كان العبرانيون يعبرون بها في دراسة الشريعة والتوراة.

وقد كان "عمرو" من "بني ماسكة"، وهو المعروف ب "أبي الشعثاء" قد رأس اليهود التي تلى البيت الدراسة للتوراة. وكان ذا قدر فيهم.

وقد أشار علماء اللغة إلى كتب كانت عند الجاهليين ذكروا أنها عرفت عندهم بالرواسيم جمع روسم، ولم يذكروا محتوياتها ومضامينها. و "الراشوم" في السريانية لوح منقوش تختم به البيادر من "رشمو" Rouchmo بمعنى العلامة. والآلة "رشمه" Rshme أن "رشم" Rshme معناها رسم، ومنها الراسم والمرسوم المستعملتان في النصرانية في رسم الأسقف. ولا أستبعد إن يكون مراد تلك الكتب كتباً دينية مستعملة عند النصارى الجاهليين.

وعرفت لفظة "الوضائع" عند الجاهليين، فذكر علماء اللغة أن الوضيعة كتاب فيه الحكمة، وقد ورد في الحديث: إنه نبي وإن اسمه وصورته في الوضائع.

وقد ذكر علماء اللغة أن "السفر" الكتاب الذي يسفر عن الحقائق. وقيل الكتاب الكبير، والجزء من أجزاء التوراة. وأما "السفَرة" فبمعنى الكتبة، وسفر الكتب كتبها. وقد ذكر علماء اللغة أن السفر، يقابل "سافرا" بالنبطية وقصد ب "اسفار" الواردة في القرآن الكريم، التوراة. وب "سفرة" كتبة. وقد قال السيوطي: إن الأسفار الكتب، والكتاب بالنبطية يسمى سفراً.

وقد وردت لفظة "هسفر" أي "السفر" في اللهجة الصفوية بمعنى الكتابة. فورد في أحد النصوص "وعور لذ يعور هسفر"، ومعناها "وعوِرٌ للذي يعُوَّرُ الكتابة"، وبعبارة أوضح "وعور للذي يوذي هذه الكتابة". والعور في اللهجة الصفوية بمعنى عوارة أي أذية وأذى. ولا بد أن يكون مدلول "سفر" عندهم كمدلول كتب في عربيتنا. وقد وردت لفظة "سفِر" بمعنى كتابة وخط في نصوص اخرى، إذ ورد فيه: "ووجد سفر دده"، أي "ووجد كتابة أبيه"، و "ووجد خط أبيه".

وترد اللفظة في العبرانية أيضاً. فلفظة "س ف ر" "سافور" تعني يخط ويكتب ومن هذا الأصل "سيفير" Sefer ويراد بها كتاب كتاب يلف فيكون على هيأة شيء ملفّف: أو أوراق تجمع بعضها إلى بعض وتربط. ومن العبرانية أخذ السريان لفظة "سفرو" Sefro بمعنى سفرْ. ومن هذا الأصل "سفر" Sfar بمعنى درس وكتب وتفقه وتعلم. وأما ٍSofro فبمعنى الكُتاّب، أي المسجلون والفقهاء والأساتذة ورؤساء، والجمع "سوفرة" Sofre. وأما Sofroutho فهي الكتابة، أي حرفة الكاتب والفقه والعلم والحذاقة. وعرف علماء اليهود حملة الشريعة ب "سوفيريم" Soferim، لأنهم يكتبون الشريعة.

و"السفير" الكتاب، و "السفاسره" أصحاب الأسفار، وهي الكتب، وبه فسر قول "أبي طالب" عم النبي: فإني والسوابـح كـل يوم  وما تتلو السفاسرة.الشهود 

وقد وردت في القرآن الكريم لفظة "السجل"، وذهب بعض المفسرين إلى انها بمعنى الصحيفة والكتاب. وذهب بعض آخر إلى انها حجر يكتب فيه، أو كل ما يكتب فيه. ولكنهم لم يذكروا شكل السجل وهيأته. وقد جعلها بعض العلماء من الألفاظ المعربة. ورجع السيوطي أصلها الى الحبشية، فقال انها عندهم بمعنى الرجل. وذهب بعض آخر إلى انها من أصل فارسي. ولا تزال اللفظة حية مستعملة في الدوائر، وتطلق على الأضابير والأوراق المحفوظة بين دفتين في دوائر الحكومات والشركات والأعمال الأخرى، كما تؤدي لفظة "مسجل" و "يسجل" معنى مكتوب ويكتب. فلفظة سجَّل اذن بمعنى كتب ودوّن. واللفظة من الألفاظ المعربة عن اللاتينية، محرفة من Sigillum بمعنى ختم، اي ختم العقود والوثائق وأمثال ذلك، ولا علاقة لها بالحبشية أو الفارسية. وقد تعني عند العرب كتاب العهد. وذكر بعضهم إن "السجيل"، اسم كاتب للنبي. وروي إن السجل: الكتاب يكتب للرسول أو المعبّر أو الرحّال أو غيرهم باطلاق نفقته حيث بلغ فيقيمها له كل عامل يجتاز به. والسجل أيضاً المحضر يعقده القاضي بفصل القضاء. وهذه المعاني، هي من المعاني المتأخرة التي عرفت وشاعت في الإسلام. والظاهر إن أهل مكة لم يكونوا على علم تام بمعنى اللفظة، لذلك اختلفوا في تفسيرها اختلافاً يرد في كتب التفسير في تفسير معنى "السجل". ولا أستبعد استعمال الجاهليين للكتب التي تلف لفاً، وذلك لسهولة المحافظة عليها ونقلها، كالذي كان يفعله العبرانيون ولا يزالون يفعلونه في كتبهم المقدسة. ولا أستبعد أن يكون السجل المذكور في القرآن الكريم على هذا الشكل إذ يطوى ويلف لفاً، وتوضع الكتب داخل غلاف للمحافظة عليها، وقد زين أهل الكتاب أغلفة كتبهم المقدسة مبالغة في احرامها وتقديسها وتعظيمها. واذا أرادرا فتحها، أخذوها باحترام وتبجيل وقبلوها، ثم تلوا منها على المتعبدين ما شاؤوا.

واذا ثبت إن لفظة "مصحف"، هي من الألفاظ الجاهلية، فإن ذلك يدل على إن المصاحف، أي الكتب المؤلفة من صحائف منضدة ومجلدة بين دفتين، كانت معروفة عند الجاهليين. وأنا لا شك لدي. في وجودها بهذا المعنى في أيام الرسول. غير اننا نلاحظ إن المسلمين خصصوا "المصحف" بالقرآن الكريم.

و "المصاحف". بالقرائين جمع قرآن. وحين يقولون "خطوط المصاحف"، فإنهم يقصدون كتابة القرائين.

ولفظة "القرآن"، و "قرأان"، نفسها تدل على وقوف الجاهليين على المعنى المفهوم من اللفظة، وهو القراءة. ولا بد أن يكون منهم من سمع من اليهود لفظة "مقرا" إلتي تعني القراءة و "قرآن"، أي تلاوة الكتاب المقدس وقد كانوا يتداولونها فيما بينهم، ومنهم يهود اليمن والحجاز.

وترد لفظة "الفهرس" في العربية، وهي من الألفاظ المعربة. ذكر بعضهم انها الكتاب الذي تجمع فيه الكتب. وعرفت كلمة "الفهرست"، ب "ذكر الأعمال والدفاتر تكون في الديوان، وقد يكون لسائر الأشياء". وهي من الألفاظ المعربة عن الفارسية، بمعنى جدول، ومواد كتاب أو نحوه. ولكننا لا نستطيع اثبات انها من الألفاظ التي عرفت بهذا المعنى عند الجاهليين.

وذكر إن "الديوان"، مجتمع الصحف، وانهد لفظة فارسية معربة. وفي الحديث: "لا يجمعهم ديوان حافظ". وقيل الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء. وأول من دوّن الدواوين عمر. وذكر بعض العلماء إن الديوان الدفتر ثم قيل لكل كتاب. وقد يخص بشعر شاعر معين وبمجموع الشعر.

و "التأريخ" و "الإراجة": شيء من كتب أصحاب الدواوين، و"الأوارجة" من كتب اصحاب الدواوين في الخراج ونحوه. وقيل: التأريخ لفظة فارسية، معناها النظام، لأن التاريخ يعمل للعقد لعدة أبواب يحتاج إلى علم جملها، لأن التأريخ يعمل للعقد شبيهاً بالأوراج، فإن ما يثبت تحت كل اسم من دفعات القبض يكون مصفوفاً ليسهل عقده بالحساب. وهكذا يعمل التأريخ.

والدفتر جماعة الصحف المضمومة، وواحد الدفاتر. وهي من الألفاظ المعربة عن الفارسية. ومعناها في الفارسية كتاب: سجل وحساب. ومن هذا الأصل لفظة "دفتر خانة"، أي البيت الذي تحفظ فيه الدفاتر والوثائق ونحوها، ولفظة "دفتردار"، بمعنى الخازن، وخازن الدفاتر. وهما مصطلحان استعملا في الإسلام.

والكراسة واحدة الكراس والكراريس من الكتب. فهي مجموعة صحف وجزء من كتاب. لأن الكراسة من الكتاب، والكتاب مجموع كواريس. وقد ذكر علماء اللغة أن المجلة، الصحيفة يكتب فيها شيء من الحكمة. وقال أبو عبيدة: كل كتاب عند العرب، فهو مجلة. وقد وردت هذه اللفظة في شعر للنابغة، هو: مجلتهم ذات الإلَـه ودينـهـم  قويم فما يرجون غير العواقب 

وقد قال النابغة ذلك في مدح الغساسنة. ولما كان الغساسنة نصارى، فالمراد من المجلة إذن في هذا المكان، الكتب المقدسة. وتخصيص علماء اللغة المجلة بالصحيفة التي يكتب فيها الحكمة، هو تفسير نشأ عن عدم فهم للكلمة. وذلك أنها من الألفاظ المستعملة عند أهل الكتاب بمعنى كتاب ملفوف على طريقة تلك الأيام في استعمال الكتب الملفوفة، فظنوا أنها نوع خاص من الكتب خصص بالحكمة، لوجود مواعظ وحكم فيها، يستعملها رجال الدين في مواعظهم، ففسروها بهذا التفسير.

وقد أشير في كتب السير والأخبار إلى "مجلة لقمان"، وقيل: إنها حكمة لقمان. وأشير إلى أمثال لقمان. والمجلة هي "مكلوت": و"مكلتو" Magaltho في العبرانية والسريانية. ويراد بها كرّاس ملفوف وملف مخطوطات، وكتاب من أصل Golo بمعنى لف. وقد ذكر أن "سويد بن الصامت" كان يملك "مجلة لقمان"، "حكمة لقمان"، وأنه لقي الرسول يوماً، فدعاه الرسول إلى الإسلام فقال له سويد: لعل التي معك مثل الذي معي. وكانت معه "مجلة لقمان" "حكمة لقمان". فقال له الرسول: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أحسن منه وأفضل.

و "سويد بن الصامت" المذكور، رجل مثقف مهذب، ذو علم وفهم في أيامه وبين قومه. وقد عرف عندهم بالكامل، للخصال الحميدة التي كانت فيه. ولا يلقب ب "الكامل" في الجاهلية إلا من كانت له صفات معينة. وصفه صاحب كتاب الأغاني، فقال: "وكان يقال له الكامل في الجاهلية. وكان الرجل في الجاهلية اذا كان شاعراً شجاعاً كاتباً سابحاً رامياً سمّوه الكامل. وكان سويد أحد الكملة".

وكان كما يذكر أهل الأخبار حكيماً كثير الحكم في شعره، حتى قيل إن قومه انما سموه "الكامل" لحكمة شعره وشرفه فيهم. وقد رووا له شعراً في ذلك هذا ويشك في اسلام "سويد بن الصامت بن خالد بن عقبة" الأوسي، إذ ذكر انه لما انصرف من مقابلة الرسول له، عاد إلى قومه بيثرب وقتل. قتله "المجذر" في الجاهلية.

وأنا لا أستبعد احتمال قدوم يوم، قد يعثر فيه الباحثون على وثائق تبين إن عرب العراق كانوا قد وضعوا أسساً لقواعد العربية، وكانوا أصحاب رأي في أساليب الكتابة وصوغ الكلام بنوعيه: من نثر وشعر. إذ لا يعقل في نظري أن يكون ظهور علوم العربية في العراق قبل الأمصار الاسلامية الأخرى، طفرة من غير سابقة ولا أساس. وأن يكون تفوق الكوفة والبصرة على المدن الاسلامية الأخرى وفي ضمنها مدن جزيرة العرب في علوم العربية صدفة وفجأة ومن غير علم سابق ولا بحث في هذه الموضوعات قبل الإسلام. انني أعتقد إن علم العروض وعلم النحو وعلم الصرف وسائر علوم العربية الأخرى لم تظهر في العراق إلا لوجود أسس لهذه العلوم فيه تعود إلى أيام ما قبل الإسلام، وهذه الأسس القديمة الجاهلية هي التي صيرت العراق الموطن الأول لهذه العلوم في الإسلام. وانني لا أستطيع أن أتصور إن في مقدور انسان مهما أوتي من العلم والذكاء، استنباط أوزان الشعر ومحوره من نقرات مطارق النحاسين أو من التأمل والتبصر، فشخص مثل هذا، لأ بد وأن يكون قد وقف على البحور وأوزان الشعر وعلى مقدمات وبحوث في موضوع الشعر، منها استنبط علم العروض، وقل هذا الشيء عن علم النحو وعن سائر علوم العربية الأخرى.

وقد كان العبرانيون يكتبون التوراة على جلود البقر، ثم يلفونها لفاً على قضيب أو قضيبين تكوّن لفة واحدة أو لفتين متصلتين بعضها ببعض، ويطلقون عليها "نجلوت" "مكلوت". وتعني لفظة "كلل" لفَّ ودوَّر. وقد كانت كتب ذلك العهد تكتب وتلف بهذه الطريقة، فلا يستبعد وجود هذه المجلات، أي الكتب الملفوفة عند الجاهليين.

وقد أورد الأخباريون نصوص رسائل نسبوها إلى بعض الملوك الجاهليين وسادات القبائل، وهي رسائل مسجعة في الغالب موجزة. وفي اثناء حديثهم عن رسائل الرسول إلى قيصر وكسرى ذكروا إن الصحابة أشاروا على الرسول إن يتخذ خاتماً يختم به كتبه، لأن الروم لا يقرأون كتاباً غير مختوم. ويظهر من كلامهم هذا إن أهل مكة لم يكونوا يختمون رسائلهم بخاتم، وانما كانوا يكتفون بتدوين الاسم. والذي يتبين لي من ملاحظتهم هذه عن الروم انهم قصدوا بالخاتم الختم، على الكتب، اضافة إلى الاسم، وهو ما يقال له Sigillumعندهم، كما أشرت إلى ذلك آنفاً. وهو يقابل ختم الدوائر في الزمن الحاضر، وطبع شعار الدائرة على الورق، ليكون ذلك تعبيراً عن صفة الورقة الحكومية. فالغاية من إشارة الصحابة على الرسول بختم كتابه، هو اكسابه صفة رسمية، ليكون ذلك متفقاً مع طريقة الروم. ولا بد أن يكون رؤساء مكة قد راعوا هذا الأسلوب في مراسلاتهم مع البيزنطيين.

وقد استعمل الخاتم في الغالب لتصديق الأوراق الشخصية والمعاملات الحكومية.

فإذا أريد تصديق معاملة أو ارسال كتاب أو ختم صندوق، ختم بالخاتم، وعلى الخاتم شيء من الكتابة يأمر صاحب الخاتم بحفرها، كي يظهر أثرها على الورق أو الشمع أو الطين. وكان منح الخاتم لموظف دليلاً على منحه الثقة وتعيينه في وظيفته التي اختير لها.

وقد كان رجال التجارة والأعمال وأصحاب الصالح يثبتون أعمالهم وعقودهم في صحف وكتب. واذا أرادوا عقد عقد، مثل اتفاق على شيء أو تدوين ميثاق، دوّنوه على صحيفة وأشهدوا على ذلك، ليكون أوثق وأثبت للعقد. وقد عرف كتاب الشراء بالعهدة. وأما كتاب العهد، فهو ما يعهد به. وقد وردت في القرآن الكريم إشارة إلى الكاتب بالعدل. أي الكاتب الذي يتولى كتابة العهود والمواثيق بين الناس.

وقد ورد في كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ: إن الرسول قال: "اذا كتب أحدكم فليترب كتابه"، أي: إن الكاتب اذا انتهى من كتابة كتابه، فليضع التراب عليه، ليجفف حبره.

الفصل الرابع والعشرون بعد المئة
الدراسة والتدريس

الكتاتيب

وفي العربية لفظة "الكتّاب"، ويراد بها في عرف هذا اليوم المدرسة التي يتعلم فيها الأطفال القراءة والكتابة ومبادئ المعرفة. وهي من الألفاظ العربية المستعملة في العهود الأولى من الإسلام. وعندي انها من الألفاظ العربية التي كانت مستعملة في الجاهلية، وهي في معنى بيت "ها سيفر" Beth Ha-Sepher "بيت الكتاب" في العبرانية. وقد كان العبرانيون يطلقونها على المدارس التي تدرس القراءة والكتابة ومبادئ المعرفة، تمييزاً لها عن المدارس التي تعلم الديانة والعبرانية والمعارف التي لها علاقة بالديانة. ويطلقون عليها "بيت هامدراش" Beth Ha-Midrash أي "بيت المدراش"، و "بيت ها تلمود"، أي "بيت التلمود" في بعض الأحيان.

وقد ذكر بعض أهل الأخبار أسماء جماعة ذكروا انهم كانوا من المعلمين في الجاهلية وكانوا من أصحاب الوجاهة والمكانة، منهم على سبيل المثال: "بشر ابن عبد الملك السكوني"، أخو "أكيدر" صاحب "دومة الجندل"، و "سفيان بن أمية بن عبد شمس"، و "أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة" و"عمرو بن زرارة بن عدس بن زيد"، وقد كان يسمى "الكاتب"، و "غيلان ابن سلمة بن معتب الثقفي. " وهو مخضرم، مما يدل على وجود المدارس والتعليم عند الجاهليين.

وقد ورد إن الرسول أمر "عبد الله" واسمه الحكم بن سعيد بن العاص بن امية، بأن يعلم في الكتاب بالمدينة. كما ورد إن "جفينة"، وهو من نصارى الحيرة، جاء المدينة فصار يعلم الكتابة بها. وورد في رواية إن "علي بن أبي طالب" اختلف إلى الكتاّب، فتعلم الكتابة به وله ذؤابة وهو ابن أربع عشرة سنة. وورد إن رجلا نزل بوادي القرى، وعلّم الخط بها. وورد إن غلاماً جاء "يبكي إلى أبيه، فقال: ما شأنك قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه أبداً". واذا صح هذا الخبر، نكون قد عثرنا على كلمة "المعلم" بالمعنى المفهوم منها في الوقت الحاضر في الأيام الأولى من ظهور الإسلام.

وورد أن "عبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية"، كان ممن أُسر يوم بدر، فأمره الرسول أن يعلم عشرة من غلمان الأنصار الكتابة، ويخليه لسبيله، فيومئذ تعلم الكتابة زيد بن ثابت في جماعة من غلمان الأنصار. وكان كاتباً محسناً. غير أن الموارد الأخرى، تذكر انه كان قدم على رسول الله مهاجراً، فقال له: ما اسمك فقال: الحكم. فقال: أنت عبد الله. فغير رسول الله اسمه. وتذكر أنه أمره أن يعلم الكتاب بالمدينة وكان كاتباً. وتذكر أنه قتل يوم بدر شهيداً. أي إن اسلامه كان قبل يوم بدر. ولكن أكثر الروايات تذكر أن وفاته تأخرت. وذكر بعض أهل الأخبار، أن المدينة كانت متأخرة بالنسبة إلى مكة في الكتابة والقراءة. بل ذهب بعضهم إلى أنه لم يكن في الأنصار من يحسن الكتابة. وكلامهم هذا يصطدم مع ما ذكروه أنفسهم من أن "سويد بن الصامت" الأوسي، وسعد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأبي بن كعب، وغيرهم ممن أشرت اليهم في مواضع أخرى من هذا الكتاب، كانوا من الكتاب.

ويفهم من قول "الشمّاخ": ٍكما خط عبرانيةً بيمينه=بتيماء حَبرٌ ثم عرض أسطرا أن هذا الشاعر كان قد زار تيماء، وقد وقف على خط اليهود، ورأى أحدهم وقد عرض أسطر الكتابة ودونها بيمينه. وقد وصف غيره كتابة اليهود وتعلمهم الخط في مدراسهم بالمستوطنات اليهودية.

وكانوا يستعينون بصبيان الكتاب في بعض الأحيان لكتابة جملة نسخ مما يراد نشره واذاعته أو حفظه، فورد أن النجاشي الشاعر، لما هجا "بني النجار" من الأنصار شكوا ذلك إلى حسان، فقال قصيدة في هجائه وفي هجاء قومه، ثم "قال اكتبوها صكوكاً وألقوها إلى صبيان المكاتب، فما مرّ بضع وخمسون ليلة حتى طرقت بنو عبد المدان حسّان بالنجاشي موثقاً معهم"، وذلك للاعتذار إليه واسترضائه.

وقد كان للديانتين اليهودية والنصرانية فضل كبير على أهلهما في نشر الكتابة والعلوم بينهم إذ صارت معابدهم مدارس يتعلم فيها الناس أصول ديانتهم ومبادئ المعرفة والكتابة والقراءة لمن يرغب من الأطفال، كما أدت حاجة الديانتين إلى رجال دين يقومون بتثقيف الناس وتعليمهم أصول دينهم ونشر ديانتهم بين الوثنيين، أو بين أصحاب الديانات الأخرى، الى تكوين معاهد خاصة لتخريج هؤلاء الرجال، ألحقت بالمعابد، درسوا فيها الكتب المقدسة وما وضع عليها من تفاسير وشروح، ومما يتعلق بشرحها من دراسة للغات وفلسفة وجدل وامور أخرى لها علاقة وصلة بالديانات، وقد كان من بين هؤلاء الرجال أناس أذكياء ذوو نظر واسع، فلم يكتفوا بخط ما ورد اليهم، وبالتعصب لكل ما تلقنوه، بل تتبعوا ثقافات غيرهم وعلومهم، ودرسنا اللغات والفلسفات الأخرى، وكوّنوا لهم، آراء خاصة اعتمدت على استعمال العقل والمنطق، فظهر النقد عندهم، والنقد يخلق الرأي.

والبيت هو المدرسة عند الجاهليين وعند غيرهم من شعوب ذلك الزمن، فيه يتعلم الطفل، واليه يرد المعلم لتعليم أولاد الموسرين ما يحتاجون إليه من كتابة وعلم بأجرة تدفع إليه، وفيه قد يتعلم الطفل الكتابة من الرقيق المجلوب الذي كان له حظ من العلم. وفيه تشرف أمه على تربيته وادارته ما دام صغيراً، ثم يشرف عليه أبوه فيلقنه شؤون الصنعة وأمور الحياة متى تجاوز الخامسة أو السابعة من عمره. وفي البيوت والطرقات والأزقة يلعب الأطفال، أما الشبان، فقد كانوا يتبارون بالألعاب في الساحات العامة خارج المدن، والقرى في الغالب. يتسابقون بركوب الخيل وبالمصارعة وبالجري وبرمي السهام. وقد يخرجون إلى الصيد ولا يزال أطفال جزيرة العرب يلعبون يعض الألعاب التي كان أطفال الجاهلية وشبانهم يلعبونها قبل الإسلام.

وقد قامت المعابد بدور فعال ناشط في نشر القراءة والكتابة. واذا كنا نجهل اليوم موقف معابد الوثنيين من تعليم القراءة والكتابة بها، فإننا لا نستطيع أن ننكر موقف "الكنيس" و "المدراش" "المدارس" عند اليهود، و "الكنائس" عند النصارى من تنشيط التعليم وتهيئة الأطفال لتعلم القراءة والكتابة، لخدمة الدين، أو للاغراض التثقيفية والشؤون الخاصة بالحياة. وقد قام "المدراش" وقامت الكنيسة بدور فعال في تعليم الناس أمور دينهم وشرح ما ورد في التوراة وفي الانجيل إلى المؤمنين بهما. فقد كان أحبار يهود "يثرب" وقرى "وادي القرى" يجلسون في المعابد ليفسروا للناس أحكام شريعة يهود.

و المدراس، لفظة عبرانية الأصل، هي "مدرش" Midrash، وتعني بحث وشرح نص. وقد أطلقت على المكان الذي تدرس فيه التوراة. فصار بمثابة المدرسة، يقصده اليهود للتفقه فيه والتعلم، وقد قصده الجاهليون أيضاً ليسمعوا ما عند يهود. كما قصده المسلمون. وقد كانت لليهود جملة بيوت عبادة يجلس فيها أخيارهم للافتاء ولشرح الكتب المقدسة لتلامذتهم وللناس. فكانت بيوت عبادة ومدارس للتعلم.

وقد كان الجاهليون يسألون اليهود عن تواريخ الماضين وقصص الأولين والأنبياء والمرسلين. وعن بعض المشكلات "الدينية مثل الحياة بعد الموت وأمثال ذلك مما تعرضت له اليهودية. وقد لجأ اليهم أهل مكة الوثنيون يسألونهم عن أشياء عويصة لليهود علم بها، ليمتحنوا بها الرسول.

وقد ورد في الأخبار أن " بعض اليهود قد علم كتاب العربية. وكان يعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول، فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون". وقياساً على ما نعرفه من تخصيص الكنائس مواضع خاصة ملحقة بالكنائس لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، فإننا نستطيع أن نقول إن الكنائس التي كانت في جزيرة العرب في نجران مثلاً أو في صنعاء أو في عدن أو في قطر، لم تكن مستثناة من هذه العادة. وإن كنا لا نملك دليلاً نستند إليه في إثبات قيام الكنائس في جزيرة العرب بتعليم الأطفال القراءة والكتابة.

أما بالنسبة لكنائس العرب في العراق، فإن لدينا شواهد بينة تثبت قيام الكنائس بتعليم الأطفال القراءة والكتابة ومبادئ الدين. وتثبت وجود مكان خاص خصص بالأطفال ليتعلموا فيه. فقد جاء في أخبار "عين التمر" أن خالد بن الوليد لما دخل حصن عين التمر وغنم ما فيه وجد في بيعتهم أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل عليهم باب مغلق، فكسره عنهم، وذكر أن تلك البيعة كانت في النقيرة من أطراف عين التمر.

وورد في الأخبار أن من أهل الحيرة من كان يتعلم العربية، يقرأ بها ويكتب ويتفقه ويتأدب، كالذي حدث لزيد والد "عدي بن زيد العبادي"، ولأبنه "عدي"، وأن منهم من كان يتعلم الفارسية، إذ فيها جماعة من الفرس، ومنهم من يتعلم الإرمية، لغة "بني إرم"، ومنهم من تعلم العربية والفارسية وأجاد بها كتابة ونطقاً، وتولى الكتابة بهما عند الفرس مثل "عدي بن زيد العبادي" وابنه "زيد بن عدي" وغيرهما من آل "زيد" والعباديين نصارى الحيرة ولما فتح خالد "الأنبار": "رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا، فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين اباح العرب، ثم لم تزل عنها، فقال: ممن تعلمتم الكتابة فقالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشده قول الشاعر: قومي إيادٌ لو انـهـم أمـمٌ  أو لو اقاموا فتهزل النعـم

قوم لهم باحة الـعـراق إذا  ساروا جميعاً والخط والقلم

وهو شعر نسب قوله إلى الشاعر "أمية بن أبي الصلت"، ذكر أنه مدح به بني إياد. ومعنى هذا، أن "بني إياد" كانوا قد عُرفوا بالكتابة في العراق، ولهذا وضعوا هذه القصة في كيفية نشوء الكتابة العربية، وإياد من القبائل العربية القديمة التي نزحت من البحرين إلى العراق.

وقد كان العرب في الأنبار، والحيرة، وعين التمر والمواضع الأخرى يحتمون بابنية محصنة، يقيم بها ساداتهم، وتكون مواضع دفاعهم أيام الخطر، يقولون لها "القصور". وقد كانت الحيرة مؤلفة من جملة "قصور"، ولا يزال عرب الفرات يطلقون لفظة "القصر" على المواضع الحصينة المقامة في البادية، لصد غارات المهاجمين، مثل "قصر الأخيضر"، و "قصر العين"، في ناحية "عين التمر". وتحتمي الكنائس وبيوت الناس بهذه القصور، ولما فتح "خالد ابن الوليد" "عين التمر"، بعث الى "كنيسة اليهود، فاخذ منهم عشرين غلاماً وصار إلى الانبار"، وهو خطأ، لأن الذي نجده في الموارد الأخرى، إن "خالد بن الوليد"، لما فتح حصن "عين التمر" وجد في كنيسة جماعة يتعلمون سباهم، فكان من ذلك السبى: "حمران بن أبان بن خالد" التمري، و " سيرين" أبو "محمد بن سيرين" المشهور بتفسير الأحلام، و "أبو عمرة" جدّ "عبد الأعلى، الشاعر، و "يسار" جدّ "محمد بن اسحاق" صاحب "السيرة"، و "نصير" ابو "موسى بن نصير"، وذكر "الطبري" أن "خالد بن الوليد" وجد "في بيعتهم أربعين غلاماً يتعلمون الانجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم، وقال: ما أنتم قالوا: رهن، فقسمهم في أهل البلاد. وقد كان كل هؤلاء من الكتّاب القارئين للانجيل الدارسين لعلوم الدين، فأسلموا وبرز أبناؤهم في المجتمع الاسلامي.

وفي خبر "وفد نجران" الذي قدم على الرسول، إفادة بوجود مواضع لتعليم أمور الدين، وتثقيف الناس بما يلزم من ثقافة، فقد ورد أن أسقف نجران كان حبرهم، وإمامهم، وصاحب مدارسهم "صاحب مدراسهم"، أي الموضع الذي يتدارسون فيه، والغالب أن يكون ذلك المكان في الكنيسة على الطريقة المتبعة في ذلك العهد، كما صار المسجد موضعاً للتعليم.

وقد كان يهود الحجاز والمواضع الأخرى من جزيرة العرب يلحقون بكنيسهم كتاباً يعلمون به أطفالهم أصول القراءة والكتابة، كما كان احبارهم يتخذون به مجلساً لتعليم اليهود أمور دينهم وللافتاء بينهم في أمور الشرع، وفضّ ما قد يقع بينهما من خلاف، وكذلك كان شأن نصارى العرب اتخذوا من كنائس مواضع للتدريس ولتعليم القراءة والكتابة كالذي رأيناه من نصارى العراق، ولا استبعد احتمال اتخاذهم مدارس في قرى البحرين، التي كانت بها جاليات نصرانية كبيرة وكذلك في اليمامة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة وأصول الدين.

مواد الدراسة

لم نعثر على اي نص جاهلي فيه شيء عن التدريس وعن مواد الدراسة عند الجاهليين لتستنبط منه مادة في الدراسة عند عرب الجاهلية، غير أننا اذا ما اخذنا بما جاء في الموارد النصرانية الشرقية عن التربية والتعليم عند نصارى العراق وعن مواد المعرفة التي كانوا يعلمونها للتلاميذ ولطلاب المدارس العالية، فإننا نستطيع أن نقول إن مدارس الأنبار والحيرة والقرى العربية الأخرى، لا بد وان تكون قد سارت وفقاً لمنهج أهل العراق في تعليم ابنائهم في ذلك الوقت. من تعليم مبادئ القراءة والكتابة وإجادة الخط وشيء من الحساب والأمثال والحكم ومبادئ الدين. وهي المواد الرئيسية التي كانت تعلم في الكتاتيب في بلاد الشرق الأوسط في ذلك الوقت، والتي لا تزال تدرس في الكتاتيب القديمة حتى اليوم.

والعادة في الكتاتيب حتى الآن في تعليم الخط للاطفال، أن يخط المعلم أو "خليفته" أو من يقوم مقامه من التلامذة المتقدمين سطراً من الحكم والأمثال أو من الكتب السماوية، لينقش التلميذ سطوراً مثلها على لوح يحاول الاجادة جهد امكانه في كتابتها لتقوية يده على الخط. وقد كان العبرانيون يعلمون الآية: "رأس الحكمة مخافة الرب"، "رأس الحكمة معرفة الله"، "مخافة الرب رأس الحكمة"، في اول ما كانوا يعلمونه لتلامذتهم. ويعلمونهم أمثال ذلك من الحكم والأمثال الواردة في التوراة. ولا يستبعد أن تكون هذه الأمثال والحكم في مقدمة ما كان يدرسه المعلمون اليهود في مستوطناتهم في بلاد العرب بتيماء ووادي القرى وقرى المدينة.

وورد إن نصارى العراق، درسوا في مدارسهم لغة بني إرم، لغة الثقافة والعلم آنذاك، درّسوا مفردات اللغة وقواعدها وأصولها، وعلمّوا معها مبادئ العربية وقواعدها وآدابها في الأرضين التي كانت غالبية سكانها من العرب. ونجد في الموارد النصرانية اشارات تشير الى تدريس العربية في الأنبار وفي الحيرة، ولا يعقل أن يكون المراد من العربية، الكتابة والقراءة بها فقط، بل لا بد وأن يُعلم معها شيء من أصول الكتابة من كيفية قط القلم ورسم الحروف، وأنواع الخطوط، ثم الأمثال والحكم، وقواعد اللغة وآدابها، أي منهج المدارس المقرر في الشرق الأدنى في ذلك العهد. وقد كان رجال الدين يسيرون عليه ويتبعونه في مدارسهم. وكان لهم علم بقواعد وبلغة بني إرم.

أما عن تعليم الأطفال في جزيرة العرب، فلا نستطيع التحدث عنه بصورة جازمة لعدم ورود شيء عن ذلك في الكتابات الجاهلية أو في روايات أهل الأخبار. ويمكن أن نقول باحتمال تعليم الأطفال في المواضع التي وجدت النصرانية اليها سبيلاً، مثل مدينة "نجران" وبعض مواضع من سواحل الخليج، على النمط الذى كان متبعاً عند نصارى العراق وبلاد الشام من تعليم مبادئ القراءة والكتابة وتحسّين الخط ومبادئ امور الدين. ثم المعارف العالية مثل اللغة والعلوم اللاهوتية والطب وما شاكل ذلك، للمتفوقين من الطلاب من أصحاب المواهب والقابليات، وذلك لأن الكنيسة كانت تتبع نظاماً واحداً في التعليم، ولأن الذين كانوا يبشرون بالنصرانية بين العرب، كانوا من اهل العراق في الغالب، وقد درّسوا عرب العراق وعرب مواضع أخرى في جزيرة العرب، وقد درسوهم على طريقة تدريس الكنيسة الشرقية، فيحتمل لذلك أن يكون التدريس على نمط واحد في مدارس الكنيسة، ولا أستبعد احتمال تدريس السريانية لهؤلاء الطلاب، باعتبار انها لغة الدين وتساعد في فهم الأناجيل والكثتب النصرانية والعلوم.

وقد ورد أن: عمر بن الخطاب، كان يقول في تربية الأولاد وتثقيفهم: " علموا اولادكم العوم والرماية، ومروهم فليثبوا على الخيل وثباً، ورووهم ما يجمل من الشعر". وذكر أنه كتب إلى الأمصار: "أما بعد، فعلموا اولادكم العومَ والفروسية، ورووهم ما سار من المثل وحَسُنَ من الشعر"، وأن الرسول دعا لمعاوية، فقال: "اللهم علمه الكتاب والحساب". ويظهر أن هذا التوجيه في تربية النشء كان معمولاً به عند الجاهليين.

ويظهر إن الحث على تعلم السباحة، إنما ظهر في الإسلام، بعد الفتوح، وذلك بعد أن اتصل العرب بالأنهار الواسعة العميقة وبالبحار، فأجبرهم الواقع على تعلم العوم. ونجد "الحجاج" يقول لمعلم ولده: "علم ولدي السباحة قبل الكتابة، فإنهم يصيبون من يكتب عنهم ولا يصيبون من يسبح عنهم".

وقد كان "عمر" يتهيب البحر، فأوصى قواد جيشه بالتأني في ركوب البحر، خشية غرق المسلمين.

والمثل والشعر من أهم المواد التي كان يعتني بها الجاهليون. وكان أهل الكتاب يعتنون بالمثل ومما ورد في الكتب المقدسة من حكم، وبالشعر كذلك في تعليم أطفالهم فيَ الكتاتيب.

وذكر "الهمداني"، أن "عمر بن الخطاب"، قال: "تعلّمون من النجوم ما تهدون به، ومن الأنساب ما تعارفون به وتواصلون عليه، ومن الأشعار ما تكون حكِمَاّ، وتدلكم على مكارم الأخلاق".

ويقوم بالتعليم معلمون، امتهنوا التعليم واتخذوه حرفة لهم، ومنهم من اتخذه حرفة رئيسية له، إذ كان يمارس حرفاً اخرى، ليتمكن بذلك من إعاشة نفسه. ولما كان التعليم الابتدائي الذي يقوم على تعليم الخط والكرامة والكتابة وبعض المبادىء الأخرى شيئاً بسيطاً لا يحتاج إلى علم وكبير ومعرفة، لذلك لم يشترط في متعاطيه أن يكون من أصحاب العلم، بل قام به من وجد في قسه قابلية تعليم الأطفال من رجال الدين ومن غيرهم، على نحو ما نجده في المدارس القديمة التي تقوم بتعليم الأطفال القراءة والكتابة لهذا اليوم.

ولم يرد في الكتابات الجاهلية شيء يتعلق بأسماء المعلمين الجاهلين لذلك لا نستطيع أن نذكر اسم معلم من معلمي الجاهلية بالاستناد إليها. أما أهل الأخبار، فقد تعرض نفر منهم لذكر بعض المعلمين الذين عاشوا قبل الإسلام، والذين أدرك بعض منهم الإسلام. فذكر "محمد بن حبيب" في الفصل الذي سماه: "أشراف المعلمين وفقهاؤهم"، اسم "بشر بن عبد الملك السكوني" أخو "أكيدر ابن عبد الملك" صاحب "دومة الجندل"، فذكر أنه كان في جملة المعلمين. واليه ينسب أهل الأخبار نشر الكتابة بمكة على نحو ما بينت ذلك في موضوع تأريخ الخط.

وأشار "ابن حبيب" الى "أبي قيس بن عبد مناف بن زهرة"، وهو جاهلي، على انه من أشراف المعلمين كما أشار الى "عمرو بن زرارة بن عدس ابن زيد"، وهو جاهلي كذلك في جملة من أشار اليهم من المعلمين. وذكر انه كان يسمى "الكاتب". وأشار أيضاً إلى "غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي" وهو من المخضرمين. على انه كان من أشراف المعلمين. وهو من الشعراء الحكماء، إذ كان أحد حكام "قيس" فى الجاهلية. وكهان أحد وجوه ثقيف، وقيل انه أحد من نزل فيه:"على رجل من القريتين عظيم"، وانه كانْ صاحب تجارة،وقد سافر في قوم من تجار ثقيف وقريش وعلى رأسهم "أبوسفيان" إلى العراق، للتجارة، فوصلوا إلى "كسرى" فتكلم معه باسم التجار، فأعجب به، واشترى منه التجارة بأضعاف ثمنها وبعث معه من بقى له اطماً بالطائف، فكان أول اطم بني بها. وذكر إن كسرى لما كلمه ووقف على حكمته قال له: "هذا كلام الحكماء، وأنت من قوم جفاة لا حكمة فيهم فما غذاؤك قال: خبز البر، قال: هذا العقل من البر لا من اللبن والتمر. في حديث يقصه أهل الأخبار وكأنهم كانوا شهود عيان.

ولا بد وأن يكون في ثقيف قوم كانوا مهرة. في الكتابة، لهم خط حسن وإملاء صحيح، وذلك فيما اذا أخذنا بصحة الأخبار الواردة عن تدوين القرآن وجمعه من قولهم إن الخليفة "عمر" أو "عثمان"، قال: "اجعلوا المملي من هذيل والكاتب من ثقيف"، إذ لا يعقل النص على أن يكون الكاتب من ثقيف من غير سبب، اللهم اذا اعتبرنا الخبر من الموضوعات التي صنعت في أيام الحجاج، للتقرب إليه، ولرفع شأن ثقيف، بعد أن ظهرت أخبار في أيامه، رجعت نسب ثقيف إلى قوم ثمود، وصيرت "أبا رغال" خائن العرب إلى غير ذلك من أخبار تحدثت عنها في أثناء حديثي عن ثمود وعن قبيلة ثقيف.

وكان "جفينة" العبادي من أهل الحيرة، وكان نصرانياً، قدم المدينة، وأخذ يعلم بها الكتابة في أيام الخليفة "عمر". وكان ظئراً لسعد بن أبي وقاص. فاتهمه "عبدالله بن عمر" بمشايعة "أبي لؤلؤة" على قتل أبيه فقتله وورد في كتب الحديث "عن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، أنه قال: أتانا معاذ بن جبل، رضي الله عنه باليمن معلماً وأميراً". وقد أرسل الرسول معاذاً إلى اليمن ليعلمهم الفرائض، واحكام الدين. وإذا صح النص، صار دليلاً على شيوع لفظة "معلم" في ذلك العهد.

ووردت لفظة "المعلم" في رسائل "عمر" إلى عماله، ففي رسالة له "إلى أهل الكوفة": "إني قد بعثتُ اليكم عمّار بن ياسر أميراً، وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً". وأراد بلفظة المعلم، من يعلم الناس ويرشدهم ويفقهم في أمور الدين. وكانوا يطلقون على من يعلم الكتابة في "الكتاب": معلم كتاب. والكتاّب والمكتب، الموضع الذي يتعلم به.

ولست أعلم شيئاً عن مدى تقدم علم الحساب عند الجاهليين. وكل ما أستطيع أن أقوله، هو انهم كانوا يعلّمون أولادهم مع الخط مبادئ الحساب المعروفة، وهي الجمع والطرح والضرب والتقسيم، وذلك لحاجتهم إليها في حياتهم اليومية، ولا سيما بالنسبة إلى التجار أصحاب المصالح الكبيرة.، إذ تدفعهم الحاجة إلى ضبط أعمالهم وحسابهم. وقد ذكر أهل الأخبار أن الجاهليين استعملوا حساب عقود الأصابع في حسابهم، فوضعوا كلاً منها بإزاء عدد مخصوص، ثم رتبوا لأوضاع الاصابع آحاداً وعشرات ومئات وألوفاً، ووضعوا قواعد يتعرف بها حساب الألوف فما فوقها بيد واحدة. وقد أشير إلى حساب اليد في الحديث، كما استعملوا العدّ بالحصى، وبه يحسبون المعدود. والعدّ برسم خطوط، فيدل كل خط على عدد، ومجموع الخطوط هو المعدود.

وورد في الأخبار إن الرسول دعا لمعاوية بقوله: "اللهم علّمه الكتاب والحساب"، وفد نعت بأنه كان من الكتبة الحسبة الفصحاء، والحديث المذكور من أحاديث أهل الشام، ولهم احاديث أخرى في الثناء على "معاوية من الأحاديث التي أوجدتها العصبية السياسية، على نحو ما نجد من أحاديث في "عبدالله بن عباس" وفي العلويين. وقد روي الحديث المذكور في حق أشخاص آخرين. وقد وضعت أحاديث في مدح معاوية وبني أمية. وارى أن الحديث المذكور وضع في مقابل حديث "اللهم علمه الحكمة"، الذي روي أن الرسول قاله في "ابن عباس"، وحديث: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " أو "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب"، و "اللهم بارك فيه وانشر منه"، وأحاديث أخرى ذكر أنها قيلت فيه.

وأما ما نسب إلى الرسول من قوله: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا " فإنه حديث ضعيف، وقد ورد أيضاً أن رجلاّ قال: ما كنت أظن إن عدداً يزيد على ألف، وهو قولى ينطبق على حالات فردية لأعراب، ولا يمكن أن ينطبق بالنسبة للحضر، ولا سيما لأهل مكة الذين كانت لهم تجارة ضخمة وقوافل تذهب إلى مختلف الأنحاء، تحمل تجارة تقدر أثمانها بعشرات الألوف، فهل يعقل صدور مثل هذا الحديث من الرسول وقد كان الجاهليون يتراسلون بينهم، فيكتبون كتباً إلى من يريدون مراسلته.

والكتاب هو صحيفة قد تكون من جلد، أو من مادة أخرى. وقد ذكر أن الرسول كتب كتاباً إلى "بني حارثة بن عمرو بن قريظ"، فأخذوا الكتاب وغسلوه، ثم رقعوا به دلوهم. ويدل هذا على أن الكتاب كان صحيفة من جلد. والرسائل من حقول التدوين المهمة عند الجاهليين. وهي رسائل قد تكون في أمور خاصة، كرسائل أب إلى ابنه أو العكس ورسائل أصدقاء وأقارب من ذوي الأرحام، وهي تتنّاول مسائل شخصية خاصة تهم المتكاتبين. وقد تتناول الأحداث التي يكون لها شأن عند الناس وخطر، فيكتب المتكاتبون عنها، لما فيها من أهمية ولذة بالنسبة لهم. وقد تكون الرسائل إخبارية، كأخبار عن تجارة ومعاملة أو عن حدث وقع أو غزو أو قرب وقوع حرب أو اخبار بهجوم عدو ومقدار قوته وما شاكل ذلك من أمور، ذات أهمية خاصة بالنسبة للمرسل اليهم.

وتجد في كتب أهل الأخبار صور رسائل في أمور ذات طابع إخباريَ. منها رسائل دوّنت بعبارات وأضحة صريحة، يظهر أن أصحابها كانوا مطمئنين من عدم إمكان سقوطها في أيد عدوة فتقف على ما جاء فيها، لذلك كتبوها بعبارات مفهومة مكشوفة. ومنها ما كتبت شعراً كالذي روي من ارسال شعر كتبه "لقيط بن يعمر الإيادي" لقومه يحذرهم فيه من كسرى. أو نثراً وقد كتبها أصحابها على شيء لا يلفت النظر، كحدوج الجمال المسافرة إلى جهة معينة لتقرأ هناك، أو رسائل لا تلفت النظر ولكنها ذات معان مفهومة عندما ترسل إليه، وقد تحمل الرسالة لرسول لينقلها شفاهاً إلى كل من يراد اخبارهم خبراً، وذلك في الأمور الهامة بالطبع، التي لا يمكن الإفصاح عنها، لما لها علاقة بحروب أو غزو أو وضع أسير واقع في عذاب أسر اسريه، ويريد ابلاغ أهله بذلك ليخلصوه من وضعه السيء.

ومن رسائل الإخبار، الرسائل التي كتبها المسلمون المتخفون أو المشركون الميالين للمسلمين على قريش، يخبرون فيها الرسول وأصدقاءهم المسلمين بأمر قريش وعورتهم واستعدادهم ليكونوا على حذر منها، والرسائل التي كتبها بعض المسلمين الذين لم يكن الإسلام قد تمكن بعد من قلوبهم أو كتبوها شفقة لبعض أصدقائهم من المشركين عن الإسلام والمسلمين. ومنها كتاب "حاطب بن أبي بلتعة" إلى صفوان بن أمية وسهل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل. يقول فيه: إن رسول الله قد أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن يكون لي عندكم يد بكتابي اليكم". وأعطى الكتاب إلى امرأة من مزينة، وجعل لها مبلغاً من الدنانير على أن تبلغه قريشاً. وقال: أخفيه ما استطعت، ولا تمري على الطريق فإن عليه حرساً. فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونَها وسلكت على غير نقب، فبلغ الرسول أمرها، فأرسل من قبض على الرسالة. وتوسل حاطب إلى الرسول، بأن يعفو عنه، لأنه كان رجلاً ليس له في القوم أصل ولا عشيرة، فصاروا له أهلاً واعتبروة ولداً فصانعهم فعفا عنه. ونزل الوحي في شأنه في سورة الممتحنة.

وفي كتب السير والتواريخ إشارات إلى مخابرات أرسلها مسلمون إلى ذوي رحمهم، يطلبون اليهم الدخول في الإسلام، وبأن الرسول سيعفو عنهم ويغفر لهم ما بدر منهم من إسامة إليه إن جاءوا إليه مسلمين، من ذلك، ما كتبه "بجير" إلى أخيه "كعب بن زهير بن أبي سلمى"، يطلب منه الدخول في الإسلام، والتوبة، وإلا فمصيره كمصير "ابن خطل" الذي كان يمعن في هجاء الرسول، فقتل. ومن ذلك "كتاب "الوليد بن الوليد" الى أخيه "خالد بن الوليد"، يدعوه إلى الإسلام، فجاء مسلماً.

ويذكر أهل الأخبار إن أهل الجاهلية كانوا يستفتحون كتبهم بجملة: "باسمك اللهم"، ويذكر بعضهم إن أمية بن أبي الصلت كان هو الذي ابتدع هذه البدعة، فمشت بين الناس. وصارت سنة لأهل مكة في تدوين رسائلهم. فجعلوها في أول كتبهم. فكانت قريش تكتب بها. وبها افتتح الرسول كتبه في بادىء أمره ثم أبدلت باسم الله بعد نزول سورة هود، ثم باسم الرحمن، بعد نزول سورة اسرائيل، ثم بسم الله الرحمن الرحيم، بعد نزول سورة النمل.

وكان من رسم الجاهليين اذا كتبوا أن يبدأوا بأنفسهم من فلان إلى فلان. ونجد هذا الاسلوب في كتب رسول الله.

وتختم الرسالة بخاتم كاتبها أو بتدوين اسمه في نهايتها. كأن يقول: "وكتب فلان" أو "كتب فلان". وقد ورد في كتب السير، إن الرسول حين هم " بتوجيه الكتب إلى قيصر وكسرى وغيرهما، قيل له: إن الروم لا يقرأون كتاباً غير مختوم بختم صاحب الرسالة، فأمر بصنع خاتم له، ختم به كتبه. وورد إن قريشاً حين ائتمرت بمقاطعة بني هاشم وبني المطلب، وكتبت بذلك صحيفة، ختمت عليها ثلاثة خواتيم، وعلقوها في سقف الكعبةْ.

وأشير إلى الخاتم في شعر لامرىء القيس. فورد فيه: ترى أثر الفرَح في جلسة كنقش الخواتم في الجرجس 

والجرجس: الشمع، وقيل هو الطين الذي يختم به، وقيل هو الصحيفة. وبكل من ذلك فسر قول الشاعر المذكور. ومن معاني "الجرجس" البعوض الصغير. ويظهر إن اللفظة من المعربات، عربت عن الإرمية. فهي تعني البعوض الصغير، اذا قيل Gargso وهي تعني الصلصال والطين الذي يختم به اذا قيل Garguechto.

ويذكر بعض، أهل الأخبار إن أول من ختم رسائله "عمرو بن هند". وذكر علماء اللغة إن خاتم الملك الذي يكون في يده يسمى "الحلق". وأنضدوا في ذلك: وأعطى منا الحلق ابيض ماجد  رديف ملوكّ ما تغب نوافلـه

كما أنشدوا ببتاً للشاعر جرير، ذكر فيه "الحلق": حلق المنذر بن مخرق إذ قال: ففاز بحلق المنذر بن محرق  فتى منهم رخو النجاد كريم

وذكر أيضاً إن الحلق خاتم من فضه بلا فص. ويظهر من ذلك إن الملوك، كانوا يصطنعون خاتماً لهم، يكون دليلا على صدق رسائلهم وأوامرهم، يحملونه معه، أو يودعونه عنه كاتم أسرارهم، وعلى ذلك جرى الأمر في الإسلام. فقد سار الخلفاء على سنّة الرسول من اتخاذه خاتماً يختم به الرسائل، والكتب والأوامر، وبقي الأمر كذلك عند من جاء بعده من الخلفاء.

والخاتم ما يوضع على الطينة ومما يختم به. والختام الطين أو الشمع أو الحبر أو أي مادة أخرى تترك أثراً يختم بها على الشيء. وختم الأوراق والرسائل من العادات القديمة المستعملة عند الشعوب. ويقوم الخاتم مقام التوقيع في وقتنا الحاضرة وختم رسالةّ معناه المصادقة عليها وتصديقها. واستعمل الخاتم في ختم الأوراقّ العامة و الأوراق الشخصية والعقود والمعاملات. وكان الشخص اذا أراد ارسال رسالة ختمها، ولذلك كانوا يحملون خواتمهم معهم، إما في جيوبهم وإما في أصابعهم وقد يضعونها في سلسلة يعلقونها حول أعناقهم.

وقد صنع الخاتم من مواد مخلفة. صنع من ذهب ومن فضة ومن معدن آخر ومن الحجر. وقد كتب على بعض الخواتم اسم صاحبه، ونقشت أمثلة وحكم وعبارات دينية أو أسماء الآلهة على بعض الخواتم. كما حفرت على بعض منها صور ترمز إلى رموز مقدسة أو صور حيوانات. وعلى خواتم في العربية الجنوبية، وبها فصوص من أحجار ثمينة من أحجار اليمن الشهيرة. وقد كان يستعملها الناس إذ ذاك قي التوقيع على رسائلهم ومخابراتهم ومعاملاتهم. ولا زال الناس يعثرون على خواتم جاهلية في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية، فيستعملونها لتزيين أصابعهم بها.

وبعد أن تختم الرسالة، توضع داخل ظرف، حتى لا يطلع عليها احد ثم يغلق، ثم بختم على موضع فتحه بالطين أو على المواضع التي يحتمل أن يفتح منها حتى تكون في مأمن تام. فلا يقف عليها إلا من أرسلت له. فإذا وصلته، ووجد إن خاتمها سليم، كسره، ليستخرج الرسالة من ظرفها. وكانت الكتب على هيأة لفائف. وكان من عادة الشعوب القديمة أن المكتوب إذا أريد ارساله إلى شخص من طبقة أدنى من طبقة الكاتب، أي صاحب الرسالة،أرسل المكتوب إليه منشوراً. أما اذا كان المكتوب إلى شخص مكافئ لصاحب الكتاب أو أعلى منزلة منه، أرسل مختوماً وموضوعاً في كيس.

و لحماية الأشياء من التطاول والتجاوز عليها لجئوا إلى طبعها وختمها، فختموا الاكياس التي تملأ بالنقود أو بأي شيء آخر، وختموا زق الخمرة حتى لا يتطاول عليه متطاول. قال الأعشى: وصهباء طاف يهوديها  وأبرزها وعليها ختَم

كما ختموا الطعام بالروسم، وهو خشبة مكتوبة بالنقر. أو لوح فيه كتاب منقور، تختم به الاكداس. وقيل له "الروشم" أيضاً في لغة السواد. وكلمة "رشم"، تعني "كتب" في الأرمية. و "راشوم"، بمعنى لوح منقوش تختم به البيادر في لغة بني إرم Rouchmo، و تعني علامة.

وكان من عادتهم ختم الأمور المهمة أيضاً خشية ضياعها أو التطاول عليها أو لحفظها. فلما كتب أهل مكة فما بينهم كتاباً يتعاقدون فيه ألا يناكحوا بني هاشم وبني المطلب ولا يبايعوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتىُ يسلموا اليهم محمداً. كتبوا بذلك صحيفة ختموا عليها ثلاثة خواتيم، وعلقوها في سقف الكعبة. ويظهر انهم بعد أن كتبوا الصحيفة وضعوها في ظرف ثم سدوه وختموا عليه ثلاثة خواتيم، حتى لا يفتح الظرف. أو انهم طووها بعد أن كتبوها ثم ختموا عليها حتى لا تفتح، فلما ارادوا فتحها وجدوا انها قد تهرأت وتلفت من فعل لعب الأرضة بها. ويجوز انهم ختموا علها ثلاثة خواتيم، بخواتيم الكتبة الثلاثة الذين نسبت كتابتها إلى كل واحد منهم، بحسب اختلاف الروايات. وهم: منصور بن عكرمة بن عامر بن هاضم، أو النضر بن الحارث، أو بغيض ين عامر بن هاضم.

الكاتب

والكاتب في اصطلاحنا هو الذي خصص نفسه بالكتابة، أو من يقوم بعمل كتابي، أو من اشتهر وعرف بحذقه في فن الكتابة. وذكر علماء اللغة أن الكاتبين، هم الكتبة وحرفتهم الكتابة. وذكروا إن الكاتب في أيام الجاهلية: العالم. "وفي كتابه إلى أهل اليمن: قد بعثت اليكم كاتباً من أصحابي. أراد عالماً سمي به لأن الغالب على من كان يعرف الكتابة أن عنده العلم والمعرف. والواقع أن نسبة العلم للكتاب، لم تكن نظرة أهل الجاهلية وحدهم بالنسبة إلى كتابهم، بل كانت وجهة نظر شعوب العالم كافة إلى الكتبة في ذلك العهد. لأن أكثر كتاب تلك الأيام كانوا من أبناء العوائل المتمكنة ومن أبناء طبقة رجال الدين، وكانوا يتعلمون إلى جانب الكتابة في الغالب علم الإنسان، كالعربية بالنسبة إلى العرب والإرمية بالنسبة إلى بني إرم، وشيئاً من الأدب من منظوم ومنثور وحساب وامثال وحكم، لذلك يخرج المتعلم، وقد تثقف بثقافة تجعله فوق مستوى أقرانه، فيكون بعلمه هذا اعلم من غيره وأدرك منهم بشؤون الحياة. ومن هنا صار أعلم من بقية الناس. ونظر إليه نظرة تقدير وتبجيل.

ومن هنا نجد أن الأحناف، وهم الدعاة إلى الاصلاح والى رفع مستوى الحياة في الجاهلية، كانوا كلهم من الكتاب بالعربية. وقد نسب إليهم أنهم كانوا يكتبون ويقرئون بالعبرانية أو بالسريانية أو باللغة أيضاً، كما عرف عن بعض الخطباء والشعراء أنهم كانوا يقرئون ويكتبون، ومنهم من كان له اطلاع على الثقافات واللغات الأعجمية حتى بان ذلك على كلامه المنظوم أو المنثور، وخير مثال على هؤلاء: عدي بن زيد العبادي، وأمية بن أبي الصلت والأعشى ولبيد.

وقد عرفت حرفة احتراف الكتابة بين الجاهلي ين أيضاً، كالذي كان من أمر "زيد" والد "عدي بن زيد العبادي" مع الفرس، وكالذي كان من أمر ابنه عدي نفسه مع الفرس أيضاً، ثم ما كان من أمر ابن عدي معهم. وكالذي كان من أمر "لقيط بن يعمر الإيادي"، وغيرهم. وقد رأينا إن الناس أطلقوا على "حنظلة بن الربيع"، كاتب الرسول "الكاتب"، حتى عرف ب "حنظلة الكاتب"، لأنه كان قد قضى معظم وقته في الكتابة للرسول، فكان يكتب له اذا غاب كَاتب من كتابه عنه. فهؤلاء اذن، هم كتاب، صارت الكتابة حرفتهم، ولا بد وأن نتصور انهم كانوا قد أتقنوا حرفتهم لطول مرانهم بها وخبروها على خير وجه. ومن المؤسف، اننا لا نملك. نماذج من رسائلهم ولا من خطوطهم في هذا اليوم. كما لا نملك من خطوط غيرهم شيئاً، وسبب ذلك هو ندرة مواد الكتابة وغلائها بالنسبة لذلك الوقت، فكانوا يغسلون الصحيفة المكتوبة ويمحون ما كتب عليها، ليكتبوا عليها من جديد، ثم عدم ادراك الناس إذ ذاك لأهمية وقيمة الوثائق، حتى بالنسبة إلى الوثائق المهمة كرسائل الرسول وأوامره وأحاديثه وأمثال ذلك، فضاعت الأصول بسبب هذا الإهمال، وهي أصول سريعة التلف، لأنها كتبت على الجلود وعلى مواد تبلى بسرعة، وتحتاج إلى عناية وحرص كي تحافظ على حياتها مدة طويلة.

وقد سار الكتاب الجاهليون على الجادة التي سلكها الكتاب الآخرون الصائبون بالأقلام السامية من عدم وضع علامات للحروف المتشابهة مثل الباء والتاء والثاء، بحيث أنهم كانوا اذا كتبوها، لم يضعوا عليها نقاطاً لتمييز حرف منها عن حرف مشابه له أو علامة أخرى فارقة، تفرق هذا الحرف عن الحرف الاخر. كما ساروا على الجادة التي سار عليها غيرهم من عدم وضع علامات خاصة بالحركات. فكتبوا ما كتبوا من غير إعجام ولا حركات. تاركين أمر القراءة الصحيحة وفهم المكتوب إلى علم القارئ وفهمه وذكائه وحذقه باللغة وبالمهنة. ولعلهم فعلوا ذلك محاكاة لغيرهم مثل الكتبة النبط والآراميين والعبرانيين، الذين تمسكوا بهذا الأسلوب، على اعتبار أنه سنة قديمة ورثت عن الآباء، وقد كتبت بها الكتب المقدسة. أو لأن القارئ بجب أن يكون عالماً بفنه بارعاً به، فلا يكتب له بما يشعره أن مستواه. في فهم المكتوب، هو مثل مستوى سائر الكتبة، ممن تعلموا القراءة والكتابة وكفى. فكتبوا من غير اعجام ولا حركات. وقد جعلوا ذلك خاصة في مخاطبة ذوي المكانة والحكم، أما إذا كان الإنسان المكتوب إليه من سواد الكتاب القراء، فكانوا يبيحون لأنفسهم حرية إعجام الكتابة وتحريكها. ومن هنا أيضاً، ظهرت نماذج من الخطوط، خصصت بكتاب العامة. وكانوا يميزون بين الخطوط، ويرجحون الخط القوي السوي على الخط الضعيف. والخط الجيد هو الخط الذي يجود فيه. ولا يستبعد أن تكون لهم مدارس في كيفية تدوبن الخط. فقد أطلقوا. على خط أهل الأنبار المشق. وقد عرفوا هذا الخط، بأنه فيه خفة. ولا يعقل بالضبط أن يكون هذا الخط خطاً رديئاً ولهذا سمي مشقاً، بل هو طريقة خاصة من طرق رسوم الخطوط التي امتازت بمد الحروف وبخفتها في الكتابة أي سهولتها، ولا تزال هذه الطريقة المعروفة ب "خط المشق" معروفة. وهي تستعمل عند الخطاطين في كتابة بعض الأمور التي يناسبها هذا الخط. ذكر الخليفة "عمر" ذكره فقال: " شرّ الكتابة المشق وشر القراءة الهذرمة". لما في الاثنين من السرعة والتسرع. فالهذرمة السرعة. وذكر أيضاً أن "ابن سيرين" كره كَتابة المصاحف بالمشق.

والنوع الثاني الذي نعرفه من أنواع الخطوط، هو الجزم. وهو خط أهل الحرة. وهو خط المصاحف.

وبحب أن نضيف إلى هذين القلمين قلم أهل مكة، الذي دعاه "ابن النديم" ب "الخط المكي"، ثم الخط المدني. وقد ذكر إن ما بعدهما الخط البصري ثم الكوفي. وهما خطان اسلاميان، وان كنت لا أستبعد من كونهما قد اخذا من خط عرب العراق في الجاهلية، ولعلها قد طعما بشيء من قلم أهل مكة أو المدينة.

وقد وصف "ابرت النديم" بعض خصائص القلم المكي والقلم المدني، فقال: "فأما المكي والمدني، فهما الفاته تعويج إلى يمنة اليد وأعلى الأصابع وفي شكله انضجاع يسير. ويمكن استخراج بعض خواص رسم خطوط أهل الحجاز في القرن الأول للهجرة من الكتابات التي عثر عليها بعض الباحثين في مواضع متعددة من الحجاز، والتي قد يعثر عليها في المستقبل.

والصفة التي يذكرها "ابن النديم" عن ألفات أهل مكة واهل المدينة، تدل على إن اهل المدينتين قد أخذوا خطهم من أهل العراق والنبط، لأنّ الصورة المذكورة هي صورة كتابة الألف في الخط الشمالي، ولم يعدل الألف، بحيث صير مستقيماً إلا في الإسلام.

وأنا لا استبعد احتمال تدريس مبادئ اللغات وبينها مبادئ اللغة العربية في الحيرة وفي الأنبار وفي مواضع حضرية أخرى فليس يعقَل اقتصار التعليم في هذه المواضع على تعليم الخط والقراءة ثم لا يتجاوزهما إلى مراحل أخرى ومراقي أرفع. خاصة وأن السريانيين كانوا قد اقتبسوا من اليونان اجرومية النحو وأصول الشعر وفلسفة قواعد اللغات بترجماتهم الكتب اليونانية إلى اللغة السريانية. وأن جماعة من النصارى العرب كانوا يزورون القسطنطينية وبلاد الشام ويقرئون الكتب السينية من آرامية ويونانية للتعلم والتثفف، وهؤلاء هم الذين تولوا تثقيف أبنائهم العرب وتعليمهم. وأناس من هذا الطراز لا بد وأن يكونوا قد تأثروا بما تعلموه من اليونان ومن السريانية فطبقوه على العربية، ووضعوا القواعد لصيانة الألسنة ولتقويمها، وسلكوا سبلاً في البيان ترتفع فوق مستوى تفكير السواد والسوقة بدرجات. وترجموا الموضوعات الدينية ولا سيما الكتب الدينية إلى الناس لتفقيههم بأمور دينهم.

ورجل مثل "عدي بن زيد العبادي"، ولي ديوان الرسائل والانشاء عند كسرى وهو ديوان مهم، لم يكن الفرس يسلمون أمره إلا لرجل أديب حاذق، لا يعقل أن يكون مجرد قارئ خطاط ناقش للحروف، لا بد وأن يكون صاحب فن وحذق له أسلوب في تنميق الكلام والتحبير، قوي البيان، يكتب وفق قواعد اللغة وأصولها. درس القواعد والأدب وأساليب العرب والعجم في التعبير والبيان، فصار من ثم كاتباً بالعربية وبالفارسية كما يذكر أهل الأخبار.

الفصل الخامس والعشرون بعد المئة
ا لكتاب والعلماء

والعلم المعرفة. ورجل عالم وعليم، صاحب معرفة، وأصحاب المعرفة والعلم هم العلماء. ويقال قي جمع عالم: علاّم، كجهال في جاهل. قال يزيد بن الحكم: ومسترق القصائد والمضاهي  سواء عند علام الـرجـال

وذكر علماء اللغة إن "النافع" العالم، وقيل هو المبين للامور، وقيل هو الذي قتل الأمر علماً. قال شقران السلاماني: إن الذي ريضتـمـا أمـره  سراً وقد بين لـلـنـاخـع

لكالتي يحسبـهـا أهـلـهـا  عذراء بكراً وهي في التاسع 

والعلاّمة، والعلام والتعلمة. والتعلامة: العالم جداً وذلك للمبالغة في سعة علم العالم. وذكر علماء اللغة إن "العلامة والعلام: النسابة، ويظهر انهم انما قالوا ذلك، بسبب إن النسب كان عند الجاهليين من أهم علومهم التي برعوا وتخصصوا بها حتى صار النسب مرادفاً للعلم عندهم. وفي القرآن: )انما يخشى اللهَ من عباده العلماء(، و )علماء بني اسرائيل(، وألفاظ كثيرة لها صلة بالتعلم والعلم، وفي ورودها فيه دلالة على وقوف الجاهليين على العلم والتعلم وعلى وجود العلماء عندهم.

وترد لفظة "الكاتب" بمعنى العالم. قال الله تعالى: )أم عندهم الغيب، فهم يكتبون(،وفي كتابه أهل اليمن: قد بعثت اليكم كاتبا من أصحابي، أراد عالماً،سمي به لأن الغالب على من كان يعرف الكتابة أن عنده العلم والمعرفة، والكاتب عندهم العالم. والاكتاب الإملاء. تقول: اكتبني هذه القصيدة، أي املاها عليّ، و الكاتب عند الشعوب الأخرى، بمعنى العالم كذلك، وقد كانت للكتاب منزلة كبيرة في مجتمعهم، إذ كانوا يعدون من الطبقات العالية الممتازة، وذلك لأن الكاتب لا يكون كاتباً إذ ذاك، ولا ينال العلم، إلا إذا كان من الطبقة العالية المتمكنة ومن اسرة عرفت بالعلم. والعلم إذ ذاك محصور في العوائل، وفي رجال الدين وفي الطبقة التي تتولى الكتابة في قصور الملوك. ونجد في القرآن لفظة: "إكتب" و "كتبت" و "كَتبَتَ" و "كتبْنا"، و "كتبناها"، و "فسأكتبها"، و "تكتبوه"، و "نكتب"، و "يكتب"، و "يكتبون" و "أكتب"، و "فأكتبها"، و "فاكتبوه"، و "كُتبَ" و "ستكتب"، و "اكتتبها"، و "فكاتبوهم"، و "كاتب"، و "كاتباً" و "كاتبون"، و "كاتبين"، و "الكتاب"، و "كتاباً"، و "كتابك"، و "بكتابهم"، و "كاتبا"، و "كتابه""، و "كتابها"، و "كتابي"، و "كتابيه"، و "كُتب"، و "كُتبِه"، و "مكتوباً". وفي ورود هذه الألفاظ فيه معبرة عن معان مختلفة لها صلةَ بالكتابة وبالعلم دلالة على أن الجاهليين كانوا على علم، وأنهم كانوا يكتبون في اغراض مختلفة من أغراض الحياة، وأنهم لم يكونوا على نحو ما يقص عنهم أهل الأخبار من الجهل والأمية.

وذكر علماء اللغة إن "الشهر" وجمعها "شهور" بمعنى العالم، واستشهدوا على هذا. المعنى ببيت شعر بنسب الى أبي طالب، هو: فإني والضوابح كـل يوم  وما يتلو السفاسرة الشهود 

قال الصاغاني: هكذا انشده الأزهري لأبي طالب، ولم اجده في شعره. ولكن الرواة يروونه على هذا النحو: فإني والسـوابـح كـل يوم  بى ما تتلو السفاسرة الشهود 

وللسفاسرة اصحاب الأسفار، وهي الكتب، والشهود أنسب في تفسير الشعر من الشهور، لأننا لا نعلم إن أحداً قال إن الشهر: العالم، وأرى إن تصحيفاً قد وقع في البيت حول حرف "الدال" "راء"، ففسرت لفظة الشهور بالعلماء، لعدم تصادم هذا التفسير مع المعنى، وفي العربية من الأمثلة على مثل هذا التصحيف.

وترد لفظة "الفقه" بمعنى العلم بالشيء والفهم له. ويظهر إن الجاهليين كانوا يستعملون لفظة "فقه" ومشتقاتها في معان لها صلة بالعلم. ودليل ذلك ما ورد في القرآن الكريم من قوله )فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين(، ومن ورود "تفقهون"، و "تفقه"، و "يفقهوا"، و "يفصحون" و "يفقهوه" في مواضع منه وورد في كتب اللغة والأدب والأخبار: "فقيه العرب: عالم العرب"، و "فقهاء من العرب". وورد في الحديث: "أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون"، أي الثرثارون المدعون العلم والفقه.

ويفهم أيضاً من روايات أهل الأخبار، أنه قد كان للجاهليين أئمة وفقهاء يقضون بينهم ويفتون في دينهم، ومحافظون على دينهم. فهم عندهم سدنتهم وأمناؤهم. وقد ذكر "ابن حبيب" أسماء نفر من "تميم" تولوا الموسم والقضاء بعكاظ. فكانوا يجلسون في مكان من السوق، بين المتخاصمين وللافتاء فيما يشكل عليهم من أمر دينهم. وكان، منهم من تخصص بالاجازة بالموسم. ومنهم من تخصص بالفتيا والقضاء. ومنهم من جمع بين الاثنين.

أنا لا أستطيع أن أتحدث عن كتب ومؤلفات نقول إن الجاهليين كتبوها بالعربية على نمط اليونان واللاتين والفرس والسريان في الكتابة والتأليف، ذلك لقصور علمنا في الموضوع، ولعدم وصول أي خبر الينا عنه حتى الآن.

نعم، لقد أشرت إلى وجود ما يسمى "مجلة لقمان" و "حكمة لقمان" والى كتب امتلكها بعض الجاهليين، إلا أن الأخباريين لم يصفوا كيف كانت مجلة لقمان، و لم يتطرقوا إلى ما كان فيها، كما أن الظواهر تشير إلى أن تلك الكتب هي مؤلفات جيء بها من بلاد الشام والعراق واليمن، أغلبها في موضوعات دينية وتأريخية وقصص. وأما لغتها، فيظهر أن بعضها بعربية القرآن الكريم، كمجلة لقمان، وبعضها بلغة بني إرم.

