المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام

د. جواد علي

الجزء الرابع – الفصول 137-168

 

 

الفصل السابع والثلاثون بعد المئة
لغات العرب

قال "الطبري" في تفسيره: " كانت العرب وإن جمع جميعها اسم انهم عرب، انهم مختلفو الألسن بالبيان متباينو المنطق والكلام". وأن ألسنتهم كانت كثيرة كثرة يعُجز عن احصائها. وقد ذكر غيره مثل ذلك، ذكر أن لغات العرب كانت متباينة، وأن بعضها كانت بعيدة بعُداً كبيراً عن عربيتنا، كالألسنة العربية الجنوبية ومنها الحميرية. قال "ابن جني": "وبعد فلسنا نشك في بعُد لغة حمير ونحوها عن لغة بن نزار"، وقال "أبو عمرو بن العلاء": " ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا". وذكر "ابن فارس"، أن ولد "اسماعيل"، يريد بهم الغسنانية "يعيرون ولد قحطان أنهم ليسوا عرباً ويحتجون عليهم بأن لسانهم الحميرية، وأنهم يسمون اللحية بغير اسمها مع قول الله - جل ثناؤه - في قصة من قال: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، وأنهم يسمون، الذئب القلوب مع قوله: وأخاف أن يأكله الذئب... وما أشبه ذلك"،. وقد عرف ذلك الكتبة "الكلاسيكيون" وغيرهم.

 فذكر مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري". "Periplus mare Erythrae"، أن سكان سواحل البحر الأحمر الذين كانوا يقيمون بين مدينة "Leuke Kome"، وميناء "Muza" يتكلمون بلهجات مختلفة ولغات متباينة، قلّ منهم من يفهمها عن الثاني، وبعضها بعيد عن بعض بعداً كبيراً. وقد عاش مؤلف هذا الكتاب في القرن الأول للميلاد، والساحل الذي ذكوه هو ساحل الحجاز.

وأصبح اليوم من الأمور المعروفة أن أهل العربية الجنوبية كانوا يتكلمون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، بدليل هذه النصوص الجاهلية التي ضر عليها في تلك الأرضين، وهي بلسان مباين لعربيتنا، حيث تبين من دراستها وفحصها أنها كتبت بعربية تختلف عن عربية الشعر الجاهلي، وبقواعد تختلف عن قواعد هذه اللغة. وهي لو قرئت على عربي من عرب هذا اليوم، حتى إن كان من العربية الجنوبية، فإنه لن يفم منها شيئاً، لأنها كتبت بعربية بعيدة عن عربية هذا اليوم، وقد ماتت تلك العربية، بسبب تغلب عربية القرآن عليها.

كما عثر في العربية الغربية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب على نصوص معينية و لحيانية وثمودية وغيرها، وهي مختلفة بعضها عن بعض، ومختلفة أيضاً عن "العربية" لغة القرآن الكريم.

ومع إدراك الرواة وعلماء اللغة وجود الخلاف في ألسنة العرب، فإنهم لم يدونوا اللهجات على أنها لهجات مستقلة ذات طابع لغوي خاص، لها قواعد نحوية وصرفية، تختلف اختلافاً متبايناً عن نحو و صرف عربية القرآن الكريم، وإنما "تناقلوا من ذلك أشياء كانت لعهد الإسلام، وأشياء أصابوها في أشعار العرب مما صحت روايته قُبيل ذلك. أما سواد ما كتبوه، فقد شافهوا به العرب في بواديها وسمعوه منهم، وهو بلا ريب من بقايا اللهجات التي كانت لعهد الجاهلية".

على انهم لم يدونوا من كل ذلك إلا كفاية الحاجة القليلة في تصاريف الكلام أو ما تنهض به أدلة الاختلاف بين العلماء المتناظرين من شواهد في الغريب والنادر وفي القواعد. أما تدوين اللهجات على إنها أصل من أصول اللغة، وأما تسجيل قواعد صرف ونحو تلك اللهجات، فهذا ما لم يحفل به أحد، ولم يقدم عليه عالم فيما نعلم من أخبار الكتب التي وصلت الينا، لأن أكبر غرضهم من جمع اللغة وتدوينها يرجع إلى علوم القرآن والحديث، ولغتهما اللغة الفصحى،اللغة التي تعلو على اللغات، أما ما دونها فلغات دونها في المنزلة والفصاحة، وألسنة شاذة غير فصيحة، ليس من اللائق بالعالم إضاعة وقته في البحث عنها، وفي التنقيب في قواعد نحوها وصرفها، وهي فوق ذلك لغات بطون وعشائر وقبائل ومواضع، ليس لها أتباع كثيرون، وقد أقبلوا على استعمال عربية الإسلام، وفي إحياء العربيات الأخرى إحياء للجاهلية.

"رأينا علماء اللغة وأهل العربية قد طرحوا أمثلة اختلاف اللغات في كتبهم، فلا قيمة لها عندهم الا حيث يطلبها الشاهد وتقتضيها النادرة.فيُ عرض كلامهم، لأنهم لم يعتبروها اعتباراً تأريخياً، فقد عاصروا أهلها، واستغنوا بهذه المعاصرة عن توريث تأريخها لمن بعدهم، ولو إن منهم من نصب نفسه لجمع هذه الاختلافات وإفرادها بالتلوين يعد استقصائها من لهجات العرب، وتمييز أنواعها بحسب المقاربة والمباعدة، والنظر في أنساب القبائل التي تتقارب في لهجاتها والتي تتباعد،وتعيين منازل كل طائفة من جزيرة العرب والرجوع مع تأريخها إلى عهدها الأول الذي يتوارث علمه شيوخ القبيلة وأهل أنسابها،لخرج من ذلك علم صحيح في تأريخ اللغة وأدوار نشأتها الاجماعية، يرجع البه على تطاول الأيام وتقادم الأزمنة، ولكان هذا يعد أصلا فيما يمكن أن يسمى تأريخ آداب العرب، يفرعون منه ومحتذون مثاله في الشعر وغيره مش ضروب الأدب.

ولكن القوم انصرفوا عن هذا وأمثاله لاعتقادهم أصالة اللغة، وانها خلقت كاملة بالوحي والتوقيف، وان أفصح اللهجات انما هي لهجة اسماعيل عليه السلام، وهي العربية القديمة الجيدة كما قال سيبويه".

"وعلى هذا اعتبروا لهجات العرب لعهدهم كأنها أنواع منحطة خرجت عن أصلها القرشي بما طرأ عليها من تقادم العهد وعبث التأريخ، فلم يجيئوا ببعضها إلا شاهداً على الفصاحة الأصلية في العربية وخلوّ ها من التنافر والشذوذ، وتماماً على الذي جمعوه من أصول العربية، وتفصيلاً لكل شيء إلا التأريخ".

"ومع أن الرواة قد وضعوا كتباً كثيرة ومصنفات ممتعة في قبائل العرب ومنازلها وأنسابها وأسمائها واشتقاق الأسماء وألقابها ومدحها وأشعارها وفرسانها وأيامها، وفى ذلك مما يرجع إلى التأريخ المتحدد، فلو أنهم اعتقدوا اللغاتِ بسبب من ذلك ولم يعرفوها بالوصف الديني الثابت الذي لا يتغير قي حقيقته، لأجروها مجرى غيرها من آثار التاريخ، ولكن ذلك الزمن قد طوي بأهله، ولحق فرعه باصله، فبقي ذلك الخطأ التاريخي كأن صوابه من بعض التأريخ الذي هو حديثُ الغيب".

ويستمر "الرافعي" في حديثه هنا، فيقول: "نقول هذا وقد قرأنا ما بين أيدينا من كتب الفهرست والراجمُ الطبقات على كثرتها، وتبينا ما يسرد فيها من لسماء الكتب والأصناف" عسى إن تجد من آثار احد الرواة أو العلماء ما يدل على وضع كتاب في تأريخ لهجات العربُ يمييز لغاتها علي الوجه الذى أومأنا لليه، او ما عسى أن نستدل به على انهم كانوا يعتبرون ذلك اعتباراً تأريخاً، ولكنا خرجنا منها على حساب ما دخلنا فيها: صفر في صفر، ولم يزدنا تعدادُ أسماء الكتب علماّ بموت هذا العلم وأنه لا كتب له، للسبب الذي شرحناه من اعتبارهم أصالة العربية".

وفي كتاب "فهرست" لابن النديم، وفي المؤلفات الأخرى لسماء كتب وضعها علماء اللغة في للغات، من ذلك "كتاب اللغات" ليونس بن حبيب " 183ه" من علماء العربية، وكان أعلم الناس بتصارف النحو، و "كتاب اللغات" لأبي زبد الانصارى "215ه"، و"كتاب اللغات" للاصمعي "213ه "، "17 2 ه"، و "كاب اللغات" لابن دريد "321 " و "كتاب   

اللغات" لأبي عمرو الشيباني "213ه"، و "كتاب مجرد الغريب" على مثال العين وعلى غير ترتيبه، "وأوله هنا كتاب ألفه في غريب كلام العرب ولغاتها على عدد حروف الهجاء الثمانية والعشرين"، وهو لعلي بن الحسن، ويكنى أبا الحسن الهنائي، و "كتاب الاستعانة بالشعر وما جاء في اللغتت" لعمر بن شبة "262ه"، إلى غير ذلك من مؤلفات دونت في هذا الباب.

لكننا لا نستطيع أن نتحدث عما عالجته من موضوعات وعما ورد فيها من بحوث، بسبب اننا لا نملك نسخاً منها، فلا ندري إذا كانت قد وضعت فى خصائص لغات العرب من نحو وصرف ومفردات، أم أنها ألفت في الشواذ والنوادر وفي الأضداد واختلاف الألفاظ،وما يتعاور الأبنية من الاختلاف الصرفي والنحوي،لأن كل وجه من ذلك إنما هو أثر من لغة. والأصح، أنها لم توضع في خصائص لغات الجاهلين وفي قواعد نحوها وصرفها لضبطها، كالذي فعلوه في دراسة عربية الفرآن الكريم، فهذا عمل كبير، يحتاج إلى استقراء وتتبع لألسنة العرب في للجاهلية وعند ظهور الإسلام، وإنما كانت قد ألفت فيما جاء في الشعر الجاهلي وفي نوادر الأعراب وكلامهم من اختلاف وتغاير وشواذ، مما يغاير لغة القرآن الكريم، ودليل ذلك، أننا نرى أق المؤلفات التي نقلت من تلك الكتب في باب لغات العرب، لم تتحدث بشيء عن أصوله فى وصرف تلك اللغات، وإنما،تحدثت عن أمور ذكرت أنها خرجت فيها على قواعد العربية الفصحى، وشذت بها عنها، مما يدل على أن علماء اللغة لم يوجهوا عنايتهم فى تلك اللغات لدرسها بذاتها دراسة مستقلة، كما فعلوا بالنسة للعربية الفصحى وإنما أرادوا إظهار بعض مواضع خلافها مع العربية، أو مواضع الاتفاق معها لإثبات قاعدة نحوية أو صرفية، أو لإظهار سمو هذه العربية وعلوها على العربيات الأخرى من حيث السليقة والذوق والسلامة.

وقد بني سبب اهمالهم اللهجات الأخرى، على اعتقادهم انها لهجات رديئة فاسدة، وأن اللغة الفصحى هي اللغة الوحيدة التي يجب ضبط قواعدها والعناية بها، لأنها لغة القرآن الكريم، وأن الباحث في اللهجات الأخرى يؤدي إلى تثبيت لغات فاسدة إلى جانب لغة الوحي، ولم يكن هذا عملا مطاقاً ولا مقبولا بالنسبة إلى ذلك الوقت. ولذلك انحصر عملهم في المجال اللغوي على التوسع والبسط في هذه اللغة التي اسموها اللغة العالية أو الفصحى، وعلى ما تحتها من لهجات، وما اختلفت فيه بعضها عن بعض، وهي لهجات كانت قريبة من مواطن علماء اللغة، أما اللهجات البعيدة عنهم، فلم تنل منهم أية رعاية أو عناية، ونجد مواضع الاختلاف مسجلة في كتب اللغات والنحو وشواهده وفي كتب النوادر والغريب، و مجالس العلماء، حيث كانوا يتباحثون في أمور اللغة والشعر وأيام العرب و ما كان يتلذذ بسماعه الخلفاء والحكام الذين كانوا.يثيبون من يستمعون إليه، مما حمل العلماء وأهل الأخبار على تطلب الغريب والتنقير عن الشارد والهارب للتفوق به على اصحاب الحرفة المتنافسين فيما بينهم في عرض بضاعتهم على أصحاب الحكم والمال.

وأجمل ما ذكره هنا علماء العربية من مواضع اختلاف العربيات الاخرى عن العربية المحضة في الأمور الآتية: أحدها الإختلاف في الحركات، نحو نسْتعين ونستِعين بفتح النونُ كسرها فهي مفتوحة في لغة قريش، واسد وغيرهم يكسرها، ونحو الحصاد والحصاد.

والوجه الاخر، الإختلاف في الحركة والسكون نحو مَعَكم ومَعْكم.

ووجه آخر هو الإختلاف في إِبدال الحروف، فى: أولئك و أولالِك.

ومنها قولهم: أن زيداً وعن زيداً.

ومن ذلك: الإختلاف في الهمز والتليين فى مستهزئون ومستهزُون.

ومنه: الاختلاف في التقديم والتأخير، نحو صاعقة وصاقعة.

ومنها: الإختلاف في الحذف والاثبات، نحو استحييت واستحيت، وصددت و أصددتُ.

ومنها: الاختلاف في الحرف للصحيح يبدل حرفا معتلاَ، نحو أمّا زيد، و أيما زيد.

ومنها: الإختلاف في الإمالة والتفخيم مثل قضى و رمى، فبعضهم يفخّم وبعضهم يميل.

ومنها: الاختلاف في الحرف الساكن يستقبله مثله فمنهم من يكسر الأول، و منهم من يضم، نحو اشتروا الضلالة.

ومنها: الاختلاف في التذكير والتأنيث، فان من العرب من يقول: هذه البقر، وهذه النخل، ومنهم من يقول: هذا البقر، وهذا النخل.

ومنها: الاختلاف في الإدغام نحو: مهتدون ومٌهُدوّن.

ومنها: الاختلاف في الإعراب نحو.: ما زيدٌ قائماً، وما زيد قائم، وإن هذين، و ان هذان، وهي بالألف لغة لبني الحارث بن كعب.

ومنها: الاختلاف في التحقيق والإختلاس نحو: يامرُ كم ويأمرْكم، وعُفي له،وعُفْى له.

ومنها: الاختلاف في الوقف على هاء التأنيث مثل: هذه أمّهَْ و هذه أمّت.

ومنها: الاختلاف في الزيادة نحو: أنظٌرٌ، وأنظٌورُ.

ومن الاختلاف اختلاف التضاد"، و ذلك كقول حمير للقائم: ثب، أي اقعد، وثب بمعنى اقفز.

ُمنها الاختلاف في الكلمة، فقد يقع فيها ثلاث لغات، نحو: الزٌّجاج، والزَّجاج،والزِّجاج " وقد يقع في الكلمة أربع لغات، فى الصِّداق،والصَّداق و الصٌّدقة، و الصَّدقة. ويكون فيها خمس لغات، نحو: الشَّمال،والشَّمْل،والشَّمْأل، والشَّيْمل، والشَّمَل. ويكون فيها ستُ لغات، نحو: قٌسْطاص،وِقسْطاص، قَسْطاط، وقستاط، وقِسّاط، وقٌستاط، وقِسَّاط، ولا يكون اكثر من هذا.

ومنها الاختلاف في صورة الجمع، فى اسرى ولسارى، ومنها الاختلاف في التحقيق والاختلاس، نحو يامرٌكم ويامرْكم، وعٌفى وعفى له. ومنها الاختلاف في الموقف على هاء التأنيث مثل هذه امه وهذه امت. ومنها الاختلاف في الزيادة نحو انظر وانظور.

ُقد أشار "أبو العلاء" المعري في رسالة الغفران إلى ان "عدي بن زيد" العبادي، كان يجعل "الجيم" "كافا"، فيقول: "يا مكبور" يريد "يا مجبور"، "وهي لغة رديئة يستعملها أهل اليمن. وجاء في بعض الأحاديث إن الحارث بن هانئ. بن ابي شمر بن جبلة الكندي، استلحم يوم ساباط، فنادى: ياُ حٌكْر يا حٌكْر، يريد يا حجر ين عدي الأدبر، فعطف عليه فاستنقذه، ويكب في موضع يجب". و"الحارث بن هانئ" من كندة، وهو من الصحابة، وكندة من العربية الجنوبية في الأصل، فلا يستبعد منه نطق الجيم كافاً على الطريقة المصرية في الوقت الحاضر، إذ يقول العرب الجنوبيون "هكر" في موضع "هجر"، ولكن "عدي بن زيد" من "يميم"، وليست "تميم" من العربية الجنوبيهّ، ثم إن "المعري"، يقول عنه: "فيقول عدي بعباديته يا مكبور لقد رزقت ما يكب لن يشغلك عن القريض"، لي: "يا مجبور لقد رزقت ما يجب أن يشغلك عن القريض" فجعل قلب الجيم كافاً من سمات لغة العباديين.

ولخص بعض العلماء الوجوه التي تتخالف بها لغات العرب، في سبعة أنحاء لا تزيد ولا تنقص: الوجه الأول ابدال لفظ بلفظ كالحوت بالسمك وبالعكس، وكالعهن المنفوش، قرأها "ابن مسعود" كالصوف المنفوش. الثاني: ابدال حرف بحرف كالتابوت والتابوه. الثالث: تقديم وتأخير ما في الكلمة، نحو: سلب زيد ثوبه، سلب ثوب زيد. وأما في الحروف نحو: أفلم ييأٍس الذين، أفلم يإيس. الرابع زيادة حرف أو نقصانه نحو: ماليه وسلطانيه، فلا تكُ في مِرْية. الخامس: اختلاف حركات البناء نحو تحسين بفتح السين وكسرها. السادس: اختلاف الأعراب نحو ما هذا بشر بالرفع. السابع: التفخيم والإمالة. و هذا اختلاف في اللحن والتزيين لا في نفس اللغهّ.والتفخيم أعلى واشهر عند فصحاء العرب. فهذه الوجوه السبعة التي بها اختلفت لغات العرب.

وجمع "مصطفى صادق الرافعي" أنواع الاخلاف الواردة في كتب اللغة، فحصرها في خمسة أقسّام.

??????النوع الاول

وقد عده علماء اللغة من مستبشع اللغات، ومستقبح الألفاظ، ولذلك أطلقوا على اللغات التي تمارسها: اللغات المذمومة، من ذلك: "الكشكشة" وهي ابدال الشين من كاف المخاطب للمؤنث خاصة، كعليش ومنش وبش، في عليكِ، ومنكِ، وبكِ، في موضع التأنيث، أو زيادة شين بعد الكاف المجرورة. تقول عليكش، واليكش، وبكش، ومنكش، و ذلك في الوقف خاصة. ولا تقول عليكش بالنصب. وقد حكى كذا كش بالنصب. وإنما زادوا الشين بعد الكاف المجرورة لتبين كسرة الكاف فمؤكد التأنيث، و ذلك لأن الكسرة الدالة على التأنيث فيها تخفى في الوقت فاحتاطوا للبيان أن أبدلوها شيئاً، فإذا وصلوا حذفوا لبيان الحركة، ومنهم من يجري الوصل يجري الوقف فيبدل فيه أيضاً. وربما زادوا على الواو في الوقف شيناً حرماً على البيان أيضاً، فإذا وصلوا حذفوا الجميع وربما ألحقوا الشين فيه. وذكر أن "الكشكشة" في بني أسد وفي ربيعة. "وفي حديث معاوية تياسروا عن كشكشة تميم، أي ابدالهم الشين من كاف الخطاب مع المؤنث".

"و الكشكشة في ربيعهّ ومضر. يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شيناً. فيقولون رأيتكش ومررت بكش. والكسكسة فيهم أيضاً، يجعلون بعد الكاف أو مكانها شيئاً في المذكر". وورد: "والكسكسة لغة لتميم لا لبكر، كما زعمه ابن عباد، وانما لهم الكشكشة بإعجام الشين. هو إلحاللهم بكاف المؤنث سيناً عند الوقف دون الوصل. يقال: اكرمتكس مررت بكس، أي أكرمتك ومررت بك. ومنهم من يبدل السين من كاف الخطاب، فيقوك أبوس وأمس، أي ابوك وأمك. وبه فسر حديث معاوية رضي الله عنه تياسروا عن كسكسة بكر. وقيل: الكسكسة لهوازن". "ومنهم من يجعلها مكان الكاف ويكسرها في الوصل ويسكنها في الوقف؛ فيقول: منِشْ وعَليش".

والديش بالكسر: الديك، لغة فيه عند من يقلب الكاف شيناً، شبه كافه بكاف المؤنث لكسرتها.

وذكر "السيوطي" أن الكسكسة في ربيعة ومضر، يجعلون بعد الكاف أو مكانها في خطاب المذكر سيناً. وذكر بعضهم إن الكشكشة في لغة تميم، والكسكسة في لغة بكر. وذكر بعضهم إن الكسكسة لبكر لا لربيعة ومضر،وهي زيادة سين بعد كاف الخطاب في المؤنث لا في المذكر.

"والوتم في لغة اليمن، بجعل الكاف شيئاً مطلقاً. كلبيش اللهم لبيش. ومن العرب من يجعل الكاف جيماً كالجعبة يريد الكعبة". وقيل: "الوتم في لغة اليمن، تجعل السين تاء كالنات في الناس". "والشنشنة في لغة اليمن، تجعل الكاف شيناً مطلقاً كلبيش اللهم لبيش، أي لبيك".

وقد استشهد علماء اللغة على الوتم بشعر نسبوه إلى "علباء بن ارقم" هو: يا قبح الله بني الـسـعـلات  عمرو بن يربوعٍٍ شرار النات 

ليسوا أعـفـاء ولا أكـيات

فاستعمل النات بدل الناس، والأكيات بدل الأكياس. ولكن الشاعر من "بكر" لا من حمير.

و "الفحفحة في لغة هذيل، يجعلون الحاء عيناً. والوكم والوهم كلاهما في لغة بني كلب. من الأول يقولون: عليكِم وبكمِ حيث كان قبل الكاف ياء أو كسرة في موضع عليكم وبكم، ومن الثاني يقولون: منهم وعنهم وبينهِم، وإن لم يكن قبل الهاء ياء ولا كسرة". "وهم يكمون الكلام بكسر الكاف من يكمون، أي يقولون السلام عليكم بكسر الكاف". ومن أمثلة الفحفحة قولهم عياة في موضع حياة، وعلى لغتهم قرأ "ابن مسعود" عَتى عِين في قوله تعالى: حتى حين، فكتب إليه "عمر" إن القرآن لم ينزل على لغة هذيل، فاقرئ الناس بلغة قريش. ومن الفحفحة قولهم: العسن في الحسن، واللعم في اللحم، وذكر إن ثفيفاً كانت تفحفح في كلامها، فتقول عتى في موضع حتى. وقد ورد في "تاج العروس"، أن "الوكم" "لغة أهل الروم الان"، ولعل هذه اللغة انما جاءتهم من "كلب"، وهم من عرب بلاد الشام القدماء.

"قال الفراء: حتى لغة قريش وجميع العرب إلا هذيلاً وثقيفاً، فإنهم يقولون: عتى. قال: وأنشدني بعض اهل اليمامة: لا أضع الدلو ولا أصلتي  عتى أرى جلّتها تولـي

صوادراً مثل قباب التلَّ 

قال أبو عبيدة: من العرب من يقول: اقم عنيّ عتى آتيك، وأتى آتيك ؛ بمعنى حتى آتيك، وهي لغة هذيل".

و "العجعجة" في قظاعة كالعنعنة في تميم. يحولون الياء جيماً مع العين.

يقولون: هذا راجع خرج معج، أي راعي خرج معي. وقيل: "العجعجة في قضاعة. يجعلون الياء المشددة جيماً: يقولون في تميمي تميمج".وكانت قضاعة إذا تكلموا غمغموا، فلا تكاد تظهر حروفهم. وقد سمى العلماء ذلك الغمغمة قضاعة.

والاستنطاء، قول أنطى بدل أعطى. "قال الجوهري: هي لغة اليمن. وقال غيره: هي لغة سعد بن بكر. والجمع بينهما أنه يجوز كونها لهما"، وقيل: "هي لغة سعد بن بكر، وهذيل، والأزد، وقيس، والأنصار يجعلون للعين الساكة نوناً إذا جاورت الطاء... وهؤلاء من قبائل اليمن، ما عدا هذيل. وقد شرفها النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى الشعبي " أنه صلى الله عليه وسلم، قال لرجل: أنطه كذا وكذا، أي اعطه. وفي حديث آخر أن مال الله مسؤول ومنطى،أي معطى. وفي حديث الدعاء: لا مانع لما أنطيت.

وفي حديث آخر: اليد المنطية خير من اليد السفلى. وفي كتابه لوائل: وأنطوا الثبجة. وفي كتابه لتميم الداري: هذا ما أنطى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره. ويسمون هذا الانطاء الشريف. وهو محفوظ عند أولاده. وقرىء بها شاذاً إنا انطيناك الكوثر".

وعرفت لغة "بهراء" بوجود "التلتلة" بها. وتلتلة بهراء كسرهم تاء تفعلون. مثل كسر تاء تعلم، في موضع الفتح. وكسر التاء من "تكتب". و ذلك انهم يكسرون احرف المضارعة مطلقاً. "ونسب ابن فارس في فقه اللغة هذا الكسر لأسد وقيس، إلا انه جعله عاماً في أوائل الألفاظ، فمثل له بقوله: مثل تعِلمون وتعِلم وشعِير وبعير".

وعرفت "القطعة في لغة طيء: وهي قطع اللفظ قبل تمامه، فيقولون في مثل يا أبا الحكم: يا أبا الحكا. وهي غير الترخيم المعروف في كتب النحو، لأن هذا مقصور على حذف آخر الاسم المنادى، أما القطعة فتتناول سائر أبنية الكلام".

ومن لغة تميم كسر الشين في شهيد، وكذا كل فعيل حلقي العين سواء كان وصفاً كهذا، واسماً جامداً كرغيف وبعير. "قال الهمداني في اعراب القرآن: أهل الحجاز وبنو أسد يقولون رحيم ورغيف وبعير بفتح أوائلهن. وقيس وربيعة وتميم يقولون: رحيم ورغيف وبعير بكسر أوائلهن. وقال السهيلي في الروض: الكسر لغة تميم في كل فعيل عين فعله همزة أو غيرها من حروف الحلق، فيكسرون أوله كرحيم وشهيد. وفي شرح الدريدية لابن خالويه: كل اسم على فعيل ثانيه حرف حلق يجوز فيه اتباع الفاء العين كبعير وشعير ورغيف ورحيم. وحكى الشيخ النووي في تحريره عن الليث آن قوماً من العرب يقولون ذلك وإن لم يكن عينه حرف حلق ككبير وكريم وجليل ونحوه. قلت: وهم بنو تميم كما تقدم".

ومما اختلفت به تميم عن قريش أنها تذكر السوق والسبيل والطريق والزقاق والصراط والكلاء، وهو سوق البصرة، أما أهل الحجاز فذكرون الكلّ.

ومن ميزات لهجة تميم، أنها تنطق بالهمزة إذ وقعت في أول الكلمة عيناً. فيقولون في أسلم عسلم ويسمي العلماء ذلك "العنعنة". "وعنعنة تميم ابدالهم العين من الهمزة. يقولون: عن موضع أن". "قال الفراء: لغة قريش ومن جاورهم أن، وتميم وقيس وأسد و من جاورهم يجعلون ألف أن إذا كانت مفتوحة عيناً. يقولون أشهد عنك رسول الله، فإذا كسروا رجعوا إلى الألف وفي حديث قيلة: تحسب عين نائمة، وفي حديث حصين بن مشمت أخبرنا فلان عن فلاناً حدثه. أي آن فلانأَ حدثه. قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: كأنهم يفعلونه لبحح في أصواتهم. والعرب تقول: لأنك ولعنك، بمعنى لعلك. قال ابن الأعرابي لعنك لبني تميم، وبنو تيم الله بن ثعلبة يقولون رعنك. ومن العرب من يقول رغنك بمعنى لعلك". "قال الفرّاء: العنعنة في قيس وتميم. تجعل الهمزة المبدوء بها عيناً، فيقولون في انك عنك وفي أسلم عسلم".

وذكر إن العنعنة في كثير من العرب، في لغة قيس وتميم، وقيل في لغة قضاعة أيضاً، وفي لغة أسد ومن جاورهم، يجعلون الهمزة المبدوء بها عيناً، فيقولون في انك عنك، وفي أسلم عسلم، وفي أذُن عُذن، وفي ظننت أنك ذاهب، ظننت عنك ذاهب.

ومن مواضع الاختلاف بين لغة أهل الحجاز، ولغة تميم، الاختلاف في عمل ما وليس النافيتين. وتزدد الكلمة بين الإدغام والفك، وبين الإتمام والنقص، أو بين الصحة. والإعلال والإعراب والبناء، فمثلاً أهل الحجاز يفكون المثلين من المضارع المجزوم بالسكون وأمره، وتميم تقولهما بالإدغام، وخثعم وزبيد تنقص نون من الجارة، فيقولون: خرجت ملبيت في قولهم: خرجت من البيت وغيرهم يتمها.

و "ضللت" بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع. وهذه هي اللغة الفصيحة، وهي لغة نجد. و "ضللت تضل مثل مللت تمل، أي بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، وهي لغة الحجاز والعالية. وروى كراع عن "بني تميم" كسر الضاد في الأخيرة ايضاً. قال اللحياني: وبهما قرىء قوله تعالى: قل إن ضلت فإنما أضل على نفسي. الأخيرة قراءة أبي حيوة، وقرأ يحيى بن وثاب اضل بكسر الهمزة وفتح الضاد. وهي لغة تميم. قال ابن سيده: وكان يحيى بن وثاب يقرأ كل شيء في القرآن ضلت وضللنا بكسر اللام. ورجل ضال تال". و "الضلالة والتلالة".

واللخلخانية العجمة في المنطق، وهو العجز عن ارداف الكلام بعضه ببعض. ورجل لخلخاني غير فصيح. ويعرض ذلك في لغة أعراب الشحر وعمان.كقولهم في ما شاء الله مشا الله. والطمطمانية تعرض في لغة حمير، كقولهم طابم هوا، أي طاب الهواء. "وطمطمانية حمير بالضم ما في لغتها من الكلمات المنكرة، تشبيهاً لها بكلام العجم. وفي صفة قريش ليس فيهم طمطمانية حمير، أي الألفاظ المنكرة المشبهة بكلام العجم". وذكر أن الطمطمانية كانت أيضاً عند بعض عشائر طيء، "وهي ابدال لام التعريف ميماً. فيقولون في السهم والبر والصيام: امسهم، وامبر، وامصيام، وهذا ليس ابدالاً، وإنما هي لهجة يمنية، إذ كانوا يعُرّفون بالألف والميم، ولعل في ذلك ما يدل على صحة ما ذهب إليه النسابون من أن طيء قبيلة يمنية". ولكن حمير لا تعرف بالألف والميم، وانما تعرف ب "ان" "ن"، تضع هذه الأداة في آخر الكلمة التي يراد تعريفها. ولهذا، أخطاً من ذهب إلى أن هذه الطمطمانية ابدالاً، أو "لبس ابدالاً، وانما هي لهجة يمنية، إذ كانوا يعرفون بالألف والميم"، لما ذكرته من أن التعريف يلحق في الحميرية أواخر الكلم، ولا يكون في اولها، ويكون بالأداة "ن" "ان"، لا بالألف واللام، كما هو الحال في عربيتنا، وان التنكير عندهم يكون بإلحاق حرف "الميم" أواخر الألفاظ التي يراد تنكيرها، ولم يصل إلى علمي أن أحداً من الباحثين عثر على نص جاهلي في العربية الجنوبية عرف ب "ال" اداة التعريف في عربية القرآن الكريم.

ومن الشائع بين الناس، أن الرسول قال: "ليس ممبرم صيامم فم سفر"، أي "ليس من البر الصيام في السفر"، وعندي إن هذا الحديث من الأحاديث الضعيفة أو المكذوبة، وقد وضع ليكون شاهداً على "الطمطمانية" المذكورة، جاءوا به شاهداً على تكلم الرسول بلسان حمير، ولكن لسان حمير لم يكن يعرّف الغير معرف بهذه الأداة من التعريف، وقد يكون لهجة من لهجات بعض القبائل على نحو ما نسب إلى بعض عشائر طيء، كما ذكرت ذلك قبل قليل.

ومن العرب من يجعل الكاف جيماً كالجعبة يريد الكعبة. ومنهم من يستعمل الحرف الذي بين القاف والكاف كما في لغة تميم، والذي بين الجيم والكاف في لغة اليمن، وإبدال الياء جيماً في الاضافة نحو غلامج، وفي النسب نحو بصَرجّ وكوفج. ومن ذلك الحرف الذي بين الباء والفاء، مثل بور إذا اضطروا قالوا: فور.

ومن النوع الثاني، وهو الخاص بلغات منسوبة غير ملقبة عند العلماء: إبدال "فقيم" الياء جيماً، ولغتهم في ذلك أعم من لغة قضاعة التي مرت في النوع الأول، لأنها غير مقيدة، فيقولون في بُختى وعليّ ? بُختجٌّ وعلجٌّ. وحجتج في حجتى، وبج في موضع بي. "وقال ابن فارس في فقه اللغة: إن الياء تجعل جيماً في النسب عند بني تميم، يقولون غلامج، أي غلامي، وكذلك الياء المشددة تحول جيماً في النسب، يقولون بصَرجَ وكوفِّج في بصريّ وكوفي. وعكس هذه اللغة في تميم - على ما نقله صاحب المخصص- و ذلك انهم يقولون: صِهريٌ والصهاري، في صهريج والصهاريج".