أما ما قيل له "الأساطير" أو "كتب الأساطير"، فهو كتب قصص وسمرٍ وحكايات وتواريخ. وتدل التسمية على أنها من أصل يوناني، هو: Historia و Storia في اليونانية وتعني التأريخ، عر"بت فصارت "أسطورة" وجمعت على أساطير، واستعملها الجاهليون استعمال اليونان واللاتين، أي أرادوا بها تواريخ الماضين وحكاياتهم وقصصهم.

وأما ما قيل له "السفاسرة" فالسفسير الحاذق بالشيء، والسفاسرة أصحاب الأسفار، وهي الكتب. والكلمة من أصل "إرمي" على رأي علماء اللغة. و "سفسير" بمعنى "سمسار" في لغة "بني إرم"، أي المساوم. والظاهر إن "السفاسرة"، من "سفر"، و "سفر" "سيفر" بمعنى كتاب في عدد من اللغات السامية. وتقابل "سفرو" في لغة بني إرم، بمعنى كتاب. وقد كان بمكة وبغيرها رجال يتلون الكتب ويقرئون أسفار أهل الكتاب من دينية وغيرها قبل الإسلام وفي الإسلام وفي الحديث: لا تعلموا أبكار أولادكم كتب النصارى: يعني أحداثكم. وفي هذا الحديث إن صح دلالة على إن قراءة الكتب كانت منتشرة في ذلك العهد، ولا تعني جملة "كتب النصارى" الكتب الدينية بالضرورة، إذ قد تعني كل ما كان يتداوله النصارى من كتب في ذلك العهد. وقد يكون من بينها مؤلفات في الفلسفة وفي الطب وفي فروع المعرفة الأخرى التي كان الناس يتدارسونها إذ ذاك.

وفي الآية: )وقالوا: أساطير الأولين اكتبتها، فهي تملي عليه بكرة وأصيلاٌ. قل: أنزله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض. إنه كان غفوراً رحيماً(، دلالة صريحة على وجود الكتب والأساطير عند الجاهليين. فلما نزل القرآن، قال المشركون: "هذا إلا افك افتراه محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الذي جاءنا به محمد أساطير الأولين، يعنون أحاديثهم التي كانوا يسطرونها في كتبهم"، اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم، من يهود، فهي تملى عليه، يعنون بقوله: فهي تملى عليه، فهذه الأساطير، تقرأ عليه، من قولهم أمليت عليك الكتاب، وأمليت بكرة وأصيلا، يقول ويملى عليه غدوة وعشياً. وقوله: قل أنزله الذي يعلم السر. في السموات والأرض. يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بآيات الله من مشركي قومك ما الأمر كما تقولون من أن هذا القرآن أساطير الأولين، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم، إفتراه وأعانه عليه قوم آخرون، بل هو الحق انزله الرب الذي يعلم سر من في السموات ومن في الأرض ولا يخفى عليه شيء". وزعموا إن الرسول اكتتب القرآن من "أساطير الأولين"، وهي أحاديث سطرها المتقدمون كأخبار الأعاجم، "فهي تقرأ عليه أو كتبت له"، وقالوا: "ما هذا الذي جمعتنا به إلا كذب الأولين وأساطيرهم"، وكانوا يروون الأساطير وأحاديث الخلق، وهي الخرافات من الأحاديث المفتعلة، فرمى المشركون الرسول بهذه الفرية.

وقد ذهب "شبرنكر" وهو من الزاعمين أن الرسول كان يكتب ويقرأ إلى أن النبي قرأ كتاباً في العقائد وللأديان وأخبار الماضين، وقد زعم أن اسم هذا الكتاب هو: "أساطير الأولين". وقد أخذ رأيه هذا من الآية: )وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها، فهي تملى عليه بكرة وأصيلا(. وهذه السورة هي من السور المكية. فهي تشير إلى زعم قريش في أن القرآن، هو شيء اكتتبه الرسول، وقد أملي عليه من الأساطير. وقد سبق أن قالوا إنه يتعلمه من اناس عاونوه وساعدوه عليه. قالوا إن هذا القرآن "افك افتراه محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الذي جاءنا به محمد أساطير الأولين يعني أحاديثهم التي كانوا يسطرونها في كتبهم، اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم، من يهود، فهو يملي عليه. يعنون بقوله: فهو يملى عليه، فهذه الأساطير تقرأ عليه، من قولهم أمليت عليك الكتاب وأمليت، بكرة وأصيلاّ. يقول وتملى عليه غدوة وعشياً".وأعانه عليه قوم آخرون. يقول: وأعان محمداً على هذا الإفك الذي افتراه يهود". وقد رد على هذا الرأي "نولدكه" في كتابه: "تأريخ القرآن"، وعده قولاً لا أهمية له.

وقد ذكر علماء اللغة أن الأساطير هي الأباطيل والأكاذيب والأحاديث لا نظام لها، وهي جمع "أسطار" و "اسطر" و "أسطور". واللفظة من الألفاظ المعربة. وهي Istoriya "استوريا" في اليونانية، و Historia في اللاتينية، وقد أطلقت عندهم على كتب الأساطير والتأريخ. ويظهر أن الجاهليين قد أخذوها من الروم قبل الإسلام، واستعملوها بالشكل المذكور وبالمعنى نفسه، أي في معنى تأريخ وقصص.

ولا أستبعد وجود الكتب التأريخية باليونانية وباللاتينية في مكة، فقد كان في مكة وفي غير مكة رقيق من الروم، كانوا يتكلمون بلغتهم فيما بينهم وينطقون بها إذا تلاقوا، كما كانوا يحتفظون بكتبهم المقدسة، وبكتب أخرى مدوّنة بلغتهم.

وقد ذكر علماء التفسير اسم رجل زعمت قريش أنه كان هو الذي يعلم الرسول ويلقنه القرآن. وإليه الإشارة في الآية: )لسان الذي يلحدون إليه اعجمي(. وهي في سورة النحل، وسورة النحل من السور المكية. " كانوا يزعمون أن الذي يعلم محمد هذا القرآن عبد رومي "وكان صاحب كتب، عبد لابن الحضرمي". " فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين يدخل عليه وحين يخرج من عنده، فقالوا: انما يعلمه.

وقد ذهب "شبرنكر" إلى وجود "صحف ابراهيم" عند الجاهليين، زعم إن الرسول قرأها وأخذ منها. وقد رد على رأيه هذا "نولدكه"، بقوله: لو فرضنا أن محمداً أخذ من هذه الصحف، ونسبه لنفسه وادعاه، على أنه وحي أوحى الله به إليه، لو فرضنا ذلك، فإن من غير المعقول عندئذ ذكر محمد لتلك الصحف في القرآن. لأن ذكرها فيه معناه إرشاد الناس إلى المورد الذي أخذ منه واتهام نفسه، ولهذا فلا يعقل الأخذ بكلام "شبرنكر".

وورد في كتب أهل الأخبار أن "الأحناف" كانوا يقرئون الكتب، وتبحروا في التوراة والانجيل، ومنهم من وقف على لغة "بني إرم" وعلى العبرانية.

ومن هؤلاء "ورقة بن نوفل بن اسد"، " الشاعر صاحب العلم في الجاهلية. وكان قد قرأ الكتب وتبحر في التوراة والانجيل، وهو الذي لقيته خديجة في أمر النبي.

وورد في بعض الأخبار في تفسير الآية: )ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً(. ان هذه الآية إنما نزلت في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السمر والأحاديث القديمة، ويضاهون بها القرآن، ويقولون إنها أفضل منه. وفي هذا الخبر دلالة على وقوف الجاهليين على الكتب واستعمالهم لها، وخاصة كتب السمر والأحاديث القديمة، إذ لا يعقل أن يكون شراؤهم لها حادثاً طارئاً، ظهر عندهم بنزول القرآن.

وذكر بعض المفسرين أن الآية المذكورة نزلت فى حق النضر بن الحرث وكان يتجر إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم: رستم واسفنديار فيحدث بها قريشا. وقيل كان يشتري المغنيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول اطعميه واسقيه وغنيه، ويقول هذا خير مما يدعوك محمد إليه من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه.

وإذا صح ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن هذه الآية قد نزلت بحق "النضر"لأنه كان يعاند الرسول ويعارضه وقت يكون مجتمعاً بنفر من الناس يلقي عليهم مبادئ الإسلام، فيقرأ عليهم من كتب الأعاجم ومن قصص: رستم واسفنديار فإن ذلك يدل على أنه كان يتقن الفارسية، وأنه كان يمتلك كتب الفرس ويقرأ بها وهو بمكة، ويترجم ما جاء فيها لمن يتجمع حوله. وأنه اشترى جملة كتب خلال تجاراته مع العراق.

فنحن اذن أمام أقدم مترجم يصل الينا خبره من مترجمي العرب قبل الإسلام بمكة. يقوم. بترجمهّ كتب من الأعجمية إلى العربية. ويكون بذلك قد سبق المسلمين بزمن طويل في ترجمة كتاب رستم واسفنديار إلى العربية. غير أننا يجب أن نتحفظ ونحترز كثيراً في قولنا هذا. فنحن لا نقصد انه ترجم كتاب رستم واسفنديار ترجمة تدوين وتحبير، وبالتمام والكمال. فقول، مثل هذا يكون قولاّ جزافاً، لا يستند إلى علم أو دليل إن قلته. وإنما أقصد ترجمة شفوية على نحو ما ذكره وأورده المفسرون وأصحاب السيرة. وقد ترجم هذا الكتاب في الإسلام. ترجمه جبلة بن سالم.

ولا اعتقد أن رجلا مثل الحارث بن كَلدة الثقفي، أو ابنه النَضر، وهما من العلماء بالطب، لم يرجعا الى مؤلفات في الطب مدونة بلغة من اللغات الأعجمية، للحصول على علمهما في الطب. وكيف يمكن ذلك، وقد درسا في مدرسة لم تكن مدرسة عربية، هي مدرسة "جنسيسابور"، عرفت واشتهرت في الطب. وقد كان عماد دراستها في الطب ما الفه اليونان، وما نقله منها علماء السريان. ولا أعتقد أنهما كانا في جهل بمؤلفات أبقراط وجالينوس وغيرهما ممن بنوا صنعة الطب، ووضعوا فيها المؤلفات، بل لا أعتقد أن رجالاّ في مكة أو في يثرب او الطائف كانوا على جهل باسماء مشاهير حكماء اليونان، وبينهم من كان له اتصال ببلاد الثقافة والعلم وبالأجانب على نحو ما ذكرت، وان اغفل عن ذكرهم أهل الأخبار.

ويظهر من روايات أهل الأخبار مثل رواية ابن الكلبي عن وجود دواوين فيها ما مدح به آل لخم وما قيل فيهم من شعر و مقدار ما حكم كل واحد منهم، وروايات غيره عن تدوين الشعر قبل الإسلام - أن الجاهلين كانوا قد شرعوا في تدوين الأخبار والشعر وما لفت انتباههم قبل الإسلام، وقد يكون ذلك قبيل الإسلام بعهد غير بعيد، وأن التدوين كان بهذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، أو بلهجات قّريبة منها. ومعنى هذا أن هذه اللهجة كانت قد اكتسبت قوة في هذا العهد، حملت الناس على التدوين وعلى نظم الشعر بها. ولكن الذي رفعها وجلها لغة العرب أجمعين، هو القرآن الكريم من غير شك، فبفضله صارت هذه اللغة لغة للعرب كلهم ولغة المسلمين الدينية.

ويظهر من القرآن الكريم أن هذه اللغة كأنما قد عرفت ألفاظ الحضارة والفكر في يوم نزوله، لورودها فيه. و لورودها فيه أهمية كبيرة في إعطاء فكرة عن مستوى أهل الحجاز العقلي في ذلك اليوم، ففيه ألفاظ "مثل العلم والعلماء والحكمة والأساطير والأمثال الخ ... وألفاظ ذات صلة بالكتابة والتدوين تحدثت عنها ومصطلحات أخرى، ولا يمكن ورود مثل هذه الكلمات في لغة قوم ما، ما لم يكن لهم أو لجماعة منهم على الأقل، حظ من ثقافة وتفكير وعلم.

ولا أقصد ان الجاهليين استعملوا تلك الألفاظ بمدلولها المفهوم في الزمن الحاضر، أو بالمعاني المفهومة منها عند اليونان. فلفظة "علم" مثلاً لا تعني علماّ بالمصطلح الحديث أي في مقابل Science في الانكليزية، وإنما تعني المعرفة عامة. ولفظة "علماء"، لا تعني المشتغلين بالعلوم خاصة أي ما يقال لهم ٍScientist في الانكليزية، وإنما يراد بهم العارفون اصحاب المعرفة والفهم. وقد صار للفظتين مدلولان خاصان في العصر العباسي، ولكن هذا لا يعني أن لفظة "علم" لو "علماء"، لم تكن تعني معنى خاصاَ عند الجاهليين، والا ما استعملت للتعبير عن معان معينة في القرآن الكريم، وما ميز القرآن الكريم والحديث النبوي العارفين بلفظة علماء، لتمييزهم عن السواد. وبهذا المعنى وردت لفظة "عالم" وعلم عند العبرايين.

ولا أستبعد تأثر المثقفين الجاهليين ومن كان على اتصال بالعجم وباليهود والنصارى بالآراء الفلسفية والدينية وبالجدل الذي وقع بين المذاهب النصرانية في أمور عديدة. فقد خالط الجاهليون، ولا سيما في بلاد العراق وبلاد الشام، أقواما عديدة ذات ثقافات متباينة واحتكوا بها، وأخذوا منها، فلا يعقل الا يتأثروا ببعض آرائهم في الكون وفي الحياة وفي سائر نواحي التفكير. وقد وردت في شعر للاعشى وفي شعر لبيد، فكرتان متناقضتان عن الجبر والاختيار، فذهب الأعشى في هذا البيت: استأثر الله بالوفاء وبالعد  ل وولى الملامة الرجلا 

مذهب القائلين بالاختيار، أي أن الإنسان مختار قادر على أفعاله. أما الأعشى فذهب مذهب الجبرية القائلين بأن الإنسان مجبر، مسير، وذلك في قوله: إن تقوى ربنا خبر نـقـل  وبإذن الله ريثي وعـجَـل

من هداه سبل الخير اهتدى  ناعم البال، ومن شاء اضل 

وقد سبق أن ذكرت في مواضع متعددة من هذا الكتاب أن اكثر من نسُب إلى التوحيد، أي من ينعتهم أهل الأخبار بالحنفاء، كانوا يقرأون ويكتبون، وكانت عندهم كتب أهل الكتاب، وان أكثرهم كانوا أصحاب رأي وفكر فبالخلق وفي هذا العالم. ولكنهم لم يدخلوا في يهودية ولا في نصرانية،لأنهم لم يجدوا في الديانتين شيئاً يفرج ويرفه عما كان يجول في رؤوسهم من آراء ومقالات عن الخالق والكون. وقد جالس هؤلاء رجال اليهود والنصارى، وتكلموا معهم في أمور عديدة من أمور الفكر والدين في جزيرة العرب وفي بلاد العراق وبلاد الشام. وينسب لجندب بن عمرو بن حممة، وهو من دوس أنه كان يقول في الجاهلية: إن للخلق خالقاً لا أعلم ما هو. ثم جاء الي الرسول، فأسلم وقد ذكر أن ورقة بن نوفل، وهو واحد من المذكورين، كان قد قرأ الكتب وكتب بالعبراني أو السرياني، وإنه كتب بالسريانية "العبرانية" من الإنجيل ما شاء أن يكتب. وكان قد امتنع عن أكل ذبائح الأوثان. وذكر أيضاً: إن زيد بن عمر بن نفيل، وهو ممن كان على الحنيفية، كان ينتقد قريشا، ولا يأكل ذبائحها، لأنها ذبحت للأصنام والأوثان؛ وأن عبد الله بن عبد الملك بن عبد الله بن غفار المعروف بأبي اللحم الغفاري كان يأبى أن يأكل اللحم، ولهذا سمي: "آبي اللحم". وكان شريفاً شاعراً. وقد أسلم: وشهد حنين. وكان لكل هؤلاء وقوف على كتب أهل الكتاب، ولهم علم بأقلامهم.

وقد ذكر أهل الأخبار أن وهب بن منبه وأخاه كانا يستوردان الكتب القديمة من بلاد الشام. ويرد مصطلح "الكتب القديمة" في كتب السير والأخبار. ووهب بن منبه وأخوه من الاسلاميين، ولكن استيرادهما للكتب، لم يكن بدعاً واكتشافاً لهما، بل لا بد أنه كان قديماً معروفاً عند الجاهليين.

وقد ذكر أهل الاخبار عبد عمرو بن صيفي النعمان المعروف بأبي عامر الراهب في جملة من كان يناظر أهل الكتاب، ويتتبع الرهبان، ويألفهم، ويكثر الشخوص إلى الشام. ومن هنا قيل له: الراهب. وقد علم بذلك علم أهل الكتاب. وورد أن أهل الكتاب، وهم اليهود، "كانوا يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم"، وورد جواز تفسير التوراة والإنجيل باللغة العربية. وكان اليهود يجادلون رسول الله في أمور الدين، وقد أشير إلى جدالهم له في القرآن الكريم: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم. وقولوا: آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل اليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون(، وكانوا يستعينون في جدلهم بالتوراة، يفسرونها بالعربية للمسلمين.

وقد فسر بعضهم الآية: )ليقولوا دارست(، "بقوله: قرأت على اليهود وقرأوا عليك"، وفسرها بعضهم بذاكرتهم" أو قرأت كتب أهل الكتاب، فنحن إذن أمام أقدم أخبار تشير إلى ترجمة العهد القديم الى العربية، ليفهمها العرب المشركون. وقد كان جدال اليهود مع النبي على أمور واردة في التوراة، فلا بد وأنهم كانوا يستعينون بالترجمة في هذا الجدال.

وفي أخبار أهل الأخبار هذه مواضع تثير التساؤل وتوجه الانتباه إلى قضية وقوف أهل الجاهلية وصدر الإسلام على كتب أهل الكتاب، ونقلهم عنها وشرحهم لبعض ما نقلوه باللغة العربية. فقد وقفنا تواً على ما ورد عن بعض الأحناف من وقوفهم على كتب أهل الكتاب ومن معرفتهم بالعبرانية والسريانية، وقد وقفنا من أخبارهم على أن "عبد الله بن عمرو بن العاص" كان قد قرأ "الكتاب الأول". وأنه كان يقرأ بالسريانية، وأنه استأذن رسول الله في أن يكتب ما سمعه منه، فاذن له، فدوّنه في صحيفة سماها: "الصادقة"، وروي أنه كان يقرأ الكتابين: التوراة والإنجيل. وأنه "كان فاضلاً عالماً قرأ الكتاب واستأذن النبي إن يكتب حديثه، فاذن له، فكتب عنه حديثه وحفظ عنه ألف مثل. وروي انه كان على علم بالمثناة، و "المثناة" "المشنا" في تفسير التوراة، وأنه جمع كتباً حصل عليها يوم "اليرموك"، وكان له علم بها".

وروي أن "عمر" انتسخ كتاباً من كتب أهل الكتاب ووضعه في أديم، وجلي به إلى رسول الله، فقال له: "ما هذا في يدك يا عمر ? قال: يا رسول الله كتاب استنسخته لنزداد به علماً إلى علمنا. فغضب رسول الله حتى احمرت وجنتاه". وورد أيضاً أن رجلاً من "بني عبد القيس" سكنه بالسوس، كان قد نسخ "كتاب دانيال"، وكان يقرأه ويفسره للناس، وذلك في أيام عمر، فنهاه عن ذلك، وشدد عليه في وجوب محو ما كتبه. وورد إن "عمر" كتب إلى عامله "أبي موسى الأشعري" كتاباً نسخته: "إغسلوا دانيال بسدر وماء الريحان".

وورد أن "عمر بن الخطاب"، قال للنبي: انا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها ? فنهى الرسول عن ذلك.

ولم يرد اسم "كتاب دانيال" في خبر آخر، فقد ورد عن "عمرو بن ميمون الأودي"، أنه كان جالساً مع قوم، فجاء رجل ومعه كتاب، فقالوا له: ما هذا الكتاب: قال كتاب دانيال.

ولم يرد اسم "دانيال" في القرآن ولا في الحديث، ولكنه معروف جداً عند المسلمين، بأنه نبي، وله قصص في أخبار الرسل والأنبياء. وقد وصلتهم قصصه ممن أسلم من يهود ومن اليهود الذين عاشوا بين الجاهليين وبين المسلمين. حيث اكتسبت رؤيا "دانيال" وتنبؤاته وتفسيره لحلم "نبوخذ نصر" شهرة خاصة عند يهود، وانتقلت منهم إلى المسلمين. ويعد "دانيال" أحد الأنبياء الأربعة الكبار، وتولى مناصب عالية عند البابليين والميديين "الماديين"، وقد اشتهر بتعبير الرؤيا وبالتنبؤ عن المستقبل، والظاهر أن شهرته هذه عند اهل الكتاب، أكسبته منزلة خاصة عند المسلمين.

وورد أن "ابن قرة" جاء بكتاب من بلاد الشام إلى "عبد الله بن مسعود"، وكان قد أعجب به، فأمر "عبد الله بن مسعود" بطست فيه ماء، محا به أثر الكتابة.

وذكر إن "عمر بن الخطاب" قال: "أيها الناس، إنه قد بلغني انه ظهرت في أيديكم كتب، فأحبهّا إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحداً عنده كتاب إلا أتاني به، فأرى فيه رأيي. فظنوا انه يريد أن ينظر فيها، ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف؛ فأتوه بكتبهم. فأحرقها بالنار". ويظهر أن هذه الكتب هي من كتب أهل الكتاب، فعندنا أخبار عديدة تذكر حصول الصحابة على كتب كثرة وقعت اليهم في الغزوات والحروب التي جرت في بلاد الشام.

وقد ورد في شعر بعض الشعراء الجاهليين ما يفيد وقوف أصحاب ذلك الشعر على كتب أهل الكتاب. كالزبور و "خط زبور" و "مصاحف الرهبان" و "التوراة" و "المجلة" أي الانجيل وامثال ذلك، مما يدل على أنهم كانوا قد وقفوا على خبرها وشأنها، وأن اليهود والنصارى وهم عرب على اليهودية والنصرانية كانوا يتداولونها فيما بينهم، باعتبار أنها كتبهم المقدسة.

وقد وجد المسلمون مصاحف لليهود في مستوطناتهم فيها التوراة وفيها كتبهم الأخرى. فذكر إن المسلمين لما فتحوا "خيبر" "وجمعت مصاحف فيها التوراة، ثم ردت على اليهود".

وأنا لا أستبعد احتمال ترجمه الكتاب المقدس بقسميه، كلاً أو جزءاً منه إلى العربية، فقد كان اليهود - كما سبق أن قلت - يفسرون ليهود يثرب ولعربها التوراة وكتبهم الدينية بالعربية، كما كان المبشرون يفسرونه بالعربية، وقد رأيت إن قريشاً اتهموا الرسول بأنه كان يستمع إلى رجل نصراني، ويأخذ منه. وانهم ذكروا إن الأحناف كانوا يقرأون التوراة والانجيل، وان عرب العراق كانوا يدرسون في الكنائس والأديرة بالعربية، فلا أستبعد احتمال وجود ترجمات عربية للكتب الدينية قبل الإسلام، تلفت لأسباب عديدة، منها انها لم تكن اسلامية، ولأسباب أخرى، فلم تصل الينا لذلك.

وقد ورد في بيت شعر ينسب إلى "بشر بن أبي خازم"، ذكر كتاب كان عند بني تميم، إذ جاء فيه: وجدنا في كتاب بني تـمـيم  أحق الخليل بالركض المعار 

ولو اخذنا بظاهر العبارة، دل البيت على وجود كتاب عند بني تميم، قد يكون صحيفة وقد يكون كتاباً مؤلفاً من صفحات. ولو اخذنا بالتأويل وقلنا معناه: وجدنا هذه اللفظة مكتوباً، إن أحق الخيل بالركض المعار، انتفى وجود كتاب لديهم. وقد نسب هذا البيت إلى "الطرماح بن حكيم"، وهو شاعر اسلامي. واذا صح إن هذا البيت هو من شعر الطرماح، جاز أخذ لفظة "كتاب" بالمعنى الحقيقي، إذ كانت الكتب معروفة في هذا الوقت.

وجاء في كتاب "إمتاع الأسماع"، أن الرسول "كتب هذه السنة المعاقل والديات، وكانت معلقة بسيفه"، وأشار الطبري إلى هذه الصحيفة بقوله: "وقيل: إن هذه السنة كتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المعاقل فكان معلقاً بسيفه"، والسنة المشار إليها هي السنة الثانية من الهجرة. والخبر أشبه ما يرن بخبر "الصحيفة" المنسوبة إلى "علي بن أبي طالب، فقد ورد في "صحيح البخاري": "عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلى: هل عندكم كتاب ? قال: لا، إلاّ كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر". وورد أنها "كانت معلمة بقبضة سيفه. إما احتياطاً أو استحضاراً"، وورد "فأخرج كتاباً من قراب سيفه". ويكاد يكون الخبر واحداً، فالصحيفة صحيفة المعاقل والديات، وموضعها في الخبرين السيف، معلقة به، أو في قرابه. ويظهر من روايات أخرى أن فيها أحاديث عن الرسول: مثل: المدينة حرام ما بين عاثر إلى كذا، فمن أحدث حدثاً أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل". وورد انه كان فيها أشياء من الجراحات وأسنان الإبل.

ولم نجد في الأخبار ما يفيد أن الصحابة كانوا على علم بصحيفة النبي، ولو كانت للرسول صحيفة فيها أحكام المعاقل والديات، اكان الرسول قد علقها على سيفه، دلالة على اهتمامه بها، لما سكت عنها الصحابة، مع ما لها من الأهمية بالنسبة لاصدار الأحكام، ولأنها يجب أن تكون المرجع المطاع الثاني بعد القرآن. ولذلك فأنا اشك في أمر هذه الصحيفة، وفي صحيفة الإمام كذلك المأخوذة من كلام الرسول، ولو كانت صحيفة الإمام، هي صحيفة الرسول نفسها، صارت إليه بعد وفاته، لما سكتت الأخبار من الإشارة إليها وعن انتقالها إلى "عليّ" لما لها من أهمية، ولا سيما بالنسبة إلى الشيعة الذين يفتشون عن هذه الأمور باعتبارها منقبة تضاف إلى مناقب الامام، وحجة في اثبات إمامته واعتماد الرسول عليه وحده. ولو كانت الصحيفة صحيفة الامام، دوّنها بنفسه، معتمداً على حديث الرسول، وكانت عنده معلقة بسيفه، حرصاً عليها، لتكون معه وتحت متناول يده، يراجعها متى شاء، فلا يعقل أن تكون مقتصرة على المعاقل والديات وأسنان الابل، وهي أمور يعرفها الامام، وهو فقيه، ومرجع من مراجع الافتاء، دون حاجة إلى إن يكتبها في صحيفة يحرص على حملها معه معلقة بسيفه. ثم إنها إذا كانت على هذه الأهمية بالنسبة للامام، لما تركها اصحابه، فلم ينقلوها بالنص والحرف، وهي أخطر وثيقة، مع أنهم رووا عنه أحاديث كثيرة، حتى نسب الناس له خطباً وأشياء لا يصح صدورها منه. ومنها صحيفة تسمى: "الصحيفة الكاملة، أو زبور آل محمد وإنجيل أهل البيت".

ورأيي إن ما ورد من إن الخليفة "ابو بكر" كان يمتلك صحيفة فيها حديث الرسول، هو خبر غير صحيح كذلك، ولو كانت لديه صحيفة، لما خفي أمرها عن الصحابة، فلم يحفظوها ولم ينقلوا عنها. وأما ما ورد من أمر صحيفة "عبد الله بن عمرو بن العاص"، المسماة بالصحيفة الصادقة، وما كتب فيها من حديث الرسول، ومن انه قد جمع ألف مثل من أمثال الرسول، وما ورد من صحيفة "همام بن منبه"، المسماة بالصحيفة الصحيحة، فقد بحث في أمر هذه الصحف العلماء.

وقد عدّ "الأفرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان" التميمي المجاشعي، في جملة علماء العرب وحكامهم. قال عنه بعض العلماء: "وكان عالم العرب في زمانه". كان عالماً بالنسب وبأخبار الناس، ولهذا كانوا يسافرون إليه. وكان شريفاً في الجاهلية والاسلام. وقد حكم في المنافرة التي وقعت بين "جرير بن عبد الله" البجلى، وبين "خالد بن أرطاة" الكلبي. وكان "خالد" زعيم "قضاعة يومئذ، فنفر "الأقرع" جريراً على خالد، بمضر وربيعة. وكان من المؤلفة قلوبهم.

والنسب هو من أهم المعارف التي عرف بها أهل الجاهلية. وهو علم يرتقي إلى عهد بعيد عن الإسلام من دون شك، لما له من تماس مباشر بحياتهم الاجتماعية وبنظمهم السياسية، ولأنه الحماية بالنسبة إلى الجاهليين في تلك الأيام. وأستطيع أن أدخل في علم النسب، العلم بأنساب الخيل، فقد عنوا بالخيل عناية كبيرة، وحفظوا أنسابها، ووضعوا شجرات أنساب لها. كما عنوا بأنساب الإبل، لما لهذا النسب من صلة بالاصالة وبسعر بيعها وشرائها. ونجد في الأخبار ما يشير إلى وجود أناس تخصصوا بحفظ نسبها.

والنسّاب: العالم بالنسب، وهو النساّبة. أدخلوا الهاء للمبالغة والمدح. "وفي حديث أبي بكر، رضي الله عنه: وكان رجلا نسابة، النسابة: البليغ العالم بالأنساب".

والنسب: نسب القرابات. يكون بالاباء، ويكون بالقبائل، ويكون إلى البلاد، ويكون في الحرف والصناعة.

وقد نبغ بين القبائل والقرى أناس تخصصوا بحفظ النسب، منهم من يرع في حفظ نسب قبيلته، ومنهم من يرع في حفظ أنساب جملة قبائل، وممن اشتهر وعرف من قريش بحفظ النسب وبالعلم به، "أبو بكر". وكان علمه بعلم الأنساب، ثم بأمور الناس، ثم الشعر، قيل انه "كان أنسب قريش لقريش وأعلمهم بما كان منها من خير أو شر"، وقيل إنه كان أنسب العرب، وأعلم قريش بأنسابها، وأنسب هذه الأمة. و "كانت قريش تألف منزل أبي بكر، رضي الله عنه، لخصلتين: العلم والطعام". ولما أمر الرسول حسان بن ثابت بالردّ على شعراء قريش قال له: "إئت أبا بكر، فإنه اعلم بانساب القوم منك. فكان يمضي إلى أبي يكر ليقفه على أنسابهم". فلما سمعت قريش شعر "حسان"، قالت: "إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة". ولما مرّ بالناس في معسكرهم بالجرف، جعل ينسب القبائل.

وكان "جبير بن مطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف"، وهو أحد أشراف قريش وحلمائها من علماء النسب في قريش، وكان ممن أخذ النسب من أبي بكر. وكان ممن يؤخذ عنه النسب لقريش وللعرب عامة.

وعرف "ابو جهم بن حذيفة" القرشي العدوي بعلمه بالنسب، وكان من المعمرين في قريش. عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام. وكان من مشيخة قريش وصحب النبي. وكان أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم النسب.

ومنهم: "مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف". وقد أخذ عنه النسب. وكان عالماً بانصاب الحرم. قال عنه "أبو عبد الله المصعب بن عبد الله الزبيري" "وكان له سر وعلم، وكان يؤخذ عنه النسب"، وقد أرسله "عمر" مع "سعيد بن يربوع"، و "أزهر بن عبد عوف"، و "حويطب بن عبد العزى" لتجديد أنصاب الحرم، فجددوها، ويقال إن "عثمان" بعثهم كذلك. وهو راوي خبر قصة استسقاء "عبد المطلب"، وما ورد فيه من الشعر.

قال "الجاحظ": "أربعة من قريش كانوا رواة الناس، للأشعار، وعلماؤهم بالأنساب والأخبار: مخرمة بن نوفل بن وهب بن عبد مناف بن زُهرة، وأبو الجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف، وحويطب بن عبد العزى، وعقيل بن أبي طالب. وكان عقيل أكثرهم ذكراً لمثالب الناس، فعادوه لذلك، وقالوا فيه وحمقوه"، و "حويطب" من مسلمة الفتح ومن المؤلفة قلوبهم. ومات زمان معاوية وهو ابن عشرين ومائة سنة. وباع من معاوية داراً بالمدينة بأربعين ألف دينار، وتوفي سنة "45ه".

وروي إن غنائم الحيرة لما وصلت الحيرة وفيها سيف النعمان بن المنذر، استدعى، "عمر" "جبيراً"، فسأله عن نسب "النعمان" فقال له: انه أشلاء قنص بن معد. فاعطاه سيفه، وذكر انه كان انسب العرب، وعنه أخذ "سعيد بن المسيب" النسب.

ومن نسابي قريش "عقيل بن أبي طالب". ولما وضع "عمر" الديوان، استعان بعقيل ومخرمة، وجبير في ترتيب عطاء الناس على منازلهم، فبدأوا ببني هاشم. وعقيل هو أخ "علي بن أبي طالب"، ذكر انه "كان عالما ًبأنساب قريش ومآثرها ومثالبها، وكان الناس يأخذون ذلك عنه بمسجد المدينة"، فهو من شيوخ العلم الذين نصبوا أنفسهم لتعليم الأنساب والمآثر والمثالب. قيل "كان في قريش اربعة يتحاكم الناس إليهم في المنافرات: عقيل، ومخرمة، وحويطب، وأبو جهم. وكان عقيل يعد المساوي، فمن كانت مساويه أكثر يقر صاحبه عليه، ومن كانت محاسنه أكثر يقره على صاحبه"، ونظراً لتكلمه مع الناس وتحدثه عن مساويهم فقد عودي وحمق.

وقد صار مسجد الرسول في المدينة موضع دراسة للمسلمين، فقد رأينا "حسان ابن ثابت"، وهو ينشد الشعر فيه، وهذا "عقيل" يعلم الناس الأنساب فيه، وهناك غيرهما من كان يعلم الناس في هذا المسجد.

وممن عرف واشتهر بعلم النسب، وأخذ النسب عن الجاهليين، دغفل السدوسي من بني شيبان، وعميرة أبو ضمضم، وابن لسان الحمرة من بني تيم اللات، وزيد بن الكيس النمري، والنخار بن أوس القضاعي، وصعصعة بن صوحان، وعبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان، وعبيد بن شريه وغيرهم.

وذكر عن "دغفل بن حنظلة" النسابة السدوسي الشيباني، انه كان عالماً بالعربية والأنساب والنجوم، وقد اغتلبه النسب. وقد أعجب به "معاوية" لما سأله أموراً كثيرة في هذه العلوم. ولا بد وأن يكون قد أخذ علمه ممن أدرك الجاهلية من رجال، وممن عاصر الرسول. وذكر انه و "زيد بن الكيس" النمري، كانا ممن اثارا آحاديث عاد وجرهم، ولذلك قال فيهما الشاعر: أحاديث عن أبناء عادٍ وجرهم يثورها العضان زيد ودغفل وروي إن معاوية لما قال لدغفل بن حنظلة للنسابة. بمَ ضبطت ما أرى ? قال: بمفاوضة العلماء. قال: وما مفاوضة العلماء قال: كنت اذا لقيت عالماً أخذت ما عنده، وأعطيته ما عندي"، وذكر ان "أبا بكر"، سأل قوماً من "ربيعة" عن نسبهم، وفيهم "دغفل"، وكان غلاماً إذ ذاك، فلما انتهى أبو بكر من استجوابهم، سأله "دغفل" عن نسبه، فافحمه.

وقد اشتهر "دغفل" في النسب، حتى ضرب به المثل في النثر وفي الشعر بسعة علمه به، وقد ذكره "الفرزدق" بقوله: أوصى عشية حين فارق رهطه  عند الشهادة في الصحيفة دغفل 

ان ابن ضّبة كان خـير والـداً  وأتم في حسب الكرام وَأفضل

ونجد اسمه في شعر شعراء آخرين.

وكان ممن أدرك النبي، ولم يسمع منه. واسمه "الحجر بن الحارث" الكناني؛ ودغفل لقب له.

وكان "صحار" العبدي من النسابين البلغاء، وله مع "دغفل" محاورات. وكان من المقربين إلى معاوية ومن المطالبين بدم "عثمان".

و "صعصعة" بن صوحان" العبدي، وكان مسلماً في عهد رسول الله ولم يره. وشهد صفين مع "علي"، وكان خطيباً فصيحاً، له مع معاوية مواقف. "قال الشعبي: كنت أتعلم منه الخطب". وله اخوة، منهم "سيحان بن صوحان" العبدي، كان أحد الأمراء في قتال في اهل الردة ومنهم "زيد بن صوحان" وكان سيداً على قومه، وقد شهد الجمل مع "علي".

ومن نسابي "كلب": "محمد بن السائب" الكلبي، وابنه "هشام بن محمد بن السائب"، و "شرقي بن القطامي"، و "الشرقي بن القطامي"، اسمه "الوليد بن الحصين"، وقد اتهم بالكذب. وقد ذكر "الجاحظ" و "ابن النديم" أسماء عدد ممن عرفوا باشتغالهم بالأنساب.

وقد برز بعض النسابين في ذكر مثالب الناس، وقد كان "عقيل بن أبي طالب" منهم، كما ذكرت. ويذكر إن "زياد بن أبيه" كان أولى من ألّف كتاباً في المثالب، ودفعه إلى ولده، قائلاً لهم: استظهروا به على العرب فإنهم يكفون عنكم. ومن طلاب المثالب وناشرها بين الناس "أبو عبيدة معمر بن المثنى" التيمي، من تيم قريش. وكان مكروهاً فلما مات لم يحضر جنازته أحد، لأنه لم يكن يسلم منه شريف ولا غيره.

وعدّ الشعر عند أهل الجاهلية علماً من علومهم، يقوم عندهم "مقام الحكمة وكثير العلم"، "ولم يكن لهم شيء يرجعون إليه من أحكامهم وأفعالهم إلا الشعر. فيه كانوا يختصمون وبه يتمثلون، وبه يتفاضلون ويتقاسمون، وبه يتناضلون، وبه يمدحون ويعابون". وقد أوردوا أسماء أشخاص عرفوا بسعة علمهم وبتبحرهم بالشعر.

الملاحن والألغاز

ومما أثر عن أهل الجاهلية مما يتعلق باستعمال الذكاء والفطنة واختبار العلم، الملاحن والألغاز. واللحن عند العرب الفطنة. وقد وضع "ابن دريد" كتاباً في الملاحن، سماه: "كتاب الملاحن". وقد كانت العرب تتعمد الملاحن وتقصدها، إذا أرادت التورية أو "التعمية". وقد ذكر أهل الأخبار أنهم استعملوها استعمال "الشفرة"، أو الرسائل السرية المعماة في نقل الأخبار، كالذي رووه من أن طيئاً أسرت رجلاً شاباً من العرب، فقدم أبوه وعمه ليفدياه، فاشتطوا عليهما في الفداء، فأعطيا لهم به عطيّة لم يرضوها، فقال أبوه: لا والذي جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبلي طيء لا أزيدكم على ما أعطيكم، ثم انصرفا.

فقال الأب للعم: لقد ألقيتُ إلى ابني كليمة، لئن كان فيه خير لينجون. فما لبث أن نجا وأطرد قطعة من إبلهم، فكأن أباه قال له: إلزم الفرقدين على جبلي طيء فإنهما طالعان عليهما لا يبغيان عنه.

ورووا قصصاً أخرى من هذا القبيل، تحلل تحايل اناس إذ ذاك في كيفية إبلاغ خبر، أو ايصال رسالة من أسير وقع في أسر، أو من شخص اعتدى عليه، أو من رجل طعن، فأراد ابلاغ قومه باسم طاعنه. فيعمد الشخص إلى الكلام المعمى الدال على سذاجة، لإيصاله إلى أهله، لعلمه بأن في وسع أهله استنباط ألغازه وحل معماه.

أما الألغاز، فهي لامتحان الذكاء في الغالب، ولتمضية الوقت والتسلية. وتكون شعراً كما تكون نثراً. و "الأُلغوزة" ما يعمى به من الكلام.

الفصل السادس والعشرون بعد المئة
الفلسفة والحكمة

أما مؤلفات في العلوم والفلسفة، منقولة عن اليونانية أو اللاتينية الى العربية، فلا أدري أن أحداً من أهل الأخبار ذكر وجودها. عندهم بلغة بني إرم، أو بلغة اليونان، ذلك لأن المثقفين وأصحاب الرأي والعزم كانوا على اتصال بالعالم الخارجي، وكانوا يدارسون الأعاجم ويأخذون عنهم، وقد درس بعضهم في مدارس الفرس والعراق وبلاد الشام، ولغة الدراسة في تلك البلاد السريانية واليونانية والفارسية، فلا يستغرب أن يكون من هؤلاء منَ درس بلغة من هذه اللغات في الحجاز أو في اليمن. أما في بلاد العراق وبلاد الشام، فالأمر لا يحتاج فيها إلى نظر، فقد رأينا أن عربهما أسهموا في الحركة العلمية قبل الإسلام لكنهم أسهموا بلغة السريان، لا باللغة العربية لأن العربية لم تكن عربيه واحدة يومئذ، وانما كانت جملة لهجات، ثم إنها كلها، لم تكن قد وصلت إلى درجة من الاستعمال والانتشار تجعلها لغة للترجمة وللتأليف.

الحكمة

واما "الحكمة"، فقد ذكر أهل الأخبار أمثلة عديدة منها زعموا انها لحكماء جاهليين، اوردوا أسمائهم، ولكنهم لم يفيضوا في بيان سيرهم وتراجم حياتهم، بعض ما نسب اليهم سجع قصير، وبعضه كلام منظوم وبعضه مثلٌ زعم انهم ضربوه فسار بين الناس.

وقد اشتهر الشرق بالحكمة، وهو ما زال على جبه لها باعتبارها أداة للتعليم والتثقيف. والحكيم، هو "حكيمو" Hakimo في الإرمية، بمعنى عالم. ونرى في التوراة اصحاحات مثل: الأمثال وأيوب ونشيد الأنشاد وغيرها، ملئت حكمة. والحكيم هو "حكميم" عند العبرانيين. وأما الحكمة، فهي: "حوكماه" "حوكمه" Hokhmah.

و "الحكيم" في تعريف علماء اللغة العالم وصاحب الحكمة، المصيب برأيه، الذي يقضي على شيء بشيء، فيقول: هو كذا وليس بكذا. وهو الذي يحسن دقائق الصناعات ويتقنها. وقد ورد في الحديث: إن من الشعر لحكماً، أي إِن في الشعر كلاماً نافعاً يمنع من الجهل والسفه وينهى عنهما، قيل أراد به المواعظ والأمثال التي ينتفع بها الناس. ويروى إن من الشعر لحكمة. وقد سمىّ الأعشى قصيدته المحكمة حكيمة، أي ذات حكمة، فقال: وغريبة تأتي الملوك حكيمة  قد قلتها ليقال من ذا قالها

وقالوا إن من معاني: الحكيم الحاكم، وهو القاضي، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها، وان الحكمة: العدل ورجل حكيم، عدل حكيم. وان "المُحكم" هو الشيخ المجرب المنسوب إلى الحكمة، ولذلك يقال للرجل اذا كان حكيماً: قل احكمته التجارب. والحكيم: المتقن للأمور. وفي هذه التعاريف دلالة على انهم كانوا يسمون الحكمة بالتبصر في الأمور، وباستقراء الحوادث ودراستها لاستخراج التجارب منها، والحكم بموجبها، ومن هنا أدخلوا الحكم بين الناس، والنظر في الأحكام في جملة أمور الحكمة.

وليس هذا الرأي، هو رأي العرب وحدهم. فقد كان هذا الرأي معروفاً عند غيرهم أيضاً، فنجد الحكماء عندهم حكاماً محكمون في الخصومات وفي المنازعات: بفضل ما اوتوا من فطنة وصبر وذكاء وعلم، وهي من أهم صفات، الحكم. ونجد في أدب الشرق الأدنى القديم أشخاصاً مثل "أحيقار" الشهير، يجمعون بين الحكم والحكمة، وقد ضرب بهم المثل في نجاحهم في اصدار الأحكام. والحكيم في الشرق بمنزلة الفيلسوف عند اليونان. وما "ارسطو" الفيلسوف اليوناني الشهير وكذلك أفلاطون، غير حكماء في نظر الشرقيين. ولذلك ادخلوا في "الحكماء". والحكيم هو مؤدب ومرشد وواعظ يعظ الناس ويرشدهم في هذه الحياة، وهو خير مستشار في كل شيء، لأنه بفضل ما يملكه من عقل ومن تجربة يستطيع إن يفصل بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ. ولذلك كان الحكماء هداة قومهم واساتذتهم وفلاسفتهم، أقوالهم حكمة للناس ودرس في كيفية السير في العالم.

ولكننا لا نستطيع أن نرادف بين "الحكمة" وبين "الفلسفة". فبين الاثنين فرق كبير في المفهوم ولا يمكن "أن نقول إن الفلسفة بالمعنى اليوناني، هي في مفهوم "الحكمة" عند شعوب الشرق الأدنى. لأن بين الفيلسوف وبين "الحكيم" تباين كبير في اسلوب البحث وفي كيفية التوصل إلى النتائج والمعرفة وفي مفهوم كل واحد منهما لهدف الآخر، وفي الغاية المقصودة من كل منهما، فالغاية من الحكمة العبرة والإتعاظ والأخذ بما جاء فيها من حكم، أي غايات عملية وتأديبية، بينما الغاية من الفلسفة البحث عن معنى الحكمة وعما يكون وراء الطبيعة من خفايا غير مكتشفة وأسرار.

وقد وردت لفظة "الحكمة" في القرآن الكريم. وقد ذكر العلماء أن الحكمة اسم للعقل، وإنما سمي حكمة لأنه يمنع صاحبه من الجهل. فالحكمة إذن، هي بمعنى العلم والتفقه. وهي بذلك ذات حدود واسعة، بل لا نكاد نجد لها حدوداً معينة فاصلة، فقد شملت أموراً كثيرة، اطلقت على رجال اشتهروا بالحكم بين الناس، أي بالبت فيما ينشأ بينهم من شجار وخصومة. وأطلقت على أناس ذكر أنهم كانوا كهاناً، وأطلقت على جماعة عرفت بأن لها رأياً في الدين، وأطلقت على نفر كان لهم رأي في المعالجة والتطبيب، وأطلقت على نفر عرفوا بقراءة الكتب القديمة، أي الكتب السماوية وغيرها مما كان عند يهود والنصارى وعند الروم والفرس، وأطلقت على غير ذلك، فهي إذن كما ترى ذات معان واسعة شاملة.

ويلاحظ إن القرآن الكريم، قد اورد لفظة "الحكمة" بعد لفظة "الكتاب" وفي حالة العطف، أي على هذه الصورة: "الكتاب والحكمة"، واستعملها بعد لفظة "الملك" في الآية: )وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء(. واستعملها مفردة كما في )يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً(، وفي مواضع أخرى. وقد ذهب المفسرون إلى إن المراد من الكتاب القرآن، ثم اختلفوا في معنى الحكمة، فمنهم من قال انها السنة، ومنهم من قال المعرفة بالدين والفقه، ومنهم من قال: الحكمة العقل في الدين، أو الاصابة في القول والفعل، إلى غير ذلك من أقوال، تدل على إن تفسيرها بمعنى السنة والتفقه في الدين من التفسيرات التي ظهرت في الإسلام. أما معناها عند الجاهليين، فكان بمعنى الخبرة المكتسبة من الملاحظات العميقة إلى الأشياء، أو المستخلصة من التجارب، وبمعنى العلم والرأي الصائب. وبهذا المعنى جاءت الحكمة عند الساميين. فقد كان الحكيم عندهم العالم الذكي الفطن الذي ينظر بعين البصيرة إلى أعماق الأمور بتؤدة وتبصر وأناة، فيبدي رأيه في كل شيء في هذه الحياة، من سياسة واقتصاد، ومن أمور تخص السلم أو الحرب، أو الخدع. والحكم بين الناس. ولهذا كان الحكماء في أعلى الدرجات في مجتمعهم من ناحية الثقافة والرأي.

ويظهر من دراسة ما ورد في المؤلفات الإسلامية عن الحكمة والحكماء أن الجاهليين أرادوا بالحكمة حكايات وأمثلة فيها تعليم ووعظ للانسان، يقولونها ليتعظ بها فما حياته وليسير على وفق هدى هذه الحكم. وهي حكم حصلت من تجارب عملية، ومن ملاحظات وتأملات في هذه الحياة. ولهذا نسبوا الحكمة إلى أناس مجربين أذكياء لهم صفاء ذهن وقوة ملاحظة مثل: "أكثم بن صيفي" و "قس بن ساعدة الإيادي" وغيرهما ممن سيأتي الكلام عليهم وروي أن "عمر ابن الخطاب" قال لكعب الأحبار وقد ذكر الشعر: "يا كعب، هل تجد للشعراء ذكراً في التوراة? فقال كعب: أجد في التوراة قوماً من ولد اسماعيل، أناجيلهم في صدورهم، ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلا العرب". فالعرب هم اصحاب حكمة وأمثال على رأي "كعب الأحبار" إن صح إن هذا القول المنسوب إليه هو من أقواله حقاً، والأمثال باب من أبواب الحكمة، بل تكاد تؤدي معناها عند الجاهليين، فالحكيم عندهم هو الذي ينطق بالحكم يقرنها بالأمثال، وبالقصص والنوادر.

وإذا بحثت عن الحكمة في العهد القديم تجدها في الأمثال، وفي سفر أيوب، وفي نشيد الانشاد، وفي سفر الجامعة والحكمة وفي "سيراخ"، وفي حكمة "سليمان" التي هي في المزامير. وهي أمثال في الغالب نبعت من تجارب أخذ العبرانيون بعضها من غيرهم،ونبع بعض آخر من تجاربهم الخاصة، وظهرت عندهم أمثال إنسانية عامه تخطر على بال كل إنسان، فهي عامة مشتركة، لم يأخذها قوم من قوم، وإنما هي خاطرات وتجارب تظهر لكل إنسان، فضرب بها المثل في كل لسان.

ونحن لا نملك في هذا اليوم كتابة جاهلية، فيها حكم من حكم الجاهليين.

وكل ما ورد الينا من حكمهم مأخوذ من موارد اسلامية. ولذلك صار كلامنا على الحكمة في الجاهلية مثل كلامنا على سائر معارف الجاهليين، ضيفاً محدوداً، منبعه ما ورد عنها عند المسلمين.

ويظهر من بعض الحكم المنسوبة إلى الجاهليين، انها ترجع إلى أصل يوناني، حيث نجدها مدونة في كتب فلاسفتهم مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو، مما يدل على انها دخلت إلى العربية عن طريق الترجمة من اليونانية أو من السريانية، وعن طريق بلاد الشام في الأغلب، حيث كانت الثقافة اليونانية قد وجدت لها سبيلاً هناك، بحكم خضوعها لليونانيين قبل الميلاد وبعد الميلاد، وبحكم وجود جاليات يونانية كبيرة هناك.

ويظهر من دراسة بعض آخر من الحكم المنسوبة إلى الجاهليين انها من أصل فارسي. ولا يستبعد أن تكون قد دخلت من الأدب الفارسي القديم إلى عرب العراق، وقد عاشوا قبل الإسلام في اتصال وثيق مع الفرس. وكان بعض العرب قد أتقنوا الفارسية وأجادوا فيها، كما إن من الفرس من كان قد تعلم العربية وبرع فيها. ثم إن بين ذوقي العرب والفرس تشابه في نواح من الأدب، ولهذا كان أثر الأدب الفارسي في الأدب العربي أكبر وأظهر من أثر الأدب اليوناني فيه.

ونجد في الحكم المنسوبة إلى "أحيقار"، شبهاً لها في الحكم العربية القديمة، وترجمة أصيلة لبعض حكمه أحياناً. خذ قوله: "يا بني إذا أرسلت الحكيم في حاجة، فلا توصه كثيراً، لأنه يقضي حاجتك كما تريد. ولا ترسل الأحمق، بل امضِ أنت واقض حاجتك". ولو درست بقية حكمه، وما ورد في الحكم المنسوبة إلى الجاهليين، ترى شبهاً كبيراً في المعنى بل في اللفظ في الغالب، مما يدل على انها ترجمة أُخذت من السريانية فعربت ونسبت إلى الجاهليين، أو أن الجاهليين وقفوا عليها فصاغوها بلسانهم، فنسبت اليهم. واكر حكمه موجهة إلى ابن اخته "نادان"، حيث يعظه فيقول: "يا بني...".

غير أن علينا ألا ننسى، بان من الحكم، ما هو عام، يرد على خاطر أغلب الشعوب، وعلى لب أكثر الناس، حتى وإن لم يكونوا من المثقفين الدارسين. لأنه مما يتشارك فيه العقل الإنساني، فيكون عالمياً إنسانياً. ولهذا، فنحن لا نستطيع إن نردّه إلى أحد، ولا أن نرجه إلى مرجع معين. ولا نستطيع أن نقول إن العرب اخذوه من غيرهم، أو إن الأعاجم أخذوه من العرب. بسبب ما ذكرته من كونه من نتاج عقل واحد، هو القاسم المشترك بين عقول الإنسان.

واذا صح ما روي من أن "سويداً بن الصامت" المعروف ب "الكامل"،   

كان يملك "مجلة لقمان"، وقد أراها الرسول مقدمه عليه بمكة، وما ذكر من انها كانت في الحكمة. فتكون هذه المجلة، أو الكتاب، أقدم شيء يصل اسمه الينا من الكتب التي تداولها أهل الجاهلية. ولم يذكر الرواة -ويا للاسف - محتويات تلك المجلة ونوع الحكم التي احتوتها.

فقد روي "إن سويد بن صامت قدم مكة حاجاً أو معتمراً، وكان سويد انما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشرفه ونسبه ... فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين سمع به، فدعاه إلى الله والاسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما الذي معك? قال: مجلة لقمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعرضها علي، فعرضها عليه، فقال له: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله عليّ هو هدى ونور. فتلا عليه رسول الله القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه. وقال: إن هذا لقول حسن. ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث إن قتلته الخزرج" وكان قتله قبل يوم بعاث.

والمجلة: الصحيفة فيها الحكمة، وكل كتاب عند العرب مجلة، وقيل: "كل كَتاب حكمة عند العرب مجلة". قال النابغة: مجلتهم ذات الإلـه ودينـهـم  قويم فما يرجون غير العواقب 

وبالنظر الى اشتهار لقمان في الأدب العربي بالحكمة عن طريق ضرب الأمثال، ونظراً لظهور أمثال كثيرة في الإسلام نسبت إليه، فإن من المحتمل أن تكون تلك المجلة التي زعم أنها كانت عند "سويد" مجموعة من حكم وأمثال، لا ندري من جمعها فنسبها إليه، لعدم اشارة أهل الأخبار إلى ذلك، ولا يستبعد أن تكون هذه الأمثال من الأمثال المنتزعة من التوراة أو من الإنجيل أو من كليهما، فدوّنت في مجلة أي في كراسة أو كتاب فنسبها أهل الأخبار إليه، نظراً لما جاء في القرآن الكريم من نسبة الحكمة إليه. وقد تكون تلك المجلة من حكم الحكيم "أحيقار"، الحكيم الشهير صاحب الأمثال الذي كان مقرباً إلى الملك "سنحاريب" ومستشاراً له. فله في أدب "بني إرم" ذكر خاص، وله أمثال في الإرمية طبعت ترجمت الى جملة لغات. وعرفت أمثاله في العربية كذلك، في أيام الجاهلية، فأشار "عدي بن زيد العبادي" إليه والى قصته.

ولقمان: شخصية ذكرت في القرآنن وفي القرآن الكريم سورة سميت باسمه. ووروده في كتاب الله، دليل على وقوف الجاهليين بقصصه وشيوع خبره وأمره بينهم. وفي في كتب التفسير والأدب والأخبار وكتب المعمرين قصصاً عنه. وقد عرف ب "لقمان الحكيم". وقد بحث عنه المستشرقون، وحاولوا تحليل القص الوارد عنه وارجاعه إلى أصوله. وقد بحث في ذلك المحدثون في مصر وفي غير مصر من البلاد العربية.

قال "الجاحظ": "وكانت العرب تعظم شأن لقمان بن عاد الأكبر والأصغر لقيم بن لقمان في النباهة والقدر، وفي العلم والحكم، وفي اللسان والحلم، وهذان غير لقمان الحكيم المذكور في القرآن على ما يقوله المفسرون. ولارتفاع قدره وعظيم شأنه، قال النمر بن ثولب: لقُيم بن لقمان من أختـه  فكان ابن أخت له وابنما 

ليالي حمق فاستحضنت  عليه فغُرّ بها مظلمـا

فغرّ بها رجل محكـم  فجاءت به رجلاً محكما 

وقد أشار "المسيب بن علس" إلى "لقمان" في شعره، كما ذكره "لبيد ابن ربيعة" الجعفري في شعره كذلك، واشار إليه "يزيد بن الصعق" الكلابي في شعر هو: اذا ما مات ميت من تمـيم  فسرّك أن يعيش فجئ بزادِ 

بخبز أو بلحم أو بـتـمـرٍ  أو ألشئ الملفّف في البجاد

تراه يطوف الآفاق حرصاً  ليأكل رأس لقمان بن عادِ

وقيل إن هذا الشعر هو لأبي مهوش الفقعسي.

وورد ذكر "لقمان" في شعر "أفنون" التغلبي، وفي شعر "سليمان بن ربيعة بن دباب بن عامر بن ثعلبة"، وفي شعر شعراء آخرين.

وعرف لقمان عند الجاهليين كذلك بالنباهة والذكاء وبالعلم وبقوة اللسان والحلم وبخلال أخرى يرون أنها من سجايا الحكماء، حتى زعم أن أختاً له، وكانت مُحَمَّقة، تحايلت عليه، فاتصلت به اتصال الزوجات، طمعاً في الحصول على ولد ذكي حكيم منه يكون على شاكلته، فأحبلها بولد عرف ب "لقيم"، ذكر في شعر ينسب إلى النمر بن تولب. ولأهل الأخبار قصص عنه وعن أخت لقمان.

و ذكر "الجاحظ" أن "لقمان"قتل ابنته، وهي صحر أخت لقيم، وقال حين قتلها: ألستّ امرأة! وذلك أنه كان قد تّزوج عدة نساء، كلهن خنّه في أنفسهن، فلما قتل أخراهن ونزل من الجبل، كان أول من تلقاه صحر ابنته، فوثب عليها فقتلها وقال: وأنت أيضاً امرأة! وللجاحظ قصص عنه.

وفي سورة "لقمان"، )ولقد آتينا لقمان الحكمة: إن يشكر لنفسه، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني حميد. وإذَ قال لقمان لابنه، وهو يعظه: يا بني لا تشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم". فلقمان إذن "حكيم من الحكماء، و هب الحكمة وصواب الرأي. له ولد وعظه ونصحه.

وفي كتب قص الأنبياء وكتب الأخبار والأدب وصايا للقمان، وعظ بها ابنه، وأدبه، هي قطع في التأديب وفي قواعد السلوك.

وفي جملة ما رواه أهل الأخبار من حكمه إن مولاه قال له يوماً "اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها. قال: أخرِج أطيب مضغتين فيها،فأخرج اللسان والقلب. ثم مكث ما شاء الله، ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها. فقال: اخرج أخبث مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب. فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها، فأخرجتهما، وأمرتك إن تخرج اخبث مضغتين فيها فأخرجتهما. فقال له لقمان: انه ليس من شيء أطيب منهما اذا طابا، ولا أخبث منهما اذا خبثا".

وقد ذكر أهل الأخبار امرأة يقال لها: "صحر بنت لقمان"، قالوا: انها اشتهرت بالعقل والكمالُ الفصاحة والحكمة، وان العرب كانت تتحاكم عندها فيما ينوبهم من المشاجرات في الأنساب وغيرها، قالوا انها كانت ابنة لقمان، منهم ما زعم انها اخته لا ابنته.

ُذكر أهل الأخبار لن "لقمان" هو ممن أمن ب "هود"، وأما لقمان المذكور في القرآن، فهو غيره. وكان لقمان القرآن ابن أخت أيوب، أو ابن خالته، وقيل كان من ولد"آزر" ت وأدرك داوود وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داوود، فلما بعُث قطع الفتوى، وكان قاضياً في بني اسرائيل، وكان حكيما ولم يكن نبياً. وورد انه كان راعياً أسود، فرزقه الله العتق، وقيل: كان اسود من سودان مصر خياطاً، وقيل كان نجاراً. وذكر "الجاحظ": أن "لقمان" من السودان، وهو الذي يقول: ثلاثة لا تعرفهم إلا عند ثلاثة: الحليم عند الغضب، والشجاع عند الخوف، والأخ عند حاجتك.

وقال. لابنه: إذا أردت أن تخالط رجلاً فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك وإلا فأحذره.

ولم يرووا ذلك عنه الا وله أشياء كثيرة. وأكثر من هذا مدح الله إياه وتسميته الحكيم، وما أوصى به ابنه".

ويشبه قصص "لقمان" وما يضرب على لسانه من أمثال، قصص "ايسوب" عند الأوروبيين، وهو الباحث عن الحكمة عن طريق ضرب الأمثال وقول الألغاز والقص. وقد رأى بعض الباحثين أن لأمثال لقمان وحكمه صلة ب "احيقار". وذهب بعض المستشرقين إلى وجود صلة بين لقمان وبين بعض الشخصيات القديمة التي يرد اسمها في الأدب القديم مثل Prometheus و Alkmaion و Lucian و "سليمان"، وبلعام.

وقد ضرب "ابو الطمحان حنظلة بن الشرقي القيني" المثل بتشتت حي لقمان، وبتفوقهم أفراقاً اذ يقول: أمست بـنـو الـقـين افـراقـاً  موزعة كأنهم من بقايا حي لقمان 

وقد اشتهر "سليمان" عند العرب بالحكمة أيضاً، فعرف عندهم ب "سليمان الحكيم"، وقد تشير إليه في القرآن الكريم. وكان اليهود والنصارى هم نقلة أخبار هذه الحكمة إلى الوثنيين. وكان يهود المدينهّ مصدر هذه الأخبار بالدرجة الأولى، فقد كانوا بحكم اختلاطهم بأهل يثرب قد أذاعوا بينهم قصصاً اسرائيلياً، ومنه قصص داوود وسليمان.

و"سليمان" أحكم الحكماء عند اليهود، يذكرون "إن حكمته فاقت حكمة جميع العلماء في عصره. وكان أحكم من جميع الناس". ويذكرون انه ألف الأمثال. ونطق بثلاثة ألاف مثل، وألف خمس نشائد. ووضع نشيد الأنشاد الجامعة. وذاعت حكمهَ سليمان وانتشر خبرها في كل الأنحاء بحيث أتى ألناس من الأباعد ليشاهدوها وكانوا يمتحنونه بمسائل عسرة، في جملتهم ملكة سبأ التي سمعت بحكمته فجاءت تمتحنه كما جاء ذلك في التوراة.

وتقترن لفظة "مجلة" عادة بالحكمة. قال علماء العربية: "والمجلة، بفتح الميم، الصحيفة فيها الحكمة"، وقد تتألف من "صحف". و "الصحيفة" الكتاب. وذكر علماء اللغة إن "الوضيعة: كتاب تكتب فيه الحكمة.. وفي الحديث انه نبي وان اسمه وصورته في الوضائع".

وقد ذكر أهل الأخبار أن "قيس بن نشبة"، كان منجماً متفلسفاً في الجاهلية. وهو ممن ادرك أيام الرسول. وذكر أنه من "بني سُليَم"، وانه كان يعرف الرومية والفارسية ويقول الشعر. وانه جاء إلى الرسول "بعد الخندق فقال: إني رسول من ورائي من قومي، وهم لي مطيعون واني سائلك عن مسائل لا يعلمها إلا من يوحى إليه فسأله عن السموات السبع وسكانها وما طعامهم وما شرابهم، فذكر له السموات السبع والملائكة وعبادتهم، وذكر له الأرض وما فيها فأسلم ورجع إلى قومه، فقال: يا بني سليم قد سمعت ترجمة الروم وفارس وأشعار العرب والكهان ومقاول حمير، وما كلام محمد يشبه شيئاً من كلامهم فأطيعوني في محمد فإنكم أخواله فإن ظفر تنتفعوا به وتسعدوا وإن تكن الأخرى، فإن العرب لا تقدم عليكم. فقد دخلت عليه وقلبي عليه أقسى من الحجر، فما برحت حتى لان بكلامه. وقيل عنه إنه كان يتأله في الجاهلية وينظر في الكتب، فجاء إلى الرسول لما سمع به، وسأله، فامن به. ولعلمه سماه رسول الله: "حبر بني سُليم"، وكان إذا افتقده يقول: يا بني سليم أين حبركم. وهو عم الشاعر العباس بن مرداس، أو ابن عمه، ولما أسلم قال: قال هذه الأبيات: تابعت دين محمد ورضيتـه  كل الرضا لأمانتي ولديني

ذاك امرؤ نازعته قول العدا  وعقدت فيه يمين بيمينـي

قد كنت آمله وانـظـر دهـره  فالـلـه قـدر أنـه يهـدينـي

أعني ابن آمنة الأمين ومن بـه  أرجو السلامة من عذاب الهون 

وذكر أنه كمان قد قدم مكة في الجاهلية فباع إبلاّ له فلواه المشتري حقه، فكان يقوم فيقول: يا آل فهر كنت في هذا الحـرم  في حرمة البيت وأخلاق الكرم 

أظم لا يمنع مني من ظـلـم

فسمع به عباس بن مرداس، فكتب إليه أبياتاً منها: وائت البيوت وكن من أهلها ودداً  تلق ابن حرب وتلق المرء عباسا 

فقام العباس بن عبد المطلب واخذ له بحقه. وقال: أنا لك جار ما دخلت مكة، فكانت بينه وبين يني هاشم مودة.

وذكر إن "أبا العاصي بن امية بن عبد شمس"، كان حكيماً. وقد عد من حكماء قريش وشعرائهم. كما ذكر إن "الحكم ين سعيد بن العاص بن أمية" الأموي، كان من الكتاّب بمكة في الجاهلية، والذي علم الكتابة بالمدينة بامر الرسول، كان يعلم الحكمة " وذكر "ابن حبيب"، ان "الحكم بن سعيد" كان من أمراء الرسول "على قرى عربية"، وذكر أيضاً إن الرسول سماه "عبد الله وجعله يعلم الحكمة"، وقد استشهد يوم مؤتة.

ويظهر إن الحكمة المنسوبة إلى "قيس بن نشبة"، أو إلى "الحكم بن سعيد" كانت نوعاً من العلوم الي يدرسها الفلاسفة والحكماء في ذلك الوقت، أي علوماً يونانية، وتأملات وملاحظات عن هذا العالم، فهي دراسة منظمة تختلف في طرازها عن الحكمة القائمة على القصص وضرب الأمثال. وقد تكون قد اخذت من الكتب اليونانية أو السريانية، أو الفارسية، فقد رأينا أهل الأخبار. يذكرون إن "قيس بن نشبة" كان يعرف الرومية والفارسية، كما ذكروا مثل ذلك عن النضر بن حارث بن كلدة وعن الأحناف، وأنا لا أستبعد احتمال ذلك، لأن بعضهم كان قد وصل العراق وبلاد الشام وخالط الأعاجم، كما كان من الأعاجم من سكن مكة والقرى العربية الأخرى لأغراض مختلفة، ومنهم من كان على فقه بعلوم قومه، ومعرفة علمية بلغتهم، فلا يستبعد اذن تعلم من كان فيه ميل من العرب إلى العلم والثقافة،العلم والفلسفة والنظر من تلك البلاد التي زاروها، ومن هؤلاء.

وذكر إن "النضير ين الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف"العبدري القرشي كان من حكماء قريش. وقد استشهد يوم اليرموك في رجب سنة خمس عشرة. وكان أخوه "النضر بن الحارث"، شديد العداوة للرسول، فقتله علي يوم بدر كافراً، قتله بالصفراء.

وروى "عمران بن حصين"، "عمران بن الحصين"، حديثاً عن رسول الله، هو: "الحياء لا ياتي إلا بخير"، فقال " بشير بن كعب، وكان قد قرأ الكتب: إن في الحكمة: أن منه ضعفاً. فغضب عمران، وقال: أحدثك: لما سمعت من النبي، وتحدثني عن صحفك هذه الخبيثة". ويظهر إن "بشيراً" هذا كان ممن طالع كتب أهل الكتاب ووقف على الحكمة.

وقد ذكر الأخباريون أسماء أناس آخرين عرفوا بالحكمة كذلك، مثل: أكثم بن صيفي التميمي، من رؤساء تميم ومن "حكام العرب". ويلاحظ أن الأخباريين يخلطون في الغالب بين الحكيم والحاكم، فيجهلون "حكّام العرب" من "حكماء العرب" ويذكرون أحكامهم في باب. كذلك نسبوا معظم خطباء الجاهلية إلى الحكمة كذلك، مما يدل على أن للحكمة عند الأخباريين معنى واسعاً، يشمل كل ما فيه عظة وتعليمٌ. وقد كان العبرانيون وبقية الساميين يجعلون الحكام من طبقة الحكماء، لأن الحاكم لا بد وان يكون حكيماً، أي مدركاً فطناً نافذاً إلى بواطن الأمور، يحكم عن عقل ناضج وعن رأي مصيب، فهم اولى وأقدر على ابداء الأحكام الصحيحة من غيرهم، ولهذا نجد ارتباطاً كبيراً في المعنى وفي اللفظ بين لفظتي حاكم وحكيم.

ومن حكام العرب الذين ذكرهم أهل الأخبار، ونسبوا اليهم الحكم والاصابة في الرأي وصدق الأحكام "عامر بن الظرب العدواني" حكيم قيس، وقد عدوه "من حكماء العرب، لا تعدل بفهمه فهماً ولا بحكمه حكمآً". وقالوا: انه هو المراد في قول العرب: "إن العصا قُرعت لذي الحلم". أما "ربيعة"، فتقول: انه "قيس بن خالد بن ذي الجدّين". وأما تميم، فتنسب هذا الفخر إلى رجل منها هو "ربيعة بن مخاشن أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم". وأما اليمن، فتقول: انه "عمرو بن حممة الدوسي"، ويذكر بعض، آخر إنه "عمرو بن مالك بن ضبيعة، أخو سعد بن مالك الكناني".

وفي كتاب "العقد الفريد"، قصة اجتماع وقع بين عامر بن الظرب العدواني وحممة بن رافع الدوسي وبين ملك من ملوك حمير، ورد فيها: أن الملك قال لهما: تساءلا، حتى أسمع ما تقولان ? ودوّن رواة هذه القصة ما جرى في الاجتماع من أسئلة وأجوبة. ومدارها خاطرات عن الحياة وعن الناس وعن الأدب، بالسجع المألوف. ومما جاء فيها إن أحكم الناس " من صمت فاذّكر، ونظر فاعتبر، ووعظ فازدجر"، وان أجهل الناس من رأى الخُرق مغنما"، والتجاوز مغرماً".

وذكر أنه كل إن قد جمع قومه "عدوان"، فنصحهم بقوله: " يا معشر عدوان: الخير ألوف عروف، وإنه لن يفارق صاحبه حتى يفارقه، وإني لم اكن حكيما حتى صاحبت الحكماء، ولم أكن سيدكم حتى تعبدت لكم. وكان كما يقول "ابن حبيب"، آخر حكام العرب وقضاتهم وأئمتهم قبل انتقال الحكومة إلى "بني تميم" بعكاظ، وروي له حكم في "الخنثى"، وأيد الإسلام حكمه. ورووا له شعراً في الخمر، يقول فيه: إن أشرب الخمر أشربها للذتها  وإن أدعها فإني ماقـت قـال

لولا اللذاذة والفتيان لـم أرهـا  ولا رأتني إلا من مدى الغـالَ

سئالة للفتى ما ليس يمـلـكـه  ذهابة بعقول القوم والـمـال

مورثة القوم أضغاثاً بلا احـن  مزرية بالفتى ذي النجدة الحال

أقسمت بالله أسقيها وأشربـهـا  حتى يفرق ترب القبر أوصالي 

وفيه يقول ذو الاصبع العدواني: ومنا حكـم يقـضـي  فلا ينقضي ما يقضى 

ومن حكمه: "الرأي نائم، والهوى يقظان، فمن هناك يغلب الهوى الرأي".

وله جواب على خطاب "صعدة بن معاوية" حين جاء إليه يخطب ابنته. وكانت له بنت عدت من حكيمات العرب، حتى جاوزت في ذلك مقدار "صحر بنت لقمان"، و "هند بنت الخس"، و "جمعة بنت حابس ين مُليل" الاياديين.

وذكر أهل الأخبار أن من حكام تميم في الجاهلية: أكثم بن صيفي، وحاجب ابن زرارة، والأقرع ين حابس، وربيعة بن مخاشن، وضمرة بن ضمرة. ويذكرون إن "ضمرة" حكم، فأخذ رشوة، فغدر. والغدر عيب كبير، ومن أذم الصفات عند الجاهليين.

وقد نسب أهل الأخبار حكماً وأمثلة لأكثم بن صيفي، منها المثل: "مقتل الرجل بين فكّيه" يعني لسانه، ومن الأقوال المنسوبة إليه، قوله: " تفاءوا في الديار، وتواصلوا في المزار"، وقوله: "تباعدوا في الديار تقاربوا في المودة". وقد عد أسلوب كلامه من أرشق أساليب الفصحاء، ومن أحكم كلام، فيه. نصائح وحكم مع بلاغة متناهية وضاحة. ونسبوا له خطباً منمقة هو في نظري من هذا النثر المصنوع، الذي وضع على لسانه في الإسلام.

وقد اشتهرت. "تميم" بكثرة حكمائها، ونلاحظ إن هؤلاء الحكماء كانوا حكاماً كذلك، محكمون بين الناس فيما يقع بينهم من شجار. ومعنى هذا إن بين الحكمة والحُكم عند العرب الجاهليين صلة متينة. وقد رأيت إن تميما كانت قد احتكرت لنفسها الحكومة في سوق عكاظ على ما يذكره أهل الأخبار. وهم من القبائل المتقدمة.بالنسبة إلى القبائل الأخرى التي كانت عند ظهور الإسلام، انتقلت إليها هذه الحكومة من "بني عدوان"، الذين كان آخر حكامهم "عامر بن الظرب" العدواني.

وقد كان لاتصال أهل الأخبار بتميم، دخل ولا شك في كثرة أسماء حكمائها التي وصلت الينا من خلال دراستنا لكتبهم، فقد كان اتصالهم بها اكثر من اتصالهم. بأية قبيلة أخرى، لوجودها على مقربة من الكوفة والبصرة، ولذلك أكثروا اللغة عنها، حتى صرنا نعرف من أمور نحوها ولغتها ما لا نكاد نعرفه عن نحو ولغة أية قبيلة اخرى. ولرجال تميم خطب طويلة، في الحكم، هي تأملات وخاطرات وضعت على ألسنتهم في الإسلام، إذ لا يعقل كما سبق أن قلت في مواضع متعددة من هذا الكتاب وصول نصوص نثر، بهذا النوع من الضبط والتحري عن أهل الجاهلية حتى نحكم بصحة نصوص ما نسب إلى حكماء تميم. نعم قد يقول قائل، إن. الشاعر "بشر بن ابي فحازم" كان قد أشار إلى "كتاب بني تميم"، فلا يستبعد أن يكون "بنو تميم" قد سجلوا خطب وأشعار سادتهم فيه، ولكني أقول إن من العلماء من نسب هذا الشعر إلى "الطرماح ابن حكيم" وهو شاعر إسلامي، توفي في حوالي السنة "155"، واننا حتى "بني تميم"، فإننا لا نستطيع إن ناخذ بالظن، ونقول بصحة مثل هذه الخطب للمنسوبة إلى خطباء وحكماء تميم لمجرد وجود اشارة إلى كتاب عندهم لا نعرف من امره شيئاً، غير اشارة إلى اسمه وردت في شعر، لا ندري مبلغ درجته من الصحة والاصالة.

وممن نسبت إليه الحكمة "الأفوه الأودي"، وهو شاعر اسمه "صلاءة بن عمرو" من "أود". وله قصيدة عالية، فيها رأيه في الحكم وفي الناس وفي الخير والشر وذكر انه هو القائل: ملكنا ملك لـقـاح أول  وأبونا من بني أود خيار 

والعادة أن تنسب الحكم إلى المسنين، وقلم نجد حكماّ صادرة من شبان وأحداث وذلك ان العقل لا يكمل إلا بتكامل العمر وبتقدم الإنسان في السن، ويتقدمه في السن تزيد تجاربه واختباراته في هذه الحياة، فيكون عندئذ أهلاً للنطق بالحكمة. ولم يكتف أهل الأخبار ببلوغ الحكماء سن الشيخوخة الطبيعية، يل صيروا عمر معظم المعمرين فوق المئة، بل جعلوها مئات. وعمر مثل هذا كفيل بان يكون مصدراً للحكم والأمثال. ونجد في "كتاب المعمرين من العرب" للسجستاني أمثلة من عمر هؤلاء الحكماء.

الفصل السابع والعشرون بعد المئة
الأمثال

و "المثل" لون من الوان الحكمة. وهو يقابل "مشل" في العبرانية،ومعنى آخر هو الحكمة والأساطير والقصص ذو المغزى. ولا يشترط في المثل أن يكون نثراً، فقد يكون شعراً. وفي الموارد الاسلامية امثلة جاهلية كثيرة من النوعين، لم يصل أي مثل منه مدوناً في نص جاهلي.

وللحكماء المذكورين امثلة كثيرة ترد في كتب الأدب والمواعظ والأمثال. وقد شرح غرض ما اصحاب الموارد التي ذكرتها، وتعرض الرواة للقصص المروي عنها. غير إن من الصعب التثبت من صحة نسبة تلك الأمثال إلى أولئك الحكماء. والتثبت من صحة هذا القصص المروي عنها.

وكلمة المثل من المماثلة. وهو الشيء المثيل لشيء يشابهه، والشيء الذي يضرب لشيء مثلاّ، فيجعل مثله، والأصل فيه التشبيه، ويقابله "مشل" "مشال" Mashal في العبرانية، و Parabole " في اليونانية، ومعناها المماثلة والمشابهة، أي المعنى الوارد للفظة في العربية. والغاية من الاهتداء بما فيه من حكمة ومن حسن توجيه، ومثل اخلاقية للسير على هديها في الحياة. وقد ضربت التوراة الأمثال للناس للاتعاظ بها والأخذ بما فيها من عبر. ورد في سفر "حزقيال": "هو ذا كل ضارب مثل يضرب مثلاً عليك قائلا: مثل الأم بنتها"، وجاءت الأمثال في الأناجيل فورد: "في هذا يصدق القول: إن واحداً يزرع وآخر يحصده".

وفد لخص الاصحاح الأول من سفر "الأمثال" الغاية من ضرب الأمثال بقوله: "لمعرفة حكمةّ وادب، لادراك أقوال الفهم، لقبول تأديب المعرفة والعدل والحق والاستقامة، لتعطي الجهال ذكاء والشاب معرفة وتدبراً، لفهم المثل واللغز أقوال الحكماء وغوامضهم: مخافة الرب رأس المعرفة. أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب"،. فالأمور المذكورة، تمثل الغاية التي يتوخاها ضراب الأمثال من الأمثال: وقد جعلت أسفار الأمثال المثل: مخافة الرب راس المعرفة أول أمثالها: وهو في العربية: رأس الحكمة مخافة الله.

ونجد في سفر "امثال" كلاماً للحكماء، هو مزيج من امثلة وحكم وألغاز، دون أن يشير إلى أسماء اصحابه، وفي مثل ذلك في الأدب العربي. وقد اشتهر أبناء الشرق بالحكمة عند العبرانيين.

والمثل بعد، هو عقل ضاربه، وثقافة البيئة التي ظهر فيها. ولهذا نجد الأمثال متباينة مختلفة حسب تنوع القوم الذين ظهر بينهم. ففي البيئة الزراعية يكون المثل من هذه البيئة في الأغلب، وفي البيئة الزراعية يكون المثل مشرباً بروح المزارعين، وفي البادية تكون الأمثال ذات طبيعة بدويهّ. ومن هنا اختلفت أمثال قريش عن أمثال الأعراب، وامثال عرب العراق عن أمثال أهل العربية الجنوبية، وهكذا. ولهذا فإن للمثل في نظر المؤرخ قيمة كبيرة: من حيث انه يرشده إلى مظاهر تفكير من ضرب بينهم، ويعرفه بمبلغ ثقافة قائليه.

ولما كانت الأمثال مرآة لعقلية زمانها ولعقلية من ينسب قول المثل إليه، اومن ضرب به المثل. تباينت في البلاغة وفي قوة التعبير وعمق المعنى، وفي الفكرة، فصار بعضها آية في الحكمة وفي قوهَ البيان وفي عمق المغزى والمعنى، وصار بعض منها بسيطاً تافهاً. ونجد هذه الحالة في أمثال كل الأمم. إذ إن المثل لا يصدر عن طبقة معينة، بل قد يأتي من رجل جاهل بسيد، وقد ينسب إلى غبي بليد أو إلى شخص من سواد الناس اتخذ رمزاً للتعبير عن ناحية من نواحي الحياة، أو نموذجاً يعبر عن طبقة من الطبقات. وانما المهم في رواج المثل وفي بقائه، أن يكون منبعثاً عن واقع حال، معبراً عن رأي سديد، قصير قدر الامكان مركزاً له وقع حسن على السمع، يصح أن يكون مثلاً لكل زمان ومكان. فيروج ويدوم، وقد يتخذ مثلا من امثلة الحكمة، وهو كلما قصر، سهل حفظه وطال عمره.

وافضل المثل السائر، أوجزه، وأحكمه أصدقه، وقولهم: مثل شرود، وشارد، أي سائر لا يرد كالجدل الصعب الشارد الذي لا يكاد يعرض له ولا يرد. وقد تاتي الأمثال محكمة إِذا تولاها الفصحاء من الناس، وإذا جاءت في الشعر، سهل حفظها.

والأمثال مادة مهمة غنية في الأدب الجاهلي والاسلامي. وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة ضربت للناس للتفكر والتعقل، وهي تدل على ما لها من أهمية تعليمية في العقل العربي. والأمثال المضروبة مرجع لمن يربد الوقوف على بعض الأمثلة التي استعملها الجاهليون. وفي الحديث النبوي مادة مهمة يمدّ هذا الباحث بمادة غزيرة عن المثل عند الجاهلين.

و الأمثال من حكمة العرب في الجاهلية والاسلام، وبها كانت تعارض كلامها، فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في النطق بكناية بغير تصريح، فيجتمع لها بذلك ثلاث خلال: ايجاز اللفظ، واصابة المعنى، وحسن التّشبيه". فالأمثال اذن عند الجاهليين نوع من أنواع الحكمة السائرة بين الناس. يقولها السيد والمسود، البارز والخامل، وهي تحفظ بسهولة ولا يحتاج المرء لتعلمها مهارة وذكاء. وكان لحفاظ الأمثال مقام عندهم، لأنهم ممن وهبوا بياناً ناصعاً وقوة في اللسان، تمكن صاحبه من ضرب المثل في موضعه، ومن قوله في مكانه. والعادة أن يكثر الحكيم من الأمثال في كلامه، لأنها المادة التي يستعين بها في إظهار حكمته وعقله، يضيف عليها امثالاً من عنده، هي من وحي تجاربه وقوة ملاحظته.

وقد وردت كلمة "مثل" و "أمثال" في مواضع كثيرة من القرآن، وفي ورود الكلمتين بهذه الكثرة دلالة بالطبع على ما كان للمثل من أهمية كبيرة عند الجاهليين. وفيه أمثلة كثيرة ضربت العبرة والتذكر، لتكون درساً يتعظ به أولو الألباب. ويلاحظ إن العرب يضعون لفظة "ضرب" قبل كلمة المثل في الغالب، ورد في القرآن الكريم )ألم تر كيف ضرب اللَه مثلا(، و )ضرب الله مثلاً(، وورد )وضربنا لكم الأمثال(، و)فلا تضربوا لله الأمثال( و )تلك الأمثال نضربها للناس(، وفي مواضع اخرى منه. وضرب المثل ايراده التمثل به ويتصور ما أراد المتكلم بيانه للمخاطب. يقال: ضرب الشيء مثلاً وضرب به ويمثله وتمثل به. وضرب المثل اعتبار الشيء بغيره وتمثيله به. وقد اشاد العلماء بما للامثال من أهمية في الحث على إصلاح النفس، فقال بعضهم: "انما ضرب الله الأمثال في القرآن تذكيراً ووعظاً"، وقال بعض آخر: " ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد من العقل، وتصويره بصورة المحسوس... الخ". وروي إن الرسول قال: "إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال". وجعل "الماوردي" الأمثال من اعظم علم القرآن.

وللرسول أمثال كثيرة، وذكر عن "عمرو بن العاص"، أنه حفظ عن النبي ألف مثل. وتجد في كتب الأمثال امثالا نسبت إلى الرسول. منها: "إن من البيان لسحراً"، و "إن مما ينبت الربيعُ لما يقبل حبطاً أو يلم".و "إياكم وخضراء الدمن" و "من كثر كلامه كثر سقطه"، و "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، ويروى أنه من أمثلة أهل الجاهلية. وقد نسبت أمثلة جاهلية اخرى إلى الرسول.

والأمثال أقوال مختصرة، يراعى في وضعها الايجاز والبلاغة والتأثر. وقد يكون المثل كلمتين، وقد يكون أكثر من ذلك. ولكن العادة الا يكون طويلاً، لأن طول المثل يفقده روعته وتأثره، فلا يكون مثلا، ولا يمكن حفظه عندئذ فيضيع. ويراعى أن يكون سجعا أو طباقاً، وأن يرتب في جمل متوازية بسيطة العبارة، أو مزدوجة أو اكثر من ذلك قليلا. وأن تكون هنالك مناسبة بين الجمل حتى يبدو المثل جميلاً متناسقاً.

والقاعدة في الأمثال الاّ تغير، بل تجري كما جاءت. وقد جاء الكلام بالمثل واخذ به وإن كان ملحوناً. لأن العرب تجري الأمثال على ما جاءت، ولا تستعمل فيها الإعراب. والأمثال قد تخرج عن القياس، فتحكى كما سمِعت، ولا يطرد فيها القياس، فتعرج عن طريقة الأمثال. "قال المرزوقي: من شرط المثل ألاّ يغير عما يقع في الأصل عليه".

وقال المرزوقي "في شرح الفصيح: المثلُ جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول، وتشتهر بالتداول، فتنقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها من. غير تغيير يلحقها في لفظها، وعما يوجبه الظاهر إلى أشباهه من المعاني، فلذلك تُضرب وإن جهلت أسبابها التي خرجت عليها، واستجيز من الحذف ومُضارع كل ضرورات الشعر فيها ما لا يستجاز في سائر الكلام".

ويلاحظ إن العرب قد أجازت لضارب المثل الخروج فيه على قواعد اللغة، كما أجازت ذلك للشاعر بدعوى ضرورات الشعر،ليستقيم الشعر مع القوافي والوزن. أجازته في المثل لأنه قد يصدر شعراً، وقد يصدر سجعا، وقد يصدر من أفواه اناس جهلة لا يالون بالقواعد، أو ليس لهم علم بها، وقد يصدر من قبيلة لا تتبع في لغتها قواعد الإعراب.

وفي في كتب الأمثال وفي كتب الأدب امثالاً وضعت لأغراض مختلفة، يغلب عليها الطابع التعليمي، أي تعليم من يقرأها حكمة الحياة، وتجارب الماضين حتى ُيستفاد ويُتعظ. بعض منها نابع من محيط البداوة ومن الطبيعة الأعرابية، وبعض منها تجارب عملية عامة تنطبق على كل الناس وتصلح لكل الأوقات. والأمثال عند بعض الشعوب صنف من أصناف الشعر، لما فيها من الخصائص. المتوفرة في الشعر عندهم. وقد روعي في المثل بصورة عامة إن يكون قصيراً موجزاً وبليغاً معبراً عن حكمة، فيه نغمة وترنيم، ليؤثر في النفوس. ويحمل الطبع قائل المثل على مراعاة بهذه الأمور من غير تفكير ولا تصنع، وهو إذا كان صادراً من قلب وسجية، ومعبراً عن نفس جياشة وعن حس بشري عام، يشعر به كل إنسان تقبله الناس بسرعة، ووجد له مجالاّ من الانتشار، وعمر عمراً طويلاّ.

والأمثال، هي في صدر المؤلفات التي وضعها المسلمون، فقد روي: أن عبيدأ بن شريه الجُرهمي، وهو من أهل "صنعاء" باليمن، من أوائل المؤلفين في الأخبار وملوك العرب والعجم، ألف كتاب "الأمثال" وقد رآه "ابن النديم" في نحو خمسين ورقة. كذلك ألف صحار بن العباس العبدي، وهوِ من بني عبد القيس، وممن أدرك الرسول، "كتاب الأمثال". وذكروا إن "علاقة الكلابي" جمع الأمثال في عهد يزيد ين معاوية، وأن "المفضل الضبي" "168ه" من مشاهير علماء الكوفة في الشعر واللغة ألف كتاباً في الأمثال دعاه: كتاب الأمثال، وأن أبا عبيد القاسم بن سلام "223ه" "224ه"، ألف كتاباً في الأمثال كذلك.

وألف "يونس بن حبيب" "183ه" كتاباً دعاه "كتاب الأمثال""، وألّف "أبو المنهال" كتاباً في الأمثال، عرف ب "كتاب الأمثال السائرة" وقف عليه "ابن النديم"، ولأبي عبيدة "209ه" "210ه" "211ه" كتاب في الأمثال، عرف بكتاب الأمثال، وللاصمعي "217ه" كتاب في الأمثال كذلك 7، وللشورى، وهو ممن اخذ عن الأصمعي كتاب في الأمثال، ولأبي اسحاق ابراهيم بن سفيان، من تلامذة الأصمعي، كتاب في الأمثال. وألف غير هؤلاء من العلماء كتباً في هذا الموضوع طبع بعض منها فنال شهرة، مثل كتاب جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري "395ه"، وكتاب مجمع الأمثال للميداني "518ه"، وقد أخذ "ابو هلال العسكري" أمثالاً وردت في كتاب لحمزة الأصبهاني في الأمثال، وهو كتاب توجد نسخة خطية منه في القاهرة.

وبين المؤلفات في الأمثال رسالة لأبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا الرازي 395ه طبعت بعنوان: "كتاب ابيات الاستشهاد"، دون فيها بعض الشعر الذي استشهد به الناس في أمثالهم. ورسالة أخرى ألفّها "أبو العباس محمد بن يزيد المبرد" الأزدي "285 ه"، بعنوان: "رسالة في أعجاز أبيات تغني في التمثيل عن صدورها".

وهنالك مؤلفات عديدة أخرى، وضعت في الأمثال. وفي إقبال المؤلفين على التأليف بها بهذه الكثرة، دلالة على ما كان للمثل من أهمية، وعلى ما كان له من قيمة في نظر أهل الجاهلية. حفظوه حفظهم للشعر، بل أكثر من الشعر، لأنه يرد على كل لسان، يرد على لسان الحكيم البليغ كما يرد على لسان الغبي والجاهل، ثم إنه توجيه وتربية وتعليم، فلا نستغرب إذن إذا ما وجدنا كتب الأمثال في صدر الكتب التي ظهرت في الإسلام. وقد رأيت أنها ظهرت في عهد "معاوية" وبأمره، فهي بحق من أوائل المؤلفات التي وصلت الينا بالعربية. وكان معاوية مولعاً بسماع الامثال والقصص وأخبار الماضين والشعر.

والأمثال، هي أيضاً مادة مهمة لفهم تأريخ الجاهلي. فقد تعرض جامعوها لأصل المثل وللاسباب مضربه، و جاءوا بشروحهم هذه بمادة تأريخية استعنا بها على فهم مواضع من ذلك التأريخ. ولكنا يجب أن نأخذ هذه الأمثال وشروحها بحذر. ففي أكثر الشروح تكلف وضعف، يدلان على عدم امكان الاعتماد عليها في تكوين حكم علمي.

ونجد في الأمثال الجاهلية أمثالاً ضربت بالناس، مثل: أسخى من حاتم، واشجع من ربيعة بن مكدم، وأدهى من قيس بن زهير، واعز من كليب وائل، وأوفى من السموأل، وحجام ساباط، وقوس حاجب، وغيرها. ونجد أمثالاَ تمثل فيها بالبهائم، وفي ذلك. ولكل مثل قصة تروي منشأ ضرب ذلك المثل وما وراءه من خبر. وهي تعبير عن روح الزمان الذي قيل فيه وعن نفسية المتمثلين به. وكثير من الأمثال الجاهلية ما زالت دائرة على ألسنة الناس. وفي وجودها دلالة على إن الأحوال التي قيلت فيها لا تزال قائمة، ودليل ذلك اعتبار الناس بها والاستشهاد بها في المناسبات.

وبين أمثال العرب أشعار جاهلية الأصل صارت مثلا، ولا يزال بعض منها حي يضرب به مثل، لما فيه من حكمة ومن ملاءمة لكل وقت وزمان. وضرب المثل بعجز البيت أحياناً أو بجزء منه، كما في المثل: "بعض الشر أهون من بعض". فهو من بيت ينسب لطرفة هو: أبا منذر أفنيت فاستبق بـعـضـنـا  حنانيك بعض الشر أهون من بعض 

و من الأمثلة القديمة المشهورة حتى اليوم: "آخر الدواء الكي"، و "آخر الطب الكي"، زعم أنه من أمثلة "لقمان بن عاد". وقد ذكر "الزمخشري" سبب ضرب "لقمان" له، وأورد له كلاماً مع امرأة خانت زوجها، وكلاماً مع زوجها وكيف عرفه فأرشده إلى خيانتها له. واورد مثلاً ضرب بكثرة اكل "لقمان"، هو: آكل من لقمان. وكانوا يزعمون أنه كان يتغدى بجزور، ويتعشى بأخرى، ويتخلل بحوار. وانه ضاجع امرأته يوماً، وقد أكل جزوراً، وأكلت فصيلاً، فما قدر على الإفضاء إليها، فقال: كيف أفضي اليك وبيني وبينك بعيران.

ويظهر من القصص المنسوب إليه، أنه قد انتزع من قصص قديم، كان معروفاً عند الجاهليين مروياً بينهم. فإذا أعدنا قصته المذكورة، مع المرأة، وقد رواها "ابن الكلبي" عن "عوانة" نجدها وقد غصت بالأمثلة، وبطريقة الجاهلين في التفسير والتعليل، مما يجعل الإنسان يرى انها من القصص الجاهلي القديم، الذي احتفظ بمعناه ومضمونه، وإن صيغ بلغة حاكيه.

ورووا لقيس بن ساعدة الايادي أمثالا، منها: إذا خاصمت فاعدل، وإذا قلت فاصدق، ولا تستودعن سرك أحداً، فإنك إن فعلت لم تزل وجلاً،. وكان بالخيار، إن جنى عليك كنت أهلاّ لذلك، وان وفى لكَ كان الممدوح دونك. وكن عف العيلة، مشترك الغنى تسد قومك. إلى غير ذلك من أمثال نسبوها إليه.

وفي "كتاب الجوهرة في الأمثال" من "العقد الفريد"، باب خاص عنوانه: "أمثال اكثم بن صيفي وبزرجمهر الفارسي". وهي تستحق الدرس والنقد، لمعرفة أصولها وعلاقة هذه الأمثال بالادبين العربي والفارسي.

وفي في كتب الأدب طائفة من الأمثال في الأدب والحكمة، نسبت إلى "أكثم بن صيفي"، منها: ربّ عجلة تهب ريثاً، وادرعوا الليل فإن الليل أخفى للويل، والمرء يعجز لا المحالة، ولا جماعة لمن اختلف، ولكل امرئ سلطان على اخيه حتى يأخذ السلاح فإنه كفى بالمشرفية واعظاً، وأسرع العقوبات عقوبة البغي، وشر النصرة التعدي، ورب قول أنفذ من صول، والحر حر. وإن مسه الضر، والعبد عبد وإن ساعده الجد، واذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد، وربّ كلام ليس فيه اكتتام، وحافظ على الصديق ولو في الحريق، وليس من العدل سرعة العذل، وليس بيسير تقويم العسير، واذا بالغت في النصيحة هجمت بك على الفضيحة، ولو أنصف المظلوم لم يبق فينا ملوم.

وليس في امكان أحد اثبات إن هذه الأمثال وغيرها هي لأكثم بن صيفي حقأَ. وبينها أمثال انسانية عامة نجدها عند مختلف الأمم وبينها، أمثال قيلت في اليونانية وفي بعض اللغات الأخرى قبل ايام "أكثم" بزمن طويل. إلا إن نسبة هذه الأمثال إليه، تشير الى انه كان من حكماء الجاهلية البارزين ومن ذوي الرأي والحكمة عند قومه.

والأمثال النابعة من صميم الحياة الانسانية ومن التجارب العملية، والاختبارات الطويلة، تكون ذات طبيعة حكيمة عامة، فتظهر لذلك عند كل الناس، وتخرج على كل لسان فلا يمكن إن يقال إنها من مخترعات الأمة الفلانية، ومن مبتكرات العقل الفلاني، لأنها كما قلت خواطر إنسانية، تخطر على بال كل شخص، له رأي سديد، وفكر صائب. وإن نسبت إلى شخص معين، لذلك. يصعب علينا ارجاع الأمثال الانسانية العامة إلى جماعة معينة. قال "الجاحظ": وقد كان الرجلُ من العرب يقف الموقفَ فيرسل عدة أمثلة سائرة، ولم يكن الناس جميعاً ليتمثلوا بها إلا لما فيها من. المرفق والانتفاع ؛ و مدار العلم على الشاهد و المثل".

ومن امثال أهل الجاهلية: ان من البيان لسحراً، وإن الجواد قد يعثر، و.إن البلاء موكل بالمنطق، وان أخا الهيجاء من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك. وأنف في السماء وانف في الماء. وأجع كلبك يتبعك، واشتدي ازمة تنفرجي، وربّ رمية من غير رام، ورب أكلة تمنع ألاكلات، واستراح من لا عقل له، وسبق السيف العذل، إلى غير ذلك من أمثلة.

ومن الأمثال الجاهلية الباقية حتى اليوم المثل: مواعيد عرقوب، مثل يضرب لمن يعد ولا يفي. فقد ورد في شعر المتلمس، إذ قال: الغدر والآفات شيمتـه  فافهم فعرقوبٌ له مثل 

وورد في شعر كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوب لها مثل  " وما مواعيدها إلا الأباطيل

قيل: عرقوب رجل من خيبر، كان يهودياً وكان يعد ولا يفي، فضربت به العرب المثل. وقيل: رجل من العماليق أتاه أخ له يسأله فقال له عرقوب: إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها. فلما أطلعت أتاه للعدة، فقال: دعها حتى تصير بلحاً، فلما أبلحت قال: دعها حتى تصير زهواً، فلما أزهت قال: دعها حتى تصير رُطباً، فلما ارطبت قال: دعها حتى تصير تمراً، فما أتمرت عمد إليها عرقوب من الليل فجذّها، ولم يعطِ أخاه منه شيئاً، فصار مثلاً، وفيه يقول الأشجعي: وعدت وكان الخُلف منك سجية  مواعيد عُرقوُب أخاه بيثـرب

وقال آخر: وأكذب من عرقوب يثرب لهجـهً  وأبين شؤماً في الحوائج من زُحل 

وذكر إن اسمه "عرقوب بن صخر"، أو "عرقوب بن معبد "معيد" بن اسد"، رجل من العمالقة على القول الأول. قاله ابن الكلبي، وعلى القول الثاني، فهو رجل من "بني عبد شمس بن سعد"، وقيل انه كان من الأوس. كان أكذب أهل زمانه، ضربت به العرب المثل في الخلف، فقالوا: مواعيد عرقوب.

ومن الأمثال القديمة: صحيفة المتلمس، روى إن الرسول كتب كتاباً لعيينة بن حصن، فلما أخذه، قال: "يا محمد أتراني حاملاَ إلى قومي كتاباً كصحيفة المتلمس". هي احدى الصحيفتين اللتين كتبهما "عمرو بن هند" لطرفة والمتلمس، إلى عامله بالبحرين في إهلاكما، وخيلهما انهما كتابا جائزة، فنجى المتلمس عمله على الخرم وهربه الى الشام، وسارت صحيفته مثلاً في كل كتاب يحمله صاحبه يرجو منه خيراً وفيه ما يسوءه.

ومن الأمثلة القديمة "عنقاء مغرب"، والمثل به "طارت به عنقاءُ مغربٌ " زعموا انه طائر كان على عهد "حنظلة بن صفوان الحميري" نبي أهل الرس عظيم العنق، وقيل كان في عنقه بياض ولذلك سمي عنقاء،اختطف غلاماً فاغرب به ولذلك سمي المغرب، فدعا عليه حنظلة فرمى بصاعقة. وقد ذكر المثل في الشعر.

ومن الأمثال الجاهلية الحية التي لا تزال ترزق، المثل: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". يضرب مثلا لمن خبره خير من مرآه. ذكر "ابن الكلبي" إن هذا المثل. ضرب "الصقعب بن عمرو" النهدي. قاله له النعمان بن المنذر، وقال "المفضل": المثل للمنذر بن ماء السماء، قاله لشقة بن ضمرة سمع بذكره، فلما رآه اقتحمته عينه فقال: تسمع بالمعيدي خير. من أن تراه، فاًرسلها مثل فقال: له شقة: أبيت اللعن إن الرجال لبسوا بجزُر يراد منهم الأجسام، وانما المرء باصغريه قلبه ولسانه فذهب مثلا، واعجب المنذر بما رأى من عقله وبيانه، ثم سماه باسم أبيه فقال: أنت ضمرة بن ضمرة.. وقيل إن المثل للنعمان ابن المننر، قاله لشقة بن ضمرة.

وقد أورد "ابن الكلي" قصة تاريخ المثل على هذا النحو: قال: وفد "الصقعب ين عمرو" النهدي في عشرة من "بني نهد" على "النعمان بن المنذر" وكان "الصقب" رجلاً قصيراً دميماً تقتسمه العين، شريفأَ بعيد الصوت، وكان قد بلغ النعمان حديثه، فلما أخبر النعمان بهم قال للاذن: إئذن للصقعب، فنظر الاذان إلى أعظمهم وأجملهم، فقال: انت أنت الصقعب قال: لا. فقال: الذي يليه في العظم والهيئة: أنت هو: فقال: لا. فاستحيا فقال: أيكم الصقعب فقال الصقعب: هأنذا فأدخله إلى النعمان، فلم رآه قال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه فقال الصقعب: أبيت اللعن الرجال ليسوا بالمسوك يستقى فيها، انما الرجل باصغريه بلسانه وقلبه، إن قاتل قاتل بجنان، وإن نطق نطق ببييان. فقال له النعمان: فلله أبوك ثم ساله أسئلة امتحنه بها، ليرى عقله، فكان يجيبه احسن جواب. فقال له النعمان: أنت أنت فاحسن صلته وصلة أصحابه.

وينسب المثل: "الوى بعَيد المستمر"، إلى "النعمان بن المنذر"، وأخوه "طفُيل الغنوي" فادخله شعره. ومن الأمثلة الشهيرة القديمة قولهم: "على أهلها جنت براقش"، يضرب مثلاً للرجل يهلك قومه بسببه".

وينسب المثل: "إن الشقي وافد الراجم" لعمرو بن هند، ملك الحيرة، حلف فيقتلن مائة من تميم، فقتل تسعة وتسعين رجلاً منهم إحراقاً بالنار، وبقي واحد، فما دنا رجل من البراجم من الملك، وسأله عن أهله، فقال من البراجم، قال: إن الشقي وافد الراجم، وأمر به فالقي في النار.

ومن الأمثال المشهورة قولهم -: "عند جهينة الخبر اليقين". وقيل: "عند جفينة الخبر اليقين" "جُفينة". وكان من حديثه أن "حصين بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن كلاب" خرج، ومعه رجل من "جهينة" يقال له إالأخنس" فنزلا منزلا"، فقام الجهني إلى الكلابي فقتله، وأخذ ماله، وكانت أخته "صخرة" بنت "عمرو" تبكيه في المواسم، وتسأل عنه فلا تجد منُ يخبرها، فقال الأخنس فيها: كصمخرة آذ تسائل في مِراح  وفي جرم وعلمهما ظنـونُ

تسائل عن حصينٍ كل ركب  وعند جهينة الخبر الـيقـين

ومن أمثالهم المشهورة قولهم بمثل جارية فلتزن الزانية، وذلك إن "جارية بنت سليط بن الحرث بن يربوع بن حنظلة" كان أحسن الناس وجهاً وأمدهم قامة، وأتى سوق عُكاظ فابصرته فتاة من خثعم فاعجبها فتلطفت له، حتى وقع عليها، فعلقت منه، فلما ولدت اقبلت هي وامها وخالتها تلتمسه بعكاظ، فلما رأته الفتاةُ قالت: هذا جارية فقالت امها: بمثل جارية فلتزن الزانية سراً أو علانية، فذهب مثلا.

ونسب المثل: "ارسل حكيماّ ولا توصه" إلى "الزبير بن عبد المطلب"، ونسب المثل "استنوق الجمل" لطرفة بن العبد.. ومن الأمثلة القديمة: "على أهلها دلت براقش"، و "عش رجباً تر عجباً"، و "العصا من العصية" و "اعز من كليب وائل"، و "أعزّ من بيض الأنوق" و "أعز من الغراب الأصم"، و "انصف القارة من راماها". والمثل: "ارسل حكماً، ولا توصه"، هو في الواقع. مثل قديم، لا بد وأن يكون قد وضع في العربية، قبل أيام "الزبير"، إذ ينسب إلى الحكيم "أحيقار"، وربما نقل من السريان إلى العرب.

وقد ضرب المثل بشخصيات جاهلية، تركت أثراً في أيامها فضرب بها المثل. مثل: "أبلغ من قس"، ويراد به قس بن ساعدة الخطيب الشههر، وأعيا من باقل. وهو رجل من إياد، وقيل من ربيعة. اشترى ظبياً بأحد عشر درهماً، فمر بقوم فقالوا له: بكم اشتريت الظبي فمدّ يديه وأخرج لسانه يريد أحد عشر، فشرد الظبي حي مد يديه، وكان تحت ابطيه. وضرب المثل ببخل مادر، فقيل: أبخل من مادر، وبفصاحة سحبان، فقيل: أخطب من سحبان، وهو القائل: لقد علم الحي اليمانيون أنني  إذا قلت أما بعد اني خطيبها 

وضرب الجاهليون الأمثال بكل ما وجدوه حولهم من حيوان ومن نبات وصخور. ولذا نجد على أمثالهم طابع محيطهم، فالحيوان الشي ضربوا به المثل، هو من حيوان جزيرة العرب، ومن النوع المألوف عندهم، مثل الضب والحية والعنز والإبل وما إلى ذلك. ومن هنا اختلفت أمثلة الأعراب أهل البادية عن أمثلة الحشر، أهل المدر، لاختلاف طبيعة البادية عن طبيعة الريف، ولوجود أشياء في أحدهما يندر وجودهما في المحيط الآخر،   

وفي شعر "عدي بن زيد" العبادي أمثلة كثيرة، تميز شعره عن شعر بقًية الشعراء الجاهليين. ولو درسنا شعره، تجد أن فيه ما يشير إلى مواعظ ترد في النصرانية كما ترد على خاطر كل إنسان يصاب بنكبة، فتهز مشاعره فتجعله ينظر إلى الدنيا نظرة زاهد فيها، ولا استبعد احتمال تأثره بالكتب التىِ كان قد وقف عليها، فقد كان نصرانياً "وقد قرأ كتب العرب والفرس". ولم يذكر أهل الأخبار شيئاً عن "كتب العرب" هل أريد بها كتب دينية وضعت في العربية، أم قصد بها كتب في القصص والأمثال وفي الشعر والأخبار وما شابه ذلك، ولعلهم أرادوا بكتب الفرس، الكتب التي تبحث عن قصص ملوكهم. وقد ترجم قسم منها في الإسلام، وقصص الأساطير. وقد رأينا أنها كانت معروفة عند العرب وان "النضر" كان يقص منها لأهل مكة وكانوا يسمونها الأساطير. ونجد في شعر الشعراء الآخرين أمثلة عديدة دخلت شعرهم، أخذوها من المثل السائر، ومن للحكم التي كانت شائعة في أيامهم، أو من القصص، أو من مبتكراتهم ومخترعاتهم، ولا تزال بعض الأمثال الشعرية حية ترزق، يضرب بها الناس المثل فيما يريدون التمثيل به.

ومن الموارد التي أمدت الأدب الجاهلي بالمثل، الكهان، وكلام الكهان قصير مسجع يميل إلى الرمز والألغاز، يتجنب الصراحة، لتكون فيه قابلية التفسير والتأويل واعطاء كثير من الاحتمالات، وذلك لما تقتضيه طبيعة الكهانة من تأويل التكهن حسب الأحوال والمناسبات. ونجد في كتب الأدب أمثلة عديدة منسوبة إلى هؤلاء الكهان. ولما كان كلامهم مسجوعاً، قيل له: "سجع الكهان"، وقد جاء في الحديث النبوي: "هذا من سجع الكهان". وفي الكهان جماعة من الكاهنات،، عرفن بالتكهن، مثل: الشعثاء الكاهنة، وطريفة، ويذكرون انها هي التي أنذرت عمرو بن عامر أحد ملوك اليمن بزوال ملكه، وأخبرته بخراب سد مأرب، وزبراء الكاهنة، وسلمى الهمدانية الحميرية، وعفيراء الكاهنة الحميرية.، وفاطمة بنت مر الخثعمية، وقد ذكروا انها كانت قد قرأت الكتب.

ومن الأمثلة الواردة في كتب الأدب: "إن العصا من العُصية"، وهو مثل ينسب إلى "الأفعى الجرهمي"، وهو من الكهان، قاله لما احتكم إليه أولاد "نزار" بمدينة النجران. و "الصيف ضيعت اللبن"، وأول من قاله "عمرو ابن عدس"، والمثل "أوسعتهم سباً وأودوا بالابل" وينسب إلى "كعب بن زهير بن ابي سلمى"، والمثل "إن الشقي واقد البراجم"، إلى غير ذلك من أمثلة تجدها في كتب الأمثال والأدب. ولا يزال بعضها حياً يتمثل الناس يه ُبعض منه يرد على لسان كل إنسان " أي امثلة تنطبق على كل البشر، لأنها صادرة من نفس انسانية عامة،فلا تعد من الأمثلة المحلية أو القومية، أي أمثلة نبعت من محيط أمة معينة. لذلك نجد لها شبهاً عند أمم أخرى. ولا نستطيع أن نقول إن الأمة أخذتها من تلك.

الفصل الثامن والعشرون بعد المئة
القصص

والقصص، مظهر من مظاهر الفكر الجاهلي، أشير إليه في القرآن الكريم، وكان شائعاً عند الجاهليين. ودراسته تمكن الدارس من تحليل عقلية صاحب القصص، وفهم عقلية الزمن الذي شاع فيه. وقد ورد في المؤلفات الاسلامية شيء منه، وفي بعضه ملامح يمكن ارجاعها إلى عناصر أعجمية: دينية، وغير دينية، تسرب إلى الجاهليين من اتصالهم بالأعاجم، واتصال الأعاجم بهم. والقص البيان، والقاص من ياتي بالقصة على وجهها، كأنه يتتبع معانيها وألفاظها. وقيل: القاص يقص القصص لأتباعه، خبراً بعد خبر وسوقه الكلام سوقاً. وقد كان القص شائعاً متفشياً بين الجاهليين والاسلاميين، وكانوا يقبلون عليه اقبالاً شديداً، ومن هنا ورد في الحديث "إن بني اسرائيل لما قصوا هلكوا. وفي رواية لما هلكوا قصوا، اي اتكلوا على القول وتركوا العمل، فكان ذلك سبب هلاكهم، أو بالعكس لما هلكوا بترك العمل أخلدوا إلى القصص"، ولما نزل القرآن: "قالوا: يا رسول الله: لو قصصت علينا، قال: فنزلت: )نحن نقص عليك أحسن القصص(. وذكر إن أصحاب رسول الله سألوه أن يقص عليهم، فتزل: "نحن نقص عليك أحسن القصص"، "من الكتب الماضية وأمور الله السالفة في المأم". وورد انهم قالوا له: "يا رسول الله حدثنا فوق الحديث ودون القرآن، يعنون القصص" فانزل الله الآية المذكورة. وفي هذا الالحاح على الرسول بأن يقص عليهم، دلالة على مدى حب الجاهليين واعجابهم بالقصص.

وللجاهليين غايات من الاستماع إلى الفصص، منها: العبرة والاتعاظ. والى ذلك أشير في القرآن الكريم: )لفد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب(. وقد كان في مكة وفي غيرها قوم يقصون على الناس ويعظونهم، ولما جاء الإسلام كانوا على عادتهم يقصون لإثارة العقلا إلى أنباء الماضين وأخبار السالفين، ولإثارة تفكيرهم في الكون وفي الخلق وفي شؤون الحياة، كالذي يظهر من القرآن الكريم: )فاقصص القصص لعلهم يتفكوون"( و )نحن نقص عليك أحسن القصص(، و )تلك القرى نقص، عليك من أنبائها(.. ويدخل في هذا النوع القص الذي يدخلونه في باب "الحكمة"، ومعناه القصص، التعليمي، الذي يتعظ به، ويستفاد منه، إذ يعد دروساً تعلم الإنسان في حياته وترشده إلى النجاح، ويشمل قصص الماضين، ما قاموا به من خير، وما عملوا في ايامهم من شر، فاصابهم من أجله الهلاك وسوء المصير، وقصص الأشخاص، أما القصص المروي على ألسنة الحيوانات على نمط قصص "كليلة ودمنة" فإننا لا نجد منه مادة غزيرة في القصص المروي عن الجاهليين، وهو قليل المادة ايضاً في الأدب الاسلامي ولا سيما في القصص الطويل. وقد نجد بقايا قصص على ألسنة الحيوانات مروياً في كتب الأدب، لكنه من النوع القصير الذي لا يمثل نفساً طويلا في القص. وأغلب الظن انه منتزع من قصص قديم، فقد طوله، بسبب قدمه، فبقيت منه هذه البقايا.

ومن أبواب القصص، المقال، على ألسنة الحيوانات، كالقصص المقال على لسان. "النعامة"، من انها ذهبت تطلب قرنين ير فرجت بلا أذنين. والقصص الذي وضعوه عن الغراب، وعن الضفدع، والهدهد، والهديل، وغير ذلك مما يميل إليه العامة بصورة خاصة.،. لما يتركه من أثر في نفوسهم.

ومن القصص، قصص الملوك والأبطال وسادات القبائل والأيام، ويلعب قصص الأيام الدور الأول في هذا القصص، لما له من أثر في العصبية. وكان هذا القصص من أحب القصص إلى نفوسهم، وقد زوّق ونمق، وتولى قصه قصاصون كانت لهم مواهب خاصة وقابلية على القص والتأثر في النفوس، وكان أصحاب الرسول حين يتسامرون يتناشدون الشعر ويتذاكرون الأيام، جرياً على سنتهم في الجاهلية، وقد استمر هذا القصص إلى عهد قريب، ولا زال معروفاً في القرى وفي بعض الأقطار العربية، لا سيما في أيام رمضان، حيث تقرأ قصص أبو زيد الهلالي وقصة، عنترة وغيرها في المقاهي، يقرأها قصاصون متخصصون بأسلوب مؤثر جذاب، يتلاعبون به في عقول السامعين، ويثيرون فيهم الحماس، ينصتون بكل خشوع إلى صوت القاص، يريدون منه سماع المزيد من الأخبار. وفي قصص أهل الأخبار المنسوب إلى الجاهلية، قصص عن الأسفار وعن مشقات السفر وعن الأهوال التي كان يلاقيها المسافرون في ذلك العهد من الجن والسعالى والغيلان، وقد رصع بأبيات من الشعر وبقصائد أحياناً، في وصف تلك المخلوقات الرهيبة المفزعة، ولم ينس بعض هذا القصص من ايراد شعر لها في محاورة الأشخاص الذين تعرضوا لها، نجد فيه الجن والسعالى والغيلان، تنظم الشعر بلسان عربي مبين، وتجيب فيه الشعراء بشعر مثل شعرهم، قد تظهر رقة وأدباً فيه، مع ما عرف عن هذه القوى من الميل إلى الأذى والشر.

وفي قصصهم قصص له أصل تأريخي، لكنه لم يحافظ على نقاوته وأصله، وانما غلب عليه عنصر الخيال فحوّله إلى أسطورة، رصعت بالشعر في الغالب، وبالجنس، لتثير الغرائز، فتقبل الأنفس على سماعها، ومن هذا القبيل قصص طسم وجديس، وقصص الزباء والتبابعة، والأقوام الغابرة، حيث تجد قصصهم في كتب الأخبار والأدب.

وفي أبواب القصص، باب للمجون والخلاعة، وأحاديث الهوى والتشبب وهو باب يقدم على سماعه الشبان، طلاب هنا الفن في هذا الدور من أدوار الحياة، أما الشبيبة ومن تقدمت. بهم السن، فإن الجنس، يكون قد ابتعد عنهم وتركهم في الغالب، وما يمسكهم به وهم في أرذل العمر، إلا من باب التذكر بأيام الزمان، وذكريات الشباب، لتطرية العمر، والترويح عن كربة التقدم في السن.

والقاص من الشخصيات المحببة إلى نفوس الجاهليين، يقص على ابناء حيه القصص المسلية، مستمداً مادته من الأساطير والخرافات السائرة المتنقلة بين الأمم، ومن الأخبار والأحاديث الخرافية والتأريخية المأثورة عن العرب، أو عمن جاورهم. ومن ذلك قصص الأقوام القديمة التي بقيت ذكرياتها في اذهان الجاهليين، وقصص الملوك مثل الزباء، التي كيفتّ قصتها، وابتعدت عن التأريخ وقصص جذيمة الأبرش، وقصير، وعمرو بن عدي، والتبابعة وغير ذلك من قصص، له أصل تأربخي، لكنه تغير وتبدل حتى صار من الأساطير. وهو يصلح أن يكون اليوم موضع دراسة خاصة للوقوف على مقدار عنصمر الابتكار والخيال فيه، ومقدار التحوير الذي ألم به، وسببه ومن أدخله عليه من جاهليين أو مسلمين. وقصص النوادر والنكات من القصص المعروف عند أهل الجاهلية. وقد اتخذ الملوك والأشراف لهم ندماء عرفوا بإغراقهم في قول الملح والنوادر والأمور الغريبة المضحكة، حتى اشتهر أمرهم بين الناس، وحتى بالغ الناس في نسبة النوادر اليهم، وحولوا بعضهم إلى شخصيات أسطورية، من كثرة ما تقولوا عليهم وما نسبوه اليهم. ومنهم من سجلت كتب أهل الأخبار والأدب أسماءهم، لما حصلوا عليه من شهرة بين الناس في أيامهم. منهم "سعد" المعروف ب "سعد القرقرة" هازل "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، كان يضحك منه. ذكر أنه كان من أهل "هجر"، فدعا النعمان بفرسه اليحموم، وقال له: اركبه واطلب الوحش، فقال سعد اذن والله أصرع، فأبى النعمان إلا أن يركبه. فلما ركبه سعد نظر إلى بعض ولده وقال: وابابى وجوه اليتامى، ثم قال: نحن بغرس الودي علـمـنـا  منا بركض الجياد في السدف 

وفيه قال الشاعر "أبو قرد ودة"، وكان "سعد القرقرة" قد اكل عند النعمان بن المنذر مسلوخا بعطامه.

بين النعام وبين الكلب منبته  وفي الذئب له ظئر وأخوال 

ومنهم "النعمان بن عمرو بن رفاعة بن الحرث" من "بني النجار" من يثرب، المتوفي في ايام معاوية. كان هازلا ومازحا لطيفاً. ذكر انه كان لا يدخل المدينة طرفة الا اشترى منها ثم جاء بها إلى ىالنبي، فيقول ها اهديته هذا ثمن متاعه، فيقول:أولم تهده لي!فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه ولقد احببت إن تأكله، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه. ودخل اعرابي على النبي، واناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعمان لو عقرتها لفأكلناها، فإنا قد قرمنا إلى اللحم. ففعل فخرج الاعرابي وصاح واعقراه يا محمد! فخرج النبي فقال: من فعل هذا? فقالوا النعيمان فأتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب واستخفى تحت سرب لها فوقه جريد. فأشار رجل إلى النبي حيث هو فأخرجه، فقال له: ما حملك على ما صنعت? قال: الذين دلوك علي يا رسول الله، هم الذين امروني بذلك. فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك، ثم غرمها للاعرابي. وروي إن " مخرمة بن نوفل" كان قد كبر وقد عمي، فقام في المسجد يريد إن يبول، فصاح به الناس المسجد المسجد! فأخذه نعيمان بيده وتنحى به. ثم اجلسه في ناحية اخرى من المسجد فقال له: بل ههنا فصاح به الناس. فقال: ويحكم فمن اتى بي إلى هذا الموضع! قالوا: نعيمان. قال: أما إن الله علي إن ظفرت به أن اضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت. فبلغ ذلك نعيمان. فمكث ما شاء الله، ثم اتاه يوما وعثمان فائم يصلي في ناحية المسجد. فقال لمخرقة:هل لك في نعيمان. قال: نعم. فأخذ بيده حتى اوقفه على عثمان، وكان إذا صلى لا يلتفت. فقال: دونك هذا نعيمان فجمع يده بعصاه فضرب عثمان فشجه، فصاحوا به ضربت امير المؤمنين.

وروي إن "أبا بكر" خرج تاجراً إلى "بصرى" ومعه "نعيمان" و "سويبط ابن حرملة"، وكان "سويبط" على الزاد، فجاءه "نعيمان"، فقال: أطعمني. فقال: لا، حتى يجيء "أبو بكر"، فقال: لأغيظنك، فذهب إلى ناس جلبوا ظهراً. فقال: ابتاعوا مني غلاماً عربياً فارهاً، وهو ذو لسان ولعله يقول أنا حر، فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوه لا تفسدوا عليّ غلامي. فقالوا: بلى نبتاعه منك بعشر قلائص، فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال: دونكم هو هذا. فجاء القوم. فقالوا: قد اشتريناك، فقال سويبط: هو كاذب أنا رجل حر، قالوا: قد أخبرنا خبرك، فطرحوا الحبل في رقبته فذهبوا به. وجاء أبو بكر، فأخبر. فذهب هو وأصحاب له فردّوا القلائص وأخذوه. فضحك النبي وأصحابه من ذلك حولاً.

وبعض القصص الشائع المتواتر عن الجاهليين، مثل قصة يومي البؤس والنعيم، وقصة "شريك" مع الملك "المنذر"، وقصة "سنمار" وأمثال ذلك، قصص وان اقترن بأسماء جاهلية، إلا إن اصوله غير عربية، دخلت العرب من منابع خارجية، من منابع يونانية وفارسية، ونصرانية، وهو أيضاً من القصص الوارد عند شعوب أخرى، بدليل وجود شبه ومثيل له في أساطير الأعاجم، وفي حكايات النصارى.

وقاص ذلك اليوم، هو أديب الحي، وأديب القوم، وهو لا بد إن يكون من أصحاب المواهب والفطنة، وممن رزق موهبة التأثير على القلوب بفضل ما رزق من حسن عرض الكلام وتخريج القصص، وتنسيقها، واظهار الأدوار البارزة للابطال، وعرضها بأسلوب مشوق مرغب، تنسي السامع كل شئ إلا تتبع الحكاية. ولا بد وأن يُملّح القاص قصصه بادخال شيء من الشعر فيها، لا سيما شعر الفرسان والحروب والمغامرات.

ولا نعرف من أسماء قصاص الجاهلية أسماء كثيرة، وأشهر اسم نعرفه هو اسم "النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف"، "النضر بن الحارث ابن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي"، وكان من "شياطين قريش"، لي أذكيائهم، وممن يؤذون الرسول، وكان يحدث قريشاً بأحاديث رستم واسفنديار وما تعلم في بلاد فارس من أخبارهم، ويزعم إن في استطاعته إن يأتي بمثل ما أتى به الرسول من أمر القرآن، فأشير إليه في الآية: )ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء، ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله"، وذكر إن كل ما ذكر في القرآن من "الأساطير"، فإنما قصد به "النضر"، وقد نزلت في حقه ثماني آيات،، تدل على انه كان يتحدى الرسول ويخاصمه ويقول في القرآن انه من صنع محمد، وكان يأتي بقصص يزعم انه يضاهي بها كتاب الله. وقد أرسلته قريش مع "عقبة بن أبي معيط" إلى يهود "يثرب" ليأخذا منهم من أمور التوراة والدين ما يجادلا به الرسول، فعلموهما ما يجب أن يسألا به، فجاءا وسألا الرسول وحاججاه، وقد أشير إلى هذه المحاججة في القرآن.

وقد أمر الرسول بقتل "النضر"، فقتله "عليّ" وهو بالصفراء، فقالت فيه "ليلى" ابنته، أو "قتيلة" ابنته، وهي ابنته في رواية، أو أخته في رواية أخرى، شعراً تبكيه وتتوجع فيه على قتله. أوله: يا راكبـاً إن الأثـيل مـظـنّة  من صُبح خامسة وأنت موفق

أبلغ بها مَيْتـاً بـأن قـصـيدة  ما إن تزال بها الركائب تخفق

فليسمعن النضـر إن نـاديتـه  إن كان يسمع ميت لا ينطـق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشـه  لله أرحام هنـاك تـشـقـق

قسراً يقاد إلى المنيّة متعـبـاً  رَسْفَ المقيد وهوعان موثـق

أمحمد ها أنت ضَـنُ نـجـيبةٍ  في قومها والفحل فحل معرق 

ما كان ضرك لو مننت وربما  منّ الفتى وهو المغيظ المُحنق

فالنضرأقربُ من تركت قرابة  وأحقهم إن كان عتق يعـتـق

وورد اسم رجل أدخل للمسلمين القصص الديني، هو "تميم بن اوس بن خارجة" الداري، ذكر أنه أسلم سنة تسع من الهجرة، وأنه كان نصرانياً، وانه لقي النبي، فقص عليه قصة الجسّاسة والدجّال. وذكر انه كان يترهب ويسلك مسلك رجال الرهبانية حتى بعد إسلامه، وانه استأذن الخليفة "عمر" أو الخليفة "عثمان" في أن يذكر الناس في يوم الجمعة، فأذن له، فكان يقص في مسجد الرسول. وكان بذلك أول من قص في الإسلام. وروي أنه أول من أسرج السراج في المسجد. وكان قد قدم مع أخيه "نعيم" الداري في وفد الداريين على الرسول منصرفه من تبوك. وكان مقامه في الشام، وربما وضع القصص على اسمه.

وهذا النوع من التذكير والوعظ والارشاد القائم على الترغيب والترهيب بذكر أساطير الأولين والقصص والحكايات والغرائب والعجائب والقصص المتعلق بالحيوانات أو المدون على ألسنتها، هو نوع من الوعظ الذي كان يقوم به رجال الدين اليهود والنصارى في تهذيب أبناء دينهم وفي ارشادهم إلى سواء السبيل،على نحو ما كانوا يتخيلونه ويتصورونه. ومن مدرستهم في الوعظ، تعلم صاحبنا تميم علمه هذا على ما يظهر.

ويمكن الوقوف على طبيعة قصص "تميم" ونوعيته وعلى درجة ثقافته ومقدار عقليته بالرجوع إلى ما نسب إليه من قصص، وما ورد على لسانه من وعظ. ولكننا لا نجد في الكتب مادة من قصصه تكفي للحكم بموجبها على نوعيته. ولكننا لا نستبعد أن يكون قد خلط بين القصص النصراني وبين الأساطير العربية. فقد كان نصرانياً، يسمع أقوال وعّاظ الكنائس، فتعلم منهم، وطبق ما تعلمه في الإسلام.

وذكروا إن "الأسود بن سريع بن حمير "خمير" بن عبادة بن النزال" التميمي السعدي، كان قاصاً، وكان شاعراً مشهوراً، وهو من الصحابة، وكان أول من قص في مسجد البصرة. قيل انه مات سنة اثنتين وأربعين. ولعله كان من النصارى كذلك.

ويجب أن نشير إلى قاص آخر هو "عبيد بن شرية الجرهمي"، وان كان   

من المتأخرين. فقد كان في أيام "معاوية"، وقد كان من الملازمين له. و كَان الخليفة يحنّ إليه، ويتلذذ بسماع قصصه عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد. وهو شخص لا نعرف من أمره شيئاً يذكر. وذكر "ابن النديم" أنه عاش إلى أيام عبد الملك بن مروان"، وأن معاوية أمر غلمانه بتدوين ما كان يقصه وينسب إليه. وله من الكتب: كتاب الأمثال، وكتاب الملوك وأخبار الماضين.

الفصل التاسع والعشرون بعد المئة
الطب والبيطرة

والطب من العلوم المطلوبة في كل زمان ومكان، لما له من صلة بحياة الإنسان.

ولعلماء اللغة آراء في معنى "الطب" وقد ذكروا أن من المجاز: الطب بمعنى السحر، قال ابن الأسلت: ألا من مبلغ حسان عنـي  أطب كان داؤك أم جنون 

فوجدوا أن بين الطب والسحر صلة. وهو تعبير عن مداواة الأمراض في السابق بالسحر، فقد كان الساحر طبيباً، يداوي المرض ويشفي المريض بسحره، وكذلك كان الكهان يداوون المرضى، ولا زال الناس يعتقدون بأثر السحر في مداواة المرض، فيراجعون من يدعي العلم بالسحر لنيل الشفاء.

وكان الطب، في ذلك الزمان، شرف، فللطبيب مكانة كبيرة عند الجاهليين.

قال "المرتضى" في حديثه عن زهير بن جناب: "كان سيد قومه، وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم. والطب في ذلك الزمان شرف، وحازي قومه، والحُزاة الكهان". فهو قد جمع خلالاً كبيرة وفي جملتها الطب والكهانة. وقد كان الكهان يداوون المرض، فكان كهنة مصر يعالجون المرض ويطببونهم، لاعتقادهم إن الأمراض هي من الالهة، تصيب الإنسان فلا تشفيه منها إلا التوسلات إليها باشفائه، وحيث إن المقربين إليها هم الكهنة، لذلك لجأ المرض اليهم لاشفائهم. ونجد في النصوص العربية الجنوبية توسلات كثيرة وتضرعات إلى الآلهة، لأن تمنّ على المتوسلين اليها بالصحة والعافية، وبالشفاء من الأمراض التي نزلت بهم، وأن تحميهم من الأوبئة التي تفشت بين الناس، فاخذت يميتهم.

ولا بد وأن يكون السحرة والحزاة والكهنة في الجاهلية، هم الذين مارسوا الطب، وعالجوا المرضى، بالسحر وبالأدعية، أو بالأدوية التي أخذوها عمن سبقهم ومن تجاربهم الخاصة. ونحن نأسف لأن نقول إن النصوص الجاهلية لم تعطنا حتى الان نصوصاً طبية، أو نصوصاً فيها وصفات أدوية الشفاء من الأمراض.

والطب، هو من فروع العلم المحظوظة بالنسبة إلى فروع العلم الأخرى عند الجاهليين. فقد أشير إليه، وأشير إلى اسم نفر من الأطباء، هم: الحارث بن كَلَدة الثقفي، والنَّضَر بن الحارث، و "ابن أبي رمثة التميمي" و "ضماد" وكلهم ممن عاصر الرسول وأدرك زمانه، وبفضل هذه المعاصرة، ذكرت أسماؤهم في كتب الحديث والسير والأخبار، ولولاها لكان شأنهم شأن غيرهم ممن لم يصل اسمهم الي أحد، فصاروا نسياً منسياً.

وذكر إن رجلاً جاء إلى النبى، فرأى بين كتفيه خاتم النبوة. فقال: إن أذنت لي عالجتها فإني طبيب. فقال له النبي، طبيبها الذي خلقها، معناه العالم بها خالقها الذي خلقها لا أنت.

أما الحارث بن كلدة الثقفي، فإنه من ثقيف ومن أهل الطائف، ذكر أنه سافر إلى البلاد، وتعلم الطب بناحية فارس على رجل من أهل جُنْدَ يسابور، وغيرها.

وتمرن هناك، وطب بأرض فارس، وعالج وحصل له بذلك مال، وعرف الداء والدواء. وكلن صاحب حسّ مرهف، وموسيقياً يضرب بالعود. تعلم ذلك بفارس واليمن.

قيل إن سعد بن أبي وقاصّ مرض بمكة، فعاده رسول الله، فقال له: أدْعُ الحارث، فإنه يتطبب. فعاده الحارث وداواه فشفاه. ونسبوا له كلاماً مع كسرى أنو شروان. وقبل: إنه هو القائل: "الطب: الأزم، والبطنة بيت الدواء، والحِميَةُ رأس الدواء، وعوّدوا كل بدن ما اعتاد"، وأشياء أخرى تنسب إلى فلاسفة متقدمين، ولحكماء من العرب غير الحارث.

وقيل إن من حكمه: "خير الدواء الأزم، وشرّ الدواء إدخال الطعام على الطعام". وقيل إنه وصى ولده بقوله: "يا بني عوّد نفسك الأثرة ومجاهدة الشهوة، ولا تنهش نهش السباع، ولا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال. إن الله جعلك إنساناً فلا تجعل نفسك بهيمة، واحذر سرعة الكظة وسرف البطنة، فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت بطيناً فعد نفسك مع الزمنى". ومن حكمه قوله: "لا تنكحوا من النساء إلا الشابة، ولا تأكلوا من الحيوان إلا الفتى، ولا من الفاكهة إلا النضيج".

وقد نسبوا إلى الحارث كتاباً. هو كتاب المحاورة في الطب بينه وبين كسرى أنو شروان، ولم يشيروا إلى مضمونه ومحتوياته وحجمه. والظاهر أنه هذه المحاورة التي دبجوها في ترجمته، ونسبوها إليه، وزعموا أن كسرى أمر بتدوين ما نطق به.

وقد ذكر أن الحارث بن كلدة كان شاعراً ذا حكمة في شعره، وقد أورد الاحدي له أبياتاً في أثناء ترجمته له.. وذكره "أبو العلاء المعري" في "رسالة الغفران"، ونسب له قوله: فما عسل ببارد ماء مزنٍ  على ظمأ، لشاربه يشُاب

بأشهى من لقيكم الـينـا  فكيف لنا به ومتى الإياب 

و ذكر الأخباريون، إن "الحارث" هذا، كان قد داوى الملك "أبا جبر" الكندي، وكان ملكاً شديد البأس، فخرج إلى كسرى يستجيشه على قومه فأعطاه جيشاً من الأساورة، فلما بلغوا "كاظمة" سمّوه، ثم تركوه وعادوا، فسار "أبو جبر" إلى "الطائف"، ليداويه "الحارث بن كلدة" ويشفيه، فداواه فبرئ وارتحل يريد اليمن فنكس ومات. فرثته عمته "كبشة".

وقد عاصر رسول الله، وفي بعض الروايات أنه أسلم ومات مسلماً في خلافة "عمر"، وأنه أكل مع "أبي بكر" وانه شهد إن "ابا بكر" مات مسموماً وأنه خرج مع النساء حينما حاصر المسلمون الطائف سنة تسع للهجرة. وأنه عاش إلى أيام معاوية في رواية. وان "آل نافع" و "آل أبي بكرة" كانوا يزعمون أنهم من نسله.

وأما النضر بن الحارث بن كلدة الثقفي فهو ابن خالة الرسول. وكان النضر قد سافر البلاد أيضاً كأبيه، واجتمع بالأفاضل والعلماء بمكة وغيرها، وعاشر الأخبار والكهنة، واشتغل وحصل من العلوم القديمة، واطلع على علوم الفلسفة وأجزاء الحكمة، وتعلم من ابيه ما كان يعلمه من الطب وغيره وكان يؤاتي أبا سفيان في عداوة النبي، ويحسده، ويكثر الأذى له، ويتكلم فيه باشياء كثيرة، ويحط من قدره عند أهل مكة. فلما كانت وقعة بدر، كان على رأس المشركين، فوقع أسيراً، ولما كان الرسول بالصفراء أو الأثيَل، أمر بقتله، فقتل.

وقد نسب بعض أهل الأخبار "النضر بن الحارث" على هذه الصورة: "النضر ين الحارث بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار"، وقالوا إنه من أشراف قريش وأسيادها، وكلن من مطعمي "بني عبد الدار"، ونصوا أنه "كان من كفّار قريش شديد العداوة لرسول الله"، وانه كان ابن خالة الرسول، ولهذا فلا يمكن أن يكون هذا النضر ابناً للحارث بن كلدة الثقفي، الذي هو "الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج" على رواية من ضبط نسبه من أهل الأخبار. ثم إن "الحارث بن كلدة الثقفي"، لم يخلف إلا ابنة يقال لها أزدة، على ما ذكره "أبو عبيدة"، لشك فلا يمكن أن يكون "النضر بن الحارث" ابناً له، كما ذهب إلى ذلك "ابن أبي أصبيعة" وغيره، لا سيما وان "ابن أبي أصبيعة" نفسه قد جعله في عداد المشركين من قريش الذين آذوا الرسول، وذكر انه ابن خالة النبي، وأنه آذاه وساهم مع المشركين في معركة بدر فأسر. وأن أخته "قتيلة" قد رثته بشعر دوّنه، كما دوّنه غيره. وما دوّنه عنه، دوّنه غيره من ترجمة "النضر بن الحارث بن كلدة بن عبد مناف بن عبدار" القرشي، وتجده مذكوراً مع شعر الرثاء في كتاب "نسب قريش" للزبيري. وهو من العلماء بنسب قريش ومن المتقدمين على "ابن أبي أصبيعة".

وفي رواية يرجع سندها إلى "الكلبي" و "مقاتل"، أن في حق "النضر ابن الحارث"، نزلت الآية )ومن الناس من يشتري لهو الحديث(. فقد قيل: "إنه كان يخرج تاجراً إلى فارس، فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشاً، ويقول لهم: إن محمداً، عليه السلام، يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن". وقد نزلت في حقه ثماني آيات، يفهم من تفسير علماء التفسير لها، أنه كان ذكياً لبقاً و "شيطاناً" من شياطين قريش، له علم بالشعر وبأخبار الأمم، يراجع أحبار اليهود وعلماء النصرانية، ليزيد بذلك علماً على علمه، وكان يعتقد لذكائه وعلمه أنه أحق بالدعوة من النبي، وحسده وصار يعاكسه في كل مكان.

ووصف بأنه صاحب أحاديث ونظر في كتب الفرس. كان يحدّث، ثم يقول: أينا أحسن حديثاً: أنا أم محمد ? ويقول: إنما يأتكم محمد بأساطير الأولين. وقيل: إنه كان يقول إنما يعينه على ما يأتي به في كتابه هذا جبر، غلام الأسود بن المطلب، وعدّاس غلام شيبة بن ربيعة، ويقال: غلام عتبة ابن ربيعة، وغيرهما. فأنزل الله: )ولقد نعلم أنهم يقولون إِنما يعلمه بشر. لسانُ الذي يُلْحدِون إليه أعجميّ وهذا لسان عربي مبين(. وكذلك )قال الذين كفروا إن هذا الا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون. فقد جاؤوا ظلماً وزوراً. وقالوا: أساطير الأولين، اكتتبها، فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً(، وروي أنه كان يحدث قومه أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار. وعلى هذا، فلم يكن النضر، في عداد الأطباء، وإنما كان في عداد الواقفين على أساطير الفرس ولغتهم، ولا تستبعد مع ذلك عنه مزاولة الطب، لأن المثقفين في ذلك الوقت، كانوا يعالجون ويدرسون مختلف العلوم والمعرفة.

وأما ابن أبي رمثة التميمي، فكان طبيباً على عهد الرسول مُزاولاً لأعمال اليد وصناعة الجراح. ولم يذكروا عنه شيئاً غير هذا المذكور. وذكر من الأطباء طبيب يقال له ابن حِدْيم، من تيم الرباب، قيل: انه حاز على شهرة واسعة بين الجاهليين، وانه ذكر في شعر لأوس بن حجر، هو: فهل لكم فيها إلىّ، فـإنـنـي  طبيب بما أعيا النطاسي حذيما 

وزعم انه كان أطب العرب، وانه كان أطب من الحارث بن كلدة، حتى ضرب بطبّه المثل، فقيل: أطبّ من حِذِْيم. وذكر انه كان بارعاً في الكي، فقيل: أطبّ في الكي من ابن حِذيم. وقيل هو انه كان من "تيم الرباب" وكان متطبباً عالماً، وهو أقدم من الحارث بن كلدة. وقد جعله بعضهم "ابن حذام" "ابن حمام" الشاعر المذكور في شعر "امرىء القيس"، وهو خطأ ورد من باب التصحيف.

ويظهر من كتب الحديث والأخبار والتراجم، إن هناك نفراً آخرين مارسوا التطبيب في أيام النبي. فقد اشير إلى نفر من قبيلة أنمار زاولوا الطب في أيام الرسول. وذكر إن النبي بعث إلى ابيّ بن كعب طبيباً، فقطع له عرقاً، وكواه عليه.

وأشير إلى اسم طبيب آخر، عرف ب "ضماد بن ثعلبة الأزدي"، ذكر أنه كان يداوي، وانه جاء إلى رسول الله. وانه كان صديقاً للنبي في الجاهلية، وكان من ازد شنوءة. وكان رجلاً يتطبب ويرقي ويطلب العلم، ويداوي من الريح. وقد أسلم. وكان محترماً مقدراً. ذكر أن بعثاً بعثه رسول الله أو ابو بكر، مرّ ببلاد ضماد، فلما جاوزوا تلك الأرض. وقف أميرهم، فقال: أعزم على كل رجل أصاب شيئاً من أهل هذه الأرض إلا رّده، لمكانة هذا الرجل ولشرفه ولصداقته للرسول. "وروي انه قدم مكة معتمراً، فسمع كمار قريش يقولون: محمد مجنون، فقال: لو أتيت هذا الرجل فداويته. فجاءه فقال له: يا محمد إني أداوي من الريح فإن شئت داويتك لعل الله ينفعك، فتشهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحمد الله وتكلم بكلمات فأعجب ذلك ضماداً، فقال: أعِدها عليّ، فأعادها عليه فقال: لم أسمع مثل هذا الكلام قط، لقد سمعت الكهنَة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل هذا قط".

ولا يستبعد تعلم هؤلاء الأطباء في جنديسابور مركز الطب والعلوم في الانبراطوربة الساسانية، أو في أماكن من بلاد الشام، فقد كان الطبيب الحاذق محتاجاً في هذا اليوم إلى تعلم هذا العلم في أماكن متعددة للاستفادة من تجارب الأطباء. وقد كان السفر متصلاً غير منقطع، فلا يستبعد قدوم الأطباء وطلاب الطب من جزيرة العرب إلى هذه الأماكن للتعلم فيها.

واشتغلت النساء بالمعالجة والتطبيب أيضاً. فقد قامت "رفيدة" تداوي جرحى المسلمين يوم ذهابهم إلى "بني قريظة". وكانت امرأة تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين. وكانت لها خيمة في المسجد، مسجد الرسول بيثرب تداوي بها الجرحى. ولما جرح "سعد بن معاذ" يوم الخندق، قال رسول الله: "اجعلوه في خيمة رفيدة التي في المسجد حتى اعوده من قريب"، وكان الرسول يزوره في خيمتها في الصباح وفي المساء.

واشتهرت "زينب"، وهي من "بني أود" بالطب. كانت تطبب وتعالج العين والجراح.

والوجع المرض المؤلم، والعرب تسمي كل مرض وجعاً، ويعبر عنه بالسقام كذلك. وذكر أن "الوعك" الحمىّ أو ألمها وأذاها ومغثها في البدن، وذكر إن الوعك لا يكون إلا من الحمىّ دون سائر الأمراض.