في لغة مازن يبدلون الميم باءً والباءَ ميماً، فيقولون في بكر: مكر، وفي اطمئن اطبئن، ويقولون با اسمك ? مكان ما اسمك ? وفي لغة طيء يبدلون تاء الجمع هاءً إذا وقفوا عليها، إلحاقاً لها بتاء المفرد؛ وقد سمع من بعضهم: دفن البناه من المكرماه، يريد: دفن البنات من المكرمات.وحكى قول بعضهم: كيف البنون والبناه، وكيف الإخوه والأخواه ? وفي لغة طيء أيضاً يقلبون الياء ألفاً بعد إبدال الكسرة التي قبلها فتحة، و ذلك من كل ماض ثلاثي مكسور العين، ولو كانت الكسرة عارضة كما لو كان الفعل مبنياً للمجهول، فيقولون في رضى وهُدى: رضَا وهدُى، بل ينطقون بها قول العرب: فرس حظيِة بظّية فيقولون: حظاة بظاة، وكذلك الناصاة، في الناصية.

ومن لغتهم أنهم يحذفون الياء من الفعل المعتل بها إذا أكّد بالنون، فيقولون في اخشَينَّ وارمينَّ: اخشنّ وارمنَّ، وجاء في الحديث على لغتهم: "لتؤدن الحقوق إلى اهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء تنطحها"، وتنسب هذه اللغة إلى فزارة ايضاً.

وورد في بعض الروايات انهم يبدلون الهمزة في بعض المواضع هاءً فيقولون هنِ فعلت، يريدون إن فعلت.

وورد أن بعض "طيء" كان يقلب "العين" همزة، فيقول: دأني بدلاً من دعني.

وفي لغة تميم انهم يجيئون باسم المفعول من الفعل الثلاثي إذا كانت عينه ياءً على أصل الوزن بدون حذف، فيقولون في نحو مبَيِع: مبيوع، ولكنهم لا يفعلون ذلك إذا كانت عين الفعل واواً إلا ما ندر" بل يتبعون فيه لغة الحجازيين، نحو: مقول، و مصوغ.

وفي لغة هذيل لا يبقون ألف المقصور على حالها عند الاضافة إلى ياء المتكلم، بل يقلبونها ياءً ثم يدغمونها، توصلاً إلى كسر ما قبل الياء، فيقولون في عصاى وهواي: عَصِيّ وهوَيّ، ولا يفعلون ذلك إذا كانت الألف في آخر الاسم للتثنية، كما في نحو "فَتيَاي"، بل يوافقون اللغات الأخرى.

وفي لغة فزارة وبعض قيس، أنهم يقلبون الألف في الوقف ياءً، فيقولون: لهُدى. وافعى وحبلى، في مكان الهدى وأفعى وحبلى.

ومن تميم من يقلب هذه الألف واواً، فيقول: الهُدَو، وأفعوا، وحُبلوَ. ومنهم من يقلبها همزة، فيقول: الهُدأ وافعأ وحُبلأ.

في لغة خثعم وزبيد يحذفون نون "مِن" الجارة إذا وليها ساكن. وقد شاعت هذه اللغة في الشعر واستخفها كثير من الشعراء فتعاوروها.

في لغة "بلحرث" "بلحارث" يحذفون الألف من "على" الجارة واللام الساكنة التي تليها، فيقولون في على الآرض علأرض، في لغة قيس وربيعة وأسد، وأهل نجد من بني تميم، يقصرون "أولاء" التي يشار بها للجمع ويلحقون بها "لاماً" فيقولون: أولاِ لك.

في لغات أسماء الموصول: بلحرث بن كعب وبعض ربيعة يحذفون نون اللذين واللتين في حالة الرفع. وتميم وقيس يثبتون هذه النون ولكنهم يشددونها، فيقولون: اللذانّ واللتانّ، وذلك في أحوال الإعراب الثلاث.

وطيء تقول في الذي: ذو، وفي التي ذات، ولا يغيرونهما في احوال الإعراب الثلاث رفعاً ونصباً وجراً. وقد عرفت ب "ذي" الطائية، وترد "ذ" "ذو" هذه بهذا المعنى في الصفوية واللحيانية والثمودية.

في لغة ربيعة يقفون على الاسم المنوَّن بالسكون في كل أحوال الاعراب، فيقولون: رأيت خالد، ومررت بخالد، وهذا خالد، وغيرهم يشاركهم الا في النصب.

وفي لغة الأزد يبدلون التنوين في الوقف من جنس حركة آخر الكلمة، فيقولون: جاء خالدو، ومررت بخالدي.

وفي لغة سعد يضعفون الحرف الأخير من الكلمة الموقوف عليها إلا إذا كان هذا الحرف همزة أو كان ما قبله ساكناً، فيقولون: هذا خالد، ولا يضعفون في مثل رشأ وبكر.

في لغة بلحرث وخثعم وكنانة، يقلبون الياء بعد الفتحة ألفاً، فيقولون في اليك وعليك ولديه: إلاكَ، وعلاك، ولداه، ومن لغتهم أيضاً إعراب المثنى بالألف مطلقاً، رفعاً ونصباً وجراً، وذك لقلبهم كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها الفاً، فيقولون: جاء الرجلان، ورأيت الرجلان، ومررت بالرجلان.

وورد في بعض الروايات أن بني سعد بن زيد مناة، ولخم ومن قاربها، يبدلون الحاء هاءً، فيقولون في مدحته، مدهته. وأن بني أسعد بن زيد مناة و من وليهم يبدلون من الهاء فاءً، فيقولون فودج في موضع هودج.

وورد أن أزد شنوءة تقول: تفكهون، وتميم يقولون: تفكنون، بمعنى تعجبون.

وورد أن "الكلابيين" يلحقون علامة الإنكار في آخر الكلمة، وذلك في الاستفهام إذا أنكروا إن يكون رأي المتكلم على ما ذكر في كلامه أو يكون على خلاف ما ذكر.

فإذا قلتَ: رأيت زيداً، وانكر السامع إن تكونَ رأيته، قال: زيداً إنيه ! بقطع الألف وتبيين النون، وبعضهم يقول: زيد نيه ! كأنه ينكر أن يكون رأيك على ما ذكرت.

وذكر "الرافعي" الأمور التالية على النوع الثالث، من تغيير الحركات في الكلمة الواحدة حسب اختلاف اللهجات: هَلُمّ في لغة أهل الحجاز تلزم حالة واحدة بمنزلة رويد، على اختلاف ما تسند إليه مفرداً أو مثنى أو جمعاً، مذكراً أو مؤنثاً؛ وتلزم في كل ذلك الفتح ؛ وفي لغة نجد من بني تميم تتغير بحسب الإسناد، فيقولون: هلمَّ يا رجل، وهلمي، وهلما، وهلمّوا، وهلمُمنَ ؛ واذا اسندت لمفرد لا يكسرونها. فلا يقولون: هَلمَّ يا رجل، ولكنها تكثر في لغة كعب وغنى.

وفي لغة تميم يكسرون أول فَعِيل وفعِل إذا كان ثانيهما حرفاً من حروف الحلق الستة، فيقولون في لئيم ونحيف ورغيف وبخيل: لئيم، وِ نحيف بكسر الأول، ويقولون: هذا رجل لعِبٌ، ورحلِ محِكٌ، كل ذلك بالكسر وغيرهم بفتحه.

في لغة خزاعة يكسرون لام الجر مطلقاً مع الظاهر والضمير، وغيرهم يكسرها مع الظاهر ويفتحها مع الضمير غير ياء المتكلم؛ فيقولون: المال لكَ وِلهُ.

هاء الغائب مضمومة في لغة أهل الحجاز مطلقاً إذا وقعت بعد ياء ساكنة، فيقولون: لديهُ وعَلَيهُ؛ ولغة غيرهم كسرها.

في لغة الحجازيين يحكون الاسم المعرفة في الاستفهام إذا كان علماً كما نُطق به، فإذا قيل: جاء زيد، ورأيت زيداً، ومررت بزيد، يقولون: من زيدُ ? ومن زيداً ? ومن زيد ? أما إذا كان غير علم: كجاءني الرجل، أو كان علماً موصوفاً: كزيد الفاضل، فلا يستفهمون إلا بالرفع، يقولون: من الرجلُ ? ومن زيدٌ الفاضلُ ? في الأحوال الثلاث.

واذا استفهموا عن النكرة المعربة ووقفوا على أداة الاستفهام، جاءوا في السؤال بلفظة "مَن" ولكنهم في حالة الرفع يُلحقون بها واواً لمجانسة الضمة في النكرة المستفهم عنها، ويلحقون بها ألفاً في حالة النصب، وياءً في حالة الجر، فإذا قلتَ: جاءنيِ رجل، ونظرت رجلاً، ومررت برجل، يقولون في الاستفهام عنه: منَوُ ? ومنَا ? ومني ? وكذلك يلحقون بها علامة التأنيث والتثنية والجمع. فيقولون: مَنهَ ? في الاستفهام عن المؤنثة، ومنان ? ومنين ? للمثنى المذكر، ومَنتان ? ومنَتين ? للمثنى المؤنث: ومنون ? ومنين ? للجمع المذكر، ومنات ? للجمع المؤنث. وهذا كله إذا كان المستفهم واقفاً، فإذا وصل أداة الاستفهام جردها عن العلامة، فيقول: منَ يا فتى ? في كل الأحوال.

وبعض الحجازيين لا يفرق بين المفرد وغيره في الاستفهام، فيقول: منَو، ومنا، ومَني، إفراداً وتثنية وجمعاً في التذكير والتأنيث.

وحفظ عن أهل الحجاز انهم يعاقبون احياناً بين الواو والياء، فيجعلون احدهما مكان الأخرى، فيقولون في الصوّاغ: الصياغ، وقد دوّخوا الرجل وديّخوه. وسمع عن بعض أهل العالية قولهم، لا ينفعني ذلك ولا يضورني، أي يضيرني، وسمع عن قوم قولهم: في سريع الأوبة: سريع الأيبة. ومنهم من يقول في المصايب: مصاوب، ويقول حكوت الكلام، أي حكيته. وأهل العالية بقولون: القصوى، ويقول أهل نجد: القصيا.

وقد وردت أفعال ثلاثية تُحكى لاماتها بالواو والياء، مثل عزوت وعزيت، وكنوت وكنيت. وهي قريب من مائة لفظة.

في لغة بكر بن وائل وأناس كثير من بني تميم، يسكنون المتحرك استخفافاً، فيقولون في فخذ، والرّجُل، وكَرُمَ، وعلمَ: فخَذ، وكرم، والرّجل، وعَلمَ، وهذه اللغة هي في كثير من تغلب، ثم إذا تناسبت الضمتان أو الكسرتان في كلمة خففوا أيضاً، فيقولون في العُنُق والإبلِ، العُنق، و الإبل.

وحكى أن في لغة أزد السراة تسكين ضمير النصب المتصل.

ولبعض القبائل لغات في كلمات: فتميم نجد يقولون نهرٌ، للغدير،وغيرهم يفتحها. والوتر في العدد حجازية، والوِتر بالكسر فيَ الذّحل: الثأر، وتميم تكسرهما جميعاً، وأهل العالية يفتحون في العدد فقط.

ويقال وَتِد، ووتَد، وأهل نجد يدغمونها فيقولون. ودٌ. وبعض الكلابيين يقولوَن: الدِّواء، وغيرهم يفتحها. والعرب يقولون شُواظٌ من نار،و الكلابيون يكسرون الشين.

والحجازيون يقولون لعمري، وتميم تقول: وعملي. واللص في لغة طيء، وغيرهم يقول: اللِّصت.

وهناك لغات في الأعراب: فتستعمل "هذيل" "متى" بمعنى "مِن" ويجرون بها، سمع من بعضهم قوله: أخرجَها متى كُمِّه، أي من كُمه.

وفي لغة تميم ينصبون تمييز "كم" الخربة مفرداً، ولغة غيرهم وجوب جرّه وجواز افراده وجمعه، فيقال: كم درهمّ عندك، وكم عبيدٍ ملكت ! وتميم يقولون: كم درهماً، وكم عبداً ! في لغة الحجازيين ينصب الخبر بعد "ما" النافية نحو: ما هذا بشراً، وتميم يرفعونه.

في لغة اهل العالية ينصبون الخبر بعد إن النافية، سمع من بعضهم قوله: إن أحدٌ خيراً من أحدٍ إلا بالعافية.

الحجازيون ينصبون خبر ليس مطلقاً، وبنو تميم يرفعونه إذا اقترن بإلا، فيقول الحجازيون: ليس الطيب إلا المسك، وبنو تميم: إلا المسكُ.

في لغة بني أسد يصرفون ما لا ينصرف فيما عِلّة منعه الوصفية وزيادة النون، فيقولون: لست بسكرانٍ، ويلحقون مؤنثه التاء، فيقولون: سكرانة.

في لغة ربيعة وغنم يبنون "مع" الظرفية على السكون، فيقولون: ذهبتُ مَعهُ، وإذا وليها ساكن يكوسرنها للتخلص من التقاء الساكنين، فيقولون ذهبت مع الرجل.

في لغة "بني قيس بن ثعلبة" يعربون " لَدُن" الظرفية، وعلى لغتهم قرئ "من لدنهِ علماً"، وغيرهم يبنيها.

الحجازيون يبنون الأعلام التي على وزن فعَال: كحذام، وقطام، على الكسر في كل حالات الإعراب؛ وتميم تعربها ما لم يكن آخرها راءً وتمنعها من الصرف للعلَمية والعدل، فإذا كان آخرها راء كوبار، اسم قبيلة وظفار اسم مدينة فهم فيها كالحجازيين.

وتعرب هذيل "الذين" اسم الموصول إعراب جمع المذكر السالم، فيقولون: نحن الَّذون صبوا الصّباحا  يوم النخيل غارة ملحاحا

ومن لغة هذيل أيضاً، فتح الياء والواو في مثل بَيضات، وهيآت، وعَورات، فيقولون: بيضَات، وهَيآت، وعوَرات، وبقية العرب على إسكانها.

وذكر "الرافعي" بعض الأمثلة على المثال الرابع من قبيل: إبدالهم أواخر بعض الكلمات المجرورة ياء، كقولهم في الثعالب والأرانب والضفادع: الثعالي والأراني والضفادي. وقد يبدلون بعض الحروف ياء كقولهم في سادس: سادي، وفي خامس: خامي.

ومن العرب من يجعل الكاف جيماً، فيقول مثلاً: الجعبة، في الكعبة، وبعضهم ينطق بالتاء طاء: كأفلطني، في أفلتني، وهي لغة تميمية.

وتقول بعض العرب اردت عَن تفعل كذا، وبعضهم يقول: لألني، في"لعلني". وفي لعل لغات يقولها بعض العرب دون بعض، وهي: لعليّ، ولعلني، وعلّي وعلّني، ولعنيّ، ولفني. ورَعَنَ، ورعنّ، وعنّ، وأن، و لعاء.

وورد تلعثم وتلعزم في لغة بعض الناس، وتضيفت الشمسُ للغروب، وتصيفت.

وفي "عند" لغات، هي: عنِدي، وعُندي، وعَندي، وفي لدن ثماني لغات، وهي لَدُن، ولُد ن، ولدَىَ، ولَدُ، ولدَن، ولُدن، ولَد، و لَدَى ؛ وفي "الذي": الذي، واللِذ، واللّذ، واللذيُّ، وفي التثنية اللذان، واللذانَ، و اللذا، و في الجمع: الذَين، والذون، و الملاءون، واللاءو، واللائي، - باثبات الياء في كل حال - و الألى ؛ وللمؤنث اللائي، واللاء، واللاتي: واللت، واللت، واللتان، واللتا، واللتانِّ، وجمع التي اللاتي، واللات، و اللواتيَ، و اللوات، و اللوا، واللاء، واللاتِ.

ومن لغات "هو" و "هي": هُو، وهِي، وهُوّ، وهِيّ وهُ،هِِ.

و من لغات لاجرم: لاجرَ، ولا ذا جرم، ولا ذا جر، ولا إن ذا جرم، ولا عن ذا جرم.

ومن لغات نعم، حرف الايجاب: نَعِم، ونِعِم، ونَحَم.

وبعض العرب يبدل هاء التأنيث تاءً في الوقف، فيقول: هذه أمت، في أمة، وبقرت في بقرة، وآيت في آية.

وذكر "الرافعي" إن النوع الخامس، هو النوع الخاص باللثغة من المتكلم. كالألفاظ التي وردت بالراء والغين وبحروف أخرى.

ومن مواضع الاختلاف التي ذكرها "الرافعي"، والتي وقعت في القرآن بسبب القراءات: تحقيق الهمز وتخفيفه، والمد والقصر، ولفتح والإمالة وما بينهما، والاظهار والادغام، وضم الهاء وكسرها من عليهم وإليهم وإلحاق الواو فيهما في لفظتي منهُمُو وعنهُمو، إلحاق الياء في اليه وعليه وفيه،وفى ذلك، فكان كل أهل لحن يقرءونه بلحونهم.

وللتضجيع: الإمالة، وكانت تميم وقيس وأسد تميل إلى إمالة الألف، وكان الحجازيون ينطقونها بتفخيم فلا يُميلون، ويظهر أن ذلك لم يكن عاماً في القبيلة الواحدة، فقد كان بعض منها يميل وبعض منها لا يميل، وفي ذلك قول سيبويه: "اعلم أنه ليس كل من أمال الألفات وافق غيره من العرب ممن يميل، ولكنه قد يخالف كل واحد من الفريقين صاحبه، فينصب بعضٌ ما يميل صاحبه، ويميل بعضٌ ما ينصب صاحبه. وكذلك من كان النصب في لغته لا يوافق غيره ممن ينصب، ولكن أمره وأمر صاحبه كأمر الأولين في الكسر "الإمالة" فإذا رأيت عربياً كذلك فلا ترينه خلط في لغته ولكن هذا من أمرهم".

وذكر "ابن فارس"، إن من اختلاف العرب في لغاتهم، اختلافهم "في التذكير والتأنيث، فإن من العرب من يقول: هذه البقر، ومنهم من يقول: هذا البقر، وهذه النخيل، وهذا النخيل"، واختلافهم "في الإعراب، نحو: ما زيد قائماً، وما زيد قائم، وإن هذين، وإن هذان، وهي بالألف لغة لبني الحارث بن كعب"،واختلافهم "في صورة الجمع، نحو أسرى وأسارى". وفي هذه اللغة فسر المفسرون الآية: )إن هذان لساحران(، اذ قالوا إنها نزلت على لغة بني الحارث بن كعب ومن جاورهم، "وهم يجعلون الاثنين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف.وقد أنشدني رجل من الأسد عن بعض بني الحارث ابن كعب:   

فأطرق اطراق الشجاع ولو يرى مساغاً لناباه الشجاع لصمما 

ويظهر من اختلاف العلماء - الذي رأيناه - في نسبة الأمور المذكورة إلى ألسنة القبائل وفي عدم اتفاللهم في كثير من الحالات في تثبيت اللغات المذكورة الى قبيلة معينة او حصرها في قبائل وترددهم في أقوالهم، إن ما ذكروه من اختلاف لم يكن حاصل دراسة استقرائية عميقة، وانما هو حاصل اتصال بأفراد أو بعدد قليل من الأعراب ومن المدعين بالعلم في ألسنة العرب، ولهذا نجد التناقض بادياً في أقوالهم، وصارت دراساتهم المتقدمة ناقصة غير كاملة، لا تتناول إلا أموراً جانبية لا تمس صلب اللغة ولا تنال قواعدها في الصميم، وعلى علماء اللغة في الوقت الحاضر واجب الخروج على الجادة القديمة التي يسيرون عليها اليوم في دراسة اللغة، بالذهاب بأنفسهم من جديد إلى مواطن اللغة، للأخذ من أحجارها المكتوبة إن وجدت ومن ألسنة الأحياء الباقين، أخذاً علمياً مقروناً بدراسات حديثة مبنية على تسجيل الأصوات، للاستعانة بها في الكشف عن لغات العرب بأسلوب علمي حديث.

ويلاحظ أيضاً أن علماء اللغة، قد جمعوا بعض الملاحظات التي ظهرت لهم، من دراساتهم للغة اهل الحجاز، وللغة تميم. فسجلوها في كتب اللغة والقواعد، وقد أشرت إليها فيما تقدم بأيجاز. واذا قلت أهل الحجاز، فلا أعني لغة قريش وحدها، انما لغات القبائل الحجازية، التي تكون مجموعة لالقبائل الساكنة في الحجاز. فإن العلماء حين شرعوا بتدوين اللغة، وجدوا إن لغة أهل مكة لم تعد صافية نقية بسبب اختلاط أهلها بالأعاجم، وظهور الفساد على لسانهم، لذلك، لا نجد لهم ذكراً بارزاً عند علماء اللغة، وانما حل عليهم مصطلح: أهل الحجاز. ويظهر إن عرب "تميم" من علماء اللغة، ووجود عدد من عشائرها في العراق على مقربة من المصريين، ونزول رجال منها البصرة والكوفة، ثم اشتهار رجال من تميم بالفصاحة والبلاغة والخطابة قبل الإسلام، كل هذه وأمور أخرى مكنت العلماء من تسجيل ملاحظات كثيرة عن لغة تميم، زادت بكثير عن الملاحظات التي دونتها عن القبائل الأخرى، وقد ذكر العلماء في مقابلها ما كان يختلف فيه أهل الحجاز عنهم، فتجمعت لدينا بذلك ملاحظات لغوية ونحوية ميزت لهجات تميم عن لهجات "أهل الحجاز"، وبعض القبائل الأخرى. وقد دخلت هذه الفروق في قراءة القرآن، فقرأ بعض القراء على لغة الحجازيين، وقرأ بعض آخر الآيات نفسها على لهجة تميم. كل قرأ على لسانه وتمسك بقراءته، وقد ساعد ذلك عدم وجود الحركات الضابطة للحروف، ولو كانت هناك حركات في مبدأ التدوين تضم الحرف أو تكسره أو تفتحه، لضاق نطاق هذا الاختلاف إذ كان على الناس القراءة وفقاً للمصحف المحرك المشكل الذي اتخذ إماماً لهم، ولكن عدم وجود مصحف إمام استعمل الشكل والإعجام، سهّل ظهور القراءات.

والخلاف بين "أهل الحجاز" "لغة أهل الحجاز" وبين "تميم"، هو خلاف في إطار مجموعة واحدة من القبائل، هي مجموعة "مضر". فالقبائل الحجازية التى ذكروها هي قبائل مضرية، و "تميم" من قبائل مضر كذلك في عرف أهل الأنساب. وكان بين اهل مكة، أي "قريشاً" وبين "تميم" اتصال وثيق قبل الإسلام، وكانت بينهم مصاهرة، وقد عرفت "تميم" واشتهرت بالفصاحة، ولو اخذنا برأي أهل الأخبار، وبما ذكروه عن فصاحة "تميم" وعن كثرة وجود الخطباء والشعراء فيهم، وعن حكومتهم في "عكاظ"، وبما ذكروه عن "قريش" فاننا نخرج بنتيجة هي ان "تميماً"، كانت اكثر شهرة في بضاعة الكلام من "قريش"، وهي نتيجة تناقض زعمهم أن قريشاً كانت اصفى العرب لغة، وأن لسانها هو اللسان العربي الفصيح الذي نزل به القرآن، وانها كانت تجتبي أحسن الألفاظ وأعذبها من بين سائر لغات العرب حتى صار لسانها أفصح الألسنة، ذلك بدليل أستشهاد علماء اللغة بلغة تميم من نثر وشعر في شواهدهم وأدلتهم على قواعد اللغة، كثرة لا تقاس بها الشواهد لحي استشهد بها العلماء على ضبط اللغة والقواعد، المنتزعة من لسان قريش.

ولو استقصينا ما دونه علماء اللغة عن مواطن الاختلاف بين لغات العرب، نصل إلى نتيجة أخرى، هي ان لغات كثير من القبائل تميل إلى ترجيح كفة "لغة تميم" على لغة أهل الحجاز، ففي الفتح والكسر، كما في "الوتر" ُ "الوتر"، نجد الفتح لغة أهل الحجاز، والكسر لغة تميم وأسد وقيس: وقد قرأ بالقرائتين في سورة: )والفجر. وليال عشرٍ. والشفع والوتر(. قال "الطبري": "واختلف القراء في قراءة قوله والوتر، فقرأته عامة قراء المدينة ومكة والبصرة وبعض قراء الكوفة. بكسر الواو. والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان مستفيضتان معروفتان في قراءة الأمصار، ولغتان مشهورتان في العرب فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب". فنرى من رواية "الطبري" المذكورة أن غالبية القراء، انما قرأت بقراءة تميم وأسد وقيس، وان كانت القراءة الثانية التي هي بالفتح لغة مكة صحيحة.

ولقبائل: "تميم" و "قيس" و" أسد"، هي من القبائل التي أكثر علماء العربية أخذ اللغة عنها، ونصوا على اسمها بالذات، فقالوا: "والذين عنهم نقُلت اللغة العربية وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي.من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم اكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم". فهي في مقدمة القبائل التي ركن إليها علماء اللغة في اخذ اللغة عنهم، يليهم هذيل، فكنانة، وبعض الطائيين.

ومعنى هذا أن بناء العربية، الذي قام به علماء،اللغة، انما أخذ معظم مادته من لغات القبائل الثلاث المذكورة، وهي قبائل أقامت في مواضع متجاورة منذ القدم،وكانت بطونها قد توغلت في بوادي العراق في الجاهلية القريبة من الإسلام وفي الإسلام، وفي البحرين ونجد وبعض مناطق اليمامة. فهي تكون جزاً كبيراً من جزيرة العرب والعراق.

ولتجاور القبائل الثلاث المذكورة في القديم، أثر كبير في تشابك اللغات وفي تقاربها، لأن للجوار أثراً خطيراً في تطور اللغة ونموها، ونحن في حاجة اليوم إلى وضع صورة مضبوطة لتوزع القبائل في الجاهلية في جزيرة العرب وبادية الشام على مر الأدوار، لنتمكن بواسطتها من تتبع الأثر السياسي والثقافي لهذه القبائل و ذلك فيما قبل الإسلام، ومن دراسة ما ذكره علماء اللغة من فروق بين اللغات بصورة علمية دقيقة مضبوطة، بتسجيل كل ما ذكروه واحصائه بالضبط، ثم تطبيق ما ذكروه على مواطن هذه القبائل التي ضبطت ضبطاً صحيحاً على هذه الصورة. ونجد في كتب اللغة والمعاجم اموراً لغوية كثيرة، مبعثرة لم يعثر إليها العلماء إلا عرضاً، مثل قول بني أسد "ييجع" يكسر أوله، مع عدم قولهم،"يعلم" استثقالاً للكسرة على الياء وأمثال ذلك، مما يحتاج إلى جمع وتصفية للوقوف على قديم اللغات.

وقد عرفت "بنو أسد" ببروزها فى شقي الكلام: الشعر والنثر. "قال يونس بن حبيب: ليس في بني أسد إلا خطيب، أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس. قال: وليس في هذيل إلا شاعر او رام، أو شديد العدو". وهي قبيلة شهيرة أرى أنها قبيلة "Asateni" المذكورة في جغرافية "بطليموس"، بين "Iodistae" التي تقع أرضها شمال ""Asateni، وهي "جديس"، وقبيلة "Mnasemanes" التي تقع منازلها في شمال غربها في خريطة بطلميوس، وبين "Laeeni" و"Thaemae" الواقعتين إلى الشرق منها، وموضع ""Baeti fl. Fontesالواقع إلى الجنوب وقبيلة "Thanutae" التي تقع منازلها جنوبي هذا الموضع، ثم موضع"Salma" وهو في الخريطة موضعان: موضع يقع شمالي "Mnasaemanes" وموضع يقع جنوب غربي "Baeti fl. Fontes".

وأما "هذيل"، فمواطنهم "جبال هذيل"، وهم جيران "سعد بن يكر" وجيران " كنانة"، و "هوازن"، وهي كلها من القبائل التي أثنى العلماء على لغتها. وهذيل من قبائل مضر، ومن القبائل التي اعرقت في الشعر، وقد استشهد العلماء بشعر شعرائها في اللغة وفي القواعد، ومن هنا عدّت في القبائل التي أخذ علماء العربية اللغة منها. وأما "سعد بن بكر"، و "كنانة"، و "هوازن" فهي مثل "قريش" و "هذيل" من مجموعة "خندف" من "مضر".

وأما بعض الطائيين" الذين أخذ عنهم علماء العربية العربيةَ، فقد نص العلماء على أسمائهم حين استشهدوا بشعر شعرائها. وطيء، منَ القبائل اليمانية في عرف النسابين. وهم من القبائل القديمة التي كان لها شأن يذكر قبل الإسلام، بدليل أن "بني إرم" والفرس، أطلقوا على العرب عموماً كلمة "طيايه" "طيإيو" من أصل "طيء" اسم هذه القبيلة. وأن العبرانيين أطلقوا "طيعا" "ط ي ي ع 1"، "طيايا" "طياية" في مرادف "عرب" مما يدل علي انها كانت أقوى قبائل العرب قبل الإسلام بزمن طويل، وربما كان هذا شانهم قبل الميلاد.

ولا يفهم من أقوال علماء اللغة عن لغتهم، انها كانت ذات صلة بالعربيات الجنوييه، وأما ما ذكروه من "ذي" التي نعتوها ب "ذي" الطائية، فليس لها صلة ب "ذ" الواردة في العربياتَ الجنوبية، وانما هي سمة خاصة بلهجة "طيء" التي هي من العربية الشمالية، أو من مجموعة عربية "ال" في اصطلاحي الذي أطلقته على العربية الشمالية، لامتيازها باداة التعريف هذه عن بقية اللهجات العربية التي استعملت أداة أخرى للتعريف. ولهذا فان قبيلة "طيء" هي قبيلة عربية من القبائل المتكلمة بعربية "ال"، وأن عدّ النسابون نسبها من الجنوب.

وما ذكرته من فروق واختلاف، فإنما هو مما يتناول الاختلاف الكائن بين الهجات العربية الشمالية، واكثره مما يتناول لهجاصت القبائل في عهد التدوين، في الايام التي ظهر فيها الوعي بوجوب تسجيل علوم اللغة وضبطها، فكان، أن اخذ علماء اللغة من فصحاء وممن اشتهر بالعلم باللغة من الصحابة والتابعين، كما أخذوا من الأعراب الذين كانوا يفدون على البصرة والكوفة، وهم من قبائل مختلفة، لكنهم على الاكثر من أعراب البوادي القريبة من العراق، ومن القبائل الضاربة في البادية، فقد ذهب قوم من علماء اللغة إلى البادية معدن اللغة للاخذ من السنة أهلها مباشرة، ولاستقراء لهجاتها للتوصل بذلك إلى معرفة اللغة والقواعد. فكان من هذا الجمع ومن مراجعة القرآن والشعر والحديث، هذا المدون في الكتب من علوم العربية. فهو كله إذن تدوين ظهر في الإسلام.

ولكننا لا نستطيع أن نتحدث عن ذهاب عدد كبير من العلماء الى البوادي لدرلسة لهجات القَبائل،كما لا نستطيع التحدث عن الطرق والأساليب التي سلكوها في جمع اللغة وفي البحث عنها وأخذها من أفواه أصحابها، لعدم وجود شيء من ذلك في الموارد الموجودة لدينا الآن. نعم لقد ذكروا أن اقدم من ذهب إلى البادية: يونس بن حبيب "183 ه"، و "خلف الأحمر" "180"، و" الخليل ابن أحمد" "175ه"، و "أبو زيد" الأنصاري "215 ه".، و "الكسائي" "189ه" الذي ذهب إلى وادي الحجازُ ونجدُ وتهامة، ورجع وقد أنفد خمس عشرة قنينة من الحبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ، ولكننا لا نعرف شيئاً عن بحوثهم وعن استقراءاتهم ولا عن طرقهم التي اتبعوها في بحثهم وتنقيرهم عن اللغة، والأغلب أنها تناولت الغريب والشعر، ثم إننا لآ نستطيع التحدث عن هذه الرحلات بشيء من الاطمئنانُ والثقة، لما قد يكون في كلام رواتها من المبالغة والاضافة والافتعال بسبب العصبية إلى المدينة والى العلماء.

ويلاحظ إن معظم الملاحظات المدونة عن اللغات تناولت قبائل الف علماء العربية الأخذ عنها والاستشهاد بكلامها، وهي قبائل يرجع النسابون نسبها على طريقتهم إلى "معد"، ويظهر من ملاحظات العلماء عن لهجاتها انها كانت تتكلم بلهجات متقاربة، ترجع إلى المجموعة الني تستعمل "ال" أداة للتعريف. أما القبائل التي رجع أهل النسب نسبها إلى قحطان، والتي اسثشهد بشعرها فهي: الأزد، وحمير، وبعض طيء، وخثعم. أما كندة، ومنها الشاعر "امرؤ القيس"، فلا تجد لها ذكراً في هذه اللغات، وإن استشهد بشعر شاعرها وبشعر غيره من شعراء هذه القبيلة، وقد اشير إلى اليمن، ولكنهم لم يذكروا قصدهم منها، ويظهر انهم أرادوا بهم أعراب اليمن، وهم مهاجرون في الأصل هاجروا من باطن الجزيرة إلى اليمن بعد ان ضعف الحكم فيها على أثر تدخل الحبش في شؤُون اليمن وتقاتل الملوك بعضهم مع بعض، مما أفسح المجال للاعراب بدخول العربية الجنوبية، فكونوا قوة خطيرة فيها، أشير إليها في كتابات المسند ب "واعربهم"، "واعربهمو" كما أشرت إلى ذلك فى الأجزاء السابقة من هذا الكتاب.