وقد عالج الأطباء الجروح بوضع الخرق بعضها فوق بعض على الجرح، أي بتضميده بها، ويقال لذلك "الغميل". وكانوا إذا ارادوا تعريق المريض، غملوه، اي غطوه بالثياب ليعرق، فيشفى من البرد والزكام. والضماد العصابة أو الخرقة تشد فوق الجرح أو الرأس، أو اي موضع من الجسم يشتكي من وجود ألم به، فكانوا يضمدون الرأس للصداع، كما كانوا يضمدون العين، بوضع الدواء في العين، أو على الخرقة ثم تضميد العين بها، ورد إن "طلحة" ضمد عينه بالصبر، كذلك كانوا يضعون الأدهان على الضماد، لتضميد الجروح، أو الأورام أو موضع الألم.

ويذكر علماء اللغة أن "النطاسي"، العالم الشديد النظر في الأمور، فهي بمعنى الحاذق. ويقال: طبيب نطّيس ونطاسي، وورد: نطس الاطباء. وهي أكثر ما ترد مع الاطباء، للدلالة على الحذق والفهم في هذه الصناعة. وذكر علماء اللغة إن اللفظة من المعربات، عربت من أصل "نسطاس"، وهي من لغة الروم. والنُطس الاطباء الحذاق، والعالم بالطب بالرومية.

ولعدم وصول كتب أو صحف أو أحجار لها علاقة بالطب عند الجاهليين، اضطررنا إلى أخذ معارفنا في الطب من الموارد الاسلامية، مثل كتب التفسير والحديث والادب، ففيها إشارات إلى بعض الامراض، وفي بعضها اشارات إلى معالجة بعض منها. هذا، وتفيدنا الموارد الاعجمية في هذا الباب كثيراً، لورود أمراض فيها وطرق معالجة، كانت معروفة وشائعة في الشرق الأوسط قبل الإسلام. ونجد في المعجمات الخاصة بالعهدين القديم والجديد وفي تواريخ الطب القديم معلومات ذات أهمية كبيرة بالنسبة الينا، لأنها تعيننا على تكوين رأي في الطب عند الجاهليين.

والمذكورون، هم أطباء نشأوا في المدن، وأقاموا في الحضر، وتعلموا من أطباء محترفين. أما الأعراب، فقد كان لهم أطباء، ولكن طبهم، هو طب العرف والعادة. طبّ موروث، يداوي بالوصفات التي داوى بها الآباء والأجداد، دون تغيير وتبديل وجدل ونقاش. ولهذا، فهو طب بدائي تقليدى موروث، يعتمد في مداواته على قدرة القبيلة، وعلى ما يجده الطبيب حوله من نبات وأعشاب وحيوان ونار فيداوى بها. وما زال الأعراب على طبّهم هذا، يداوون به على نحو ما داوى أجدادهم وأجداد أجدادهم في الإسلام وقبل الإسلام.

وليس لطب البادية اتصال بالطب الخارجي، إلا ما كان من طب القبائل القاطنة على مقربة من الحواضر، أو القبائل التي كان لها اتصال مباشر منتظم أو غير منتظم بالعالم الخارجي. فقد تسرب إلى علم "العوارف" فيها نفح من الطب الغريب، عالج به "عوارف" القبيلة، واستمروا على المعالجة به، حتى صار سنّة لهم وطباً قبلياً. ومن أهم صفات الطب القبلي، انه طب لا يثق إلا بنفسه، ولا يرى الشفاء إلا من أطبائه وبأدويته المتعارفة عنده، والمريض الأعرابي لا يعمل إلا بطب أصحاب الخبرة من الشيبة والعجائز الذين عرفوا بممارستهم معالجة المرض. وللسن عندهم قيمة في نجاح المعالجة والحصول على الشفاء، فالسن تجربة وعلم، ولذلك فللمسن المعالج الذي يرجع إليه عند الشكاية من الألم والمرض، تأثير كبيرعلى المريض من الناحية النفسية، لاعتقاده بان السنين تزيد في خبرة الإنسان وتضيف إلى علمه القديم علماً جديداً. لذلك يثق المرضى به، مع إن طب الأعراب، لا يعرف البحث والمطالعة لزيادة العلم، ولا يركن إلى التجديد بالحصول على معارف طبية جديدة، بدراسة أثر أعشاب البادية بصورة مستمرة في شفاء المرضى واستخلاص النتائج من مراقبة تأثير الدواء على حالة المريض.

وقد عرف طب البادية ب "طب الأعراب" وبطب البادية، وعرف دواء الأعراب بدواء أهل البادية. وهو دواء نابت من محيطهم يستند على المعالجة بالأعشاب وبالرماد وبالألبان وبأبوال الإبل وبالخرز. ومن أدويتهم "النهاء" دواء يكون بالبادية يتعالجون به ويشربونه. ويظهر انه من حجر يقول له "النهاء"، وهو حجر ابيض أرخى من الرخام، يكون بالبادية، ويجاء به من البحر. وضرب من الخرز.

و "العقار" و "العقاقير" الأدوية. وقيل ما يتداوى به من النبات أو اصولها والشجر. و "العُقار" في الآرامية ما يتساوى به من النبات، أي حواء. وطب مثل هذا، لا يمكن أن يأتي بنتائج ايجابية في معالجة الأمراض الصعبة العسيرة، وفي حالات مرضية مهمة جداً في نظر بعض الناس، ولا سيما مشايخ القبائل، كالعقم وتقوية الشهوة الجنسية، ولهذا كانوا يلجأون إلى أطباء الحضر. وقد أدرك الرهبان والمبشرون أثر هذه الحالات المرضية، ولا سيما الأمراض النفسية منها في نفوس أولئك الرؤساء، وجلهم ممن درس الطب وقرا الكتب المؤلفة فيه ومارسه عملياً، فذهبوا بأنفسهم إلى القبائل للتبشير، وعالجوا الرؤساء معالجة نفسانية في الغالب، وأثروا فيهم، ونجحوا في مثل هذه الحالات في كسب عطفهم عليهم وتأييدهم لهم، وفي الدخول في جوارهم، للقيام بالتبشير. ونجد في النتف الباقية عن حياة المبشرين الذين بشروا بين العرب قصصاً من هذا النوع روي في معالجة بعض الرؤساء، يذكر أنهم نجحوا في معالجتهم وأن نجاحهم هذا هو كرامة ومعاجز قد تمت بفضل الله ومنةّ المسيح.

ويكون الشفاء عند العرب في ثلاثة: شربة عسل وشرطة عجم وكيّة نار.

واذا عجز الطبيب من اشفاء مريضه بما عنده من وسائل لجأ إلى "الكيّ"، ولذلك جاء: "آخر الدواء الكي". وكان أهل الجاهلية يرون انه يحسم الداء بطبعه فيبادرون إليه قبل حصول الاضطرار إليه ويعالجون به أكثر الأمراض. وروى في الحديث قوله: "الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكيّة نار، وأنهى أمتى ثمن الكيّ".

والعسل من الأدوية والوصفات التي أمر بها الأطباء في معالجة بعض الأمراض، ولا سيما أمراض المعدة، عولج به وحده، وعولج به ممزوجاً بمواد أخرى، لتكوين عجائن ولصقات منه. واستعملت العجائن المكونة من الدقيق والتمر والسمن في معالجة أمراض الجلد وآلام المفاصل، والنزلات. كذلك استعملت لصقات كونت من مواد أخرى في معالجة مثل هذه الأمراض. والمناخ هي من طرق المعالجة أيضاً، ومنها مناقيع الخل والزيوت.

وقد ورد في رواية: إن الرسول أرسل عكّة عسل إلى لبيد الشاعر الشهير حين علم بمرضه، فشرب منها، وبرئ، وفي هذا الخبر دلالة على تداويهم بالعسل.

وقد أقام أهل مكة والحجاز وزناً كبيراً للمداواة بالعسل. ونجد في كتب الحديث وفي كتب الأدب والأخبار اشارات إلى هذه المساواة. وقد استعملوا العسل في مداواة "المبطون" الذي يشتكي بطنه من الاسهال المفرط، ومن سوء الهضم، لاخراج الفضول المجتمعة في المعدة وفي الأمعاء.

وفي جملة معالجات الأطباء ووصفاتهم للمرض، استعمال الحجامة، أي استخراج مقدار من الدم بكأس يسحب هواؤها بالمص، فيخرج الدم من الشروط التي عملت في ظهر الرقبة. وقد استخدموها في معالجة الرأس والشقيقة والصداع. والفصد. واستعمال ديدان خاصة لامتصاص الدم. والشقيقة صداع يصيب شقي الرأس، وان أصاب الصداع قنة الرأس أحدث داء البيضة. وأما الصداع فهو عام.

والفصد، هو شق العرق لإخراج مقدار من الدم للمعالجة من بعض الأمراض.

وقد عرف عند العرب كما عرف عند غيرهم. وقد داووا الصبيان ب "الفصيدة". يمر يعجن ويشُاب، أي يخلط بدم. والظاهر أن هذا الدم، هو من دم الفصد. وقد كان الجاهليون يأكلون دم الحيوان، يجففونه بعد خلطه مع مادة أخرى، أو وضعه في أمعاء ليجف فيؤكل، أو مع الشعر ثم يأكلونه، ومنهم من كان يشرب الدم، للقوة. و "وفي حديث عكرمة: كان طعام أهل الجاهلية العلهز. قال ابن الأثير: هو طعام من الدم والوبر"، وذلك أن يخلط الدم بالوبر، أو الصوف ينفش ويشرب بالدماء ويشوى ويؤكل. وقد نسب أكله إلى الفقراء وإلى أيام المجاعة، وزعم أنهم كانوا يخلطون فيه القردان، أو دم الحلم. ونسب أكله إلى القحطانيين، وذلك في شعر هجاء، هو: وان قرى قحطان قرف وعلهز  فأقبح بهذا ويح نفسك من فعل

وهو من الشعر المنبعث عن عاطفة العصبية ولا شك.

وكان الفصد عند العرب من جملة وسائل القتل التي تستعمل في قتل الملوك والأشراف. تمييزاً لهم عن السوقة وسواد الناس الذين يقتلون بحدّ السيف، فقد كان الشريف إذا سقط في أيدي عدوّه ووجد نفسه أنه مقتول لا محالة، أوصى بإسقائه الخمر، حتى يسكر، فيخف بذلك ألمه ثم يفصد عرق اليد فيعرج منه الدم حتى يموت ميتة الأشراف.

واستعمل الكيّ في معالجة أمراض المفاصل، مثل الرثَيَة "الروماتزم"، و قد برع في ذلك الأعراب بصورة خاصة. وهو معالجة أخذ بها أطباء أهل الوبر أيضاً، وطريقتهم هي كي الجزء المريض بحديدة محماة، أو بحجر محمى، وقد استعمل الكي أيضاً في معالجة الجروح والقروح ووجع الرأس، وفي العربية مثل قديم، له علاقة به، هو: آخر الدواء الكي، فالكي اذن معالجة يلجا إليها حينما يعيا الدواء عن الشفاء. واستعمل في معالجة الاستسقاء، بالكي على البطن. وينسب أهل الأخبار المثل المذكور إلى "لقمان بن عاد"، وفي نسبتهم هذه المعالجة إليه دلالة على قدمها عند العرب. وهي معالجة لا زال الأعراب يستعملونها في مداواة أمراض عديدة عندهم، لا سيما في معالجة امراض الروماتزم. وقد ورد أن "خباب بن الأرت" اكتوى في بطنه سبع كيّات.

و "الرِثية" وجع المفاصل واليدين والرجلين، وقيل وجع الركبتين والمفاصل، أو ورم وظلاع في القوائم، أو هو كل ما منعك من الالتفات أو الانبعاث من كبر أو وجع.

وقد استعملوا "الكي" للشوكة. والشوكة حمرة تظهر في الوجه وغيره من الجسد. وقد كوى "أسعد بن زرارة" من الشوكة. وقيل الشوكة داء كالطاعون، وكانوا يسكنون الشوكة بالرقي كذلك.

والبصل والثوم والكمون والكرفس والخردل هي من النباتات التي عولج بها، فاستعمل البصل لمعالجة النزلات الصدرية وبعض أنواع الحميات وللقضاء على الديدان في داخل الجسم. واستعمل الثوم لمعالجة أمراض المعدة والديدان أيضاً، وفي معالجة أمراض القلب. واستعمل الكمون في معالجة النزلات الصدرية كذلك. وهو من الأدوية المعروفة عند غير العرب أيضاً، فقد كان العبرانيون يستطبون به، وكانوا يحصلون عليه بواسطة الفينيقيين والعرب. واحسنه هو الكمون المستورد من "سيلان". وعالجوا به في الادرار، وفي مطاردة الريح في المعدة وللهضم.

وعولج بالسنا وبالشبرم وبالزبيب، ويرون إن الزبيب يُذهب النّصب، ويشد العصب، ويطفىء الغضب، ويصفي اللون، وبالسفرجل ويرون أنه يشد القلب، ويطيب النفس وينسب بطخاء الصدر. وعالجوا بالتين، استعملوه لمعالجة الإمساك والكبد والطحال، وعالجوا بالرمان.

و "الحُلبةُ" من النبات الذي عولج به في أمراض كثيرة، فعولج به امراض الصدر مثل الربو والسعال والبلغم، وعولج به الكبد والمثانة والبواسير وآلام الظهر. وذكر أن "الحلبة" طعام أهل اليمن عامة، وبالغوا في فوائدها حتى رووا أن حديثاً ورد فيها: "لو يعلم الناس ما في الحلبة لاشتروها ولو بوزنها ذهباً".

وتطيب بالسعوط والنشوق. وقد استعملوا لذلك جملة مواد، منها: دهن الخردل، ودهن البان، والقسط الهندي والبحري، وبالعود الهندي والكافور. وقد استخدم العود الهندي في معالجة ذات الجنب. ويرى بعض الباحثين أن النشوق من أصل آرامي هو "نسكو Nosko" من Nsk بمعنى أسال في شيء، أي سواء يسكب في الأنف. واستخدم "السُنبل"، وهو نبات طيب الرائحة في التساوي كذلك، ويعرف ب "سنبل" في السريانية أيضاً.

وذكر أن "السعوط" اسم الدواء يصعب في الأنف. وذلك بأن يوضع الدواء في إناء يجعل فيه السعوط ويصب منه في الأنف ويقال للاناء المسِعط والسعيط والمسُعط. ويستعمل السعوط من مختلف الدهون. وقد استعمل في مداواة "العذرة"، وهو وجع يأخذ الطفل في حلقه، يهيج من الدم أو في "الخرم" الذي هو بين الأنف والحلق، وهو سقوط اللهاة. وقيل قرحة تخرج بين الأنف والحلق تعرض للصبيان غالباً عند طلوع العذرة وهي خمس كواكب تحت الشعرى. أي العبور وتطلع وسط الحر.

و "القسط" عود يجاء به من الهند، فعرف لذلك بالقسط الهندي، وعود يؤتى به من اليمن، ويعرف بالقسط البحري. وعود عرف ب "قسط اظفار" وقسط عرف ب "القسط المر" وهو كثير ببلاد الشام. ويقال للقسط "الكست" و "كشط". وذكر إن الرسول أشار إلى "القسط" فقال: "عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية: يستعط به من العذرة ويلدّ به من ذات الجنب. وقد استعمل القسط بخوراً ودواء. وهو من نبات أصله من الهند، يقال له "قسطس"، وهو معروف عند غير العرب أيضاً ويداوى به.

وعالجوا ب "العيد"، شجر جبلي ضمدوا بلحائه الجرح الطري فيلتئم. وب "السنى"، نبت يتداوى به. وقد جاء ذكره في الحديث. وقد خلطوه بالحناء لتقوية اللون وتسويده. وداووا ب "السعتر" "الصعتر"، وبالقرطم، في معالجة أمراض عديدة.

وقد كانت النساء تعالج الصبيان من العذرة بالغمز، وذلك إن المرأة كانت تأخذ خرقة فتفتلها فتلات شديداً وتدخلها في حلق الصبي وتعصر عليه، فينفجر منه دم أسود وربما أقرحته.

وعرف "الدرياق" "الترياق" في التطبيب به، استعمل لدفع السم من الأدوية والمعاجين، والعرب تسمي الخمر "ترياقاً" و "درياقاً" لأنها تذهب بالهم. و "الترياق"، فارسيّ معرب. ويقال درياق. بالدال أيضاً، "وفي الحديث إن في عجوة العالية ترياقاً. الترياق ما يستعمل لدفع السمُ " من الأدوية والمعاجين".

والبلسم، من المواد المهمة في المعالجات الطبية، وقد اشتهر كثيراً في الطب القديم، ليس عند العرب فقط، ولكن عند أكثر الأمم الأخرى. اشتهر في معالجة الجروح خاصة، اذ هو مادة صمغية تضمد بها الجراحات. ووطنه بلاد الحبشة، واشتهر من أنواعه الجيدة "بلسم جلعاد" عند العبرانيين، وهو ذو رائحة عطرة. وقد مدحه الأطباء وأثنوا عليه في معالجة الأمراض والجروح.

وذكر علماء اللغة أن "البلسم"، هو "البلسام" وهو البرسام، والموم. و البلسم: القطران. و "البلسم" هو "بلسمون"، و "بلسان" Valsamor. وقد استعمل لحاء "العقد" لتضميد الجرح الطري، فيلتحم لخاصية فيه. وعالجوا ب "البان"، وهو شجر معروف، ذكر في شعر "امرىء القيس"، ولحى ثمره دهن، وحبه نافع للبرش، والنمش، والكلف، والحصف، والبهق، والسعفة، والجرب، وتقشر الجلد، واستعمل في الإسلام لمداواة أمراض عديدة.

و "السفوف" كل دواء يؤخذ غير معجون، مثل سفوف حب الرمان وغيره. وترد اللفظة في الارامية بالمعنى نفسه، وهي من المعربات عنها.

واستعملت للزيوت في معالجة عدد من الأمراض والجروح، فاستعملت في معالجة البطنة مثلاً. وقد تخلط بغيرها،كالخمر أو الخل أو الملح، وقد تغلى ثم توضع على الجرح لقطع النزيف منه ولتعقيمه. والمعالجة بالزيوت، قديمة معروفة عند المصريين والعبرانين واليونان وغيرهم، تشير إليها في كثير من الموارد القديمة وعولج "الباسور" بدهنه بزيت الزيتون.

وعالجوا باسنعمال "الحبة السوداء"0 استعملوها قليلا، وأكلا ولطوخاً، كما سحقوها وخلطوها بالزيت لاستعمالها قطرات في معالجهً أمراض الأنف، وقد كانوا يبالغون في منافعها، فاستعملوها في معالجه امراض كثيرة باطنية وخارجية وذكروا ان الرسول قال: "إن هذه الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا السأم"، والسام الموت.

وعولج باْلألبان، ولا سيما ألبان الإبل. وهم يفضلون لبن الإبل على سائر الألبان. وقد عولج به مختلف الأمراض، ومن ذلك "السقم".

وعالجوا بأبوال الإبل أيضاً. وورد في شعر "لبيد بن ربيعة العامري" أنهم عالجوا ببول الإبل، وكانوا يغلونها أحياناً ليشربها المريض.

وعولج ب "التلبينة"، حساء من نخالة ولبن وعسل، وقيل حساء يتخذ من ماء النخالة فيه لبن. وذكر أنها تجم فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن وتنظف المعدة. وعالجوا بلحساء لغسل البطن وتنظيفها من سوء الهضمْ.

وعولج بإهراق الماء على المريض، وذلك في أمراض، الحمى، وفي الأمراض التي يشعر المريض بأن في جسمه حرارة والتهاباً، فيجلس على كرسي ويصب الماء عليه، حتى يخفف من شدة حرارة المربض. كما عولجت الحمى بنصح المريض بالاكثار من شرب ألماء البارد وغسل الأطراف.

وللمحافظة على الأسنان ولظهورها بيضاء نظيفة، استعملوا السِواك وبعض الأعواد لاستخراج الفضلات التي تتخل الأسنان، وما زال الحجاج يستوردون المساويك من مكة. وقد اشتهرت مكَة منذ الجاهلية بالسواك، يستخرج من اغصان أشجار تنبت هناك، لأغصانها رائحة طيبة، وتساعد على تبييض الأسنان. ومن المواد التي عملت منها المساويك: البشام، والضرو، والعثم، والأراك، والعُرجون، و الجر يد، و الإسحل.

وقد حث الإسلام على تنظيف ألأسنان بالمسواك. ورد في الحديث: "السواك مطهرة للفم" أي يطهر الفم. وأشير إلى المسواك في الشعر، إذ ورد: وكأن طعم الزنجبـيل ولـذة  صهباء ساك بها المسحر فاها 

وهو للشاعر "عدي بن الرقاع"، وورد في شعر آخر: إذا أخذت مسواكها ميحت بـه  رضاباً كطعم الزنجببل المعسل 

واستعمل الإثمد والكحل في معالجة الرمد، كما استعملوا قطرات من أدوية استحضروها مثل ماء الكمأة في معالجة أمراض العين. وذكر إن الإثمد يحد البصر، ويقوي النظر.

والكحل، من جملة مواد تطبيب العيون، ومن جملة وسائل الزينة كذلك. يستعمله الرجال والنساء. وقد كان معروفاً عند الشعوب الأخرى، يصنع من حرق اللبان أو قشور اللوز،ومن السخام المتبقي من حرق بعض الدهون والزيوتْ. وقد عرفت مكة لصنع الكحل قبل الإسلام، ولا تزال مشهورة به. وقد كان الناس يحملون المكاحل في جيوبهم ويحتفظون بها في بيوتهم، يعملونها من القرون أو المعادن، ويبالغ الأغنياء منهم في زخرفتها وفي تزيينها للتبجح بها عند اخراجها أمام الناس.

ونصحوا بتنقيط نقط من باء بارد في العين عند النهوض من النوم، لجلائها وأزالة الغشاوة عنها، كما نصحوا بوضع القدمين و اليدين في ماء بارد أو حار، وذلك لمعالجة العين، ولمعالجة القدمين واليدين أيضعاً. وقد عرف العبرانيون هذه المعالجة كذلك.

وكانوا يعالجون الماء الأسود الذي يحدث في العين بالنقب، أي القدح. وقد ورد فى حديث "ابي بكر"، أنه اشتكى عينه فكره أن ينقبها. و "الناقب" و "الناقبة" داء يعرض للانسان من طول الضجعة، وقيل هي القرحة التي تخرج بالجنب. وعالجوا الماء الأبيض باستعمال الأشياء الرفيعة الحادة مثل السكين أو العاقول، لرفع الغشاء الرقيق وسحبه عن للعين، بعد اكتمال نزول الماء بها.

ولقطع نزيف الدم المنبعث من الجروح، استعملوا الرماد، والزيوت المغلية تسكب على الجرح، لقطع نزيف الدم. أما النزيف النازل من الأنف، وهو الرعاف، فقد استخدموا الماء البارد لقطعه. وقد عرفوا كذلك ربط الجروح بشدة حتى يقف الدم فينقطع، واستعملوا الضماد والمناديل لمنع الدم من الخروج، ومن ذلك قولهم: ضمد الجرح، أي شده. واستعملوا حرق الحصير والمواد القابلة للاشتعال لاستعمال رمادها لقطع النزيف، أو وضع الملح على الجرح لايقاف نزيف الدم منه. ولمعرفة عمق الجروح ومقدار غورها، استعملوا آلة يسمونها المِسبار، والسبِّار، فتيل يجعل في الجرح. ويعبرون عن مداواة الجرح بقولهم أسَا الجُرحَ، أي داواه وشفاه.

وقد عولج الإمساك بالحقن، أي حقن المريض، وباستعمال المسهلات لتليين المعدة.

والباسور من الأمراض المعروفة عند الجاهليين، وقد أشير إليه في كتب الحديث. "وفي حديث عمران بن حصين، وكان مبسوراً، أي به بواسير". واللفظة معربة. والبواسير جمع "باسور". والناسور علة تحدث في حوالى المقعدة، وعلة تحدث في المآقي، وفيَ اللثة.

وعولجت الأورام التي تصيب الجلد بالمناقيع واللصقات، ولا سيما اللصقات الحارة، كي تعجل في اخراج الصديد من العضو المتورم. واستعملت هذه اللصقات من سحق بعض الحبوب ذات المادة الدهنية، مثل حب الكتان أو حب البخور، وبعد سحقها توضع على النار ثم تفرغ في قماش لتوضع فوق الورم لازالته، وتحويله إلى صديد. واستعملت من مواد أخرى مثل التمر مع الزبد وأمثالها، وكلها على أساس إن الدفء الذي يكون فيها يسبب زوال الورم وتحوُّل الدم الفاسد إلى صديد يخرج أو يجف.

واستعمل "الزقوم" في معالجة الجروح. وهو مرّ شديد المرارة، وأشير إلى "شجرة الزقوم" و "شجر من زقوم" في القرآن الكريم، ولما نزلت الآية لم تعرف قريش معنى الكلمة، "فقال أبو جهل: إن هذا الشجر ما ينبت في بلادنا، فمن منكم يعرف الزقوم ? فقال رجل قدم عليهم من أفريقية: الزقوم بلغة افريقية: الزبد بالتمر. فقال أبو جهل: يا جارية هاتي لنا زبداً وتمراً نزدقمه، فجعلوا يأكلون منه ويقولون: أفبهذا يخوفنا محمد في الآخرة!".

والزقوم نبات بالبادية منه زهر ياسميني الشكل. وقيل شجرة غبراء صغيرة الورق مدورتها لا شوك لها ذفرة مرة لها كعابر في سوقها كثيرة ولها وريد ضعيف جداً يجرسه النحل ونورتها بيضاء ورأس ورقها قبيح جداً. وفي أريحا شجرة يقال لها الزقوم لها ثمر كالتمر حلو عفص، ولنواه دهن عظيم المنافع في تحليل الرياح الباردة وأمراض البلغم وأوجاع المفاصل والنقرس وعرق النسا، وذكر أن أصلها من الهند، جاءت به بنو أميّة من أرض الهند وزرعته بأريحا.

وعولجت كسور العظام بالجبائر، وبالدلك، ووضع المناقيع فوق العضو المصاب عظمه بالكسر، والجبيرة: العيدان التي تجبر بها العظام، وذلك بعد جبر المجبر لها.

ومن المصطلحات الطبية المتعارفة عند الجاهليين: "البطنة"، وهي التخمة.

وتعالج بالحمية وبالمنتقعات والحقن. وقد عرف الجاهليون أثر المعدة في الصحة العامة، فعُدّت بيت الداء، والحمية رأس كل دواء.

والأمراض التي تعرض لها الجاهليون عديدة، منها: العمى، والعَوَر، والتهاب العيون، والرمد، ومنها: ما يصيب الجلد، مثل البرص والوضح، والبهق، والحكة، والدمامل، و البثور، والجرب، والقرح، ومنها امراض داخلية، مثل أوجاع المعدة والكبد واليَرَقان والصداع والشقيقة، وذات الجنب وأوجاع المفاصل والعظام، والفالج، والسل، و الحمى، وأمراض أجهزة البول والحمى والبُرّداء. وأمراض القلب والرعشة والجنون والأمراض العصبية الأخرى وغير ذلك من أمراض لا تزال معروفة.

ومن الأمراض المعروفة عند الجاهليين البرص، وهو مرض يصيب الجلد، وهو غير الجذام ويطلقون عليه "الوضح" كذلك، لبياض يظهر في ظاهر البدن ومنه قيل لجذيمة الأبرش جذيمة الوضاح. وقد كان معروفاً في الشرق الأدنى، وأشير إليه في التوراة، وهو نوع من "البسورياس" Psoriasis أو "اللبرا" Lepra, Leprosy. ويظهر انه كان كثير الانتشار، وممن أصيب به "الحارث ابن حلزة اليشكري"، وجماعة آخرون من الأشراف والمعروفين ذكرهم أهل الأخبار.

وقد نعت البرص ببعض النعوت، فقيل لمن به برص "المحجل"، و "الوضاح"، و "الوضح" البرص. وقد كان الناس يكرهون مجالسة البرُص خشية العدوى، فكان الملك "عمرو بن هند" يتجنب مؤاكلة الُبرص، ويأمر بنضح الأمكنة التي يجلسون عليها حذر العدوى. وكانت قريش قد أخرجت "أبا عزة، عمرو ابن عبدالله بن عمير بن وهيب بن حذافة"، وهو من البُرص، من مكة مخافة العدوى، فكان يكون بالليل في شُعَف الجبال، وبالنهار يستظل بالشجر.

وأما الجذام، فإنه من الأمراض المعدية، وقد كان معروفاً بين الجاهليين، وقد ورد النهي عن الاختلاط بالمجذومين في حديث: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" مما يدل على شدة عدواه واختلاط المجذومين بين الناس في ذلك العهد. وذكر علماء اللغة أن الجذام علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله، فيفسد مزاج الأعضاء وهيأتها، وربما انتهى إلى تقطع الأعضاء وسقوطها عن تقرح.

و "البهق"، هو مرض جلدى أيضاً، يترك بياضاً في الموضع المصاب من الجسد، وهو "زرعة" في العبرانية. ويدعى Laprosy.

وقد كانت أمراض الجلد من الأمراض المتفشية بالنسبة إلى تلك الأزمنة، لقلة العناية الطبية وللفقر وعدم توفر وسائل النظافة والتنظيف بين معظم الناس. ولسوء تغذيتهم بسبب فقرهم العام.

و "السفعة" من امراض الجلد، وهي سواد أو حمرة يعلوها سواد أو صفرة، تظهر في الوجه. وقد علل حدوثها بإصابة العين، والثؤلول، بثر صغير صلب على صور شتى تصيب الجسد، وقد مات "أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب" من ثؤلول كان برأسه، حلقه حلاق فقطعه فمات منه.

ومن الأمراض الخطيرة التي أشير إليها في كتب الحديث والأخبار: الحمى، وقد كانت شديدة الانتشار في المدينة، حتى أضعفت أجسام معظم أهل المدينة والمهاجرين. وهي علة يستحر بها الجسم، وقد أهلكت كثيراً من الناس، ولذلك قيل: الحُمى رائد الموت، أو بريد الموت، وقيل: باب الموت. وقد اشتهرت خيبر بنوع خاص من الحمى.عرف باسمها، فقيل: حمى خيبرية وحمى خيبر وحمى خيبري، وذكر علماء اللغة أسماء للحمى تحكي صفاتها وكيفية ظهورها وتحكمها في البدن، فقالوا: حمى الغب، وذلك اذا أخذت المريض يوماً وتركته يوماً، وحمى الربع، وحمى الصالب، وهي الحمى التي يكون معها صداع، والنافض، والراجف التي تكون معها رعدة ونفضة، وحمى مغبطة ومردمة، أي دائمة عليه لا تقلع، وتسمى الحمى المطبقة أيضاً، والوعك الحمى، وحمى الروح، وحمى الدّق أن يغمى عليه في الحمى، والورد هو يوم الحمى. ويقال للعرق الذي يتصبب من الحمى: الرُحَضاء، ولأول ما يحس بالحمى: المسّى. ويقال في السريانية للحمى "حمتو" Hemto بمعنى حرارة.

وذكر أن "حمى صالب"، أو "الصالب" حمى معها حرّ شديد وليس معها برد. وقال بعض علماء اللغة: الصالب من الحمى الحارة خلاف النافض. وقيل هي التي فيها رعدة وقشعريرة. و "الحمة" في تعريف العلماء علة يستحر بها الجسم، سميت لما فيها من الحرارة المفرطة، وإما لما يعرض فيها من الحميم، وهو العرق. ورد في الحديث: الحمى من فيح جهنم.

وقد لاقى الرسول و الصحابة شدة من "حمى" المدينة، وقد ذكر إن "أبا بكر" كان إذا أصابته الحمى وكانت تزوره مناوبة- قال: كل امرئ مصبح في أهلـه  والموت أدنى من شراك نعله 

وكان بلال، إذا أقلعت عنه الحمى، يقول: ألا ليتَ شعري هل أبيتن ليلة  بوادٍ وحولي اذخر وجلـيل

وهل أردن يوماً مياه مجـنة  وهل تبدون لي شامة وطفيل 

وكان عامر بن فهيرة، يقول: قد وجدت الموت قبل ذوقه  كل امرئ مجاهد بطوقه

كالثور يحمي جسمه بروقه إلى غير ذلك مما يخبر عن شدة وقع تلك الحمى في أجساد المهاجرين، ولما رأى الرسول ما حلّ بصحابته من هذه الحمى ومن ضجرهم من الإقامة بيثرب بسببها توسل إلى الله إن يخفف عنهم أذاها وأن يزيل عنها هذا المرض وأن يبرأها منه.

ويقسم العرب الحمى إلى نوعين: حمى يشعر الإنسان فيها بحرارة شديدة تصيب الجسم، قد تجعله يتصبب عرقاً من شدة وقع الحمى على الجسم، ولا يكون معها برد، وقد يصاب المريض بها بصداع ووجع شديد في الرأس، وحمى يشعر الإنسان فيها بنفضة ورعدة وقشعريرة، يقال لها "نافض" و "النافض"، و "حمى نافض"، وهي حمى الرعدة، لوجود رعدة وقشعريرة بها تصيب الجسم. ويقول العرب لقرة الحمى ومسها في أول، عدتها "العرواء"، وقيل أول ما تأخذ من الرعدة. ويقال لهذه الحمى "الراجف"، لأنها ذات رعدة ترجف مفاصل من هي به. و "القعقاع"، وهي حمى نافض تقعقع الأضراس. و"القفة".

وقد كانت الحمى منتشرة في المواضع التي تكون فيها الينابيع والمستنقعات والمياه الآسنة الواقفة وما شاكل ذلك من أمكنة، ولما كان العرب في حاجة شديدة إلى الماء، كانوا يشربون منها اضطراراً، فأصيبوا بسبب ذلك بأنواع من الأمراض: وقد كانت وسائل مقاومة البعوض الناقل للحمى غير معروفة، كما إن وسائل العناية بالصحة وتنظيف الجسم لم تكن متوفرة عندهم بسبب فقر أكثرهم، لذلك صارت أجسامهم معرضة لمختلف الأمراض، ولا سيما بين أهل المدر الذين لم تكن بيوتهم صحية، ولا مياههم نقية، وكانت بيوتهم ضيقة غير صحية، فكانوا يصابون بالسل وبالأمراض الأخرى، أكثر من الأعراب المتباعدين في السكن، والذين لا يعرفون البعوض، ويستنشقون الهواء النقي، وتقيهم الشمس من شر الجراثيم.

والذبحة، وهي داء يأخذ بالحلق، وقد كان معروفاً بين الجاهليين، وكانوا يعالجونها بالكي، ذكر أن الرسول كوى "أسعد بن زرارة" في حلقه من "الذبحة"، وقيل "الشوكة". وأنه عاد "البراء بن معرور"، وأخذته الذبحة، فأمر من لعطه بالنار.

وقد أشير إلى مرض عرف ب "خبط" في نصوص المسند، وقد فسر أنه برد شديد في الرأس.

وقد كانت الأوبئة تفتك بالناس فتكاً، فكان الأغنياء والموسرون يفرون من الأماكن المزدحمة إلى أماكن بعيدة، ويلجأون إلى الصحارى ابتعاداً عن المصابين بها. وكانوا يرجعون أسبابها وأسباب الأمراض عموماً إلى غضب الآلهة على الناس، والى أرواح شريرة تصيب الجسم من الأكل والشرب، والى أنواع من الهوام والحشرات. ومن أشهر أنواع هذه الأوبئة الطاعون والجدري والهيضة.

والطاعون المرض العام والوباء، وقد أشير إليه في كتب الحديث. ويظهر انه كان منتشراً معروفاً في الحجاز وفي سائر أنحاء جزيرة العرب آنئذ. وقد جعل بعض العلماء الطاعون نوعاً من أنواع الوباء، وفرَّق بينهما بعض علماء اللغة، وجعلوا الوباء المرض العام عامة، مهما كان، مثل انتشار الحمى والجُدرَي والطاعون والنزلات والحكه والأورام. وقد ذُكرت الأوبئة في كتب الحديث. و "الدبل" الطاعون.

ونسب الجاهليون حدوث الطاعون إلى "وخز الجن"، فهو يقع لأن الجن تطعن الشخص وتخزه فيصاب بالطاعون. وقد اشار إلى هذا الرأي "حسان بن ثابت"، أشار إليه في أثناء حديثه عن أعاصير نزلت ب "بصرى" وب "رمح" وعن "دخان نار"، حتى أثرت في كل قصر ومنزل في ذينك المكانين، ثم أعقب ذلك "وخز جن بأرض الروم"، اي بلاد الشام وفيها المكانان المذكوران إذ كانت تحت حكم الروم، كما أشار إلى هذه الفكرة شاعر آخر اسمه "الغساني".

ونجد في كتابات المسند إشارات إلى أوبئة تكتسح البلاد فتفني عدداً كبيراً من الناس. فنجد فيها أن فلاناً يحمد آلهته لأنها منت عليه بالعافية وأنقذته من الوباء الذي تفشى في أيامه فأهلك الناس. وقد كان القدراء من الناس يهربون من الأرضين الموبوءة إلى أرضين أخرى بعيدة سالمة ليتخلصوا من الوباء. ونجد في الكتابة الموسومة ب "CIH 343" رجلاً اسمه "يحمد" يشكر إلهه "تألب ريام"، لأنه منّ عليه بالعافية وشفاه من المرض الذي نزل به في وباء انتشر فيما بين "هوزن" "هوازن" "هوزان" و "سهرتن" "سهرت". وقد كانت الأوبئة تكتسح المناطق الواقعة عند قواعد الجبال وفي المناطق الحارة الرطبة، ولا سيما التهائم. وتقع "هوزن" "هوزان" "هوازن" عند مرتفعات "حراز".

وقد كانت الحروب من المصادر التي غذت العربية الجنوبية بمادة دسمة من الأوبئة. فقد كانت تأتي على عدد كبير من الناس، فتتركهم جثثاً تتعفن على ظاهر الأرض، كما كانت تأتي على مواطن السكن ومواضع المياه وتأتي على كل ما يملكه الناس، وتزيد في مشكلة الفقر مشكلة، وتبعد الناس عن النظافة، فتهيئ بذلك للاوبئة أمكنة جيدة، لتلعب بها كيف تشاء. ودليل ذلك ما تجده في كتابات المسند من اشارات إلى أمراض وأوبئة تعم المناطق المنكوبة بالحروب، حيث تكتسح من الأحياء، ما لم يتمكن السيف من اكتساحه منهم.

وذكر الأخباريون نوعاً من البثور يخرج بالبدن، دعوه: العدسة، عرفوه أنه: بثرة صغيرة شبيهة بالعدسة، تخرج بالبدن مفرقة، كالطاعون، فتقتل غالباً، وقلما يسلم منها. وقد رمي بها أبو لهب فمات. والظاهر أن هذا المرض كان منتشراً بمكة، فقد روي أن قريشاً كانت تتقي العدسة، وتخاف عدواها.

وقد كان الجاهليون يعرفون عدوى بعض الأمراض، فكانوا يتجنبونها ولا يقتربون من المريض المصاب بها، ويطلقون عليها العدوى، فكانوا إذا أصيبوا بأويئة، فرّوا إلى أماكن بعيدة سليمة تهرباً منها، وحجروا على المريض، لئلا يقرب منهم، فينتقل المرض اليهم. وذلك لما كانت الجاهلية تعتقده في بعض الأمراض من انها تعدي بطبعها، مثل الجذام.

والحصبة، من الأمراض المعروفة عند الجاهليين. و كذلك الجُد رَي. وقد ذكر بعض الأخباريين أن أول جدري ظهر هو ما أصيب به أبرهة. وهو قول من هذه الأقوال المعروفة عند الأخباريين، فالجدري من الأمراض القديمة المعروفة عند الجاهليين قبل أبرهة بزمان.

وذكر إن العرب عالجت الحصبة والجدري بمُرار الشجر، وبالحنظل والحرمل.

و "السل" من الأمراض المعروفة بين الجاهليين. ذكر بعض أهل الأخبار انه عرف ب "داء الياس"، لأن "الياس بن مضر" اول من مات من السل، فسمي بذلك، وسمي ب "ياس".

ومن العلل: اليرقان، والصداع، و "الشقيقة"، وهو وجع يكون في شق الرأس، و "السعال" وجع في الصدر، والزكام، والزحير، والحصر وهو انقباض البطن، والأسر وهو احتباس البول والحصى في مجرى البول، والحكة، والحصف، والحمرة، والشرىَ، و الحماق، و القُوَباء، والثؤلول، والعُرّ وهو الجرب الأبيض، وداء الثعلب ويصيب الشعر، وداء الفيل ويعتري الرجلين، والدّوّار، والهيفة، وتسمى الفضجة، والنملة، وهي بثور صغار مع ورم يسير ثم تتقرح فتسعى وتتسع، وتسمى أيضاً الذباب، والجنون والخدر، والفالج، والحزاز وهي القشرة التي تصيب الرأس، والحدبة، والطرش، والطلق، والجشاء، والباسور، والناسور، والبهق، والكلف، وإلمغس، والمغص، والاستسقاء، و الإغماء، والاختلاج، والبخر، و الفواق، و الجشاءة، والفلس.

وعرفت القُوَباء بأنها الحزازة، وذكر أنه كَانت بوجه أبيض بن حمال بن مرثد بن ذي لحيان المأربي السبَّئي حزازة، توسعت فالتقمت أنفه. والقوباء هو الذي يظهر في الجسد ويخرج عليه، يتقشر ويتسع، يزعمون أنه يعالج بالريق. وقالوا: يا عجباً لهذه الـفـلـيقة  هل تغلبن القوباء بالريقة 

ودم الملوك، دواء ينفع ويفيد في معالجة من يعضه كلب كَلِب في نظر الجاهليين. فإذا أصيب إنسان بداء الكلب، فشفاؤه بمعالجته بدم الملوكَ. وقد عرفه "ابن دريد" بقوله: "والكَلَب داء يصيب الناس والإبل شبيه بالجنون. وكانت العرب في الجاهلية إذا أصاب الرجلَ الكلَبُ، قطروا له دم رجل من بني ماء السماء، وهو عامر بن ثعلبة الأزدي، فيسقى، فكان يشفى منه. قال الشاعر: دماؤهُمُ من الكلب الشفاء".

وكانوا إذا خافوا على المرأة الحامل، ووجدوا أن ولدها ميت في بطنها، استخرجوه منها. وجوّزوا قيام الرجل بذلك. وعبرّوا عن ذلك ب "السطو".

ويلعب التطبيب بالسر والرقي والتعويذ دوراً خطراً في حياة الجاهلين، كما يظهر ذلك من الأخبار. الواردة في كتب الحديث والأدب، حتى عدّ السحر نوعاً من الطب. وقد منع الإسلام أكثرها وحرمها، ومع ذلك بقيت حية مستعملة بين الأعراب والجهلة من أهل القرى الذين لا تساعدهم أحوالهم المعاشية على مراجعة الآطباء. ويقوم هذا التطبيب على التأثير في المريض، وأستعمال بعض الخرز أو عظام بعض الحيوانات والسحر، بحجة وجود علاقة بين المرض والأرواح، وأن هذا النوع من التطبيب يطرد الروح الخبيثة التي تدخل الجسم فتصيبه بالمرض من ذلك الجسم. وهذا الرأي في المرض، رأي شرقي قديم، سيطر على كل الشعوب القديمة. فقد كان في رأي الأطباء، أن المرض روح شريرة تستولي على الجسم المريض بدخولها فيه، وان واجب الطبيب العمل بعلمه وبفنه لاخراج الروح الشريرة من الجسم.

وفي جملة الوسائل التي استعملت لمكافحة المرض والتغلب على الأرواح الشريرة أو النظر، أي إصابة الإنسان بالعين من حاسد تصيب عينه إصابة مؤذية، الاستعانة بالرقي والتعاويذ. وقد كان العبرانيون يطلقون على التعاويذ لفظة "حرط"، وهي أنواع، بعضها على هيأة قلب يعلق بسلسلة في العنق، ويتهدل القلب إلى الصدر، فيكون من جملة وسائل الزينة، وبعضها يربط بالعضد وفي مواضع أخرى من الجسم.

ولم يقتصر الجاهليون في اتخاذ هذه الوسائل على حماية أنفسهم فقط، بل اتخذوها لحماية ما يملكونه أيضاً من حيوان وزرع وملك، فعلقوا العظام أو المعادن أو نعل الحيوان مثل نعل الفرس، ورسموا العين واليد على الجدر وفوق الأبواب، لحمايتها من العيون المؤذية ومن حسد الحاسدين، ولا يزال الناس يستعملونها لحماية أنفسهم ومقتنياتهم من الاصابة بأذى العين وبحسد الحاسدين.

والجنون وسائر الأمراض العصبية معروفة بين الجاهليين أيضاً، وهم يعدونها من الأمراض التي تحدث للانسان بسبب دخول الجنون والشياطين في جسد الإنسان فتتملكه، ولا يمكن شفاء من اصابه مس من الجنون أو لوثة في العقل، إِلا بإخراج الأرواح المسيطرة على المريض من جسده ولذلك كان علاج هذه الأمراض من واجب الكهان والسحرة في الغالب، بسبب كونها أمراضاً لم تقع من آفة في الجسد، وإنما وقعت من عارض خارجي، هو دخول الأرواح إلى الأجساد، ومهمة اخراج تلك الأرواح من وظائف المذكورين.

وقد عالج العرب الجنون والخبل بشرب دماء من دماء الملوك. ومن أقوالهم: دماء الملوك شفاء من عضة الكلب الكَلِب والجنون والخبل. ومعالجة داء الكلب، بلعق دم الملوك أو الأشراف من الأدوية المشهورة عند الجاهليين في مداواة هذا المرض. ونسب إلى "الخليل بن أحمد" "أنه قال: دواء عضة الكَلْب الكلَبِ الذراريح والعدس والشراب العتيق. وقد ذكر كيف صَنعته وكم يشُرب منه وكيف يتعالج به. وذكر األ الأخبار أن "الأسود بن أوس بن الحُمرة" أتى "النجاشي" فعلّمه دواء الكَلبَ، وقد ورث ولده هذا الدواء. ومن ولده "المحل". وقد داوى "عتيبة بن مرِداس" فأخرج منه مثل جراء الكلب.

و "الأسود بن أوس"، هو من "بني الحمرة"، وهم من "ثعلبة بن يربوع". وقد ذكر "ابن دريد"، أن "الأسود بن أوس" تعلم من "النجاشي"، دواء الكلب، وأن نسله يداوون به العرب الى اليوم، أي إلى يومه، وقد صار منهم اليوم إلى "بني المحل"، فهو فيهم أيضاً.

وقد ظن الجاهليون إن النوم يؤدي إلى امتداد السم في جسد اللديغ، فكانوا يعلقون الجلاجل والحلى على اللديغ ثم تحرك لئلا ينام فيدب السم في جسده. ويقولون انه اذا علق عليه أفاق، فيلقون عليه الأسورة والرُعاث، ويتركونها عليه سبعة أيام ويمنع من النوم. قال النابغة: يسهد في وقت العشاء سليمها  لحلى النساء في يديه قعاقع

وفي جملة ما داووا به الخدر الذي يصيب الرجل، انهم كانوا يذكرون أحب الناس إلى الشخص، فيذهب الخدر عنه.

وزعموا انه اذا ظهرت بشفة الغلام بثور، يأخذ منخلاً على رأسه ويمر بين بيوت الحي، وينادي: الحلأ الحلأ، فيلقى في منخله من هاهنا ثمرة، ومن هاهنا كسرة، ومن ثم بضعة لحم، فإذا امتلأ، نثره بين الكلاب، فيذهب عنه البثر، وذلك البثر يسمى: الحلأ.

وإذا أراد احدهم دخول قرية، فخاف وباءها، أو جنها، فله سبيل سهل يحميه ويقيه، هو أن يقف على باب القرية والموضع الذي يريد دخوله، ثم ينهق نهيق الحمار، ثم يعلق عليه كعب أرنب، فيدخل عندئذ الموضع دون خوف. فقد فعل ما يتقي به الأذى والسوء. ويسمون ذلك التعشير. قال عروة بن الورد: لعمري لئن عشرت من خشية الردى  نهاق الحمـير إنـنـي لـجـزوع

واذا أردت المرأة المقلاة أن يعيش ولدها، ففي إمكانها ذلك اذا تخطت القتيل الشريف سبع مرّات، وعندئذ يعيش ولدها. وفي ذلك يقول بشر بن أبي خازم: تظل مقاليت النـسـاء يطـأنـه  يقلن ألا يلُقى على المرء مئزر

والجاهليون، مثل غيرهم من شعوب ذلك الزمن، وفي جملتهم العبرانيون، كانوا يرون أن الأمراض هي غضب يسلطه الآلهة على الإنسان لتنتقم منه، لسبب ما، مثل عدم قيام المريض بواجباته تجاهها، ولهذا كانوا يسرعون بتقديم النذور والقرابين إليها ترضية لها. ويرد المرض اليهم، بتسلط الهوام وبعض الديدان والأرواح الشريرة على الإنسان، فتصيبه بالمرض. ولهذا كان الطب من واجب الكهان ورجال الدين بالدرجة الأولى، هم يداوون المريض ويعطونه الوصقات التي يعتقدون أن فيها الشفاء للمريض، كما كانوا يعتقدون بالنظر، أي بإصابة الإنسان، فيلحقه المرض.

وقد مارس التطبيب بين العرب المبشرون، وذلك بعد الميلاد بالطبع، وأكثرهم من الأعاجم، وكانوا قد درسوا الطب وتعلموه على الطريقة اليونانية في الغالب، فلما أرسلوا إلى بلاد العرب أو جاءوا هم أنفسهم للتبشير، مارسوا تطبيب المرض، وقد شفوا جماعهَ من سادات القبائل، وأثر شفاؤهم هذا عليهم فاعتنقوا النصرانية. واشتهر "العباديون" بالتطبيب كذلك، ولعل ذلك بعامل تنصرهم، فقد كان أكثر رجال الدين النصارى يدرسون مختلف العلوم، وفي جملة ذلك الطب، ومنهم من ترجم كتب العلوم اليونانية إلى السريانية، فدرس العباديون هذه العلوم. وكان طبهم مبنياً على العلوم والتجارب السابقة، ومتقدماً جداً بالنسبة إلى طب أهل البادية، لذلك نجح المبشرون والنصارى في معالجة أمراض الأعراب، ولا سيما سادتهم، الذين صاروا يقصدونهم لنيل الشفاء على أيديهم. ومن ثم اشتهر النصارى بالطب، ولما جاء الإسلام، كان أكثر الأطباء من النصارى، وعلى أيديهم تخرج الأطباء المسلمون.

وقد استخدم الجاهليون النساء لتمريض الجرحى في غزوهم وغاراتهم، وقد فعل المسلمون فعلهم. قالت "بنت معوذ بن عفراء": "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسقي القوم ونخدمهم ونردّ القتلى والجرحى إلى المدينة". وقد كان في مسجد الرسول موضع يعالج فيه المرضى والجرحى، وكان الرسول والصحابة يتفقدون المرضى النازلين به.

وليس في الموارد المتوفرة لدينا ما يدل على إقدام الأطباء الجاهليين على التشريح، للاستفادة منه في زيادة علمهم بالطب. وقد كانت شعوب الشرق الأدنى تنفر من تشريح الإنسان، وتعدّه مثلة واهانة للمتوفى، وعملاً مخالفاً لأحكام الدين، ولذلك نهت عنه. والجاهليون لا يختلفون من هذه الناحية عن غيرهم إن لم يزيدوا عليهم في هذه الأمور التي يعدونها حرمة وكرامة للإنسان. وتشريح الميت وتقطيع بعض أجزاء جسمه، اعتداء على حرمة الميت، واهانة له ولأهله الأحياء، ولهذا لا نطمع في الحصول على موارد قد تفيد بوجود خبرة علمية عند الأطباء الجاهلين ناتجة من تجاربهم وبحوثهم التي حصلوا عليها من التشريح.

ولم يرد الينا أيَ شيء مفيد في الكتابات الجاهلية عن الطب والأطباء، وإن أملنا الوحيد في الحصول على معارف عن الطب، متوقف على المستقبل يوم يقوم علماء الآثار بالتنقيب تنقيباً علمياً عميقاً في باطن الأطلال الأثرية، للكشف عن تأريخ الماضين. وعندئذ يكون من الممكن العثور على نصوص قد تكشف النقاب عن الطب الجاهلي وعن العلوم الأخرى وعن مختلف نواحي الثقافة عند الجاهليليين.

ويقال للمرض "مرضم" أي مرض في الكتابات الجاهلية. وتؤدي لفظة "حلصم" "حلظم" "حلظ" معنى مرض ووباء. ويتبين من بعض الكتابات إن أوبئة شديدة وأمراضاً مهلكة كانت تقع في بعض الأحيان، فتفتك بالناس. وقد كانوا يتجنبونها بالتضرع إلى الآلهة للرحمة بهم وتخليص من الضر، كما كانوا يتركون المدن والأماكن المزدحمة إلى محلات بعيدة مكشوفة غير موبوءة حتى ينكشف الوباء. وفي جملة هذه الأوبئة الطاعون.

ويعبر عن المرض في المسند بلفظة أخرى هي "شين"، وهي في معنى "شعين" Sha'en في الأثيوبية و "سيعون" Se'on في العبرانية و "شينو" Shenu في البابلية، وذلك كما في هذا النص السبئي: "تشين شين ارجلهو"، أي المرض الذي مرض أرجله، و"تشين" بمعنى المرض. وكما في هذه الجملة: "بن هوت تشين"، أي "في هذا المرض" و "من هذا المرض". وتعني "شين" أذى ومكروه ومعنى سوء كذلك، وهي في عربيتنا العراقية ضد "الزين" أي الحسن، فنقول: زين وشين، أي حسن وقبيح، أو جيد ومكروه.

ووردت لفظة "عوس" بمعنى وباء أو طاعون. وأما "خوم"، فتؤدي معنى "وخم" و "خامة"، ويراد بها انتشار الأمراض والأوبئة، أي وباء. جاء في بعض النصوص "عوس ذكون بأرضن"، اي "الأوبئة التي انتشرت بالأرضين". وورد "خوم وعوس وموت كون بأرضن"، أي "الوخامة" "الوخم" والأوبئة والوَفَيات التي تفشت في الأرض، ورد "كن ضلم وعوسم باشعبن وهكرن"، أي "وكانت أو وتفشت أمراض وأوبئة بالقبائل والمدن". وورد "خوم ذكين بكل ارضن"، أي "الوخامة "أوبئة" تفشت في كل أرض". ويفهم من هذه النصوص أن العربية الجنوبية، كانت معرضة لأوبئة عامة، تأتي فتكتسح البلاد اكتساحاً، تميت الأعراب، أبناء القبائل، كما تميت أهل المدن، فتشمل مناطق واسعة من البلاد، وقد كانت تطهر خاصة بعد الحروب التي كانت تفني القرى والمدن، وتدمر مواضع المياه، وتترك الجثث ملقاة على سطح الأرض حتى تنتن وتجيف، فتتفشى منها الأمراض، وتظهر الأوبئة، وتتسرب إلى مواضع نائية لتضيف إلى خسائر الحرب خسائر أخرى فادحة في الأرواح.

وقد وردت في نصوص ثمودية اشارات إلى أمراض كانت معروفة في ذلك الوقت.

وفي العربية ألفاظ عديدة تعبر عن الأوجاع والآلام والأمراض والأسقام التي تصيب الإنسان، وتستعمل للتعبير عن منزلة ودرجة من درجات الأمراض التي تصيبه، من نفسية وغير نفسية. وتحديد مدلولاتها وحدودها، يفيدنا كثيراً في تكوين رأي في مدى تأثر الجاهليين بالنواحي الطبية والنفسية في ذلك العهد.

وقد كان الختان شائعاً بين العرب، ويستعمل "الموسى" للختان، ولوقف الدم تستعمل أدوية خاصة من مراهم ومواد، كما يستعمل الضماد أيضاً. ولم يكن الختان من أعمال الطبيب، انما يقوم به الختّان، والحلاقون والحجّامون.

وقد عرف الجاهليون طريقة تغطية بعض العيوب أو الاصابات التي تلحق بأعضاء الجسم، بالاستعانة بالوسائل الصناعة، فشدوا الأسنان وقووها بالذهب، وذلك بصنع أسلاك منه تربط الأسنان، أو بوضع لوح منه في محل الأسنان الساقطة.

واتخذوا أنوفاً من ذهب، لتغطية الأنف المقطوع، كالذي روي عن عرفجة بن أسعد من انه اتخذ أنفاً من ذهب، وكان قد أصيب أنفه "يوم الطلاب" في الجاهلية.

وتخصص نفر من الجاهليين بمعالجة الحيوان، وهم البياطرة، يعالجون أمراضها فيصفون الأدوية، يقال للواحد منهم البطير والبيطر والبيطار، وقد أشير اليهم فىِ أشعار الجاهليين. ويعالجون الجروح التي تصيبها. وفي جملة ما كانوا يعالجون به الكيّ. والمعالجة باستعمال الفطران، وذلك بطلي الحيوان المريض به. ومن هذه الأمراض الجرب. ويقال للحيوان المطلي بالقطران "المقطور" أما اذا كان أنثى، مثل ناقة، فيقال: " مقطورة". ويقال إن الجرب، هو العُرّ، والعرّ بثر في الإبل، ويعالج بالقطران. قال علقمة الفحل: قد أدبر العُر عنها وهي شاملـهـا  من ناصع القطران الصرف تدسيم 

وكان بعضهم إذا وقع العُرّ في إبلهم، "اعترضوا بعيراً صحيحاً من تلك الإبل، فكووا مشفره وعضده وفخذه، يرون أنهم اذا فعلوا ذلك ذهب العُرّ عن إبلهم". ويقال إنهم كانوا يفعلون ذلك، ويقولون: تؤمن معه العدوى: قال النابغة: وكلفني ذنب امرئ وتـركـتـه  كذي العُرّ يكوى غيره وهو راتع 

والهناء: ضرب من القطران تطلى به الإبل، لمعالجة الجرب وغير ذلك. ويقال للجرب عند أول ظهوره: النقب. ويقال للبعير المهنوء بالقطران "المشوف".

وعالجوا أمراض الجلد التي تصاب بها الإبل بطليها بالنفط. ويقال لذلك: "الكحيل".

ومن الأمراض التي تصيب "الإبل" مرض "الدبرة"، يظهر في سنام الإبل فلا يزال يأكل سنامه حتىُ يُحَبَّ، أي يقطع، وإلا نزل على السناسن فيصيبها ويموت الحيوان. واذا كان السنام مكشوفاً، فإن الطيور تنقره فيتأذى الحيوان ويتألم وقد يموت، ولعل ذلك هو الذي حمل الجاهليين على التشاؤم من "الأخيل" وبعض الطيور الأخرى التي كانت تحط على ظهور الإبل فتنقر سنامها. ويقال للجمل الذي يقطع سنامه "الأجبّ".

ومن الأمراض التي كانت تصيب الإبل "السوّاف"، وقد عرف بأنه داء يصيب الإبل فتهلك. و "الجارود"، وهو مرض معدٍ، إذا فشا أهلك الإبل. وقد ظهر في "بكر بن وائل"، فأهلك إبلها. وهم يعلمون انه من الأمراض التي تعدي، وتنتقل بالعدوى. وذكر أهل الأخبار إن "الجارود العبدي"، وهو رجل من الصحابة من عبد القيس، إنما سمي "جاروداً" لأنه فرء بإبله إلى أخواله من "بني شيبان" وبإبله داء، ففشا ذلك الداء في إبل أخواله فاهلكها، وفيه يقول الشاعر: لقد جرد الجارودُ بكر بن وائل 

وللذلك سمي المشؤوم جاروداً.

ومن أمراض الدواب مرض يقال له "العقل"، يصيب رجل الدابة، إذا مشت ظلعت، وأكثر ما يعتري في الشاءْ. ومرض "الحلمة"، دودة تقع في جلد الشاة الأعلى وجلدها الأسفل، وقيل: دودة تقع في الجلد فتأكله، فإذا دبغ وهى موضع الأل وبقي رقيقاً. وقيل: القراد أول ما يكون صغيراً قمقامة، ثم يصير حمنانة، ثم يصير قراداً، ثم حلمة.

وكانوا ينقون رحم الفرس أو الناقة من النطف، ويخرجون الولد من بطن الفرس أو الناقة ويعبر عن ذلك بلفطة "مسى".

ويذهب بعض الباحثين إلى أن لفظة "بيطار"، هي من أصل يوناني، هوIppiyators.

ومن الذين عرفوا بين الجاهليين بمعرفتهم بالبيطرة "العاص ين وائل"، وكان يعالج الخيل والإبل. وقد برع البياطرة بمعرفتهم خاصة بالخيل والابل، لأنها أثمن أموال العرب. وعناية العرب بالخيل، هي التي حملت الإسلاميين على وضع مؤلفات خاصة فيها. ومن جملة من ألف في الخيل "أبو عبيدة" و "أبو زيد الأنصاري" و "الأصمعي" وآخرون وللاصمعي كتاب في الإبل، ولأبي عبيدة كتاب في الابل كذلك. ولأبي زيد الأنصاري كتاب في هذا الموضوع أيضاً. ولأحمد بن حاتم مثله، وقد ألف غيرهم في الابل وفي حيوانات أخرى،. وقد طبعت بعض، هذه الكتب.

الفصل الثلاثون بعد المئة
ألهندسة والنوء

ولا بد أن يكون للجاهليين علم بطرق السيطرة على المياه، ويطرق استنباطها والاستفادة منها. ففي مواضع من اليمن والحجاز والعربية الجنوبية آثار سدود مثل سد مأرب، لا يمكن أن تكون قد انشئت بغير علم ودراية وخبرة. ففيها فن في كيفية جمع المياه في خزاناتها، وفن في كيفية تصريفها وتوزيعها وقت الحاجة بقدر، وفيها أبواب تتحكم في سير الماء، كذلك كان لهم علم في حفر الآبار وإنشاء الصهاريج لجر المياه الى الأماكن التي تحتاج إليها. وقد أشتهرت ثقَيف بعلمها بطرق استنباط المياه. وأشتهرت قبائل أخرى بهذا العلم أيضاً، وذكر أن بعضها كانت تتفرس وتحدس بوجود الماء من نظرها إلى لون التربة ومن شمها ومن علامات أخرى عرفوها وأدركوها بالتجربة.

ونجد اليوم بقايا سدود استخدمت لحبس "السيول" للاستفادة منها في الشرب وفي الزراعة. وتقع أكثر هذه السدود في الأودية التي تكون مسايل تسيل منها الأمطار المتساقطة في موسمي المطر في العربية الجنوبية. فتعمل الأحباس بين طرفي الوادي لتحبس الماء، فلا يندفع إلى المواضع المنخفضة فيذهب عبثاً، وبذلك يرتفع مستواه، فيسقي الزرع على جانبيه، وتعمل سواقي لتسيل منها المياه إلى الأماكن المنخفضة التي تقع تحت هذه الأحباس وهكذا تسقى بقية المزارع. وتختلف هذه الأحباس من حيث جودة العمل والاتقان، فبعضها أحباس بدائية بسيطة، عملت من الأتربة، أو من الأحجار والصخور، على شكل "سكر"، يمنع الماء من المرور، وبعضها عملت بصورة فنية متقنة من الحجر الموضوع بعضه فوق بعض، مع استخدام مواد ماسكة لشد الحجر بعضه إلى بعض، وقد يطلى السد بمادة تمنع الماء من اللعب به. وتعمل به منافذ ذات أبواب، تسد وتفتح حسب الحاجة للتحكم بالماء. وتلاحظ بقايا هذه السدود اليوم في وادي مبلقه، وفي وادي بيحان، وفي وادي حريب، وفي أودية أخرى عديدة.

أما اهل المواضع المرتفعة مثل الهضاب والجبال، فقد عمدوا إلى كل حواجز وحوائط منخفضة، لمنع المطر من الانحدار، إذ تحصره هذه الحواجز، فيسيل إلى المزارع ليسقيها، وقد تعمل له مجار ليسيل الزائد منه والذي لا محتاج إليه إلى أسفل، فلا يغرق الزرع. وقد يوجه إلى كهوف وآبار محفورة وكهاريس، لتمتلىء بالماء، للاستفادة منه في مواسم انحباس الأمطار.

وتوجد في المعابد فوهات تدفع مياه الأمطار حين سقوطها الى مجاري بنيت تحت الأرض تؤدي إلى صهاريج تخزن فيها مياه الأمطار. وقد عثرت بعثة "وندل فيلبس" الأمريكية على مواضع خزن الماء في معبد مأرب المعروف في الكتابات بمعبد "اوم"، "اوام" المخصص لعبادة "المقه" إله سبأ الرئيس. ونجد مثل هذه المخازن في المعابد الأخرى أيضاً. وخزن الماء على هذه الطريقة،اسلوب متبع في فلسطين وفي المواضع الأخرى ذات الأرض الصلدة الحجرية، حيث تنقر الأرض وتعمل بها كهوف كبيرة تخزن فيها المياه.

وقد تخصص قوم وتفرسوا بمعرفة مواطن المياه واستنباطها وساعدوا في حفر الابار وفي حفر القنِى وإنشاءها. وفي كتب اللغة ألفاظ أطلقت على الأدلاء الخبراء أصحاب العلم بمواضع وجود الماء في باطن الأرض، مثل جوّاب الفلاة، وذلك لأنه كان لا يحفر صخرة إلا أماهها، القناقن، وهو الدليل الهادي البصير بالماء تحت الأرض في حفر القنى، والعياف، وقد تحدثت عنها وتطلق أيضاً على الدليل الذي يعرف موضع الماء من الأرض.

والماء في الأرضين الجافة القاحلة، نعمة كبرى وحياة لأهلها، فكانوا يفرحون ويشكرون آلهتهم ويتقربون إليها بالذبائح والنذور عند عثورهم على الماء في الأرضين التي يبخرون فيها الآبار. ولهذا قدسوا الابار وأسبغوا عليها القدسية، وتقربوا لها بالنذور والهدايا،وعدوا مياهها شافية نافعة مقدسة. والبئر ثروة تدر على أصحابها المال. وقد يبارك الكهان والرؤساء تلك الآبار، لتنعم على أصحابها بالماء الغزير. وقد كان "المحققون" "محققيم"، وهم الرؤساء عند العبرانين، يحضرون الاحتفالات، ويشكرون إلهَ اسرائيل عند ظهور الماء في الابار،على نحو ما يفعله العرب في مثل هذه الأحوال.

وقد لجأ الجاهليون إلى التحايل في استصلاح الماء الأجاج أو الكدر، للاستفادة منه في الشرب، فذكر إذا كانت بهم حاجة ماسة الى الماء، ولم يجدوا إلا ماء البحر أو الماء الأجاج الملح، وضعوه في قدر، ووضعوا فوق آلقدر قصبات وعليها صوف منفوش، ثم يوقد تحت القدر، حتى يرتفع البخار، فيدخل مسامات الصوف، ويمتلىء به. فإذا كثر، عصر في إناء، ولا يزال على هذا الفعل حتى تتجمع كمية من الماء العذب، وتترسب الأملاح في القدر. وذكر أيضاً أنهم كانوا يحفرون في الشاطىء حفرة واسعة، ليترشح إليها ماء البحر، ثم إلى جانبها وقريب منها حفرة أخرى يترشح إليها الماء من الثانية َثم تحفر حفرة ثالثة، وهكذا حتى يعذب الماء.

أما الماء الكدر، فقد كانوا يتخلصون من كدرته بإلقاء مواد فيها لتعلق الكدرة بها، فإذا رسبت، رسبت الكدرة معها، وبذلك يتنقى الماء. وفي جملة المواد التىِ استعملوها الجمر الملتهب، يلقى به في الماء، فإذا انطفأ وتحول إلى فحم، اخذ معه ما يجده من الكدرة، فيصفو بذلك الماء، واستعملوا نوعاً من الطين وسويق الحنطة.

وقد عرفت هذه الفراسة، فراسة استنباط الماء من الأرض، بالأمارات الدالة على وجوده، على نحو ما ذكرت من شم التربة، أو برائحة بعض النباتات فيه أو بمراقبة حركات الحيوان، ويقال لها: الريافة.

وتوجد اليوم آبار قديمة في مواضع مختلفة من جزيرة العرب عميقة جداً، ولا زال الناس يستقون منها الماء. وهي عادية، اى قديمة تعود إلى ما قبل الإسلام. وكانت عليها مستوطنات تعيش على ماء هذه الابار. ولهذا فلا غرابة إذا ما وجدنا القدماء يقدسون الآبار ويعتبرونها من مصادر الحياة بالنسبة لهم، لأنها تمدهم وتمد إبلهم وماشيتهم بعرق الحياة وروحها، ويدل عمقها على مقدار ما بذله الحفارُ من جهد حتى توصلوا إلى تلك الأعماق بوسائلهما البدائية التي كانت متوفرة عندهم في ذلك العهد.

والآبار هي من مصادر الحضارة والتحضر في جزيرة العرب، فلولاها ولولا موارد الماء الأخرى، لما ظهرت المستوطنات، ولما ظهر زرع، ولما عاش ضرع. ولهذا صارت البوادي أرضن قفراً لا يسكنها ساكن إلا إذا استنبط ماء فيها، أو سقط غيث عليها. ولقيمة الماء في حياة جزيرة العرب، تجد نصوص المسند تذكرها وتشير إلى الأرضين التي تسمّى منها، وتعتبرها من مصادر النعمة والثراء.

ولأهمية الماء، كانوا يتقربون إلى آلهتهم بالقرابين وبالأدعية والتوسلات، لأن تمنحهم المطر، وتسقي أرضهم على أحسن وجه، وقد كان من واجب رجال الدين الإستسقاء، وذلك بان يتوسلوا إلى آلهتهم بان تمن على عبيدها بالمطر، يقومون به بإجراء طقوس دينية خاصة، وربما استعانوا بالسحر في هذا الاستسقاء وقّد كانت الشعوب الأخرى تّستسقي كذلك وتستعين بالسحر في إرضاء الآلهة لكي تنزل الغيث على المحتاجن إليه. وقد عرف الاستسقاء بمكة وعند سائر العرب، كما تحدثت عن ذلك مواضع من هذا الكتاب، والأغلب أن الكهنة كانوا هم الذين يقومون بالاستسقاء، لأنه من صميم اعمالهم وواجباتهم.

وقَد سبق أن تحدثت عن شق الطرق في الهضاب وفي جبال اليمن، لايصال القرى والمدن بعضها ببعض. وقد أبدع المهندسون في ذلك الوقت في شق الطرق في المناطق الجبلية، ءويسمونها "مسبإ"، ولا تزال آثار بعض منها موجودة حتى اليوم. ووردت لفظة "مذهب" في نصوص المسند، بمعنى الممر والطريق والمعبر.

وقد قام المهندسون بإصلاح الطرق.، ونجد لفظة "درك"Derek في العبرانية بمعنى "الطريق"، والدرك في العريية أسفل كل شيء، ومراتب الهبوط، ولعلها في الأصل الطريق المنحدر إلى اسفل، وأما السبيل، فالطريق، وتقابل هذه اللفظة لفظة "شببل" في العبرانية. و، السراط" "الصراط" الطريق الممهد المعبد، واللفظة من الألفاظ المعربة من اللاتينية، من أصل Strata بمعنى طريق مبلط، وطريق كبير واضح.

النوء والتوقيت

ومعارفنا بالأنواء والتوقيت عند الجاهليين قليلة ضحلهّ. وهي مبعثرة في كتب اللغة والأدب وفروع المعرفة الأخرى، مثل كتب الجغرافيا والأنواء. ولم يصل الينا شي منها في نصوص المسند. غير إن ما نجده في المؤلفات المذكورة على قلته وضآلته يدل على إن الجاهليين كانوا أصحاب عناية ودراية بالأنواء والتوقيت وانهم كانوا على علم أو شيء من العلم بالأنواء عند غيرهم، مثل أهل العراق أو أهل بلاد الشام. ولعلهم كانوا على اتصال مباشر أو بالواسطة بعلم اليونان واللاتين بالأنواء.

وعدم وصول شيء في كتابات المسند من علم النجوم والأنواء وما يتعلق بعلم الفلك. لا يمكن أن يكون دليلاّ بالطبع على عدم وجود علم لأهل العربية الجنوبية الجاهليين بالفلك، ولا يعقل ألا يكون لهم علم به. فقد كان العرب الجنوبيون أصحاب زراعة وتجارة، وكانوا يركبون البحر. وركوب البحر يحتاج الى علم بالنجوم وبتقلبات الجو كما كانت ديانتهم تقوم على أساس تقديس النجوم. ولهذه الملاحظات لا بد أن يكون لأهل اليمن وغيرهم من أهل العريية الجنوبية علم بالأنواء وقد يعثر في يوم ما على نصوص مدونة بلهجاتهم فيها شيء ما من أمر هذا العلم.

والنوء عند الجاهليين هو النجم إذا مال للغروب، أو هو سقوط النجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه، وهو نجم آخر يقابله من ساعته في المشرق. وانما سمي نوءاً لأنه إذا سقط الغارب ناء الطالع، وذلك الطلوع هو النوء. وبعضهم يجعل النوء هو السقوط. وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، فتقول مطرنا بنوء كذا. قال الشاعر: ينعى امرءاً لاتغا الحيّ جفنتـه  إذا الكواكب أخطا نوءها المطر 

وذكر أن من طلوع كل نجم إلى طلوع رقيبه، وهو النجم الاخر الذي يليه ثلاثة عشر يوماً، وهكذا كل نجم منها إلى انقضاء السنة، ما خلا الجبهة، فإن لها أربعة عشر يوماً، فتقضي جميعها مع انقضاء السنة. وذلك لتكمل السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً. وذكر بعض العلماء أن العرب لا تستنيء بالنجوم كلها، إنما يذكر في الأنواء بعضها. وقال "ابن الأعرابي": "لا يكون نوء حتى يكون مطر معه، وإلا فلا نوء".

وقد زعموا إن لكل نوء أثر في هذا الكون وفي الإنسان. فإذا حدث شيء ووقع أمر نسبوه إلى نوئه. وفي جملة ما نسبوا أثره إلى الأنواء: حدوث المطر، فإذا أمطرت السماء نسبوا المطر إلى أثر النجم الطالع في ذلك الوقت. فيقولون مطرنا بنوء كذا. وقد ذهيوا إلى إن الأنواء "28" نوءاً أو نجماً اعتقدوا انها علة الأمطار والرياح والحر والبرد. وقد ذكروا الأنواء الممطرة ومواسم المطرْ. ونظراً إلى أن السنة أربعة أجزاء، لكل جزء منها سبعة أنواء، لكل نوء ثلاثة عشر يوماً، إلا نوء الجبهة فإنه أربعة عشر يوماً، فيكون مجموع أيام السنة "365" يوماً، وهو المقدار الذي تقطع الشمس فيه بروج الفلك الاثني عشر. ونظراً لأهمية المطر في حياة جزيرة العرب، اهتموا بمراقبة مظاهر الأنواء وألوان السحب، وقد علمتهم تجاربهم إن السحب البيضاء لا تكون ممطرة، وان السحب السوداء تكون هطلة، تهطل الأمراض وتغيث الناس.

هذا وتجد للسحب أسماء كثيرة من حيث ترتيبها وأوصافها وقربها أو بعدها عن الأرض ومن حيث لونها واحتمال وجود الغيث فيها. وفي كثرة هذه الأسماء دلالة على شدة اهتمام العرب بالسحاب لما له من أثر في حياتهم، لا سيما بالنسبة إلى نزول الغيث. فقد كانوا يستسقون بالنوء،ويرجعون سبب سقوط المطر إليه. ولتعارض عقيدة الجاهليين هذه مع عقيدة الإسلام في الخلق والأسباب، جاء النهي عنها في الإسلام. ورد في الحديث: "من قال سقينا بالنجم، فقد آمن بالنجم وكفر بالله". وجعلت الأنواء من الأمور الثلاثة التي عرفت بالجاهلية والتي نهى عنها الإسلام: الطعن في الأنساب والنياحة والأنواء.

وكانوا يكرهون نوء السماك، ويقولون فيه داء الإبل،. فال الشاعر: ليت السماك ونوءه لم يخلـقـا  ومشى الأفيرق في البلاد سلما 

والسماك، سماكان: الأعزل والرامح وهما نجمان نيران: وسمي أعزل لأنه لا شئ بين يديه من الكواكب، كالأعزل الذي لا رمح معه. ويقال لاْنه إذا طلع لا يكون في أيامه ريح ولا برد، وهو أعزل منها. وهو من منازل القمر، والرامح ليس من منازله، ولا نوء له، وهو إلى جهة الشمال. والأعزل من كواكب الأنواء وهو إلى جهة الجنوب. وهما في برج الميزان، ويقول الساجع: إذا طلع السماك، ذهب العكاك، فأصلح قتاك، وأجد حذاك، فإن الشتاء قد أتاك.

وقد تخصص قوم بالنوء، ورد أن "عمر بن الخطاب" "نادى العباس: كم بقي من نوء الثريا ? فقال: إن العلماء بها يزعمون انها تعترض في الأفق سبعاً بعد وقوعها. فوالله ما مضت تلك السبعُ حتى غيث الناس". وكانوا إذا أرادوا الوقوف على ظواهر الجو لجأوا الى العالمين بالأنواء، وكانوا إذا أرادوا التعبير عن خبير بها، قالوا مثلاً: "ما بالبادية أنوأ منه، أي أعلم بالأنواء منه". وذكر أهل الأخبار أن "الحارث بن زياد بن ربيع"، لم يكن في الأرض عربي أبصر منه بنجم.

واعتقاد راسخ مثل هذا في الكواكب والنجوم، لا بد أن يحمل الجاهليين على تتبع ما ورد عند الأمم الأخرى من علم الأنواء، للاستفادة منه في حياتهم العملية، وقد عاش بينهم عدد كبير من اليهود، ولهؤلاء علم أيضاً بالأنواء، ولهم اهتمام بهذا العلم، لما له من علاقة بشؤونهم الدينية. ثم كان بينهم نصارى وقفوا على هذا العلم أيضاً، وكان هؤلاء قد مضوا علم الشرقيين به وطمسوا علمهم وعلم الشرقيين بما ورد في كتب اليونان واللاتين من علم به.

وقد اتخذ الجاهليون النجوم دليلاً لهم يهتدون بها في ظلمات البر والبحر. وقد أشير الى ذلك في سورة الأنعام: )وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر(، ولا بد للاهتداء بها من الوقوف عليها، ووضع أسماء لها، وتعيين البارز منها، ووضع معالم لها، ليكون في الامكان معرفتها ومعرفة اتجاهات السير بها، والاستعانة بها وبالجهات الأربع في معرفة الاتجاه المؤدي إلى المكان المراد. فكانوا اذا سألهم سائل عن طريق قالوا: "عليك بنجم كذا وكذا"، أو "خذ بين مطلع سهيل ويد الجوزاء اليسرى العاقد لها. " إلى آخر ذلك من إشارات تفيد استدلالهم بالنجوم والكواكبُ وبالمطالع لمعرفة الطرق.

وفي الشعر الجاهلى أبيات تشير إلى اهتداء الناس في سيرهم بالنجوم فورد في شعر لسلامة بن جندل في المسيرليلا: ونحن نعشو لكم تحت المصابيح 

ويقصد بالمصابيح الكواكب.

وقد سار أهل الجاهلية مثل غيرهم من الأمم القديمة على فكرة تقسيم السماء إلى " بروج". وقد أشير إلى البروج في القرآن في سورة الحجر: )ولقد جعلنا في السماء بروجاً(، وفي سورة البروج: )والسماء ذات البروج(. وقد قسم اليونان واللاتين السماء إلى "بروج". وعرف كل برج عندهم بلفظة: "بركس"، Burgus. ومن هذا الأصل أخذت لفظة "البرج" و "البروج". أخذت إما من اللاتينية أو اليونانية مباشرة، وإما من السريانية بالواسطة،، وذلك قبل الإسلام بأمد، فتعربت وصارت من الألفاظ العربية الأعجمية الأصل، مثل الفاظ أخرى دخلت العربية من أصل يوناني ولاتيني قبل الإسلام بسنين.

وللكواكب أفلاك تدور فيها، وقد أشير إليها في القرآن، فورد: )وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون(.. وهي عندهم مدارات دائرية على هيأة حجر الرحى، تدور الشمس والقمر والكواكب بها، كل في فلك مقدر له.

ويرى "نالينو"، إن ما ورد في القرآن الكريم عن "البروج"، وكذلك ما ورد في الخطبة المنسوبة الى قُس بن ساعدة الإيادي من قوله: "وسماء ذات أبراج" لا يعني بالضرورة وقوف الجاهليين على البروج الاثني عشر، وأخذهم بهذه النظرية الفلكية، وذلك لأمور ذكرها، وحجج اوردها وفي جملتها أن اسماء كل البروج، ما عدا الجوزاء مترجمة من اسمائها اليونانية والسريانية. ثم إن هذه البروج لم تكن ذات فائدة عملية للجاهليين، ولهذا لا يحتمل اهتمامهم بها، واخذهم بها، ولا سيما ان معارفهم الفلكية لم تكنُ واسعة عميقة.ولهذا ذهب الى إن ما ورد في القرآن عن البروج، لا يراد به الصور المعروفة الموجودة عند اليونانيين والتي وقف عليها العرب في عصور الترجمة، وإنما هي مجرد نجوم. وقد استشهد ببعض مقطفات من كتب التفسير، في تفسير لفظة "البروج".

وقد ذكر "الطبري" أن "البروج" الواردة في "سورة البروج" الكواكب، والنجوم، والأصوب: منازل الشمس والقمر، "وذلك أن البروج جمع برج، وهي منازل تتخذ عالية عن الأرض مرتفعة، ومن ذلك قول الله: ولو كنتم في بروج مشيدة.. وهي منازل مرتفعة عالية في السماء. وهي اثنا عشر برجاً، فمسير القمر في كل برج منها يومان وثلث، فذلك ثمانية وعشرون منزلاّ، ثم ثم يستسر ليلتين. ومسير الشمس في كل برج منها شهر".

ونسب إلى أمية بن أبي الصلت علم بالبروج والكواكب، وقد ورد في الأخبار: أن الرسول أنشد قوله: زُحلٌ وثور تحت رجل يمينه  والنّسر للاخرى وليث يرصد 

وفي هذا البيت، إن صح قول الرواة، أن الرسول أنشده دلالة على وقوفه على شيء من هذا بالفلك.

ويذكر العرب إن القمر يأخذ كل ليلة في منزل من المنازل حتى يصير هلالاً، وقد أشير إلى المنازل في القرآن: ) والقمر قدّرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم(. والمنازل ثمانية وعشرون منزلاً في كل شهر ينزلها القمر. وكل من الشمس والقمر يجريان في فلكهما، )لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا القمر ينبغي له إن يدرك الشمس،وكل في فلك يسبحون(. والعرب تزعم أن الأنواء المنازل، وتسميها نجوم الأخذ، لأن القمر يأخذ كل ليلة في منزل منها حتى يصير هلالاً، وهي منسوبة إلى البروج الاثني عشر. وفي كل برج من البروج منزلان وثلث من منازل القمر، وهي نطاق الفلك، والفلك مدار لها. وإنماُ سمي فلكاً لاستدارته.

وأول ما يعد العرب من "المنازل" "الشَرطان"، وهما كوكبان يقال هما قرنا الحمل، ويسميان النطح والناطح، وبينهما في رأي العين قاب قوسٍ، وأحدهما في جهة الشمال والاخر في جهة الجنوب والى جانب الشمال كوكب صغير يعد معهما احياناً فيقال الأشراط، وقد يعرف ب "الأشرط"، و "الشرطان" نجمان من الحمل، وهما قرناه، والى جانب الشمالي منهما كوكب صغير. ومن العرب من يسمي هذه النجوم الثلاثة الأشراط. وقيل هما أول نجم الربيع، ومن ذلك صار أوائل كل أمر يقع أشراطه، والربيع أول الأزمنة للعرب، فيه الخير والبركة لهم،وإذا نزلت الشمس بهذا المنزل فقد حلت برأس الحمل، وهو أول نجوم فصل الربيع، وعند ذلك يعتدل الزمان، ويستوي الليل والنهار فإذا استوى الزمان، يليه نهاية الربيع، وعودة العرب إلى الأوطان. "يقول ساجع العرب: إذا طلع الشرطان استوى الزمان وحضرت الأوطان، وتهادت الجيران. أي: رجع الناس إلى اوطانهم من البوادي بعد ما كانوا متفرقين في النجع".

ثم "البطين"، وهو ثلاثة كواكب خفية، و يقال: هي بطن الحمل،ثم "الثريا"، وهي اشهر منازل القمر، ويسمونها: النجم. وقد أكثر الشعراء من التشبيه بها.. ولهم في فعلها أسجاع، منها: "إذا طلع النجم، فالحر في حدم، والعشب في حطم، والعانة في كدم"، و "إذا طلع النجم عشاء، ابتغى الراعي كساء"، و "إذا طلع النجم غدية ابتغى الراعي شكية".

وعرفت "الثريا" ب "كيمه" Kimah عند العبرانيين وعند السريان، وعرفت ب "النجم" كذلك. وقد ذكرت ب "النجم" وب "النجم الثاقب" في القرآن الكريم. وقد ذكرت الثريا في شعر امرئ القيس، وفي شعر "قيس بن الأسلت."، و "قيس بن الخطيم"، و "أحيحة بن الجلاح"، كما ذكرت في شعر شعراء آخرين من جاهليين وإسلاميين.

ويرى العرب أن لها أثراً في الصحة وفي وقوع الأوبئة. وأوبأ أوقات السنة عندهم ما بين مغيبها الى طلوعها. "قال طبيب العرب: اضمنوا ما بين مغيب الثريا إلى طلوعها، وأضمن لكم سائر السنة. ويقال: ما طلعت ولا نأت إلا بعاهة في الناس والإبل وغروبها أعوه من شروقها". وفي الحديث: "إذا طلع النجم لم يبق في الأرض من العاهة شيء إلاُ رقع. فإنه يريد بذلك عامة الثمار، لأنها تطلع بالحجاز وقد ازهى اليسر، وأمنت عليه الآفة وحل بيع النخل".

ثم الدبران، وهو كوكب احمر منير يتلو الثريا ويسمى تابع الثريا، ثم الهقعة، وهي ثلاث كواكب صغار، يقال انها رأس الجوزاء، ثم الهنعة، وهي كوكبان أبيضان، ومنها الشعرى العبور، التي ذكرت في القرآن: )وانه هو رب الشعرى(.، وكان من العرب من يتعبد لها، وأول من عبدها "أبو كبشة"، الذي كان المشركون ينسبون الرسول إليه. والغميصاء، والنثرة، ثم الطرف، ثم الجبهة، ثم الزبرة.، ثم الصرفة، ثم العتواء، ثم السماك الأعزل، ثم الغفر، ثم الزبانى، ثم الإكليل، ثم القلب، ثم الشولة، ثم العولة، ثم النعائم، ثم البلدة، ثم سعد الذابح، ثم سعد بُلع، ثم المرع، ثم سعد السعود، ثم سعد الأخبية، ثم الحواء، ثم الفرغ المقدم، ثم الفرغ المؤخر، ثم بطن الحوت.

وقد جعلوا لكل منزل من المنازل المذكورة أثراً في حياة الناس، يتمثل في اسجاعهم المروية في كتب الأدب وفي كتب الأنواء. أخذوها من الظروف والأحوال والتجارب العملية التي كانت تقع لهم عند طلوع الكواكب المذكورة. فنسبوا الفعل إليها، من جفاف ورطوبة وحر وبرد، وهطول مطر أو انحباسه ومن حصول أوبئة إلى غير ذلك من أثر.

ويظهر من دراسة ما ورد عن أنواء أرباع السنة وعن عدة المنازل وصفاتها ومن الأسماء التي أطلقت عليها على أن الجاهليين كانوا على علم بها وبالبرُوج، فالمصطلحات المستعملة في هذه الأنواء وكذلك الأسماء هي مصطلحات أخذها المسلمون من لغة أهل الجاهلية، وأخذهم لها عنهم، كلاَ أو بعضاً، هو دليل على وجود علم للجاهليين بالأنواء والفلك. ولا يستبعد ذلك عنهم، لأن الجاهلين كانوا في حاجة شديدة إلى معرفة الأنواء وعلم الفلك، وقد كان لأهل العراق ولأهل بلاد الشام علم بهما، يعود بعضه إلى البابليين ويعود بعض آخر إلى اليونان، وقد كان السريان يدرسون الفلك، والعرب على اتصال بهم، ولا سيما عرب النصارى مثل أهل الحيرة، حيث درسوا علوم تلك الأيام، ولما كانت معارف الأنواء والفلك ضرورة لهم، فلا يستبعد أخذ الجاهليين معرفتهم بهما من المكانين.

والأجرام السماوية هي كواكب ونجوم، وقد أشير اليهما في القرآن الكريم،و "الكوكب" من التسميات التي ترد في اللهجات السامية الأخرى. فهي "كوكب" "كوكاب" في العبرانية، و "كوكبا" في السريانية، و "كوكب" في الحبشية، و "ككبو" Kakkabu في الآشورية. ويراد بالكوكب النجوم المتحركة التي تتغير مواضعها. أما الأجرام التي تبدو ثابتة لا تترك محلاتها، فهي النجوم.

وقد اشتهرت مجموعة من النجوم باسم "بنات نعش" عند العرب. ولا تزال هذه التسمية سائرة على ألسنة الناس يطلقونها على المجموعة نفسها المعروفة بهذه التسمية عند الجاهليين، وللاخباريين قصص أوردوه عن هذه التسمية يرجع الى ما قبل الإسلام. وتعرف بنات نعش ب "عش" "عاش" و "عيش" عند العبرانيين.

وعرفت مجموعة أخرى من النجوم باسم "جبار". وتسمى "جبارا" Gabbara في السريانية، وب "نفله" Nephla في الكلدانية.، و "فسيل" في العبرانية.. ويظهر انها من الأبراج السماوية القديمة المعروفة عند الساميين.

وعرفت "زحل" و "سهيل" عند الجاهليين كذلك. وكذلك "عثتار" معبودة العرب الجنوبيين. و " العقرب" أحد البروج.

وقد وردت في سفر "أيوب" جملة "حدرى تيمان"، ومعناها " الخادر الجنوب" أو "مخادع الجنوب"، مما يدل على أن المراد بها في نجوم تقع في الجنوب، اي في جنوب فلسطين. وقد ورد في العربية "وسهيل يمان"، أي جنوبية، وذلك "بالنسبة إلى أهل الحجاز.

و "الزُّهر ةَُ"، هي من الكواكب الظاهرة البارزة التي تعرف بسهولة. وهي "هيلل" عند العبرانيين.

وهناك كوكب اسمه Kaawanuعند الأشوريين. ويراد به "كيون" Kiyyun عند العبرانيين. ويقابل "كيوان" في العربية. وهو معروف عند المنجمين. ومن المعربات. والساطرون، من الكواكب المعبودة عند بعض الشعوب السامية.

أما الشمس، فهي أعرف الأجرام السماوبة، وبها استدل على الوقت على الساعات والأيام والسنين والمواسم. وفي القرآن الكريم آيات توضح لنا رأي الجاهليين في الشمس.

وأما القمر، فمن آلهة العرب الجنوبيين البارزة. ويعرف عندهم ب "هلل" أي "هلال". والقمر من التسميات العربية الشمالية. وأما الهلال، فإنه القمر في أيامه الأولى عند أهل الحجاز. وللقمر أسماء نطقت بها العرب. فمنها: الطوس والباهر والغاسق والزبرقان والواضح والزمهرير والسنمار والساهور. والساهور هو القمر في الارامية، من Sahro.

وقد اشتهر بعض الجاهليين بعلمهم. بمواقع النجوم، منهم: "بنو مرُّة بن همام الشيباني" و "بنو مارية بن كلب ".

الكسوف والخسوف

والكسوف والخسوف من الظواهر المعروفة عند الجاهليين. وقدُ عدّ وقوعهما من الامارات التي تشير إلى وقوع حوادث جسيمة في العالم. شأنهم في ذلك شأن شعوب العالم الأخرى في ذلك العهد.

فقد كان بعض الجاهليين يرى أن كسوف الشمس آية دالة على موت رجل عظيم. فقد ورد أن الشمس كسفت في عهد رسول الله، ووافق ذلك موتَ ابراهيم بن رسول الله، فقال الناس: انما كسفت الشمس لأجله. فقال النبي: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى يخوّ ف بهما عباده، وانهما لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته". وقد حدث ذلك في المدينة. وورد في الاخبار أن الانصار كانوا يقولون في النجم الذي يرمى به، مات ملك، ولد مولود.

وكانوا يتصورون أن الكهان كانوا يستعينون على معرفة المغيبات والخفايا بواسطة شياطين هم الذين كانوا يصعدون إلى السماء فيأخذون أخبارهم. وأن الرعد صوت الموكل بالسحاب يزجر السحب من أن تخالف أمره، حيث يسوقها من بلد إلى بلد كما يسوق الراعي إبله.

ويظهر من الموارد الإسلامية أن الجاهليين كانوا يثبتون الوقت بموقع ظل الشمس. ويستعين أهل البادية بالظل، ظل إنسانّ أو عصا أو ظل خيمة، ويدركون من هذا الظل مقدار الوقت بصورة تقريبية. وعلى هذا المبدأ قدر الفقهاء اوقات الصلاة. ولا يستبعد استعانة أهل القرى والمدن بمزاول ثابتة في تقدير الوقت. وذلك بأن تخطط درجات على جدار ثابت أو على أرض، أو تعمل فتحات في جدار، ويعين الوقت برؤية ظل قضيب أو عمود مثبت على الدرجة المرسومة أوالفتحة، ويستدل من الظل على منزلة الساعة من النهار.

وقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الشعوب يلجأون إلى المتفرسين في دراسة الأجرام السماوية لمعرفة الأمور الخافية عليهم من حاضر ومستقبل، وذلك بالاستدلال عليها من ظواهر الكواكب والنجوم. والكهان، هم المتخصصون بهذه المعرفة عند الجاهليين، فكانوا يتنبأون لهم بما سيقع من أمور وأحداث بالاستدلال بحركات تلك الأجرام، وبما تجمع عندهم من فراسات وتجارب ورثوها في هذا الشأن.

وقد كان الجاهليون يبالغون في ذلك كثيراً ويؤمنون بالتنجيم وبتأثير الطالع في حياة الإنسان، ولهذا ذم الإسلام المنجمين وكذبهم ومنع المسلمين من التصديق بهم.

وكان لأهل الجاهلية رأي في تساقط الشهب والنيازك، ويرون إن لتساقط النجوم أثر في الإنسان وفي العالم. ذكر انهم كانوا يرون أنه إذا انقض شيء من البروج الاثني عشر، فهو ذهاب الدنيا، وإن لم ينقض منها شيء، بل رأوا انقضاض النجوم وسقوطها، فإن ذلك يدل على حدوث أمر عظيم في الدنيا.

التوقيت

وقد اهتم الجاهليون بأمر التوقيت، أي تعيين الم الاوقات وضبط الأزمنة، لعوامل ضرورية عديدة. فالزراعة خاضعة لتقلبات الجو وتبدل المواسم، والاعياد وكثير من الشعائر الدينية وأمور العبادة لها علاقة بالتوقيت كذلك، كما أن للتجارة وللسير في البر وفي البحر صلة كبيرة بمعرفة الأنواء. ولهذا عنوا بتتبع سير الكواكب ودراسة ملامح السماء وظواهر الطبيعة التي لها علاقة بالرياح والامطار وبامثال ذلك للاستفادة منها في الحياة العملية.

ويحدثنا الجاحظ في كتاب الحيوان عن حاجة الأعرابي إلى معرفة حال السماء وتقلبات الجو، فيقول: "عرفوا الآثار في الارض والرمل، وعرفوا الأنواء ونجوم الاهتداء، لأن كل من كان بالصحاصح الأماليس، حيث لا أمارة ولا هاوي مع حاجته إلى بعد الشقة، مضطر إلى التماس ما ينجيه ويؤديه ولحاجته إلى الغيث، وفراره من الجدب وضنه بالحياة، اضطرته الحاجة إلى تعرف شأن الغيث، ولأنه في كل حال يرى السماء وما يجري فيها من الكواكب، ويرى التعاقب بينها والنجوم الثوابت فيها، وما يسير منها مجتمعاً وما يسير منها فارداً، وما يكون منها راجعاً ومستقيماً". وفي هذا وفي غيره تفسير لسبب اهتمام الجاهليين بالتوقيت ودراسة الأنواء.

وقد اعتبر القدماء أمر التوقيت من واجبات رجال الدين: فكان رجال المعابد والكهّان هم الذين يقومون بضبط الوقت، وتثبيت الأعياد وأوقات العبادة. ظلوّا على ذلك أمداً طويلا، ولا تزال أثار ذلك باقية حتى اليوم. وكان هؤلاء الرجال قد احتكروا المعرفة والعلم لاعتقاد الناس أنهم أقرب البشر إلى الآلهة، وأن ما يقولون به إنما هو وحي منها، يوحى إلى هولاء، فعلمهم اذن نابع من مصدر صادق لا يتطرق اليه الشك.

وإذا كانت كتابات المسند لم تتحدث عن الموقتين ضباّط الزمن في العربية الجنوبية، فإننا لا نعتقد بشذوذ العرب الجنوبيين عن غيرهم في هذا الباب، خاصة وأننا نرىَ أن الكهان وسدنة المعبد ومن لهم صلة بالأصنام، كانوا هم الذين يقومون في الحجاز بضبط المواقيت والزمن، فليس يستبعد أن يختص رجال الدين في العربية الجنوبية بالتوقيت.

الفصل الحادي والثلاثون بعد المئة
الوقت و الزمان

بقول علماء العربية: الوقت مقدار من الزمان، وكل شيء قدرت له حيناً، فهو موقت. والوقت تحديد لاوقات كالتوقيت. واختلفوا في الزمان، فقالوا: الزمان الدهر، وعارضه آخرون. إذ قالوا: يكون الزمان شهرين إلى ستة أشهر والدهر لا ينقطع. والزمان يقع على الفصل من فصول السنة وعلى مدة ولايهّ الرجل وما أشبه، ويظهر أن بين العلماء خلافاً في تحديد المراد من اللفظتين ثم في تحديد معنى كل لفظة منهما، وفىِ معنى "الدهر"، و ذلك بسبب مسألة القدم والحدوث، وما للتفسير من صلة بهما، وأثر ذلك في مسائل ذات صلة بعلم الكلام.

وروي عن الرسول قوله: " لا تسبوا الدهر، فان الله هو الدهر"، وفي رواية أخرى: " فإن الله هو الدهر"، وورد في الحديث عن "أبي هريرة"، "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم بسب الدهر وإنما أنا الدهر. أقلب الليل والنهار". فالدهر الزمان الطويل، أو الدائم. وقد عبر عنه في الإسلام بالأبدية، التي هي الله.

ويقاس الوقت بالسنين. والسنة اطول وحدة قياسية له. وتنقسم إلى أجزاء.

ولفظة "سنة" من الألفاظ العربية القديمة، وترد في جميع لهجات الجاهلين، وهي من الألفاظ السامية التي ترد في كل لغاتها، مما يدل على أنها من الكلمات السامية القديمة. ويعبر عن كثرة السنين بمصطلحات، مثل: "عصر"، وهو كل مدة ممتدة غير محدودة تحتوي على أمم تنقرض بانقراضهم، وفي القرآن الكريم:) والعصر إن الإنسان لفي خسر(. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن "العصر" الدهر. وتقابل لفظة "العصر" لفظة "دورDor" " في العبرانية. ومنها جملة "دور وآدهور "Dor Wadhor"، بمعنى الدهر والدهور، أي الزمان الدائم. و ذلك بالنسبة لله. لأن الزمن لا شيء بالنسبة له. " لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعد ما عبر وكهزيع من الليل"، و " أن يوماً واحداً عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد". وقد أيد القرآن الكريم هذا المعنى، فذكر أن الوقت لا شيء بالنسبة إلى أبديته: "وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون".

ولفظة سنة لفظة عربية شمالية، ترد في عربية القرآن الكريم، كما ترد في النصوص العربية الشمالية، مثل نص النمارة الذي يعود عهده إلى سنة "328" للميلاد، ونص "حران" الذي يعود تأريخه إلى سنة "568" للميلاد، أي إلى عهد لا يبعد كثيراً عن أيام مولد الرسول. وقد كتبت لفظة "سنة" على هذه الصورة "سنت"، أي بالتاء المبسوطة. وقد وردت هذه اللفظة في الكتابات الصفوية وفي اللهجات العربية الشمالية الاخرى ايضاً.

ولدينا لفظة أخرى مرادفة للسنة هي العام، فيقال لعامنا هذا، أي لسنتنا.

وذكر علماء اللغة إن العام أخص مطلقاً من السنة، فتقول. كل عام سنة، وليس. كل سنة عاماً. وذكر بعض العلماء أن العام كالسنة، لكن كثيراً ما تستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الجدب والشدة، ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام فيما فيه الرخاء والخصب. وقال بعض اخر: السنة أطول من العام، وهي دورة من دورات الشمس، والعام يطلق على الشهور العربية بخلاف السنة. وذكر بعضهم أن العام لا يكون إلا شتاءً وصيفاً، وانك إذا عددت اليوم إلى مثله فهو سنة.

وقد وردت لفظه "عوم" في نص واحد من نصوص المسند، بمعنى سنة، أي في معنى "عام" في لساننا. ولكن الغالب أن يعبر عن السنة بلفظة "خرف"، أي "الخريف"، ويظهر أنهم أطلقوا على السنة "الخريف"، لأن الخريف هو من أبرز المواسم في العربية الجنوبية وله أهمية خاصة بالنسبة لهم، ولذلك غلبّوا التسمية على كل العام.

و "الحول" السنة اعتباراً بانقلاب الشمس ودوران الشمس في مطالعها لي مغاربها.وقد وردت في القرآن الكريم. ويظهر انها من الألفاظ الجاهلية القديمة. والحولي: ما أتى عليه حول من ذي حافر وغيره، ويقال جمل حولي ونبات حولي.

وذكر علماء اللغة أن "الخريف" السنة والعام، أي بالمعنى المفهوم من اللفظة في كتابات المسند. وذهب بعض العلماء إلى أن الخريف هو الفصل المعروف.

وأما ورود اللفظة بمعنى السنة والعام في أحاديث الرسول، فلان الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة، ولذلك قصد باللفظة المسافة تقطع من الخريف إلى الخريف، وهو السنة.

ويستعمل العرب الجنوبيون لفظة "خرف" "خريف" في مكان سنة في لغتهم. وترد في النصوص المؤرخة، حيث تفيد توريخ حادث ما وتثبيته بذكر السنة التي وقع بها من سني الملك أو الرئيس الذي أرخ الحادث به. فيكَتب: "ب خرف.." "بخرف.."، أي "بسنة..."، ثم يذكر بعدها اسم المؤرخ به. كما ترد بمعنى الخريف، الفصل المعلوم من السنة.

وتؤدي لفظة "كبر" معنى سنة في بعض الأحيان، وقد رأينا أن اللفظة تعني "كبير"، وهي كناية عن وظيفة كبيرة في الحكومة، والظاهر أن الناس قد تجوّوزوا في الاصطلاح، فأطلقوه بمعنى السنة، لأنهم كانوا يؤرخون بسني حكم الكبراء، فصاروا يطلقونها على السنة أيضاً، ويفهم معناها عندئذ من الجملة. كما في جملة: " عد ورخ وكبر في ذت هقنيتن"، ومعناها: "إلى شهر وسنة إعلان ذلك التمليك".

وتؤدي لفظة "الحقِبة" معنى السنة عند بعض علماء اللغة، وتجمع على حقب، وذكر أن الحقب ثمانون سنة، وقيل أكثر، والجمع أحقاب. وتؤدي لفظة "الحجة" معنى السنة كذلك.

وتتألف السنة عند العرب وسائر العجم من اثني عشر شهراً، وأيام السنة ثلثمائة وأربعة وخمسون يوماَ، تنقص عن السرياني أحد عشر يوما وربع يوم، لأن أيام السنة كند السريان ثلثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم. وقد كانت العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهراً وتسميه النسيء وهو التأخير.

الفصول الأربعة

وتقسم السنة إلى فصول أربعة بحيث يتكون كل فصل من هذه الفصول.من ثلاثة أشهر، تكون ربع السنة. وهذه الفصول هي: الشتاء، والربيع، والصيف، والخريف. ?يقال للصيف القيظ أيضاً. ويظهر من هذه التسميات ومن هذا النوع من التقسيم أنه تقسيم بني على أساس التقويم الشمسي، لا التقويم القمري. وهو تقسيم بقي مستعملاَ في الإسلام، مع إن التقويم الرسمي الإسلامي هو تقويم قمري، لأنه تقسيم طبيعي مبني على طبيعة التغير الذي يطرأ على شهور السنة. ولو بني تقسيم الفصول على الشهور القمرية، لما كان في الامكان السير عليه بالقياس إلى الحياة العملية المبنية على الزرع والتجارة والتنقل في المراعي،وكل هذه لها علاقة بتبدل طبيعة الشهور.

والتقسيم المذكور قائم على أساس ملاحظات الإنسان للطبيعة ودراسته لها،وعلاقة البرد والحر بحياته وبزرعه وحيوانه. فقسم السنة إلى موسمين: موسم زرع يبذر فيه ويزرع، وموسم حصاد يحصد فيه زرعه ويجني ثمره. وهو موسم يبدأ فيه الزرع بالأفول وبالذبول، حتى إذا ما جاء البرد، تساقط فيه الورق، وتعرت الأشجار من الخضرة ويقابل هذا البرد الحر، وهو موسم واضح ظاهر في جزيرة العرب حياته فيها أطول من بقية الفصول. فأدرك الإنسان من تأثر الطبيعة عليه وجود أربعة فصول. وقد عبرت التوراة عن هذه الفصول بقولها: " مدة كل ايام الارض زرع وحصاد وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل".

ولكن الواضح من الفصول في بلاد العرب: الصيف. ويستأثر بالنصيب الاكبر من السنة،لامتداد حره، ثم الشتاء. ولذلك نجد الناس يقسمون السنة إلى نصفين: صيف وشتاء.

ونجد هذه الفكرة عند العبرانيين كذلك، فالصيف والشتاء هما الفصلان الواضحان البارزان عندهما. ويسمى الصيف ب "قيز" "قيض" عندهم، أي بالتسمية الواردة عند العرب، أما الشتاء، فهو "خرف" في العبرانية.

وبعض العرب يقسم السنة نصفين: شتاءً وصيفاً، ويقسم الشتاء نصفين، فيكون الشتاء أوله، والربيع آخره. ويقسم الصيف نصفين، فيجعل الصيف أوله، والقيظ آخره.

وذكر أهل الاخبار وعلماء اللغة إن العرب تبتدئ بفصل الخريف وتسميه الربيع، لأن أول الربيع، وهو المطر، يكون فيه، ثم يكون بعده فصل الشتاء ثم يكون بعد الشتاء فصل الصيف، وهو الذي يسميه الناس الربيع، وقد يسميه بعضهم الربيع الثاني، ثم يكون بعد فصل الصيف فصل القيظ، وهو الذي يسميه الناس الصيف. وذكر "اليعقوبي" أن العرب اختلفت " في أسماء الأزمنة الأربعة: فزعمت طائفة منها أن أولها الوسمي، وهو الخريف، ثم الشتاء، ثم الصيف، ثم القيظ، ومنهم من يعد الاول من فصول السنة الربيع، وهو الاشهر والأعم، والعرب تقول: خرفنا في يلد كذا، وشتونا في بلد كذا، وتربعنا في بلد كذا، وصيفنا في بلد كذا".

وأول وقت الربيع عندهم، وهو الخريف، ثلاثة أيام نخلو من أيلول. وأول الشتاء عندهم ثلاثة أيام تخلو من كانون الاول. وأول الصيف عندهم، وهو الربيع الثاني، خمسة أيام تخلو من آذار. وأول وقت القيظ عندهم أربعهّ أيام تخلو من حزيران. والخريف عندهم المطر الذي يأتي في آخر القيظ و لا يكادون يجعلونه اسماً للزمان.

وهناك أسماء اخرى لهذه الفصول، ف "الصفرية" هو الجزء الاول من السنة وسمي مطره الوسمي، والشتاء هو الجزء الثاني منها. أما الصيف فهو الجزء الثالث. وأما الجزء الرابع، فهو القيظ، وسموّا مطره الخريف. وقد حددوا مبدأ كل فصل ومنتهاه بالفصول.

وهناك كما يتبين من روايات علماء اللغة اختلاف في تشخيص الربيع، منهم من يذهب إلى أنه الفصل الذي يتبع فيه الشتاء، و يأتي فيه الورد والنور، " ومنهم من يجعل الربيع الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف وفصل الشتاء بعده الشتاء وهو الوقت الذي تدعوه العامة الربيع، ثم فصل القيظ بعده وهو الذي تدعوه العامة الصيف. ومن العرب من يسمي الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف الاول، ويسمي الفصل الذي يتلوا الشتاء وياتي فيه الكمأة والنور الربيع الثاني. وكلهم مجمعون على ان الخريف هو الربيع".

وهناك من يجعل السنة ستة أزمنة: الوسمي، والشتاء، والربيع، والصيف، والحميم، والخريف. وحصة كل زمن من هذه الأزمنة شهران.

وذكر بعض العلماء أن السنة عند العرب ستة أزمنة: شهران منها الربيع الأول وشهران صيف وشهران قيظ وشهران الربيع اشاني، وشهران خريف وشهران شتاء. وذكر بعضهم أن السنة أربعة أزمنة:الربيع الأول وهو عند العامة الخريف، ثم الشتاء، ثم الصيف وهو الربيع الاخر، ثم القيظ. وهذا هو قول العرب في البادية. والربيع جزء من أجزاء السنة، وهو عند العرب ربيعان: ربيع الشهور وربيع الأزمنة. فربيع الشهران بعد صفر. سميّا بذلك لأنهما حدّ ا في هذا الزمن فلزمهما في غيره. ولا يقال فيهما إلا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الاخر. وأما ربيع الأزمنة فربيعان: الربيع الأول وهو الفصل الذي يأتي فيه النور والكمأة، و هو ربيع الكلأ. والربيع الثاني، وهو الفصل الذي تدرك فيه الثمار. ومن العرب من يسمي الفصل الذي تدرك فيه الثمار، وهو الخريف: الربيع الأول، ويسمى الفصل الذي يتلو الشتاء ويأتي فيه الكمأة والنور الربيع الثاني. وكلهم مجمعون على أن الخريف هو الربيع.

وقسم بعضهم الشتاء إلى ربيعين: ربيع الماء والأمطار وربيع النبات لأن فيه ينتهي النبات منتهاه. والشتاء كله ربيع عند العرب لأجل الندى.

ويظهر من المسند أن العرب الجنوبيين كانوا يقسمون السنة إلى فصول كذلك وأنهم كانوا مثل غيرهم يقسمونها إلى فصول أربعة: الشتاء والربيع و الصيف والخريف. ولا يعني هذا التقسيم الرباعي أن الجو في العربية الجنوبية أو في أي مكَان اخر في جزيرة العرب كان يختلف اختلافاَ واضحَا بينا من حيث التطرف او الاعتدال باخلاف هذه الفصول - الأربعة، وأن شهور الفصول هي متساوية بالفعل. وأن عدة كل فصل ثلاثة أشهر، بل هو في الواقع تقسيم علمي نظري، أما من الناحية العلمية، فإن فصلي الصيف والشتاء هما أبرز الفصول وأوضحها في جزيرة العرب كلها. ولا سيما فصل الصيف الذي يعدّ أطول الفصول وأوضحها فيها. وهذا هو الذي دفع العرب ولا شك إلى تقسيم السنة إلى نصفين، شتاء و صيف. يبتدئون بالشتاء ويجعلونه النصف الأول، ويبتدئ عندهم بابتداء النهار في القصر وابتدائه في الزيادة. وأما الصيف، فيبدأ عند انتهاء النهار بالطول وابتدائه بالنقصان.

والشتاء هو "صربن" في المسند. أما الربيع، فهو "دثا". وأما الصيف، ف "قيضن"، أي القيظ، وأما الخريف، ف "خرفن"، أي الخريف. ويذكر علماء اللغة أن القيظ هو أشد الحرّ، وأن الخريف ليس في الأصل بامم للفصل، إنما هو اسم لمطر القيظ، ثم سميّ الزمان به فجرى.

وترتبط مسميات الفصول ارتباطاً متيناً مع مواسم الحصاد. ففي أحد النصوص: "صريم وقيضم"، ومعناه "شتاء وصيف"، ويظهر أن صاحبه قصد من لفظة "صربم" الحصاد الذي يتم في أول موسم الشتاء. وأما "قيض"، فهو الصيف، حيث تشتد الحرارة فيه. وفي نص آخر:"قيض ودثا وصرب وميلم" وكلمة "ميلم" يجب أن تؤدي معنى الخريف،إذ القيض، هو الصيف و"دثا." الربيع و "صرب" ا الشتاء، فتكون لفظة "ميلم" بمعنى الخريف إذن، وربما الحصاد، أي الحصاد الذي يجمع في أخر الشتاء، قبل هطول أمطار الربيع.

وفي الربيع والخريف تتساقط الامطار الفصلية في العربية الجنوبية، تتساقط الأمطار الربيعية في شهري آذار و نيسان وأما أمطار الخريف القوية الثقيلة، فتهطل في تموز "جولاي" وآب "أغسطس" وأيلول "سبتمبر". وتعرف أمطار الخريف فتسمى ب "خرف" "خريف". دعيا بذلك لنزولهما في هذين الموسمين. والى هذين الفصلين أشار "بلينيوس" "Pliny" حين قال إن العرب الجنوبيين يسموّن غلة البخور التي يجمعونها في فصل الخريف باسم " Dathiathum"، و يسمون الغلة التي تجع من هذه المادة في فصل الصيف ب Cafiathum والكلمة الأولى هي تحريف للفظة "خريف". وأما الثانية، فتحريف للفظة "دثا"، أي الربيع.

وقد دخلت التسميتان بواسطة التجارة والتجار إلى اليونان، ولا شك. وهما تسميتان واضحتان صحيحتان.

وتؤدي لفظتا "دثا" و "خرفن" معنى الأمطار الموسمية في الغالب، أي أمطار الربيع وأمطار الخريف في بعض الكتابات. وقد تؤديا معنى "الغلات " أي "فرع"، التي تجمع في موسمي الربيع والخريف.

ولدينا نص طريف يفيد أن أصحابه قد أذنبوا بعدم ايفائهم بما نذروه لآلهتهم وكان عليهم الوفاء به في "ذموصبم" كما عاهدوا آلهتهم. ولمخالفتهم عهدهم هذا، أرسلت الآهة عليهم سيلا جارفاً من أمطار شديدة سقطت في موسمي الربيع والخريف، فأتلفت زرعهم وأصابتهم بضرر كبير، واعترافاً منهم بتقصيرهم هذا وبذنبهم، كتبوا النص المذكور، وقدموا نذرهم كاملاً، راجين من الآلهة الصفح عن ذنبهم والعفو عنهم، وأن تبارك في زرعهم، وأن تعوضهم عن خسارتهم التي أصابتهم بغلة وافرة وحاصل غزير.

الشهور

وتتألف السنة عند العرب الشماليين من اثني عشر شهراً، وقد أشر إلى ذلك في القران: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراٌ في كتاب الله. يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم(. وهو التقسيم الشائع المعروف عند بقية السامين واليونان وغيرهم. والمعمول به حتى اليوم. ولم ترد إشارة إلى هذا التقسيم في نصوص المسند، ولكن ورود ذكر السنين والشهور في كتابات المسند، واستعمال العرب الشماليين وغيرهم التقسيم الاثني عشري للسنة، يحملنا على القول إن العرب الجنوبيين كانوا يقسمون السنة إلى اثني عشر شهراً أيضاً، وان لم ينص على ذلك في النصوص.

وقد لاحظ "رودوكناكس" أن المزارعين المحدثين في العربية الجنوبية يسيرون بموجب تقويم فلكي Sidereal Calender، يقسم السنة إلى ثمانية وعشرين شهراً، مدة كل شهر ثلاثة عشر يوماً، فاستنتج من ذلك احتمال كون هذا التقويم من بقايا تقويم عربي جنوبي كان العرب الجنوبيون يسيرون عليه قبل الإسلام. ولهذا رأى أن "ذ فرع" و "ذا جبي" "ذا جبو"، لا يمثلان شهرين من شهور السنة، وإنما يمثلان وقتاً من أوقات العمل والزرع، بالمصطلح المستعمل الان في العربية الجنوبية، أي جزءين من "28" جزءاً من أجزاء السنة. وذهب "بيستن" إلى احتمال تقسيم العرب الجنوبيين للشهر إلى ثلاثة أقسام، يتكون كل قسم منها من عشرة أيام.

ويرى "رودوكناكس" أن سنة العمل عند القبائل تبدأ باليوم الأول من شهر "ذ فرعم" "ذو فرعم" "ذو الفرع"، وتمتد إلى اليوم السادس من "ذ فقحو"، ويرى أن السنة عند الفلاحين، تتكون من "365" يوماً، أما الأيام الباقية وهي ما بين "5" و "6"، فتضاف إلى أحد الأشهر وتأخذ اسمه، فتكون السنة بهذا العمل سنة شمسية كاملة. ويحتفل الفلاحون عند انتهاء تقويمهم الزراعي بانتهاء السنة، حيث يعيدون عيداً يسمونه "صب"، "مصوب"، ويعد شهر "فرعم" الشهر الأول من السنة الزراعية، حيث تزهر الأشجار، وتظهر الأوراق. وتختلف هذه السنة عن سني التقويم الرسمي الذي تسير عليه الحكومة في جباية استحقاقها من حاصل الزرع.

والإهلال هو المبدأ الذي سار عليه الجاهليون في تعيين أوائل الشهور. فإذا اختفى القمر في آخر الشهر ولم يظهر، خرجوا لمراقبة الهلال وتثبيت مبدأ الشهر.

وقد كانوا يعدون الرؤية من الحوادث المؤثرة في حياة الشخص. من حيث جلب النحس والسعادة للمستهل. ولهذا كانوا ينظرون إلى المناظر الجميلة حين الاستهلال، لاعتقادهم أن ذلك يجلب لهم البركة والخير. والشهر كما جاء في الحديث: "مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين"، أي يوماً.

ويعبر عن الشهر بلفظة "ورخ" في العربيات الجنوبية. والجمع "اورخم" "اورخ". ولفظة "ورخ" تعني القمر في عربية القرآن الكريم. وهي من الألفاظ السامية القديمة، وتؤدي معنى "ارخ" وتأريخ أيضاً. فكان العرب الجنوبيون إذا أرادوا التأريخ بالأشهر، قالوا: "ورخ كذا 000"، اي "شهر كذا...". والتوريخ بالشهور لا يعني أن العرب الجنوبيين أو غيرهم من العرب، كانوا لا يؤرخون إلا بالتقويم القمري، وانهم لم يكونوا يستعملون غير هذا التقويم. فقد كان غيرهم يؤرخون بالشهور القمرية كذلك، وكانوا مع ذلك يؤرخون بالتقويم الشمسي، أو بالتقويمين.

ولا تعني لفظة "ورخ" التي هي "الشهر" أن العرب الجنوبيين كانوا يتبعون تقويماً قمرياً، بسبب أن لفظة "ورخ" تعني "قمر" في الأصل، فالانكليز يستعلمون لفظة Month بمعنى الشهر، وهي من أصل Moon أي القمر، ومع ذلك فإن شهورهم شمسية، ولفظة "الشهر" نستعملها في عربيتنا، هي في معنى "ورخ" في الأصل. فالشهر: القمر، والهلال. أي مرادف "ورخ" تماماً. وقد سمي الشهر به، لأنهم كانوا يوقتون به، فالمدة التي تمضي بين هلال وهلال جديد، هي شهر. نسي المعنى الأصلي للكلمة، وبقي الاصطلاح ومن ذلك قولهم: أشهروا، بمعنى أتى عليهم شهر، وشاهره مشاهرة وشهاراً، استأجره للشهر.

ووردت لفظة "شهر" بمعنى هلال في العربيات الجنوبية، و ذلك كما في هذه الجملة: "بيوم شهرم ويوم ثنيم ذنم"، أي "بيوم الهلال، وبيوم المطر الثاني"، أو بعبارة أخرى "يوم الاهلال، وزمان سقوط المطر الثاني".

وقد وردت في كتابات المسند أسماء عدد من الاشهر، يتبين من دراستها إن بعضها وارد في نصوص لهجتين مثل معين وسبأ، ولهجة سبأ وقتبان،مما يدل على أنها كانت مشتركة و مستعملة عند المعينيين والسبئيين، أو عند السبئيين والقتبانيين. ولكن الأغلب انفراد كل لهجة بتسمية شهر، بدليل ما نجده في كتابات كل لهجة من اللهجات التي نعرفها من أسماء أشهر لا ترد في الكتابات الأخرى. ومن الأشهر المشتركة التي ورد اسمها في كتابات سبئية ومعينية، شهر "ذ دثا" وشهر "ذ سحر" وقد ورد اسمه فى كتابات سبئية وقتبانية، و "ذ ابهى" "ذ ابهو"، وقد ورد في كتابات معينية وسبئية وقتبانية كذلك.

وعثر على أسماء هذه الشهور في النصوص المعينية: "ذ ابهى" "ذو أبهى"، و "ذ ابرهن"، و "ذ أثرت"، "ذا عثيرة"، و "دثا"، و "ذ حضر"، و "ذ طنفت" " و "ذ نور"، و "ذ سمع"، و "ذ شمس". ومن الشهور الواردة في كتابات السبئيين المتقدمة: "ورخ ذا بهي"، أي شهر ذو أبهى، و "ورخ ذ ودنم"، و "ورخ دثا"، "ذ دثا"، و "ورخ ذ نيلم"، و "ورخ ذ نسور"، و "ورخ ذ سحر"، و"ورخ ذ فلسم"، و "ورخ ذ قيضن"، و "ورخ صربن"، و "ورخ صر"، و "ورخ ذ الالت"، و "ملت"، و "ذ عثتر"، و "ذ موصبم"، و "ذ مخضدم". وشهور أخرى.

أما الشهور: "ورخن ذ الالت"، و "ورخ ذ داون" و "ورخو ذ حجتن" و "ورخ ذ خرف" و "ورخو ذو مذران" و "ورخن ذ مهلتن" و "ورخن ذ محجتن" و "ورخ ذ معن" و "ورخ ذ صربن" و "ورخو ذ قيضن" و "ورخ ذ ثبتن"، فإنها من الشهور الواردة في الكتابات السبئية المتأخرة.

ويظهر من اسم الشهر "ورخن ذ الالت" "ذ ا ل ا ل ت"، و "ورخن ذ حجتن"، أن لهما صلة بالحياة الدينية عندهم. فورخن ذ الالت معناه شهر الآلهة. فالظاهر أنه شهر خصص بالآلهة، كانوا يتقربون فيه إليها بالنذور مثلاً أو العبادة. فهو شهر مقدس، ربما يكون مثل شهر "رمضان" في الإسلام. وأما "ورخن ذ حجتن"، فمعناه "شهر الحج"، فهو شهر يحج فيه إلى الأصنام، على نحو "شهر ذي الحجة" في الإسلام.

" أما الشهور القتبانية التي وردت أسماؤها في كتاباتهم، فهي: "ورخس ذ ابهو" و "ورخس ذ برم" و "ورخس ذ بشمم" و "ورخس ذ مسلعت" و "ورخس ذ سحر" و "ورخس ذ عم" و "ورخس ذ تمنع" و"ورخس ذ فرعم"، و "ورخ ذ فقهو". ويلاحظ أن اللهجة القتبانية تضع حرف "و" في نهاية "ابهى" "فقهى"، فتقول: "ذ ابهو"، و"ذ فقهو" بدلاً من "ذ ابهى" و "ذ فقهى" كما هو الحال في اللهجات الأخرى، مما يدل على إن هذا الحرف، هو من خصائص، هذه اللهجة.

وذكر "بيستن" أن الكتابات الحضرمية لم تذكر من أسماء الشهور إلا اسم شهر واحد، هو "ورخس ذ صيد".

ويلاحظ ورود لفظتي "قد من" و "اخرن" مع أسماء بعض الأشهر كما في هذه الجمل: "ورخ ذ نسور قد من" و "ورخ ذ نسور اخرن"، و "ورخس ذ برم قد من"، و "ذ برم اخرن". ومعناها: "شهر ذو نسور الأول" و "شهر ذو نسور الثاني" و "ذو نسور الاخر"، و "شهر ذو برم الأول" و "شهر ذو برم الآخر". و ذلك إن لفظة: "قد من" تعني "الأقدم" و "الأول". وأما "اخرن"، فتعني "المتأخر والثاني والاخر". و ذلك كما نفعل نحن اليوم إذ نقول "شهر ربيع الأول" و "شهر ربيع الآخر" و "جمادى الأولى" و "جمادى الآخرة" في التقويم الهجري، و "كانون الأول" و "كانون الثاني" في التقويم الميلادي.

ويتبين من استعمال اللفظتين المذكورتين أن بعض العرب الجنوبيين، ويجوز أن يكونوا كلهم، كانوا كالعرب الشماليين ومثل بعض الساميين، قد استعملوا اسماً واحداً لشهرين، وللتفريق بينهما أطلقوا لفظة "قد من" بعد اسم الشهر الأول، لتمييزه عن سميّه الشهر التالي له، ولفظة "اخرن" أي المتأخر والتالي أو الثاني بعد اسم الشهر الثاني لتمييزه عن الأول المتقدم عليه.

ويظن أن شهر "ذ برم اخرن"، "ذ برم الآخر" "ذ برم التالي" أو "الثاني" إنما هو من شهور "الكبس"، ولهذا فهو لا يكون في كل سنة، بل في السنين المكبوسة فقط.

ويظهر من دراسة بعض الأسماء أن لبعضها معاني ذات علاقة بالجو، ولبعض آخر علاقة بالحياة الدينية أو بالناحية الزراعية. ومن النوع الأول: "ذ دثا"، "ذو دثا" وله معنى الربيع، وهو مثل شهر "ربيع الأول" أو "ربيع الاخر" في التقويم الهجري. ف "دثا" هو الربيع في المسند. وأما شهر "ذ خرف" فإن له صلة بموسم الخريف، وقد يكون من شهور هذا الموسم. و "خرف" بمعنى "الخريف" الموسم المعروف بلغتنا، وبمعنى سنة. وأما شهر "ذ قيضن" فإنه من أشهر القيظ، والقيظ هو الحرّ، فهو شهر من أشهر الصيف، و "القيض"، بمعنى الصيف كذلك، والموسم الذي تنضج اثمار الصيف فيه.

ومن الشهور التي لها علاقة بالزراعة، شهر "ذ مذرن"، "ذ مذران" "ذو مذران"، ومعناه شهر البذر، ولعله دعي بذلك لأن الزرّاع كانوا يبذرون بذورهم للزرع فيه. وشهر "ذ صربن"، "ذو صربن". وهو من أشهر الخريف، قد يكون في أوله وقد يكون في أواخره، أي في ابتداء الشتاء، وهو يقابل شهر "صراب".ن الأشهر المستعملة في العربية الجنوبية في أيامنا هذه. و "صربن" "صراب"، بمعنى أثمار الخريف وحاصل الخريف، أي غلة الخريف.

ويرى بعض الباحثين أن لشهر "ذ ثبتن" علاقة بالزراعة كذلك، وأنه يعني الشهر الذي تتهاطل فيه الأمطار، وتجمع فيه السيول لخزنها في السدود، وأن لشهر "ذ مهلتن" علاقة بالزراعة كذلك، وأن في معناه "المهلة" أي التأخير في عمليات الزرع أو جمع الحاصل.

ويظن أن للشهرين "ذ دونم" "ذ دنم" و "ذ نيلم" علاقة بالزراعة كذلك. وقد ذهب بض الباحثين إلى أن معنى "دونم" "دينم" الدين، وأن المراد بها الشهر الذي تجمع فيه ديوان المعبد. أي ضرائب المعبد. وذهب بعض آخر إلى أن اللفظة من أصل "دون"، ومعناها الإرواء والإسقاء، وأن لهذا الشهر علاقة اذن بشؤون الري. وأما "ذ نيلم"، فإنه شهر حصاد الغلات وجمع الحبوب.

ومن الشهور التي لها علاقة بالحياة الدينية، "ذ عثتر" و "ذ الالت" و "ذ حجتن" و "ذ محجتن" و "ذ شمسى" وغيرها. وشهر "ذو عثتر" منسوب إلى الإله "عثتر". وأما "ذ الالت"، فبينّ الدلالة على المعنى الديني كذلك. فإنه يعني شهر الآلهة. وأما "ذ حجتن" و "ذ محجتن"، فهو مثل شهر "ذى الحجة في التقويم الهجري وفي معناه. وأما "ذ شمسى" "ذو شمس" فيجوز أن يكون نسبة إلى الآلهة الشمس من الناحية الدينية، ويجوز أن يكون نسبة إلى الشمس من ناحية تأثرها في الجو، أي من ناحية تأثير حرارة أشعتها في الناس وفي المزروعات. و ذلك بكونه من اشد الشهور حراً، فيكون هذا الشهر بذلك من أشهر الصيف.

ويفهم من جملة: "ورخ ذ هبس وعثتر"، أن هناك شهراً اسمه شهر "هوبس وعثتر"، أو شهراً اسمه "هوبس"، نسبة إلى الإله "هوبس" وشهراً آخر اسمه "عثتر"، نسبة إلى الإله "عثتر". وورد اسم الشهر "ورخ ذ عثتر" في جملة نصوص.

والأشهر التي لها صلة بالحياة الدينية، هي: "شهر الآلهة" "ورخ ذ ال الت" "ذ الالت"، و "شهر ذ حجتن"، "ورخ ذ حجتن"، و "شهر ذ محجتن"، "ورخ دمحجتن"، أي شهر المحجة. ويصعب في الوقت الحاضر علينا تثبيت أوقات هذه الأشهر المقدسة بالنسبة للمواسم ولترتيب الشهور، لعدم وجود أدلة يمكن أن نستخرجها من النصوص لتثبيت زمن الحج عندهم مثلاً، أو زمن الشهر المخصص للآلهة.

ونجد أسماء بعض الشهور مثل: "ذ سمع" " تمثل صفة من صفات الآلهة.

ف "ذ سمع" يعني "ذو السمع"، فالآلهة تسمع الناس وتجيب دعواتهم. كما في أسماء شهور أخرى تشير إلى أمور دينية وطقوس. مثل شهر "ذ حضر"، فإنه شهر الأضاحي، من "حضر" بمعنى ضحى، أي ذبح ذبيحة للآلهة، ومثل شهر "ابر"، ومعناه "شهر حرق البخور"، أو تقديم النذور، أو النذور التي تقدم لمحارق الآلهة. وربما أدى اسم شهر "ذ نور" هذا المعنى أيضاً، ف "نور" بمعنى نار. فيكون المعنى شهر النيران.

وقد ورد اسم الشهر "ورخ ذ ملت"، "ورخ ذ مليت" في عدد من النصوص. وهو من الأشهر التي لها صلة بموسم الزرع والمواسم. وهذه الأشهر هي: "ذ دثا"، و "ذ ملت" "ذ مليت"، و "ذ قيضن"، و "ذ دنم" "ذ دونم"، و "ذ نيلم".

ومن الشهور الواردة في نصوص "هرم"، شهر "ذ سلام" "ورخ ذ س ل ا م".

وهناك احتمال بأن: "ذ مو ص ب م"، و "ذ عثتر"، و "ذ مخضدم"، هي أسماء شهور كذلك. وقد ورد: "حين ذ مخضدم قد متن"، مما يدل على أن اسم هذا الشهر هو مؤنث، وهو الشهر الأول، لوجود لفظة "قدمتن" وأن هنالك شهراً آخر، يمكن تسميته ب "حين مخضدم الثاني".

ويظهر من أسماء هذه الشهور المتقدمة، أن العرب الجنوبيين، كانوا يسمون بعض أشهرهم بما يقع فيها من حوادث مهمة، مثل موسم جمع الديون أو التعبد للآلهة أو لإله معين، أو للحج إلى المعابد، أو بالظواهر الطبيعية التي تمتاز بها مثل الحر أو البرد، أو بموسم الصيد.

وقد حاول "بيستن" تثبيت بعض شهور العرب الجنوبيين بالنسبة إلى المواسم وإلى الأشهر المستعملة في الوقت الحاضر، فذهب إلى أن شهر "ذ ثبتن" قد يكون هو شهر آذار أو شهر نيسان، وأن شهر "ذ قيضن"، أي شهر القيظ، بمعنى الحر، الذي يقابل "رمضان" قد يكون شهر "مايس" أو حزيران، وأن شهري "ذ خرف"، و "ذ مذرن" قد يكونا تموز إلى ايلول، وان شهر "ذ داون"، قد يكون شهر "اكتوبر" "تشرين الأول"، وأن شهر "ذ صربن" قد يكون شهر "نوفمبر" "تشرين الثاني"، وأن شهر "ذ معن" قد يقابل شهر "دسمبر"، أي "كانون الأول".

وليس في امكاننا في الزمن الحاضر وضع تقاويم ثابتة كاملة للشهور في العربية الجنوبية. نعم، يمكننا تثبيت بعضها استناداً الى معاني أسمائها كما رأينا ذلك فيما تقدم، و ذلك بأن نجعل الشهر الفلاني في الفصل الفلاني من فصول السنة مثلاً. ولكننا عاجزون عن ترتيب تلك الشهور الإثني عشر ترتيباً زمنياً صحيحاً لنقص في علمنا بالشهور. ومن أجل الوصول الى ذلك، لا بد من أن نتريث حتى   

تتهيأ لنا نصوص كثيرة جديدة، قد تكون من بينها نصوص فلكية، أو نصوص أخرى ترد فيها أسماء شهور جديدة، وأسماء شهور مرتبة ترتيباً زمنياً يساعدنا على ترتيبها وتنظيمها في تقاويم منتظمة لمختلف القبائل العربية الجنوبية ودويلاتها. ولا بد لي هنا من الإشارة إلى وجوب الاستعانة بالتقاويم المستعملة عند بقية الساميين وعند القبائل العربية الشمالية وعند القبائل الإفريقية التي كانت لها صلات بالعرب الجنوبيين، لمطابقة شهورها على شهور التقاويم العربية الجنوبية وتثبيتها عندئذ على هذا الأساس.

ولم ترد في كتابات المسند أسماء الشهور المستعملة عند الشعوب السامية الشمالية، وهي: نيسان و مايس وحزيران وتموز وآب.وايلول وتشرين الأول وتشرين الثاني وكانون الأول وكانون الثاني وشباط وآذار.

ويظهر أن سنة العرب الجنوبيين، كانت تتكون من "360" يوماً، مقسمة على اثني عشر شهراً، ولأجل جعل هذه السنة سنة طبيعية كاملة، متفقة مع الدورة السنوية الحقيقية للأرض، كانوا يعالجون ذلك بالكبس. إما بكبس بقية الأيام على السنة نفسها، ويتم ذلك في كل سنة، وإما بإضافة شهر إضافي على التقويم في نهاية كل ثلاث سنين.

وربما يدل اسم الشهر "ذ برم اخرن"، "ذو برم الاخر"، وهو من شهور قتبان، على انه شهر كبس، يضاف إلى سنة الكبس لتكون سنة شمسية تامة. وربما أدى اسم الشهر: "ذ نسور اخرن"، وهو من شهور السبئيين هذا المعنى كذلك. وهناك شهر اسمه "بين خرفنهن" اي "بين الشهرين"، ربما يدل على الكبس، واضافة شهر بين الشهرين، لتكون السنة كاملة، أي كبس شهر على السنة الاعتيادية، فتكون عدتها ثلاثة عشر شهراً، و ذلك بعد السنين اللازمة، لإصلاح التقويم، حتى يكون مطابقاً لدورة الأرض حول الشمس. وقد كان العبرانيون يضيفون شهراً على تقويمهم بسبب أن الشهور الاثني عشر القمرية لم تكن إلا "354" يوماً وست ساعات، فنقصت بذلك السنة اليهودية. أحد عشر يوماً عن الرومانية، ولسبب ذلك أدخل اليهود شهراً ثالث عشر كل ثلاث سنوات، سموّه "فيادارا"، أي "آذار الثاني"، وهكذا جعلوا طول السنة القمرية يعادل الشمسية تقريباً.

وقد ورد في النصوص اللحيانية اسم "منر" يظهر أنه اسم شهر، يقال له "منر"، أي "منير". واسم آخر هو "سمر"، يظهر انه اسم شهر كذلك.

أما النصوص العربية الشمالية، فهي بخيلة كل البخل في ايراد أسماء الشهور، فلم يرد في النصوص العربية الخمسة المدوّنة بعربية قريبة من عربية القرآن الكريم من أسماء الشهور، إلا اسم شهر واحد، هو "كسلول". وقد ورد اسمه في "نص النمارة". ويقابل هذا الشهر، كانون الأول. ويدل استعمال النص لهذه التسمية على أن العرب الشماليين، كانوا يستعملون التقويم البابلي في التأريخ.

و "كسلول"، هو الشهر التاسع من الشهور المتداولة في العراق وفي بلاد الشام. وأصله "كسلو"، وهو بابلي. وهذه الشهور هي: نيسان، وزيو، وسيوان، وتموز، وآب، و ايلول، و ايثانيم، و بول، وكسلو، وطيبيت، وشباط، وآذار. وهي الشهور المقدسة عند العبرانيين. ويقال لشهر نيسان شهر "أبيب"، و لشهر "زيف" "أيارا"، و أما "سيوان" فهو "سيوان" وتموز هو تموز، وآب هو آب، وأما أيلول فهو أيلول، وأما ايثانيم فهو تشرى "تسرى" و "تشريتو"، وأما "بول" فهو مرشوان، وكسلو هو "كسلو"، و "طيبت" هو "تبت"، ويسمى ب "تمطرو" أيضاً. وأما "شباط" فهو "سبت" "شبات"، وأما "اذار" فهو آذار.

وقد ذكر الأخباريون أسماء أشهر ترك استعمالها في الإسلام، ذكروا انها كانت مستعملة عند قدماء الجاهلية، وهم العرب العاربة، كما ذكروا أسماء شهور قالوا انها كانت أسماء الشهور عند ثمود، وأسماء شهور قالوا انها الشهور التي كان يستعملها العرب عند ظهور الإسلام.

أما الشهور التي زعموا انها كانت شهور العرب العاربة، فهي: المؤتمر، وقد زعموا انه في مقابل المحرم، وناجر، وهو في موضع صفر، وخوّان "وروي حوّان" ويقابل ربيعاً الأول، ووبصان "ويقال صوان وبصان"، وهو في مقابل ربيع الآخر، والحنين أو شيبان، وهو جمادى الأولى، وملحان وهو   

جمادى الآخرة: والأصم، وهو شهر رجب، وعاذل "عادل"، وهو شعبان، وناتق، وهو شهر رمضان، ووعل وهو شوّال، ورنة، وهو ذو القعدة، وبرك وهو ذو الحجة. وذكر بعضهم أن خوّاناً اسم يوم من أيام الأسبوع، وأن شيبان اسم كانون الأول، وأن ملحاناً أو كانون الثاني. وهذا الترتيب الذي ذكرته هو كما جاء في رواية ابن سيدة.

و ذكر الفرّاء أن من العرب من سمىّ المحرم المؤتمر، وصفر ناجراً، وربيع الأول خواناً، وربيع الاخر بصان أو بصان أو بوصان، وجمادى الأولى الحنين، وجمادى الآخرة ورنة "ورنى"، ورجب الأصم، وشعبان وعلاً، ورمضان ناتقاً، وشوال عاذلاً، وذو القعدة هُواعا، و ذ الحجة بركا. وذكرها غيره على هذا النحو: المؤتمر وهو المحرم، وناجر وهو صفر. وخوّان، وهو ربيع الأول، ووبصان وهو ربيع الآخر، وحنين وهو جمادى الأول. وربي وربة لجمادى الآخرة. والأصم وهو رجب. وعادل وهو شعبان وناتق وهو رمضان. ووعل وهو شوال، وورنة وهو ذو القعدة، وبرك وهو ذو الحجة.

ورتب المسعودي أسماء الشهور الجاهلية على هذا النحو: ناتق، وثقيل، و طليق، وناجر، و سماح "أسلخ"، و أمنح "أميح"، وأحلك، و كسع، وزاهر، وبرط، وحرف، ونعس. وجعلها فيَ مقابل المحرم، وصفر، فبقية الشهور. وذكر أن "نعساً" هو ذو الحجة.

ورتبها البيروني على هذا النحو: المؤتمر، وناجر، وخوّان "حوّان"، وصوان، وحنتم أو حنين، وزبّاء، والأصم،و عادل، ونافق، و واغل، و هواع أو رنة، وبرُّك.

ورتبها آخرون على هذا النحو: مؤتمر، وناجر، وحوّان "بالحاء المهملة والحاء المعجمة"، وصوان ولقال فيه وبصان، ورُ بى، وأيدة، والأصم، وعادل، وناطل، وواغل، وورنة، وبرك. أو على هذا النحو: ناتق، و نقيل، وطليق، و اسنح، وانخ، وحلك، وكسح، وزاهر، ونوط، وحرف، و يغش.

وذكرها بعض آخر على هذا النحو: مؤتمر، وناجر، وخوّان، وصوان، أو "و بصان"، و "حنين" و رُ بيّ، وأيدة، والأمم، و عادل، و ناطل، و واغل، و ور نة، وبرك، أو هي: ناتق، و نقيل، وطليق، وأسنح، وأنخ، وحلك، وكسح، و زاهر، ونوط، وحرف، ويغش. و هناك من يقول: مؤتمر، وناجر، وخدان، وصوان، وحنتم، وزبا، والأصم، وعادل، وناقق، و واغل، وهواع، و برك، وما شاكل ذلك. وهناك آراء أخرى في ترتيب هذه الشهور وفي ضبط هذه الاْسماء.

وذكر علماء اللغة أن الخالص من الشتاء عند العرب شهران، يطلقون عليهما "قماحاً"، و يقال للشهرين: ملحان وشيبان.

ويسموّن شهري القيظ الذي يخلص فيهما حرّه، شهري ناجر، وذكر أنهما: وقدة و عكان. وهذان الشهران هما بيضة الصيف.

وذكر علماء اللغة كذلك، أن شهرا "قماح" شهرا الكانون لأنهما يكره فيهما شرب الماء الا على ثفل. قال مالك بن خالد الهذلي: فتى ما ابن الأغر" إذا شتونـا  وحب الزاد في شهري فماحْ 

و "ملحان" اسم شهر جمادى الآخرة، سمي بذلك لابيضاضه، قال الكميتَ: إذا أمست الآفاق حمراً جنوبها  لشيبان أو ملحان واليوم أشهب 

شيبان جمادى الأولى، وقيل كانون الأول، وملحان كانون الثاني. وورد أن "شيبان" شهر فيه برد وغيم وصراد، و "قماح" أشد الشهور برداً. وهما اللذان يقول من لا يعرفهما كانون الأول وكانون الثاني.

ويتبين من البيت المنسوب إلى "الكميت" انهما كانا معروفين في أيامه.

وأما شهور ثمود على حد زعم الأخباربين، فهي: موجب، وموجر، ومور "مورد"، وملزم، ومصدر، و هوبر، و هوبل، و موها، و ذيمر "ديمر"، ودابر "دابل"، وحيقل، ومسيل "مسل". وضبطها بعض اخر على هذا النحو: موجب: وموجز، ومورد، وملزج، ومصدر، وهوبر، و مويل، وموهب، وذيمر، و جيقل، و محلس، و مسبل وموجب هو المحرم وموجر هو صفر. ويذكرون انهم كانوا يبدأون في تقويمهم بذيمر، وهو شهر رمضان، فيكون أول شهور السنة عندهم.

وذكر أن "مصمْدَر" من أسماء جمادى الأولى.

ونحن لا نستطيع في الوقت الحاضر التأكيد على أن هذه الشهرر، هي شهور "ثمود"، كما لا نريد أن نقف منها موقفأَ سلبياً، فنقول إنها من مخترعات أهل الأخبار، وضعوها على لسانهم وضعاً. وعندي أن من الخير لنا في الوقت الحاضر وجوب البحث عن كتابات ثمودية علنا نجد فيها أسماء أشهرهم.