ولا تزال بعض اللهجات باقيهَ، تتكلم بها القبائل على سليقتها الأولى، وآسف لأن أقول إن علماء العربية في الوقت الحاضر، لم يوجهوا عنايتهم نحوها لدراستها قبل انقراضها وزوالها، مع إن دراستها من الأمور الضرورية بالنسبة لهم، لأنها تساعد في تعيين أصول العربيات وفي تثبيت المجموعات اللغوية العربية، وقد نستنبط منها آموراً علمية كثيرة فات على علماء العربية القدامى يومئذ تسجيلها، لأنها لا تزال باقية، فبواسطة الطرق الحديثة في البحث يمكن العثور على ما فات على أولئك العلماء من أمور.

وقد لاحظ "فؤاد حمزة"، إن أهل نجد أصرح في الوقت الحاضر لغة من أهل ألحجاز، لقرب هؤلاء من الحرمين واختلاطهم بالأجانب، وبعد أولئك عن كل تلك العوامل. ولكن أفصح اللهجآت وأقربها إلى الفصحى هى اللهجات اليمانية الواقعة ما بين جنوبي الحجاز واليمن. وقد ذكر انهم يتكلمونّ الألفاظ من مخارجها الصحيحة، ويتكلمون بما هو أقرب إلى الفصيح من سواه. ويتكلم بعض البداة منهم بكلم معرب فصيح.

ولاحظ أن لغات القبائل لا تزال مختلفة، فمنهم من يقلب "الجيم" ياء فيقول: "المسيد"، بدلاً من "المسجد"، وهم قوم من اليمن والنمور في وادي محرم، ومنهم من يقلب القاف والكاف "تس"، فيقول "حكى" "حتسى"، وهم من أهل نجد، ومنهم من يقلب "الكاف" "تش"، فيقول: "بكى" "بتش"، ومنهم من يقلب "القاف" "صاداً" مفخمة، فيقول "كال" في موضع "قال"، وهي من لغات أهل نجد، ومنهمّ من يقلب "الكاف" "سيناً"، فيقول "عبيسي"، في موضع "عبيكي" ومنهم من يقلب "القاف" "جيما."، فيقول "العجير" في موضع "العقير"، ومنهم من يقلب "الظاء" "لاماً"، فيقول "اللهر" في موضع "الظهر"، ومنهم من يقلب "الصاد" "لاماً"، فيقول "الليف" في موضع "الضيف"، ومنهم من يجعل "الياء" بين الألف والباء، فيقول "امطاير" في موضع "مطير".

ويلاحظ أن قبائل العراق لا تزال تستعمل مثل هذه اللهجات وغيرها،فيستعمل بعضها حرف العين في موضع الهمزة، فيقولون "سعال" في موضع "سؤال" وتستعمل بعض القبائل حرف "الياء" في موضع الميم"، فتقول "يومن"، في موضع "مومن"، أي "مؤمن"، وغير ذلك، وتستعمل بعضها الياء في موضع "الجيم"، فتقول: "ريال" في موضع "رجَّال"، أي "رجل". وذكر إن أهل اليمن يستعملون "الميم" في موضع "ال" أداة التعريف، فيقولون "أم بيت" في موضع "البيت،". وقد أشير في الحديث إلى هذه اللغة، ويظهر أنها لغة خاصة، ربما كانت حاصل ادغام حرف الجر "من" في الكلمة التي دخلت عليها، ف "أم بيت"، هي "من البيت" أو أنها لهجة من اللهجات التي تكلم بها أهل اليمن الشماليون، جعلت "الميم" أداة للتعريف. لأننا نعلم -كما سبق أن ذكرت- أن حرف "الميم" أداة للتنكير في اللهجات العربية الجنوبية، فيقال "بيتم" في موضع "بيت"، ونلحق آخر الأمم. أما أساة التعريف فحرف "ن" يلحق آخر الكلمة كذلك، ولا يدخل على أولها كما في "ال"، يقال "بيتنن" في موضع "البيت"، و "ملكن" في مقابل "الملك".

وذكر "فؤاد حمزة" إن قبيلة "فهم"، وتقع منازلها اليوم بين بني ثقيف شمالاً والجحادلة غرباً، تتكلم بعربية قريبة جداً من العربية الفصحى، وهي مشهورة بالفصاحة.

وفي العربية الجنوبية قبائل تتكلم اليوم بلهجات يرجع نسبها إلى اللهجات العربية الجنوبية القديمة، لأن في ألفاظها وفي تراكيب جملها، و دراستها في هذا اليوم، ضرورة لازمة لمن يريد الوقوف على تأريخ اللغة العربية قبل الإسلام، ومن الضروري كذلك وجوب دراسة اللهجات "الشحرية" و "المهرية" و "السواحلية" و "السقطرية"، و لهجات السواحل الأفريقية المقابلة لجزيرة العرب للوقوف على تطور اللغات العربية الجنوبية، وعلى حل رموزها التي لا تزال مغلقة غير معروفة عند علماء هذا اليوم. لما لهذه اللهجات من صلات بالعربيات الذكورة.

وارى من الضروري دراسة اللهجات العربية الحالية في كل مكان من أمكنة جزيرة العرب، ولا سيما في المواضع التي استخرج العلماء من باطنها نصوصاً مدوّنة بلهجات عربية قديمة، مثل أعالي الحجاز لنتمكن بهذه الدراسة من حل معضلات تلك الكتابات ومن تكوين رأي علمي واضح عن تطور تلك اللهجات فيما قبل الإسلام.

وارى من الضروري في هذا اليوم وجوب تأليف معجم لغوي، يضم اللهجات العربية القديمة، أي اللهجات الجاهلية التي وردت في النصوص الجاهلية، للوقوف عليها، و لا سيما على اللفظ الغريب منها، ومقارنتها بالألفاظ التي ترد في اللهجات العربية الأخرى لإحياء ما يمكن احياؤه من الميت منها، واستعماله في هذا اليوم، للاشياء التي قصرت العربية الفصحى عن وضع مسميات لها،أو،أن مسمياتها حوشية، لا تنسجم مع الذوق، وادخال الألفاظ الواردة في النصوص في المعاجم الموسعة العلمية التي تؤرخ الألفاظ، بأن تشير إلى ورودها لأول مرة في الشعر أو في للنصوص الجاهلية. كما أرى من الضروري وجوب العناية بدراسة ما ذكره العلماء عن اللهجات دراسة علمية نقدية تقوم على المقابلة والمطابقة والمقارنة باللغات الأخرى مع تسجيل قواعدها حسبما أمكن.

الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة
 لغة القرآن

 ولتشخيص لغة القرآن صلة كبيرة في تعيين وتثبيت المراد من العربية الفصيحة أي العربية المبينة. ولهذا فأنا
ضطر إلى التعرض لها، وإن كان الموضوع بحثنا إسلامياً، فأقول نزل القرآن منجماً )بلسان عربي مبين(.ولكن العرب كانوا ولا زالوا يتكلمون بلهجات، فبأي لهجة من لهجاتها نزل القرآن الكريم ? لقد تطرق "الطبري" في مقدمة تفسيره إلى هذا الموضوع بعد أن تعرض لرأي من زعم أن في القرآن كلاماً أعجمياً، وأن فيه من كل لسان شيئاً، فقال: "قال أبو جعفر: قد دللنا على صحة القول بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه، على أن الله جل ثناؤه أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر إجناس الأمم، وعلى فساد قول من زعم أن منه ما ليس بلسان العرب وبلغتها. فنقول الآن:إذا كان ذلك صحيحاً في الدلالة عليه، فبأي ألسن العرب أنزل? أبالسن جميعها أم بألسن بعضها
? إذ كانت العرب وإن جمع جميعها اسم انهم عرب، فهم مختلفو الألسن بالبيان، متباينو المنطق والكلام. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جلّ ذكره قد أخبر عباده أنه قد جعل القرآن عربياً، وأنه أنزل بلسان عربي مبين، ثم كان ظاهره محتملاً خصوصاً وعموماً، لم يكن السبيل إلى العلم بما عنى الله تعالى ذكره من خصوصه وعمومه إلاّ ببيان من جعل إليه بيان القرآن، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كان ذلك كذلك، وكانت الأخبار قد تظاهرت عنه،صلى الله عليه وسلم، بما حدثنا خلاد بن اسلم، قال: حدثنا أنس بن عياض عن ابي حازم عن أبي سلمة، قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أنزل القرآن على سبعة احرف، فالمراء في القرآن كفرٌ، ثلاث مرات، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه.

واستمر الطبري بعد ذلك في تعداد الطرق التي ورد فيها هذا الحديث: حديث "أنزل القرآن على سبعة احرف"، ورواية بعض الأخبار الواردة في حدوث اختلاف بين الصحابة في حفظ بعض الآيات وقراءتها. ثم خلص بعد هذا السرد إلى نتيجة، هي أن القرآن "نزل بالسن بعض العرب دون ألسن جميعها، وأن قراءة المسلمين اليوم ومصاحفهم التي بين أظهرهم هي بعض الألسن التي نزل بها القرآن دون جميعها"، فلم يجزم بتعيين اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم. وحديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف" حديث معروف مشهور، يرد في كتب التفسير وفي كتب المصاحف والقراءات. ورد بطرق متعددة، وبأوجه مختلفة. وهذه الطرق والأوجه، إن اختلفت في سرد متن الحديث وفي ضبط عباراته، قد اتفقت في الفكرة، وخلاصتها نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف. ويقصدون بالحرف وجهاً من أوجه الالسنة، أي لهجة من اللهجات.

أما رجال سند هذا الحديث، فعديدون، وفي حال بعضهم كابن الكلبي وأبي صالح مغمز. وهم جميعاً يرجعون سندهم إلى جماعة من الصحابة، هم نهاية سلسلة السند، قالوا: إنهم سمعوا الحديث من الرسول، ويعنون بهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وأنساً، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ارقم، وسمرة بن جندب، وسليمان بن صرد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن أبي سلمة، وعمرو ين العاص، ومعاذ بن جبل، وهشام بن حكيم، وابا بكرة، وأبا جهم، وأبا سعيد الخدري، وأبا طلحة الأنصاري، وأبا هريرة، وأبا أيوب، وجملتهم واحد وعشرون صحابياً على بعض الروايات.

وورد في الحديث، حديث آخر يرجع سنده إلى "ابن عباس" فيه تأييد له، نصه أن رسول الله قال: "اقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم ازل استزيده ويزيدني حتىّ انتهى إلى سبعة أحرف"، وحديث اخر، نصه: "إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف،فرددتُ إليه: أن هو"ن على أمتي، فارسل اليَ: ان اقرأ على حرفين، فرددت إليه: ان هون على أمتي، فأرسل الي أن اقرأه على سبعهَ أحرف"، وحديث ثالث نصه:" إن جبريل وميكائيل أتياني، فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل: اقر القرآن على حرف، فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف"، "في حديث أبي بكرة عنه: فنظرت إلى ميكائيل فسكت. فعلمت أنه قد انتهت العدة". وهناك أحاديث أخرى بهذا المعنى.

ونجد في كتب التفسير والحديث والأخبار احاديث وأقوالا تشير إلى ان بعض الصحابة كانوا يقرئون قراءات متباينةُ كانوا يتعززون بقرائهم ويتمسكون بها، ومنهم من كان يقرأها على الرسول فلم يعترض عليها، بل روى أنه قال: "اقرأوا كما علمتم"، وروي أنه "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه ُسلم، فقال له: اقراني عبدالله بن مسعود سورة اقرانيها زيد واقرأنيها ابي بن كعب، فاختلفت قرائتهم، فبقراءة أيهم اخذ ? قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وعلي إلى جنبه،قال علي: ليقرأ كل إنسان بما علم كل حسن جميل" ورووا على لسان عمر بن الخطاب قوله: "سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقُرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت اساوره في الصلاة، فتصبرت حنى سلم. فلما سلم، لبيته بردائه، فقلت: من اقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها ? قال: اقرأنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم. فقلت: كذبت، فو الله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤهاَ. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان قال: فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: أرسله يا عمر. اقرأ يا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن انزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منها" وكالذي ذكروه من ان رجلا قرأ عند "عمر" فغير عليه، "فقال: لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه سلم، فلم يغيرّ علي"، فاختصما عند النبى. صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله الم تقرئني آية كذا وكذا ? قال: بلى، فوقع في صدر عمر شيء. فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك في وجهه. فضرب صدره. وقال: أبعد شيطاناً ! قالها ثلاثاً. ثم قال: يا عمر: ان القرآن كله صواب" ما لم تجعل رحمة عذاباً، أو عذاباً رحمة".

وروي "ان رجلين اختصما في أية من القرآن وكل يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه، فتقارءا إلى ابي " فخالف ابي فتقارأوا إلى النبي صلى اللهُ عليه سلم، فقال: يا نبي الله اختلفنا في آية من قرآن وكلنا يزعم أنك أقرأته فقال لأحدهما: اقرا، قال:فقرأ، فقال: أصبت. وقال للاخر: اقرأ، فقرأ خلاف ما قرأ صاحبه، فقال: أصبت. وقال لأبي: اقرأ، خالفهما، فقال: أصبت. قال أبي فدخلني من الشك في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دخل في من امر الجاهلية. قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي في وجهي، فرفع يده فضرب صدري، وقال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم. قال: ففضتُ عرقاً، وكأني أنظر إلى الله فَرقاً،وقال: إنه أتاني آت من ربي، فقال: إن ربك يأًمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب، خفف عن أمتي. قال: ثم جاء ? فقال: إِن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلتُ: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاء الثالثة، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد.فقلت: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاءني الرابعة" فقال إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة الخ".

ورُوي عن زيد بن وهب، قال: أتيت ابن مسعود استقرئه آيةة من كتاب الله، فأقرأنيها كذا وكذا فقلت: إن عمر أقرأني كذا وكذا خلاف ما قرأها عبدالله. قال فبكى حتى رأيت دموعه خلال الحس، ثم قال: إقرأها كما أقرأك عمر، فوالله لهي أبين من طريق السيلحين.

وأورد العلماء أحاديث اخرى بهذا المعنى، تظهر كلها وقوع اختلاف بين الصحابة في قراءة القرآن، وعلم الرسول به، وتجويزه لهم القراءة بقراءتهم كل إنسان بما علم.

وقد اختلف العلماء في معنى هذه السبعة الأحرف وما اريد منها على أقوال. جمعها القرطبي على خمسة وثلاثين قولا،، وجعلها "السيوطي" علىنحو أربعين قولا، تحدث هو وغيره عنها، والحديث عنها في هذا الكتاب يخرجنا من حدود بحثنا المرسومة، وهو التأريخ الجاهلي، لنذلك فسوف لا أتكلم في هذا المكان ألا عن الأقوال التي عينت تلك الأحرف ونصت على أسمائها بالنصُ والتعيين، فأقول: قد رأينا الأحاديث المذكورة والأخبار المروية، وهي عامة، لم تنص على كون المراد من الأحرف السبعة حرفا معيناً، ولساناً خاصاً من ألسنة العرب، غير أننا نجد أخباراً، نصت على تلك الأحرف وعينتها وشخصتها، إذا تتبعنا سندها ورجالها نجدها تنتهي ب "ابن عباس". واكثر القائلين بها هم من علماء العربية مثل "أبو عبيد" و "أبو عمرو بن العلاء" وثعلب، والأزهري، وسند هذه الأخبار "الكلبي" عن "أبي صالح" عن "ابن عباس"، أو عن "قتادة" عن ابن عباس، وأمثال ذلك من طرق، فقد ورد عن "ابن عباس" قوله: نزل القرآن على سبع لغات، منها خمس بلغة العجز من هوازن، قال أبوعبيد: ُالعجز، هم بنو سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية،وثقيف، هؤلاء كلهم من هوازن. يقال لهم: عليا هوازن. ولهنا قال ابو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم، يعني بني دارم، "واخرج ابو عبيد من وجه آخر، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش وكعب خزاعة. قال: وكيف ذلك ? قال: لأن الدار واحدة، يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش، فسهلت عليهم لغتهم".

"وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش وهذيل وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر". وذكر بعض آخر أنه نزلّ بلغة قريش، وهذيل، وثقيف، هوازن، وكنانة، وتميم، واليمن وسعد بن يكر، هم من عليا هوازن. معنى هذا أنه نزل بلغات عدنانية ولغات قحطانية، أي بجميع ألسن العرب.

وقد تعرض "الطبري" للاقوال المذكورة، فقال "وروى جميع ذلك عن ابن عباس، وليست للرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله، وذلك ان الذي روي عنه ان خمسة منها من لسان العجز من هوازن: الكلبي عن أبي صالح، وان الذي روي عنه ان اللسانين اللآخرين لسان قريشُ وخزاعة: قتادة، وقتادة لم يلقه ولم يسمع منه"، وقد ضعف "ابن الكلبى"، ورفض علماء الفقه والحديث الأخذ عنه. وضعف "ابو صالح" كذلك واتهم بالكذب: "قال ابن معين: إذا روى عنه الكلبى فليس بشيء".

وأما "قتادة"، فذكر "الطبري" عنه أنه لم يلق "ابن عباس"، ولم يسمع منه فحديثه عن ابن عباس إذن مما لا يجوز الأخذ به. فروايته: "نزل القرآن بلسان قريش ولسان خزاعة"، رواية لا يعتمد عليها لهذا السبب. ولقتادة رواية أخرى بهذا المعنى نسبها إلى "أبي الاسود الدؤلي"، زعم أنه قال: "نزل القرآن بلسان الكعبين: كعب بن عمرو، وكعب بن لُؤي". وقد علق "خالد ابن سلمة" على هذا الكلام فقال: "ألا تعجب من هذا الأعمى يزعم إن القرآن نزل بلسان الكعبين ?وانما نزل بلسان قريش" - قال مخاطباً به "سعد بن ابراهيم"، وقد رمي قتادة بالتدليس.    

وينتهي سند هذا الحديث: "أنزل القرآن على سبعهّ احرف" إلى "ابي هريرة" وقد كثر القول عن أبي هريرة، وأكثر "أبو هريرة" الحديث عن رسول الله، حتى قال الناس أكثر أبو هريرة الحديث عن رسول الله، وكان يقول لهم:" اني كنت امرءاً مسكيناً، اصحب رسوله الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني. وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان الأنصار يشغلهم القيام على اموالهم"، وذكر ان مسند" تقي بن مخلد، احتوى من حديث أبي هريرة على خمسة آلافُ و ثلثمائة حديث وكسر"، وقد يكون بعض ما اسند إليه مما اكثر عليه، اكثره عليه من جاء بعده، ثم إن علينا نقد حديثه، فليس هو بمشرع ولا معصوم، حتى نقبل منه كل ما روي عنه بل روي ان "عمر بن الخطاب" قال له:" أكثرت يا ابا هريرة من الرواية، واحر بك أن تكون كاذباً على رسول الله. ثم هدده وأوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله فإنه ينفيه إلى بلاده.

وقد اخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بارض دوس".

وهناك رأي ثالث يقول انه نزل بلغة مضر، لقول "عمر": نزل القرآن بلغة مضر وعين بعضهُم - فيما حكاه - ابن عبد البر السبع من مضر، أنهم هذيل، وكنانة، وقيس، وضبه، وتميم الرباب، واسد بن خزيمة،وقريش، فهذه قبائل مضر، تستوعب سبع لغات". وذكر أن "عمر" لما أراد "أن يكتب الإمام، أقعد له نفرا منّ أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر".ولما كانت القّبائل المذكورة من مجموعة "مضر"، تكون لغة القرآن، وفقاً لهذا الرأي لغة مضر، لا لغة قريش، وروي عن "عبد الله بن مسعود"، أنه كان يستحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر.

وعندنا أخبار أخرى تفيد أن القرآن إنما أنزل بلغة قريش. من ذلك ما روي من قول عمر: "لا يملين في مصاحفنا هذه إلا غلمان قريش، او غلمان ثقيف". وفسروا ذلك بأنه يعني أن القرآن إنما نزل بلغة قريش. وما روي من قول "عثمان" للرهط القرشيين الذين أوكل اليهم جمع القرآن وكتابته: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم. ففعلوا"، وما روي عنه أيضاً، من أنه لما استفتى في اختلاف "زيد" مع الرهط في كتابة التابوت أيكتبونه بالتاء أو الهاء، وقال الثلاثة القرشيون إنما هو التابوت، وقال زيد انما هو التابوه، قال: "اكتبوه بلغة قريش، فان القرآن نزل بلغتهم"، وما روي.عنه أيضاً من قوله الرهط الذين أمرهم بكتابة القرآن: "إذا اختلفتم انتم وزيد في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن نزل بلسانهم ففعلوا".

واستنكر "ابن قتيبة" قول من قال ان القرآن نزل بلغات اخرى، فقال:"لم ينزل القرآن إلاّ بلغة قريش"، واحتج بالآية: ) وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه(. واحتج آخرون بقول "عمر" لعبدالله بن مسعود: "إن القرآن لم يزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش".

ُروي في "البخاري"، أن القرآن نزل بلسان قريش والعرب. وقريش خلاصة العرب. " وذكر بعض العلماء انه نزل بلغة الحجازيين إلا قليلا، فإنه نزل بلغة التميمين كالإدغام في: ومن يشاق الله، وفي: ومن يرتد منكم عن حينه ؛ فإن ادغام المجزوم لغة تميم،ولهذا قل، والفك لغة الحجاز ولهذا كثر".

وذكر بعض العلماء "ان في القرآن من أربعين لغة عربية وهي: قريش، هذيل، وكنانة، وخثعم، و الخزرج، وأشعر، ونمير، وقيس عيلان، وجرهم، واليمن، وأزد شنوءة، وكندة، و تميم، وحمير، ومدين، ولخم، وسعد العشيرة، وحضرموت، وسدوس، والعمالقة، وانمار، و غسان، ومذحج، وخزاعة، وغطفان، وسبأ، وعمان، وبنو حنيفة، وثعلب، وطيء، وعامر ابن صعصعة، واوس، ومزينة، وثقيف، وجذام، وبلي، وعذرة، وهوازن، والنمر، و اليمامة.

وذكروا أن مما وقع في القرآن من غير العربية: الفرس، والروم، والنبط، و الحبشة، والبربر، والسريانية، والعبرانية، والقبط.

وقال بعض العلماء: "انزل القرآن اولاً بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح العرب أن يقرأوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعلاء على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الإنتقال عن لغته إلى لغة اخرى للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيل فهم المراد".

وذهب "الباقلاني" إلى أن "معنى قول عثمان إنه نزل بلسان قريش، أي معظمه، ولم يقم دليل على أن جميعه بلغة قريشا كله، قال الله تعالى)قرآناً عربياً(، ولم يقل قرشياً، قال: واسم العرب يتناول جميع القبائل تناولا" واحداً يعني حجازها ويمنها، وكذا قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر، قال: لأن لغة غير قريش موجودة في صحيح القراءات كتحقيق الهمزات فأن قريش لا تهمز، وقال ابن عطية: قال ابن عباس: ما كنت أدري معنى فاطر السماوات والأرض، حتى سمعت اعرابياً يقول لبئر ابتدأ حفرها: أنا فطرتها".

وسند القائلين: إن القرآن نزل بلسان قريش، كون الرسول من مكة،ومكة موطن قريش، فلا بد من نزول كتاب الله بلسانهم، ليكون حجة عليهم واعجازاً لفصحائهم، دليل ذلك قوله تعالى: )وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم(، فعلى هذا تكون لغة القرآن لغة قريش، ولما جاء في الأخبارالتي رويت عن "عمر" و "عثمان" من أنه نزل بلسان قريش.

ومن حججهم أيضاً ما رووه من قوله "ابي عبيد الله" من قوله "أجمع علماؤنا بكلام العربُ الرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وايامهم ومحالهم ان قريشا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغةّ. و ذلك أن الله - جل ثناؤه - اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشاً قطان حرمه وجيران بيته الحرام وولاته. فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش في امورهم.وكانت قريش تعلَمهم مناسكهم وتحكم بينهم. ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم، وتسميها أهل الله،لانهم الصريح من ولد اسماعيل عليه السلام، ولم تشبهم شائبة" ولم تنقلهم عن مناسبهم ناقلة، فضيلة من الله جل ثناؤه، لهم وتشريفاً، إذ جعلهم رهط نبيه الأدنين وعترته الصالحين. وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم واشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم. فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طُبعوا عليها، فصاروا بذلك افصح العرب. ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم، ولا عجرفية قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا الكسر الذي نسمعه من أسد وقيس".

وروي عن "قتادة" قوله: "كانت قريش تجتبي، أي تختار، أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتهم لغتهم، فنزلّ القرآن بها".

ثم إنها كانت بعيدة عن الأعاجم، فصان بعدها عنهم لسانها عن الفساد، وحفظها من التأثر بأساليب العجم، حتى إن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية.

ولكننا نجد خبراً يذكر أن "عثمان" قال للرهط الذين أمرهم بجمع القرآن وكتابته: "اجعلوا المملي من هذيل، والكاتب من ثقيف"، وليست هذيل ولا ثقيف من قريش. وتجد خبراً اخر يذكر أنه كانت غمغمة في لغة قريش، والغمغمة من اللغات الرديئة التي أخذها علماء اللغة على اللغات العربية الأخرىَْ، فكيف تتفق الغمغمة مع ما ذكروه من صفاء و نقاء وسهولة وبيان لغة قريش ثم نجد خبراً يذكر أن الخليفة "أبو بكر"، لما هم " بجمع القرآن، بعد إلحاح "عمر" عليه بذلك، "أجلس خمسة وعشرين رجلا من قريش، وخمسين رجلا من الأنصار، وقال: اكتبوا القرآن، واعرضوا على سعيد بن العاص، فإنه رجل فصيح"، ولو كان القرآن قد نزل بلغة قريش، لما اختار هذا العدد الكثير من الأنصار، وهم من غير قريش،ومن منافسي مكة في الجاهلية والإسلام، إن صح هذا الخبر، الذي اشك في صحته.

ثم نجد خبراً آخر يناقض الخبر المتقدم،يقول: "لما كُتبت المصاحف عُرضت على عثمان، فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: لا تغيروها ؛ فإن العرب ستغيرها أو قال ستعربها بالسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل، لم توجد فيه هذه الحروف". وهو خبر أشك في صحته، وللعلماء فيه آراء.

وأما ما قالوه من اختلاف "زيد" مع النفر القرشين الذين أشركوا معه في جمع القرآن من "كتابة "التابوت" بالتاء أو بالهاء، وكان من رأيه كتابتها "التابوه"، ومن رأي "عثمان" "التابوت"، فقد ذكر العلماء أن "التابوه" لغة في التابوت أنصارية. واللفظة هي من المعربات،أخذها الأنصار من العبرانية، فهي عندهم "ت ب ه" "ط ب ه" Teba Tebh بمعنى صندوقْ. وقد كتبت في القرآن بالتاء. وقد وردت اللفظة في سورة "طه"، وهي مكية، ووردت في سورة البقرة وهي مدنية..

واقرب الأقوال المذكورة إلى المنطق، هو قول من قال إنه نزل بلسان عربي وكفى فاسم العرب يتناول جميع القبائل تناولا" واحداً، يعني حجازها ويمنها وكل مكان آخر من جزيرة العرب، ثم ما بالنا نفسر ونؤول، ونلف وندور في. تفسير: "أنزل القرآن على سبعة احرف"، وهو حديث، روي بروايات تحتاج إلى نقد، وفيها ضعف، وأخبار ضعيفة، لا تقف على قدميها، ثم نترك كتاب الله القائل: )نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين(، و )هذا لسان عربي مبين( و )إنا أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون(، و )كذلك أنزلناه حكماً عربياً(، و )كذلك انزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد(، و )قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون(، و )كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون(، و )كذلك اوحينا إليك قرآناً عربيا(، و )إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون(، ) وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا(، ولم يقل قرشيا، ولو نزل بلغة قريش لما سكت اللَه تعالى عن ذلك، لما في التنويه بلسانهم إى كان افصح السنة العرب من حجة على العرب في فصاحته وبيانه وكونه معجزة بالنسبة لقريش، افصح الناس وألسنهم، وليس بكلام العرب عامة الذين هم على حدّ قول أهل الأخبار دون قريش في اللغة والكلام.

وما آية: )وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم(، إلا دليلاً وحجة على نزول القرآن بلسان العرًب، لا بلسان قريش، أو بلسان قبيلة معينة، أو قبائل خاصة. فالآية تقول: ) ما أرسلنا إلى أمة من الأمم يا محمد من قبلك ومن قبل قومك رسولاّ إلا بلسان الأمة التي أرسلناه إليه ولغتهم، ليبين لهم يقول: ليفهمهم ما أرسله الله اليهم من أمره ونهيه وليثبت حجة الله عليهم ثم التوفيق والخذلان بيد الله". ولما كان النبي عربياً، وقد نعت في القرآن أنه "النبي الأمي"، الذي أرسله الله إلى الأميين، "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم"، والأميون هم العرب، العرب كلهم، ولما كان الله قد أرسله إلى قومه العرب، وجب إن يكون الوحي بلسانهم المفهوم بينهم، بلسان طائفة منهم، يؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم نفسه من أنه نزل يلسان عربي مبين. "قال الأزهري: وجعل الله، عز وجل، القرآن المنزل على ألنبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عربياً، لأنه نسبه إلى العرب الذين انزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها، العربية، وجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، عربياً لأنه من صريح العرب". وقال "ابن خلدون": "أن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى اساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه".. وقال "الطبري" في تفسيره للاية: )انا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون(، "يقول تعالى ذكره: انا أنزلنا هذا الكتاب المبين قرآناً عربياً على العرب، لأن لسانهم وكلامهم عربي، فأنزلنا هذا الكتاب بلسانهم ليعقلوه ويفقهوا منه. وذلك قوله عز وجل ) لعلكم تعقلون(.

"قال ابن أبي داود في المصاحف: حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا ابي، حدثنا سعيد بن عبد العزيز: أن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص، لأنه كان اشبههم لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولهذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن. ونعت انه كان أحد أشراف قريش ممن جمع السخاء والفصاحة" وفي هذه الامارة دلالة على أن لهجة الرسول، لم تكن لهجة عامة قريش، وإنما كانت بالعربية التي نزل بها القرآن، ولهذا نص على أن لهجة "سعيد" كانت مشابهة للهجة الرسول، وكان من أفصح رجال قريش، ولو كانت عربية القرآن عربية قريش، لما كان هنالك معنى لقولهم: إن عربية القرآن اقيمت على لسان سعيد، لأنه كان أشبهبم لهجة برسول الله، إذ لو كانت عربية القرآن عربية قريش، لنص عليها، ثم لكان في وسع أي رجل كاتب من قريش، تدوينه، لفصاحة قريش، ولكن سعيدا كان من فصحاء قريش، لأنه كان يتكلم بعربية فصيحة، هي العربية التي نزل بها القرآن، والتي عرف فصحاء قريش فصاحتها، فاعرفوا لذلك بنزوله بافصح لغة وأبين بيان.

وقد ذهب "نولدكه" إلى أن القول بنزول القرآن بلسان قريش، إنما ظهر في العصر الأموي، لاظهار عصبيته منها على الأنصار، ونظراً لكون القرآن كتاب الله فلادعاء نزوله بلغة قريش أهمية كبيرة بالنسبة لهم، ولتأييد سياستهم المناهضة للأنصار والقحطانيين.

ويلفت حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" النظر إليه لاحقاً، فقد حصر القراءات في "سبعة أحرف". والأحرف الألسنة، مع أن العلماء يذكرون أن في القرآن من كل لغة، وأن فيه خمسين لغة. فإذا كان فيه هذا العدد أو نحوه، فما بال هذا الحديث يحصرها في سبعة فقط لا تزيد ولا تنقص وهي أحرف ثبتها العلماء ونصوا على أسمائها نصاً. هل أخذوا هذا الحديث من "السبع المثاني" في القرآن. الكريم، من قوله: )ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم(. أو أخذوه من عدد سبعة الذي يرد في مواضع عديدة من القرآن الكريم ? مثل سبع سماوات، وسبع سنابل، وسبع سنبلات، وسبع بقرات، وسبع سنين، وسبع شداد، والسماوات السبع، وسبع لبيال، وسبعاً شداداً، وسبعة أبواب، وسبعة أبحر، والعدد سبعة هو عد الأيام التي أتم الله فيها الخلق كله، وعدد أيام الاسبوع، ونحو ذلك. والعدد سبعة عدد لعب دوراً خطيراً عند الشعوب القديمة، فالأرض سبع طبقات، والسموات سبع طباق، وأنغام الموسيقى سبعة، والعدد سبعة عدد مقدس، لعب دوراً في الرياضيات القديمة وفي نظريات "فيثاغورس"، وعيون الشعر الجاهلي هي سبعة، هي القصائد السبع الطوال، أو المعلقات السبع، فهل اقتصر الحديث على هذا العدد لسبب من هذه الأسباب أو ما شابها من أسباب ?.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن العدد سبعة لا يمثل، حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة. ولفظ "السبعة" يطلق على إرادة الكثرة في الاحاد، كما يطلق السبعون في العشرات والسبعمائة في المئتين، ولا يراد العدد المعين. ويرده ما في كتب الحديث والأخبار من النص على العدد سبعة بصورة لا تقبل الشك في أن المراد منه ضيق العدد وانحصاره، ثم تعيين هذه الكتب اللهجات السبع بالأسماء، وقد ألف "الصعفدي" كتاباً في عدد السبعة، سماه "عين النبع على طرد السبع" قال فيه إن السبعة جمعت العدد كله، وهذا العدد يمثل الكمال، فأنا لا استبعد ان يكون هذا الحديث قد جاء من هذه الفكرة.