أما الشهور التي ذكر الأخباريون أنها كانت مستعملة عند العرب حين ظهور الإسلام، فهي: المحرم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الثاني، وجمادى الأولى،وجمادى الآخرة، ورجب، وشعبان، ورمضان وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة. زعموا أن أسماءها وضعت على هذه الصورة باتفاق حال وقعت في كل شهر منها، فسمي الشهر بها عند ابتداء الوضع. وذكروا التعليل الذي رووه عن كل تسمية. وذكروا أيضاً أن أول من سماها بهذه الأسماء هو كلاب بن مرّة. ومن هذه الشهور أربعة حرم لا يجوز فيها غزو ولا قتال. قال "الطبري": "وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، و ربيع، وجمادى، وجمادى، و رجب، و شعبان، و رمضان، وشوال، وذو القعدة.

ويذكر الأخباريون إن الاسم القديم للمحرم هو صفر،وانه كان يعرف عندهم ب "صفر الأول"، ثم قيل له "المحرم". وقد عرف الشهران: المحرم وصفر لذلك ب "الصفرين". ويظن إن هذه التسمية الجديدة: أي المحرم لصفر الأول انما ظهرت في الإسلام. وذهب بعض علماء اللغة إلى أن لفظة "موجب" هي الاسم العادي للمحرم. أي التسّمية القديمة لهذا الشهر عند قدماء العرب، فلفظة "محرم" اذن، لم تكن تسمية لذلك الشهر، وانما كانت صفة له لحرمته، ثم غلبت عليه َفصارت بنزلة الاسم العلم عليه. وأما اسمه عند الجاهليين، فهو: صفر، أي صفر الأول، تمييزاً له عن صفر الثاني، الذي اختص بهذه التسمية أي "صفر" بعد تغلب لفظة "المحرم" على صفر الأول.

بحيث صار لا يعرف إلا به، فصار صفر لا يعرف بعد ذلك إلا ب "صفر".

وقد تغلبت لفظة "محرم" عليه، لأنه شهر من الأشهر الحرم، فهو "صفر" المحرم، تمييزاً له عن "صفر" الثاني، الذي لم يكن من الأشهر الحرم. ثم غلب المحرم عليه، وماتت لفظة صفر منه. قال "السخاوي": "إن المحرم سمي بذلك لكونه شهراً محرماً، وعندي انه سمي بذلك تأكيداً لتحريمه، لأن العرب كانت تتقلب به فتحله عاماً وتحرمه عاماً".

وذكر أن المحرم لم يكن معروفاً في الجاهلية، "وإنما كان يقال له ولصفر الصفرين، وكان أول الصفرين من أشهر الحرم، فكانت العربُ تارهَ تحرّمه، وتارة تقاتل فيه، وتحرم صفر الثاني مكانه"، "فلما جاء الإسلام، وأبطل ما كانوا يفعلونه من النسيء، سماه النبى صلى الله عليه وسلم، شهر الله المحرم".

ويتبين من دراسة أسماء هذه الشهور أن منها ما هو تكرار للاسم الواحد،وهي ربيع الأول وربيع الثاني وجمادى الأولى وجمادى الآخرة، ومجموعها أربعة أشهر، فهي ثلث السنة إذن. وتقع في انصف الأول من السنهّ وعلى التوالي، تليها أشهر مفردة، ثم شهران يبتدىء اسماها المركبان بكلمة "ذو"، وهما: ذو العقدة وذو الحجة، وهما آخر شهور السنة. وإذا صحت رواية من قال إن الأسم القديم للمحرم هو صفر الأول كانت الأشهر المكونة للنصف الأول من السنهّ أشهراً مزدوجة تتألف من ثلاثة ازواج، هي: صفران ورَبيعان وجماديان.

وإذا درسنا أسماء هذه الشهور الجاهلية التي ذكرها أهل الأخبار، وجدنا أنها لا تشبه أسماء الشهور البابلية ولا الشهور السريانية والعبرانية. وهي لا تشبه كذلك أسماء الشهور الواردة في المسند. فليس في الذي بين أيدينا من أسماء للشهور العربية الجنوبية علىَ اختلافها ما يشبه هذه الشهور.

وقد انتبه علماء العربية إلى أن أسماء بعض الأشهر التي استعملت في الإسلام، مثل رمضان، لا تنطبق مع المعاني التي يفهم منها، فرمضان من الرمض، وهو الحر الشديد، مما يدل على انه من أشهر الصيف، بينما هو شهر متنقل، يأتي في كل المواسم، فلجأوا إلى تعليل مصطنع، على عادتهم عند وقوفهم على اسم لا يعرفون عن أصله شيئاً، فقالوا: "يقال انهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموّها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق شهر رمضان أيام رمض الحر، فسمي بذلك"، ولم يعرفوا أن ذلك بسبب اتباع الإسلام التقويم القمري، مما دعا إلى تحرك الشهور وتنقلها في الفصول، لكون الشهور القمرية غير ثابتة على نمط الشهور الشمسية.

ويبدأ الجاهليون بالمحرم، فهو أول السنة عندهم، وهو أيضاً الشهر الأول من شهور السنة الهجرية في الإسلام. وأرى إن اتخاذ المسلمين للمحرم، مبدءاً للسنة الأولى من الهجرة، وجله الشهر الأول من التقويم الهجري، هو من الأمور التي أبقاها الإسلام من أمور الجاهلية، لأن هجرة الرسول إلى المدينة لم تكن في شهر "محرم" حتى نقول إن المسلمين جعلوا "المحرم" الشهر الأول من السنة الهجرية، لهذه المناسبة، إذ كانت الهجرة في شهر ربيع الاول، وارخ بها، لذلك يكون الابتداء بشر محرم، هو اقرار لما كان عليه الجاهليون من ابتدائهم ب "محرم"، مبدءاً لشهور السنة. وقد قيل إن وصوله المدينة كان يوم الاثنين الثامن من ربيع الاول، وقيل اثنتي عشرة منه، وقيل دخل لهلال ربيع الاول، وقيل غير ذلك.

وقد أورد العلماء شروحاً وتفسيرات لمعاني الشهور المتقدمة الجاهلية، والشهور التي استعملت في الإسلام واقترنت بالتقويم الهجري. فذكروا مثلا" أن المؤتمر معناه أن يأتمر بكل شيء مما تأتى به السنة من أقضيتها، وناجر من النجر، وهو شدة الحر، وخوان من الخيانة، وصوان من الصيانة، والزباء بمعنى الداهية العظيمة المتكاثفة سمي بذلك لكثرة القتال فيه وتكاثفه، والبائدُ سمي لأنه كان يبيد فيه كثير من الناس، وكانوا يستعجلون فيه ويتوخون بلوغ ما كان لهم من الثأر والغارات قبل دخول شهر رجب وهو شهر حرام، والأصم لأنهم كانوا يكفون فيه عن القتال فلا يسمع فيه صوت سلاح، والواغل الداخل على شراب ولم يدعوه، و ذلك لهجومه على شهر رمضان، وكان يكثر في رمضان شربهم للخمر، لأن ما يتلوه شهور الحج، وناطل مكيال للخمر، سمي لإفراطهم في الشرب وكثرة استعمالهم لذلك المكيال، والعادل من العدل، لأنه من أشهر الحج، وكانوا يشتغلون فيه عن الناطل، والرنة كانت الأنعام ترن فيه لقرب النحر، وبرك سمي لبروك الإبل إذا أحضرت المنحر.

وعللوا تسمية المحرم بهذا الاسم، لكونه من جملة الحرم، وصفر بالأسواق التي كانت باليمن تسمى الصفرية، وشهري الربيع للزهر والأنوار وتواتر الأندية والأمطار، وهو نسبة إلى طبع الفصل الذي نسميه نحن الخريف، وكانوا يسمونه ربيعاً، وشهري جمادى لجمود الماء فيهما، ورجب لاعتمادهم الحركة فيه، لا من جهة القتال، أو لخوفهم إياه، يقال: رجبت الشيء، إذا خفته، وشعبان لتشعب القبائل فيه، ورمضان للحجارة ترمض فيه من شدة الحر، وشوّال لارتفاع الحرّ وادباره، وذي القعدة للزومهم منازلهم، وفي الحجة لحجهم فيه. وعلل بعضهم تسمية الاشهر بقوله: سمي المحرم محرماً تأكيدأَ لتحريمه، لأن العرب كانت تتقلب به، فتحله عاماً وتحرمه عاماً، وسمي صفر بذلك، لخلو بيوتهم منهم حين يخرجون للقتال والأسفار، وشهر ربيع الاول، سمي بذلك، لارتباعهم فيه، وآلارتباع الاقامة في عمارة الربع، وربيع الآخر كالاول. وجمادى: سمي بذلك لجمود الماء فيه، ورجب من الرجيب، وهو التعظيم. وشعبان من تشعب القبائل وتفرقها للغارة. ورمضان من شدة الرمضاء، وهو الحر. وشوال من شالت الإبل بأذنابها للطراق، وذو القعدة، لقعودهم فيه عن القتال والترحال، وذو الحجة. لايقاعهم الحج فيه.

ويظهر من تفسير أسماء بعض الاشهر وتعليلها إن لتسمياتها علاقة يالمواسم وبالعوارض الطبيعية الجوية مثل البرد والحر والاعتدال في الجو، وأن مسمياتها، أي الشهور المسماة بها، كانت شهوراً ثابتة في الاصل، وإلا فلا يعقل تفسيرها وشهورها وتسميه بغير هذا التفسير. فكيف يسمى رمضان رمضان مثلا لرمض الحجارة من شدة الحر فيه، إن لم يكن ثابتاً وشهراً من أشهر الصيف الحارة ? وكيف يسمى جمادى بجمادى لجمود الماء فيه، إن لم يكن هو و الشهر التالي له والمسمى بجمادى الآخرة ثابتين، ومن أشهر الشتاء? وهكذا يجب أن يقال عن بقية الشهور، وإلا لم يصح ما قيل فيها من التفاسير. وقد فطن "المسعودي" إلى ذلك فقال: "وجمادى، لجمود الماء فيهما في الزمان الذي سميت به هذه الشهور، لأنهم لم يعلموا أن الحر والبرد يدوران فتنتقل أوقات ذلك". فأدرك إن شهور العرب في الجاهلية كانت أشهراً تمثل ظواهر طبيعية مثل الحرارة والبرودة في ألاصل" لكنه لما وجد -كما وجد غيره أيضاً- أن أوقات الشهور هي متغيرة، بحيث لا تستقر على قرار في المواسم، ذهب إلى أن الجاهليين لم يكن لهم علم بأن الحر والبرد يدوران، مع انهم كانوا على علم تام بذلك، فكانت أشهرهم ثابتة، ولم يفطن المسعودي إلى ذلك، لأنه أخذ حكمه من الوضع الذي كانت عليه الاشهر في الإسلام، ولم يفطن إلى أن إبطال النسيء في الإسلام، هو الذي أطلق هذه الحرية للاشهر فصارت تدور بحرية وتدخل في كل المواسم، ولم تتقيد بالوقت الذيَ خصصت به. ولما تكلم "المسعودي" عن الشهور قال: " شهور الروم مرسرمة على فصول السنة دون شهور العرب: وشهور العرب ليست مرتبة على فصول السنة ولا على حساب سنة الشمس، بل المحرم وغيره من الشهور العربية قد يقع تارة في الربيع وتارة في غيره من فصول السنة".

ويعد شهر شوال أول شهر من أشهر الحج، وكانت العرب تتطير من عقد المناكح فيه، وتقول: إن المنكوحة تمتنع من ناكحها، ولذلك كانت الجاهلية تكره التزويج فيه لما فيه من معنى الاشالة والرفع إلى أن جاء الإسلام بهدم ذلك.

الاسبوع

ويقسم الشهر إلى أربعة أقسام، كل قسم منها هو اسبوع، ويتكون من سبعة أيام. وتعزى فكرة هذا التقسيم إلى البابليين. ولكن ضبط الأسابيع وتتابعها على النحو المعروف حتى اليوم هو نظام ظهر بعدهم بأمد. وقد ذكر الاسبوع "شبوعة"Shabu'a في التوراة، في سفر التكوين. وعلى أساس الجمع بين السبت اليهودي وقصة الخلق، نظم الاسبوع بحسب العرف الشائع اليوم.

ولا أعرف للاسبوع اسماً في المسند، إذ لم ترد لفظة "اسبوع" أو أية لفظة أخرى مرادفة لها في تلك النصوص. غير أن هناك نصاً من نصوص قوانين البيع والشراء، ذكر أن إنساناً إذا اشترى حيواناً، ثم مات ذلك الحيوان بعد سبعة أيام من يوم البيع، فلا يكون البائع مسؤولاً عن وفاته، ولا يتحمل أي ضرر عنهاْ. فلعل النص على هذه الأيام السبعة، يشير إلى وجود فكرة الاسبوع عند العرب الجنوبيين.

وقسم الجاهليون الشهر إلى عشرة أقسام. يتألف كل قسم منها من ثلاث ليال.

هي: غرر. والغُرر: ثلاث ليال من أول كل شهر. وغرة الشهر ليلة استلالً القمر. ونفل أو شهب وتسع أو بهر. وهي الليلة السابعة والثامنة والتاسعة وعشر وبيض ودرع وظلم وحنادس أودهم ودادىء "دادأ" ومحاق. ويذكر أهل الأخبار "إن العرب في الجاهلية إذا كان يوم المحاق من الشهر بدر الرجل الى ماء الرجل إذا غاب عنه فينزل عليه ويسقي به ماله، فلا يزال قيم الماء ذلك الشهر وربه حتى ينسلخ، فإذا انسلخ كان ربه الاول أحق به. وكانت العرب تدعو ذلك المحيق".

وذكر بعض اهل الاخبار، أن ألعرب كانت "تسمي الثلاث الاولى من ليالي الشهر، فتقول: ثلاث غرر،. والثلاث التي تليها ثلاث سَمرَ، والثلاث التي تليها ثلاث زهر، والثلاث التي تليها ثلاث درر، والثلاث التي تليها ثلاث قمر، وثلاث بيض، وتقول في النصف الثاني من الشهر في الثلاث الأول ثلاث درع، وفي الثلاث التي تليها ثلاث ظلم، وفي الثلاث التي تليها ثلاث حناديس، وفي الثلاث التي تليها ثلاث دواري، وفي الثلاث التي تليها ثلاث محاق. وقيل انه يقال لليالي الشهر: ثلاث هلل، وثلاث قمر، وست نقل، وثلاث بيض،. وثلاث درع، وثلاث بهم، وست حناديس، وليلتان داريتان، وليلة محاق.

الأيام

واليوم في عرف علماء اللغة من طلوع الشمس إلى غروبها. ولكنهم يتوسعون في معناه أيضاً، فيقصدون به معاني اخرى، مثل الدهر. أما في الاصطلاح فإنه جزء من أيام الاسبوع والشهر والسنة. وهو ليل ونهار،وهما مجتمعان يكونان اليوم. فاستعمل اليوم على وجهين: أحدهما أن يجعل اسماً للنهار خاصة. والوجه الآخر أن يكون اليوم اسماً للمدة الجامعة للزمانين جميعاً، أعني الليل والنهار.

واعتبر الجاهليون مبدأ اليوم من وقت غروب الشمس. وأما انتهاؤه فبابتداء الغروب التالي له. فصار اليوم عندهم بليلته من لدن غروب الشمس عن الأفق إلى غروبها من الغد، فصارت الليلة عندهم قبل النهار.

ولهذا السبب غلبت العرب الليالي على الايام في التأريخ ؛ "لأن ليلة الشهر سبقت يومه، ولم يلدها، وولدته، ولأن الاهلة لليالي دون الايام، وفيها دخول الشهر". والعرب تستعمل الليل في الاشياء التي يشاركه فيها النهار، فيقولون: أدركني الليل بموضع كذا، وصمنا عشراً من شهر رمضان، وإنما الصوم للأيام، ولكنهم أجازوه إذ كان الليل أول شهر رمضان.

أما اليونان، فقد عدّوا مبدأ اليوم عند شروق الشمس، وأما منتهاه فابتداء شروق آخر، و ذلك بخلاف الرومان الذين عدّوا منتصف الليل هو ابتداء اليوم. ومنتهاه عند منتصف ليلٍ تالٍ له. وقد عدّ التقويم العبراني "لوح"، مبدأ اليوم من وقت غروب الشمس. وأما انتهاؤه فابتداء الغروب التالي له.

وذكر أن العرب خصصوا من الشهر ليالي بأسماء مفردة كآخر ليلة منه، فإنها تسمى "السرار" لاستسرار القمر فيها، وتسمى "الفحمة" أيضاً لعدم الضوء فيها، ويقال لها البراء، وكآخر يوم من الشهر، فإنهم يسمونه النحير، وكالليلة الثالثة عشرة، فإنها تسمى السواء، والرابعة عشرة ليلة البدر.

وقد عرف اليوم ب "يوم" في نصوص المسند كذلك. كما وردت فيها لفظة "ليلم"، أي. "ليل" للتعبير عن الليل، أي اللفظة ذاتها التي تستعملها عربية القرآن الكريم. ووردت فيها لفظة "صبحم" بمعنى صبح وصباح. ولا بد أن تكون في لهجات العرب الجنوبيين مسميات لأقسام الليل والنهار على نحو ما نجده في عربية القرآن الكريم. ولا يستبعد أن يظفر بها الباحثون بعد قيام العلماء بحفريات علمية منظمة في العربية الجنوبية.

وقد أوردت كتب اللغة والاخبار أسماء الأيام التي كان يستعملها بعض الجاهليين، ويتبين منها أن الجاهليين كانوا يسمون الأيام بأسماء مختلفة متباينة بحسب تباين الأماكن والقبائل. وقد ماتت تلك الاسماء الجاهلية، وحلت محلها أسماء متأخرة لم تكن معروفة عند قدماء الجاهليين. فأسماء الايام عند بعض الجاهليين ممن أخذ علماء اللغة عنهم، هي كما زعموا: "شيار" ويراد به السبت، وأول ويراد به الاحد، وأهون، وأوهد ويراد بها يوم الاثنين، وجُبار ويراد به الثلاثاء، ودبار ويراد به الأربعاء، ومؤنس ويراد به الخميس، وعرُوبة أو العروبة أي بالتعريف ويراد به الجمعة.

وقد جمعت أسماء الايام القديمة المذكورة في هذين البيتين: أؤمل أن أعيش، وأن يومي  بأول أو بأهون أو جبـار

أو التالي دبار، فإن أفتـه  فمؤنس فالعروبة أو شيار

وهي أبيات، يرى بعض علماء اللغة انها موضوعة. وقد زعم "ابن كثير" أن البيتين المذكورين من شعر العرب العرباء المتقدمين.

وقد نسب بعض هذه الأخبار هذه الأيام إلى العرب العاربة من بني قحطان وجرهم الأول.

ويذكر علماء اللغة أن أيام الاسبوع المعروفة والمتداولة عندنا في الزمن الحاضر، وهي: الاحد والاثنين والثلاثاء والاربعاء والخميس والجمعة والسبت، هي أسماء إنما عرفت وظهرت في الإسلام. ولكنهم لم يذكروا، ويا نلأسف، متى كان ظهورها ولا في أية سنة كان ذلك، أكان ذلك في مكة أي قبل الهجرة أم بعد الهجرة إلى المدينة ? وقد ذكر "المسعودي" هذه الايام، ثم قال: "وكانت العرب تسميها في الجاهلية: الاحد أول، والاثنين أهون، والثلاثاء جبار، والاربعاء دبار، والخميس مؤنس، والجمعة عروبة، والسبت شيار".

وهناك من اللغويين والأخباريين من يرى أن هذه الأسماء المتداولة مروية عن أهل الكتاب، وأن العرب المستعربة لما جاورتهم أخذتها عنهم، وأن العرب العاربة لم تكن تعرف هذه الأسماء.

وذكر بعض اهل الأخبار، أن الايام المذكورة، هي ما نطقت به العرب المستعربة من ولد اسماعيل، وهي مروية عن أهل الكتاب، وان العرب المستعربة لما جاورتهم أخذتها عنهم، وأن الناس قبل ذلك لم يكونوا يعرفون إلا الأسماء التي وضعتها العرب العاربة، وهي أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت.

ولا يملك الاخباريون دليلاٌ مقنعاً يثبت لنا بجلاء أن أيام الاسبوع المعروفة اليوم إنما وضعت في الإسلام. وفي رواياتهم عن يوم الجمعة ما يخالف زعمهم هذا. ثم إن كلمة "السبت" وردت في آية مكّية. وورودها في آية مكية دليل على وقوف أهل مكة عليها ومعرفتهم بها. أما لفظة "الجمعة"، فقد وردت في سورة مدنية، أي أنها نزلت بعد الهجرة.

وعندي أن أسماء أيام الاسبوع المستعملة عندنا كانت معروفة في يثرب وفي مكة قبل الإسلام. وقد تعلمها أهل يثرب من اليهود، من اختلاطهم بهم. فإن هذا الترتيب للاسبوع مبني على قصة الخلق الواردة في التوراة. ولا بد لذلك لمستعملي هذا الترتيب من أن يكونوا قد تعلّموه من مصدر يهودي أو من مصدر له صلة باليهود، أو من النصارى الساكنين بيثرب أو بمكة. فإننا نعرف أن العبرانيين كانوا لا يسمون أيام الاسبوع بأسماء خصوصية، ولكنهم كانوا يعدّونها بحسب ترتيبها، فيقولون اليوم الأول والثاني والثالث كما هو في العربية، إلا يوم الجمعة والسبت، فقد كانوا يسمون الجمعة "عريب شبات". Ereb Shabat، ومعناه "مساء السبت" و "عشية السبت". وأما السبت، فهو "شبت" "شبات" ومعناه الراحة Rest، و ذلك لاعتقادهم ولما ورد في سفر التكوين: أن الله خلق العالم في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع. فسموا هذا اليوم: "يوم الراحة" "يوم ها - شبات" yom ha-shabbat. واختصرت ب "شبات" أي السبت.

ولست أعرف نصاً من نصوص المسند، ورد فيه اسم معين ليوم من أيام الاسبوع، مثل الجمعة أو السبت أو الاحد وغير ذلك. وكل ما نعرفه من النصوص أن العرب الجنوبيين كانوا يذكرون موقع اليوم من الشهر، فيكتبون في اليوم السابع من الشهر الفلاني، أو في اليوم الخامس عشر منه، أو في اليوم العشرين منه، وهكذا. و ذلك لتعيين مكان اليوم من الشهر. وطريقتهم هذه طريقة معروفة عند الساميين وعند غيرهم، وهي لا تزال مستعملة حتى في هذه الأيام كتابة وفي الاستعمال الاعتيادي وفي التوريخ، وذلك للسهولة والاختصار.

ولا نستطيع أن نتحدث عن اليوم المهم في الاسبوع مثل يوم السبت عند اليهود أو يوم الأحد عند النصارى وعند الوثنيين، وإن كان في بعض الروايات ما يفيد أن يوم الجمعة كان من الايام المعظمة في نظر قريش، وقد عرف عندها ب "يوم العروبة"، وكانت تجتمع في كل جمعة إلى كعب بن لؤي ين غالب فيحطب فيها، وأنه هو الذي سمى يوم العروبة يوم الجمعة، و ذلك لتجمع الناس حوله في ذلك اليوم.

وقبل: إن يوم الجمعة لم يعرف بهذا الاسم إلا في الإسلام. وأن الانصار هم الذين بدلوا اسم "يوم العروبة"، فجعلوه "الجمعة"، ذلك أنهم نظروا فإذا لليهود يوم في الاسبوع يجتمعون فيه، وللنصارى يوم يجتمعون فيه هو الاحد، فقالوا: مالنا لا يكون لنا يوم كيوم اليهود أو النصارى، فاجتمعوا الى سعد ابن زُرارة، فصلى بهم ركعتين وذكرهم، فسموا ذلك اليوم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، وأنزل الله سورة الجمعة، فهي على حد قول أصحاب هذه الرواية أول جمعه في الإسلام. وقد انتبه بعضهم إلى خطل رأي من ذهب إلى أن يوم الجمعة انما سمي بهذه التسمية في الإسلام، فقال إن يوم الجمعة كان يسمى بهذا الاسم قبل أن يصلي الأنصار الجمعة.

وقد انتبه علماء العربية إلى اسم "يوم عروبة"، فقالوا: هو اسم قديم للجمعة.

"وكأنه ليس بعربي". و "عروبة" بمعنى غروب في السريانية وفي العبرانية، وقد سمي اليوم السابق للسبت "عروبة"، لأنه غروب، أي مساء نهار مقدس. وذكر أهل الأخبار، أن كل أربعاء يوافق أربعاً من الشهر، مثل أربع خلون، وأربع عشرة خلت، وأربع عشرة بقيت، وأربع وعشرين، وأربع بقين، فهي: "أيام نحسات". ونظراً لورود الاشارة إلى هذه الأيام في كتب أهل الأخبار، ولاعتقاد الجاهليين بالنحس، وبوجود نجمين للسعد وللنحس، كما في قول الشاعر: يومين غيمين ويوماً شمسا  نجمين بالسعد ونجماً نحسا 

فإن في استطاعتنا القول بوجود الأيام النحسات عند الجاهليين.

ويقسم النهار والليل إلى اثني عشر قسماً، كل قسم منها ساعة، فيكون مجموع ساعات اليوم أربعاً وعشرين ساعة. وساعتنا المعروفة مأخوذة من الساعة السومرية البابلية، فقد قسّم البابليون الليل والنهار إلى ساعات متساوية هي اثنتا عشرة ساعة لكل كل من الليل والنهار، وجرى الناس على هذا التقسيم حتى اليوم. وذكر بعض علماء اللغة أن "الاناء" الساعات. وكان الجاهليون إذا شغلوا انساناٌ بالساعات، قالوا لذلك "المساوعة".

ويروي الأخباريون أن العرب وضعت لساعات النهار والليل أسماء غير مستعملة عندنا، فأما ساعات النهار، فهي: "الذرور" "الدرور" ثم البزوع "البزاغ"، ثم الضحى، ثم الغزالة، ثم الهاجرة، ثم الزوال، ثم الدلوك، ثم العصر، ثم الأصيل، ثم الصبوب ثم الحدود، ثم الغروب. ويقال فيها أيضاً: البكور ثم الشروق، ثم الاشراق، ثم الرأد، ثم الضحى، ثم المتوع، ثم الهاجرة، ثم الأصيل، ثم العصر، ثم الطَّفل، ثم العشي، ثم الغروب.

وأما ساعات الليل، فهي على حد قولهم: الشاهد، ثم الغسق، ثم العتمة، ثم الفحمة، ثم الموهن، ثم القطع، ثم الجوسر "الجوس" "الجوشن"، ثم العبكة، ثم التباشر، ثم الفجر الأول، ثم المعترض، ثم الإسفار. وأسماء أخرى يذكرها اللغويون، حيث يروون أن الجاهليين كانوا يقسمون اليوم إلى اربع وعشرين ساعة. غير إن من الصعب العثور على دليل يفيد وجود هذا.التقسيم عندهم، ويقول اهل مكة بوجود فجرين، أحدهما قبل الآخر. فالفجر الأول هو الفجر الكاذب، ويسمى "ذنب السرحان" لدقته. والفجر الثاني هو الفجر الصادق، ويقال له "المستطير"، ومنه الحديث: "ليس بالمستطيل، يعني الفجر الأول، ولكن المستطير"، يريد المنتشر الضوء. ومع طلوعه يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

وهناك شفقان، أحدهما قبل الآخر: الشفق الأحمر، والشفق الأبيض. وهو يغرب في نصف الليل، ويقال لليوم الذي يسبق اليوم الذي نحن فيه. يوم أمس، أو الأمس، ونهار أمس. أما البارحة، فيراد بها أقرب ليلة مضت، أي الليلة الماضية. وأما اليوم الذي يلي اليوم الذي نحن فيه، فهو نهار الغد، والغد، وبكرة.

الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة
الاشهر الحرم

قسّم الجاهليون شهور السنة إلى قسمين: أشهر اعتيادية هي ثمانية شهور. وأشهر أربعة حرم مقدسة خصت بآلهتهم، لا يجوز فيها قتال ولا بغي ولا انتهاك لحرمات. وكانوا يقاتلون في الشهور الثمانية يغزون بعضهم بعضاً، ويغيرون بعضهم على بعض. ثم يتوقفون عن القتال في الشهر الحرم الباقية.

والأشهر الحرم هي أربعة: ثلاث متواليات سرد، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وشهر منفرد هو شهر "رجب". فهي ثلث السنة اذن. وكان الجاهليون يعظمونها، ولا يستبيحون القتال فيها، حتى إن الرجل يلقى فيها قاتل أبيه وأخيه فلا يهيجه، استعظاماً لحرمة هذه الأشهر التى هي هدنة تستريح فيها القبائل فتنصرف الى الكيل والامتيار والذهاب إلى الأسواق وهي آمنة مستقرة لا تخشى اعتداءً ولا هجوماً مفاجئاً. وتحريم هذه الأشهر ضرورة من الضرورات استوجبتها طبيعة الحياة في البادية، فأهل البادية بما هم فيه من فقر وضنك عيش، يتنافسون فيما بينهم ويتقاتلون على الكلأ والماء وعلى أخذ حق المرور من القوافل وعلى الغزو والغارات يعيشون. وحياة عاصفة هذا شأنها لا بد لها من فترة تستريح فيها، وتمتار فيها، وتصفيّ فيها حسابها بدفع أثمان الديات بهدوء وبتسوية المشكلات بالمساومة والمفاوضة، وتلك الفترة هي الأشهر الحرم.

هذا ما يذكره ويرويه العلماء عن الشهور بصورة عامة. ويجب حمل كلامهم هذا على قريش ومن والاها، وعلى القبائل التي كان للعلماء اتصال بها وعلم بأخبارها أما القبائل البعيدة عنهم، والقبائل التي لم يتصلوا بها اتصالاً وثيقاً، فنحن لا نستطيع أن ندخلهم في هذا الكلام فنقول انهم كانوا يحرمون أشهراً ويحرمون أخرى، لعدم وجود دليل لدينا يثبت ذلك، وسنبقى على رأينا هذا حتى يظهر لنا دليل يؤيده أو ينفيه.

والمذكورون قوم يحرمون إذن شهوراً ويحلوّن أخرى، لا يقاتلون ولا يغزون في شهور، حرمة وتقديساً لها، إلا عن ضرورة ولجاجة، ويقاتلون ويغزون في الأشهر الأخرى المتبقية من السنة، فيقصرون نشاطهم في الغزو وفي الأخذ بالثأر على أشهر الحل فقط.

قال "الطبري" في تفسيره الآية: )فإذا انسلخ الأشهر الحرم، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد(: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم، وهي الأربعة التي عددت لك، يعني عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيعاً الأول، وعشراً من شهر ربيع الآخر، وقال قائلو هذه المقالة: قيل لهذه الأشهر الحرم، لأن اللّه عز وجل حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين والعرض لهم إلا بسبيل خير". وقال "النيسابوري" في تفسيرها: "واختلفوا في الأشهر الأربعة، فعن الزهري أن براءة نزلت في شوال، والمراد: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر، وكانت حرماً لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم، أو سميت حرماً على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها. وقيل: ابتداء المدة من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان.

ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة". فدخل صفر وربيع الأول وربيع الآخر في الأشهر الحرم،حسب هذه الروايات.. مع. أنها ليست من الأشهر الحرم المقررة المعروفة عند الجاهليين. وقد رأيت تعليل ذلك في تفصير "النيسابوري" لها، وهو فعل عامل النسيء.

ولما وصل "الطبري" إلى الآية: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله، يوم خلق السموات والأرض. منها أربعة حرم. ذلك الدين القيم(، قال: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً. منها أربعة حرم متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. وهو قول عامة أهل التأويل، وقال "النيسابوري": " منها أربعة حرم: ثلاثة سرد، أي مسرودة: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد هو رجب". وورد في خطبة الوداع: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهراً. منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان". فهذه هي الشهور الحرم. أما ما تقدم، فقد كانت محرمة بموجب ما كان قد وقع عليها بفعل النسيء.فقد كانت العرب قد نسأت النسيء، فكانوا يحجون في كثير من السنين، بل أكثرها في غير ذي الحجة.

وعرف المحرمون للاشهر الحرم ب "المحرمين"، وب "البسل" أيضاً. ذكر إن من معاني "البسل": الحرام والشجاعة، وهي معاني نجدها في لفظتي "حمس" و "حرم". وذكر علماء اللغة، أن "البسل ثمانية أشهر حرم كانت لقوم لهم صيت. وذكر انهم من غطفان وقيس. يقال لهم: الهبا آت"، وذكر أن البسل: "بني عامر بن لؤي"، أو "عوف بن لؤي"، أو "مرة بن عوف بن لوى". وكانوا يحرمون ثمانية أشهر من السنة. وقد امتنعت بعض القبائل من الاغارة عليهم في هذه الأشهر. فالبسل اذن جماعة تعظم ثمانية أشهر من السنة، وتحرمها فلا تقاتل فيها. فهم يختلفون اذن عن "المحرمين" من قريش ومن دان بدينهم في انهم يحرمون ثمانية أشهر من أشهر السنة ويحلون الأربعة الباقية، أي على العكس منهم، يفعلون ذلك تعمقاً وتشديداً.

والبسل كما يتبين من تفسير علماء اللغة لها: الحرام. ولهذا قالوا: الإبسال: التحريم. ومن ذلك قيل للأشهر الحرم "البسل". وهي الأشهر الثمانية التي حرمها قوم من "غطفان" و "قيس". وبهذا المعنى وردت في قول الأعشى: أجارتكم بسل علينا محرم  وجارتنا حلّ لكم وحليلها 

وذكر أنها تعني الحرام وأيضاً الحلال. وهي من الأضداد فنحن اذن امام طائفتين من العرب المحرمين للشهور. طائفة إقتصرت على تحريم أربعة أشهر من السنة، جعلتها أشهراً حرماً. وطائفة جعلت عدة الشهور الحرم ثمانية، وعدة الشهور الحل أربعة، وهم أقل عدداً من الطائفة الأولى.

ولكننا نجد طائفة أخرى من الجاهليين، استهترت في بحرمة كل الأشهر، فلم تحرم أي شهر من شهور السنة، ولم تعترف لها بقدسيته، وساوت بين جميع أشهر السنة، بأن أحلتها كلها، فعرفوا بالمحلين وهم عكس "المحرمين". فقد نص أهل الأخبار على وجود قوم من العرب هم: خثعم وطيء، ذكروا أنهم كانوا يستحلون الأشهر الحرم فيقاتلون فيها، ولا يقدسونها ولا يرعون للحرم ولا للأشهر الحرام حرمة. و ذكر بعظهم أن أحياء من قضاعة ويشكر والحارث بن كعب كانوا على مذهب هؤلاء. فهم لا يفرقون بين الأشهر،،لا يميزون بينها، وهي كلها في نظرهم سواء. فلا يؤمنون بوجود أشهر حرم مقدسة، ولا بوجود أشهر حل، بل الأشهر عندهم كلها حلال. ولا يمتنعون من القتال في أي يوم أو شهر من السنة. فهم اذن على نقيض "المحرمين" للاشهر المعظمين للحرم وللاشهر الحرم، قوم لا عهد لهم ولا ذمة بالنسبة إلى شهور السنة.

والظاهر إن "المحلين" كانوا يتحارشون بالمحرمين وبغيرهم في الأشهر الحرم، ولما كان من شرع "المحرمين" الامتناع عن القتال في تلك الأشهر، فللدفاع عن النفس أباح النسأة لمقلديهم المحرمين مقاتلة المحلّين إذا تعرضوا لهم. إذ جاء: "كان الذين ينسأون الشهور أيام الموسم يقولون: حزمنا عليكم القتال في هذه الشهور إلا دماء المحلين. فكانت العرب تستحل دماءهم في هذه الشهور".

وجاء: "وإني قد أحللتُ دماء المحلين من طيء وخثعم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إذا اعرضوا لكم".

ويجب أن نضيف على هؤلاء طائفة من العرب من ذي البانة والصعاليك وأصحاب التطاول، وأمثالهم ممن كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للأشهر الحرام قدراً.

فكانوا يغيرون في هذه إلأشهر ويحلون القتال فيها وفي كل وقت، كما كانوا لا يؤمنون على الحرم. فإذا وجدوا فرصة مرقوا في الحرم وأخذوا ما يقع في أيديهم دون استحياء ولا مبالاة بحرام وحلال، نظراً لما هم فيه من جوع وفاقة وحاجة، دفعتهم إلى الكفر بكل قانون وعقيدة وعرف.

ويجب أن نضيف إلى المحلين العرب الذين لم يكونوا على دين أهل الشرك، مثل النصارى واليهود، فقد كانت النصرانية قد وجدت سبيلها بين تغلب، وشيبان، وعبد القيس، وقضاعة، و غسان، وسليح، والعباد، و تنوخ، و عاملة، ولخم، وجُذام. وكثير من بلحارث بن كعب، وبعض طيء وتميم. فهؤلاء لم يكونوا على شرك، لذلك لم يراعوا حرمة تلك الأشهر، ولم يحجوا إلى محجات المشركين، وإنما كانوا يتقربون إلى قبور شهداء الكنيسة والى أضرحة القديسين، ولهم أعيادهم الخاصة بهم لا يقاتلون فيها إلا دفاعاً عن نفس، ولم يقم اليهود كذلك لتلك الأشهر المقدسة حرمة، إذ كان السبت، يوم راحة بالنسبة لهم، لا يحل فيه قتال، وكذلك كانت أعيادهم أيام حرمة، لا يجيزون فيها قتال، أي مهاجمة أحد، إلا إذا هوجموا، فيحل عندئذ لهم القتال دفاعاً عن نفس، ولما وقعت المناوشات بينهم وبين المسلمين كانوا يتجنبون فيها القتال أيام السبت و الأعياد.

وذكر أن قريشاً، كانت لا تتاجر إلا من ورد إليها في مكة في الأشهر الحرم.

لا تبرح دارها ولا تتجاوز حرمها. و ذلك لتحمسها في دينها والحب لحرمها. وكانت تخاف على تجارتها من لصوص الطرق وصعاليك الأعراب وطلاب الطلائب وذؤبان العرب، لأنهم كانوا يرون للشهور الحرم حرمة، ولا للشهر الحرم قدراً، ولا للحرم حرمة، فأعطت الإيلاف، والفت القبائل، وقاومت بذلك المحلين. وقد قسّم "المرزوقي" العرب إلى ثلاثة أهواء بالنسبة إلى أشهر الحج. منهم المحلوّن، الذين كانوا يستحلون الكعبة والأشهر الحرم ويسرقون ويقتلون في "الحرم"، ومنهم من يحرم الشهور الحرم، ومنهم "أهل هوى" على شرع "صلصل". وهو "صلصل بن أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف" من بني عمرو بن تميم". وهو الذي أحلّ للعرب قتال المحلين في الأشهر الحرم. وكان من حكام العرب ومفتوهم وممن اجتمع له الموسم. والقضاء في عكاظ.

والمحرمون هم: الحمس والحلة. أما "المحلون"، فالقبائل التي لم تحترم حرمة الكعبة ولا الاشهر الحرم، اي أولئك الذين اًباح النسأة دمهم، وجوّزوا قتالهم في الأشهر الحرم. وأما اولئك الدين كانوا على شرع "صلصل"، فلا ندري مذهبهم وهواهم، فلم يتحدث "المرزوقي" عنهم. وقد كان "صلصل" ممن اجتمع له الموسم وقضاء عكاظ من بني تميم. ولم يذكر "ابن حبيب" الأمور التي أوجدها وأحدثها، حتى كون له طائفة خاصة لها رأي في الحرم و في الأشهر الحرم.

وتجويز مقاتلة "المحلين" في الأشهر الحرم، هو دفاع عن النفس، وضرورة واجبة. لذلك نص عليه النسأة في أمرهم السنوي الذي يعينون فيه "النسيء" في الموسم، ليقف الناس على موعد الأشهر الحرم ومكانها من السنة في السنة المقبلة. إذ لا يعقل بالنسبة للمحرمين الامتناع من قتال مقاتل في الأشهر المذكورة، لأنها أشهر حرم مقدسة. وإلا عرّضوا أنفسهم واهلهم وأموالهم إلى التهلكة، خاصة وان المقاتلين هم من أهل عقيدة مخالفة لعقيدتهم تمام المخالفة، فشرعة الدفاع عن النفس أباحت لهم حق قتال المحلين.

ويلاحظ إن شهري ذي القعدة وذي الحجة هما الشهران الأخيران من السنة، يليهما في الحرمة الشهر الأول من السنة الجديدة وهو المحرم، فهذه الأشهر الثلاثة هي في الواقع زمن واحد متصل. أما "رجب"، فهو الشهر الوحيد المنفرد بالحرمة. ولذلك عرف ب "رجب الفرد"، و "بالفرد". وقد علل أهل الأخبار سبب ذلك بقولهم: "وانما كانت الأشهر المحرمة: أربعة. ثلاثة سرد وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهراً، وهو ذو القعدة، لأنهم يقعدون فيه عن القتال. وحرم شهر ذي الحجة، لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك. وحرم بعده شهراً آخر، وهو المحرم، ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره، ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً".

ولكن تعليل أهل الأخبار لحرمة "رجب" التعليل المذكور لا يتناسب مع تعليلهم لحرمة الأشهر الثلاثة المحرمة، فإذا كانوا قد حرموا ذا القعدة والمحرم بسبب الاستعداد للحج، وبسبب العودة منه إلى ديارهم كما زعموا، فإن تحريم "رجب" بسبب مجيء العرب فيه من أقصى جزيرة العرب للعمرة فيه، يستوجب أيضاً اعطاء المعتمرين مدة مناسبة قبله وبعده للاعتمار فيه، حتى يضمنوا ذهابهم إلى مكة وعودتهم منها بأمان، فالسفر سفر واحد لا يتغير من حيث الطول أو القصر في موسم الحج أو في موسم العمرة، لأن المسافات لا تتبدل بتبدل الطقوس الدينية، ولو عللنا سبب اطالة تحريم الأشهر الثلاثة بسبب الحج ووجود الأسواق، اي لعوامل اقتصادية ومنافع مادية، جاز قبول هذا التعليل، ولكن لِمَ لم يفعلوا هذا الفعل بالنسبة لرجب، الذي تحتاج العمرة فيه إلى مدة أطول من الشهر للوصول في خلالها من أقصى مكان في جزيرة العرب الى مكة، والعودة منها إلى مواطنهم، إذ لا يعقل أبداً بلوغ مكة والعودة اليها سالمين ألى مواطنهم في العربية الجنوبية أو الخليج أو العراق في خلال شهر واحد، بل هو في نظري زعم من مزاعم أهل الأخبار. وما كان الحج إلى مكة إلا من القبائل القريبة منها، وإنما صار الحج إليها عاماً ومن كل مكان في الإسلام وبفضله وحده. وعندي أن شهر رجب، كان شهراً مقدساً محرماً، تعتر فيه العتائر، عند قبائل مضر وقبائل ربيعة، وهما حلفان في الأصل، وقد تناول قبائل مجاورة، ثم انفصل، فصار ربيعة ومضر. وفي هذا الشهر كانوا يتقربون إلى "الله" بالعتائر، ومنهم من يعتمر، فيبقى بمكة ما يشاء، ولم تكن العمرة على شاكلة الحج من حيث العدد والكثرة، بل كانت قاصرة على المتمكنين الذين لهم عهود ومواثيق. مع أهل مكة وغيرها من سادات قبائل مضر وربيعة، فلا خوف على أمثال هؤلاء من الرجوع إلى وطنهم في أي وقت شاؤوا، إذ لا يطمع فيهم طامع بسبب ما كانوا يحملونه من تجارة، كالذي كان يفعله التجار الذين يذهبون إلى الاتجار بالأسواق وفي جملتها. سوق مكة في موسم الحج الذي هو تجارة وحج، لأنهم كانوا من عامة القبائل ومعهم تجارة، فكان من الضروري تطويل الموسم ليكون أمناً لهم يحميهم من الأذى إلى عودتهم إلى مواطنهم.

وفي هذه الأشهر الحرم تعقد الأسواق مثل سوق عكاظ وذي المجاز وذي المجنة ودومة الجندل وغيرها، فيقصدها الناس من مواضع بعيدة،وتكتظ أرضها بجموع غفيرة لم تكن تقصدها في غير هذه "المواسم".

وقد عرف شهر "ذو القعدة" بهذا الاسم، لأن الناس - كما يقول علماء اللغة - كانوا يقعدون فيه عن الأسفار والغزو والميرة وطلب الكلأ ويحجون في ذي الحجة. وهو تفسير أخذ من ظاهر التسمية، ودليل ذلك قولهم: "لقعودهم فيه عن القتال والترحال". فالقعود فيه عن القتال جائز بالنسبة للمحرمين، ولكن قعودهم عن الترحال خطأ، إذ كانوا على العكس يتهيأون فيه للاسفار الى الاتجار والحج، فهو شهر ترحال لا شهر قعود وجلوس.

وأما "ذو الحجة"، فقد عرف بذلك لايقاعهم الحج فيه. وقد رأينا إن في نصوص المسند اسم شهر عرف ب "ذ حجتن"، أي "ذي الحجة"، وب "ذ محجتن"، أي "ذي المحجة"، مما يدل على أن له صلة بالحج.

ولم تعين نصوص المسند موسم حج العرب الجنوبيين، ولم تذكر اسم محجتهم، ولكننا نستطيع أن نقول انها كانت إلى محجات آلهتهم المعروفة المنصوص عليها في نصوصهم، وهي غير آلهة أهل مكة من غير ذلك.

وقد ذكر بعض علماء اللغة أن العرب كانت تسمي شهر رجب "رجب الأصم" و "المحرم"، وذكر بعض آخر أن المحرم لم يكن يعرف بهذا الاسم إلا في الإسلام، فقد كان الجاهليون يسمونه صفراً. ولذلك كان في تقويمهم صفران، كما كان عندهم شهران باسم ربيع الأول وربيع الاخر، وشهران باسم جمادى الاول وجمادى الآخرة. وصفر الأول هو المحرم في عرفنا، وصفر الآخر هو صفر في اصطلاحنا اليوم. وقد كان الجاهليون يؤخرون المحرم إلى صفر في تحريمه، فيكون شهراً حراماً.

ويظهر أن لدخول "ال" أداة التعريف على "المحرم" أهمية في تثبيت هذا الشهر، فإن للفظة "محرم" دلالة دينية، يراد بها كل شهر من الأشهر الحرم.

فكل شهر من هذه الشهور الحرم هي محرم وحرام، ومن ضمنها "المحرم".

وقد دخلت "ال" علي هذه اللفظة لتخصيصها وجعلها علمية خاصة بهذا الشهر.

وإلا دخلت على الشهور الأخرى العلمية، مثل رجب وشعبان ورمضان وصفر، فلا يقال فيها الرجب والشعبان والرمضان والصفر، بل يقال قدم شهر رجب. وقدم شعبان وشهر رمضان وصفر. وهذا يفسر قول "ابن كثير: "وعندي أنه سُمي بذلك، تأكيداً لتحريمه، لأن العرب كانت تتقلب به فتحله عاماً وتحرمه عاماً" أي انه كان قلقاً متنقلاً، ولم يكن ثابتاً، ثم ثبت في الإسلام.

وقد ورد في كتب الحديث أن قريشاً كانت تصوم يوم عاشوراء، كما كان اليهود يصومون ذلك اليوم. ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم. وان الرسول حين قدم المدينة وجد اليهود يصومونه. وأن الرسول كان يصومه في الجاهلية أيضاً. ولما قدم المدينة، كان يصومه، وأمر بصيامه. فلما فرض رمضان، ترك عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه. وورد "أن قريشاً كانت تعظم هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه، ولكن انما كانوا يعدون بالأهلة، فكان عندهم عاش المحرم. فلما قدم المدينة، وجدهم يعظمون ذلك اليوم ويصومونه، فسألهم عنه، فقالوا: هو اليوم الذي نجىّ اللّه فيه موسى وقومه من فرعون".

وذكر أيضاً: إن رسول الله، كان يتحرى يوم عاشوراء على سائر الأيام، وكان يصومه قبل فرض رمضان. فلما فرض رمضان، قال: من شاء صامه، ومن شاء تركه، وبقي هو يصومه تطوعاً، فقيل له: "يا رسول الله انه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال صلى الله عليه وسلم: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله". ويرجع حديث صيام قريش يوم عاشوراء إلى "عائشة"، وقد رواه عنها "عروة بن الزبير بن العوّام". فقد روى انها "قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله يصومه. فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان، ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه". ويروى أيضاً عن معاوية، فقد ورد عن "حميد بن عبد الرحمن ابن عوف انه سمع معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، يوم عاشوراء، علم حج على المنبر.، يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم ? سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر".

وقد حاول شراح حديث "عائشة" إيجاد مخرج له، فقالوا في شرح: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية"، "يحتمل أنهم افتدوا في صيامه بشرع سالف، ولذا كانوا يعظمونه بكسوة البيت الحرام فيه". وقد وضع بعضهم بعد "وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يصومه" جملة "في الجاهلية". وحاولوا ايجاد مخرج آخر لحديث "معاوية"، بقولهم: "والظاهر أن معاوية قاله لما سمع من يوجبه أو يحرمه، أو يكرهه، فأراد إعلامهم بنفي الثلاثة، فاستدعاؤه لهم تنبيهاً لهم على الحكم أو استعانة بما عندهم على ما عنده وقالوا: "إن معاوية من مسلمة الفتح، فإن كان سمع هذا بعد اسلامه، فإنما يكون سمعه سنة تسع أو عشر، فيكون ذلك بعد نسخه بإيجاب رمضان، ويكون المعنى لم يفرض بعد ايجاب رمضان، جمعاً بينه وبين الأدلة الصريحة في وجوبه، وان كان سمعه قبله فيجوز كونه قبل افتراضه". ثم ذكروا بعد هذين الحديثين، حديثا يناقضهما تماماً، وهو أن النبى حين قدم المدينة فرأى اليهود تصوم، فقال: ما هذا الصوم، قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجىّ الله بني اسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال النبي: فأنا أحق بموسى منكم فصامه، وأمر بصيامه". وهو حديث للعلماء عليه كلام.

وحديث معاوية لا يدل على صوم قريش ليوم عاشوراء في الجاهلية، وقد استدل به "ابن الجوزي" على أن صوم عاشوراء لم يكن واجباً، ولا يفهم منه أبداً أن قريشاً كانوا يصومونه قبل الإسلام. ولو كان معروفاً لما شفي أمره عليه وعلى غيرة من قريش، وحديث "عائشة" حديث مفرد، ويجوز أن يكون قد وضع على لسانها، ولا يعقل انفرادها به وعلمها وحدها بصيام قريش في ذلك اليوم، وخفاء أمره على غيرها من الرجال والنساء ممن عاش معظم حياته في الجاهلية.

ويوم "عاشوراء" هو يوم "ع ش و ر" Ashura "عشور" "عشورا" عند العبرانيين، ويقع في اليوم العاشر من شهر "تشرى". وهو يوم خاص بيهود. وأنا أشك في صحة رواية أهل الأخبار القائلة إن قريشاً كانوا يصومونه في الجاهلية، إذ ما هي صلة قريش الوثنيين الذين لم يكونوا من أهل الكتاب بصيام يوم هو من صميم أحكام ديانة يهود. ومما يؤيد رأيي، هو إن أهل الأخبار أنفسهم يذكرون إن الرسول "حين قدم المدينة، رأى يهود تصوم يوم عاشوراء، فسألهم، فأخبروه انه اليوم الذي غرّق الله فيه آل فرعون، ونجى موسى ومن معه منهم، فقال: نحن أحق بموسى منهم، فصام، وأمر الناس بصومه. فلما فُرض صوم شهر رمضان، لم يأمرهم بصوم يوم عاشوراء، ولم ينههم عنه". فلو كان الصيام معروفاً عند قريش، لما سأل الرسول يهود يثرب عن صومهم صيام عاشوراء، وما جاء من قوله: "نحن أحق بموسى منهم، فصام، وأمر الناس بصومه" إلى إن فرض رمضان، فرفع عنهم صومه، وجعلهم أحراراً إن شاءوا صاموه وإن شاءوا أفطروا، أي صار تطوعاً، وهو حديث يشك فيه العلماء كذلك. وهذه الرواية تناقض تماماً رواية صيام قريش يوم عاشوراء. ثم اننا لا نجد في القرآن ولا في الحديث - غير حديث عائشة - ما يشير إلى وجود ذلك الصوم بمكة قبل الهجرة، ولو كان معروفاً لما سكت عنه. ويرجع بعض المستشرقين دعوى صيام قريش لذلك اليوم إلى محاولة ارجاع الأصول الإسلامية إلى الحنيفية القديمة والى قدماء العرب ثم إلى ابراهيم، فصيروا قريشاً تصوم عاشوراء لارجاع الصيام إلى أصل قديم.

ولا يعقل وجود الصيام عند المشركين، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، وانما كان الصيام معروفاً عند الاحناف لاتصالهم بهم، وتأثرهم بكتبهم وبما كان عندهم منه أحكام، ومن ذلك ترهبهم وزهدهم، وقد كان الرهبان يكثرون من الصوم والاعتكاف.

وأنا لا استبعد أن لفظة "محرم" هي نعت لهذا الشهر لا اسماً له، عرف بها لكونه شهراً حراماً. تقع عليه الحرمة، ومن حرمته أن الجاهليين كانوا يبتدئون سنتهم به. فالمحرم، هو أول شهر من شهور السنة في حسابهم، ولابتدائهم به، فقد تكون له حرمة خاصة عندهم.

وقد نسب أهل الأخبار شهر رجب إلى مضر، فقالوا رجب مضر، وقد أشير إلى ذلك في الحديث ايضاً، مما يدل على أن هذا الشهر هو شهر مضر خاصة. وقد ذكر العلماء أنه إنما عرف بذلك لأنهم كانوا لشد تعظيماً له من غيرهم، وكأنهم اختصوا به. وذكروا أيضاً أنهم كانوا يرجبون فيه، فيقدمون الرجبية، وتعرف عندهم بالعتيرة، وهي ذبيحة تنحر في هذا الشهر. ويقال عن أيامه هذه أيام ترجيب وتعتير.

ويذكر علماء الأخبار أن تأكيد الرسول على "رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" في خطبة حجة الوداع، هو أن ربيعة كانت تحرم في رمضان وتسميه رجباً، فعرف من ثم ب "رجب ربيعة"، فوصفه يكونه بين جمادى و شعبان تأكيد على أنه غير رجب ربيعة المذكور. الذي هو بين شعبان وشوّال. وهو رمضان اليوم. فرجب إذا عند الجاهليين رجبان: رجب مضر ورجب ربيعة، وبين الطائفتين اختلاف في مسائل أخرى كذلك.

ومما يؤيد إن شهر "رجب" كان شهر مضر المحرم عندهم بصورة خاصة، ما ورد في أقوال علماء التفسير من إن "الشهر الحرام" الوارد في الآية )يا أيها الذين آمنوا لا تحلوّا شعائر الله ولا الشهر الحرام، ولا الهدي ولا القلائد(، هو شهر "رجب"، وهو شهر كانت مضر تحرم فيه القتال. وما ورد في الآية: )يسألونك عن الشهر الحرام. قتال فيه ?(، واجماع علماء التفسير والأخبار على انه شهر "رجب"، وان الاية نزلت في امر قتل "ابن الحضرمي" في آخر يوم من جمادى الآخرة، وأول ليلة أو يوم من رجب. وقد كان المسلمون يهابونه ويعظمونه، وكان النبي يحرم القتال في الشهر الحرام، حتى نزلت الآية في حق القتال فيه وفي بقية الشهور. وقد ذهب المفسرون أيضاً إلى إن "الشهر الحرام"، هو كل شهر حرام من هذه الأشهر الأربعة، وان الآية لا يراد بها التخصيص، وان ما ذكر من انه شهر رجب، فلأجل وقوع الحادث المذكور فيه.

وعرف "رجب" ب "منصل الألّ" والألة والألال في الجاهلية. أي مخرج الاسنة من أماكنها. كانوا إذا دخل رجب نزعوا أسنة الرماح ونصال السهام ابطالاً للقتال فيه، وقطعاً لأسباب الفتن برمته، فلما كان سبباً لذلك سمي به، اعظاماً له، فلا يغزون ولا يغير بعضهم على بعض. وعرف أيضاً ب "منزع الأسنة" للسبب المذكور.

ومن دلائل حرمة شهر "رجب" ومكانته العظيمة عند أهل الجاهلية، تقديمهم العتائر فيه والاضاحي التي عرفت عندهم ب "الرجبية"، ووقوع اكثر المناسبات الدينية فيه. وقد نعت هذا الشهر ب "الاصم"، فقيل له "رجب الاصم"، لعدم سماع استغاثة أو قعقعة سلاح فيه، لان العرب كانت لا تقرع فيه الاسنة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه، فلا يهيجه، تعظيما له. وعرف ب "رجب الفرد" وب "الفرد"، لانفراده وحده من بين الاشهر الحرم الاخرى.

ويرى "ولهوزن"، استناداً إلى بعض الموارد اليونانية وغيرها إن العرب كانوا يحرمون شهراً واحداً منفرداً، هو "رجب الفرد"، وهو من شهور الربيع، وشهرين آخرين متصلين يقعان في القيظ، أي في أوج الصيف. أما الشهر الثالث الذي ألحق بالشهرين، فصارت به ثلاثة اشهر حرم متسلسلة متداخلة، فقد حرم في عهد متأخر لا يبعد كثيراً عن الإسلام، وهو المحرم.

ويلاحظ إن الموارد الإسلامية قد وضعت بعض الأحداث المهمة في شهر محرم مثل صوم يوم عاشوراء، ومثل اختبار القدس قبلة للمسلمين، فقد ذكروا إن ذلك كان في اليوم السادس عشر من المحرم، ومثل ذكرهم إن وصول حملة الفيل إلى مكة كان في اليوم السابع عشر منه، وان ابتداء السنة الهجرية، كان في اول المحرم، مع اننا لو دققنا ذلك تدقيقاً عميقاً، وجدنا إن أكثر هذا المروي لم يثبت وقوعه في هذا الشهر.

ونجد في كتب الحديث والأخبار ما يفيد بأن الجاهليين كانوا يعظمون شهري شعبان ورمضان تعظيماً يكاد يضاهي تعظيمهم للاشهر الحرم. وسبب ذلك في نظري، هو بفعل النسيء في الشهرين، وتلاعبهم بالأشهر وتسميتهم لها تسميات كيفية، ووقوع ذلك التلاعب على الشهرين المذكورين دون بقية الشهور. وقد يكون بسبب أن العرب كانوا يقدسون الشهرين ويحرمونهما أيضاً، وأن قريشاً كانت تحترمهما أيضاً، ومن هنا فضل شعبان ورمضان على بقية الأشهر الثمانية مع انهما من الأشهر الاعتيادية على حسب رواية أهل الأخبار. ولم يدخلوهما في جملة الأشهر الحرم. ونجد للشهرين حرمة كبيرة في الإسلام.

وقد كان عرب العراق وبادية الشام يتجنون أيضاً مثل عرب الحجاز القتال في أشهر معينة، لأنها أشهر مقدسة حرم عندهم، كما يفهم ذلك من مؤلفات الروم والسريان. فقد أشار المؤرخ "افيفانوس" Epiphsnius إلى وجود شهر عند العرب، قال إن العرب تحتفل فيه، وهو عندهم شهر مقدس، ويقع في شهر تشرين الثاني، ويريد به شهر "ذي الحجة" على ما يظن. وقد دعي ب "حجتّ" في بعض الموارد اليهودية. كما ذكر "بروكوبيوس" Procopius أن عرب المناذرة لم يكونوا ليحاربوا في شهورهم المقدسة، وقال إنهم كانوا قد جعلوا شهرين في السنة حرماً لآلهتهم لا يغزون فيها ولا يقاتلون بعضهم بعضاً، ويقعان في تموز وآب، وذكر "فوتيوس" أن العرب يحجون إلى معبدهم مرتين في السنة: مرة في وسط الربيع عند اقتران الشمس ببرج الثور، و ذلك لمدة شهر واحد، ومرة أخرى في الصيف، و ذلك. لمدة شهرين.

وفي هذه الإشارات معلومات قيمة، تشير إلى وجود الاشهر الحرم عند العرب الشماليين. ويفهم منها أن الاشهر الحرم كانت ثابتة لا تتغير، فلا يقع حجهم مرة في شتاء ومرة في صيف، وأخرى في ربيع، ومرة في خريف. فحجهم ثابت، وأشهرهم ثابتة. ومما يؤسف له أن أولئك المؤرخين لم يشيروا إلى أسماء المواضع التي كانوا يحجون إليها.

الشهور الحل

واما الشهور الثمانية الاخرى، غير الحرم، فهي: صفر، وشهر ربيع الأول، وشهر ربيع الآخر،وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، وشعبان، وشهر رمضان، وشوال. وقد أستحل فيها القتال والغزو.

وقد عرفت هذه الشهور: الحرم منها والشهور الحل بشهور معدّ. وكان أهل مكة يستعملونها عند ظهور الإسلام. والظاهر إن القبائل المجاورة لمكة كانت تستعملها أيضاً. وبهذه الأشهر أرخت رسائل الرسول وأوامره، وصارت باستعمال الرسول لها الشهور الرسمية في الإسلام، عليها يسير كل المسلمين على اختلاف ألوانهم حتى اليوم لما لها من صلات بأمور دينهم في مثل الصوم والحج.

وصفر، هو الشهر الذي يلي المحرم. "قال بعضهم: انما سمي لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع، وقيل لاصفار مكة من أهلها اذا سافروا، وروي عن رؤبة انه قال: سموا الشهر صفراً لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفراً من المتاع، و ذلك ان صفراً بعد المحرم، فقالوا صفر الناس منا صفراً". وكانوا إذا جمعوا المحرم مع صفر، قالوا: صفران. وفي ذلك قول أبي ذؤيب: أقامت به كمقام الـحـنـيف  شهري جمادي وشهري صفر 

وكان أهل مكة يفتتحون سنتهم بالمحرم. فهو أول شهر عندهم من أشهر السنة، وقد أقر الإسلام هنا المبدأ، فجل المحرم أول شهر من شهور السنة الهجرية.

ويذكر أهل الأخبار أن أول من سمى الشهور المحرم وما بعده بأسمائها هذه هو "كِلاب بن مرة".

الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة
النسيء

عرف علماء العربية النسيء بقولهم: "والنسيء المذكور في قول الله تعالى: )انما النسيء زيادة في الكفر(. شهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية، فنهى الله عز وجل عنه في كتابه العزيز حيث قال: )انما النسيء زيادة في الكفر(، الآية، و ذلك انهم كانوا إذا صدروا عن منى بقوم رجلٌ من كنانة، فيقول: أنا الذي لا يرد لي قضاء، فيقولون: أنسئنا شهراً، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم". وعرف النسيء بأنه تأخير بعض الأشهر الحرم إلى شهر آخر. و ذلك من "نسأ". والنسء تأخير الوقت. وجعله بعضهم بمعنى "الكبس"، المعروف. وقد ذهب العلماء إلى أن النسيء كل زيادة حدثت في شيء، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه نسيء. فالنسيء تأخير حرمة المحرم إلى صفر، وجعل المحرم شهراً حلالاً، يجوز لهم القتال فيه، لأنهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر حرم، لا يغيرون فيها ولا يغزون، ومعاشهم على الغارات والغزو. ففعلوا النسيء، لإحلال ذمتهم من حرمة محرم، ولتجويز القتال فيه، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم فيمكثون بذلك زماناً، ثم يزول التحريم إلى المحرم، ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة. وقد عرف بعض العلماء النسيء بأنه تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر. و "العرب تقول: نسا الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك، أي أخر الله أجلك".

فهم كانوا يستحلون ترك الحج في الوقت الذي هو واجب فيه، ويوجبونه في الوقت الذي لا يجب فيه،وجوّزوا ذلك عليهم حتى ضلوا باتباعهم هذا التجويز. بأن جعلوا الشهر الحرام حلالاً، إذا احتاجوا إلى القتال فيه، وجعلوا الشهر الحلال حراماً، ويقولون شهراً بشهر، وإذا لم يحتاجوا إلى ذلك لم يفعلوه. فكانوا "يحجون في كثير من السنين، بل أكثرها في غير ذي الحجة"، ومن هنا تلاعبوا بالأشهر وأخرجوها حقيقتها، بأن جعلوا الشهر الحرام حلالاً والشهر الحلال حراماً، فخالفوا بذلك ما اتفق عليه من تحريم اشهر بعينها هي من الأشهر الحل، ومن تحليل أشهر هي الاشهر الحرم.

واذا أخذنا مما جاء على لسان بعض الشعراء عن النسيء، مثل قولهم: ألسنا الناسئين على مـعـدّ  شهور الحل نجعلها حراما 

وقول أحدهم: وكنا الناسئين علـى مـعـدّ  شهورهم الحرام إلى الحليل 

وقول الآخر: نسئوا الشهور بها وكانوا أهلها  من قبلكم والعز لم يتـحـول

واعتبرناه صحيحاً، نستنتج منه آن النسيء كان خاصاً بحج "مكة"، وبالقبائل التي عرفت بقبائل "معد". وقد عرفنا قبائل وعشائرها وفي جملتها قريش.

واذا اخذنا النسيء بهذا المعنى، صار معناه مجرد تبديل شهر بشهر، وتأخير حرمة شهر إلى الشهر الذي يليه. وليس هذا بزيادة، أي زيادة أيام أو شهر على شهور السنة، وهي الأيام التي تتخلف فيها السنة القمرية عن السنة الشمسية، لتتساوى بها، فتثبت الأشهر في مواضعها من الفصول، وهو ما يعر عنه يالكبس فليس هذا النسيء كبساً اذاً.

وقد تعرض "البيروني" لموضوع النسيء عند العرب، فقال: "وكانوا في الجاهلية يستعملونها على نحو ما يستعمله أهل الإسلام. وكان يدور حجهم في الأزمنة الأربعة. ثم أرادوا إن يحجوا في وقت ادراك سلعهم من الادم و الجلود والثمار وغير ذلك، وأن يثبت ذلك على حالة واحدة، وفي أطيب الأزمنة وأخصبها. فتعلموا الكبس من اليهود المجاورين لهم. و ذلك قبل الهجرة بقريب من مئتي سنة. فأخذوا يعملون بها ما يشاكل فعل اليهود من إلحاق فضل ما بين سنتهم وسنة الشمس شهراً بشهورها اذا تم... ويسمون هذا من فعلهم النسيء، لأنهم كانوا ينسأون أول السنة في كل سنتين أو ثلاث شهراً، على حسب ما يستحقه التقدم".

وتعرض "ابن الأجدابي" لموضوع "الكبس" والسنة "الكبيسة" عند العبرانيين واليونانيين كذلك، فقال: "وقد كانت العرب في الجاهلية تفعل مثل هذا، وتزيد في كل ثالثة من سنيها شهراً، على نحو ما ذكرناه عن العبرانيين واليونانيين. وكانوا يسمون ذلك النسيء. كانت سنة النسيء ثلاثة عشر شهراً قمريه. وكانت شهورهم حينئذ غير دائرة في الأزمنة، كان لكل شهر منها زمن لا يعلوه. فهذا كان فعل الجاهلية حين أحدثوا النسيء، وعملوا به. فلما جاء الله تعالى بالإسلام بطل ذلك، وحرم العمل به. فقال: إنما النسيء زيادة في الكفر. وقال عزّ وجلّ: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله. فسنة العرب اليوم اثنا عشر شهراً قمرية دائرة في الأزمنة الأربعة".

والنسيء الذي ذكره "البيروني" و "ابن الأجدابي"، هو كبس صحيح، وليس مجرد تقديم شهر وتأخير آخر على نحو ما رأيت. غايته تثبيت الأزمنة، وجعل الحج في موسم ثابت معين، فلا يكون في شتاء مرة، وفي صيف مرة أخرى، وفي ربيع مرة، وفي خريف مرة أخرى، يجعل السنة سنة قمرية شمسية على نحو فعل يهود بسنتهم، وهو بهذا المعنى في رواية "المسعودي". فقد قال: "وقد كانت العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهراً وتسميه النسيء وهو التأخير، وقد ذم الله تبارك وتعالى فعلهم بقوله: )إنما النسيء زيادة في الكفر(.

وكان النسيء الأول للمحرم، فسمي صفر به. وشهر ربيع الأول باسم صفر   

ثم والوا بين أسماء الشهور. وكان النسيء الثاني لصفر، فسمي الذي كان يتلوه بصفر أيضاً. وكذلك حتى دار النسيء في الشهور الاثني عشر،وعاد إلى المحرم فأعادوا بها فعلهم الأول. وكانوا يعدون أدوار النسيء، ويحدّون بها الأزمنة، فيقولون: قد دارت السنون من زمان كذا إلى زمان كذا دورة. فإن ظهر لهم مع تقدم شهر عن فصله من الفصول الأربعة لما يجتمع من كسور سنة الشمس وبقية فضل ما بينها وبين سنة القمر الذي الحقوه بها، كبسوه كبسا ثانياً،وكان يبين لهم ذلك بطلوع منازل القمر وسقوطها حتى هاجر النبي عليه السلام، وكانت نوبة النسيء كما ذكرت بلغت شعبان، فسمي محرماً، وشهر رمضان صفراً، فانتظر النبى، صلى الله عليه وسلم، حينئذ حجة الوداع، وخطب بالناس، وقال فيها: "ألا، وإِن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي يدعى شهر مضر الذي جاء بين جمادى الآخرة وشعبان، والشهر تسعة وعشرون وثلاثون". ومنذ ذلك الحين ترك النسيء. "وعنى بذلك إن الشهور عادت إلى مواضعها، وزال عنها فعل العرب بها. ولذلك سميت حجة الوداع الحج الأقوم. ثم حرم ذلك، وأهمل أصلاً". وقد ذكر "المسعودي" إن عدة الشهور عند العرب وسائر العجم اثنا عشر شهراً. وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهراً، هو تقسيم قديم يعود إلى ما قبل الميلاد.

وذُكر أن نسيء العرب كان على ضربين: أحدهما تأخير شهر المحرم إلى صفر لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات، والأخر تأخير الحج عن وقته تحرّياً منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوماً، حتى يدور الدور فيه الى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته. وهذا الرأي يلخص ما أورده أهل الأخبار في النسيء. ويتلخص في شيئين: النسيء تأخير الشهور، و ذلك بإحلال شهر في مكان شهر آخر، للاستفادة من ذلك في التحليل والتحريم، والنسيء بمعنى الكبس، وهو إضافة الفرق الذي يقع بين السنة الشمسية والسنة القمرية إلى الشهور القمرية لتلافي النقص الكائن بين السنتين، ولتكون الشهور القمرية بذلك ثابتة لا تتغير، تكون في مواسمها المعينة، فلا يقع حادث في شهر من شهورها في الشتاء، ثم يتحول بمرور السنين، فيقع بعد امد في الصيف أو في الربيع، كما يقع ذلك في الشهور القمرية الصرفة المستعملة في الإسلام.

وتسمى الطريقة الثانية، وهي إضافة فرق الأيام بين السنتين الشمسية والقمرية إلى السنة القمرية "الكبس" في اصطلاح العلماء. وقد كانت شهور اليهود، وهي شهور قمرية، تساوي "354" يوماً وست ساعات، فهي لذلك أنقص بأحد عشر يوماً عن السنة الرومانية، فادخلوا، شهر ثالث عشر في كل ثلاث سنوات، سموه "فيادار" أو "أذار الثاني"، وبهذه الطريقة جعلوا السنة القمرية مساوية للسنة الشمسية. وقد ذكر "المسعودي"، أن أيام السنة "ثلثمائة وأربعة وخمسون يوماً، تنقص عن السرياني أحد عشر يوماً وربع يوم، فتفرق في كل ثلاث وثلاثين سنة، فتنسلخ تلك السنة العربية ولا يكون فيها نيروز، وقد كانت العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهراً، وتسميه النسيء وهو التأخير". وذكر "القلقشندي"، أنهم كانوا يؤخرون في كل عام أحد عشر يوماً، حتى يسور السور إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته،فلما كانت سنة حجة الوداع، وهي تسع من الهجرة، عاد الحج إلى وقته اتفاقاً في ذي الحجة كما وضع أولاء، فأقام رسول الله،صلى الله عليه وسلم، فيه الحج، ثم قال في خطبته التي خطبها يومئذ: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، يمعنى أن الحج قد عاد في في الحجة". وذكروا إن المشركين كانوا "يحجون في كل شهر عامن، فحجّوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثج حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور كلها حتى وافقت حجة أبي بكر الي حجها قبل حجة الوعاع ذا القعدة من السنة التاسعة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم، في العام المقيل حجة الوداع فوافقت ذا الحجه، فذلك قوله في خطبته: إن الزمان قد استدار... الحديث. أراد بذلك أن أشهر الحج رجعت إلى مواضعها، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء.