القراءات السبع

ومن الأحرف السبعة ظهرت نظرية القراءات السبع، القراءات المعتبرة المعتمدة عند القراء، وهي ترجع إلى أئمة ارتبطت القراءات بأسمائهم، وعليها يقتصر في القراءات وهي نتيجة تطور سابق لقرّاء سبقوا هؤلاء الأئمة الذين اعتمد عليهم في القراءات، وعلى قراءاتهم يقرأ من يستحق لقب "مقرئ" أو "قارئ"، وإن كَانت هنالك روايات تزيد بعض الزيادات على هذه المقراءات.

ولأجل تكوين فكرة علمية صحيحة عن هذه الأخبار وعن درجة سعة هذا   

الاختلاف ومقدارها وما يجب أن يقال فيها، لا بد من نقد كل ما ورد في هذا الباب من حديث وروايات، وغربلته غربلة دقيقة. وتكون أول هذه الغربلة في نظري بنقد سلسلة رجال السند، أي الرواة، لمعرفة الروابط التي كانت تربط بينهم وصلة بعضهم ببعض وملاقاتهم، وما قيل وورد فيهم، إذ نسبت احاديث إلى أشخاص قيل انهم رووها عن أناس ثقات، ثبت من النقد أن بعض رجال السند لم يلتقوا في حياتهم بمن حدثوا عنهم كما في حديث قتادة عن ابن عباس، أو أنهم رووا ما رووه تسرعاً وبدون سند أو إجازة لمجرد سماعهم برواية أولئك الأشخاص لتلك الروايات.

ثم إن هذا النقد لا يكفي وحده، بل لا بد من نقد متن الحديث من حيث لغته وأسلوبه ومضمونه وروحه، ومن حيث انطباق بعض الروايات على جوهر القرآن الكريم وما عرف عن الرسول. فبهذا النقد للمتن، نتمكن من الحكم على إمكان صدور الحديث عن الرسول أو عدمه.

وبعد كلّ ما تقَدم، علينا حصر أمثلة الاختلاف التي ذكرها العلماء، وضبط كل ما ورد في الأخبار من هذا القبيل، لنتمكن من الحكم على مقدار ما اختلف فيه وسعته ودرجة موافقته لما جاء في ذلك الحديث وفي تلك الأخبار، ثم دراسة، هذه الكلمات التي قيل انها تمثل لهجات قبائل وانها حرف من هذه الأحرف السبعة المذكورة في الحديث، لقد لخص "ابن قتيبة" الأحرف السبعة بالأوجه التي يقع بها التغاير: فأولها: ما تتغير حركته، ولا يزول معناه ولا صورته، مثل: ولا يضار كاتب - بفتح -الراء وضها.

وثانيها: ما يتغير بالفعل مثل بعَدَ وباعد، يلفظ الطلب والماضي.

وثالثها: ما يتغير باللفظ مثل: نُنشزها وننُشرها بالراء المهملة.

رابعها: ما يتغير بإبدال حرف قريب المخرج مثل طلح منضود وطلع منضود.

خامسها: ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل:وجاءت سكرة الموت بالحق، وجاءت سكرة الحق بالموت.

وسادسها: ما يتغير بالزيادة والنقصان، مثلاً: وما خلق الذكر والأنثى، والذكر والأنثى، بنقص لفظ ما خلق.

سابعها: ما يتغير بإبدال كلمة بأخرى، مثل: كالعهن المنقوش، وكالصوف المنفوش.

وأجمل "ابن الجزري." الأوجه السبعة ب: 1 - و ذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو: البخل بأربعة أوجه، ويحسب بوجهين.

2 - أو بتغير في المعنى فقط فى: فتلقى آدمُ من ربه كلماتٍ، برفع آدم ونصب لفظ كلمات وبالعكس.

3 - واما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو: تبلو، وتتلو.

4 - وعكس ذلك، نحو بصطة وبسطة، ونحو الصراط والسراط.

5 - أو بتغيرهما نحو فامضوا، فاسعوا.

6 - وإما في التقديم والتأخير، نحو فيقتلون، ويقتلون، بفتح ياء المضارعة مع بناء الفعل للفاعل في إحدى الكلمتّين،وبضمها مع بناء الفعل للمفعول في الكلمة الأخرى.

7 - أو في الزيادة والنقصان.

وقد أوجز "أبو الفضل" الرازي" الحروف السبعة في: 1 - اختلاف الأسماء من إفراد، وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث.

مثل: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، قرئ هكذا جمعاً، وقرىء لأمانتهم بالإفراد.

2 - اختلاف تصريف الأفعال من ماض، ومضارع، وأمر، مثل: فقالوا: ربنَّا باعد بين أسفارنا، قرئ هكذا بنصب لفظ ربنا على أنه منادى، وبلفظ باعد فعل أمر، وبعبارة أنسب بالمقام فعل دعاء، وقرىء هكذا: ربئا بعدَّ يرفع رب على أنه مبتدأ وبلفظ بعَد، فعلاً ماضياً مضعف العين جملته خبر.

3 - اختلاف وجوه الإعراب، مثل: ولا يضار كاتب ولا شهيد. قرىء بفتح الراء وضمها، فالفتح على أن لا ناهية، فالفعل مجزوم بعدها، والفتحة الملحوظة في الراء هي إدغام المثلين. أما الضمّ فعلى أن لا نافية، فالفعل مرفوع بعدها.

4 - الاختلاف بالنقص والزيادة. مثل: وما خلق الذكرَ والأنثى، قرىَء بهذا اللفظ، قرئ أيضاً والذكرَِ والأنثى، بنقص كلمة ما خلق.

5 - الاختلاف بالتقديم والتاخير. مثل: وجاءت سكرة الموت بالحق، وقرئ: وجاءت سكرة الحق بالموت.

6 - الاختلاف يالإبدال، مثل: وانظر إلى العظام كيف ننشزها، بالزاي، وقرئ ننشرها بالراء. ومثل: وطلح منضود، بالحاء، وقرىء طلع بالعين. فلا فرق في هذا الوجه أيضاً بين الاسم والفعل.

7 - اختلاف اللغات، أي اللهجات، كالفتح والإمالة، والترقيق والتفخيم، والإظهار: والإدغام ونحو ذلك.

ونحن إذا تعمقنا في درس مواضع الاختلاف، وهي أهم ما يتصل بلهجة القرآن الكريم، وسجلناها تسجيلا دقيقاً شاملاً، تجد أنها ليست في الواقع اختلافاً في أمور جوهرية تتعلق بالوحي ذاته، وإنما هي في الغالب مسائل ظهرت بعد نزول الوحي من خاصية القلم الذي دون به القرآن الكريم. فرسم اكثر حروف هذا القلم متشابه، والمميز،بين الحروف إلمتشابهة هو النقط، وقد ظهر النقط بعد نزول الوحي بامد كما يقوله العلماء، ثم إنّ هذا القلم كان خالياً في بادئ امره من الحركات، وخلوّ الكلم من الحركات محدث مشكلات عديدة في الظبط من حيث اخراج الكلمة، أي كيفية النطق بها، فمن حيث مواقع الكلم من الإعراب.

كل هذه الأمور وأمور أخرى تعرض لها العلماء، أحدثت في الغالب القسم الأعظم مما يعد اختلافاً في القراءات.

ويعود القسم الباقي من مواضع الاختلاف إلى سبب أراه لا يتعلق أيضاً يمتن النص، وإنما هو، كما يتبين من الإمعان في دراسته ومن تحليل الآيات المختلف فيها، زيادات وتعليقات من ذهن الحفّاظ والكتاب على ما أتصور،لعدم وضوح المعنى لديهم، لعلها كانت تفسيراً أو شرحاً لبعض الكلم دوّنت مع الأصل، فظنت فيما بعد من الأصل. واثبات التفسير مع المتن، جائزعلى بعض الروايات. ويعود قسم آخر منه إلى استعمال كلمات قد تكون مخالفة لكلمة من حيث شكلها، ولكنها متفقة معها في معناها، والى استعمال كلمات متباينة في الشكل وفي المعنى. وهذا القسم هو، ولا شك، أهم اقسام الاختلاف، واليه يجب أن توجه الدراسة.

هذه الأمور المذكورة، تحصر جميع ما ورد من اختلاف في كلمات أو آيات من القرآن الكريم. أما ما ذكره العلماء من الأوجه التفسيرية للحديث: حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف، ومن جعلها خمسة وثلاثين وجهاً أو سبعة أوجه أو أقل من ذلك أو أكثر، فإنها تفاسير متأخرة، وأوجه نظر قيلت لإيجاد مخارج مسوّغة لتفسير هذا الحديث.

ويصعب في هذا الموضع ذكر امثلة لهذه الأمور، فهي عديدة كثيرة، ذكرت في كتب المصاحف وفي كتب التفسير، وأورد شواهد منها "كولدتزهير" في كتابه عن "المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن"،يمكن الاطلاع عليها في الصورة العربية له المطبوعة بمصر. فمن أمثلة الاختلاف الحادث من الخط "تستكبرون" بالباء الموحدة و "تستكثرون" بالثاء المثلثة في الآية: )ونادى أصحاب الأعرافِ رجالاً يعرفونهم بسيماهم، قالوا: ما أغنى عنكم جَمعُكم. ما كنتم تستكبرون(. و "بشراً" أو "نشراً." في الاية: )وهو الذي يُرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته(. وكلمة "إياه" في الاية: )وما كان استغفارُ إبراهيم لأبيه إلا عن مَوعِدة وعَدَها إياه(، إِذ وردت أيضاً "اباه" بالباء الموحدة. وأمثال ذلك مما كان سببه النقط.

وبعد ملاحظة ما تقدم، وحصر كل ما ورد في المصاحف وما قرأه القراء من قراءات، تجد أن ما يختص منه باللهجات وباللغات قليل يمكن تعيينه،ومعظمه مترادفات في مثل: أرشدنا واهدنا، والعهن والصوف، وزقية وصيحة، وهلم وتعال وأقبل، وعجل وأسرعْ، والظالم والفاجر، وعتى وحتى، وأمثال ذلك. وهذه الأمثلة هي كلمات مختلفة لفظاً، ولكنها في معنى واحد. وهي كما ترى مفردات لا دخل لها في قواعد اللهجات.

وأما الاختلاف في الاظهار، والإدغام، والإشمام،لا والتفخيم، والترقيق،والمد، و القصر، و الإمالة، و الفتح، والتحقيق، و التسهيل، والابدال. فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظاً واحداً، وليس هو من قبيل الإختلاف المؤثر في قواعد اللهجة، إنما هو اختلاف في الصور الظاهرة لمخارج حروف الكلمات، فلا يصح أن يعد فارقاً كبيراً يمكن أن يكون حداً يفصل بين اللهجات، بحيث يصيرها لغة من اللغات،ثم إن بعضه يعود إلى الخط، وبعضه إلى التجويد، أي طريقة التلاوة والأداء.

وللحكم على أصل المترادفات، تجب مراجعة سلسلة السند للوصول إلى صحة تسلسل الأخبار من جهة، والى معرفة راوي الخبر والقبيلة التي هو منها لمعرفة القراءة التي قرأها، وهل هي من لهجة قبيلته، أم هي مجرد كلمة من اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم نفسها، تلقاها القارىء على الشكل الذي رواها في قراءته.

لقد أشار العلماء إلى أمثلة من كلمات غير قرشية وردت في القرآن الكريم، ذكروا أنها من لهجات أخرى، ومنها: الأرائك، ولا وزرَ، و"حور"، وأمثال ذلك رجع بعضهم أصولها إلى خمسين لهجة من لهجات القبائل، كما أشاروا إلى وجود كلمات معربة أْخذت من لغات أعجمية مثل الرومية، والفارسية،، والنبطية، والحبشية، السريانية، والعبرانية وأمثال ذلك، وألفوا فى ذلك كتباً، منها: كتاب لأبي عبيد القاسم ين سلام الهروي المتوفى سنة "223ه" "838 م"، واسمه: "رسالة في ما ورد في القرآن من لغات القبائل"، وكتاب لغات القرآن، لأبي زيد الأنصاري المتوفى سنة "214 ه" "829م"، وغيرهما. ولكن بحوث هؤلاء العلماء انحصرت في دراسة المفردات، أي الكلمات، لا غير ثم إن الذين تناولوها لم يكن لهم علم بأكثر اللغات التي رجعوا أصولها إليها، ولا سيما اللغات الأعجمية مثل الرومية، والسريانية، والنبطية، والحبشية.

غير إن من الجائز أن يكون هؤلاء قد سمعوا عنها من الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام ولكن طريقة السماع هذه لا تكفي لإعطاء حكم على أصل لغة، بل لا بد من وجود علم ومعرفة بقواعد تلك اللغة وتاريخها وتطورها، والإحاطة بالعلاقات التاريخية بين العرب وغيرهم قبل الإسلام لمعرفة كيفية دخول تلك الكلمات إلى العرب، وإيجاد وجه صحيح للمقارنة بين اللغتين، وهذا ما لم يحدث في تلك الأيام، ولمّا كانت قراءة عبد الله بن مسعود من القراءات المشهورة المعروفة، وكان عبد الله بن مسعود من قبيلة هذُيل، وجب علينا البحث في لهجة هذيل لمعرفة خصائصها ومميزاتها وما انفردت به عن غيرها من اللهجات. وهذيل من القبائل التي عرفت بجودة لهجتها، في تدوين القرآن الكريم. ولذلك رأى الخليفة عثمان أن يكون المملي من هذيل والكاتب من ثقيف، وقد ذكرت لهجتها في جملة اللهجات التي نص عليها في الحديث المذكور على نحو ما أشرت اليه، كما أخرجت عدداً من الشعراء جمع بعض العلماء أشعارهم في ديوان، وقد طبع في القاهرة ديوان شعراء هذيل. ويفيدنا شعر هؤلاء الشعراء بالطبع في الوقوف على لهجة هذه القبيلة. ولكن هذا الشعر هو مثل شعر سائر الشعراء الجاهليين الاخرين مصقول مهذب، هذّب على وفق قواعد اللغة العربية التي ضبطت في الإسلام، ثم هو مضبوط برواية رواة هم في الأغلب من غير هذيل ولهذا قلما تجد في شعر هؤلاء الشعراء وغيرهمً ما يختلف عن قواعد اللهجة العربية، حتى أننا لا نستطيع في هذه الحالة أن ندعي إن هذا الشعر هو بلهجة هذيل وقد حرمنا العقلُ الوقوف على لهجات القبائل التي أخرجت أولئك الشعراء ومعرفة موثراتها في شعر أولئك الشعراء.

ومن أهم الأمثلة التي أوردها العلماء في قراءة "ابن عباس" مما له علاقة باللهجات، قراءته كلمة "حتى" "عتى" في الآية: )ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجنه حتى حين". وقد ذكر المفسرون وعلماء اللغة أن هذه القراءة هي بلهجة هذيلْ، وأن "عتى" هي "حتى" عند هذه القبيلة ذلك لأن هذه القبيلة تستعمل حرف العين بدلاً من الطاء في لهجتها. ولم يشر العلماء إلى موضع أخرى استعمل "ابن مسعود" فيها كلمة "عتى" في موضع "حتى" الواردة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كما اننا لم نجد في كتب اللغة المتقدمة إشارة إلى استبدال هذيل حرف العين بحرف الحاء. ونظرية "فحفحة" هذيل، رأي متأخر لم يقرن بأدلة وامثلة، فهو رأي لا يمكن الأخذ به. وأظن أن هذه القراءة المنسوبة إلى "ابن مسعود"، هي من القراءات المتولدة من حدوث اشتباه في القراءة، من جراء عدم حصول التمييز بين "العين" و"الحاء" في "حتى". ووقوع الاشتباه بين الحرفين في ابتداء الكلمات، أمر ليس بصعب، وإلا فَلمَ انفرد ابن مسعود في هذا الموضع فقط، باستعمال "عتى"، ولم يستعملها في المواضع الأخرى وهي كثيرة في القرآن الكريم.

نعم، لقد ورد في روايات إن ابن مسعود قرا "نحم" بدلاً من "نعم" في القرآن الكريم، وأنه قرأ "بحثرَ" عوضاً عن "بعثر". وهذه الروايات تناقض الروايات السابقة التي تزعم أنه قرا "عتى" في موضع "حتى" في الآية المذكورة،إذ نجده في هذه الروايات يقرأ "العين" حاءاً، اي عكس تلك القراءة المنسوبة اليه. ثم إنّ المفسرين وعلماء القراءات، لم يشيروا إلى قراءات أخرى له من هذا النوع قلب فيها حرف العين حاء مع تعدّد ورود حرف العين في القرآن الكريم.

وهناك روايات تفيد أن أسداًَ وتميماً استعملوا حرف الحاء في موضع العين في بعض الحالات، فقالوا: "مَحهُم." بدلاً "معهُم" و "أأحهد" في موضع " أأعهد". ولكنها لم تشر إلى أمثلة أخرى من هذا القبيل. وهذان المثالان لا يكفيان بالطبع لإعطاء حكم في هذا الإبدال عند القبيلتين، ولكن هنالك رواية متأخرة لا نعرف مرجعها تفيد أن هذا الإبدال واقع في لهجة سعد بن بكر، وهي قبيلة تقع مواطنها في شمالي المدينة. ولكن ما صلة ابن مسعود بهذه القبيلة وهو من هذيل? هل نفترض أنه أخذ قراءته تلك من أفواه رجال هذه القبيلة ? إذا أخذنا بهذا الظنّ، وجب علينا اثبات ذلك بدليل، وذكر أسماء الصحابة الذين أخذ ابن مسعود منهم قراءته. ويجب حينئذ رجَعُ تلك القراءة إلى أولئلك الصحابة لا إلى ابن مسعود. والواقع أننا لا نستطيع أبداً الاتيان بدليلٍ ما يثبت استعمال هذيل حرف العين في كلامها في موضع الحاء وبالعكس.

ورأيي أن ما نسب إلى ابن مسعود في هذه القراءة أو القراءات الثلاث، سببه وهمٌ وقع فيه مَنْ نسب تلك القراءة إليه، وهو ناتج من كتابة المصحف المنسوب إليه. وإلا، فلا يعقل أن يقتصر ابن مسعود على هذه القراءة أو القراءات التي هي ليست من لهجة أهل مكة ولا أهل يثرب ولا هذيل، ثم يترك سائر المواضع، ولا يعقل كذلك تلفظ الرسول بهذه اللهجة الشاذة التي لا نعرف من كان يستعملها على وجه ثابت، وقد دل القرآن بأفصح اللهجات.

والى أمثال هذه القراءات الشاذة، التي يجب نقدها وتمحيصها بعناية، استند "كارل فولرس" في نظريته القائلة بحدوث تغيير في نص القرآن الكريم. وهي نظرية لم يُقرّها عليه بعض كبار المستشرقين. ولو فحصت ودققت، لتبين أنها بنيت على روايات لا تثبت أمام التمحيص، أخذها لمجرد ورودها في الكتب. ولكن ليس كل ما يرد في الكتب بأمر مسلم به.

وقد بحث العلماء في اللغات التي وقعت في القرآن بغير لغة قريش، وفي جملتها لغة حمير، ورجحت إلى بحوثهم، فوجدت أن ما نسب إلى الحميرية من كلمات، لا يحمل طابع الحميرية، وليس من لغة العرب الجنوبيين بشيء. وقل مثل ذلك عن لغة "جرهم"، فقد دونوا الفاظا زعموا أنها وردت بلغة "جرهم"، ونحن نعلم من أقوال أهل الأخبار أنفسهم أن "جرهماً" كانوا من الشعوب العربية البائدة التي هلكت قبل الإسلام بزمن طويل. وقد ماتت لغتهم معهم بالطبع، فكيف يمكن للعلماء من تشخيص هذه الألفاظ ومن أرجاعها إلى جرهم وقد وجدت أيضاً إن ما ذكروه من أمثلة اخرى على لغات القبائل الي وردت ألسنتها في القرآن هو من هذا القبيل، ولا سيما القبائل الهالكة مثل "مدين"، فالعلماء الذين شخصوا تلك اللهجات التي زعموا أنها وردت في القرآن، يذكرون أن بعض أصحاب هذه اللهجات هم من العرب البائدة، فهم ممن ماتوا وبادوا، وماتت لغتهم بموتهم، فما يذكرونه من الفاظ لغاتهم الواردة في القرآن، هو مما لا أصل له إذن. ثم إنهم نسبوا ألفاظاً إلى "حمير"، وجدنا أنها ليست حميرية أبداً، أضف إلى ذلك أنهم لم يدرسوا العربيات الجاهلية دراسة علمية، ولم يكن لهم علم بها، ولهذا فما ثبتوه ودوَنوه عن اللغات العربية في القرآن، لا يمكن الأخذ يه، لأنه لا يستند على علم بالموضوع، ولا على دراسات لتلك اللهجات.

ومن أمثلة ما ذكروه على أنه من لسان "حمير"، الأرائك، ولا وزر، بمعنى لا جبل، وحور، ولهو، بمعنى المرأة، ولا تفشلا، وعثر، وسفاهة، وزيلنا، مرجواً، وإمام وغير ذلك، وذكروا أن "باءوا"، وشقاق، وخيراً وكدأب، وأراذلنا، ولفيفاً، وغير ذلك من لغة جرهم، وهي كلها من تخرصات من نسبها إلى جرهم، لما قالوه أنفسهم من هلاك جرهم قبل الإسلام بزمان طويل، فمن أبلغهم اذن أن هذه الألفاظ من الفاظ جرهم، ولم نزلت في القرآن، وقد نزل الوحي للأحياء وليس للاموات!.

وقد ذهب البعض مذهباً بعيداً في اللغات الواردة في القرآن، فذهب إلى أن "غساق"، بمعنى المنتن بلسان الترك، وهو بالطخارية، وأن "سيدها" زوجها بلسان القبط، وأن "الأرائك" بالحبشية، وأن "سبحى" بلسان الحبشة، وأن "الجبت" الشيطان بلغة الحبش، وان "حرم" بمعنى وجب بالحبشية، وأن "سكر"، بمعنى الحل بلغة الأحباش، وأن "سينين" بمعنى الحسن بلسان الحبشة، وأن "شطر"حبشية، وان "العرم" حبشيهّ، وأن قنطار بلسان اهل إفريقية، إلى غير ذلك من ألفاظ.

ونجد رواية تذكر ان الصحابة لما تشاوروا في أمر تسمية القرآن، ما يسمونه ? "فقال بعضهم: سموه السفر، وقال "ذلك اسم تسميه اليهود، فكرهوه، فقال رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على ان يسموه المصحف".، فجعلوا الفظة حبشية.

ولو درسنا الألفاظ المعربة المذكورة، في لن العلماء قد أخطأوا في تشخيصها وخلطوا في الغالب بين أصولها، بسبب أنهم لم يكونوا محسنون اللغات الأعجمية، ما عدا الفارسية، وأنهم لم يراجعوا أهل العلم والتخصص في اللغات الأعجمية، من رجال الدين من أهل الكتاب، لو المتبحرين بالأدب من الروم والسريان، بل اكتفوا بمراجعة اياً كان ممن كانوا يعرفونهم من نصارى ويهود، وحيث أنه لم يكن لدى هؤلاء علم المتبحرين في الدين والأدب، جاءت أجوبتهم فجّة أو مغلوطة، ودونت على هذه الصورة.

ونظراً لعدم وقوف العلماء على اللغات العربية الجنوبية، جلوا ألفاظاً عربية واردة في القرآن مثل "العرم" لفظة حبشية، مع أنها لفظة عربية جنوبية، مدونة في النصوص، وجعلوا ألفاظاً أخرى من هذا القبيل، من الألفاظ المعربة عن لغات أعجمية.

وقد اتخذ بعض العلماء حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف دليلا على نزول القرآن بلغة قريش، فقد قالوا: إن الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن واقعة كلها في لغة قريش، ذلك أن قريشاً كان قد داوروا بينهم لغات العرب جميعاً وتداولوها، وأخذوا ما استملحوه من هؤلاء وهؤلاء في الأسواق العربية ومواسعها، وأيامها ووقائعها، وحجها وعمرتها، ثم استعملوه وأذاعوه، بعد أن هذبوه وصقلوه. وبهذا كانت لغة قريش مجمع لغات مختارة منتقاة من بين لغات القبائل كافة، وكان هذا سبباً من أسباب انتهاء الزعًامة اليهم، واجتماع أوزاع العرب عليهم، ومن هنا شاءت الحكمة أن يطلع عليهم القرآن من هذا الأفق، وأن يطل عليهم من سماء قريش.

وهو استنتاج غير مقنع، لما أورده العلماء أنفسهم من أقوال وتفسر للحديث المذكور، ولما أوردوه من أن الصحابة من قريش، كان يشكل عليهم اللفظ من القرآن مثل "أبا" فيسألون عنه، لأنه لم يكن من لغة قريش. فقد ذكروا أن "عمر"، قرأ "عبس وتولى" حتى أتى على هذه الآية: وفاكهة وأبَّا، فقال: قد علمنا الفاكهة فما الأب. ثم قال: لعمرك يا ابن الخطاّب إن هذا ذو التكلف. وذهب البعض إلى أن المراد من اللفظة ما أنبتت الأرض للانعام، وذكر بعض العلماء أنها بلغة الحبش. وذكروا اشياء أخرى من هذا القبيل، تعارض قبول هذا الاستنتاج.

والذي أراه أن نص القرآن يعارض حديث الأحرف السبعة، ففيه: "بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ"، وفيه: "قل: ما يكون لي أن أبدّلهَ من تلقاء نفسي، إن اتبع إلا ما يوحى اليّ، اني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" وفيه "إنا نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون". فليس للرسول أن يغير أو يبدل ما نزل به الوحي عليه، ثم إنه كان لا ينتهي من الوحي، حتى يأمر من يكون عنده بتدوينه بلسانه حال نزوله عليه، وإذا لم يكن هناك كاتب أمر من يستدعي له كاتباً ليدونه، فكيف يتفق ذلك مع هذا الحديث، ومع الأمثلة التي ذكروها في القراءات ? ورد أن الرسول علم "البراء بن عازب" دُعاء فيه: "ونبيك الذي أرسلت"، فلما اراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على رسول الله قال: "ورسولك الاي أرسلت"، فلم يوافقه النبي على ذلك، بل قال له: "لا، ونبيك الذي ارسلت". وهكذا نهاه أن يضع لفظة رسول، موضع لفظة نبيّ، مع أن كليهما حق لا يحيل معنى، إذ هو رسول ونبي معاً، فكيف كان يجيز أن يوضع في القرآن مكان عزيز حكيم، غفور رحيم، أو سميع عليم، وكيف نقبل هذه الرواية التي تذكر أن "عبد الله بن مسعود" أقرأ رجلا كلمة "الفاجر" بدلاً من كلمة الأثيم في الآية: إن شجرة الزقوم طعام الأثيم، مع ورود المنع عن تغير أي حرف من حروف القرآن، وهل يعقل قيام "ابن مسعود" بذلك، وسكوت الصحابة عن عمله، لو صحّ أنه فعل ذلك.

ولو كان القرآن قد نزل بلغة قريش وحدها، فلمَ كان الصحابة من قريش مثل "أبو بكر" و "عمر" وغيرهما، يتحرون في تفسر ألفاظ وردت فيه، أو يلجأون إلى الشعر يستعينون به في تفسير القرآ ن، والشعر هو شعر العرب، لا شعر قريش وحدها، قال "ابن عباس" "إن الشعر ديوان العرب"،وكان إذا سئل عن عربية القرآن أنشد الشعر، و قال: "إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله، فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب، وكان إذا سئل عن شيء من القرآن انشد فيه شعرا ً".

قال "ابن قتيبة": "العرب لا تستوي.في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه بل لبعضها الفضل في ذلك على بعض، والدليل عليه قول الله عزً وجلّ: وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم... ويدل عليه قول بعضهم: يا رسول اذ: انك لتأتينا بالكلام من كلام العرب ما نعرفه، ونحن العرب حقاً. فقال: إن ربي علمني فتعلمت".

الفصل التاسع والئلاثون بعد المئة،
العربية الفصحى

نطلق اليوم على العربية التي ندون بها أفكارنا: "العربية الفصحى"، وهي كما نعلم لغة الفكر والإدارة في العالم العربي. والعربية الفصحى، هي لغة الفصاحة والبيان، ومدار تركيب الفصاحة على الظهور والابانة. يقال: أفصح إذا تكلم بالفصاحة. وفصح الأعجمي فصاحة، إذا تكلم العربية وفهم منه. وهي اللغة العربية العالية التي لا تدانيها لغة عربية أخرى من اللغات العربية الباقية، واللسان الذي يحاول أن ينطق به كل مثقف مهذب، وأن يؤلف ويعبر عن مراده به.

وعرفت العربية الفصيحة بالعربية العالية، وكان علماء اللغة إذا وسموا كلمة بسمة الفصاحة، قالوا: كلمة فصيحة، وكلمة عالية، وإذا وسموها بالضعف وبالركاكة، قالوا: ليست بعربية فصيحة، أو ليست بالعالية. "قال ابن سيده: أشكد لغة ليست بالعالية". وقالوا في "لغة رديئة"، وقالوا: " وهي لغة أهل العالية". "والعالية ما فوق أرض نجد إلى تهامة والى ما وراء مكة، وهي الحجاز وما والاها.. وقيل عالية الحجاز، أعلاها بلداً وأشرفها موضعا ًوهي بلاد واسعة، والمسمى بالعالية: قرى بظاهر المدينة المشرفة، وهي العوالي، وأدناها من المدينة على أربعة أميال وأبعدها من جهة نجد ثمانية، والنسبة إليها عالي على القياس، ويقال أيضاً علوي بالضم، وهي نادرة على غير قياس". وعرفت هذه العربية العالية بالعربية المبينة، دعيت بذلك، لأن "اسماعيل" أول من فتق لسانه بها، فأبان وأفصح، وأرى أنها إنما نعتت بذلك، من القرآن الكريم، ففيه "بلسان عربي مبين"، و "هذا لسان عربي مبين"، وقصد العلماء من قولهم:"ليست بالعالية"، بمعنى ليمت بفصيحة،ولم يقصدوا النسبة إلى "العالية" التي هي الأرض المذكورة. غير أننا نجدهم أحياناً يقصدون بها أهل العالية فنرى "الطري" يذكر في تفسيره في قراءة "فيسحتكم": "والقول في ذلك عدنا أنهما قراءتان مشهورتان ولغتان معروفتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. غير أن الفتح فيها أعجب إليّ، لأنها لغة أهل العالية. وهي أفصح، والأخرى وهي الضم في نجد "ْ. والعالية ما فوق أرض نجد إلى ارض تهامة والى ما وراء مكة. وهي الحجاز وما والاها "وقيل: عالية الحجاز أعلاها بلداً وأشرفها موضعاً، وهي بلاد واسعة، والمسمى بالعالية قرى بظاهر المدينة المشرفة، وهي العوالي". "وعليا مضر بالضم أعلاها، وقيل قريش وقيس، وما عداهم سفلى مضر".

ونجد علماء العربية يستعملون مصطلح: "وليس بالعالي"، أو " ليس في اللغة العالية"، و "الفصيح..."، أو " والفصحاء يقولون"، في تقييم الكلم، كما استعملوا: " وليس بالمعروف"، أو "والأول أعلى"، و"لغة مجهولة"، أو "متروكة"، أو و " يحتمل أن يكون من أمثلة المنكر"، و " كلام قدم قد ترك"، و "وهذا لا يعرف في أصل اللغة"، أو و " المعروف"، وأمثال ذلك من مصطلحات للتعبير عن درجة الكلمة ومكانتها في مقاييس علماء اللغة من حيث الفصاحة و الركاكة وما بينهما من درجات.والفصيح في نظر علماء العربية" ما كثر استعماله في ألسنة العرب ودار في أكثر لغاتهم، لأن تكراره على الألسنة المستقلة بطبيعتها في سياسة المنطق دليل على تحقيق المناسبة الفطرية فيه".

ويسوقنا البحث في موضوع اللغة العربية الفصحى إلى التفكير في موضوع له صلة وثيقة بهذا الموضوع، بل هو في الواقع جزء منه، هو لغة الأدب عند الجاهلين، وهل كان لأهل الجاهلية لسان عربي واحد مبين، استعملوه في التعبير عن عواطفهم شعراً أو نثراً ? واذا كان لهم ذلك السان فهل كان فوق سائر لهجاتهم المحلية أو لهجات القبائل المتعددة ? أو أنه كان لهجة خاصة ? واذا كان لهجة عالية خاصة، فلهجة من يا ترى كانت هذه اللهجة ? وباي موطن ولدت ? وهل كانت لهجة عامة مستعملة عند العرب عامة، من عرب جنوبيين وعرب شماليين، أو أنها كانت لهجة خاصة بالعرب الشمالييِن? ثم هل كانت هذه اللهجة هي العربية التي نزل بها القرآن، أم كانت عربية أخرى لا صلة لها بها ? أماتها الإسلام كما أمات أموراً من أمور الجاهلية لصلتها بالوثنية، وأحل محلها لغة القرآن، لغة قريش ? ثم هل كانت هذه العربية، هي عربية الشعر، بمعنى إن الشعراء كانوا إذا أرادوا النظم، نظموا. شعرهم بهذه اللغة العالية، متجاهلين لغتهم القبلية، لأنها لغة الأدب الرفيع وبها كان يخطب الخطباء? لقدُ عني عدد من المستشرقين بالإجابة على أمثال هذه الأسئلة"فكتب "نولدكه"، رأيه في الموضوع في ص كتابه: تأريخ القرآن في باب القراءات واللهجات التي نزل بها القرآن الكريم، كما تطرق إليه أيضاً في أثناء كلامه على الشعر الجاهلي ولغة الأدب عند الجاهليين، وخلاصة رأيه أن الفروق بين اللهجات في الحجاز ونجد ومناطق البادية المتاخمة للفرات لم تكن كبيرة، وأن اللهجة الفصيحة شملت جميع هذه اللهجات. وذهب "غويديَ" إلى أن الغة الفصحى هي مزيح من لهجات تكلم بها أهل نجد و المناطق المجاورة لها، ولكنها لم تكن لهجة معينة لقبيلة معينة.

ورأى "نلينو"، إن العربية الفصحى تولدت من إحدى اللهجات النجدية، وتهذبت في مملكة كندةُ في أيامها، فاصبحت اللغة الأدبية السائدة. وعزا سبب ذلك الى ملوك هذه المملكة الذين، أغدقوا على الشعراء وشجعوهم مما كان له وقع في نفوسهم، ثم إلى توسع رقعة هذه المملكة التي ضمت أكثر قبائل معد، و كان لها فضل توحيد تلك القبائل وجمع شتاتها فشاعت هذه اللهجة على رأيه في منتصف القرن السادس للميلاد، وخرجت خارج نحد، وعمت معظم أنحاء الجزيرة ولا سيما القسم الجنوبي من الحجاز الذي فيه يثرب ومكة والطائف، مع بقاء اللهجات العامية في منطق الناس المعتاد، وكان للعواصم المشهورة ولملوك الحيرة وغسان شأن لا ينكر في هذا الانتشار السريع العجيب.

وذهب "هارتمن" "Hartmann" و " فولرس" "Vollers"، إلى أن العريية الفصحى هي لهجة أعراب نجد واليمامة، غير أن الشعراء أدخلوا عليها تغييرات متعددة. " وذهب "لندبرك" "Landburg" إن الشعراء هم الذين وضعوا قواعد هذه اللهجة، وعلى قواعدهم سار المتأخرون، و من شعرهم استخرجت القواعد، وما قصائدهم تلك استنبط العلماء أصول النحو.

وزعم "فولرس"، ان القرآن لم ينزل بلغة أعراب نجد واليمامة، وإنما نزل بلغة اهل مكة، اي لغة قريش، وهي لغة لم تكن معربة، وإنما كانت لغة محلية، فلما دونت قواعد العربية وثبتت طبق الاعراب على القرآن، وصقلت لغة قريش وفقاً لهذه القواعد.

لم يعين "فيشر" اللهجة التي نبعت منها العربية الفصحى، غير أنه رأى أنها لهجة خاصة. ول "بروكلمن" و "ويتزشتاين" اراء في نشوء هذه اللغة وتطورها، ولكنهما لم يتحدثا عن علاقتها ببقية اللهجات".

ذهب "يروكلمن" إلى أن لغة الشعر الجاهلي لا يمكن أن يكون الرواة والأدباء اخترعوها على أساس كثرة من اللهجات الدارجة، ولكن هذه اللغة لم تكد تكون لغة جارية في الاستعمال العام، بل كانت لغة فنية قائمة فوق اللهجات، وإن غذتها جميع اللهجات.

وذهب "برجيه" إلى أن العربية كانت لهجة قبلية صغيرة وصلت في وقت من الأوقات بفضل ظروف محلية إلى درجة من الكال خارقة للعادة، وهي مدينة بانتشارها إلى الإسلام.

و "ريجيس بلاشر" من المستشرقين الذين أيدوا رأي من ذهب إلى وجود لغة عالية عند أهل الجاهلية، فقال: "إن وجود لهجات ولغة عليا ليس فبه شيء مخالف للعادة، كما أن نموّ لهجة شعرية ليس فيه أيضاً شيء خارق". واللغة المذكورة لهجة شعرية تنطبق على اللهجات المحلية، بل هي امتداد لها، "وهي في الجملة موضوعة للاغراض النبيلة والتعبير الفني عن بعض أنواع التفكير"، لها خصائص اللهجات في وسط الجزيرة وشرقيها، ولم تكن هذه اللهجة العالية قاصرة في الاستعمال على أهل جزيرة العرب، بل كانت لغة الشعر أيضا عند عرب العراق وعرب بلاد الشام. ولهذا كان الشعر مفهوماً عند جميع الجاهليين، أينما كانوا: سواء كانوا في جزيرة العرب، أم في العراق وفي بلاد الشام. وكانت الفوارق بين هذه اللهجة وبقية اللهجات تختلف تبعاً للمجموعات اللغوية. فالفارق ضئيل بينها وبين لهجات أواسط جزيرة العرب وشرقيها، ولها خصائص الأقسام الشرقية والوسطى من جزيرة العرب. وكان الشاعر، ينزع دوماً إلى الابتعاد عن مؤثرات لهجته القبلية، والارتفاع عنها، إلى لغة الشعر المتعارفة بين الجاهليين آنذاك، لكونها اللغة الرفيعة في نظر اهل الجاهلية، وكانت تدل على تهذيب الشاعر وسمو مداركه وثقافته.

ويرى "بلاشر" أن علماء اللغة والنحو حين أخذوا بضبط قواعد اللغة، غربلوا اللهجات، وتوغلوا بين الأعراب مدفوعين بعقلية تنهيج وتنقية اللغة مما أدى بهم إلى توحيد لغتي القرآن والشعر الجاهلي، في الوقت الذي نظموا فيه واستخرجوا قواعد العربية الفصحى، مما ادى إلى إضاعة أشياء قليلة من اللهجة الشعرية الجاهلية في سبيل التوفيق بينها وبين لغة القرآن. وما العربية الفصحى الحالية إلا لهجة ولدت من لغة الشعر ولغة القرآن، والقرآن والشعر الجاهلي المضبوط في شكله الحاضر لا يمثلان اللغة الشعرية في شكلها القديم، وانما يبتعدان بعض الابتعاد عن تلك اللهجة، بسبب ما فعله علماء النحو والصرف، في تلك اللهجة من تشذيب وتهذيب لتلتئم مع لغة القرآن ومع قواعدها وقواعد لغة الشعر التي رسخها علماء اللغة.

وأما رأي علماء العربية، فخلاصته أن لغة قريش هي الأصل، "وانما صارت لغتهم الأصل، لأن العربية أصلها اسماعيل عليه السلام، وكان مسكنه مكة". وعندهم إن العربية قحطانية وحميربة وعربية محضة، وبهذه الأخيرة نزل القرآن، وقد انفتق بها لسان اسماعيل، وهي العربية الفصحى، لسان اسماعيل، ألهاماً. رووا عن "عمر" انه قال: "يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين اظهرنا ? قال: كانت لغةُ اسماعيل قد درَست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها،. فحفظتها". وهم يقولون إن: "أول من تكلم بالعربية اسماعيل بن ابراهيم"، أو إن " أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه اسماعيل بن ابراهيم"، بل تجاوز بعض منهم، وبالغ حتى زعم أن "العرب كلها ولد اسماعيل، إلا حمير وبقايا جرهم"، وأن العربية الصحيحة الفصيحة هي العربية التي نزل بها القرآن، أما لسان حمير وأقاصي اليمن، فليس "بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا".

ورأيهم أن قريشاً أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وأنقاهم لساناً، " و ذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشاً قطّان حرمه، وولاة بيعه، فكانت وفود العرب من حَجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش، مع فصاحتها وحسن لُغاتها، ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيرّوا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها ؛ فصاروا بذلك أفصح العرب.

ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عَنعنة تميم، و لا عجرفة قيس، ولاكشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولأ كسر أسد وقيس".

"وقال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى بالألفاظ والحروف: كانت قريش أجود العرب انتقاداً للأفصح من الألفاظ، واسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعاً، وأبينها إبانة عما في النفس". وقال ابن خلدون: كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، فصانها بعدها عن الأعاجم من الفساد والتأثر بأساليب العجم، حتى إن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية.

وروي أن "معاوية" قال يوماً: "من أفصح الناس ? فقال قائل: قِوم ارتفعوا عن لخلخانية الفرات، وتيامنوا عن عنعنة تميم، و تياسروا عن كسكسة بكر، ليست لهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. قال: من هم ? قال: قريش"، وقال "ثعلب": "ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، ونضجع قيس، وعجرفية ضبة، وتلتلة بهراء". وورد كلام "معاوية" مع الأعرابي على هذه الصورة: أن "معاوية" "قال: أي الناس أفصح ? فقام رجل فقال: قوم ارتفعوا عن فراتية العراق، وروي: الخلخانية العراق، وتياسروا عن كشكشة بكر، وتيامنوا عن كسكسة تميم، ليست فيهم غمغمة قضاعة، ولا طمطماشية حمير. قال: من هم ? تال: قومك قريش. قال: صدقت. ممن أنت ? قال: من جرم". واللخلخانية اللكنة في الكلام، والغمغمة: ألا يبين الكلام، والطمطمانية: العجمة. "قال الأصمعي: وجرم: فصحاء العرب. قيل: وكيف وهم من اليمن ? فقال: لجوارهم مضر" فمضر هم أهل الفصاحة على رأيه.

ورووا "عن ابي بكر الصديِّق، رضي الله عنه، انه قال: قريش هم أوسط العرب في العرب داراً، وأحسنه جواراً، وأعربه السنة. وقال -قتادة: كانت قريش تجتبي، أي نختار أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتها لغتها، فزل القرآن بها".

وقد استدلوا نزول القرآن بلغة قريش بادلة أخرى، منها قول عمر: " لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف".

وزعموا إن العرب "كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولاّ، وما ردوه منها كان مردوداً، فقدم علقمة بن عبدة التميمي،فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم. فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد اليهم العام المقبل فأنشدهم قصيدته: طحا بك قلب في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمط الدهر". فما كان علقمة ولا غيره ليكلف نفسه مشقة الذهاب إلى قريش، والى سوق عكاظ، لو لم تكن لغتها أفصح لغات العرب وأعذبها وأسلسها، ولو لم يكن لها علم بالشعر يفوق علم غيرها به.

وزعموا أيضاً أن العرب كانوا في جاهليتهم يقول الرجل منهم الشعر فلا يعبأ به ولا ينشده أحد، حتى يأتي مكة في موسم الحج، فيعرضه على أندية قريش فإن استحسنوه روى، وكان فخراَ لقائله وعلق على ركن من أركان الكعبة حتى ينظر إليه، وإن لم يستحسنوه طرح وذهب فيما يذهب. وقال "أبو عمرو بن العلاء: كانت العرب تجتمع في كل عام وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش. وكان العرب يعلقون أشعارهم بأركان الكعبة، كما فعل أصحاب المعلقات السبع، وانما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من له قدرة على ذلك بقومه وبعصبيته ومكانه في مضر.

فقريش أفصح العرب، ومعدن الفصاحة ومركزها وينبوعها، ثم من جاورهم وقاربهم، ثم من جاء بعد هؤلاء، فكلما بعد قوم عن قريش، بعدت لغتهم عن الفصاحة، ولهذا كان احتجاج علماء اللغة بلغات العرب على نسبة بعدهم عن قريش، "فاعتبروا لغة قريش. أفصح اللغات وأصحها، لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف، وهذيل، وخزاعة، وبني كنانة، وغطفان، وبني أسد، وبني تميم. ثم تركوا الأخذ عمن بعُد عنهم من ربيعة،ولخم، وجذام، وغسان، وإياد تج وقضاعة، و عرب اليمن، لمجاورتهم الفرسَ، والروم، والحبشة".

وأما رأي المحدثين من علماء العربية عندنا، فهو رأي الموافق المؤيد. هذا الدكتور "طه حسين" يقول في كتابه: "في الأدب الجاهلي": "أما إن   

هذه اللغة العربية الفصحى التي نجدها في القرآن والحديث وما وصل إلينا من النصوص المعاصرة للنبي وأصحابه لغة قريش، فما نرى أنه يحتمل شكاً أو جدلاّ ؛ فقد أجمع العرب على ذلك بعد الإسلام، واتفقت كلمة علمائهم ورواتهم ومحدثيهم ومفسريهم على أن القرآن نزل بلغة قريش، أو قل على إن هذا الحرف الذي بقي لنا من الأحرف السبعة إنما هو حرف قريش. وقد يكون من التكلف والتحذلق أن يجمع، العرب كافة على أن لغة القرآن هي لغة قريش. وألاّ يظهر في العصر الإسلامي الأول ولا في أيام بني امية ولا في أيام بني العباس من ينكر هذا أو يجادل فيه رغم ما كان من الشعوبية الأعجمية ومن الشعوبية الحميرية ومن الخصومات السياسية بين قريش وغبرها من قبائل مضر، ثم يزعم زاعم أن هذه اللغة ليست لغة قريش، وإنما هي لغة قبيلة أخرى مهما تكن هذه القبيلة". ثم يمضي قائلاَ: "فنحن مضطرون. أمام هذا الاجماع من جهة، وأمام قرشية النبي من جهة اخرى، وأمام نزول القرآن في قريش من جهة ثالثة،وأمام فهم قريش للفظ القرآن في غير مشقة ولا عنف من جهة رابعة، وامام اتفاق القرآن في اللغة واللهجة مع ما صح من حديث النبي القرشي ومن الرواية عن اصحابه القرشيين من جهة خامسة، إلى أن نسلم بأن لغة القرآن انما هي لغة قريش.

ستقول: ولكن هذه اللغة قد كانت تفهم في غير قريش من قبائل الحجاز ونجد، ومن هذه القبائل المضري كقيس وتميم، ومنها اليمني كخزاعة والأوس، والخزرج، بل منها قبائل لم تكن عربية بوجه من الوجوه وهي هذه اليهودية التي كانت تستعمر شمال الحجاز، ولكنك تعرف رأينا في النسب وفي انتماء هذه القبائل إلى اليمن أو الى مضر. ومع هذا فقد قلنا إن لغة قريش سادت قبيل الإسلام. ونحن إن فكرنا عرفنا إن سيادة اللغات انما تتصل عادة بالسيادة السياسة والاقتصادية. فلنبحث عن البيئات الممتازة من الوجهة السياسية والاقتصادية في شمال البلاد العربية قبيل الإسلام.

الحق اننا لا نستطيع أن نفكر في هذه السيادة الفارسية في الحيرة أو هذه السياسة الرومية في أطراف الشام، فقد كانت هناك أسر عربية تمثل هذه السيادة،وكانت لهذه الأسر ضروب من السلطان، ولكن هذه الأسر لم تكن فيما يظهر حجازية، ولم تكن بيئاتها بيئات عربية خالصة، انما كانت بيئات مختلطة أقرب إلى الاعجمية منها إلى أي شيء آخر. فلم تبق إلا بيئات أربع: بيئة كندية في نجد، ولكن هذه البيئة كانت يمنية إن صح ما زعم الرواة والمؤرخون. وسيادتهم لم تطل ولم يكن لها من الضخامة ما يمكنها من أن تسلط سلطانها السياسي والاقتصادي والديني على شمال البلاد العربية. وبيئة أخرى قرشية في مكة، كان لها سلطان سياسي حقيقي، ولكنه قوي في مكة وما حولها، وهذا السلطان السياسي كان يعتز بسلطان اقتصادي عظيم، فقد كان مقدار عظيم جداً من التجارة في يد قريش، وكان هذا السلطان يعتز بسلطان ديني قوي مصدره الكعبة التي كان يحج إليها اهل الحجاز وغير أهل الحجاز من عرب الشمال. فقد اجتمع لقريش اذن سلطان سياسي واقتصادي وديني. وأخلق بمن تجتمع له هذه السلطات أن يفرض لغته على من حوله من أهل البادية. وبيئة ثالثة هي بيئة الطائف، كان لها شيء من السلطان الاقتصادي ولكنها لم تكن تداني البيئة المكية. وبيئة رابعة في شمالى الحجاز، هذه هي البيئة العربية في يرب وما حولها. ولكنا نظن إن أحداً لا يفكر في أن يقول إن هذه العربية الفصحى كانت لغة هؤلاء الناس من اليهود أو من الأوس والخزرج فضلاّ عن أن هذه البيئة على ثروتها وقوتها لم تكن تداني قريشاً فيما كان لها من سلطان.

لغة قريش إذن هي هذه اللغة العربية الفصحى، فرضت على قبائل الحجاز فرضا لا يعتمد على السيف وإنما يعتمد على المنفعة وتبادل الحاجات الدينية والسياسية والاقتصادية. وكانت هذه الأسواق التي يشار إليها في كتب الأدب، كما كان الحج، وسيلة من وسائل السيادة للغة قريش".

وبعد أن انتهى "الدكتور طه حسين" من إصدار قراره، قال: "ولكن ما أصل لغة قريش ? وكيف نشأت ? وكيف تطورت في لفظها ومادتها وآدابها حتى انتهت إلى هذا الشكل الذي نراه في القرآن ?". وكان جوابه على هذه الأسئلة قوله: "كل هذه مسائل لا سبيل الى الإجابة عليها الآن، فنحن لا نعرف أكثر من أن هذه اللغة لغة سامية تتصل بهذه اللغات الكثيرة التي كانت شائعة في هذا القسم من آسيا. ونحن نكاد نيأس من الوصول في يوم من الايام إلى تأريخ علمي محقق لهذه اللغة قبل ظهور الإسلام. وكيف والقرآن أقدم نص صحيح وصل الينا في هذه اللغة، ونحن نرى اللغة فيه كاملة متقنة تامة التكوين قد تجاوزت الوجود الطبي هي إلى هذا الوجود الفني الراقي الذي يظهر في الآداب".

وخلاصة رأي "الدكتور طه حسين" أن عربية قريش هذه، التي نزل بها القرآن الكريم، إنما سادت قبيل الإسلام، ولم تكن سيادتها تتجاوز الحجاز. إذ يقول: لا فالمسألة إذن هي أن نعلم: أسادت لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية وأخضعت العرب لسلطانها في الشعر والنثر قبل الإسلام أم بعده ? أما نحن فنتوسط ونقول: انها سادت قبل الإسلام حين عظم شأن قريش وحين اخذت مكة تستحيل إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية. ولكن سيادة لغة قريش قيبل الإسلام لم تكن شيئاً يذكر ولم تكد تتجاوز الحجاز. فلما جاء الإسلام عمت هذه السيادة وسار سلطان اللغة واللهجة مع السلطان الديتي والسياسي جنبا إلى جنب".

وكان المرحوم "مصطفى صادق الرافعي"، قد تعرض لهذا الموضوع وبحث فيه قبل "الدكتور طه حسين"، في كتإبه: " تأريخ آداب العرب"، الذي طبعه سنة "1911 م"، فذهب مذهب الأسلاف في أن العربية بدأت ب "اسماعيل" فلما خرج أولاده من ديارهم وانشعبت قبائلهم، تنوعت لهجاتهم، وتباينت ألسنتهم، حتى ظهرت قريش من بينهم، فأخذت وأعطت، وهذبت الألسنة واستخلصت منها أعذبها وأسماها، ثم لا تزال تهذب في اللغة. وتشذب حتى بلغت بها الكمال عند ظهور الإسلام، بنزول الوحي بها. وكانت القبائل: "بطبائعها متباينة اللهجات،مختلفة الأقيسة المنطقية المودعة في غرائزها، فكان قريش يسمعون لغاتهم ويأخذون ما أستحسنوه منها فيديرون به ألسنتهم ويجرون على قياسه؛ ولو كانوا بادين كسائر القبائل ما فعلوه، ولكن نوع الحضارة الذيَ اكتسبوه من نأريخهم ألآن من طباعهم وكسر من صلابتهم، فاتفقت في ذاك حياتهم اللغوية وحياتهم الاجتماعية القائمة بالتجارة وتبادل العروض مع أصناف الناس. فلما اجتمع لهم هذا الأمر ارتفعت لغتهم عن كثير من مستبشع اللغات ومستقبحها، وبذلك مرنوا على الانتقاد حتى رقّت أذواقهم، وسمت طبائعهم، وقويت سلائقهم، وحتى صاروا في آخر أمرهم أجود العرب انتقاءً للافصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعاً،وأبينهاابانة عما في النقس".

فهذا دور من أدوار تهذيب اللغة وتنقيتها، قامت به قريش، قامت به في مسكنها وموطنها مكة، وقامت بدور آخر، كان آخر الأدوار التي قامت فيها قريش قي تهذيب العربية،هو الدور العُكاظي، وهو "حالة من أحوال الحضارة، ولذلك اقتضى الصناعةَ اللسانية، فكان العرب يرجعون إلى منطق قريش، كما كان هؤلاء يبالغون في انتقاد اللهجات وانتقاء الأفصح منها. وهذا هو الدور الأخر من أدوار التهذيب اللغوي إذ يدخل في حالة عامة يشيع فيها المنطق الفصيح وتبلغ اللغة درجة عالية من النشوء ليس بعدها إلا موت الضعيف وتحوله إلى شكل أثري لا منفعة منه للمجموع المكوّن على هذه الطريقة، ولكنه يدل على أصل التكوين".

ثم توج عمل قريش في تهذيب اللغة بنزول القرآن بلسانها "فإن هذا القرآن لو لم يكن بلسان،قربش ما اجتمع له العرب البتة ولو كانت بلاغته مما يميت ويحيي، ثم كانوا لاُ يعدون في اعتبارهم اياه انه ضرب من تلك الضروب التي كانت لهم من خوارق العادات: كالسحر والكهانة وما اليهما، وهو الذي افترته قريشٌ ليصرفوا به وجوه العرب ويميلوا رؤوسهم عن الإصغاء إلى النبي". ثم "إن القرآن لو نزل بغير ما ألفه النبي صلى الله عليه وسلم، من اللغة القرشية وما اتصل بها، كآن ذلك مغمزأَ فيه، إذ لا تستقيم لهم المقابلة حينئذ بين القرآن وأساليبه، وببن ما يأثرونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. فيهون ذلك على قريش، ثم على العرب، فيجدون لكل قبيلة مذهباَ من القول فيه، فتنشق الكلمة، ثم يصير الأمرمن العصبية والشاحنة والبغضاء، إلى حال لا يلتئم عليه أبداً، ولو أن شّاعراً من شعرائهم ظهر فيهم بدين خيالي وأقامهم عليه، لكان في الرجاء والاحتمال أن يستجيوا له دون صاحب القرآن الذي ينزل عليه بلغة عير لغة قبيلته".

ومجمل حجج الباقين القائلين إن العربية الفصحى هي عربية قريش، إن قريشاً "كانت مهوى أفئدة العرب في الجاهلية، وكان لها عليهم نفوذ واسع بسبب مركزها الديني الروحي والاقتصادي المادي، إذ كانت حارسة الكعبة بيت عبادتهم، وكانت قوافلها تجوب أنحاء الجزيرة العربية،وكان العرب يجتمعون إليها في أعيادها الدينية وفي أسواقها القريبة والبعيدة.

ومعنى ذلك إن هنالك أسباباً دينبة واقتصادية أعدت لهجة مكة لتسود اللهجات القبلية في الجاهلية، وقد تداخلت فيها أسباب سياسية، فإن القبائل العربية كانت ترى تحت أعينها هجوم الدول المجاورة من الفرس والروم والحبش على أطرافها، كما كانت ترى هجوم الديانتن المسيحية واليهودية على دينها الوثني، فتجمعت قلوبها حول مكة، وهوت افئدتها إليها. و بذلك كله تهيأ للهجة القرشية أن يعلو سلطانها في الجاهلية اللهجات القبلية المختلفة، وأن تصبح هي اللغة الأدبية التي يصوغون فيها ادعتهم الدينية وأفكارهم وأحاسيسهم. وقد تدل على ذلك بعض الدلالة سوق عكاظ، فقد كانت سوقاً أدبية كما كانا سوقاً تجارية، وكان الخطباء يرتجلون فيها خطبهم وينشد الشعراء قصائدهم، ولمُ يرو ذلك عن سوق سواها، ومما يدعم هذا الدليل ما قاله الرواة من إن العرب "كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولاً، وما ردّوه منها كان مردوداً فقدم عليها علقمة بن عبدة التميمي،فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم. فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد اليهم العام المفبل فأنشدهم قصيدته: طحا بك قلب " في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمطا الدهر.

واذن فنحن لا نعدو الواقع إذا قلنا إن لهجة قريش هي الفصحى التي عمت وسادت في الجاهلية لا في الحجاز ونجد فحسب، بل في كل القبائل العربية شمالاّ وغرباً وشرقاً، وفي اليمامة والبحرين، وسقطت إلى الجنوب وأخذت تقتحم الأبواب على لغة حمير واليمن وخاصة في أطرافها الشمالية حيث منازل الأزد وخثعم وهمدان وبني الحارث بن كعب في نجران. ومما يؤكد ذلك إن الوفود اليمنية التي وفدت على الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يحدثنا رواة الأخبار والسيرة النبوية انها كانت تجد صعوبة في التفاهم معه، وأيضاً فإنه كان يرسل اليهم دعاة يعطونهم ويعلمونهم الشريعة الإسلامية من مثل معاذ بى جبل، ولو انهم لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى لكان ارسال هؤلاء الدعاة عبثاً. وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسعة في الجنوب حدثت قبيل الإسلام.

أما في الشمال فقد كانت الفصحى معروفة في كل مكان، وكان الشعراء يتخذونها لغة لشعرهم، ومما يدل على ذلك دلالة قاطعة سرعة استجابتهم للقرآن الكريم ودعوته، فإنهم كانوا يفهمونه بمجرد سماعه، فإذا عرفنا أنه نزل بلغة قريش تحتم أن تكون هي اللغة الأدبية التي كانت سائدة".

وبعد، فلقد عرضت عليك رأي المسترقين في العربية العالية: عربية القرآن الكريم، عربية الشعر الجاهلي، ثم عرضت عليك رأي علماء العربية فيها من متقدمين ومن معاصرين، وقد رأينا أن المستشرقين وعلماء العربية معاً لم يستندوا كلهم على سند جاهلي مكتوب، ولا على نص مدون بهذه العربية، لسبب واحد مفهوم معقول، هو عدم ورود نصوص جاهلية مدونة بهذه اللغة فلم يكن. أمامهم من سبيل سوى اللجوء إلى الموارد الإسلامية للاستعانة بهديها في استنباط رأي علمي بهذا الموضوع، وهذا ما فعلوه، أما قول علماء العربية أن عربية القرآن الكريم عربية "اسماعيلية"، بمعنى أنها عربية أخرى تختلف عن عربية العرب الجنوييبن، فرأي مقبول، على شرط أنه اصطلاح يعبر عن معنى اصطلح عليه. فقد أشير إلى "الاسماعيليين" في التوراة. وهم - كما سبق أن قلت - قبائل عربية شمالية كانت تقطن في القسم الشمالي الغربي من جزيرة العرب،وكانت حدودهم الغربية على اتصال بالعبرانيين.

ولا أعتقد أن أحداً من اصحاب الفقه في العربية، يركبه الشطط فيقول إنه نزل بلغة عربية جنوبية، أو بلغة ثمود أو لحيان أو الصفويين، أو يقول إن الشعر الجاهلي، قد نظم بلهجة من هذه اللهجات، فكلام مثل هذا، حتى لو صدر من أحد، فانه هراء يدل على جهل قائله بأبسط الاشياء.

وأما دعوى أن هذه العربية وحدها هي العربية الفصيحة الصحيحة، وأن ماعداها من عربيات، فلغات فاسدة رديئة، فدعوى يمكن قبولها والتسليم بصحتها، لو أن في وسع القائلين بها اثباتها بالأدلة المادية لللموسة، أي بأدلة النصوص الجاهلية المكتوبة، مع اثبات إن هذه اللغة الفصيحة كانت وحدها لغة الأدب والتدوين عند جميع العرب، وان الجاهلين كانوا لا يكتبون إلا بها، وأن ما سواها من اللهجات، كانت لهجات كلام، أي لغات العامه والسواد، تكلموا بها كما نتكلم نحن اليوم فما بيننا بلهجات محلية، نسميها لهجات عامية، فإذا كتبوا كتبوا بالعربية الفصيحة. ولكنهم عاجزون عن اثبات ذلك، ثم إن النصوص الجاهلية تناهض دعواهم هذه، فكل ما لدينا من نصوص جاهلية، مكتوب بلهجاتّ عربية أخرى، خلا خمسة نصوص كتبت بعربية نبطية، أي بعربية فيها ألفاظ واردة في العربية الفصحى، ولكن الإرمية او النبطية متحكمة في أسلوبها وفي قواعدها وفي إلكثرة الغالبة من كلماتها بحيث تمنعها من إن تعد فى عداد العربية الفصيحة، لذا، فنحن لا نحالف المنطق والعلم، أن أظهرنا اعتراضنا عليهما ورفضناها، وما كان لنا لنعترض عليها، لو إن الأمر كان على العكس، لو إن غالبية النصوص الجاهلية كانت بهذه اللغة، أو إن بعضاً منها على الأقل، ولو بعضا قليلا، كان بهذه العربية الخالصة، أو اننا لا نملك نصاً جاهلياً بتاتاً، بأية عربية كانت، لا بهذه العربية، ولا بالعربيات الأخرى، أما وأن لدينا اليوم الألوف من النصوص الجاهلية، وهي كلها بلهجات عربية أخرى، ولا نملك نصاً واحداً مدوناً بهذه العربية الخالصة، لذا، فنحن لا نظلم أنفسنا، ولا نظلم غيرنا، ان رفضنا دعواهم المذكورة، وقلنا ان اللغات التي مونتنا بالنصوص المذكورة، هي لغات فصيحة بالنسبة للناطقين بها، وفي نظرنا أيضاً، وهي لغة أدب بالنسبة لأصحابها الكاتبين بها.

والقول بان العربية الفصيحة هي وحدها العربية الصحيحة السليمة الفصيحة، وأن ما عداها من لغات عربية فلغات رديئة فاسدة، أو أنها دونها في الفصاحة، قول يمكن قبوله بالنسبة لأيام الإسلام، حيث صارت هذه العربية لغة الدين والحكم والفكر، بها تقوم الألسنة، وبها يدون الناس آراءهم. أما بالنسبة إلى أيام الجاهلية، فإننا لا نستطيع التسليم به، لسبب بسيط، هو أن أهل العربية الجنوبية مثلاً،كانوا يكتبون وينطقون بلغاتهم، فلغاتهم هي لغة التدوين والأدب عندهم، بقوا يكتبون بها، إلى ان دخلوا في الإسلام، فابدلوها عندئذ بهذه العربية، محكم الدين.ودليل ذلك، هذه النصوص المتاخرة المكتوبة بالمسند، والتي لا يبعد تاريخها عن الإسلام كثيراً " فلو كانوا يرون أن هناك عربية أفصح منها، لو انهم كانوا يعلمون أن هنآك عربية أرفع من عربيتهم شأناً، يدون ويكتب بها يقية عرب الجزيرهّ وأنها لغة الثقافة والعلم، لما نبذوها وعدلوا عنها إلى عربيتهم، وشذوا عن بقية أخوانهم العرب، بتمسكهم بالكتابة بها وحدها. وينطبق هذا القول على قوم ثمود والصفوين واللحيانين والنبط، فقد كتب كل قوم منهم بلغتهم، ولم يكتبوا بهذه العرَبية، وتدوينهم بلغاتهم، دليل على ثبوت فصاحتها عندهم،وليس في قول "ابو عمرو بن العلاء": "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا لا عربيتهم بعربيتنا"، ما يدل على ازدراء شأن الحميرية أو الغض منها، وإنما هو تعبير عن حقيقة تأريخية، هي أن الحميرية عربية أخرى، وهي حقيقة لا يجادل على صحتها أحد،" كما أن الثمودية واللحيانية والصفوية والنبطية عربيات أخرى. وكل هذه العربيات، هي عربيات فصيحة بالنسبة لأصحابها، لأنها لغة التدوين عندهم، حيث لم يكن لأهل جزيرة العرب، لغة أدب واحدة، دوّن بها جميع الجاهليين، حتى نقول إن النصوص الخارجة عليها،أي النصوص المدوّنة بلهجات أخرى، هي نصوص عوام وسواد،كتبوا بلغاتهم كما يكتب العامة بلغاتهم هذا اليوم، مع وجود العربية الفصيحة. وأما قولهم إن هذه اللغة العربية الفصحى هي لغة قريش، لاجماع العرب كافة على إن لغة القرآن هي لغة قريش، وعدم ظهور أحد أنكر هذا الاجماع، أو جادل فيه، رغم ما كان من الشعوبية الأعجمية ومن الشعوبية الحميرية، ومن الخصومات السياسية بين قريش وغيرها من قبائل مضر، فقول لا يستند إلى حجج تأريخية جاهلية، بل هو يصطدم مع واقع النصوص الجاهلية الواصلة الينا، وبعضها نصوص لا تبعد عن الإسلام بكثير، وقد كتبت كلها بلهجات تختلف عن هذه اللغة الفصحى التي نزل بها القران، وفي اختلافها عنها دلالة، على أن الشعوب التي تثبت تلك النصوص لم تكن تكتب بعربية القرآن " وفي هذه الدلالة تفنيد لقول من قال "إن لهجة قريش هي الفصحى التي عمت وسادت في الجاهلية لا في الحجاز ونجد فحسب، بل في كل القبائل العربية شمالاَ وغرباً وشرقاً، وفي اليمامة والبحرين، وسقطت إلى الجنوب وأخذت تقتحم الأبواب على لغة حمير واليمن، وخاصة في أطرافها الشمالية حيث منازل الأزد وخثعم وهمدإن وبني الحارث بن كعب في نجران"، ثم أني لم أتمكن من العثور على هذا الاجماع الذي أجمع العرب كافة عليه، والذي لم يعارضه أحد حتى من الشعوبين والحاقدين على قريش، وانما وجدت القرآن، وهو خير الشاهدين يقول )وهذا لسان عربي مبين(. و )إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون(.