وورد في خبر يرجع سنده إلى "إياس بن معاوية"، أن المشركين كانوا "يحسبون السنة اثني عشر شهرأ وخمسة عشر يوماً، فكان الحج يكون في رمضان وفي ذي القعدة، وفي كل شهر من السنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يوماً، فحج أبو بكر سنة تسع في ذي القعدة بحكم الاستدارة، ولم يحج النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما كان في العام المقبل وافق الحج ذا الحجة في العشر، ووافق ذلك الآهلة". وقد ورد في الحديث: "الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين"، كما ورد: "شهران لا ينقصان شهراً عيد رمضان وذو الحجة". فإذا أخذنا بذلك، كان الفرق بين أيام السنة القمرية وأيام السنة الشمسية، هو ما يجب اضافته على السنة القمرية لتكون سنة شمسية، ذات أشهر ثابتة.

واذا صحت رواية بعض الأخباريين عن إضافة الجاهليين أحد عشر يوماً، إلى السنة القمرية، ليضمنوا بذلك ثبات الأشهر، وعدم تغير أوقاتها. فإن ذلك يكون كبساً صحيحاً بالمعنى المفهوم من الكبس، مؤديا للغاية المتوخاة منه. وعندئذ تكون سنة أولئك الجاهليين المستعملين للكبس سنة قمرية شمسية. وانا لا أستبعد شيوعها عند أهل المدينة، بسبب اختلاطهم باليهود، ولا أستبعد كذلك اتفاقهم مع يهود يثرب في استعمال السنة المستعملة عند اليهود نفسها، وابتدائهم بالشهر الذي كان يبدأ به أولئك اليهود.

ويؤيد هذه الرواية ما ذكره أهل الأخبار كلهم من إن الغاية التي حملت العاملين بالنسيء على استعمالهم له "انهم كانوا يحبون إن يكون يومَ صدرَهم عن الحج في وقت واحد بن السنة" فكانوا ينسئونه. والنسيء التأخير، فيؤخرونه في كل سنة أحد عشر يوماً، فإذا وقع في عدة ايام من ذي الحجة، جعلوه في العام المقبل لزيادة أحد عشر يوماً من ذي الحجة، ثم على تلك الأيام يفعلون كذلك في أيام السنة كلها. وكانوا يحرمون الشهرين اللذين يقع فيهما الحج، والشهر الذي بعدهما، ليواطئوا في النسيء بذلك عدة ما حرم الله. وكانوا يحرمون رجباً كيف وقع الأمر. فيكون في السنة اربعة أشهر حرم".

أما التفسير الأول للنسيء، وهو تفسيره بمعنى تحليل شهر محرم، وتحريم شهر حلال، وتأخر شهر وتقدم شهر، فإنه لا يحقق ما ذكر من رغبة الناس يومئذ في حجهم في وقت ثابت لا يتغير ولا يتبدل، لأن الحج يتغير فيه، فيكون أحياناً في الصيف، وأحياناً في الشتاء، وأحياناً في الربيع، واحيانا في الخريف. وهذا لا يتفق مع زعم أهل الأخبار في السبب الذي دعا إلى الأخذ بالنسيء.

والنسيء بهذا التفسر، لا يفيد إلا من ناحية التحايل والتلاعب في ايجاد حيل مشروعة في تجويز القتال في بعض الأشهر الحرم، و ذلك كان تكون قبيلة قوية تريد القتال في شهر محرم، لاستعدادها له فيه فتعمد إلى هذا الحل، والتحايل على العرف بالتوسل إلى "القلمس" لتغيير الشهور، فيصير الشهر الحرام حلالاً، وبذلك يتاح لها القتال فيه.

وإني أرى في هذا التفسير تكلفاً ظاهراً، وهو يعارض مع ما ذكر من الغابة من النسيء. واذا جاز إحداثه في سنة ما للغايات المذكورة، فلا يعقل احداثه في كل سنة بانتظام. وإلا لم يبق له معنى ما ولا فائدة ترجى عندئذ منه.

وقد جاء معنى النسيء في الآية: "إنما النسيء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً. ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله. زين لهم سوء اعمالهم، والله لا يهدي القوم الكافرين". فقال بعض علماء التفسير: كانوا يجعلون السنه ثلاثة عشر شهراً، فيجعلون المحرم صفراً، فيستحلون فيه الحرمات، فأنزل اللّه إنما النسيء زيادة في الكفر. "وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، وربيع، و جمادى، وجمادى، ورجب، و شعبان، ورمضان، وشوال، و ذو القعدة، و ذو الحجة، يحجون فيه مرة ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه، ثم يعودون فيسمون صفر صفر. ثم يسمون رجب جمادى الآخر، ثم يسمون شعبان رمضان، ثم يسمون رمضان شوالاً، ثم يسمون ذا القعدة شوالاً، ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة،ثم يسمون المحرم ذا الحجة، فيحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة. ثم عادوا بمثل هذه القصة، فكانوا يحجون في كل شهر عامين، حتى وافق حجة أبي بكر، رضي الله عنه، الأخر من العامين في ذي العقدة، ثم حج النبي، صلى الله عليه وسلم حجته التي حج، فوافق ذا الحجة، فذلك حين يقول النبي، صلى الله عليه وسلم، في خطبته إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض". فالنسيء هو المحرم، وكان يحرم المحرم عاماً، ويجرم صفر عاماً، وزيد صفراً في آخر الأشهر الحرم، وكانوا يؤخرون الشهور حتى يجعلوا صفر المحرم، فيحلوا ما حرم الله. وكانت هوازن، وغطفان، وبنو سليم، يعظمونه، وهم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية. وهكذا كانوا يجعلون سنة المحرم صفراً، فيغزون فيه، فيغنمون فيه ويصيبون ويحرمونه سنة. وذكر أنهم كانوا يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه، ثم يعودون فيسمون صفراً.

وقد تحدث "الطبرسي" عن النسيء فقال: " قال مجاهد: كان المشركون يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور حتى وافقت الحجة التي قبل حجة الوداع في ذي القعدة، ثم حج النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في العام القابل حجة الوداع، فوافقت في ذي الحجة، فذلك حين قال النبى، صلى الله عليه وسلم، وذكر في خطبته ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. السنة اثنا عشر. شهراً. منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، و المحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. أراد عليه السلام الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحح إلى ذي الحجة وبطل النسيء".

وهذا الفعل الذي هو النسيء، هو الذي جعل العلماء يقولون: إن الصفر النسيء الذي كانوا يفعلونه. في الجاهلية، وهو تأخيرهم المحرم إلى صفر في تحريمه ويجعلون صفراٌ هو الشهر الحرام. فهم يدخلون شهراً جديداً على السنة بعد فتى الحجة، يكون مقامه بين هذا الشهر وبين شهر صفر الأول، الذي هو المحرم من. الأشهر الحرم. وبذلك يكونون قد فصلوا بين الأشهر الحرم الثلاثة، بأن جعلوا شهراً حلالاً جديداً بين الشهرين المحرمين: ذو القعدة وذو الحجة، وبين الشهر الثالث المتصل بهما، وهو المحرم، ففصل عن الشهرين، وصار وحيداً. فعلوا ذلك ليحافظوا على وقت الحج، بجعله ثابتاً. ولما كان ذلك معناه تغيير حرمة الأشهر الحرم الثلاثة بجعل الشهر الحلال شهراً حراماً، والشهر الحرام حلالا، حرم النسيء في الإسلام. فابتعدت السنة بذلك عن السنة الشمسية،وصار الحج يدور باختلاف المواسم، لأن السنة صارت سنة قمرية. وبذلك تغير وقت الحج عما كان عليه في الجاهلية،فلم يعد ثابتاً على نحو ما كان عليه عند الجاهليين.

وفراراً من امم النسيء، الذي هو زيادة في الكفر، كانوا في صدر الإسلام يسقطون عند رأس كل ثلاث وثلاثين سنة عربية، سنة ويسمونها: سنة الازدلاق لأن كل ثلاث وثلاثين سنة عربية تساوي اثنتين وثلاثين سنة شمسية تقريباً.

مبدأ النسيء

ويرجع أهل الأخبار مبدأ ادخال النسيء إلى الجاهلين إلى "عمرو بن لحي"   

أو إلى "القلمس"، وهو "حذيفة بن فقيم بن عامر بن الحارث"، أو "حذيفة بن عبد بن فقيم"، أو "نعيم بن ثعلبة"،أو " قلع بن حذيفة بن عبد بن فقيم"، أو آخرون. وذلك إن العرب كانوا لا يكبسون، إلى أن جاورتهم اليهود في يثرب، فارادوا "أن يكون حجهم في أخصب وقت من السنة وأسهلها للتردد في التجارة، ولا يزول عن مكانه، فتعلموا الكبس من اليهود". فصار النسيء عادة من عادات العرب منذ ذلك الحين إلى منعه في ا لاسلام.

وكانت النَّسأة في بني مالك ين كنانة، وكان أولهم القلمس حذيفة بن عيد ابن فُقيم بن عديّ بن عامر بن ثعلبة ين الحارث بن مالك بن كنانة، ثم ابنه قلع ين حذيفة، ثم عباد بن قلع، ثم " قلع بن عبّاد قلع" ثم أمية بن قلع ثم عوف بن أمية، ثم جنادة بن أمية بن عوف بن قلع. وذكر أن أول من نسيء قلع، نسأ سبع سنين، ونسا أمية إحدى عشرة سنة. وذكر عن "ابن اسحاق" أن أول من نساً عند العرب "القلمس"، وهو "حذيفة بن عبد فقيم ابن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة"، ثم قام بعده على ذلك ابنه "عباد"، ثم من بعد عبّاد ابنه "قلع بن عباد"، ثم ابنه "امية ابن قلع"، ثم ابنه "عوف بن أمية" ثم ابنه "أبو ثمامة" "جنادة بن عوف"، وكان آخرهم وعليه قام الإسلام. وذكر "القرطبي" عن "ابن الكلبي" أن "اول من فعل ذلك رجل من بني كنانة، يقال له: نعيم بن ثعلبة، م كان بعده رجل يقال له: جنادة بن جموف، وهو الذي أحركه لي سول الله، صلى اللّه عليه وسلم. وقال الزهري: حي من بني كنانة ثم من بني فُقيم منهم رجل يقال له القلمس، واسمه حنيفة بن عبيد. وفي رواية مالك بن كنانة. وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرياسة لتريس العرب إياه. وفي ذلك يقول شاعرهم: ومنّا ناسىء الشهر القلمس 

وقال الكميت: ألسنا الناسئين على مـعـدّ  شهور الحلّ نجعلها حراما

وذكر "اليعقوبي"، إن اول من نسأ الشهور: "سرير بن ثعلبة بن الحارث ابن مالك بن كنانة". وهو والد "هند" التي تزوجها "مرة بن كعب"، فولدت له "كلاباً". وشرف "كلاب بن مرة" وجل " قدره واجتمع له شرف الأب، وهو "كعب بن لؤي"، الذي كان أول من سمى يوم الجمعة بالجمعة، وكانت العرب تسميه "عروبة"، وشرف الجد من قبل الأم، لأنهم كانوا يجيزون الحج ويحرمون الشهور ويحللونها، فكانوا يسمون النسأة والقلامس. وذكر "الزبيري"، إن "سريراً" أول من نسأ الشهور، وقد انقرض سرير، ونسأ الشهور بعده ابن أخيه القلمس، واسمه عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث ابن كنانة. ثم صار النسيء في ولده. وكان أخرهم جنادة بن عوف، وهو "أبو ثمامة". وورد في رواية أخرى، إن أخرهم هو "فقيم بن ثعلبة"، أو هو غيره. وقد ذكروا أن "أبا ثمامة"، وهو "جنادة بن أمية" من بني "المطلب بن حدثان بن مالك بن كنانة"، من نسأة الشهور على معد، كان يقف عند "جمرة العقبة، ويقول: اللهم اني ناسىء الشهور وواضعها مواضعها ولا أعاب ولا "أحاب" أجاب: اللهم إني قد أحلت أحد الصفرين وحرمت صفر المؤخر، وكذلك في الرجبين، يعني: رجباً وشعبان. ثم يقول: انفروا على اسم الله تعالى. وفيه يقول قائلهم: ألسنا الناسئين على مـعـد  شهور الحل نجعلها حراما 

وذكر أن أول من نسأ بعد "القلمين" القلمسين: "حذيفة بن عبد نعيم ابن عدى"، و "زيد ين عامر بن ثعلبة" "وهو القلمين بن عامر بن ثعلبة" "عياد بن حذيفة"، ثم "قلع بن عباد"، ثم "أمية بن قلع"، ثم "عوف ابن أمية"، ثم "جنادة" فأدركه الإسلام.

وذكر "الطبري"، "أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم كل عام، وكان يكنى أبا ثمامة، فيناسى: ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب، الا وان صفر العام الأول حلال، فيحله الناس، فيوم صفر عاماً ويحرم المحرم عاماً". ودعاه ب "أبي ثمامة صفوان بن أمية"،أحد "بني فقيم ابن الحارث، ثم أحد بني كنانة". وذكر أنه "كان رجل من بني كنانة، يأتي كل عام في الموسم على حمار له، فيقول: أيها الناس اني لا أعاب ولا أجاب، ولا مرد لما أقول. انا قد حرمنا المحرم، واخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده، فيقول مثل مقالته. ويقول إِنا قد حرمنا صفر واخرنا المحرم فهو قوله: ليواطئوا عدة ما حرم الله". وكان هذا الرجل يقال له:القلمس. وكان آخر النسأة، "جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عياد "عباد" بن حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن زيد بن عامر ين ثعلبة بن الحارث بن مالك ابن كنانة"، أبو "ثمامة" "أبو أمامة" الكناني. نسأ الشهور أربعين سنة، وأدرك الإسلام. وكان أبعد النسأة ذكراً، وأطولهم أمداً. وذكر إن اسمه "أمية بن عوف بن جنادة ين عوف بن عياد بن قلع بن فقيم بن عدي بن عامر ابن الحارث بن ثعلبة"، وذكر أيضاً انه "القلمس بن أمية بن عوف بن قلع ابن حذيفة بن عبد بن فقيم".

وورد في خبر ينسب إلى "ابن عباس"، انه قال: النسأة في كندة. وانهم كانوا النسأة الأول، قبل المذكورين. وذهب "الجاحظ" إلى إن النسئ كان في كنانة واما السدانة، فكانت في "مرّ بن أدّ" "من رهط صوفة والربيط منها أصحاب المزدلفة، وكانت عدوان وأبؤ سيارة عميلة بن أعزل، تدقع الناس". ويكاد يكون الاجماع على أن النسيء كان من حق "كَنانة"، لم يتوله غيرهم.

وذكر أن الناسيء، كان يحل للمحرمين قتال "خثعم" و "طيء"، "لأنهم كانوا لا يحرمون الأشهر الحرم، فيعيرون فيها ويقاتلون. فكان من نسأ الشهور من الناسئين يقوم" فيقول: إني لا أحاب ولا اعاب، ولا يرد ما قضيت به، وإني قد أحللت حماء المحللين من طيء وخثعم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إذا عرضوا لكم".

ويذكر أهل الأخبار أن أولئك الناسئين كانوا نابهين في قومهم، لهم مركز عظيم وشأن، فكان "القلمس"، مثلا ملكاً في قومه، وهو من بني كنانة، وكان عالم قومه وفقيهم في الدين، وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرياسة لتريس العرب إياه. ويظهر أنهم كانوا أصحاب علم ونظر ومكانة محترمة، في أمور الدين، في قومهم وفي القبائل التي تحج إلى مكة.

وكلمة "قلَمسّ" على ما يتبين من روايات الأخباريين، لم تكن اسم علم، وإنما هي لفظة يراد بها عند الجاهليين ما يراد من معنى الفقيه والمفتي في الإسلام". وقد ذكر علماء اللغة أن من معاني القلمس: السيد العظيم، والرجل الخير المعطاء والمفكر البعيد الغور، والداهية من الرجال، ونحو ذلك من معان تشير إلى صفات عالية في الرجل الذي أطلقت عليه، وقد تكون بمعنى العالم العارف، وقد أطلقت بصورة خاصة على هذه الجماعة، لسعة علمها بهذا الموضوع وغيره، ولوقوفها على التوقيت وعلم الفلك في تلك الأيامْ. وقد تكون لفظة من جملة الألفاظ المعربة التي دخلت العربية قبل الإسلام.

وطريقة الناسىء في اعلانه النسيء على الناس في الحج، أن يقوم رجل من كنانة فيقول: أنا الذي لا يرد لي قضاء، فيقولون: أنسئنا شهراً، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم". وهذا الرجل هوالناسىء، أو أن يدعو الناسء الناس في آخر موسم الحج إلى الاجتماع حوله، فإذا اجتمعوا ارتقى موضعاً مرتفعاً ظاهراً، أو قام على ظهر جمله صوته: "اللهم إني لا أعاب ولأ أحاب، ولا مرد لما قضيت، اللهم، إني أحللت شهر كذا "ويذكر شهراً من الأشهر الحرم، وقع اتفاقهم على شن الغارة فيه"، وأنسأته إلى العام القابل، أي أخرت تحريمه، وحرمت مكانه شهر كذا من الأشهر البواقي، فكانوا يحلون ما أحل ويحرمون ما حرم". فأذا انتهى من هذا الخطاب وامثاله، أباحوا لأنفسهم غارة في ذلك الشهر، وغزوا من نووا غزوه. فإذا جاء العام القابل، نهض الناسىء ليقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم الشهر الفلاني، وهو الشهر الذي أحله في العلم الماضي فحرموه، فيحرمونه. وورد في بعض الروايات، انه كان يقوم فيقول: "إني لا أحاب ولا أعاب ولا يرد ما قضيت به، وإني قد أحللت دماء المحللين من طيءُ وخثعم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم اذا عرضوا لكم". و ذلك لما ذكر من عدم تحريم طيء وخثعم الشهور الحرم، فكانوا يغزون ويقاتلون فيها، ولذلك استثاهم القلامسة من عدم مقاتلتهم في تلك الشهور، و ذلك لضرورات الدفاع عن النفس.

وقد نسب إلى بعض القلامسة شعر، قيل انهم قالوه يفتخرون فيه بأحتكارهم النسيء، وبارشادهم الناس إلى مناسك دينهم، وقيادتهم الحجاج، يسيرون تحت لوائهم، يبينون لهم شهور الحل والأشهر الحرم، كما ورد شعر منسوب إلى بعض كنانة يفتخر فيه بان قومه ينسئون الشهور على معد، فيجعلون شهور الحل حراماً والشهور الحرام حلالاَ.

وقد قال "عمير بن قيس بن جذل الطعان"، شعراً افتخر فيه وتعرض لأمر النسيء، فكان مما جاء فيه قوله: ألسنا النسائين على مـعـد  شهور الحل، نجعلها حراماً 

وقال بعض بني أسد: لهم ناسىء يمشون تحت لوائه  يحل إذا شاء الشهورَ ويحرِمُ

وقال آخر: نسوء الشهور بها وكانوا أهلها  من قبلكم والعز لم يتـحـول

وقد نسب "القرطبي" البيت: ألسنا الناسئين على مـعـد  شهور الحلَ، نجعلها حراما 

إلى الكميت.

وقد استمرت طريقة النسيء هذه إلى أيام الإسلام، فحج أبو يكر في السنة التاسعة من الهجرة، فوافق حجه ذي القعدة، ثم حج رسول الله في العام القابل الموافق السنة العاشرة للهجرة، المصادفة لسنة "631" للميلاد، فوافق عود الحج في ذي الحجة. ثم نزل الحكم بإبطال النسيء في الآيات: )أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله، يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم. ذلك الدين القيم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم. وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة، واعلموا أن الله مع المتقين، إنما النسيء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطؤوا عدة ما حرم، فيحلوَا ما حرم الله. زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين(، وخطب الرسول في جموع الحجاج خطبته الشهيرة التي بينَ فيها مناسك الحج وسننه وأموراً أخرى أوضحها لهم، فكان مما قاله لهم: "أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر، وإن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السموات والأرض، وان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً". فاًلغى الإسلام منذ ذلك الحين النسيء، وثبت شهور السنة وجعل التقويم القمري هو التقويم الرسمي للمسلمين.

وروي كلام الرسول عنه على هذه الصورة: "أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً، ليواطأوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله، ويحرموا ما أحل الله. وإن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السموات والأرض. وان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم. ثلاثة متوالية، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"، فالغى الإسلام منذ ذلك الحين النسىء، وجعل التقويم القمري الخالص هو التقويم الرسمي للمسلمين.

ويظهر من القرآن الكريم إن سبب تحريم النسيء في الإسلام هو تلاعب القلامسة بالشهور، بتحريمهم شهراً حلالاّ في عام، ثم تحليلهم له في العام القابل. فازال الإسلام ذلك التلاعب بتحريم النسيء، واتخاذ السنة سنة قمرية ذات اثني عشر شهراً لا غير، كما صيرها الجاهليون ثلاثة عشر أو أربعة عشر شهراً. ولما كان الزرع يعتمد على المواسم الطبيعية، وعلى الأشهر الشمسية، لذلك صار اعتماد المزارعين في الزرع وفي الحصاد على الشهور الشمسية، أي على السنة الشمسية. اما الأمور الدينية، مثل الحج والصيام، فالاعتماد بالطيع على الشهور القمرية.

واتخأذ التقويم القمري تقويماً رسمياً للاسلام، هو من السمات التي امتاز بها الإسلام عن الجاهلية،واعتبر من النقاط الفاصلة الني فصلت بين الجاهلية والإسلام. وهكذا زال الكبس كما زال النسيء عن السنة القمرية وعن الشهور لتحويلها إلى سنة شمسية على نحو ما رأيناه من فعل الجاهليين.

ويرى بعض المستشرقين أن النسيء والناسىء من الألفاظ المعربة عن العبرانية.

وقد دخلت إلى العربية بتأثير يهود يثرب. والناسىء عند اليهود هو الرئيس الديني. وكان يقوم عندهم بتقديم وتأخير الشهور، ويعين قواعد الأعياد والصيام، ويذيع النتيجة بواسطة وفود إلى الطوائف اليهودية المختلفة. والناسىء يقابل رئيس قبيلة عند بني اسرائيل، وهذا التعريف ينطبق تماماً مع ما ذكره أهل الأخبار عن "الناسىء" عند الجاهليين.

وقد بحث عدد من المستشرقين في حساب السنين عند الجاهليين وفي النسيء، فجاؤوا بآراء متباعدة غير متفقة، لكل واحد منهم رأي ومذهب في طريقة العرب قبل الإسلام في حساب الشهور وفي السنين،القمريه والشمسية والكبس والنسيء. وقد ناقشها ولخصها "نالينو" في كتابه: "علم الفلك تأريخه عند العرب في القرون الوسطى"، وهو ممن يرون أن البحث في هذا الموضوع صعب عسير، وأن البت فيه غير ممكن في الزمن الحاضر، لقلة الموارد وعدم وجود أخبار وروايات واضحة صريحة يمكن أن يستند إليها في ابداء رأي علمي ناضج في الموضوع.

والذي أراه إن اهل الحجاز كانوا يتبعون التقويم الشمسي مع مراعاة الإهلال، أي تقويماً شمسياً قمرياً، بدليل إن لأسماء الأشهر علاقة بالجو من برد وحر، وربيع وخريف. فقد ذكر علماء اللغة إن الربيع انما سمي ربيعاً، لارتباعهم فيه والارتباع الاقامة في عمارة الربع، وأن "جمادى" سمي بذلك لجمود الماء فيه، أي انهما من أشهر الشتاء. قال الشاعر: وليلة من جمـادى ذات أنـدية  لايبصر العبد في ظلمائها الطنبا 

لاينبح الكلب فيها غـير واحـدة  حتى يلف على خرطومه الذنبا

وأن رمضان من شدة الرمضاء، وهو الحر. ولا يعقل أن تكون هذه التسميات قد جاءت عفواً ومن غير ارتباط بحالة من حالات الطبيعة. وقد انتبه المتقدمون إليها، فقال بعضهم "وكانت الشهور في حسابهم لا تدور"، ولكن بعضهم لم يقبل بذلك إذ قال: "وفي هذا نظر، إذ كانت شهررهم بالأهلة، فلا بد من دورانها"، وقال في تفسير اسم جمادى "فلعلهم سموّه أول ما سمي عند جمود الماء في البرد".

والذي أراه إن تلك الأشهر كانت ثابتة لا تدور، بمعنى انها كانت ثابتة في مواسمها، يسيرون بموجبها في زراعتهم وفي أسفارهم، ولكنهم كانوا يسيرون على الإهلال، أي الشهور القمرية فى أمورهم الإعتبادية وفي الأعمال المالية، مثل الديون، حيث يسهل تثبيت المدة بعّدد الأهلة، ومن هنا أختلط الأمر على أهل الأخبار فخلطوا بين التقويمين، بسبب عدم وضوح الروايات. وكأن شأنهم في ذلك شان العرب الشماليين آلذين كانوا يحجون في وقت واحد ثابت، هو في شهر "ذي الحجة"، الذي تحدثت عنه في مكان آخر، وشأن العرب الجنوبيين الذين كانوا يحجرن في شهر "ذي الحجهّ" الذي كان وقته ثابتاً أيضاً، فلا يكون في صيف، ثم يكون في ربيع أو فيَ خريف أو في شتاء، ولا يعقل خروجهم على هذا الاجماع الذي نراه عند العرب الشماليين، أي عرب بلاد العراق وعرب بلاد الشام، وينفردون وحدهم باتخاذ تقويم قمري بحت.

ما ذكرناه عن النسيء وعن الكبس يخص عرب الحجاز، وأهل مكة بصورة خاصة، ولا يتناول العرب الجنوْبيين، ولا عرب بقّية أنحاء جزيرة العرب، لعدم وجود أخبار لدينا عنهما تتناول المواضع الأخرى، لا في النصوص الجاهلية ولا في أخبار أهل الأخبار. ولكن الذي يظهر من النصوص العريية الجنوبية المتعلقة بالزراعة ومن أسماء الشهور، أنها كانت شهرراً ثابتة، اي شهوراً شمسية لا قمرية، وأن السنة التي كانوا يسيرون عليها سنة شمسية، غير أن هذا لا يمنع مع ذلك من سيرهم على مبدأ الإهلال في حياتهم الاعتيادية، أي على الشهور القمرية، بحيث تكون الرؤية مبدءاً للشهور، وذلك لوضوح الأهلة وإمكان رؤيتها بسهولة وتثبيت الأوقات بموجبها، بمعنى انهم كانوا يسيرون على التقويمين: التقويم الشمسي في الزراعة وفي دفع الغلات، والتقويم القمري في الأمور الآعتيادية. ولا نستطيع أن نتحدث عن كيفية احتساب العرب الجنوبيين للسنة الشمسية، ولا عن الكبس عندهم، لعدم ورود شيء عنهما في النصرص.

ويظن أن سنة العرب الجنوبيين كانت من "360" يوماً، مقسمة إلى اثني عشر قسماً، اي شهراً، نصيب كل شهر منها "30" يوماً. وحيث أن هذا المقدار من الأيام، وهو "360" يوماً هو دون الآيام التي تمضيها الأرض في دورانها الحقيقي حول الشمس، لذلك كانوا يعوضون عن الفرق إما بإضافة الأيام اللازمة على أيام السنة لتكبسها فتجعلها مساوية للسنة الطبيعية، و ذلك في كل سنة، وإما بإضافة شهر كبيسة مرة واحدة في نهاية كل ست سنوات.

ويظن "بيستين"، أن القتبانيين قد أخذوا بالطريقة الثانية: طريقة إضافة شهر زائد كامل على التقويم في كل ست سنوات، لتتعادل السنة بذلك مع السنة الطبيعية، وان ذلك الشهر المضاف هو الشهر المسمى ب "ذ برم اخرن"، اي ب "ذى برم الآخر"، أو "فى برم الثاني"، عند القتبانيين وبشهر "ذ نسور اخرن"، أي "ذى نسور الآخر"، أو "ذى نسور الثاني" عند السبئيين.

ووردت في احدى الكتابات جملة "بين خرفهن"، أي بين السنتين. وقد رأى "ونكلر"، انها تعني الأيام التي تضاف إلى نهاية السنة لكبسها حتى تكون سنة طبيعية كاملة. أي سنة شمسية، ولذلكُ عبر عنها ب "بين السنتين"، أي الاضافة التي توضع فيما بين السنتين. السنة المتقدمة والسنة التالية لها.وذهب "كريمه" إلى انها تعني شهراً، هو الشهر الني يضاف على التقويم لكبس السنين، ويرى "بيسين"، إن هذا الرأي يصعب قبوله، لأنه لو كان شهراً كاملا، لسموه باسم معين، أو لرمزوا إليه برمز يميزه عن شهور السنة الأخرى، كأن يقولوا له "اخرن"، أي الاخر، أو الثاني.

أما اليهود، يهود جزيرة العرب، فقد كانوا يسلكون طريقتهم الخاصة في التوقيت، ويسلكون منهجهم في تعيين الشهور، كما يتأيد ذلك من الأخبار التي نجدها عنهم في كتب الأخباريين.

واما النصارى العرب، فقد كانوا يتبعون التقاويم الشرقية، ويسيرون على الشهور السريانية المعروفة، وعلى وفق شعائر الكنيسة، ويحتفلون باعيادهم على وفق ما ثبت عندعم في كنيستهم. وقد أشير إليها في بعض الشعر الجاهلي وفي كتب الأخباريين.

الفصل الرابعُ والثلاثون بعد المئة
التقاويم والتواريخ

التقاويم

هناك نوعان من السنين: سنيين بنيت على أساس الشهور القمرية التي تثبت بمراقبة القمر، وسنتها سنة قمريةLunar Year. والتقويم الذي يقوم عليه تقويم قمري. وسنْون بنيت على أساس شمسيSolar Year. والتقويم القائم عليها، تقويم شمسي،، شهوره ثابتة لا تتغير. وعدة الشهور عند العرب اثنا عشر شهراً، سواء كانت السنة شمسية أم قمرية.

ولقد قلت فيما سبق: يظهر من النصرص الجاهلية، أن أهل العربية الجنوبية كانوا يعملون بالتقويم الشمسي، وفقاً للمواسم الزراعية، لأننا نراهم في هذه النصوص يزرعون ويبذرون ويحصدرن في شهور معينة، ويدفعون الضرائب في مواسم ثابتة، كما نرى أن أسماء الشهور، عندهم ذات معان متصلة بالطبيعة، مثل الجفاف، والمطر، والحر، والبرد، والربيع، والخريف، ولو كانت سنتهم سنة قمرية محضة، لما سموّا أشهرهم بأسماء اشتقت من الحر والبرد واعتدال الجو. وحلول الخريف، إذ لا يعقل وقوع المعاني المذكورة مع تغير الشهور وعدم استقرارها على حال من الأحوال. إلا أن تواريخهم بالسنة الشمسية، لم يمنعهم من التوريخ بالتقويم القمري في أمورهم الاعتيادية، كما في وفاء الديون، وأخذ الديات، والبيع والشراء، والأسفار، لوضوح الشهر القمري، وامكان حساب الأهلة وضبط عددها بسهولة ويسر، فيسهل على المتعاقدين التعاقد بموجب عدد الأهلة، أما الزراعة، وتربية الحيوان ودفع الضرائب وما شابه ذلك، فلا صلة لها بالأهلة،وإنما صلتها بالمواسم والفصول، وهي من مكونات السنة الشمسية، إذن كان العرب الجنوبيون يؤرخون ويعملون بتقويمين: تقويم قمري، وآخر شمسي.

استعمل العرب الجنوبيون التقويم الشمسي في الزراعة، واستعملوا التقويم القمري للاغراض التي ذكرتها، والتقويم النجمي، أي التقويم، الذي يقوم على رصد النجوم لأغراض دينية وللوقوف على الأنواء الجوية لما لها من صلة بالزراعة وبالحياة العامة.

ويتبين من النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية، ومن النصوص النبطية، ومن نص النمارة، إن اصحابها كانوا يتعاملون وفقاً للتقويم الشمسي في الأمور التي لها اتصال مباشر بالطبيعة، ووفقاً للتقويم القمري في الآمور الأخرى، لسهولة ضبط الأهلة، وتحقيق العقود بموجبها.،واذا كان الحال على هذا المنوال عند هؤلاء وعند العرب الجنوبيين، فبامكاننا القول إن بقية الجاهليين، ممن لم يتركوا لنا نصوصاً، كانوا يتبعون التقويمين كذلك، جرياً على سنهَ الناس في ذلك العهد، ومنهم الأعاجم، من اتباعهم التقويمين المذكورين في تنفيذ العقود والالتزامات وفي ضبط الأزمنة.

ومما يؤيد اتباع العرب الشماليين للتقويم الشمسي، ما ذكره الكتّاب اليونان واللاتين، من أن العرب كانوا يقيمون طقوسهم الدينية ويؤدون شعائرهم المقدسة كالحج إلى المحجات في أوقات ثابتة، فقد ذكر "افيفانيوس"، إن للعرب شهراً يحجون فيه إلى محجاتهم، ويقع ذلك في شهر "تشرين الثاني"، كما ذكر "بروكوبيوس"، إن العرب كانوا قد جعلوا شهرين في السنة حرماً لآلهتهم لا يغزون فيهما ولا يهاجم بعضهم بعضاً، ويقعان في تموز وآب، وذكر "فوثيوس"، أن العرب كانوا يحتفلون مرتين في السنة بالحح إلى معبدهم المقدس: مرة في وسط الربيع عند اقتران الشمس ببرج الثور، و ذلك لمدة شهر واحد، ومرة أخرى في الصيف، و ذلك لمدة شهرين. وفي هذه الاشارات إلى الأشهر المقدسة، والى كونها ثابتة لا تتغير بتغير المواسم، دلالة على سير العرب في تقويمهم، وفقاً للتقويم الشمسي.

وقد عرف التاريخ عند الجاهليين، بدليل عثور الباحثن على نصوص كثيرة مؤرخة. وقد زعم علماء اللغة تد أن التأريخ الذي يؤرخه الناس ليس بعربي محض، وأن المسلمين أخذوه من اهل الكتاب"، وفي كلامهم صحة، إذا كان قصدهم التأريخ العام للعالم، الذي يبدأ وفقاً لما جاء عند أهل الكتاب من الخلق وظهور آدم فالأنبياء والرسل والملوك إلى أيامهم، وفيه خطأ، إذا قصدوا به، التأريخ مطلقاً، أي تثبيت الوقت، على نحو ما نفهم من قولنا أرخت الحادث، وأرخت الكتاب، فقد عرف التأريخ عند الجاهلين، بدليل وروده في نصوصهم. واستعمالهم لفظة "بورخ"، للتأريخ. وكلمة "ورخ"، من الكلمات الواردة بكثرة في النصوص، ومنها لفظة "توريخ" و "ورخ" بمعنى أرخ في عربيتنا. ولفظة "أرخ" نفسها هي من هذا الأصل.

وقد عرف "الجاحظ" أن الجاهليين كانوا يؤرخون إذ قال: "وكانوا يجعلون الكتاب حفراً في الصخور، ونقشاً في الحجارة، وخلقة مركبة في البنيان؛ فربما كان الكتاب هو الناتىء، وربما كان الكتاب هو الحفر، إذا كان تأريخاً لأمر جسيم، أو عهداً لأمر عظيم، أو موعظة يرتجى نفعها، أو احياء شرف يريدون تخليد ذكره، أو تطويل مدته، كما كتبوا على قبة غمدان... وعلى عمود مأرب وعلى ركن المشقر، وعلى الأبلق الفرد... يعمدون إلى الأماكن المشهورة، والمواضع المذكورة، فيضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور، أمنعها من الدروس، وأجدر أن يراها من مر بها، ولا تنسى على وجه الدهر.

ثم قال: "وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها... ثم إن العرب أحبت أن تشارك العجم في البناء، وتنفرد بالشعر، فبنوا غمدان، وكعبة نجران وقصر مارد، وقصر مأرب، وقصر شعوب، والأبلق الفرد، وفيه وفي مارد، قالوا: تمرد مارد وعز الأبلق، وغير ذلك من البنيان". ثم تعرض لأهمية الكتب ولشأنها في تخليد الذكرى،فقال: "والكتب بذلك أولى من بنيان الحجارة وحيطان المدر، لأن من شأن الملوك إن يطمسوا على آثار من قبلهم، وأن يميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السبب أكثرالمدن واكثر الحصون، كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية، وعلى ذلك هم في أيام الإسلام، كما هدم عثمان صومعة غمدان، و كما هدم الآطام التي كانت بالمدينة، وكما هدم زياد كل قصر ومصنع كان لابن عامر،وكما هدم أصحابنا بناء مدن الشامات لبني مروان".

وتتناسب أساليب التأريخ مع درجة عقلية المؤرخ ومستواه العقلي، لذلك نجد التواريخ بالأمور العادية البسيطة بين الرعاة والأعراب والسوقة من الناس، بينما نجد غيرهم ممن هم فوقهم درجة في العقل والثقافة يؤرخون بمناسبات لها شأن وأهمية، مثل التقاويم العامة المهمة، المثبتة بمبدأ، حيث يؤرخ بموجبها.

وقد تبين لنا من دراسات نصوص المسند، أن أصحابها استعملوا جملة طرق في تأريخهم للحوادث، وتثبيت زمانها، فأرخوا بحكم الملوك، فكانوا يشيرون إلى الحادث بأنه حدث في أيام الملك فلان، من غير تعيينه بسنين، و ذلك كما في هذا المثل: "بيوم اليفع يشر ملك معنم"، أي "بيوم اليفع يشر ملك معين"، و "بيوم يذمر ملك وترال". ومعناهما في "أيام حكم اليفع يشر ملك معين"، أو" وكان ذلك في حكم اليفع يشر ملك معين" بالنسبة للفقرة الأولى و "في أيام يذمر ملك وترايل"، أو "في حكم يذمر ملك ووتر ايل"، أو "وكان ذلك في ايام حكم يذمر ملك وترايل" بالنسبة للجملة الثانية. فلم يذكر النص السنة التي دون فيها النص، أو أرخ،فبها النص من سني حكم الملك المذكور. وهي سنون قد تكون قصيرة، وقد تكون طويلة. ولفظة "يوم" هي بمعنى: "حكم" و "أيام".

وقد يؤرخ بحكم موظف من كبار موظفي الحكومة من حملة درجة "كبر" "كبير"، مثلاً، أو غيرها من الدرجات العالية في الحكومة أو في المجتمع. كما ارخوا بايام الرؤساء والسادات وأرباب الأسر. وليس العرب الجنوبيون بدعاً في هذا الباب، فقد كان غيرهم يؤرخ بهذه الطرق. و ذلك قبل توصلهم إلى اتخاذ تقويم واحد ثابت له بداية معينة تؤرخ به.

والغالب ذكر اسم الشهر مع حكم الكبير أو الرئيس أو أي انسان أخر، كما في هذا المثال: "بورخ ذ طنفت ذ كبر ايتم ذ عرقن"، ومعناها "بشهر ذو طنفت من كبارة أيتم ذو عرقن"، وبعبارة أوضح "بشهر ذو طنفت من حكم الكبير أيتم ذو عرقن"، و "ذو طنفت"، اسم شهر من الشهور.

والكتابات المؤرخة بهذه الطريقة، على انها احسن حالاً في نظرنا من الكتابات المهملة التي لم يؤرخها أصحابها بتأريخ، إلا اننا قلما نستفيد منها فائدة تذكر. إذ كيف يستطيع مؤرخ أن يعرف زمانها بالضبط، وهو لا يعرف شيئاً عن حياة الملك الذي أرخت به الكتابة، أو حكمه، أو زمانه، أو زمان الرجال الذين أرخ بهم? لقد فات أصحاب هذه الكتابات إن شهرة الإنسان لا تدوم، وأن الملك فلاناً، أو رب الأسرة فلاناً، أو الزعيم فلاناً سينسى بعد اجيال، وقد يصبح نسياً منسياً، لذلك لا بجدي التأريخ به شيئاً، وذاكرة الإنسان لا تعي إلا الحوادث الجسام. لهذا السبب لم نستفد من كثير من هذه الكتابات المؤرخة على وفق هذه الطريقة، وإن استفدنا منها في آمور أخرى لا صلة لها بتثبيت تواريخها.

وقد تجمعت لدينا أسماء أشخاص أرخ الناس بأيامهم لأنهم كانوا أصحاب جاه ونفوذ، لكننا لا نعرف اليوم من أمرهم شيئاً، لأن النصوص لم تذكر شيئاً عنهم، وعن.أيامهم،منهم: "عم على" من "آل رشم" من عشيرة "قفعن"، و "موهم ذ ذرحن"، أي "موهب ذو ذرحان". و "غوث ايل" من "آل بيحان" "بيحن". و "شهر يجر"، و "ذران، "ذرءان".، و "اب على بن شحز"، أي "أبو على" من قبيلة "شحر". وكل هؤلاء الذين أرخ بهم هم من قتبان.

ومن الاسر التي أرخ بأيامها اسرة "نبط"و "مبحظ" و "حظفرم كبر خلل" "حزفر كبير خليل" و "حذمت" و "فضحم".

كا تجمعت لدينا أسماء عدد من الأشهر في اللهجات العربية الجنوبية المختلفة، تحتاج إلى دراسة لمعرفة ترتيبها بالنسبة للمواسم والسنة. ويظهر انهم كانوا يستعملون احياناً مع التقويم الذي يؤرخ بحكم الرجال، تقويماً آخر هو التقويم الحكومي، وتختلف اسماء شهور هذا التقويم عن أسماء شهور التقاويم التي تؤرخ بالرجال.

وقد تغير الحال في كتابات المسند منذ سنة "115" قبل الميلاد، على رأي غالبية الباحثين، أو السنة "109" على رأي "ريكمنمس"، اذ أرخت بتقويم ثابت أرخت بموجبه إلى قبيل الإسلام. مبدأه سنة سقوط حكومة سبأ وتكوين حكومة "سبأ وذي زيدان"، على رأي بعض علماء العربيات الجنوبية، فأرخ بهذا الحادث، ولا سيما في الكتابات الرسمية المتأخرة. ويرى "بيستين" أن مبدأ هذا التقويم غير مضبوط، وأن مبدأه فيما،بين السنة 118 - 0 1 1 قبل الميلاد. ويرى أيضاً أن العرب الجنوبيين لم يؤرخوا به في هذا العهد، لأن النصوص التي تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد كانت لا تزال تؤرخ بالتاريخ القديم، أي بالتواريخ الغير الثابتة، مثل التأريخ بأيام الملوك والكبراء والكهنة وأمثالهم، فلو كانوا يؤرخون به لما أهملوه. ويرى انهم انما أرخوا به بعد ذلك، في حوالي القرن الثالث للميلاد.

وقد ساعدنا هذا التقويم على تثبيت تواريخ عدد من النصوص أرخت بموجبه، وعلى معرفة تأريخ هذه الحقبة التي أرخت بها. ولكن النصوص المؤرخة قليلة العدد، ثم إننا لا نملك نصاً واحداً منها من ابتداء العهد بالتأريخ به، كذلك لا نملك نصوصاً مؤرخة يعود عهدها إلى قبل الميلاد، أو إلى القرن الأول أو الثاني منه، وأقدم نص مؤرخ بهذا التقويم، هو النص الموسوم ب CIH 46، وتأريخه سنة "385" من هذا التقويم، وهو يساوي السنة "0 27" أو "276" للميلاد. وهو من ايام الملك "يسرم يهنعم" "ياسر يهنعم" ملك سبأ وذي ريدان وابنه "شمر يهرعش". ويراد بهما "ياسر يهنعم" الثاني و "شمر يهرعش" الثالث على رأي "فون وزمن". ونص آخر للملك "ياسر يهنعم"، تأريخه سنة "274" أو "0 28" للميلاد. والنصى الموسوم ب MM 150=CIH 448 وهو يساوي سنة "1 28" أو "287" بعد الميلاد.

وهناك نصوص مؤرخة أخرى من أيام الملك "شمر يهرعش"، ونصوص من بعد أيامه حتى أيام تملك الحبشة لليمن. أما بعد أيام الحبشة في اليمن، أي أيام استيلاء الفرس عليها ثم أيام دخولها في الإسلام، فلم يصل الينا منها نص، لا مؤرخ ولا غير مؤرخ.

وآخر هذه النصوص المؤرخة، هو النص الموسوم بCIH 525، وتاريخه سنه - "669" من التأريخ الحميري، وهو يقابل سنة "554" للميلاد. ويمكن أن نقول إن هذا النص هو آخر نص مؤرخ عثر عليه لا في المسند وحده، يل في كل اللهجات العربية الأخرى، وهو أقرب تلك الكتابات عهداً بالإسلام. ويلاحظ إن بعض الكتابات المؤرخة تذكر لفظة "بورخ" أو "ورخسن" "ورخ"، ثم تذكر بعدها اسم الشهر الذي أرخ النص به، ثم عدد السنين بالنسبة للتقويم. ويراد بها معنى "شهر"، و ذلك كما في هذه العبارة: "ورخس ذو سحر.."، أي "في شهر ذو سحر.."، و "بورخْ ذو خرف.."، أي "بشهر ذو الخريف 00"، أو "بورخ ذ معن"، أي "بشهر في معان.." "بشهر ذي معين"، "بشهر ذي معون"، وهناك كتابات مؤرخة استعملت لفظة "ورخهو" بمعنى "وتأريخه". كما في هذه الجملة: "ورخهو ذ لثني وسثي وسث ماثم"، أي "وتاريخه لسنة اثنين وستين وست مئة"، وبعبارة أوضح: "وتأريخه لسنة اثنين وستين وست مئة".. فاستعملت لفظة "ورخهو" اذن،، بالمعنى العلمي الذي نستعمله اليوم حين نؤرخ عهودنا ووثائقنا، فتقول: "أرخت ب.." أو "تأريخها.." وترد لفظة "خرفن"، أي سنة قبل عدد السنن في بعض النصوص، مثل: "خرفن ذ لثلئت واربعي وخمس ماتم"، ومعناها: "السنة الثالثة والأربعين بعد الخمس مئة، وقد تلحق لفظة "خرفتمْ"، بعد عدد السنين. كما في هذا المثال: "ورخهو ذ حجتن ذل اربعي وسث ماتم خرفتم". ومعناه: "تأريخه أو شهره ذو الحجة لأربع وستمائة سنة". وتقابل هذه السنة سنه "489" أو "495" للميلاد.

ويلاحظ أن النصوص السبئية المؤرخة قد أرخت بتقويمين: تقويم عرف ب "خريفتم بن خريف نبط"، "خرفتم بن خرف نبط"، أي ب "سنين من سنة نبط"، ومعناه أن هذه السنين المذكورة، هي وفقاً للتقويم الجاري على سني "نبط"، أو تقويم "نبط"، وتقويم آخر قدّرت السنين فيه وفقاً لسني "مبحض بن ابحض"، "ذ بخرفن ذل بن خرف مبحض بن ابحظ"، ويشير ذلك إلى وجود مبدأين للتأريخ عن السبئين: التأريخ بتقويم "نبط"، والتاريخ بتقويم "مبحض بن أبحض". و ذلك في الكتابات التي تعود إلى القرن الثالث ونهايته لما بعد الميلاد. كالكتابات التي تعود إلى أيام "ياسر يهنعم" و "شمر يهرعش"، أما الكتابات المتأخرة، فقد اختفت منها هاتين التسميتين، ويظن انهم اخلوا بالتأريخ بتقويم "مبحض" ولذلك اهملوا الاشارة إلى الآسم. لأنه كان معلوماً عندهم. ويرى "بيستين" إن الفرق بين التقويمين هو قرابة نصف قرن أو ثلألة أرباع قرن.

وأسلوب التوريخ في النصوص السبئية المتأخرة هو أن تذكر لفظة "ورخن" أولاً، ثم اسم الشهر من بعده، ثم السنة، كان تقول: "ورخهن ذ مذرن ذل 316 خرفتم بن خرف نبط"، أي "وبشهر ذ مذران ل 6 31 سنة من سنة نبط"، أو "وبتاريخ ذ مذران من سنة 316 من سني نبط"، أو مثل "ورخهو ذ داون ذ لخرفين ذل اربعت وسبعى وخمس ماتم"، أي "وشهره ذ داوان للسنين التي هي 574"، أو "وتاريخه ذ داوان للسنة 574"، ومثل: "خرفن ذل ثلثت واربعى وخمسمس ماتم"، أي "سنة 543"، ومثل: "وخرفهو ذ حجتن ذل اربعى وسث ماتم خرفتم"، أي "وشهره ذو الحجة لأربعين وستمائة سنة"، أو "وتأريخه ذو الحجة الموافق ل 640 سنة مضت"، ومثل: "وخرفهو ذل ثنى وسثى وسث ماتم"، أي "وتأرنحه لاثنين وستين ومائة".

ومن الغريب إن أهل الأخبار قد أغفلوا الاشارة إلى هذا التقويم فلم يذكروا عنه شيئاً، ولم يشيروا إلى أن العرب الجنوبيين كانوا يؤرخون به، مع أهميته وكونه تقويماً رسمياً.

هذا، وان في استطاعتنا القول بان اليمن لم تسر رجماً على التقويم العبراني أو التقويم النصراني، حتى في أيام احتلال الحبش الأخير لليمن، أو في أيام استيلاء الفرس عليها، و ذلك بدليل توربخ أبرهة عامل الحبشة على اليمن، وهو نصراني، نصوصه بالتقويم اليماني المستعمل في اليمن الذي تحدثت فيما سلف عن مبدئه، مع أنه حاكم اليمن وممثل الحبش فيها وهو نصراني. وبدليل توريخ عدد من كابات المسند المتأخرة من عهد لا يبعد كثيراً عن الإسلام بهذا التقويم. وليس بالتقويمين المذكورين،أو بأيَ تقؤيم آخر من التقاويم المستعملة عند الشرقيين.

ولكن ما أذكره لا يعني بالطبع عدم احتمال توريخ يهود اليمن أو نصاراها او غيرهم بتقويم أخرى، مثل التقويم العبراني او الميلادي، أو غيرهما. وما اقوله هو عن التقويم الرسمي المدون في المسند، وربما سيعثر في المستقبل على نصوص تعود إلى عهد احتلال الحبش، لليمن، يرد فيها التاريخ بأيام الحبش فيها، أو بالتاريخ الرسمي الذى كان يتبعه الأحباش في مملكتهم.

أما العرب الشماليون، عرب العراق وبادية الشام وبلاد الشام، فلم يرد الينا من نصوصهم المؤرخة إلا عدد محدود، منها نص النمارة الذي يعود عهده إلى السنة "328" للميلاد. وهو مؤرخ بتقويم بصرى، وبصرى مركز مهم، كان يقصده عرب الحجاز للاتجار وقد وصل إليه النبي، وكان عرب هذه المنطقة يؤرخون به. ويبدأ هذا التقويم بدخول بصرى في حوزة الروم سنة "105" أو "106" للميلاد، أي السنة التي تم فيها القضاء على حكومة النبط والحاق "بترا" ب "الكورة العربية".

ولهذا فإذا اردنا تحويل سنة من السنين الني أرخ بها وفقاً لتقويم بصرى، قعلينا اضافة الرقم "105" أو "106" على سني تقويم بصرى، فيكون حاصل الجمع السنة وفقاً للتقويم الميلادي تقريباً. فتأريخ نص النمارة هو سنة "223" من تقويم بصرى، وقد أضفنا إليه الفرق وهو "105"، فصار الحاصل "328"، وهو ما يقابلها من سني الميلادّ.

وقد أرخت كتابة "حران" اليونانية بسنة أربع مئة وثلاث وستين من الأندقطيًة الأولى، وهي تقابل سنة 568للميلاد، والأندقطية هي دائرة ثماني سنين عند الرومانيين، وكانت تستعمل في تصحيح تقويم السنة. أما النص العربي فقد أرخ بسنة "463"، بعد مفسد خيبر بعام. ويراد بجملة: "بعد مفسد خيبر بعم"، غزوة قام بها أحد أمراء غسان أو غيره لخيبر، و ذلك في رأى الأستاذ "ليتمان". وعندي أن السنة "463"، التي أرخ بها النص العربي، هي من سني تقويم بصرى، بدليل اننا لو أضفنا إليها الرقم "105" المذكور، صار الحاصل "568"، وهو كناية عن سني الميلاد، المقابلة لسني بصرى. وعلى ذلك يكون تدوين هذا النص قد تم بعد غزو خيبر بعام، لكي لن هذا للغزو قد وقع س!نة "567" للميلابر، وقد كان "لطلرث بن جبلة" يحكم "غسان" آنذاك، فتصدق رواية "ابن قتيبة" حينئذ التي تذكر انه غزا خيبر، وسبا أهلها ثم أعتقهم بعدما قدم الشام.

وقد استعمل التقويم الذي يؤرخ بحكم "الاسكندر" تقويماً عند اليونان وفي بلاد الشام، وعند عرب بلاد الشام أيضاً. ومبداه الأول من شهر نيسان لسنة "311" قبل الميلاد، وتجد أثر التاريخ بهذا التقويم في الروايات التي يرويها أهل الأخبار عن عرب بلاد الشام والعراق. وقد بقي الناس يؤرخون به إلى آن حل التقويم الميلادي محله، فنسي ذلك التقويم. وذكر "المسعودي" أن ما بين الاسكندر إلى المسيح ثلثمائة سنة وتسع وستون.

وقد كان الصفويون مثل غيرهم يؤرخون بالحوادث التي يكون لها شأن عندهم" مثل حروبهم بعضهم مع بعض، أو حروبهم مع غيرهم مثل النبط أو الروم. وقد أرخ بعضها بحوادث ذات صفة خاصة وعائلية، مثل "سنة قتله خاله"، أو "سنة وفاة والده". وهي حوادث لا يمكننا الاستفادة منها في استنباط تأريخ منها، لأننا لا نعرف من امرها شيئاً. غير أن هنالك نصوصاً مؤرخة أفادتنا بعض الإفادة في الوقوف على التوقيت عند الصفويين. ففي نص لرجل اسمه "انعم بن فخش"، ما يفيد أنه استولى على غنائم "سنة الحرب مع النبط". ويقصد بسنة الحرب مع النبط، السنة الي قضى فيها الرومان على مملكة النبط، وهي سنة "105" أو "106" للميلاد. وقد صارت هذه السنة مبدءاً للتأريخ في "بصرى"، وعند العرب الصفويين.

ولدينا نص صفوي آخر، أرخ ب "سنت حرب همدى ال روم"، أي "سنة محاربة الميديين الروم"، أو "سنة حرب الميديين الروم". ويرى "ليتمان" انه قد توصل إلى ضبط تاريخ هذه الحرب. وهناك نص أرخ ب "سنت قتل ال حمد"" ويطن انه يشير إلى معركة دارت على قبيلة تسمى "آل حمد". وصاحب النص رجل من قبيلة تسمى "الرحبة"، ولا زال الأعراب يؤرخون بأيام قتالهم بعضهم مع بعض.

ونحن لا نعلم اليوم كيف كان يؤرخ أهل الحيرة أو الغساسنة، لعدم ورود نصوص مدونة عن ذلك سوى ما ذكرته من نص النمارة المؤرخ بموجب تقويم بصرى. ولا أستبعد احتمال استعمال أهل الحيرة التقاويم العراقية أو الفارسية التي كانت شائعة عندهم في ذلك العهد أساساً للتاريخ. وقد يكون من بينها التقوم النصراني بالنسبة للنصارى، وينطبق ذلك على نصارى الغساسنة ايضاً، كما لا أستبعد استعمال الغساسنة لتقويم الروم. وللتقاويم العربية المألوفة التي تستعمل الأساليب المحلية في تثبيت التواريخ. ويظهر من تاريخ "ابن الكلبي،" لحوادث الحيرة وعرب العراق بتقويم الساسانيين لتواريخ ملوكهم، إن أهل الحيرة كانوا قد دوّنوا تواريخهم بموجبها، ولكن هذا لا يمنع من احتمال اخذ ابن الكلبي أقواله في تواريخهم من تواريخ الفرس ومن رواتهم رأساً، فلا يكون عندئذ ذكره لتواريخهم. دليلاً على تأريخ أهل الحيرة بتقويم الفرس.

ويروي اهل الأخبار أن العرب كانوا يؤرخون بالحوادث العظام التي تحدث لهم، من ذلك عام الخُنان. وهو عام وقع فيه كما يقولون مرض خطير عضال فتك بالناس وبالإبل، فأرخوا به، ورووا في ذلك شعراً للنابغة الجعدي. وقد وقع زمن الخنان في عهد المنذر بن ماء السماء، وماتت الابل منه، فصار ذلك تأريخاً لهم. ويظهر أنه كان وباء فتك بالناس وبالإبل، وانتشر في العراق وفي نجد، فأرخ به لأهميته بالنسبة لهم، والتاريخ بالأوبئة شيء مألوف، وأهل بغداد كانوا يؤرخون بطاعون وقع عندهم في عهد العثمانيين وقبل الحرب العالمية بسنوات ولا زال الشيبة يؤرخون به.

وكان أهل مكة يؤرخون بما يقع عندهم من أحداث جسيمة، فإذا أرخوا بحادث ومضى عهد عليه، ووقع لهم حادث آخر أكثر أهمية وشعبية منه، ارخوا به. فتوالت لهم عدة تواريخ، نسخت بعضها بعضعاً، فأرخوا كما يذكر أهل الأخبار بعام رئاسة عمرو بن ربيعة المعروف بعمرو بن لحي، وهو الذي يقال انه بدل دين إبراهيم، وحمل من مدينة البلقاء صنم هُبَل.، وعمل اسافأَونائلة، و ذلك كما يقال في زمن "سابور ذي الأكتاف". وأرخوا بعام موت كعب بن لؤي إلى عام الغدر، وهو الذي نهب فيه بنو يربوع ما أنفذه بعض ملوك حمير إلى الكعبة من الكسوة، ووثب بعض الناس على بعض في المواسم. ثم ارخوا بعام الغدر إلى عام الفيل الذي أرخوا به. قال "الجاحظ": "ومن الخطباء القدماء كعب بن لؤي، وكان يخطب على العرب عامة، ويحض كنانة على البر، فلما مات اكبروا موته، فلم تزل كنانة تؤرخ بموت كعب بن لؤي إلى عام الفيل.

وذكر "اليعقوبي". أن قريشاً كانوا يؤرخون بالسنين، يؤرخون بموت "قصي" لجلالة قصي عندهم، فسنة وفاته هي مبدأ تأريخهم إلى أن كان عام الفيل، فأرخوا به لاشتهار ذلك العام.

وذكروا أنهم أرخوا بعام وفاة هشام بن المغيرة المخزومي"وهو والد أبي جهل، وكان من رؤساء بني مخزوم، وله صيت عظيم بمكة، كما كان سيد قريش في زمانه. وقد مات بالرعاف، ذكر أنه كان آخر من مات به من سادة قريش. وزعموا أن الرعاف من منايا "جرهم" أيام جرهم، وأنه أهلكهم، فأرخوا به. قال بشير بن الحجير الإيادي: ونحـن إياد عـبـادُ الإلـه  ورهط مناجيه في سُـلـم

ونحن ولاة حجاب العتـيق  زمانَ الرعاف على جرهم 

وورد "زمان النخاع" في موضع "زمان الرعاف"، وهو داء أيضاً، زعم أنه فتك بجرهم، فهلك منهم ثمانون كهلا في ليلة واحدة سوى الشبان. فهو وباء أيضاً زعم أن الناس أرخوا به.

وأرخوا بعام الفيل، بقوا يؤرخون به إلى أن أرخ بالهجرةْ. وقد ترك الحادث أثراً مهماً في ذاكرة قريش، ولهذا ذكروا به في القرآن، حتى يتعظوا به. ويجعلون عام الفيل في الثانية والأربعين من ملك كسرى أنو شروان، وقبل ولاية النعمان بن المنذر المعروف ب "أبي قابوس" بنحوٍ من سبع عشرة سنة، وهي احدى وثمانين وثمانمائة لغلبة الاسكندر على دارا، وهي سنة الف وثلاثمائة وستة عشر لابتداء ملك بخت نصر. وهو العام الذي ولد فيه الرسول على،أغلب الروايات، وأرخت قريش بيوم الفجار وبحلف الفضول.

وكانوا يسمون السنين بالحوادث الخطرة الجليلة الني تقع فيها. وقد فعل ذلك المسلمون أيضاً في صدر الإسلام، فسموا كل سنة مما بين الهجرة والوفاة باسم مخصوص بها مشتق مما اتفق فيها للنبى. فسموا السنة الأولى للهجرة سنة الأذن، والثانية سنْة الأمر بالقتال، والثالثة سنة التمحيص، والرابعة سنة الترفئة، والخامسة سنة الزلزال، والسادسة سنة الاستئناس، والسابعة سنة الاستغلاب، والثامنة سنة الاستواء، والتاسعة سنة البراءة، والعاشرة سنة الوداع،فكانوا يستغنون بذكرها عن عددها من لدن الهجرة.

ُأما الأعراب، فتواريخهم برئاسة ساداتهم، وبالأحداث التي تقع لهم من أفراح وأتراح، ومن غزو أو نكبة، وبالعوارض الطبيعية، مثل سقوط مطر غزير، لو انحباسه مدة طوبلة، او هزة أرضية، أو ظهور جراد، أو وقوع وباء، وما اشبه ذلك من أمور، وهم على هذا النوع من التأريخ حتى اليوم. وليس في الذي رواه أهل الأخبار عن أهل للجاهلية ما يشير إلى وقوف العرب على كتب في التأريخ يونانية أو لاتينية أو سريانية أو عبرانية، أو على معربات لها. وليس في كل الذي ذكروه اسم مؤرخ من المؤرخين الذين نجلتهم الشعوب المذكورة، غير إن هذا لا يمكن أن يكون دليلاً على عدم وقوفهم على تواريخ تلك الأمم وأخبارهم، ففي القصص المنسوب إلى الجاهليين، قصص يدل على انه مأخوذ عن تلك الأمم مستورد منها ثم إن أهل الأخبار ألعجم أشاروا إلى نفر ذكروا عنهم انهم نظروا في كتاب الأساطير ورووا منها أخبار العجم، والى نفر ذكروا عنهم انهم نظروا في الكتب القديمة وحذقوا لغات أهل الكتاب، ورووا في شعرهم أو في كلامهم شيئاً مقتبساً من قصص أهل الكتاب، يضاف إلى ذلك وجود الكنائس والنصرانية في بلاد العرب. والتاريخ، ولا سيما تأريخ الكنيسة موضوع مهم من الموضوعات التي استعان بها المبشرون ورجال الدين في الوعظ والارشاد. ولا يستبعد أن تكون كتب التأريخ التي كتبها أباء الكنيسة، مثل "أوسييوس القيصري" وأمثاله، في جملة الكتب التي لأتعالت بها الكنيسة لأفهام الناس تأريخها وتطورها وتطور العالم على نص ما دونوه بالاستناد إلى التوراة و الانجيل.

الفصل الخامس والثلاثون بعد المئة
اللغات السامية

اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، وهي التي يقال لها اللغة العربية الفصحى وكذلك سائر لهجات العرب الأخرى، هي فروع من مجموعة لغات عرفت عند المستشرقين ب "اللغات السامية". وقد أولع بعض المستشرقن بدرس هذه اللغات، فألفوا فيها كتباً وابحاثاً، وأنشأوا مجلات عدة تفرغت لها، وما زالوا يسعون في توسيعها وتنظيمها وتبويبها، وقد عرفت دراساتهم هذه عندهم بالساميات، "Semitistik". وهي تتناول بالدرس كل اللغات التي يحشرها علماء الساميات في مجموعة اللغات السامية: تتناولها بغض النظر عن وجود اللغة أو عدمه في هذا اليوم، فالبحث علم، والعلوم تبتغي المعرفة دون قيد بزمان أو مكان.

وينفق علماء الساميات مجهوداً كبيراً في المقارنة بين اللغات السامية وفي معرفة مميزات كل لغة، وما بينها وبين اللغات الأخرى،من فروق أو تطابق أو تشابه، ومجال بحثهم في تقدم وتوسع، خاصة بعد أن أخذ هؤلاء العلماء بأساليب البحث الحديثة التي تعتمد على الفحوص والاختبارات والملاحظات والنقد.

وقد جاءت نظرية "اللغات السامية" من التسمية التي أطلقها "شلوتسر""Shlozer" على العبرانيين والفينيقين، والعرب والشعوب المذكورة في التوراة على انها من نسل "سام بن نوح". ولم تقم نظرية التوراة في حصر اولاد سام على اساس عرقي، بل بنيت على عوامل جغرافية وسياسية، ولهذا أدخلت العيلاميين واللوديين " Lud" في أبناء "سام"، مع أنهما ليسا من الساميين، ولا تشابه لغتهما لغة العبرانيين.

والقرابة بين اللغات السامية واضحة وضوحاً بيناً، وهي أوضح وأمتن وأوثق من الروابط التي تربط بين فروع طائفة اللغات المسماة باللغات الهندواوروبية " Indoeurpaichen"، أو الهندوجرمانية"Indogermanischen"، على حد تعبير بعض العلماء. وقد أدرك مستشرقو القرن السابع عشر بسهولة الوشائج التي تربط بروايط متينة ما بين اللغات السامية، وأشاروا إليها، ونوهوا بصلة القربى التي تجمع شملها. بل لقد سبقهم إلى ذلك علماء عاشوا قبلهم بمئات السنين هداهم ذكاؤهم وعلمهم إلى اكتشاف تلك الوشائج والى التنويه بها. فقد تحدث عالم يهودي اسمه: "يهودا بن قريش" " Jehuda ben Koraish".، وهو ممن عاشوا في أوائل القرن العاشر، عن القرابة التي تجمع بين اللغات السامية، وعن الخصائص اللغوية العديدة المشتركة بين تلك الألسن، كما أبدى ملاحظات قيمة عن الأسس اللغوبة التي تجمع شمل تلك اللغات.

والأساس الذي بني عليه رأي العلماء في حشر من يرون حشره في عائلة الساميات، أو إخراج من يرون اخراجه منها، هو قرب لغة من يرون فحصه لترشيحه لعضوية تلك العائلة من اللغات السامية، أو بعُد لغته عنها، ثم قرب عقلية من يرون إدخاله في السامية من العقلية العامة التي رسمت حدودها لعقلية الساميين، من دين وأساطير وحياة اجتماعية وأدب ونحو ذلك مما يحد عقليات الناس. وبهذه الطريقة يبحث العلماء اليوم موضوع الساميات.

وقد حملت الخصائص المشتركة والألفاظ المهمة الضروربة لشؤون الحياة الي ترد في كل اللهجات السامية بض العلماء على تصور وجود لغة أم، في الأيام القديمة، تولدت منها بعوامل مختلفة متعددة مجموعة "اللغات السامية". ويؤدي تخيل وجود هذه الأم إلى تخيل وجود موطن قديم للساميين كان يجمع شملهم، ويوحد بين صفوفهم، إلى أن أدركتهم الفرقة لعوامل عديدة، فاضطروا إلى الهجرة منه إلى مواطن جديدة، والى التفرق،فكانت هذه الفرقة إيذاناً بتبلبل ألسنة البايليين وسبباً إلى تفرق ألسنتهم وظهور هذه اللغات.

ولا يعني تصور وجود لغة ساميةّ أم " Ursemitish"على رأي بعض العلماء ضرورة وجود لغة واحدة بالمعنى المفهوم من اللغة الواحدة، كانت أماً حقيقية لجميع هذه اللغات البنات. بل الفكرة في نظرهم مجرد تعبير قصد به شيء مجازي هو الإفصاح عن فكرة تقارب تلك اللغات وتشابها، واشتراكها في أصول كثيرة اشتراكاً يكاد يجمعها في أصل واحد، ويرجعها إلى شجرة واحدة هي الشجرة الأم فالسامية الأولى أو السامية الأم، أو السامية الأصلية، هي بهذا المعنى تعبير مجازي عن اقدم الأصول المشتركة التي جمعت بين اللهجات السامية القديمة في الأيام القديمة، أيام كان المتكلمون بها يعيشون في امكنة متجاورة وفي اتصآل وتقارب عبر عنه بفكرة النسب المذكور في التوراة.

وليس من السهل علينا إن نتصور كيف كانت اللغة السامية الأولى. ولكننا لا نستطيع بسبب قدم زمان هذه اللغة إن كانت هناك لغة سامية أولى وبسبب الأحوال البدائية التي كانت تحيط بالمتكلمين بها شأن البشرية جمعاء في ذلك العهد ولقلة مستلزمات المعيشة يومئذ وانخفاضها - أن نتصور أن هذه اللغة كانت واسعة جداً بمفرداتها غنية بمسمياتها، وفي قواعد صرفها ونحوها وفي أساليب بيانها، لأن ما نذكره لا يمكن أن يتوفر إلا في مجتمع متطور متقدم، وإلا بعد تطور استمر أمداً طويلا، ولم يكن الساميون الأولون في ذلك العهد على درجة كبيرة من التطور والتقدم، حتى تكون لغتهم الأولى على نحو ما نذكره من اتساع وارتقاء. وتسوقنا إشارتنا العابرة هذه إلى السامية الأم إلى الإشارة إلى الوطن السامي الأول الذي عاش فيه الساميون. أيام اجتاعهم وتكتلهم في وطن واحد، وأيام تكلمهم بلسان واحد أو بألسنة متقاربة متشابهة، يفهم أحدهم الآخر بيسر وسهولة. ثم عن الأيام التي نزلت فيها المكاره على أولئك الساميين القدماء فاجبرتهم على ترك ذلك الوطن في دفعات وفي هجرات متعددة والارتحال عنه إلى مواطن أخرى جدبلة.

وقد اختلف العلماء في تعيين الموطن الأصلي للساميين، وذهبوا في ذلك مذاهب، يخرجنا الحديث عنها عن صلب موضوعنا هذا. والمفروض في هذا ألوطن أن يكون المهد الأول الذي ضم الشعوب السامية، والمكان الذي اتصلت فيه تلك الشعوب بعضها ببعض، الأثر الذي تراه في اللغة وفي الدين وفي النواحي العقلية وما شاكل ذلك.

وبما إن من غير الممكن التعرف على اللغة السامية الأم، لأن الكتابة لم تكن معروفة في ذلك العهد، فكّر المستشرقون في دراسة أقرب اللغات السامية إلى الأصل، فذهب بعضهم إلى أن العبرانية هي أكثر تلك اللغات شبهاً بالسامية الأولى، وهي لذلك أقرب بنات سام إليها. وذهب آخرون إلى تقديم لغة بني إرم على غيرها جاعلين إياها البنت الأولى التي اجتمعت فيها الخصائص السامية الأصلية أكثر من اجتماعها في أية لغة أخرى، ولهذا استحقت في رأيهم هذا التكريم والتقديم. وذهب آخرون إلى تقديم العربية على سائر اللغات الأخرى، لمحافظتها أكثر من بقية اللغات السامية على الخصائص السامية الأولى وعدم تنصلها منها وتركها لها. كالذي نراه من استعمالها للمقاطع القصيرة الصامتة ومن كثرة تعدد قواعدها التي زالت من قواعد بقية اللغات. غير إن هذه الامتيازات والحصانات التي تتمتع بها هذه اللغة، يقابلها من جهة أخرى مميزات في العربية لانجدها في اللهجات السامية الباقية، مما يبعث على الظن انها طرأت عليها فيما بعد، وأن اللغة العربية قد مرت بأدوار تطورت فيها كثيراً، والتطور هذا معناه ابتعاد هذه اللغة عن الأصل. ثم اننا نجد في العبرانية وفي لغة بني إرم قطعاً من الكلام قديماً جداً لا نجد له مثيلاً في العربية، وهذا مما يدعو إلى حسبان اللغتين المذكورتين أقدم عهداً من اللغة العربية. غير اننا لا نستطيع مع كل ذلك أن ننكر أن معرفتنا وإحاطتنا باللغة العربية. لا تكاد تدانيها معرفتنا وإحاطتنا ببقية اللغات السامية. ومن هنا صارت اللغة العربية بلهجاتها المتعددة حقلآ مهماً لإجراء التجارب والاختبارات في ميدان مقارنات اللغات السامية ودراستها، فيه من الامكانيات والقابليات ما لا نجده في بقية الحقول.