)وكذلك انزلناه حكماً عرييا(. وكذلك أوحينا اليك قرآناً عربياً" إلى غير ذلك من آيات نصت نصاً صريحاً على أن لسان ا القرآن هو اللسان العربي، فعينته بذلك وثبتته، ولم أجد في القرآن آية واحدة ذكرت انه نزل بلسان قريش ولو كان قد نزل بلسانهم وكان لسانهم خير الألسنة وأفصحها، لما سكت عن ذلك، لما في النص عليه من اهمية بالنسبة الى العرب والى قريش المكابرين المناهضين للرسول، ثم اني وجدت أن ا العلماء يذكرون أن في القرآن لغات أخرى ليست من لغة قريش، وأن فيه الفاظاً هي بلغة تميم، أو بلغات أخرى مخالفة للغة قريش وأهل الحجاز، وان لهم آراءً في الأخبار الواردة في انه نزل بلغة قريش، مثل أخبار تنسب الى"عمر" تارة " وتنسب الى "عثمان" والى غيره تارة أخرى، وهي أخبار لا ندري مبلغ درجتها من الصحة أو الباطل، يظهر انها وضعت تحت تأثير من العصبيه السياسية التي ظهرت منذ أيام الرسول فيما بين الأنصار والمهاجرين، ثم صارت عصبية قحطانية يمانية جعلت العرب عربين: فإما إلى قحطان وإما الى عدنان، وليس بينهما جد ثالث.

ثم إنه لو كان قد نزل بلسان قريش وكان لسان قريش أفصح ألسنة العرب وأبينها وأبلغها وأكملها، ولذلك كان نزوله بها حجة للخصوم وإفحاماً للمشركين واحراجاً لهم واعجازاً لهم فلم لم يذكر القران ذلك، ولم يبين أنه نزل بلسان قريش أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء وإنه انما نزل بلسانهم لتكون حجة عليهم واعجازاً لهم في أن يأتي أبلغهم بآية مثل آياته، وفي ذكر قريش اذن إفحام لكل العرب. ولكنا نجده على العكس يخاطب قريشاً والعرب بقوله: "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله"، و"قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القران لا يأتون بمثله" فهو يحاججهم على أن يأتوا بمثله وباللسان الذي نزل به، وهو لسان عربي مبين، لا لسان بعض منهم اي بلسان قريش. ولو كان لسان هذا البعض هو اكمل الألسنة وأبلغها وأعذبها وأسلسها وأنقاها كان من الضروري ذكرِ ذلك إفحاماً للخصوم، فعدم النص على ذلك اللسان، هو أبلغ جواب على أنه لم ينزل به، وعلى أن لسانهم المذكور لم يكن أكمل لسان عربي.

ُاما العوامل التي أوجدها المحدثون في تفسير سبب سيادة لغة قريش على غيرها من اللغات عند ظهور الإسلام، وهي:السيادة السياسية، والسيادة الاقتصادية والسيادة الدينية، وهي عوامل تتصل بها عادة سيادة اللغات، فهي عوامل وضعوها وضعاً وتخيلوها من غير سند أو دليل، أقاموها على تصورات أخذوها من أقوال لأهل الأخبار،لا يركن إليها، ولا يعتمد عليها. وقد حاولت جهدي أن أعثر في مؤلفات القائلين بها على سند واحد يثبت سيادة قريش السياسية على غيرها من القبائل عند ظهور الإسلام، سيادة قوة وفتح، أو سيادة نفوذ واعتبار فلم أجد فيها دليلاً واحداً يمكن أن يكون حجة لإثبات تلك السيادة. وكل ما وجدته فيها أحكاماً عامة مطلقة لم تقم على حجة ولا دليل. ثم راجعت الموارد القديمة علني أجد فيها شيئاً، يثيت هذا التفوق، فلم أجد فيها أي شيء أيضاً يدل عليه، بل وجدت العكس، وجدت إن سادات مكة مثل عبد المطلب وغيره كانوا يراجون حكام اليمن ويتقربون اليهم، لينالوا منهم العطف والرعاية، والهبات والألطاف، وكانوا إذا سمعوا بتبوء ملك منهم كرسي الحكم، ركضوا إليه يهنئونه، داعين له بالعمر الطويل، وبالتوفيق في الحكم، ثم وجدت فيها أن سادتها كانوا يراجعون حكام العراق وبلاد الشام واليمن والحبشة، ويتوددون اليهم بالهدايا، لكسب عطفهم، وللحصول على مساعدات منهم، لتيسر سبل الاتجار مع الأرضين التي كانوا يحكمونها، وأنهم كانوا يصانعون سادات القبائل ويؤالفونهم، لضمان حق مرور تجارتهم بأرضهم بأمن وسلام، في مقابل اتاوات تدفع لهم، أو هدايا تحمل اليهم، ثم رأيت ما كان من أمر "هاشم" واخوته من عقدهم الإيلاف الذي أشير إليه في القرآن. ثم وجدت إن أهل الأخبار يقولون إن "قيصر" أعان قصياً على خزاعة، وأن "عثمان بن الحويرث" قد توسط لدى البيزنطيين لتنصيب نفسه ملكاً على مكة. ورأيت أن أهل الجاهلية، كانوا يعيرُ ن قريشاً بانها لا تحسن القتال، وانها تجاري وتساير من غلب، وانها لا تخرج إلا بخفارة خفير، وبحلف حليف، وبحبل من هذه الحبال التي عقدتها مع سادات القبائل. فلما سمع "النعمان بن قبيصحة بن حيةً الطائي" ابن عم "قبيصة بن اياس بن حية الطائي" صماحب الحيرة، ب "سعد بن أبي وقاص"، سأل عنه، فقيل: "رجل من قريش فقال: أما إذا كان قرشياً فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال، إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيراً، ولا يخرجون من بلادهم إلابخفير"، فهل في هذا الكلام بعد- إن صح بالطبع -ما يشير إلى نفوذ سياسي.

بل وجدت إن أهل الأخبار يذكرون أن "قصي بن كلاب"، وهو مجمع قريش وموطد حكمها على مكة إنما بسط نفوذه عليها بمساعدة الروم له حيث يقولون: "وجاء قصي بن كلاب، فجمع معداً - وبذلك سمي مجمعا - واستعان ملك الروم فاًعانه، وحارب الأزد فغلبهم واستولى على مكة". وكان الأزد على حدّ قول هذه الروايه قد طردوا جرهم عن مكة واستولوا عليها، فجاء "قصي" وأزاحهم عنها، بمعونة "ملك الروم"، فما كانت قريش لتزيحهم عنها لولا هذه المعونة، وقوم يستعيون بالأجانب للاستيلاء على قرية فقيرة هي كل ما ملكوا هل يعقل بعد أن يكون لهم نفوذ سياسي على النحو الذي تصوروه وذكروه.

وقد وجدت انهم كانوا يصطنعون الأحابيش والقبائل، للدفاع عن مدينتهم، وانهم استعانوا بالقبائل يوم "الأحزاب" في قتالهم المسلمين. وليس في هذا الاصطناع دلالة على سيادة سياسية، وانما هو دليل الضعف وشراء القلوب وتأليفها بالمال، فإذا كان في هذا الشراء معنى السيادة السياسية، فهو اذن أمر آخر. وقد رأينا انهم كانوا يصانعون الصعاليلك و الخلعاء، للاستفادة منهم، وللاستعانة بهم في حماية أنفسهم، ورأينا إن قريش الظواهر كانوا يفخرون على قريش مكة..

بأنهم أصحاب قتال، وانهم يقاتلون عنهم عن البيت، ثم رأينا أشياء أخرى من هذا القييل، تدل كلها على إن قريشاً كانوا ضعفاء غير محاربين، شأن كل الحضر، بالنسبة إلى الأعراب، وانهم عمدوا لضعفهم هذا إلى رشوة سادات القبائل بالهدايا وبالمال وبأشراكهم برأسمال قوافلهم، لتامين مرور أموالهم وتجاراتهم بأرضهم بأمن وسلام.. فهل يقال بعد كل هذا انه قد اجتمع لقريش سلطان سياسي،صار في جملة عوامل سيادة لغة قريش في جزيرة العرب قبيل الإسلام ? ونحن نعلم، إن من أهم مقومات السيادة العباسية،ضرورة وجود القوة العسكرية" فالقوة العسكرية، هي التي بسطت اللغة اليونانية في العالم القديم، وهي التي نشرت اللغة اللاتينية في أنحاء الأمبراطورية الرومانية، وهي التي أوصلت اللغة العريية في آسية إلى حدود الصين، وفي اوروبا إلى الأندلس وسواحل المحيط، وهي التي جعلت الانكليزية اليوم لغة عالمية، فكيف نتصور اذن خضو ع العرب الشماليين قبل الإسلام أو قبيله، للغة قريش، مع ما نعرفه من ضعف قريش في قدرتها على القتال، ولا سيما في ذلك العالم الذي كان القتال فيه شيئاً مالوفاً، بل هو عنصر من مستلزمات الحياة، لأنه من وسائل الرزق بالنسبة للاعرلب المساكين الذين حرمتهم الطبيعة من خيراتها، بل حتى من ضروريات الحياة، عالم لايحترم فيه إلا القوي الجبار-   

ونحن إذا أخذنا بأثر السلطان السياسي في سيادة ا اللغات، وجب علينا حينئذ البحث عن البيثات التي جمعت بين القوة والرهبة العسكرية والنقوذ السياسي،وهي بيئات توفرت في اليمن، وفي مملكة الحيرة، التي بلغت حدودها في أيام "امرىء القيس" صاحب نص الأرة، المتوفى سنة "328 م" حدود نجران، والتي هيمنت على اليمامة والبحرين. وملوك الحيرة،عرب، لغتهم ولغة أتباعهم العربية. فقي مثل هؤلاء، الذين كان لهم سلطلن سياسي وسلطان عسكري، يجب التفكير لا في أناس حضر مسلمين قليلين مثل قريش، ونحن نعلم أن قريشاً كانوا يتوددون إلى ملوك الحيرة، والى ساداتها، وأن شعراء جزيرة العرب كانوا يقصدونهم من مختلف أنحائها، باستئناء العربية الجنوبية، لإنشادهم شعرهم في مدحهم، رجاء تحقيق مطلب، أو نيل جائزة، كما كانت الوفود تقدم اليهم، وتخطب أمامهم، وكان لهم ديوان بالعربية وبالفارسية، لكتابة الرسائل الى عمالهم على الأمصار والى سادات القبائل بالعربية، والى الفرس بالفارسية،كما كان الفرس يكتبون اليهم بالعربية، كما أجمعت على ذلك الموارد العربية والموارد الفارسية التي نقل منها ا المؤرخون أخبار الحيرة الى العربية وكان لهم - كما يقول أهل الأخبار - ديوان شعر فيه أشعار الفحول ومامدح فيه النعمان بن المنذر وأهل بيته، وكانت لهم مدارس تدرس الأطفال العربية، وكذلك كانت لأهل الأنبار ولأهل عين التمر مدارس تدرس، العربية،كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب، ولما جاء "خالد بن الوليد" إلى الحيرة وسأل سادتها: " ويحكم ! ما أنتم ! أعرب? فما تنقمون من العرب ! أو عجم ? فما تنقمون من الأنصاف والعدل! فقالوا له: بل عرب عاربة وأخرى متعربة فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا، ففالوا له: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان ألا بالعربية، فقال: صدقتم. فقال تكلم "خالد" معهم بالعربية، وتفاهم معهم وأيدهم ا في أن لسانهم هو اللسان العربي الذي لالسان لهم غيره كما أن لسانه هو اللسان العربي، وبهذا اللسان كان يتكلم ملوك الحيرة ويسمعون الشعر، ويخاطبون الوفود وأتباعهم، وبه كانوا أنفسهم ينظمون أشعارهم، لم يجدوا صعوبة في التفاهم مع أحد، ولم يجد أهل مكة ولا غيرهم ممن كان يأتي الحيرة، صعوبة في التخاطب والتفاهم مع أهلها فهل يعني هذا إن أهل الحيرة، كانوا يتكلمون بلغة قريش وانهم بفضل تكلمهم بهذه اللغة كانوا يتفاهمون مع الوافدين اليهم من مكة وغيرها من أنحاء جزيرة العرب!وأنهم لو لم يكونوا يعرفون عربية قريش، لكان أمر التفاهم معهم صعباً! أذن فعربية أهل الحيرة، هي عربية قريش أخذوها منهم بسبب نفوذهم السياسي، وغلبة لسانهم على ألسنة العرب! ولكن لة كان الأمر كذلك، فلم كان جوار أهل الحيرة لخالد حين سألهم: ويحكم ما أنتم! أعرب? نحن عرب عاربة وأخرى متعربة، وليدلك على ما نقول، أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، ولم يقولوا له، إنه ليس لنا لسان إلا بالقرشية، أو بعربية قريش أو بعربية قومك، وأمثال ذلك من عبارات يقتضيها الموقف التقرب من القائد المنتتصر، ولاثبات أنهم مثله، هو قرشي يتكلمون بعربيته القرشية المبينة فهل يعتزون بتكلهم بلسلن قريش، أفصح ألسنة العرب ويتباهون به !ولو كان ذلك اللسان لسان الأدب الرفيع عندهم لما سكتوا من تسميته بلسان قريش ابداً.

ثم خذ ما ذكره أهل الأخبار عن فتح "الأنبلر، تراهم يقولون: "ولما اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون، وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم ? فقالوا قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا، فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب، ثم لم تزل عنها، فقال: ممن تعلمتم الكتاب ? فقالوا: تعلمنا الخط من اياد، وانشدوه قول الشاعر: قومى إياد لو انـهـم أمـم  وا لو اقاموا فتهزل النعـم

قوم لهم باحة العـراق إذا  ساروا جميعاً والخط والقلم 

ولو كان أهل الأنبار يكتبون بلغة قريش، لما قال أهل الأخبار إن "خالد" ُجدهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها،ولقالوا حتماً انهم كانوا يكتبون بلسان قريش. ثم إن نصهم دوماً على إن لسانهم كان عربياً، وديوان أهل الحيرة انما كان بالعريية، وان كتابتهم انما كانت بالعربية، دليل في حد ذاته على إن المراد بالعربية، العربية المطلقة، لا المقيدهّ، أعني عربية قريش.

الحق اقو ل: انني إذا فكرت تفكير علماء العربية المحدثين، الذين نسبوا تفوق اللغات على الهجات الى السيادة السياسية والسيادة الاقتصادية وأمثال ذلك من سيادات، فإني لآ أفكر في موطن اينعت فيه العربية في تلك الأيام سوى بلاد الشام والعراق، فقد أمدتنا بلاد الشام بنصوص وان كانت -كا سبق إن قلت - قد دونت بلهجة نبطية، لكنها لم تتمكن مع ذلك من التستر على لهجة أصحابها الأصلية. فقي نص "النمارة" مثلاً الذي يعود تاريخه إلى سنة "328 م"، عبارات مئل "ملك العرب كله"، و "ملك الآسدين ونزرا وملوكهم".

و "هرب مذحجو"، و "مدينة شمر"، و "ملك معدو"، و "نزل بنيه الشعوب"، و،" فلم يبلغ ملك مبلغه"، و "هلك سنة"، يفهم منها بكل جلاء ووضوح ان أصحابها كانوا يتكلمون بلهجة عربية شمالية، هي هذه ا اللهجة التي نسميها العربية الفصيحة، والتي تستخدم "ال" أداة للتعريف. في نص "شرحيل بن ظالم"، الشي الذي يعود تأريخه إلى سنة "568" للميلاد الذي هو: "انا شرحيل بر ظلمو بنيت ذا المرطول سنت 463 بعد مفسد خيبر بعام"، وهونص لا يبعد عن ميلاد الرسول إلا بسنتين، نرى عربية "ال" واضحة ظاهرة طاغية على هذا النص، محيث تشعرك إن النص وان كان كالنص السابق قد دون بلهجة متاثرة بالنحو النبطي، غير إن اصحابه كانوا يتكلمون بعربية شمالية، فهم اذن ممن كانوا يتكلمون بعربية "ال" بكل تاكيد، بدلالة هذه النصوص. وعربية "ال" هي عربية الشعر الجاهلى.

وحيث إن صاحب نص "النمارة" هو الملك "امرؤ القيس"، من ملوك الحيرة، وقد كتب لصحابه شاهد قبره، بالغة التي بينتها، ووضعوه على قبره، فلغة اصحابه اذن هي لغة "ال"، اي العريية الفصيحة. فنحن نستطيع أن نستنبط من ذلك، إن عرب الفرات في العراق كانوا يتكلمون بهذه اللغة في الفرن الرايع الميلاد، أي قبل أن تظهر سوق "عكاظ"، وقبل أن يولد"النابغة." الذبياني، حاكم هذه السوق على زعم أهل الأخبار، وقبل لن تقوم قريش بالغربلة المزعومة للغة، وقيل بروز قريش وولادة "قصي" بزمن طويل.

ثم ان ملوك الحيرة على الأخص ثم ملوك الغساسنة كانوا كعبة الشعروالشعراء، اليهم كان ينسب الشعراء، يقفون عل أبوابهم ساعات وأياماً ليسمح لهم "الحاجب" بالدخول على الملك لانشادهم اشعلرهم أمامهم، وقد كانوا قد اتخذوا -كما يقول اهل الأخبار - أياماً يسمح فيها للشعراء بالتباري في انشاد لشعارهم أمامهم، وعرض ما عندهم من بضاعة نفيسة في الشعر ليراها الشعراء المجتمعون عنده، ولم نسمع أن الشعراء كانوا يقصدون تجار قريش للتباري أمامهم بإنشاد الشعر،او انهم كانوا قداتخذوا موسماً يقصده الشعراء من سائر أنحاء جزيرة العرب للتباري يقول الشعر، لا في موسم الحج ولا في غيره. إن سادة مكة تجار، والتاجر لا يعرف إلا الكسبُ وجمع المال، وما شأنه وبضاعة الشعر ! لقد كان ملوك الحيرةُ ملوك الغساسنة قدوة لملوك بن أمية ولبنى العباس في تبنيَهم الشعر والشعراء،وفي ترويج سوقه وتنشيطه.وإعطائه قوة وصولة، قد يكون عن طبيعة فيهم وطبع، وقد يكون عن سياسة وغرض، لاتخاذ ألشعراء محطات اذاعة أو صحف للترويج بسياسة ملك، وللحط من شأن خصمه ومنافسيه، وللرد على الشعراء المعارضين.على كل فقد كانوا يستذوقون الشعر ويميزون الجيد منه من الفاسد، ويظهرون عيوبه أمام الشعراء،ويحسنون الى الشعراء من أجاد منهم، ومن لم يجد، فكآن هذا التشجيع في جلة العوامل المشجعة على نظم الشعر. وإذا كان "لبتي أمية فضل على الشعر الجاهلي بالاشماع إليه من أفواه الرواة، وبالحث على حفظه وتدوينه. وإذا كان لبني العباس فضل على الشعر والعربية والعلوم بتشجيعهم العلماء واستدعائهم إلى مجالسهم للاستماع اليهم، فصاروا بذلك جميعاً حماة العربية، فإن ملوك الحيرة وملوك عرب الشام كانوا قد مهدوا الجادة قبلهم لمن ذكرت، ورفعوا بعملهم المذكور من مستوى العربية، وعملوا عملهم في صقلها وفي توحيدها،وفي تقريب الألسنة بعضها من بعض والناس على دين ملوكهم، وأكثر شعراء الجاهلية. كانوا على اتصال إما بهؤلاء الملوك، وإما بأولئك.

وأذأ أضفنا إلى هذا التشجيع، والسيادة السياسية التي كانت لملوك الحيرة على نجد والبحرين، عامل التقدم الثقافي الذي كان لعرب الحيرة والأنبار والقرى العربية في العرإق وفي بلاد الشام على أهل البوادي، بل وعلىأهل مكة كذلك، الذين تعلموا خطهم من أهل الحيرة، لزم علينا القول إن العربية المبينة التي درست في مدارس عر"ب العراق، كانت قد تقدمت في العراق أكثر من أي مكان آخر في جز يرة العرب بالنسبة لأيام الجاهلية، ولعلّ هذا التفدم هو الذي أكسب العراق شرف وضع علوم العربية، وتفرده من بين سائر الأقطار الإسلامية، بجمع الشعر الجاهلي وقواعد العربية وعلوم الشعر واللغة، وإلا فلا يعقل ظهور هذه العلوم في هذه الأرضين من غير ماضّ ولا علم سابق، ولا أسس بنى عليها المسلمون بناءهم ا جديد.

وأما إن تلك السيادة السياسية، كانت في حدود ضيقة، في حدود القبائل   

القربية من قريش، والمواضع التي كانت لها مصالح بها، فذلك موضوع اخر، له ما يبرره، فقد كان لسادات مكة مصالح اقتصادية في الطاثف، وكان لهم أملاك وبساتين، ولهم بيوت يقضون بها صيفهم، كما كانت لهم مصالح مشابهة مع المواضع الأخرى ومع القبائل، لا مجال لنكرانها أبداً. ولكن ما صلة هذه الأمور باللغة ومن قال من القدماء إن قريشاً فرضت لغتها على أهل تلك المواضع والقبائل فرضاً، أو إن أدباء تلك المواضع أو تلك القبائل، أخذوا لغة أدبهم من قريش ? أو إن سياسة قريش كانت ذات نفوذ واسع عميق، تركت أثرأ كبيراً في النفوس جعلت العرب من أجل ذلك يمجدون لغة أهل مكة، ويعتبرونها اللغة العالية، أما لغاتهم فلغات رديئة دونها في المنزلة والمكانة، مع اننا نعلم ما للعصبيات القبلية من أثر في التعصب إلى اللهجات، ثم اننا نرى إن كتب أهل الأخبار واللغة، تذكر إن الفبائل التي كانت تجاور مكة، كانت تتكلم بلهجاتها الخاصة بها، وان أهل الطائف، أي ثقيف، كان لهم لسانهم الخاص، وان "أهل الحجاز"، أي قريش وغيرهم، كانوا يكتبون بلهجات خاصة، سماها علماء اللغة لغات "حجازية"، ولم يسموها "قرشية"، ولو كانت تلك اللهجات، لغة قريش، لما دعاها العلماء "لغة أهل الحجاز"،، أو "حجازية"، وقالوا: " ما الحجازية"، وعلى "لغة أهل الحجاز"، و لقالوا: "لغة قريش" وعلى "لغة قريش"، وهكذا، أضف إلى ذلك اننا قلما نقرأ أمثلة على اختلاف لغة قريش عن بقية لغات العرب، وانما نقرأ أمثلة على اختلاف لغة أهل الحجازمما يدل على وجود فرق بين اللغتين، وان لغة قريش، لهجة من لهجات أهل الحجاز، لا انها الأصل. وقد رأينا وجود "الغمغمة" في لغة قريش، وقد نص علماء اللغة أنفسهم على وجودها في تلك اللغة.

ثم من في استطاعته اليوم اثبات إن عرب اليمامة أو عرب نجد، أو عرب البوادي، كانوا تحت تأثير لغة قريش، أو تحت تأثيرها السياسي، ولذلك كانوا ينظمون شعرهم بها، ويخطبون بها، والنصوص التي عثرعليها في اليمامة وفي مواضع من نجد تثبت خلافّ ذلك، تثبت بالدليل القاطع إن لهجة نصوصهم لم تكن على شاكلة لغة قريش، فكيف نصدق رأي من يرى إن أعراب باطن جزيرة العرب، كانوا ينظمون الشعر بلسان قريش مع وجود هذه النصوص الجاهلية التي عثر عليهاوالتي لا يزال العلماء يعثرون عليها إلى يومنا هذا، لا في نجد واليمامة والبحرين فقط، وانما في أرض الحجاز نفسها، وعلى مسافات غير بعيدة من يثرب ومن مكة، ومن الطائف، وهي بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، وبخط يختلف عن الخط الذي دون الوحي به وليست هذه النصوص مغرقة في القدم، حتى يعترض معترض، فيقول اننا نفرل: إن لغة قريش، صارت لغة الشعر، ولغة الأدب، مع ظهور الشعر الجاهلي، أو قبله بزمن غير بعيد لأن بين هذه النصوص، نصوص، نصوص لا يرتقي عهدها عن الإسلام إلا بزمن يسير!   

واما ما يقصونه علينا من نفوذ السلطان الاقتصادي الذي كان لقريش وعن أثره في سيادة لهجة قريش على لهجات العرب، فأنا أقرأ أن مكة كانت مدينة تجار وتجارة، وبيع وشراء، واستيراد وتصدير، وليس من حق احد إن ينكر ذلك، بعد أن نص القرآن على اتجارهم، وعلى وجود رحلتين لهم: رحلة الشتاء، ورحلة الصيف. وبعد أن زخرت كتب الأتجار والتأريخ باخبار تجارة رجالها. ولكن هل كانت مكة المدينة المتاجرة الوحيدة في جزيرة العرب? والجواب: كلا، فقد كانت لأهل اليمن تجارة مع مختلف أنحاء جزيرة العرب وكان سادات اليمامهّ والبحرين من الأثرياء الثقال في بلادهم، وكانوا أصحاب تجارات كانت اليمامة خاصة، ريف مكة تمونها بالميرة والمنافع، وكان ساداتها إذا غضبوا عليها قطعوا الميرة عنها" فيصيبها من ذلك غم كبير، وتضطرعندئذ للى مصالحتهم. فلما جاءهم ثمامة بن أثال الحنفي، سيد أهل اليمامة: وقالوا له: "يا ثمامة صبوت وتركت دين أبائك، قال: لا أدري ما تقولون، إلا أني اقسمت برب هذه البنية لا يصل اليكم من اليمامة شيء مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمداً من آخركم. كانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة، ثم خرج فحبس عنهم ما كان ياتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم فلما اضر بهم، كتبوا إلى رسول الله صلى عليه وسلم، إن عهدنا بك وأنت تامر بصلة الرحم وتحض عليها، وان ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا، فإن رأيت إن تكتب إليه أن يخلي بيننا ويين ميرتنا فافعل، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن خل بين قومي وميرتهم. وكان تجار البحرين يحملون تجارتهم من أقمشة ومن تجارة البحر إلى مكة، كما كان ملوك الحيرة يبعثون بلطائمهم إلى الأسواق ومنها سوق عكاظ، وكان الحضر وأهل القرار في كل جزيرة العرب تجاراً ومنهم أهل.

يثرب، ويهودها ويهود وادي القرى، ويعود سبب اشتهار مكة بالتجارة دون غيرها من قرى ومدن جزيرة العرب، إلى القرآن الكريم، فإليه وحده يعود فضل اشتهارها بالتجارة، لما جاء فيه من ذكر عن قساوة تجار قريش وغلطهم تجاه الفقراء، ومن أكلهم أموال اليتامى والأرامل والبنات، ومن تعاطيهم الربا، ومن اتجارهم برحلتي الشتاء والصيف إلى غير ذلك من أمور حملت علماء التفسير والأخبار على التنقير عن أخبار تجارة مكة وعلى جمع ما حصلوا عليه في كتبهم، ولو نزل في القرآن الكريم شيء عن تجارة وتجار مواضع أخرى مسماة باسمها لخصي. تلك المواضع بعنايتهم من دون شك ولا ربية،ثم إن مدينة الرسول، وقد اشتغل الرسول نفسه بالتجارة، وكانت زوجته خديجة تاجرة، فحمل كل هذا علماء السيرة على البحث عن تجار مكة وعن تجارتها قبل الإسلام، وعن المواضع التي تاجروا معها. فطهرت مكة من ثم وكأنها المدينة الوحيدة التاجرة في جزيرة العرب.

وأما ما يذكرونه عن النفوذ الديني الذي كان لقريش على العرب، فالذي أعرفه من أمر الدين عند أهل الجاهلية، انهم كانوا بين مشرك، وهم الكثرة الكاثرة، وبين اليهود، وهم قلة، وبين نصارى، وهم أكثر من اليهود عدداً، وبين جالية مجوسية، قلدها في دينها نفر من العرب لا يبعأ بعددهم.أما الشرك فقد تتبعناه في الجزء السادس من هذا الكتاب، فوجسنا إن لكل قبيلة صنماً. كانت تتقرب إليه وتنذر له وتستعين به في حربها وغزوها، ولم تكن العرب تجح إلى صنم واحد، هو صنم قريش، بل كانت تحجح إلى أصنامها، ووجدنا ان "هبل" هو صنم أهل مكة وكفى. ثم رأينا ان لأهل نجران كعبة، لأهل يثرب محجة، ولإياد كعبة، ولثقيف محجة، وللقبائل الأخرى محجات، وللنبط محجة، ولأهل العربية الجنوبية معابدهم، ولم نقرا في أي نص من نصوص أهل الجاهلية انهم حجوا الى مكة، أو إن أحداً منهم ذهب اليها لغرض من الأغراض الدينية أو اي غرض أخر، ولم يرد اسم مكة في أي نص من هذه النصرص. ولم نسمع في أخبار أهل الأخبار، إن قوافل من عرب العراق أو عرب بلاد الشام او نجد أو العروض، كانت ترحل في موسم الحج إلى مكة لفرض تأدية الحج أو أداء العمرة في رجب، ولم أقف على اسم ملك من ملوك الحيرة قيل انه حج إلى مكة، ولم اقف على اسم ملك من ملوك كندة أو بقية العرب ذكر انه حج   

في جاهلية الى مكة، اللهم الا ما زعموه من حج التبابعة إليها، وقد تعرضنا لطبيعة أمثال هذه الدعاوى القحطانية التي وضعتها العصبية إلى اليمن في الإسلام، وكلها أساطير وخرافات. ولو كان الحج إلى مكة عاماً عند كل مشركي جزيرة العرب، لما سكتت الأخبار عن ذكر من كان يفد إلى الحج من الأماكن البعيدة، ولظهر أثره في الشعر على الأقل.

وأما اليهود والنصارى والمجوس، فقد كانوا على دينهم، لا يحجون البيت ولا يتقربون إليه. فلهم عبادتهم الحاصة بهم. فلا نفوذ لقريش اذن عليهم من ناحية الدين.

نعم، قد يقال لي: ولكن ما قولك في هذا الاجماع الذي نراه في كتب التواريخ والأخبار من حج التبابعة إلى مكة ومن تقربهم إلى الكعبة بالكسوة والألطاف، وقد كانوا أول من كساها من العرب ? ثم ما قولك في هذا الشعر الذي قالوه في مدح البيت وفي التقرب إليه وفي الايمان بالله وبرسوله قبل ظهوره بل قبل مولده بمئات م ن السنين ? ثم - ماذا تقول من اشادة "عدي بن زيد" العبادي بالبيت وقسمه به في شعره، وهو يخاطب النعمان بن المنذر، الملك الغاضب عليه ? وماذا تقول في قول القائلين، من الشعراء الجاهليين الآخرين في تعظيم البيت وفي التقرب إليه، وقسمهم به ومن مجيء العرب إلى مكة من كل حدب وصوب للعمرة أو للحج ? ثم ماذا ستقول في أشياء أخرى من هذا القبيل تفند كلها قولك، وتثبت وجود نفوذ قريش على القبائل وخضوع القبائل لها في أمور ا لدين ? أما حج التبابعة البيت، فهو حج ولد في الإسلام، أولدته العصبية القحطانية العدنانية التي تحدثت عنها وأما الكسوة، فهي من مولدات ومخترعات هذه العصبية أيضاً. وأما الشعر الذي نسب الى التبابعة، فهو من فصيلة الشعر الذي روي على لسان آدم وهابيل وقابيل والجنّ، وأما المحجات، فقد بحثت عنها في الجزء السادس من هذا لكتاب. وقد سبق لي أن تحدثت عن مخترعات أخرى كثيرة غير هذه، أوجدتها العصبية الفحطانية العدنانية، منها خلق أنبياء قطانيين، وجعل العربية الأولى، عربية قحطانية، وجعل العرب العدنانيين عرباً مستعربة، إن غير ذلك من ابتكارات أوجدها القحطانيون، بعد أن ذهب الحكم منهم، وصاروا تبعاً لقريش في الإسلام، فأخذوا ينبشون الماضي ويبحثون في الدفاتر العتيقة، ويضعون ويفتعلون، للغض من خصومهم، ولإظهار انهم كانوا هم اللب والأصل، وان خصومهم جاء اليهم الحكم عفواً، من غير أصالة ولا مجد تليد، فهم أصل كل مجد وفخار..

وقد تعرض العلماء لهذا الموضوع القائم على العصبية فقال "ابن فارس": "فأما من زعم أن ولد اسماعيل - عليه السلام - يعيرون ولد قحطلن أنهم ليسوا عرباً ويحتجون عليهم بأن لسانهم الحميرية.. فليس اختلاف اللغات قادحاً في الأنساب. ونحن وإن كنا نعلم إن القران نزل بافصح اللغات فلسنا ننكر أن تكون لكل قوم لغة. مع أن قحطان تذكر أنهم العرب العاربة وأن من سواهم العرب المتعربة، وأن اسماعيل - عليه السلام - بلسانهم نطق، ومن لغتهم أخذ، وإنما كانت لغة ابيه صلى الله عليه وسلم، العبرية " فأنت أمام رأيين متناقضين، يدعي أصحاب كل رأي منهما أنهم هم العرب وأن لسانهم هو اللسان العربي الفصيح المبين،- وأن من سواهم فغنم، وأصحاب ألسنة فاسدة رديئة.

وأما ما زعموه وحكوه عن أدوار تهذيب اللغة، ومن انفتاق العربية بلسان اسماعيل الى اختتامها بالدور العكاظي وهو آخر أدوار التهذيب اللغوي فأقول انها أقوال بنيت على أخبار ضنعتها العواطف والمشاعر العصبية الضيقة التي ظهرت باجلى مظاهرها في صدر الإسلام عصبية قبلية قديمة كانت بين يثرب ومكة، أو بين اليمن ومكة، إزدادت شدة وقوة في الإسلام، بسبب استيلاء قريش على الحكم، فاستغلت العواطف الدينية لتأييد هذه العصبية ا السياسية. بجعل قريش تاجرة جزيرة العرب، وزعيمتها في اللغة، وموطن الفصاحة والبلاغة، ومجمع علماء اللغة الذين كانوا ياخذون ويعطون ويقررون كل ما هو سلس من الكلم وما هو بليغ وفصيح، حتى جعلوا كلام الله المنزل على رسوله بلسان عربي مبين، لسان قريش، والله تعالى يقول: "قرآناً عربياً ولم يقل قريشاً.

والعربية عربية العرب جميعاً من انصار ومهاجرين، أهل بادية وقرى. "قال الأزهري: وجعل الله عز وجلّ، القرآن االمنزل على النبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عربياً، لأنه نسبة إلى العرب الذين انزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها العربية، وجل النبي، صلى الله عليه وسلم، عريياً لأنه من صريح العرب". فلسان القرآن، لسان العرب جميعاً من مهاجرين وأنصار، لا لسان قريش خاصة، والنبي وان كان من قريش، لكنه كان عربياً من صريح العرب، ودعوته لم تكن دعوة ضيقة خاصة بقريش، إِنما كانت دعوة عامة جاءت إلى كل العرب، قوم النبي، ولهذا نزل بلسانهم وبهذا جائت الاية: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه"، ثم إلى الناس عامة لحديث:" أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، واعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة".

وأما ما زعموه من تخير قريش وانتقائها أفضل لغات العرب، حتى صار لسانها أعرب الألسنة، فزعم بني علي خبر "روي عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، انه قال: قريش هم أوسط العرب في العرب داراً، وأحسنه جوارأَ، وأعربه ألسنة"، وعلى خبر ينسب الى قتادة نصه: "كانت قريش تجتبي، أي تختار، أفضل لغات العرب، حتى صار افضل لغاتها لغتها، فنزل القرآن بها".. وهو خبر لا زال يردد ويكرر يوضع بين أقواس تارة وبغير أقواس تارة أخرى، استشهاداً به حتى وكأنه صار آية نزلت من السماء، مع كون "قتادة" من ا الضعفاء، وقد تحدث عن "ابن عباس" مع انه لم يلتق به، ونسب له أقوالاّ شاع بين الناس، مع انه لم يره ولم يسمع منه، فهل يؤخذ بعد بقوله على انه حجة، أو كأنه آية نزلت من السماء وهل نقبل خبره عن ا اللسان.

اجتباء قريش أفضل لغات العرب، على انه حجة "يستدل بها على أدوارالتهذيب وأنت لو رجعت إلى خبر: "أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وايامهم ومحالهم إن قريشاً أفصح العرب وأصفاهم لغة. و ذلك إن الله- جل ثناؤه - اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشا قطان حرمه وجيران بيته الحرام وولاته.

فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم. وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم.. الخ"، تجده منقولاّ نقلاَ حرفياً في كل موضع تعرض إلى أفصح العرب، أو العربية الفصحى، أو اللغة التي نزل بها الفرآن، يسند أحياناً وبغير سند أحياناً أخرى، حتى ظهر وكأنه خبر متواتر، وإجماع لم يخرج عليه عالم من العلماء، فاًخذ به المحدثون، وقالوا قولهم المذكور، ولكنك لو تتبعت الخبر، وعملت رأيك في حرفية نصه في كل الموارد، ثم وقفت على آخر مورد قديم ذكره، ترى انه خبر آحاد، ورواية واحدة ليس غير، اكتسب هذا الاجماع بسبب وروده بالحرف في تلك المؤلفات، فهو لا يفيد قطعاً، وانما حكمه حكم الأخبار الآحاد.

ثم إن ما ذكروه من صفاء لهجة قريش ومن فصاحتها، يعارضه قولهم بوجود "غمغمة" في لغتها. فقد قالوا: الغمغمة: "الكلام الذي لا يبين، ومنه صفة قريش فيهم غمغمة"، كما يعارضه قولهم بوجود التضجع في لغة قريش، فلما نحدث "ثعلب" عن معايب اللغة، قال: "ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وتلتلة بهراء، وكسكسة ربيعة، وكشكشة هوازن، وتضجع قريش، وعجرفية ضبة" مما يدل على انه قصد ب "تضجع قريش": عيباً من العيوب في الفصاحة. وفي وصف لغة قريش بالتضجع مناقضة لابتداء كلامه ب "ارتفعت قريش في القصاحة عن.."، كما لا يخفى. وعلماء العربية والأخبار يناقضون أنفسهم بأنفسهم، وهو شيء مألوف عنهم، لأنهم كانوا يعمدون إلى الرواية والاملاء عن ظهر قلب في الغالب " لا عن كتاب مدون وصحف مكتوبة، فلاَ غرابة إن ظهر هذا التباين في كلامه في هذا المكان.

ثم إن علماء العربية حين يبحئون في النحو أو في الصرف، أو في مفردات اللغة عن الغريب والشاذ، يذكرون فيما يذكرون لغة قريش، ولغة أهل الحجاز، فيقولون:".،. لغة قريش"، و "بلغة قريش"، كما يقولون: "لغة تميم"، ولغة طيء، ولغة يمانية، ولغة أسد، وغير ذلك، ولكنهم يقولون أيضاً: "يقول أهل الحجاز قتر يقتر، ولغة فيها أخرى يقترُ بضم التاء، وهي أقل اللغات"، وجاء: "وفي أمالي القالي: لغة الحجاز ذ أى البقل يذأى، وأهل نجد يقولون: ذوى يذوي"، إلى غير ذلك، وفي ذكرهم لغة قريش ولغة أهل الحجاز، مع اللغات الأخرى في مثل هذه المواضع دلالة بينة على إن العربية الفصحى ليست عربية قريش، وإنما عربية أخرى، هي العربية التي نص عليها في القرآن، أي العربية التي نزل بها الوحي، وإلا كان من السخف ذكر لغة قريش، حين الإشارة إلى الغريب والشاذ ومواضع الاختلاف.

وأما استشهادهم بحديث: "أنا أفصح العرب، بيد إني من قريش" أو " أنا أفصح العرب، بيد اني من قربش واني نشأت في بني سعد"، أو "أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد اني من قريش"، لاثبات أن قريشاًكانوا أفصح العرب، بل أصل الفصاحة، فالحديث من الآحاديث الغريبة الضعيفة، رواه أصحاب الغريب، كما نص على ذلك العلماءْ، فهو لا يفيد حكماّ علمياً لضعفه هذا، و لا يصلح أن يكون أساساً لاستشهاد. وقد يكون من موضوعات العصبية العدنانية القطانية، وقد يكون من الأحاديث التي رويت من باب الاشادة بقريش لكونهم قوم الرسول، وبالإشادة بذكرهم وتعظيمهم في كل شيء وجعل لسانهم أفصح الألسنة خدمة في رأيهم للاسلام وللرسول وللقرآن الكريم. وليس هذا بشيء غريب، فقد عهدنا أهل الأخبار يروون شعرأَ ونثراً على آلسنة التبابعة والأقوام الماضية بل والجن والكهان في الحث على الايمان بالرسول، قبل ميلاد الرسول بزمن، وقبل ظهور الإسلامء وهو مقبول عندهم، ودليل ذلك تسطيره في كتبهم وروايتهم له، ولو تجوزنا وقبلنا بالحديث، واعتبرناه حديثاً صحيحاً، فإننا لا نتسطيع مع ذلك أن نفهم منه ما فهموه هم من انه عنى إن قريشاً أفصح العرب، وانه صار أفصح العرب، من أجل انه من قريش، لأن معنى "بيد" على نفسير علماء العربية هو: "غير" و "على"، والأول أعلى. " يقال رجل كثير المال، بيد انه بخيل. معناه غير انه بخيل"، ولو أخذنا بالتفسيرين سالمذكورين قلنا بجب أن يكون معنى الحديث على هذا النحو: " أنا أفصح العرب، غير اني من قريش، واني نشأت في بتي سعد"، أو "أنا أفصح العرب، على اني من قريش، واني نشاًت في بتي سعد"، ومعناه بعبارة مبسطة أنا أفصح العرب، وان كنت من قوم منهم، هم قريش، لهم لسانهم، وقد نشأت في بني سعد. وقريش كما نعلم بعض العرب، لا كل العرب. وليس في هذا المعنى أية دلالة على تخصيص قريش بالفصاحة، وعلى إن لسانها أفصح الألسنة. وكل ما فيه إشادة بفصاحة الرسول وحده، وإفادة بأنه أفصح العرب، فلا أحد أفصح وأنطق منه، فهو حديث يفيد التخصيص لا التعميم،وهو خاص بفصاحة الرسول. وهو لذلك لا يمكن أن يكون حجة على تفضبل لسان قريش على الألسنة الأخرى، ولأجل تحويله إلى حجة فسّروا لفطة "بيد" تفسيراً جعل الفصاحة للرسول ولقومه فقالوا: " ويأتي بيد بمعنى: من أجل. ذكره ابن هشام"، فصار معنى الحديث: "أنا أفصح العرب، من أجل اني من قريش، واني نشأت في بني سعد بن بكر". فالرسول وفق تفسيرهم هذا، أفصح العرب من أجل انه من قريش، ففصاحته مستمدة منهم ومن "بني سعد بن بكر"، وصارت قريش في نظرهم أفصح العرب لساناً، وأصفاهم لغة. مع انهم ا يذكرون فيما يذكرون عن كلام الرسول، إن "عمر بن الخطاب" قال للرسول يوماً: "يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من ظهورنا.."، وان رجلاً آخر سأله بقوله: "يا رسول الله ما أفصحك ! فما رأينا الذي هو أعرب منك، قال: حق لي، فإنما أنزل القرآن على" بلسان عربي مبين. وقال الخطابي: اعلم إن الله لما وضع رسوله موضع البلاغ من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه، اختار له من اللغات أعربها، ومن الألسن أفصحها وأبينها، ثم أمده بجوامع الكلم، قال ومن فصاحته أنه تكلم بالفاظ اقتضبها لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها، كقوله: مات حتف أنفه، وحمي الوطيس... الخ". وفي حديث "عمر" إن صح: "ولم تخرج من بين أظهرنا" صراحة بتعجب عمر من هذه الفصاحة التي كانت للرسول مع أنه لم يخرج من بين أظهرهم، أي من مكة، ولو كان لسان قريش أفصح الألسنة لما قال عمر للرسول قوله المذكور، الذي يدل على إن الفصاحة في خارج قريش، وعند الأعراب. وفي جواب الرسول على للرجل من قوله: "حق " لي، فإنما أنزل القرآن عليّ بلسان عربي مبين"، - إن صح هذا الحديث - تفنيداً لقول القائلين بنزوله بلغة قريش، ولو كان قد نزل بلغتهم لقال: "بلسان قرشي مبين" ولم يقل أحد من العلماء إن اللسان العربي، هو لسان قريش، بل نجدهم يقولون دائماً: لسان قريش، ولغة قريش، ونزله بلسان قريش، ويذكرون هذا السان مع الألسنة الأخرى، مثل لسان تميم، وهذيل، وبني سعد بن بكر. وأما ما قالوه من أن الوفود اليمنية التي وفدت على الرسول، لم تجد صعوبة في التفاهم معه،وان الرسول حين أرسل معاذ بن جيل الى اليمن ليعظمهم ويعلمهم ما وجد صعوبة في التفاهم   

معهم، وأنهم لو لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى، لكان ارسال هؤلاء الدعاة عبثاً، "وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسة في الجنوب حدثت قبيل الإسلام"، فيعارضه ما ذكروه من أنه "حين جاءته وفود العرب فكان يخاطبهم جميعاً على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وافخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين إن أصحابه رضوان الله عليهم ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوجه اليهم لخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياءكثيرة، حتى قال له علي بن ابي طالب، كرم الله وجهه، وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفودالعرب بما لا نفهم أكثره فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يساًلونه عنه عما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هنا الاختلاف فطرياً في العرب فلم يلتفتوا إليه". وفي هذا الخبر - إن صح - دلألة على الضد، دلالة على إن العرب كانت على سجيتها ولسانها في كلامها، وانها لم تكن تنطق بلسان قريش بل باًلسنتها،وإلا لما تعجب علي وغيره من كيفية تفاهم الرسول مع القبائل وعدم تمكنهم هم من فهم كلامهم، مع انه واياهم من أب واحد، أي من قريش، ثم من أكد لنا إن معاذ بن جبل، وهو من الأنصار لم يجد صعوبة في تفاهمه مع أهل اليمن، وان وفوداليمن لم تجد صعوبة في تفاهمها مع الرسول، ومن أين جاء هذا التأكيد ? والذي نعلمه إن الموارد لم تتحدث عن ذلك، بل الذي رأيناه هو العكس، وهو ما ذكرته في خبر علي مع النبي. أما لو اخذنا بما نجده في الموارد من كلام الوفود مع الرسول وجواب الرسول على كلامهم، وكله بهذه العربية المبينة، فقد قلت مراراً إن الصحابة في ذلك الوقت لم يكونوا يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ولا كلام الوفود مع الرسول، بل ولا كلام الرسول وحده، أي حديثه، وان ما نقراه من نصوص لا يمثل الأصل، وربما مثل المعنى وقد يكون لا هذا ولا ذاك، وانما روايات موضوعه، قد يحتمل أن يكون مع الوفود أناس يحسنون التكلم بالعربية المبينة، وان بين اصحاب النبى من كان من العربية الجنوبية ومن القبائل التي كانت تتكلم بلهجات متباينة، فكانوا يقومون له بدور التفاهم والتقريب بين كلام الرسول وكلام الوفود.هم، وأنهم لو لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى، لكان ارسال هؤلاء الدعاة عبثاً، "وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسة في الجنوب حدثت قبيل الإسلام"، فيعارضه ما ذكروه من أنه "حين جاءته وفود العرب فكان يخاطبهم جميعاً على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وافخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين إن أصحابه رضوان الله عليهم ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوجه اليهم لخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياءكثيرة، حتى قال له علي بن ابي طالب، كرم الله وجهه، وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفودالعرب بما لا نفهم أكثره فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يساًلونه عنه عما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هنا الاختلاف فطرياً في العرب فلم يلتفتوا إليه". وفي هذا الخبر - إن صح - دلألة على الضد، دلالة على إن العرب كانت على سجيتها ولسانها في كلامها، وانها لم تكن تنطق بلسان قريش بل باًلسنتها،وإلا لما تعجب علي وغيره من كيفية تفاهم الرسول مع القبائل وعدم تمكنهم هم من فهم كلامهم، مع انه واياهم من أب واحد، أي من قريش، ثم من أكد لنا إن معاذ بن جبل، وهو من الأنصار لم يجد صعوبة في تفاهمه مع أهل اليمن، وان وفوداليمن لم تجد صعوبة في تفاهمها مع الرسول، ومن أين جاء هذا التأكيد ? والذي نعلمه إن الموارد لم تتحدث عن ذلك، بل الذي رأيناه هو العكس، وهو ما ذكرته في خبر علي مع النبي. أما لو اخذنا بما نجده في الموارد من كلام الوفود مع الرسول وجواب الرسول على كلامهم، وكله بهذه العربية المبينة، فقد قلت مراراً إن الصحابة في ذلك الوقت لم يكونوا يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ولا كلام الوفود مع الرسول، بل ولا كلام الرسول وحده، أي حديثه، وان ما نقراه من نصوص لا يمثل الأصل، وربما مثل المعنى وقد يكون لا هذا ولا ذاك، وانما   

روايات موضوعه، قد يحتمل أن يكون مع الوفود أناس يحسنون التكلم بالعربية المبينة، وان بين اصحاب النبى من كان من العربية الجنوبية ومن القبائل التي كانت تتكلم بلهجات متباينة، فكانوا يقومون له بدور التفاهم والتقريب بين كلام الرسول وكلام الوفود. موضوعه، قد يحتمل أن يكون مع الوفود أناس يحسنون التكلم بالعربية المبينة، وان بين اصحاب النبى من كان من العربية الجنوبية ومن القبائل التي كانت تتكلم بلهجات متباينة، فكانوا يقومون له بدور التفاهم والتقريب بين كلام الرسول وكلام الوفود.

وأما ما زعموه كل من دور "عكاظ" في تهذيب اللغة، وأثر قريش فيه، فلئن كان لعكاظ أثر في تباري العرب في النثر وفي الشعر، فإنك لا تستطيع ارجاع هذا الأثر إلى عمل وفعل جماعة معينة، وليس في الذي تحدث به الرواة من أخبار عن "عكاظ" ما يحصر فعل هذا التهذيب بقريش، وما قريش إلا كغيرهم من قصاد هذا المكان من حيث المجيء اليه للبيع والشراء والإتجار. لم تكن الحكومة لهم بعكاظ، وإنما كانت لتميم، وتميم من أشهر الناس في فنون الخطابة والكلام. ودليل ذلك، ما يورده أهل الأخبار عن خطبائهم وحكمائهم من كلام، وما ينسبونه اليهم من حكم وخطب بليغة، ثم إن هذه السوق لم تظهر إلا في أيام الرسول وقبل خمس عشرة سنة من الإسلام. وقيل إنها اتخذت سوقاً بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وتركت عام خرجت الحرورية بمكة مع "المختار بن عوف" سنة تسع وعشرين ومائة. وقد ذكر أهل الأخبار أن "عكاظ" سوق "كانت تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون، أي يتفاخرون ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر ثم يتفرقون"، وأنهم.كانوا "يقيمون شهراً يتبايعون ويتفاخرون ويتناشدون شعراً، فلما جاء الإسلام هدم ذلك"، وذكروا إن الشاعر النابغة الذبياني كان يأتيها فينشد الناس من شعره، "وكان النابغة تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأنشده الأعشى أبو بصير، ثم أنشده حسان بن ثابت، ثم الشعراء، ثم جاءت الخنساء السلمية فأنشدته"، وذكروا أن في شعر "أمية بن خلف" الخزاعي، اشارة إلى مكانة فذه السوق عند الشعراء، حيث يقول: ألا من مبلغ حسان عني  مغلغلة تدب الى عكاظ 

فأجابه "حسان" في أبيات تشير أيضاً إلى هذه الأهمية، و ذلك بقوله: أتاني عن أمـيّة زور قـول  وما هوفي المغيب بذي حفاظ 

سانشر إن بقيت لكم كـلامـاً  ينشر في المجنة مع عكـاظ

قوافي كالسلاح إذا استمـرت  من الصمم المعجرفة الغلاظ

فلم يشير حسان إلى أثرقريش في هذه السوق، ولم يشر أمية الىقريش كذلك، والذي يفهم من الشعرين أن ذكر عكاظ فيهما، هو بسبب تجمع الناس في هذه السوق، فما يقال فيها ويصرخ على رؤوس الأشهاد ينتشر في كل مكان، ويأخذ صداه بين الحاضرين، ثم يذهب إلى الغائبين، ولهذا كانت أيضاً الموضع الذي يعلن فيه الناس خلع من يريدون خلعه للتبرؤ من جرائره، شأنها في ذلك شأن "سوق مجنة"، وهي أيضاً من أسواق الجاهلية وكانت على أميال من مكة، وأنت ترى إن "حسان" قد ذكر أنه سينشر شعره فيها وفي عكاظ. مما يدل على أنها كانت ذات اهمية أيضاً من حيث النشر والاعلان، وأنها مثل عكاظ، ومثل أي سوق أخرى كبيرة من حيث تجمع الناس فيها والاعلان عما يقع لهم من أحداث.

واًما ما ذكزوه من انشاد حسان للنابغة شعره: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى  وأسيافنا يقطرن من نجدة دمـا

ومن رد النابغة عليه بقوله: أنت شاعر، ولكنك أقلت جفناتك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك. فحكاية شك فيها العلماء، وإن كان هذا الشاهد من شواهد سييويه. لأن الاعتراض لا يدور على الشاهد، وانما على القصة. وقد ذهب بعض العلماء على انها خبر مجهول لا أصل له. وهناك قوم أنكروا هذا البيت أصلاً، ومنهم من روى ملاحظة النابغة المزعومة بشكل،أخر " وفي الشكلين ما يوحي إلى إن القصة مفتعلة، وضعها الرواة لإيجاد مخرج للبيت. ولم أجد في المراجع المعتبرة القديمة نصاً، يفيد إن الأمر كان لقريش في الحكم بين الشعراء أو الخطباء في سوق عكاظ. والنابغة الذي جعلوه حكماً يحكم في أمر الشعر لم يكن من قريش، بل هو من " بني ذببان"، وهو الحكم الوحيدالذي نص أهل الأخبار على اسمه وزعموا انه كانت له قبة حمراء من أدم وكان ينشد شعره، واليه تتحاكم الشعراء في أيهم أشعر وكل الشعراء الذين. ذكروهم هم: الأعشى، والخنساء، وحسان في قصة منمقة طربفة. ولم أعثر حتى الآن على اسم حاكم آخر، آلت إليه حكومة الشعر في عكاظ، لا من قريش ولا من غير قريش. فأين اذن موقع قريش في هذه السوق من الإعراب.

واما ما زعمه بعض أهل الأخبلر من إن العرب في الجاهلية كان يقول الرجل منهم الشعر في اًقصى الأرض، فلا يعبأ به حتى يأتي مكة فيعرضه على قريش، فأن استحسنوه روي وكان فخراً لقائله، وإن لم يستحسنوه طرح وذهب فيما ذهب وما روي عن "أبي عمرو بن العلاء" من قوله: كانت العرب تجتمع في كل عام بمكة، وكانت تعرض اشعارها على هذا الحي من قريش"، فروايات من نوع الروايات التي لا تتمكن من الوقوف على أرجلها، ولم تجد في كتب التاريخ والأخبار ما يؤيدها،وضعت لتبرير القصص الذي نسجوه عن أسطورة تعليق المعلقات، ثم إننا لم نسمع بخبر الشعر الذي استحسنوه وأجازوه، غير شعر المعلقات، ولو كان ما نسب إلى "أبي عمرو بن العلاء" أو غيره حقاً، من استحسان شعر وطرح شعر، لما سكت رواة الشعر من الإشارة إلى الشعر الذي استحسنه أهل مكة فنال بذلك شرف الاختيار والسيادة والرفعة، ولما غضوا النظر غضاً تاماً عن الاثارة إلى الشعر الذي لم يستحسنوه فسقط وذل، وفي ذكر الشعر الفاشل أهمية كبيرة في نظر الشعراء الخصوم، وفي نظر القبائل التي كانت تبحث وتتجسس على الهفواط والسقطات لاتخاذها مغمزاً تنال بها القبائل بعضها بعضاً ! ثم كيف سكتت قريش عن هذا الشرف الذي كان لها قبل الإسلام، وقد رووا أنها نظرت فإذا حظها في الشعر أيام الجاهلية قليل، فاستكثرلت منه في الإسلام، وأنها أضافت كثيرأَ إلى شعر "حسان" للاساءة إليه، ولو كان هذا الشرف المزعوم، لما سكتوا عنه، ولما سكت من تبسط في تأريخ مكة، أو كتب في السيرة عن الاشارة إليه، لما فيه من أهمية كبيرة بالنسبة للتأريخ، ثم اننا لا نجد في القرآن للكريم. شيئاً يشير إلى ذلك، مع تعرضه للشعراء، كما لا نجد في كتب الحديث أي شيء يدل على وجوده، مع أنها تعرضت للشعر، ولسماع الرسول له، وقد ذكرتّ أنه كان يسأل الصحابة أن ينشدوا شعر الشعراء له، الى غير ذلك مما هو مدون في بطون هذه الكتب. و أما ما زعموه من إن العرب كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولاَ، وما ردوه منها كان مردوداٌ، فقدم عليهم علقمة بن عبدة التميمي، فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم، فقالوا.

هذا سمط الدهر، ثم عاد اليهم العام المقبل، فأنشدهم قصيدته: طحا قلب في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمطا الدهر". فخبر آحاد، وان تواتر في الكتب، لم يروه "ابن سلام" ولا "ابن قتيبة"، وهو من نوع خبر تعليق المعلقات من الموضوعات التي أولدها أهل الأخبلر.

وفي الجدل الذي وقع بين علماء النحو وغيرهم في جواز او عدم جواز الاحتجاج بالشعر على غريب القرآن ومشكله، دلالة بينة على اجماع الطرفين على إن كتاب الله انما نزل بلسان عربي مبين، ولم ينزل بلسان قريش، الذي هو حرف من اللسان العربي. فقد قال المنكرون للاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر، إن معنى ذلك جعل الشعر أصلاً للقرآن،مع إن الشعر مذموم في القرأن والحديث، فردّ عليهم القائلون به بقولهم: "ليس الأمر كما تزعمون من انا جعلنا الشعر أصلاّ للقرآن، بل أردنا تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر، لأن الله تعالى قال: إنا جعلناه قرآناً عربياً، وقال: بلسان عربي مبين.

وقال ابن عباس: "الشعر ديوان العرب؛ فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه،".

ولو كان القرآن قد نزل بلسان قريش، لما احتاج الناس الى الشعر للاستشهاد به على فهم المشكل والغريب، وكان عليهم الرجوع إلى شعر قريش ونثرهم للاستشهاد به في توضيح ما فيه من مشكل وغريب، لا إلى شعر العرب وكلامم من غير قريش، ثم إن في قولهم بوجود مشكل وغريب فيه، وحروف خفي أمر فهمها على العلماء، هو دليل في حد ذاته على انه لم ينزل بلسان قريش، وانما بلسان عربي مببن، فلو كان قد نزل بلسانهم لما خفي امره على رجالهم، من مثل أبي بكر وعمر وغيرهما من رجال قريش، ونجد في المسائل المنسوبة الى "نافع بن إلأزرق" التي سألها على ما يذكر الرواة "ابن عباس" قي تفسير الفرآن بالشعر، دلالة على أنه كان يرى أن القرآن إنما نزل بلسان عربي، لا بلسان قريش فقد روي إن "نافع بن الأزرق" قال ل "نجدة بن عويمر": "قم بنا إلى هذا الذي يجترىء على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاماليه فقالا: إنّا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا وتأتينا بمصادقة من كلام العرب، فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عريي مبين فقال: ابن عباس: سلاني عما بدا لكما، ففال نافع: أخبرني عن قول الله تعالى: عن اليمن وعن الشمال عزين، قال: العزون: الجلق الرقاق، قال: وهل تعرف العرب ذلك ? قال: نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول: فجاءوا يهرعون إليه حتى  يكونوا حول منبره عزينا

وهي أسئلة مهمة اقترن جواب كل سؤال منها بشعر، من شعر شعراء الجاهلية والمخضرمين مثل،: "عبيد بن الأبرص"، و "عنترة"، و "أبو سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب"، و"لبيد"، و "طرفة بن العبد"، و "مالك ابن عوف"، و "عبلي الله بن الزبعرى"، و "حسان بن ثابت"، و "عديّ ابن زيد" العبادي، و "أمية بن أبي الصلت"، و "أبو ذؤيب"، و "أبو محجن الثقفي"، و " امرؤ القيس"، و "الأعشى"،و"النابغة"، و "حمزة بن عبد المطلب"، و "زيد بن عمرو"، و "عبدالله بن رواحة"، و "زهير بن أبي سلمى"، و "عمرو بن كلثوم" و "عبيد بن الأبرص"، و "كعب بن مالك"، و "أحيحة الأنصاري"، و "بشر بن أبي خازم"، و "ماللك بن كنانة"، و "أبو طالب" و "مهلهل"، و "الحطيئة"، و "أوس بن حجر"، وشعر آخر لشعراء لم يشر إلى أسمائهم، وإنما كان يقول: " أما سمعت قول الشاعر"، وقد أمكن تشخيص بعضه، ولم يهتد إلى قائل البعض الاخر، كما استشهد بشعر نسبه إلى التبابعة. وهي أجوبة مهمة، إن صح بالطبع انها صحيحة، وأنها من أسئلة "نافع" وأجوبة "ابن عباس"، تفيد تشخيص ذلك الشعر: وفي تثبيته، وإن كان من الصعب علينا التصديق بصحة هذه الأسثلة والأجوبة، التي أرى أنها وضعت في أيام العباسيين، وممكن بالطبع التوصل إلى تثبيت زمان وضعها، بالبحث عن أقدم مورد وردت إشارة فيه إليها، فحينئذ يمكن تعيين ألزمان الذي وضعت فيه بوجه تقريبي.

وفي تفسير الغريب والمشكله من القرِآن بالشعر، وقول علماء التفسير انا اللفظة من ألفاظ قبائل أخرى غير قرشية، وفي استفهام رجال قريش، وفي جملتهم رجال كانوا من أقرب الناس الى الرسول، مثل "أبي بكر" و "عمر" عن ألفاظ وردت في القرآن لم يعرفوا معناها، مثل "أبّاً"، وفي رجوع "ابن عباس" إلى الأعراب، يسألهم عن ألفاظ وردت في القراَن أشكل عليه فهم معناها، وفي اعتماده في تفسهيره للقرآن على الشعر، أقول في كل هذ! وأمثاله دلالة واضحة على إن القرآن لم يننرل بلسان قريش، وانما نزل بلسان العرب، ولو كان قد نزل بلغة قريش، كان استشهاد العاماء بالشعر وبلغات العرب في تفسير القرآن شيثاً عبثاً زائداً،وكان عليهم تفسيره وتبيين معناه وتوضيحه بالاستشهاد بلغة قريش وحدها، لا بالشعر الجاهلي الذي هو شعر العرب، وبكلام العرب. ولو رجعنا إلى كنب المّفسير والسير، نجد انها قد فسرت الغامض من ألفاط القرآن بالشعر. فقد استعان قدماء المفسرين في تفسير لفظة "سجى" بالشعر، فأورد"الطبري" مثلاً ببتاً من شعر "أعشى بن ثعلبة" في تفسير معناها، هو قوله: فماذنبنا إن جاش بحر ابن عمّكـم  وبحرك ساج ما يوارى الدعامصا 

ويقول أحد الرجاز: يا حبذا القمراء والليل الساج  وطرق مثل ملاء النسـاج

واستعان "ابن هشام" ببيت شعر لأمية بن الصلت، في تفسيرها، وهو قوله: إذ أتى موهنا وقد نام صحبى  وسجا الليل بالظلام البهـيم

وفسر "الطبري" "عائلا" بقول الشاعر: فما يدري الفقير متى غناه  وما يدري الغتي متى يعيل 

ونجد في تفسير الطبري، وفي كتب التفسير الأخرى أمثلة لا تعد ولا تحصى من هذا القبيل،فسر فيها العلماء غريب الفاظ القرآن وما صعب فهمه من الألفاظ بالشعر، حتى لا تكاد تقرأ صفحة أو جملة صفحات من كتب التفسير، إلا وتجد فيها شعراً، استشهد به في تفسير كلمة أشكل فهمها على العلماء، فاستعانوا بالشعر لتوضيح معناها.

ولم يقف الاستشهاد بالشعر الجاهلي على الناحية المذكورة وحدها، بل استعين به في تفسير وتعليل أمور أخرى وردت في القرآن أشكل فهمها على العلماء، من ذلك أوجه العربية وقواعد النحو، فلما استقرى علماء العربية الشعر الجاهلي ولغات العرب، واستنبطوا منها القواعد، وجدوا إن بعضها لا يتماشى مع ما جاء في كتاب الله، فعمدوا إلى التأويل والبحث عن مخرج يوجهون ما جاء فيه وفق قواعد النحو التي قرروها، ولا سيما المواضع التي اختلف علماء النحو فيها، وجاءوا فيها بآراء مختلفة، في التوفيق بين القراءات في القرآن مثلاً، أو في الأمور المعضلة منه بالشعر، فقد اختلف قراء مكة، وقراء البصرة، والكوفة والشاًم في الآية: " فلأ اقتحم العقبة، وما أدراك ما العفبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة". وأورد "الطبري" آراء علماء اللغة والنحو، ثم استشهد بقول طرفة بن العبد ة ألا ايها الزاجري احضر الوغـى  وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي 

وأورد "الطبري" بيتين من الشعر للنابغة في تأويل الاية: "وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف ترضى"، اختلف في تاويلها علماء النحو، وأورد بيتاً شاهداً على جواز وضع "افعل" في موضع "قعيل" الوارد في تفسير كلمةُ واردة في سورة "والليل إذا يغشى". وهناك مواضع كثيرة اختلف علماء النحو في تاويلها بالنسبة لمذاهبهم في أوجه النحو،فأستشهد كل عالم منهم بشاهد من الشعر، لتاييد رأيه في صحة ما ذهب إليه على زعمه، وقلما استشهد المفسرون والعلماء بشعر من شعراء قريش، أو بكلام من كلامهم، في تفسير القرآن، فلو كان كتاب الله قد نزل بلغتهم لكان من اللازم، ايجاد مخارجه بالاستشهاد بلغة قريش، لا بالشعر الجاهلي وبكلام القبائل الأخرى.