وقد ذهب "نولدكه" إلى أن من الضروري، في دراسة مقارنات اللغات السامية البدء باللغة العربية، وذلك بأن نأخذ في تسجيل خصائصها ومميزاتها وقواعدها وكيفية النطق بألفاظها وما إلى ذلك، ثم نقارن ما سجلناه بما يقابله في بقية اللغات السامية، لنقف بذلك على ما بين هذه اللغات من مفارقات ومطابقات. ولا بأس في رأيه من الاستعانة باللهجات الحالية أيضاً، لأنها مادة مساعدة جداً ومفيدة كثيراً في الكشف عن خصائص اللغات السامية.وعن مميزاتها وتطورها في مختلف العصور. وفي رايه إن دراسة من هذا النحو ليست بالأمر اليسير، فإنها تتطلب جلداً وعلماً وإحاطة بالغات السامية كلها وبآثارها القديمة، وأن يقوم بها علماء لغويون متخصصون، على جانب كبير من العلم والذكاء. والاحاطة بالساميات.

وليس بين اللغات السامية لغة واحدة تستطيع أن تدعي انها سامية صافية نقية، وانها لم تتأثر قط باللغات الأخرى التي تنتمي إلى مجموعات لغوية غير سامية، وقضية صفاء لغة ما من لغات العالم وخلوها من الألفاظ والكلمات الغريبة، قضية لا يمكن أن يقولها رجل له إلمام بعلوم اللغات ولو يسيراً جداً. واذا كانت اللغات السامية قد تأثرت باللغات الأخرى بسبب اختلاط الشعوب واتصال ألسنتها بعضها ببعض نتيجة ذلك الاختلاط، فإن من الطبيعي أن تكون اللغات السامية قد أثرت بعضها في بعض، ولهذا نجد في كل لغة من اللغات السامية ألفاظاً أخذتها من لغة ما من لغات أبناء سام.

وخير ما يمكن أن نفعله الآن في موضوع اللغة السامية وأقرب اللغات السامية إليها، هو إن نقوم باستخلاص القديم المشترك من كل اللغات السامية، ثم نكون من هذا المجتمع لغة نعدّها أقرب اللغات السامية صورة إلى اللغة السامية الأولى. وتعدّ الضمائر وأسماء العدد وأسماء أعضاء الجسم الأساسية المهمة وجملة ألفاظ تخص الحياهَ الانسانية الأساسية، مثل بيت وسماء وأرض وجمل وكلب وحمار وعدد من، حروف الجرّ، من جملة القديم المشترك في جميع اللغات السامية أو في أكثرها، وهو لذلك يفيدنا من هذه الناحية كثيراً في تكوين فكرة عن اللغة السامية القديمة وعن اقرب اللغات السامية إلى الأصل.

ويقسم علماء الساميات اللغات السامية إلى قسمين: لغات سامية شمالية، ولغات سامية جنوبية. ويقسم بعض العلماء اللغات السامية الشمالية إلى مجموعتين: مجموعة شرقية، ومجموعة غربية. ويقصدون بالمجموعة الشرقية اللغات السامية المتركزة في العراق، ويقصدون بالمجموعة الغربية اللغات السامية المركزة في بلاد الشام.

وقد تأثرت كل مجموعة من المجموعتين بالمؤثرات اللغوية والحضارية للمكان التي عاشت فيه، ومن هنا حدب بعض الاختلاف بين الجماعتين.

ومن أهم الخصائص التي امتازت بها اللغات السامية همن غيرها من اللغات: اعتمادها على الحروف الصامتة " Consonant"="Konsonant"اكثر من اعتمادها على الاصوات "Vokale"="Vocal"، فنرى أن أغلب كلماتها تتألف من اجتماع ثلائة احرف صامتة. أما الأصوات، فلا نجد لها حروفاً تمثلها في اللغات السامية. وهي بذلك على عكس اللغات الآرية التي اهتمت بالأصوات، فدونتها مع الحروف الصامتة.وقد اضطرت اللغات السامية نتيجة لذلك إلى الاستزادة من الحروف، فزادت في عددها عن العدد المألوف في اللغات الآرية، وأوجدت لها حروفاً للتفخيم والترقبق وإبراز الأسنان والضغط على الحلق.

ويتولد في اللغات السامية بن تغيير حركات الأحرف الثلاثية الصامتة وتبديلها، معان جديدة. ولهذا كان من أهم واجبات الأصوات في اللغات السامية تغيمير حركات الحروف لتوليد معان جديدة. فالأحرف الثلاثة الصامتة إذن هي التي تكون مفهوم الكلمة وهيكلهاَ، ولكن مفاهيم هذه الأصول الثلاثية لا تبقى على حالها متى تغيرت حركات هذه الحروف. فكلمة "فعل" المؤلفة من ثلاثة أحرف صامتة، هى حروف الفاء والعين واللام، هي أصل، غير أن هذا الأصل غير ثابت. بل هو عرضة للتغيير،ويكون تغيره بتغيير حركات أحرفه، فإذا تغيرت حركات هذه الأحرف تغيرت معانيها حتماّ. فكل تغيير إذن في حركات أحرف الأصل يعقبه تغير في معنى ذلك الأصل. فلفظة "فعًلَ"، تختلف في المعنى عن لفظة "فَعَل"، واللفظتان "فَعَل" و "فعِل" تختلفان أيضاً في المعنى عن معنى لفظة "فُعِلَ". وقد تولد هذا الاخَتلاف من تغير حركات حروف الأصل وتبدلها.

ومن الممكن إحداث معان جديدة في اللغات السامية، و ذلك بإضافة زوائد تتالف من حرف أو أكثر الى الأصول الثلاثية، فيتبدل بذلك معنى الأصل. فإذا أضفنا حرف الألف بين حرفي الفاء والعين من "فعل"، تغير المعنى، وصارت اللفطة "فاعل"، وإذا وضعنا حرف الواو بين حرفي العين واللام من فعل، تغير المعنى، وصارت اللفظة "فعول"، وهكذا.

فترى مما تقدم إن المعاني المشتقة من الكلمات ذات الأصل الثلاثي مهما تغيرت وتولدت نتيجة لتغيير حركات تلك الحروف الثلاثة الصامتة، فإنها لا تتنصل من هذه الحروف ولا تتركها، بل تبقى في صلب كل كلمة، مهما صار معناها. فكلمة "قتل" العربية مثلاً المؤلفة من ثلاثة أحرف صامتة، يمكن أن نولد منها معاني جديدة، أي كلمات جديدة، بتغيير هذه الأحرف الثلاثة، أو بادخال زوائد عليها، أو بتشديد بعض حروفها كما ذكرت، غير اننا لا نستطيع أن نترك حرفاً من هذه الأحرف الثلاثة التي هي الأصل.

فألفاظ مثل قاتل، وقتيل، وقتال، ومقتول، وقَتل، وقتّل"، وقُتِل، وكلها مشتقة من الأحرف الصامتة الثلاثة: القاف والتاء واللام، لم نتمكن من الاستغناء عن حرف من هذه الأحرف الثلاثة، بل اضطررنا إلى ابقائها كلها فيها. إلا أنا أجبرنا على التفريق بينها بسبب دخول الزيادات.

وليس في اللغات السامية ادغام للكلمات، أي وصل كلمة بأخرى، لتكون من الكلمتين كلمة واحدة يكون لها معنى مركب من معنى الكلمتين المستقلتين كما في اللغات الآرية. وأما ما نراه من عد كلمتين مضافتين كلمة واحدة تؤدي معنى واحداً، فإن هذا النوع من التركيب بين الكلمتين شيء جديد في اللغات السامية، لم يكن معروفاً عند أجدادهم القدماء. وهو معروف في اللغات الآرية، كما في حالة ال " Genitive"، في اللاتينية حيث تتولد معان جديدة باضافة لفظة إلى لفظة أخرى، فتتولد من هذا التعاقب دلالة جديدة لمعنى جديد.

هذا، ونجد أن بين اللغات السامية وبين اللغات الأرية اختلافات في كثير من الأمور، فاللفطة في اللغات السامية ذات مدلول عام، وقد يكون لها جملة مدلولات تدل على معان عامة مطلقة، أما اللغات الأرية، مثل السنسكريتية، واليونانية، والألمانية، فكل جذر فيها هو كلمة ذات معنى مقيد محدود، أخذت منه المصادر والنعوت. و هناك اختلافات أخرى في موضوع ال "Conjuctions" وال"Substansive" و ال" Syntax" وال "Interdependence of sentences"وغير ذلك من أمور يعرفها علماء اللغات والنحو والصرف.

ويرى العلماء أن الفعل قد تطور في اللغات السامية تطوراً خطيراً، استغرق قروناً طويلة، وان ما نعرفه من تقسيم الأفعال إلى ماضّ ومضارع وأمر،لم يكن معروفاً على هذا النحو عند قدماء الساميين. ويرى بعضهم أن الصيغة الأصلية للفعل إنما كانت صيغة الأمر، فهذه الصيغة هي أقدم صيغ الأفعال عند الساميين. وقد كانت هذه الصيغة تستعمل للدلالة على جميع صيغ الفعل من الماضي وألمصارع والأمر، ثم تخصصت فصارت تشير إلى حدوث الفعل في صيغة الأمر، و ذلك بعد ظهور صيغتي المضارع والماضي.

ومن صيغة فعل الأمر، اشتق فعل المضارع. و ذلك بزيادة حرف على أول لفظة فعل الأمر، لتدل على حالة الإسناد إلى الفاعل أو الضمير مثلاً. وقد سبقت هذه الزيادةُ الزيادةَ التي لحقت آخر الفعل، فمن فعل "قم" مثلاً تولد الفعل "أقوم" و "يقوم" و "نقوم" و "تقوم" ثم يقومون وتقومون.

ومن علماء اللغات من يرى أن صيغة المضارع كانت أمداً تدل على جميع الأزمنة، وأن هذا الأداء كان مستعملاً عند قدماء الساميين استعمال اللغة الصينية واللغة الهندوجرمانية الأصلية له.

ونجد اليونانية تغير معاني الفعل بإدخال حرف الجر عليه، فإذا دخل حرف جرّ على الفعل تغير معناه.

ويظن إن الكلمات المؤلفة من حرفين صامتين، أي الألفاط الثنائية الأصل مثل أب وأم وأخ ويد، كانت أقدم من الأفعال المشتقة من ثلاثة أحرف مثل فعل، صنع، أكل، ذهب، وأن الأفعال الثلاثية اقدم من الأفعال الرباعية. وقد ذهب بعض الباحثين الى إن الأفعال الرباعية المؤلفة من أربعة أحرف كانت مؤلفة في الأصل من حرفين اثنين، ثم تطورت بالاستعمال في خلال العصور الطويلة حتى صارت رباعية الأصل.

وفي العبرانية صيغتان للفعل الماضي: الصيغة المألوفة للماضي، وصيغة ثانية مشقتة من المضارع مع إضافة واو العطف، وهي صيغة قديمة جداً. وهي موجودة في البابلية القديمة وفي الكنعانية العتيقة. ولعلها كانت صلة بين المضارع وبين الماضي. وليس لهذه الصيغة وجود في العربية الشمالية وفي العربية الجنوبية والحبشية وفي لغة بني ارم.

ويلاحظ إن العبرانية تشارك اللهجات العربية الجنوبية في أمور عديدة غير معروفة في عربية القرآن الكريم، كما توجد أوجه شبه بين ألفاظ حبشية وعبرانية".

وللدلالة على الجمع أستعملت العبرانية حرفا "بم" للمذكر، و "واو وتاء" للمؤنث. أما الارامية، فاستعملت حرفا "ين" علامة للجمع، وأما العربية فلستعملت "الواو والنون" للجمع المذكر السالم، و "الألف والتاء" في الجمع المؤنث السالم، وهناك جموع تكسير كثيرة كثرة لا نكاد نرى لها مثيلاً في اللغات السامية الأخرى. و ذلك بسبب أن هذه الجموع هي في الواقع جموع وردت في لهجات عربية متعددة، وردت سماعاً، فلما جمعها علماء العربية ودونوها في كتب اللغة والمعاجم، لم يشيروا إلى أسماء من كان ينطق بها، فظن انها جموع استعملت في هذه العربية التي نزل بها الوحي.

ومن أهم الإختلافات التي نراها بين اللغات السامية. اختلافها في التعريف. فبينما نرى بعض اللغات كالآشورية والبابلية والحبشية لا أداة للتعريف فيها، نرى العبرانية وبعض الهجات العربية مثل الثمودية واللحيانية تستعمل حرف ال "ه" أداة له، تضعه في أول الكلمة، وبينما نرى السبئية واللهجات العربية الجنويية الأخرى تستعمل أداة أخرى للتعريف هي حرف "النون"، تضعها في آخر الكلمة المراد تعريفها، نجد العربية الفصحى تستعمل "ال" أداة للتعريف، تضعها في اول الكلمة. وتشارك السريانية العربيات الجنوبية في مكان أداة التعريف، فمكانها عندها في نهاية الكلمة أيضاً، غير أنها تختلف عنها في استعمالها أداة أخرى هي حرف ال "5" أي الواو.

وقد درس بعض المستشرقين أوزان الأسماء في اللغات السامية، كما درسوا اشتقاقها وأصولها التي أخذت منها، وبحثوا في حالات التصغير أي في الأسماء المصغرة وطرق التصغير عند جميع الساميين، والأسماء البسيطة والأسماء المركبة، ليستخرجوا منها قواعد قدماء الساميين في كيفية تكوين الأسماء،ولا سيما تلك الأسماء التي ترد في جميع اللغات السامية، ففي اللغات السامية أسماء مشتركة ترد في كل اللغات، منها ما هو بسيط مؤلف من كلمة واحدة، ومنها ما هو مركب، أىٍ أسماء. مؤلفة من أكثر من كلمه بطريقة الإضافة. ودراسة هذه الأسماء بأنواعها، تفيدنا كثيراً في الوقوف على العقلية السامية وعلى الخواص المشتركهّ التي كانت تربط بين السامين.

ونجد الإعراب في اللغة العريية الفصحى، ويذهب العلماء إلى أن الإعراب كان موجوداً في جميع اللغات السامية، ثم خف حتى زال من أكثر تلك اللغات. ونرى له أثراً يدل عليه في العبرانية في حالتي المفعول به وفي ضمير التبعية، وفي السريانية والبابلية في ضمير التبعية فإن هاتين الحالتين تدلان على وجود الإعراب في أصولها القدقية.

ونجد العربية ذات حروف يزيد عددها على حروف اللغات السامية الأخرى. ولعل اللغات الأخرى كانت تملك حروفا أخرى، ثم قل، أستعمالها فزالت من أبجديتها، لم تبق لها حاجة بها. فالعبرانية لا تمتلك الحروف: "ذ"، و"ع"، و "ظ"، و "ض". والبابلية لا يمتلك أيضاً الحروف: الجين والحاء والغين والهاء وهي من أحرف الحلق، ولا الأحرف: الطاء والظاء والصاد، وهي من احرف التضخيم والتفخيم، ولا القاف، ونجد يهود السامرة لا يستعملون حرف السين. وهناك أمثلة أخرى تثبت حدوث تطور في عدد الحروف في اللغات السامية، مما سبب حدوث اختلاف.في عددها،ولهذا حدث هذا الاختلاف الذي نراه ونلاحظه بين أبجديات تلك اللغات.

ونجد العربية الجنوبية تمتلك حرُوفاً لا تمتلكها العربية الفصحى، وذلك بسبب اختلاف طبيعتي اللهجتين.

ولا بد أن تكون هنالك عوامل عديدة دعت الى حدوث تغيير في عدد الحروف في لغات الساميين. وقد عزا بعض الباحثين سقوط الأحرف التي ذكرتها من الكتابة البابلية الى استعمال البايليين للكتابة المسمارية. غير أن هذا رأي يجب أن يدرس بعناية، وأن يكون مبنياً على دراسات عديدة أصيلة، ليكون في الامكان تكوين رأي صحيح في هذا الموضوع.

واللغة العربية اليوم، هي من أعظم اللغات السامية الباقية، بكثرة من يتكلم ويكتب بها، وبكثرة ما ألف ودون بها. وهي تستعمل اليوم قلماً اشتق من قلم سامي شمالي، وكان لها في الماضي قلم قديم كان مستعًملاً عند العرب من أيام ما قبل الميلاد إلى ظهور الإسلام، مات بسب اتخاذ الإسلام القلم الجزم قلماً للوحي، دون به القرآن الكريم، فصار بذلك القلم الشرعي الرسمي، وأمات بذلك الأقلام الجاهلية إلأخرى المشتقة من القلم "المسند". ونجد في المعاجم اللغوية مئات الألوف من الألفاظ المعبرة عن معان، وقد قدر بعض العلماء عدد ألفاظ العربية بنحو من "052 305 12" كلمة. ويعود سبب غناها في الألفاظ إلى كثرة وجود المرادفات فيها، التي هي من بقايا لغات قبائل، والى خاصية جذور الكلم فيها في توليد الألفاظ الجديدة بتحريك هذه الجذورر.

وهناك لهجات تستحق الدراسة، فهي من اللهجات السامية المتفرعة عن لهجات قديمة، وهي لهجات منبوذة لم يحفل بها علماء اللغة، مثل اللهجة "الأمهربة" واللهجة "الهرربة" لغة أهل "هرر". وهي من بقايا لهجات لم يعتن بها العلماء إلا منذ احتكاك الغربيين بالمتكلمين بها. ومع ذلك فلا تزال البحوث العلمية عنها قليلة.

الفصل السادس والثلاثون بعد المئة
العربية لسان آدم في الجنة

رأى علماء العربية أن العربية قديمة، وهي في نظرهم أقدم من العرب أنفسم، فما كان أدم في الجنة كأن لسانه العربية، ولما عصى سلبه الله العربية فتكلم بالسريانية، فلما تاب رد الله عليه وعلى بعض أحفاده العربية. ونظرية إن السان الأول الذي نزل به آدم من الجنة كان عربياً، فلما بعد العهد وطال، حرف وصار سريانياً، وكان يشاكل اللسان العربي، إلا انه محرف، هو كان لسان جميع من في سفينة نوح إلا رجلاَ واحداً يقال له جرهم، فكان لسانه لسان العرب الأول، فما خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته، فمنهم صار اللسان العربي في ولده عَوص أبي عاد وعبيل،وجاثر أبي ثمود وجديس، وسميت عاد باسم جرهم، لأنه كان جدهم من الأم، بقي اللسان السرياني في ولد أرفخشذ بن سام، إلى إن وصل إلى يشجب بن قحطان من ذريتهُ وكان باليمن، فنزل هناك بنو أسماعيل، فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربي.

وقد تحدث "المعري" على لسان "ادم" في موضوع لسانه، وما روى من شعر نسب إليه، فجعله يقول: "أبيتم إلا عقوقاً وأذية، إنما كنتُ أتكلم بالعربية وأنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض، نقل لساني إلى السريانية، فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردني الله - سبحانه وتعالى - إلى الجنة، عادت على العربية، فأي حين نظمت هذا الشعر: في العاجلة أم الآجلة. وذلك رداً على من زعم أن آدم كان يعرف الشعر العربي، وقد نظم شعره بالعربية، ورووا له شعراً زعموا انه قاله لتأييد صحة دعواهم.

وقد نسب قوم من العلماء إلى ان لغة العرب، هي أول اللغات، وكل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفاً أو اصطلاحاً، واستدلوا بأن القرآن كلام الله هو عربي، وهو دليل على أن لغة العرب أسبق اللغات، ومنهم من قال: لغة العرب نوعان: أحدهما: عربية حمير، وهي التي تكلموا بها من عهد هود ومن قبله، وكانت قبل اسماعبل.

والثانية: العربية المحضة التي نزل بها القرآن، وأول من أنطق لسانه بها اسماعيل، فعلى هذا القول يكون توقيف اسماعيل على العربية المحضة محتمل أمرين: أما إن يكون اصطلاحاً بينه وبين جرهم النازلين عليه بمكة، وإما أن يكون توقيفاً من الله.

والعربية المحضة هي العربية الخالصة، وهي العربية الأصيلة عربية اسماعيل، وقد نعتت بالعربية المتينة. قالوا: أول من فُتق لسانه بالعربية المتينة اسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة،. روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلا: قرآناً عربياً لقوم يعلمون، ثم قال: الهم اسماعيل هذا اللسان اهاماً". والعريية التي تكلم بها "اسماعيل" والتي نزل بها القرآن وما تكلمت يه العرب على عهد النبي، تختلف عن عربية حمير وبقايا جرهم، وذكر أن "عمر بن الخطاب"، قال للرسول: يا رسول الله ؛ مالك أفصحنا ولم تخرج من بين اظهرنا ? فقال رسول الله: كانت لغة بني اسماعيل قد درست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفطنيها،فحفظتها.

والعربية بعد، في اصطلاح ائمة العربية: العربية المتينة. أما عربية أهل اليمن: عربية أبناء قحطان فعربية أخرى، وعلى هذا فنحن أمام عربيتين: عربية قحطانية، وعربية غسنانية اسماعيلية. وبالعربية المتينة تكلم عرب الحيرة، كما يظهر ذلك من خبر دوّنه "الجاحظ" في كتابه "البيان والتيبين"، والطبري في تأريخه، فقد ذكر "الجاحظ" إن "خالد بن الوليد" سأل "عبد المسيح بن عمرو ابن قيس بن حيان بن بقيلة": "اعرب انتم أم نبط ? قال: عرب استنبطنا، ونبط استعربنا. قال: فحرب أنتم أم سلم ? قال: سلم"، أو انه قاله لهم: "وتحكم ما أنتم! أعرب ? فما تنقمون من العرب ! أو عجم ? فما تنقمون من الإنصاف والعدل! فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول انه ليس لنا لسان إلا بالعربية". فلسان اهل الحيرة عربي، ليى لهم لسان سواه. بها كانوا ينظمون الشعر وبها كتبوا. فهذه العربية هي عريبة الحيرة. وعرب العراق.

وساير كثير من المستشرقين علماء العربية في تقسيم اللهجات العربية إلى:عربيتين: عريية جنوبية، هي العربية القحطانية. وهي عربية شمالية، هي عربية القبائل العدنانية. ولكل مجموعة لهجات محلية، لم تكن تختلف فيما بينها اختلافاً كبيراً، موتتباين بوناً في شاسعاً، وانما أختلفت في امور بسيطة من الفروق اللسانية، بحيث لا نستطيع أن نضعها في مجاميع لغوية جديدة.

ومن الكتابات الجاهلية التي يعود عهد بعض منها إلى ما قبل الميلاد، حصل الباحثون على علمهم بلغة العرب الجنوبيين وبحضارتهم، وقد تبين لهم منها أن تلك الكتابات يمثل لغة متطورة ذات قواعد نحوية وصرفية، وانها كانت لغة التدوين عندهم، وقد استعملت مصطلحات فنية تدل على وجود حضارة لدى الكاتبين بها، وقد دام التدوين بها إلى ظهور الإسلام.

أما علمنا بقواعد نحو وصرف اللغة العربية الشمالية، التي نسميها اللغة الفصحى، فمستمد من الموارد الإسلامية فقط، لعدم ورود نصوص جاهلية مدونة بها. ولهذا اقتصر علمنا بها على ما جاء منها في الموارد الإسلامية ليس غير. أما النصوص المعدودة القصيرة، التي تبدأء بنص النمارة، وتنتهي يكتابة "حران اللجا" التي يعود عهدها إلى سنة "463" من سقوط "خبر" "خيبر"، المقابلة لسنة "568" للميلاد، فإنها وان كانت قد كتبت بعربية قريبة من العربية المحضة، إلا أنها تمثل في الواقع لهجة من اللهجات العربية الشمالية، متأثرة بالإرمية "النبطية" ولذلك لا أستطيع اعتبارها نصوصاً من نصوص العربية الفصحى الخالصة، ثم إنها قصيرة أطولها نص النمارة، المدوّن بخمسة سطور فقط. ويعود عهده إلى سنة "328" للميلاد. ولهذا لم نتمكن من استنباط شيء مهم منها، يفيدنا في تعيين صرف ونحو العربية الفصحى، أو هذه العربية التي دونت بها، ولهذه الأسباب صار علمنا اليوم بقواعد وبنحو كتابات المسند، والكتابات الثمودية واللحيانية والصفوية والنبطية، مستمد من موارد هي اقدم جداً من الموارد الإسلامية، يعود تاريخ بعض منها إلى ما قبل الميلاد. ووثائق هذه العربيات جاهلية اصيلة،لا يشك أحد في اصالتها، أما العربية الفصحى فنصها الوحيد، الذي لا يشك أحد في أصالته هو القرآن الكريم، فلا نص بها قبله، وهو أطول نص ورد الينا بهذه العربية وبسائر العربيات الأخرى بغير استثناء.

هذا وقد سبق لي أن تحدثت في الفصل الأول من هذا الكتاب عن تحديد لفظة العرب، وعن معانيها، وعن ورودها في مواضع من القرآن، مثل: )ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين(. وفيه )وانه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين(. وفيه: )أ أعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء(. وفيه: )إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون(. و )كذلك أنزلناه حكماً عربياً(. و )كذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد(. و )قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون(.

و )كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون(. )وكذلك أوحينا اليك قرآناً عربياً(. و )إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون(. و )وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا(.

فاللسان الذي نزل به القرآن، هو اللسان العربي الفصيح الكامل الشامل ليكون بيناً واضحاً ظاهراً قاطعاً للعذر مقيماً للحجة دليلاً إلى المحجة". وقد نزل "محكماً معرباً". و ذلك تمييزاً لهذا اللسان عن ألسنة الأمم الأخرى التي نسبت إلى العجمة، فصارت ألسنتها ألسنة أعجمية.

فاللغة العربية إذن، هي لغة "العرب"، وبهم سميت وعرفت فأخذت تسميتها من اسمهم. وقد عرفنا أن المدلول الأول للفظة "العرب" هو البداوة والأعرابية، ثم توسع في مدلولها، حتى شمل كل سكنة جزيرة العرب من بدو وحضر، فأهل المدر عرب، وأهل الوبر عرب كذلك، وعرف أهل البوادي بالأعرِاب، تمييزاً لهم عن أهل القرى، أي الحضر،.وصارت اللفظة سمة خاصة بهم. أما لسانهم ولسان الحضر، فهو اللسان العربي وكفى.

ووسمت هذه العربية بسمة أخرى، صارت ترادفها حتى اليوم، هي "العربية الفصحى" و "اللغة الفصحى"، يريدون بها هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم.

تمييزاً لها عن بقية اللغات واللهجات. والفصح والفصاحة البيان. وبما أن اللغة العربية بينة بليغة قيل لها ذلك. وهي في معنى "لسان عربي مبين"، أي لسان عربي فصيح أو بين. وبذلك لا ينصرف الذهن إلى لغات العوام ولا إلى لهجات القبائل في الجاهلية أو لغات أهل العربية الجنوبية، لأنها لا تتصف بصفة الفصاحة في نظر علماء اللغة.

واللغة العربية التي نكتب بها، لغة واسعة، ما في سعتها من شك: ألفاظها كثيرة، حتى لتجد فيها مئات وعشرات من المسميات وضعت كلها لمسمى واحد على ما يذكره أهل اللغة. فللاسد وللفرس وللجمل وللسيف وما يتعلق بها ألفاظ كثيرة، تجدها في كتب اللغة والمعجمات. ونحن لا نريد الشك في ذلك، ولكننا إذا أردنا إن نبحث بأسلوب علمي حديث مستند إلى لهجات القبائل، والى ما ورد في النصوص الجاهلية، فإننا سنضطر إلى القول بأن هذه الكثرة من الألفاظ ليست مسميات لشيء واحد في لغة واحدة، هي لغة القرآن الكريم، وإنما هي مسميات لذلك الشيء في لهجات عربية أخرى، جمعها علماء اللغة في الإسلام من أفواه أناس ينتمون إلى قبائل متعددة، أشاروا الى أسماء القبائل التي تكلمت بها أحياناً، ولم يشيروا إليها في أغلب الأحيان. فذهبت بين الناس على أنها مسميات لمسمى واحد في لغة واحدة، هي هذه اللغة الني نزل بها القرآن الكريم، أي اْنهم جعلوها من الألفاظ المترادفة.

ولم تعين الموارد الأعجمية شكل اللغة العربية، ولم تنص على لسان واحد من السنة العرب، على انه اللسان العربي الفصيح العام الذي كان يتكلم به كل العرب. ولم يعين القرآن هوية اللسان العربي، ولم يخصصه بلسان معين من ألسنة العرب المتعددة، وانما جاءت التسمية فيه عامه شاملة، لا تخص لساناً واحداً، ولا لغة معينة محددة. قال المفسرون في تفسر الإية: )وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً(، )فأنزلنا هذا القرآن عربياً اذ كانوا عربأَ(، وقالوا في تفسير الآية: )وكذلك انزلناه حكماً عربياً(، )كذلك ايضاً أنزلنا الحكم والدين حكماً عربياً( وجعل ذلك عربياً ووصفه به لأنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي فنسب الدين إليه، اذ كان عليه نزل فكذب به الأحزاب"، وقالوا في تفسير الاية: )وكذلك أوحينا اليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها(: "يقول تعالى ذكره وهكذا أوحينا اليلك يا محمد. قرآناً عربياً بلسان العرب لأن الذين أرسلتك اليهم قوم عرب فأوحينا اليك هذا القرآن بألسنتهم ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره لأنا لا نرسل رسولاً إلا بلسان قومه ليبين لهم،لتنذر أم القرى وهي مكة وما حولها".

وقال "الطبري" في مقدمة تفسيره "فإن كان ذلك كذلك، وكان غير مبين مناّ عن نفسه من خاطب غيره بما لا يفهمه عنه المخاطب، كان معلوماً انه غير جائز إن يخاطب جل ذكره أحداً من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولاه برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه، لأن المخاطب والمرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده سواء، إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئاً كان به قبل ذلك جاهلاّ. واللّه جل ذكره يتعالى عن أن بخاطب خطاباً أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه، لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث والله تعالى عن ذلك متعالّ. ولذلك قال جل ثناؤه في محكم تنزيله: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم. وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما انزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. فغير جائز أن يكون به مهتدياً من كان بما يهدى إليه جاهلاّ. فقد تبين اذن بما عليه دللنا من الدلالة إن كل رسول لله حل ثناؤه أرسله الى قوم، فإنما أرسله بلسان من أرسله اليه، وكل كتاب أنزله على نبي ورسالة أرسلها إلى أمة، فإنما أنزله بلسان من أرسله إليه، وكل كتاب أنزله على نبي ورسالة أرسلها الى أمة فإنما أنزله بلسان من أنزله أو أرسله إليه. واتضح بما قلنا ووصفنا إن كتاب الله الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بلسان محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ كان لسان محمد صلى الله عليه وسلم عربياً، فبين إن القرآن عربي. وبذلك نطق محكم تنزيل ربنا، فقال جل ذكره: )إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون(، وقال: )وانه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبلك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين(.

وقد تعرض علماء العربيهَ لمعنى "العجم" والعرب، فقالوا: "العجم" خلاف العرب، والأعجم من لا يفصح ولا يبين كلامه وإن كان من العرب، ومن في لسانه عجمة وإن أفصح بالعربية، "وفي التنزيل: ولو نزلناه على بعض الأعجمين". وكل من لم يفصح شيء فقد أعجمه، وأعجم الكتاب خلاف أعربه، أي نقطه بالنقط، وورد في شعر قيل هو لرؤبة ويقال للحطيئة: الشعر صعب وطويل سلمـه  إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمـه

زلت به إلى الحضيض قدمه 

ومنه: والشعرلايطيعه من يظلمه  يريد إن يعربه فيعجمـه

أي يأتي به أعجمياً، يعني يلحن فيه، وقيل يريد أن يبينه فيجعله مشكلاً لا بيان له.

وقالوا: العرب خلاف العجم، ورجل معرب، إذا كان فصيحاً وان كان عجمي النسب. والإعراب الإبانة والإفصاح عن الشيء. وأن يعرب بن قحطان هو أول من تكلم بالعربية، وأول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية، وبه سمي العرب عرباً. وقيل: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلا قرآناً عربياً لقوم يعلمون ثم قال: ألهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهاماً"، وقيل إن يعرب أول من نطق بمنطق العربية، واسماعيل هو اول من نطق بالعرببة الخالصة الحجازية التي أنزل عليها القرآن" 0 إلى غير ذلك من اقوال تحاول ربط لفظة "العرب" بالإعراب والافصاح والإبانة، وربط العربية، أي لسان العرب بقحطان، وباسماعيل، ووراء كل هذه الأقوال المصطنعة عصبية تتحزب لقحطانية أو لعدنانية، التي هي اصطنعت هذه الأقوال في الإسلام، وحذلقة مصطنعة باردة أستغلت المجانسة اللفظية بين عرب ويعرب وأعرب، لإيجاد صلة بين معاني هذه الألفاظ وفي جذورها.

وتشمل لفظة "العجم" كل من ليس بعربي، وهي في مقابل لفظة: " Barbarian" في اللغة الانكليزية المأخوذة من اصل يوناني،وهي لا تعني المتوحشين وإنما "أعاجم" و "غرباء" بتعبير أصح، الذين كانوا لا يحسنون التكلم بلغة المهذبين، بل كانوا يرطنون في كلامهم، ويتكلمون بلهجات رديئة، ثم أطلقها اليونان على كل من لا يحسن التكلم باليونانية وعلى كل من يتكلم بلغة غير يونانية. ولما دخل اليونان في حكم الرومان، صارت الكلمة تطلق على كل الشعوب الأخرى التي لا تتكلم باليونانية، أو اللاتينية. ولا استبعد احتمال مجيء هذه النظرية عند العرب من اليونان، وإن كان اليونان، لم ينفردوا بها وحدهم، فقد كانت الشعوب القديمة تعرف مثل هذه المصطلحات، ومصطلح: "كوييم" "Goim" العبري، الذي يعني" Gentiles" في الانكليزية، وغرباء، وشعوب،ومشركين عبدة أصنام، يعبر عن هذه النظرة فكل الشعوب باستثناء "العبرانيين" هم "كوييم"،والعبرانيون هم المتكلمون بالعبرانية،وغيرهم هم الذين لا يتكلمون بها. ولفظة "العجم"، وإن كانت لفظة عامة، قصد بها كل من هو ليس بعربي، لكنها أطلقت في الغالب على الفرس واليونان، وهم أرقى الشعوب التي احتك بها العرب في ذلك الوقت. وأطلقت على الفرس بصورة خاصة، لما كان للساسانيين من اتصال خاص بالعرب قبيل الإسلام. أما سكان إفريقية، فلم تطلق عليهم هذه اللفظة إلا قليلاً، لأن العرب لم ينظروا اليهم نظرة احترام، ولهذا عرفوا عندهم بالعبيد، وبالحبش، وبالسودان. ققد نعتوا بالطمطمانية، فورد "طمطمٌ حبشيون"، بإلنظر إلى لغتهم، وعدم تمكنهم من الافصاح بالعربية. وقد ورد في معلقة "عنترة": "أعظم طمطم"، في هذا البيت: تأوى له قلص النعام كما أوت  حزق يمانيةٌ لأعجم طمطـم

ومن القرآن واللغة استنبط علماء اللغة قولهم في أن العربية من الإبانة والإفصاح، وانها انما دعيت بذلك لأن "يعرب بن قحطان" كان أول من أعرب بلسانه فنسب هذا اللسان إليه. فقد رأينا إن الآيات المتقدمة التي أشرت إليها، ذكرت إن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وقد جعلته في مقابل اللسان الأعجمي، فاستنتجوا منها إن العربية بمعنى الافصاح والإبانة، وان التسمية انما جاءت من هذا القبيل، مع إن الوصف راجع للغة القرآن، لا للعربية نفسها، ثم وجدوا أن الإعراب في اللغة بمعنى الإفصاح والإبانة، فربطوا بين هذه اللفظة وبين لفظة "العرب"، وقالوا إن "عرب" بمعنى فصح، وأن "العرب" من هذا الأصل، مع انهم يذكرون أيضاً إن تعرب معناها أقام بالبادية، وأن تعرب واستعرب، بمعنى رجع إلى البادية بعد ما كان مقيماً بالحضر فلحق بالأعراب. وأن تعرب بمعنى تشبهَّ بالعرب وتعرب بعد هجرته، أي صار أعرابياً، وأن في الحديث: ثلاث من الكبائر، منها التعرب بعد الهجرة، وهو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب، بعد أن كان مهاجراً، وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد، ومعنى هذا. إن صلتها بالأعرابية وب "العرب" بمعنى البدو أهل البادبة، أقرب إلى المنطق والمعقول من صلتها بالإبانة والفصاحة، أي الإعراب. وقد سبق أن ذكرت إن معنى اللفظة في النصوص الأشورية وفي كتب اليونان واللاتين والعبرانيين والسريان، وفي المسند، هو "البداوة" والأعرابية لا غير، ثم أطلقت على جميع سكنة جزيرة العرب، لغلبة الحياة الأعرابية عليها حتى صارت لفظة "العربية" بمعنى بلاد العرب، تدخل فيها مواطن أهل المدر وأهل الوبر، وصارت لفظة "العرب" علماً على جنس وقوم.

وإذا أخذنا بهذا التفسير التأريخي المستمد من النصوص، لزم علينا القول إن العربية من "عرب" "العرب"، أهل العربية، وهم "الأعراب"، وقد أطلقت على ألسنتهم جميعا من غير تمييز، فكل لهجات العرب: لهجات بدو أو لهجات حضر، هي لهجات عربية، لأنهم عرب ومن سكنة بلاد العرب، ولهذا عرفت "جزيرة العرب" كلها "بالعربية" في كتب اليونان واللاتين على نحو ما تحدثت عن ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب، لا نستثني منها لهجة من اللهجات، مهما كان قربها أو بعدها من العربية التي نزل بها الوحي.

فما ذكره علماء اللغة من تخريج في وجه تسمية العرب بهذا السمم، من اشتقاق اللفظة من "عربة" التي قالوا إنها باحة العرب، أو من "يعرب"،أو من اعراب لسانهم، اي ايضاحه وبيانه، لأنه أوضح الألسنة واعربها عن المراد بوجوه من الاختصار، أو بما شاكل ذلك، هو كله تخريج متكلف، يمثل تخبطهم فيه، كتخبطهم في تفسير الأسماء التي لم يعرفوا من أصلها شيئاً، فوضعوا لها تخريجات أوجدوها لإظهار علمهم بها، ووقوفهم عليها، وعلى كل شيء قديم.

وفي العربية الحالية: الإعراب. وهو تغير أواخر الكلمات بتغير العوامل الداخلة عليها بالرفع والنصب والجر والسكون. احتفظت العربية به على حين فقدته معظم اللغات السامية، باستثناء البابلية القديمة. ويظهر من القرآن ومن الشعر الجاهلي، أن الإعراب كان من سمة هذه اللغة التي نزل بها الوحي.

ويرى بعض المستشرقين أن الإعراب كان موجوداً في جميع اللغات السامية، ثم خف حتى زال من اكثر تلك اللغات. ونرى له أثراً يدلّ عليه في العبرانية في حالتي المفعول به وفي ضمير التبعية، وفي السريانية والبايلية في ضمير التبعية، فإن هاتين الحالتين تدلان على وجود الإعراب في أصولها القديمة.

ولعلماء العربية بحوث مستفيضة في "الإعراب"، كما إن للمستشرقين بحوثاً فيه. وقد ذهب بعض منهم إلى أن بعض اللهجات العربية القديمة، مثل لهجة قريش لم تكن معربة، أو انها لم تكن على هذا النحو من الإعراب الذي ثبته وضبطه علماء العربية في الإسلام، حتى ذهب "كارل فولرس" إلى أن القرآن لم يكن معرباً في أول أمر نزوله، لأنه نزل بلسان قريش، وهو لسان غير معرب، وانما أعرب حين وضع علماء اللغة والنحو قواعد العربية على وفق لغة الأعراب المعربة، التي أخذوها من تتبعهم الشعر الجاهلي وكلام الأعراب.

وقد لمس "كاله" هذا الموضوع كذلك، وتطرق إلى ما ورد في الرواية من أخبار تحث المسلم على وجوب مراعاة قواعد الإعراب عند قراءته القرآن. فأستنتج منها إن كتاب الله لم يكن عند نزوله معرباً، فلما جعل الإعراب من سمات العربية، أعرب وفقاً لقواعده. وساق دليلاً على رأيه هذا ما ورد من آراء بهذا الموضوع للفرّاء "207 ه". وهو يرى إن علماء العربية استنبطوا قواعد الإعراب من الشعر ومن لغات الأعراب، ثم ضبطوا بها النص القرآني بموجبها، وبذلك سعوا لخدمة القرأن.

وقد خالف "كاير" "" R.Geyerو "نولدكه" ""Th. Noldekeرأى "فولرس"، وذهبا إلى أن ما ذهب إليه من أن القرآن لم يكن معرباً، ثم أعرب، راي لا يؤيده دليل، لا من حديث ولا من خبر أو لغة، وذهبا إلى احتمال حدوث اختلاف في القراءات، بسبب كون الحروف صامتة، فلما كان الرسول يتلو القرآن، وكان الصحابة يدونونه بحروف صامتة، لا حركات فيها ولا علامات يميز الحروف المتشابهة بعضها من بعض، وقع اختلاف في التلفظ بسبب عدم وجود الحركات، ووقع اللحن من بعضهم في القراءة، ولكن القرآن معرب، وآية ذلك وجود آيات عديدة لايمكن فهم معانيها إلا بقراءتها معربة. ففي القرآن آيات لا تترك مجالاّ للشك في أنه نزل معرباً، ففي آية )إنما يخشى الله من عباده العلماءُ(، وفي آية )أن اللهَ بريء من المشركين ورسولُه(، وآية )وإذ ابتلى ابراهيمَ ربهُ(، وآية )وإذا حضر القسمةَ أولوا القربى(، وغيرها، براهين واضحة تفيد أن موقع الكلم فيها كان معرباً، وأن هذا التركيب الذي تختلف معانيه باختلاف تحريك أواخر كلمه، لا بد وأن يكون كلاماً معرباً في أصله، وليس من التراكيب،التي أصلحت فيما بعد وفقاً لقواعد الإعراب. وروي إن اعرابياً سمع إماماً يقرأ: )ولاتنَكحِوا المشركين حتى يؤمنوا(، بفتح تنكحوا، فقال: سبحان الله هذا قبل الإسلام قبيح فكيف بعده! فقيل له: إنه لحن والقراءة: "ولا تُنكِحوا"، فقال: قبحه الله، لا تجعلوه بعدها إماماً، فإنه يحل ما حرم الله.

والعربية المحضة، هي عربية معربة، فيها كل خصائص الإعراب، غير إن الإعراب يتباين فيها بعض التباين بحسب تباين اللهجات، نقول ذلك استناداً إلى ما ضبطه علماء اللغة من وجوه الاختلاف بين لغات العرب، ونرى أثر الإعراب في النص المعروف بنص "حران" لصاحبه "شرحبيل بن ظلمو" "شراحيل بن ظالم"، ففي جملة "بنيت ذا المرطول" الواردة فيه، والمكتوبة بصيغة المفعولية بنصب لفظة "ذا" لوقوع الفعل عليها، دلالة على وجود الإعراب في لغة هذا النص. أما جملة "انا شرحيل بر ظلمو"، فقد دونت وفقاً لقواعد النبطية لا العربية الفصيحة، مما يدل على تأثر الكاتب باللهجة النبطية.

أما بالنسبة إلى عربية المسند، فإننا لا نستطيع أن نتحدث عن وجود من يتكلم بها على فى ما كانت في الجاهلية من الصفاء والأصالة، ولأن المسند لا يستعمل الحركات.في الكتابة ولا أية علامة تدل على تغير أواخر الكلمات، فلا ندري كيف كانوا يحركون أواخر الكلم، وعلى معرفة هذه الحركات يتوقف بالطبع معرفة وجود الاعراب من عدم وجوده في لهجة من اللهجات.

وأما بالنسبة إلى النبطية، وهي لهجة عربية شمالية، أقرب إلى العربية الفصحى من العرببات الجنوبية، فقد ذهب الباحثون في قواعدها، إلى أن اواخر الكلمات فيها، تتغير فيها بحسب مواقعها من الإعراب، حتى ذهب بعضهم إلى وجود الحركات فيها، وهي الضمة في حالة الرفع، والفتحة في حالة النصب، والكسرة في حالة الجر، غير انهم لم يكونوا يعقبون هذه الحركات بالنون.

والإعراب وإن سقط اليوم من لغاتنا الدارجة، ومن لهجات الأعراب، غير أن هنالك قبائل في جزيرة العرب، لا تزال تتكلم بلهجة عربية معربة، إعرابها موافق لإعراب هذه العربية الفصحى. ونحن نأسف لأن علماء العربية في هذا اليوم، لم يهتموا حتى الآن بدراسة لهجات هذه القبائل، ودراسة أصولها وأنسابها، ولم يعتنوا بوضع خريطة بمواضع القبائل موزّعة على حسب لهجاتها وخصائص ألسنتها، في الماضي وفي الحاضر، مع إن في وضع هذه الخرائظ اهمية كبيرة في تعيين لغات العرب، وفي كيفية تثبيت المناطق التي انتشرت فيها العربية الفصحى، والمناطق التي لا تزال تتحدث بها بطبيعتها، لا عن دراسة وتمرين.

والعربية لغة واسعة، "قال بعض الفقهاء: كلامُ العرب لا يحيط به إلا نبي". و "أن الذي انتهى الينا من كلام العرب هو الأقل، ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاءنا شعر كثير وكلام كثير". وفي كلام علماء اللغة هذا حق، فالألفاظ وهي مادة اللغة وسداها ولحمتها لا يمكن أن يساير عمرها عمر اللغة، فمنها ما يموت، لذهاب الحاجة إليه، ومنها ما يقل استعماله فيهمل، ومنها ما يولد تطور الحاجة إليه، وقد تتبدل معاني الألفاظ وتتغير، إلى غير ذلك من أمور تطرأ على الألفاظ بحث عنها علماء اللغة، وهي لا تدخل في موضوعنا هذا، في هذا المكان.

هذا وليس من السهل على أحد التحدث في هذا الوقت عن مبدأ نشوء العربية الفصحى، وعن الأدوار الي مرت عليها حتى بلغت المرحلة التي وصلت إليها بتثبيتها في القرآن الكريم. و ذلك بسبب عدم وجود نصوص جاهلية مدونة بهذه اللهجة. فالقرآن الكريم هو الذي ثبتها وعرفنا عليها، وبفضل كونه كتاباً مقدشاً أقبل العلماء على دراسة لغته،واضطروا على جمع قواعدها،فصارت لغتنا الفصحى، أما الشعر الجاهلي، فمع انه أقدم عهداً من القرآن، لكنه ثبت ودّون بعده، اذ لم يصل الينا حتى الان أي أثر منه مدون تدويناً جاهلياً، ولهذا فالقرآن والشعر هما أقدم ما عندنا من نصوص بهذه العربية في النثر وفي النظم، ولولاهما لما كان في وسعنا الوقوف عليها.

ولعربيتنا بعد، في نظر علماء العربية خصائص ومميزات، ميزتها كما يقولون عن بقية اللغات منها: اتساعها. من حيث المفردات، ومنها تخصصها دون غيرها على حدّ قولهم بالاعراب، ومنها، تفردها بالمرادفات، وبالأضداد، أضف إلى كل ذلك اتساع حجم قواعد نحوها وصرفها. قال "ابن فارس": "فلما خص" - جل ثناؤه - اللسان العربي بالبيان عُلم ان سائر اللغات قاصرة عنه وواقعة دونه. فإن قال قائل: فقد يقع البيان بغير اللسان العربي، لأن كل من افهم بكلامه على شرط لغته فقد بين، قيل له: إن كنت تريد أن المتكلم بغير اللغة العربية قد يعرب عن نفسه حتى يفهم السامع مراده فهذا أخس مراتب البيان،لأن الأبكم قد يدل بإشارات وحركات له على أكثر مراده، ثم لا يسُمى متكلماً، فضلاّ عن أن يسمى بيناً أو بليغاً.

وإن أردت أن سائر اللغات تبين إِبانة اللغة العربية فهذ غلط، لأنا لو احتجنا إلى أن نعبر عن السيف وأوصافه "بالفارسية" لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفات كثيرة، وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياء المسماة بالأسماء المترادفة. فأين هذا من ذاك ? وأين لسائر اللغات من السعة ما للغة العرب.

المترادفات

وفي العربية الفاظ عديدة يراد بها معنى واحد، فللعسل "80" أسماً، وللاسد "350"، وقيل "500"، وقيل "670"، وللحيّة "200"، وقيل "505"، وللداهية "400"، وقيل أربعة آلاف، وللحجر "70"، وللكلب "70"، وللسيف "30"، وقيل "1055"، وللناقة "255"، وللبعير "1050"، وللشمس "52"، وللخمر "15 ا"، وقيل "250"، وللبئر "88"، وللماء "170" وغير ذلك، وخاصة ما يدخل في باب الصفة، وما يدخل في باب الميل الجنسي، فلا تكاد تتصفح مادة في معجم، حتى تصيب من مترادفاته لفظاً أو أكثر.

ويقال لهذه الألفاظ الني تدل على شيء واحد: "المترادفات". والمترادف أن تكون اسماء لشيء واحد، وهي مولدة ومشتقة من تراكيب الأشياء. وعرف بعض العلماء المترادف، بانه الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد. ولعلماء اللغة كلام في المترادفات. منهم من يقول بالمترادفات، وبأن الألفاط وإن اختلفت فإنها ترجع إلى معنى واحد، ومنهم من أنكر الترادف، وزعم إن كل ماُ يظن من المترادفات، فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات، وان في كل واحدة معنى منها معنى ليس في الأخرى. ومن قال بالترادف، نظر إلى إتحاد دلالتها على الذات، ومن يمنع نظر إلى اختصاص بعضها بمزيد معنى، فهي تشبه المترادفة في الذات والمتباينة في الصفات. وجعل بعضهم هذا شيئاً آخر، سماه المتكافئة.

والذين ينكرون الترادف، يقولون: إن كثرة الألفاظ للمعنى الواحد إذا لم تكثر بها صفات هذا المعنى كانت نوعاً من العبث تجل منه هذه اللغة. ويرون أن كل لفظ من المترادفات فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة، وان كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد ففي كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه. وهم يعتبرون المترادفات أسماءً تزيد معنى الصفة، ويختلفون بذلك عن غيرهم ممن أنكر الترادف وقالوا إن الموضوع للمعنى الأصلي اسماً واحداً والبافي صفات له لا أسماء، فأسماء السيف كلها أصلها السيف وسائرها صفات له، كالمهند، والصارم والعضب وغيرها ثم تنوسيت هذه الأحوال بالتدريج،وكادت تتجرد هذه الألفاط من تلك الفروق والأوصاف بالاستعمال، وغلبت عليها الإسمية.

ومذهب آخر يرى إثبات الترادف، لكنه يخصه بإقامة لفظ مقام لفظ آخر لمعان متقاربة يجمعها معنى واحد. كما يقال أصلح الفاسد، ولمّ الشعث، ورتق الفتق، وشعًب الصدع، ونحوها. أما اطلاق الأسماء على المسمى الواحد، فيسمونه المتوارد: كالخمر، والعقار، والليث، و الأسد.

ومنهم من أثبت الترادف مطلقاً بدون قيد ولا اعتبار، ولا تقسيم ؛ وعليه أكثر اللغوين والنحاة.

ومن أهم اسباب الترادف في العربية، إن العرب كانوا قبائل لها لهجات والسنة مختلفة، فتباينت بتباين ألسنتها أسماء الأشياء. فالسكين لغة في المدية، والمدية لغة في السكين عند دوس. وفي حديث ابي هريرة: "والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ"، و ذلك حين قدم من دوس ولقي الرسول، وقد وقعت من يده السكين، فقال له: ناولني السكين، فلم يفهم ما المراد باللفط، فكرر له القول ثانية وثالثة، فقال: آلمدية تريد? وأثار إليها فقيل له: نعم، فقال: أو تسمى عندكم السكين، والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ. فقد تكون قبيلة استعملت كلمة لم تستعملها الأخرى، أو استعملت غيرها، خصوصاً وان بعض البيئات الطبيعية والاجتماعية لقبيلة قد تخالف ما للقبيلة الأخرى، فقبيلة على الساحل واخرى في جبل، وثالثة في بادية، وقد تأخذ قبيلة اسماً من الأعاجم لشيء لم يعرف اسمه عندها فتعربه، فيكون اسماً له، وقد تأخذ قبيلة اسماً أو أسماء توجد في لسانها من لسان قبيلة أو ألسنة قبائل أخرى، فلما جمع علماء اللغة ألفاظ العرببة ودونوها، ولم يفطنوا إلى أصلها ولا إلى القبائل التي استعملتها، ولا إلى تأريخها، لعدم وجود هذا النحو من البحث عندهم في ذلك الوقت، فدونت على انها مترادفات، وهم في ذلك على صواب، ولكنهم كانوا على خطأ، من حيث انهم لم يدركوا انها كانت لغات قبائل، وان جمعهم للالفاظ، وإهمالهم الاشارة إلى أسماء القبائل المتكلمة بها، جعلها مترادفات بالمعنى الذي ذهبوا هم إليه، وبذلك اتسعت مادة مفردات المعجم العربي اتساعاً كبيراً، وهو في حقيقته حاصل جمع لهجات، أخذ من اختلاف الألسنة ومن مختلف اللهجات، فضم كله إلى معجم العربية، وظهر على انه مفردات هذه العربية، لعدم إفصاح علماء اللغة عن أصل كل مترادف وعن اللسان الذي نطق به في الغالب،فعمي الأمر علينا، وصرنا نعتبر هذه الألفاط التي تقصد مسمى واحداً من المترادفات.

ويرى بعض علماء اللغة أن من أسباب وقوع الترادف إن الصفات قد تتحول بتفشي الاستعمال وبكثرة ورودها على الألسنة فتنزل هذه الصفات منزلة الحقائق العُرفية. وقد تضخمت كتب اللغة كثيراً يكلمات استعملها الشعراء وصفاً لأشياء، فذكرها اللغويون على أنها أسماء لتلك الأشياء، فمثلا إذا أطلق شاعر كلمة الهَيصم على الأسد من الهصم وهو الكسر، وأطلق عليه آخر الهرّاس من الهرس، وهو الدق، وضع أصحاب المعاجم الكلمتين على أنهما اسمان مرادفان للأسد. ولا يعدّ ثراء لغة بكثرة مفرداتها ومرادفاتها دليلاً على ثراء تلك اللغة، ولا امارة على تقدمها من الناحية العقلية، فإن اللغة تستمد مادتها من جميع محصولات اللغة الخاصة بالحرف، والمهن، وبالحياة الروحية، كما تستمدها من جميع لهجات القبائل، وما نجده من كثرة مفردات ومترادفات في العربية، لا يعود إلى كون هذه العربية لغة قبيلة واحدة، أو عرب من العرب، وإنما بسبب كونه حاصل جمع لغات، جمعه العلماء من ألسنة متعددة فدونوه، فظهر الشيء الواحد وقد يكون له عشرة أسماء أو أكثر من ذلك أو أقل حسب كثرة أو ندرة أستعماله بين العرب، فما كان مألوفاً عندهم، وكانوا في حاجة ماسة إليه، وكان استعمالهم له كثيراً، وفوائده بالنسبة لهم عديدة، كثرت مسمياته، بل مسميات أجزائه كما كثف عندهم صفاته، التي تتحول بمرور الزمن إلى أسماء، وهذا نجد في العربية كثرة من الأسماء والألفاظ، هي في الأصل صفات ونعوت لخصائص أشياء.

ومن أمثلة المترادفات في العربية: القمح، والُبر، والحنطة، قال علماء اللغة: القمح: البر، لغة شامية، وأهل الحجاز قد تكلموا بها، وقد تكرر ذكره في الحديث. وقيل لغة قبطية"، والبر بالضم الحنطة... قال المتنخل الهذلي: لادرّ دري إن أطعمت نازلكـم  قرف الحتى وعندي البر مكنوز 

قال ابن دريد: "الُبر أفصح من قولهم الحنطة واحدته برُة"، "والحنطة بالكسر البُر الحب المعروف". وهي في الواقع ألفاط وردت في لغات، حين ضبطها علماء اللغة، فات عليهم انها لم تكن مستعملة في كل لغات العرب،وانما هي في لغات بعض منهم. فالقمح مثلاً، لفظة وردت في لغات عرب الشام والحجاز، لأنها من أصل آرامي، هو "قمحو"، وقد كان أهل الحجاز في الجاهلية يستوردون القمح من بلاد الشام، فابقوا التسمية الأرامية على حالها، بعد أن أجروا عليها بعض التعديل. وأما "الحنطة"، فنجد لها مقابلاً في العبرانية هو"Chittah" في العبرانية، مما يدل على إن اللفطة كانت مستعملة في العربية الغربية. وأما لفظة "برُ"، فهي من الألفاظ التي وردت في نص "أبرهة"، فهي لغه يمانية وحجازية، وقد نص علماء اللغة على ورودها في لغة أهل الحجاز، وربما أخذوها من أهل اليمن، الذين عرفوا بزراعتهم للبر قبل الإسلام. ووردت لفضة "برُ" بمعنى حنطة في النص الموسوم ب "Jamme 670" ورد فيه: "برم وشعرم عدى ارضهمو"، أي "حنطة وشعير في ارضهم" "حنطة وشعر من أرضهم".

ومما يكثر في هذه العربية "المشترك"، وحده: اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند اهل تلك اللغة. ولعلماء اللغة بحوث فيه، فمنهم من يؤيد وقوعه ومنهم من ينكر. ومن المشترك: العم، فالم أخو الأب، والعم: الجمع الكثير، ومشى، فمشى يمشي من المشي، ومشى إذا كثرت ماشيته، وللنوى مواضع، وللروبة والرؤبة معان، وللأرض معان، وللفظة الهلال معان، وللفظ العين معان كثيرة ومواضع عديدة، إلى غير ذلك من ألفاظ تجدها في كتب اللغة.

وفي العربية: الأضداد. وهو إن يكون للكلمة معنى، ثم يكون لها معنى آخر مضاد له. وهو ما اتفق لفظه واختلف معناه، مثل جلل للكبير والصغير، وللعظيم وللحقير. ومثل الجون، للاسود والأبيض. والقوي، للقوي والضعيف، والرجاء للرغبة والخوف. والبسل للحلال وللحرام. والناهل للعطشان، والناهل، الذي قد شرب حتى روي. والسدفة في لغة تميم: الظلمة، والسدفة في لغة قيس: الضوء. واللمق: الكتابة في لغة بني عقيل، والمحو في سائر قيس. والجادي: السائل، والمعطي. والرس: الإصلاح بين الناس، والإفساد أيضاً. والشرى: رذال المال، وأيضاً خياره. إلى غير ذلك من أمثلة ذكرها علماء العربية.

ولبعض علماء العربية قصة يضربونها مثلا على الأضداد، فيقولون: "خرج رجل من بني كلاب، أو من سائر بني عامر بن صعصعة، إلى ذي جدن، فأطلع على سطح، والملك عليه، فلما رآه الملك اختبره، فقال له: ثب أي اقعد. فقال: ليعلم الملك إني سامع مطيع، ثم وثب من السطح: فقالَ الملك: ما شأنه ? فقالوا له: أبيت اللعن !إن الوثب في كلام نزار القمر. فقال الملك: ليست عربيتنا كعربيتهم؛ من ظفر حمر. أي من أراد أن يقيم بظفار فليتكلم العربية. ورواها "السيوطي" في كتابه "المزهر" الذيَ أخذت منه القصة بهذا الشكل أيضاً: "وروي أن زيد بن عبدالله بن دارم، وفد على بعض ملوك حمير، فألفاه في مُتصيد له على جبل مشرف، فسلم عليه وانتسب له، فقال له الملك: ثِب، أي اجلس، وظن الرجل أنه أمر بالوثوب من الجبل، فقال: ستجدني أيها الملك مطواعاً ثم وثب من الجبل فهلك. فقال الملك: ماشأنه. فخبروه بقصته وغلطه في الكلمة.فقال: أما انه ليست عندنا عربيت، من دخل ظفارَ حمر. أي فليتعلم الحميرية"، وذكر أن "عامر ابن الطفيل" قدم على الرسول، فوثبه وسادة، والوثاب الفراش بلغة حمير.

وهم يسمون الملك إذا كان لا يغزو موثبان،يريدون أنه يطيل الجلوس ولايغزوا. ومن الأضداد ألفاظ قليلة، واضحة الضدية يطلقها الناس على الضد لاعتبارات لديهم، مثل اطلاق لفظة "البصير" على الأعمى، و "السليم" على اللديغ.

ولعلماء العربية بحوث وآراء في علة ظهور الأضداد. منهم من يرى إن الحرف إذا وقع على معنين متضادين، فالأصل لمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع، فمن ذلك الصريمُ، يقال لليل صريم، وللنهار صريم، لأن الليل ينصرم من النهار، والنهار ينصرم من الليل، فْأصل المعنيين من باب واحد وهو القطع. وقال آخرون: إذا وقع الحرف على معننين متضادين، فمحال أن يكون العربي أوقعه عليهما بمساواة منه بينهما، ولكن أحد المعنيين لحيّ من العرب والمعنى الاخر لحي غيره، فلما سجل علماء اللغة مفردات الألفاظ لمً يسجلوا في الأكثر اسم القبيلة أو القبائل التي كانت تنطبق بها، فظن أن هذا التضاد هو مما وقع هذه العربية، وانما هو في الأكثر حاصل جمع لغات.

وقد أنكر ناس مذهب الأضداد، ومذهبهم إن الشيء لا يمكن إن يدل على الشيء وضده، وأن النقيضين لا يوضع لهما لفظ واحد، ومن هؤلاء:"أبومحمد عبدالله بن جعفر بن درستويه"، "توفي نيف وثلاثين وثلاثماثة"، وهو من علماء البصرة ومن المتعصبين لأهل البصرة، وهو صاحب مؤلف في الأضداد، ذكره "ابن النديم"، فهو ممن ذهب إلى انكار الأضداد، وأثبته آخرون قائلين: يجوز أن يوضع لهما لفظ واحد من قبيلتين، وان المشترك يقع على شيئين ضدين، وعلى مختلفين غير ضدينْ. ومن المثبتين له: قطرب، وابن الأنباري، و "ابن فارس"، وغيرهم.

وقد ألف في الأضداد قوم من العلماء، منهم: أبو على محمد بن المستنير، ويقال أحمد بن محمد، ويقال الحسن بن محمد، المعروف بقطرب المتوفى سنة "206" للهجرة، فله كتاب في هذا الموضوع، يسمى: كتاب الأضداد، كما أن له كتاباً مهماّ في علل النحو، اسمه كتاب العلل في النحو، وله مؤلفات أخرى ذكرها "ابن النديم". ومنهم "الأصمعي"، و "التوزي"، وهو "أبو محمد عبدالله بن محمد بن هارون" المتوفى سنة " 240 ه"، و "ابن السكيت."، و "السجستاني"، وابن الأنباري، أبو بكر محمد بن القاسم المتوفى سنة "328 ه"، صاحب مؤلف في الأضداد دعاه "ابن النديم" كتاب الأضداد في الحو. وهو ممن اشتغل بجمع دواوين من أشعار العرب الفحول، وغيرهم.

وعد علماء اللغة القلب، والإدغام، والابدال من خصائص العربية التي امتازت بها على اللغات الأخرى. وهي أمور تحتاج إلى دراسة عميقة، لأن دراسة علماء اللغة لها، لم تنبعث عن دراسات علمية لبقية اللهجات، ثم انها ملاحظات سطحية أخذت من أشخاص، وليس من دراسة لقبيلة كلها، إذ كان ذلك إذاك أمراً غير ميسور ولا ممكن. ولو درسنا الأمور المذكورة، في انها حاصل لهجات، لا من تبديل شخص لحرف أو قلبه حرفاً أو ما شاكل ذلك، واتباع الناس بعد ذلك له.

ومما يلاحظ في هذه العربية هو كثرة ما فيها من جموع التكسير. وقد تجد فيها لفظة واحدة، وقد جمعت في عدة جموع، وهو دليل في نظري علما انه من بقايا اللهجات. فلما شرع العلماء بالتدوين،وراجعوا الشعر والأخبار،والأعراب، وجدوا أمامهم جموعاً لكلمة واحدة، فسجلوها دون أن يشيروا إلى الجهة التي أخذوا الجمع منه، والى قبيلة الأعرابي الذي نطق لهم به، فظن انها جموع هذه العربية، ولا يعقل أن تكون كل هذه الجموع حاصل لغة واحدة. وهي سماعية سمعت من أبناء القبائل فجمعت، وهي لم تخضع لذلك لأحكام القياس والقواعد المألوفة.

ومن هذا القبيل بعض الجموع الملحقة بجمع المذكر السالم، مثل: أرضون، وأهلون، وعالمون، وسنون، ومئون، وعضون، وعزون، فهذه من بقايا قواعد قديمة، ترجع إلى لهجات، حين شرع علماء اللغة في تدوينها لم يفطنوا إلى تدوين اسم اللسان الذي نطق بها.

وطبيعي أن تكون العربية فقيرة في الألفاط التي لا تدخل معانيها في ضمن حياة أهلها، كألفاط الترف التي ينعم بها المنغمسون في الحضارة، والألفاظ المستعملة في الحكومات وفي أنواع الدواوين والصناعات وما شاكل ذلك مما يكون عند اهل الحضر، ولا يألفه اهل الوبر، لعدم وجوده عندهم، ولكن العربية، إذا شعرت يالحاجة إليها، أو اضطرت إلى استعمالها، أخذ أهلها أسماءها ممن يعرفها، واستعملوها معربة أو بأصولها في لغتهم، ومن هنا كثر الدخيل في العربية في الإسلام.

وحيث أن للغة دلالة على طراز حياة الأمة وعلى مقدار درجة حياتها العقلية، نجد العربية غنية غنى مفرطاً فى الحدود التي رسمتها لهم بيئتهم، فهم أغنياء في الجمل، يعرفون كل جزء منه، وقد وضعوا الفاظاً لكل عضو من أعضائه مهما دق فيه. وهم أغنياء فيما يتعلق بالصحراء وفي المطر، وفي كل شيء يتصل بحياتهم، فهي من هنا لغة تمثل عقلية المتكلمين بها، غلبت مصطلحات البداوة فيها على مصطلحات الحضارة، سنة كل أمة تكون حياتها على هذا النمط من المعيشة.

وليست اللغة العربية غنية بمفرداتها فحسب، بل بقواعد نحوها وصرفها أيضاً، فمجموع التكسير وأحياناً الأفعال كثيرة كثرة زائدة عن الحاجة. وهي غنبة باشتقاقها وتصريف كلماتها، فوضع صيغة فعلية لكل زمن، والمشتقات العديدة للدلالة على أنواع مختلفة من المعاني والأشخاص، كل هذا يشعرنا شعوراً تاماً بغنى اللغة وصلاحيتها للبقاء.

وليس غنى العربية بالمفردات بدليل حتمي على سعة هذه اللغة. وانما هوغنى نتج من حاصل لغات العرب ومن كثرة تعدد لهجاتهم. فلما كانت القبائل تتصل بعضها ببعض وتكوِّن مجموعات وكتل وأحلاف سياسية، للدفاع عن نفسها وللغزو، ولما كان الشعراء وسادات القبائل وغيرهم، يزورون غيرهم ويتنقلون من مكان إلى مكان، وقد يقيمون اقامة طويلة في مكان ما، يجاورون ويوالون، أشتبكت ألسنتهم، فأخذت واعطت، وزاد هذا الاشتباك حدة، تنافس المناذرة والغساسنة على الزعامة، وتدخل الروم والفرس والحبش في شؤون جزيرة العرب، ومجيء المبشرين النصارى إلى القبائل للتبشير بينها، واختلاط اليهود بالعرب، وهم أصحاب دين، واختلاط التجار الأعاجم بالعرب،في السواحل وفي البواطن، وسفر أهل القرى وسادات القبائل إلى الشام والعراق للتجارة وللزيارة وللترويح عن النفس، وامثال ذلك، فكان أن أوجد كل هذا المذكور وغيره وعياً وحساً وشعوراً بوجوب التكتل والتجمع وبأنهم من أمة واحدة، وبأن في حياتهم التي يحيونها من جميع نواحيها ما يحتاج إلى اصلاح وتغيير ونظر. وقد تجسد هذا ألوعي في لغاتهم التي تقاربت، وفي آراء الأحناف وأصحاب الرأي، وفي أقوال الحكمة ولا سيما المتألهين والمتعقلين منهم، وفي الشعر الجاهلي، ولا سيما في شعر أولئك الشعراء الذلن زاروا الحضر واتصلوا بأهل، الحضارة، وجالسوا أهل الديانات واطلعوا على مقالاتهم وآرائهم وكتبهم، فنجد فيه اثر الأخذ والتأثر، حتى في أستعمال الألفاط، إذ سمحوا لأنفسهم باستعمال الألفاط الأعجمية،كما في شعر الأعشى وأمية بن أبي الصلت، الذي أدخل ألفاظاً في شعره غير مألوفة عند العرب.

ثم جاء الإسلام، بكتاب سماوي، صار لسانه لسان المسلمين، فظهرت الحاجة إلى التدوين والبحث والتنقيب لشرح كتاب الله وحديث رسوله وتفسير أحكام الله. فكان حاصل ذلك علوم اللسان. من مفردات جمعت من القرآن ومن الحديث ومن الشعر ومن ألسنة العرب، ظبطت في كتب اللغة والمعاجم،وكوّنت بذلك هيكل العربية الفصيحة. وهو بناء عملاق لم يعمل من مادة واحدة، وانما من مواد أساسية عديدة، هي لهجات القرآن والشعر ولغات القبائل التي رجع علماء اللغة إلى افرادها واليها للأخذ منها، فهذا الغنى الملحوظ في مفردات العربية الفصحى، إذن هو غنى سببه كونه حاصل لغات قبائل، لا حاصل لغة واحدة أو لسان عربي معين.

وتولدت في الإسلام معان خاصة لألفاظ جاهلية غلبت عليها واختصت بها، والى معانها الجليلة قصد في الإسلام، كما ماتت ألفاظ جاهلية اماتها الإسلام، بسبب انها كانت تؤدي معاني خاصة بالنسبة لذلك الوقت، فقد روي إن النبى قلل: "لا تقولوا دعدع ولا لعلع، ولكن قولوا: اللهم ارقع وانفع. فلولا أن الكلمتين معنى مفهوماً عند القوم ما كرهما لي"، وروي انه نهى عن قول: "خبثت نفسي، و استأثر الله بفلان".

ومن الألفاظ الإسلامية: المؤمن، والمسلم، والكافر، و المنافق، ومخضرم، وصلاة، وصوم، وغير ذلك. ومن الألفاظ التي كانت فزالت بزوال معانيها: المرباع، والنشيطة، والفضول، و الإتاوة، و الحلوان، وأبيت اللعن، و النوافج، للإبل تساق في الصداق، وحجراً محجوراً، لمعنيين: الحرمان، إذا سئل الإنسان قال: حجراً محجوراً، والوجه الآخر الاستعاذة، وأنعم صباحاً، وأنعم مساء، وأنعم ظلاماً، وعموا صباحاً، وعموا ظلاماً، إذ حل السلام محلها م في الإسلام. وظهرت الحاجة في الوقت نفسه إلى وضع قواعد في نحو وصرف هذه اللغة، لصيانة اللسان من الخطأ، وليتعلم الأعاجم بها كيفية النطق بفصاحة وسلامة بهذا اللسان الجديد عليهم. فكان ما كان من وضع النحو مستعين ين بالأسس النحوية "الغراماطيقية"، التي كانت قد وجدت سبيلها إلى العراق من أصول قديمة، ثم بتتبع، كلام العرب وبالاستقراء، وقياس القواعد بعضها على بعض وبالتعليل، يعلون النحو و يعتبرون به كلام العرب، ثم لم يكتفوا بذلك كله، فأخذوا دروب البادية، للأخذ عن القبائل التي اشتهرت بالفصاحة و بالمحافظة على سلامة لسانها، وتلقوا الأعراب الذين يطرأون من البادية على الحضر، فأخذوا من هؤلاء ومن هؤلاء علماً كثيراً باللغة وبالشعر و بالغريب وبالنوادر ويكل ما يتصل بالعربية من أسباب حتى جمعوا ما جمعوه من تراث هذه اللغة الخالد في بطون الكتب.