وأنا لا ابتعد عن الصواب، إذا ما قلت إن القرآن قد ساعد في جمع الشعر الجاهلي وفي فظه، بسبب اضطرار العلم على الاستعانة به، في دراسة كتاب الله وفهمه، وفي تثبيت قواعد اللغة التي وضعت لتحصين العربية، وجعلها في متناول يد منَ لا علم له بها، يستعين بها على النطق بها وفقاً لمنطق العرب،وربما حمل ذلك البعض على انتحال الشعر للاستشهاد به في ايجاد مخرج في تأويل آية أو تفسير كلمة وردت في كتاب الله، اذن فقول من يقول إن لغة القرآن هي لغة قريش، وإن لغة قريش هي العربية افصحى، وانها لغة الأدب عند الجاهليين، قول بعيد عن الصواب، ولا يمكن إن ياخذ به من له أي إلمام بتأريخ الجاهلية ووقوف على نصوص الجاهليين، أخذ من روايات آحاد، وجدت لها انتشاراً في الكتب القديمة ينقلها بعضها عن بعض من غير نص على اسم السند والمرجع، فصارت وكانها أخبار متواترة صحيحة أضاف المحدثون عليها عامل النفوذ السياسي والاقتصادي، والديني، لإكساء الفكرة القديمة ثوباً جديداً يناسب العصر الحديث، لتأخذ شكلاّ مقبولاَ. أما لو سألتتي عن لغة القرآن الكريم، فأقول إِن القرآن قد ضبطها وعينها، إذ سماها "لساناً عربياً"، واللسان العربي، هو لسان كل العرب، لا لسان بعض منهم، أو لسان خاصة منهم، هم قريش، ولو كان هذا السان، هو لسان قريش لنزل النص عليه في كتاب الله.

ان قريشاً قوم من مضر في رأي علماء الأنساب، فلسانهم على هذا لسان من ألسنة مضر. وقد ورد لا عن ابن مسعود: أنه كان يسُتحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر، وورد عن "الأصمعي" قوله: "جرم: فصحاء العرب. قيل: وكيف وهم اليمن ? فقال: لجوارهم مضر". فإذا كانت الفصاحة والعربية في مضر فحري إذن نزول القرآن بلغة مضر، لا بلسان قريش.

لقد تمسك علماء اللغة بقول بعضهم:" أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشاً أفصحُ العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، و ذلك إن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشاً قطُّان حرمه، وولاة بيته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج،ويتحاكمون إلى قريش، وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها، ورقة السنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب ماتخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب". كما تمسكوا بقولهم: " كانت قريش أجود العرب ا أنتقاداً للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعاً، وأبينها إبانة عما في النفس، والذين عنهم نقلت العربية وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ من غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه لم يؤخذ من حضري قط،.ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لامن لخم، ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة، وغسان، واياد، لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر.

مجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عمان، لأنهم كانوا بالبحرين، مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من.

بني حنيفة وسكان الامة، ولا من ثقيف وأهل، الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم، والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وآثبتها في كتاب فصيرها علماً وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب". وعلة ذَلك "ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل، ولو علم إن أهل المدينة باقون على فصاحتهم، ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر، وكذا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاص عادة الفصاحة وانتشارها، لوجب رفض لغتها، ترك تلقي ما يرد عنها".

"وقد شك بعضهم في هذا القول، لأن قريشاً كانت تسكن مكة،وماحولها وهم من أهل المدر، وقريش تجار، والتجارة تفسد اللغة، وكان هذا مما عيب على اليمن من ناحية لغتهم، لأن رسول الله نشأ في بني سعد بن بكر بن هوازن واسترضع فيهم، فتعلم الفصاحة منهم، وأن كثيراً من غلمان قريش - في عهد محمد صلى الله عليه وسلم، كان يرُسل إلى بني سعد لتعلم اللغة والفصاحة، ومن أجل هذا ظنوا أن هذا الراي موضوع.لإعلاء شأن قريش في اللغة، لأن رسول الله منهم.

والذي يظهر لي أن سلامة اللغة من دخول الدخيل فيها.أمر غير الفصاحة، وأن سلامة اللغة كانت في بني سعد خيراً مما هي في قريش لأنهم أهل وبر، وأبعد عن التجارة وعن الاختلاط بالناس، وعلى العكس من ذلك قريش فهم أهل مدر، وكثير منهم كان يرحل إلى الشام ومصر وغيرهما ويتاجر مع أهلها، ويسمع لغتهم، فهم من ناحية سلامة اللغة ينطبق عليهم ما انطبق على غيرهم ممن خالط الأمم الأخرى".

فما قالوه من إن الاتصال والاختلاط بالأعاجم، يولد الفساد في اللغة، يتناول قريشاً قبل غيرهم من العرب نظراً لما كان لهم في الجاهلية من اتصال ببلاد الشام واليمن، وبالعراق وبالحبشة، ولوجود جاليات أعجمية، وعدد كيير من للرقيق يينهم، وما وجود المعربات في لغتهم إلا حجة على تأثر لسانهم بالأعاجم واخذهم منهم، فهل يمكن أن يكون لسان قريش اذن اصفى ألسنة العرب وأنقاها مع وجود هذه الأمور التي أخذناها من ألسنة أهل الأخبار ?

الفصل الاربعون بعد المئة
اللسان العربي

والان فلسان من، هو هذا اللسان العربي لقد علمنا انه لم يكن لسان العرب الجنوبيين، ولا لسان قوم ثمود أو اللحيانيين،أو الصفويين، لأن نصوصهم تثبت انه قد كان لهم لسان آخر، يختلف عن هذا اللسان. وذكرنا انه ليس بلسان قريش، وانما قريش كغيرهم عرب من العرب، فهل هو لسان العدنانين ? وجوابنا: كلا، فقد علمنا إن العدنانية عصبية ظهرت في الإسلام، وانها مضربة سميبت عدنانية، وقلنا إن الثقات من الرواة وقفوا في ذكر النسب عند "عدنان" ورووا إن النبي نهى عن الانتساب إلى ما بعده، وقلنا إن اسمه لم يرد في شعر شاعر جاهلي، خلا ما نسب إلى الشاعر "العباس بن مرداس"، من قوله: وعك بن عدنان الذين تلعبوا=بمذحج حتى طردوا كل مطرد وما نسب إلى لبيد، وهو من المخضرمين، من قوله: فإن لم تبد من دون عدنان والدا وقلنا أشياء أخرى تثبت إن "العدنانية" لم تظهر إلا في الإسلام، وان اسم "عدنلن" لم يكن معروفاً في الجاهلية، وربما ظهر قبيل الإسلام، ولهذا فلا يعقل أن تكون العربية، عربية العدنانيين.

إذن، فهل هي عربية مضر ? فقد ورد في الأخبار أن "عمر بن الخطاب" لما أراد أن بكتب الامام، أقعد له نفراً من أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر"، ونجد أهل الأخبار يذكرون أنه قال: "لا يملين في مصاحفنا هذه الا غلمان قريش، أو غلمان ثقيف". وليس بين الخبرين تناقض، لأن قريشاً من مضر، فيمكن حمل الخبرين على أنهما قصدا شيئاً واحداً، هو أن القرآن نزل بلسان قريش، وقريش من مضر، ولكن مضر قبائل عديدة، سبق أن تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب، فيجب أن يكون نزول القرآن إذن بلغات هذه القبائل على هذا التفسير،وتكون العربية الفصحى اذن عربية "مضر"، أي عربية القبائل التي يرجع أهل الأخبار نسبها إلى "مضر"، أو حلف مضر بتعبير علمي أصح، وليست عربية جماعة معينة منها، مثل قريش.

ولكن أهل الأنساب، يجعلون لمضر أخاً هو "ربيعة"، وأخوين آخرين" هما "إياد" و "أنمار" على رأي من جعل "أنماراً" ابناً من أبناء نزار، فما هو حال لسانهم ? هل يعدّ لسانهم لسان مضر، أم كانت لهم ألسنة أخرى? أما النصوص الجاهلية، فلا جواب فيها على هذا السؤال، لأنها لا تعرف عن لسان هؤلاء الأخوة شيئاً، ولم يرد فيها أي شيء من أسمائهم وأسماء قبائلهم، ثم إن هذه القبائل لم تترك لنا كتابة نستنبط منها شيئاً عنهم، اذن فنحن لانستطيع إن نتحدث عنهم ولا عن لسانهم بأي شيء يستند الى دليل جاهلي مكتوب.وأما الموارد الإسلامية، فتجعل لسانهم لسان مضر، وكيف لا نجعل لسانهم مثل لسان مضر وهم اخوة من أب واحد. فإذا قلنا إن لسان مضر، هو اللسان العربي الفصيح، وجب علينا القول بأن لسان إخوته كان مثل لسانه، وإذن فاللسان العربي الفصيح، هو لسان هذه المجموعة المكونة من ولد "نزار" وهي من ولد اسماعيل في النهاية على رأي أهل النسب والأخبار.

اذن فنحن أمام مجموعتين من العربيات، مجموعة تكو نَ العربية الجنوبية، ومجموعة تكون العربية الشمالية، وهي عربية الاسماعيليين، و ذلك على مذهب اهل ا لأخبار.

أما أنا، فأسمي هذه العربية، عربية " ال"، من سمة "ال" أداة التعريف التي تنفرد وتتميز بها عن بقية المجموعات اللغوية العربية: مجموعة "ن" "إن"، أي المجموعة العربية الجنوبية، ومجموعة "ه" "ها"، اي المجموعة التي تعر ف الأشياء بهذه الأداة: "ه" "ها"، وتشمل اللحيانية، والثمودية، والصفوية. فكل منا استعمل"ال" أداة للتعريف، هو في نظري من الناطقين بهذه اللغة مهما كان نسبه وفي أي مكان كانت اقامته، ولذلك فالعربية الفصمس هي عربية مضر وعربية ربيعة، وعربية إياد وعربية أنمار وعربية كلب وكندة والأزد وكل المستعملين لهذه الأداة، حتى يظهر المستقبل نصوصاً جديدة، قد تاًتي بأداة أخرى لتكو"ن مجموعة جديدة من المجموعات اللغوية.

نعم إن عربية "ال" لهجات، لها خصاثص ومميزات، تحدثت عن بعضها في فصل "لغات العرب"، ولكن الفروق بينها لا تختلف عن الفروق التي نبسها بين لهجات مجموعة "ن"، أو بين لهجات مجموعة "ه"، لأنها فروق ليست كبيرة بحيث قرتفع إلى مستوى الاستقلال عن بقية اللهجات.

العربية الشمالية والعربية الجنوبية

وقد اصطلح المستشرقون على رجع اللغات التي ظهرت في جزيرة العرب إلى أصلين: أصل شمالي يقال للغات التي تعود إليه: اللغات أو اللغة العربية الشمالية، وأصل جنوبي يقال للغات التي ترجع إليه:اللغات أو اللغة العربية الجنوبية.

وهذا التقسيم التقليدي للهجات العرب انما خطر ببال المستشرقين من النظرية العربية الإسلامية التي ترجع العرب إلى أصلين: اصل عدناني، وأصل قحطاني. ونظراً إلى عثورهم على كتابات عربية جنوبية تختلف في لغتها وفي خطها عن العربية القرآنية، رسخ في أذهانهم هذا التقسيم،وقسموا لغات العرب إلى مجموعتين.. لسهولة البحث حين النظر في اللغات واللهجات.

وبين العربيتن تباين واختلاف، ما في ذلك من شك. من ذلك إن الفعل في العربيات الجنوبية وليد المصدر، وان اداة التعريف فيها تكون في أواخر الكلم لا في أوائلها كما هو الحال في عربيتنا، وان حرف "الميم" هو أداة التنكير في العرببات الجنويية، إلى فروق أخرى، تحدثت عنها في الجزء السابع من كتابي القديم "تاًريخ العرب في الإسلام".

وإذا كنا لا نزال في جهل عن حقيقة اسم "عدنان"، الذي لم نعثر عليه حتى اليوم في نص من نصوص المسند، فإن في وسعنا التحدث عن "قحطان"، الذي سبق أن أشرت إلى أن أهل الأنساب أخذوةَ من التوراة. فهو اسم مهما قيل فيه، فقد أخذ من مصدر قديم يعود إلى ما قبل الميلاد. ثم انه أورد في النص العربي الجنوبي الذي وسم ب "Jamm 635ا" الذي دونه قائد الجيش "ابكرب احرس"" من آل ابل"، "أبكرب أحرس بن ابل"، أو "أبكرب أحرس" من ذلك لمناسبة عودته سالماً من حرب قاسها بأمر ملكه وسيده الملك "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان، اين الملك "علهان نهفان" ملك سباً وذو ريدان. وقد شمل القتال أرضاً واسعة، هي "أشعران"، أرض الأشعريين و "بحر"، والقبائل القاطنة حول مدينة "نجران"، ثم الأحباش الذين كانوا يحاربون معهم ويؤازرونهم في قتالهم ضد السبثيين، ثم سكان مدينة "قريتم" " قرية" الذين كانوا من "كاهل" "كهلم"، ثم في الصدامين اللذين وقعا مع "ربعت" "ربيعة" "ذ آل ئور"، "ربيعة" من "ذو آ ل ثور"، ملك "كدت" "كندة" وقحطان "قحطن"، وكذلك ضد "أبعل" أي سادة مدينة "قريتم.

ويفهم من النص إن "ربعت ذا الثورم"، هو اسم رجل، اسمه "ربيعة" من "آل ثور"، وكان كما يقول النص ملكأ على "كندة" و "قحطان". ويذكر أهل الأخبار، إن "كندة" اسم قبيلة وأبو حي من اليمن، وهم من نسل "ئور بن مرة بن أدد بن زيد"، وقيل "بنو مرتع بن ثور" أو "كندة بن ئور"، وقيل إن ثوراً هو مرتع، وكندة هو أبوه، إلى غير ذلك من آراء، تريك إن شيئاً من الواقع كان عند أهل الأخبار عن هذه القبيلة، في انهم لم يكونوا يعرفون شيثاً واضحاً عنه. وترى من هذا النص إن "آل ثور" اسم أسرة كانت تحكم قبيلتي "كدت" "كندة" و "قحطان"، وان رئيسها إذ ذاك هو "ربيعة" الذي لم يرد اسم والده. وقد جعل أهل الأخبار من "آل ثور" رجلاً جعلوه أباً لقبيلة كندة، ثم حاروا في نسبه. ويتبين من هذا النص إن "قحطان" كانوا في هذا العهد تحت حكم "ربيعة" الذي هو من "آل ثور".

وقد جعل "جامة" حكم "شعر أوتر" الذي سبق أن تحدثت عنه بتفصيل في الجزء الثاني من هذا الكتاب في حوالى السنة "65" قبل الميلاد، وقد بنيت آراء بقية الباحثين في وقت حكمه، فنكون بذلك قد وقفنا على ام قحطان وكندهً في نص يعود عهده إلى حوالى القرن الأول قبل الميلاد. وقد كانتا مثل أهل "قرية" وأهل "نجران" في حرب مع السبئيين. وهذا النص هو أقدم نص عربي جنوبي وصل فيه اسم "قحطان" و "كدت" "كندة" الينا حتى الآن.

ونحن لا نستطيع أن نتحدث عن لهجة "قحطان" و "كدت" "كندة"، و ذلك بسبب عدم وصول كتابات منهما الينا، ولكننا لا نستبعد احتمال كون لغتهما من مجموعة اللغات العربية الجنوبية، لأن مواطنهماكانت في العربية الجنوبية في هذا العهد، أما بطون "كندة" التي نزلت "نجداً" والتي ذهب بعضها إلى العراق، فنحن لا ندري إذا كانت لهجتهما قد تغيرت، فصارت عربية شمالية، بدليل نظم "امرئ القيس" الكندي وبقية شعراء الكندة الشعر بهذه العربية، أم أنها -كانت تتكلم بالعربيتين، إلا أن شعراءها كانوا ينظمون الشعر بالعربية المعهودة مجاراة للقبائل الشمالية التي كانت تجاورها والتي احتكت بها، وقد تكون هذه البطون قد هاجرت من العربية الجنوبية قبل الميلاد، فاًقامت بنجد، وتعربت من ثم بالعربية الشمالية، وقد تكون "كدت" قبيلة عربية جنوبية غير "كندة"، بقيت في اليمن إلى الإسلام، إذ ورد اسمها في نص "أبرهة" أيضاً، ونظراً الى التشابه فيما بين "كدت" "كدة" و "كندة" ربط النسابون بين الإثنين، وجعلوا نسب كندة "كدت". فتكون "كندة" بذلك من القبائل العربية الشمالية، و "كدت" من القبائل العربية الجنوبية، أقول هذه الآراء على سبيل الاحتمالات لأني من الأشخاص الذين يكرهون البت في الأمور العلمية لمجرد حدس أو ظن، ومن غير دليل علمي مقنع. والبت في مثل هذه الأمور لا يكون مقبولاً عندي إلا إذا استند على نص جاهلي، أو بدليل معقول مقبول، وحيث أننا لا نملكه الآن، فأترك هذه الاحتمالات إلى المستقبل عله يتمكن من العثور على نصوص جاهلية تكشف القناع عنها، وتأتي الينا بالجواب الواضح الصحيح.

ولكننا نجد في الوقت نفسه - وكما سبق إن ذكرت -إن هنالك لهجات عربية مثل الثمودية والصفوية، تستعمل "الهاء" أداة تعريف بدلاً من الألف واللام في عربيتنا، فيقال "هملك"، و "هدار" بمعنى "الملك" و "الدار". و ذلك كما في العبرانية، إذ تستعمل الهاء فيها أداة للتعريف، ويقوم "ذ" فيها مقام الاسم الموصول كما عند طيء في قديم الزمان، إلى خصائص أخرى تجعلها مجموعة أخرى لا هي عربية جنوبية ولا هي عربية شمالية.

كما تبين من دراسة بعض الكتابات الجاهلية، مثل الكتابات التي عثرعليها في "القرية" وفي جبل "عبيد"، وفي شمال خشم كمدة إن لها خصائص انفردت بها عن المجموعتين، وقد وردت فيها أسماء كثيرة لم ترد في الكتابات العربية الجنوبية وفي عربية "ه"، مما يجعلها أهلاً لأن تكون موضع دراسة خاصة في المستقبل، لعلها تكون مجموعة لغوية جديدة قائمة بذاتها، أو حلقة مفقودة بين اللغات الجاهلية المندثرة.

ووجود مثل هذا التباين الذي اكتشف من الكتابات، هو الذي دفعني إلى التفكير في اعادة النظر في تقسيم اللغات العربية إلى مجموعتين،وعلى إلتفكيربتقسيمها إلى مجموعات ذات خصائص لغوية متشابهة،تستنبط بالدرجة الأولى من أداة التعريف التي هي المميز الوحيد الذي يميز بين لهجات الجاهليين.

ونلاحظ إن عربية ال "ن" "إن" مصطلحات غير موجودة في العربية الفصيحة السامية الأخرى، صعب على العلم إدراكها بسبب ذلك، فاكتفوا باستخلاص معناها من وضعها في الجمل، و ذلك بصورة تقريبية، كما نلاحظ إن الأسماء فيها، تختلف عن الأسماء المعروفة عند العرب الشماليين، إن الأسماء الواردة في كتابات المسند المتلخرة، تختلف بعض الاختلاف عن الأسماء الواردة في النصوص القديمة، فقد تغلبت لبساطة على الأسماء المتاًخرة، حتى صارت تشاكل أسماء العرب الشماليين المألوفة عند ظهور الإسلام، وقد لاحظ "الهمداني" هذه الظاهرة، فعبر عنها بفوله: "فربما نفل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وكانت أسماء فيها ثقل فخففتها العرب وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناس مخففة مبدلة، فإذا سمعوا منها الاسم الموفر، خال الجاهل انه غير ذلك الاسم وهو هو. وخير ما يمكن ان نفعله في نظري لمعرفة المتكلمين بالعربية الفصحى، هوان نقوم بالبحث عن الخصائص النحوية والصرفية واللفظية التي يّميزها عن بقية العربيات، فإذا ضبطناها استطعنا تعيين من كان يتكلم بها، لما كنا لا نملك نصرصاًجاهلية مدونة بها، صار من الصعب علينا التوصل إلى نتائج علمية ايجابية مرضية، تحدد القبائل والأماكن التي تكلمت بها تحديداً صحيحاً مضبوطاً، غير ان المثل العريي يقول: ما لا يدرك كله لا يترك جله، فإذا عسر علينا الحصول على نتائح كلية مقنعة، فلا باس من الرضا بالحصول على جزء أو بعض من نتائج قد تقدم لنا معرفة وعلماً - ونحن إذا سرنا وفق حكمة هذا المثل، ودرسنا خصائص هذه العريية، تجد أن من أولى ميزاتها استعمال "ال" أداة للتعريف، تدخلها على أول الأسماء النكرة، فتحليها إلى أسماء معرفة، بينما تجد العرييات الأخرى التي عثر على نصوص جاهلية مدوّ نة بها تستعمل أدوات تعريف أخرى، ولما كنا نعرف المواضع التي عثر فيها على هذه النصوص، صار في إمكاننا حصرها، وبذلك نستطيع التكهن عن المواضع التي كان يتكلم أهلها بالعربية التي تستعمل "ال" اداة التعريف، أي هذه العربية الفصحى. ولما كاتت العربية الجنويية قد استعملت ال "ن" "إن" أداة للتعريف، تلحقها في أواخر الاسماء المنكرة، وحيث أننا لم نتمكن حتى الان من الحصول على نص في هذه الأرضين استعمل "ال" أداة للتعريف فبأستطاعتنا القول: إن سكانها لم يدوّنوا بالعربية القرآنية، بل كان تدوينهم وكلامهم بالعربية الجنوبية التي كانت تضم جملة لهجات. ولما كان آخر نص عثر عليه مدوّ ن بالمسند، يعود تأريخه إلى سنة "554" للميلاد، صار في إمكاننا القول بأن العربية الجنوبية كانت وبقيت لساناً العرب الجنوبيين إلى ظهور الإسلام.

ونظراً لعثور الباحثين على كتابات مدوّ نة بالمسند، في "القرية" أو "قرية الفأو" وفي مواضع اخرى من "وادي الفاو"، وفي مواضع من "وادي الدواسر"، وفي مواضع تقع جنوبي خشم العرض، فإن في استطاعتنا القول إن أهل هذه الأرضين كانوا يكتبون بالمسند، ويتكلمون بلغات عربية جنوبية، اختلفت بعض الختلاف عن العربيات الجنوبية المستعملة في العربية الجنوبية. فهي إذن من المناطق التي لم يتكلم أهلها بالعربية القرآنية. ونظراً لما نجده من وجود بعض الاختلاف بين عربية هذه المنطقة وعربية العربية الجنوبية، فإننا نستطيع القول بانها تكون مرحلة وسطى بين العربيات الجنوببة والعربية القرآنية، وحيث أن كثيراً من هذه الكتابات لم يكتب لها النشر، ولوجود كتابات أخرى لم يتمكن الباحثون من نقشها أو تصويرها، فمن المحتمل في رأيي مجيء يوم قد يعز فيه على لهجات جديدة، قد تزيح الستار عن أسرار اللغات عند الجاهليين، وقد تكون مجموعات لغوية جديدة من مجموعات اللغات العربية عند أهل الجاهلية.

وقد عثر في العربية الشرقية على كتابات جاهلية مدوّ نة بالمسند هي وإن كانت قليلة، إلا أنها ذات أهمية كييرة بالنسبة للباحث في تأريخ تطور الكتابة عند العرب، وللباحث في اللهجات العربية الجاهلية. فقد ثبت منها أن أصحاب هذه الكتابات كانوا يتكلمون بلهجات غير بعيدة عن اللهجة العربية القرآنية، وان كتبوا بالمسند. ويلاحظ من النص الذي هو شاهد قبر رجل لسمه "ايليا بن عين ابن شصر أنه استعمل لفظة "ذ" بمعنى "من" وناًسف لأن هذه النصوص القليلة قصيرة، وفي أمور شخصية، قد خلت من أداة التعريف، لذلك لا نستطيع تثبيت لهجتها بصورة أكيدة.

واستناداً إلى النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية، التي استعملت ال "ه" "ها" أداة للتعريف، نستطيع أن نقول إن أصحاب هذه اللهجات يكوّ نون مجموعة من اللغات قائمة بذاتها، تختلف عن العربية الجنوبية وعن العربية القرآنية. وهي تشارك العبرانية في استعمال الأداة المذكورة في التعريف،ولكنها تقارب عربية "ال" في استعمال المفردات.

وأما النبط، وهم عرب من العرب الشماليين، فقد استعملوا أداتين للتعريف، أداة هي حرف الألف المدود اللاحق بآخر الاسم، مثل "ملكا" بمعنى "الملك"، و "مسجدا"، بمعنى "المسجد"، وأداة أخرى، هي أداة "ال" التي نستعملها في عربيتنا. وفي استعمال النبط لأداتين للتمريف، دلالة على تأثرهم بالآراميين وبالعرب المتكلمين باللغة العربية القرآنية، أو العرب المستعملينء لأداة التعريف "ال" بتعبير أصح. والنبطية نفسها، لغة وسط، جمعت بين الآرامية والعربية، فبينما نجدها تستعمل الآرامية، إذا بها تخلط معها ألفاظاً وتراكيب عربية فصيحة. و ذلك بسبب اختلاط النبط بالاراميين وتأثرهم بثقافتهم، واحتكاكهم بالأعراب،وكونهم عرباً في الأصل. ومعنى هذا إن العرب الذين كانوا بجاورون النبط، وهم عرب البوادي كانوا من المتكلمين باًداة التعريف "ال"، سمة العر بية االفصيحة..

وأما النصوص المدونة بنبطية مشوبة بمصطلحات عربية، وأهمها نص "حرّ إن" التي يعود تاريخه إلى سنة "328" للميلاد، فإنه يفصح عن قوم عرب أو نبط لاستعمالهم "ال" أداة للتعريف في الألفاظ: "التج" يمعنى "التاج"، وفي "الأسدين"، بمعنى "أسد"، وفي "الشعوب". وأرجح كونهم عرباً، لاستعمالهم جملاّ عربية فصيحة بينة في هذا النص، مثل: "ملك العرب"، و "مدينة شمر"، و "نزل بنيه الشعوب"، و "فلم يبلغ ملك مبلغه"، فهذه جمل عربية، أصحابها عرب، وإن كتبوا بالنبطية وقد تفصح عن عربية أهل الحيرة في ذلك الوقت، لأن الملك المتوفى، وهو "امرؤ القيس"، هو من ملوك الحيرة، والنص المكتوب، هو شاخص قبره، فمن المعقول تصور أن الكتابة كتبت بلغة أهل الحيرة في ذلك العهد.

ويظهر من استعمال كتابة "زيد" التي يعود عهدها إلى،سنة. "512" للميلاد" لجملة" بسم الإلهَ"، أن صاحبها وان كتب بالنبطية، غير أنه كان من النبط المستعملين د "ال" أداة للتعريف. وأما الكتابة المعروفة بكتابة "حران"، فإنها أقرب هذه النصوص إلى العربية القرآنية. كما يتبين ذلك من نصها العربي، وهو: انا شرحيل بر ظلمو، بنيت ذا المرطول سنت 463، بعد مفسد خيبر بعم.

أي: "انا شرحيل" "شراحيل" بن ظلم، بنيت هذا المرطول سنة 463،   

بعد خراب "غزو" خبير بعام. ويفابل تاريخ هذا النص سنة "568"للميلاد.

وعربية هذا النص، عربية واضحة، ليس فيها ما يحاسب عليه بالقياس إلى عربيتنا، إلا جملة "بر ظلمو" المكتوبة على وفق القواعد النبطية. ويلاحظ أنها استعملت "ال" أداة للتعريف، ولاحظت قواعد النحو في جملة: "بنيت ذا المرطول" المستعملة في عربيتأ، مما يدلا على إن صاحبها كان يراعي الإعراب في لسانه " وأنه من قوم كانوا يراعون قواعد الإعزاب في كلامهم.

اذن فنحن أمام قوم عرب، نبط، لسانهم "عربي من مجموعة "ال"، أي من العريية المستخدمة ل "ال" أداة للتعربف، منازلهم أطراف بلاد الشام، وشواطىء الفرات العربية. واذا تذكرنا أن السريان كانوا على الحيرة "حبرتا دي طيابة"، وأنهم كانوا يطلقون لفظة "طيابة" في مرادف "عرب"، عرفنا إذن، أن أهلها كانوا من العرب، ولما كان نص "النمارة" قد كتب بنبطية متأثرة بعربية "ال"، نستطيع أن نقول إن عرب الحيرة كانوا من للمتكلمين بهذه العربية.

يتبين لنا مما تقدم، إن العرب الذين كانوا يفطنون الحيرة والأنبار، او عرب العراق بتعبير أصح، ثم عرب بلاد الشام، وعرب البوادي، جزيرة العرب باستثناء للواضع التي أمدتنا بالكتابات، كانوا يتكلمون بعربية "ال" اي العربية التي نزل بها القرآن الكريم، ودوَن بها الشعر الجاهلي. وهي عربية اساسية، جمعت شمل لغات ولهجات، على نحو ما وجدنا في العربية الجنوبية من اشتمالها على جملة لهجات، وما وجدناه في اللهجة العربية الشمالية الغربية، المستعملة ل "ه" "ها" اداة للتعريف.

فأهل نجد وبادية الشام، وعرب العراق وبلاد الشام والحجاز، كانوا هم المتكلمن بهذه العربية التي تعرّف النكرة باًداة التعريف "ال،، و ذلك قبل الإسلام، أما المواطن الأخرى، فلها لهجاتها الخاصة، وبينها لهجات تاثرت بخصائص مجموعة "ال". وقد غلب الإسلام هذه العربيةّ على اللهجات الأخرى، فصارت الأكثرية تتكلم بها، إلا في المواضع المنعزلة، التي بقيت شبه مستقلة، حيث احتفظت ببعض خصائص لهجاتها القديمة، كالذي نراه اليوم في مهرة وفي الشحر وفي مواضع أخرى من العربية الجنوبية التي تتكلم بلهجات لا نفهمها عنهم هي من بقايا ا اللهجات الجاهلية.

وللوقوف على خصائص اللهجات المكونة لعربية ال "ن" "إن"، أرى إن من الضروري وجوب ارسال بعثات علمية إلى العربية الجنويية لدراسة اللهجات المحلية، هي عديدة وتسجيلها على الأشرطة من افواه المتكلمين بها، ولدراسهّ قواعدها النحوية والصرفية وأصول نظم الشعر عند المتكلمين بها، وتفيدنا دراسة نظم الشعر - خاصة - عند العرب الجنوييين الحاليين فائدة كبيرة في الوقوف على أسس نظم الشعر عندهم ايام الجاهلية، وعلى الفروق الكائنة بين نظمهم قبل الإسلام، ونظم بقية العرب الجاهلين. ولا بد أيضاً من مقارنة نظمهم في الوقت الحاضر، بنظم الأعراب في المملكة العربية السعودية، للوقوف على الفروق بين النظمين، وستكون هذه الفروق هادياً لنا في الوقوف على الفروق التي كانت بين النظم عند شعراء الجاهلية في بلاد الشام والعراق ونجد والبحرين واليمامة والحجاز والعربية الجنوبية.

وسوف تساعدنا دراسة لهجات المملكة الأردنية الهاشمية، المملكة التي كانت تعرف ب "ادوم" في التأريخ، وكذلك لهجات أعالي الحجاز في الوقت ا الحاضر، فائدة كبيرة في الوقوف على خصائص لهجة عربية ال "ه" "ها"، وفي استنباط قواعدها منها. فلا بد وأن تكون في اللهجة "البلقاوية"، وفي اللهجات المحلية الأخرى بقايا من تلك اللغة، مندجة مع عربية "ال" التي تغلبت على لسانهم منذ الفتح الإسلامي الذي بدأ لتلك البلاد عام "633" للميلاد، ولا بد من دراسة أصول نظمهم في لغاتهم الدارجة هذه للأهتداء بها على أصول النظم عندهم قبل الإسلام، وعلى المؤثرات التي أثرت على نظمهم في الوقت الحاضر، مع دراسة خصائص نظمهم وما يمتاز به عن أصول النظم عند بقية العرب في الوقت الحاضر أيضاً.

ولما كنا لا نملك نصوصاً جاهلية بعربية "ال" غير ما ذكرته من النصوص النبطية المشوبة بعربية "ال". ولما كانت هذه العربية ذات لهجات ولغات،عرفت اسماؤها وضبطت في الإسلام،وبينها فروق ومميزات، كما بينت ذلك في الملاحظات البسيطة السطحية التي جمعها عنها علماء العربية،ولما كنا لا نملك عن هذه اللهجات غير تلك الملاحظات التي أوجزتها في فصل: لغات العرب، فإن من اللازم ضم درّاسة ما سيقوم به علماؤنا في المستقبل عن اللهجات الحالية في مختلف أنحاء جزيرة العرب إلى دراسة العلماء المتقدمين، لتكمل احداهما الأخرى، وستتولد منهما ولا شك دراسة علمية قيمة، تفيدنا في الإهتداء إلى معرفة خصائص اللغات العربية قبل الإسلام.

لقد توصلت من دراسة ملاحظات أولئك العلماء، إلى إن هذه اللهجات لم تكن تختلف في كيفية النطق بالحروف، وفي القواعد الصرفية فقط، لكنها كانت تحتلف فيما بينها في القواعد النحوية أيضاً، مثل حذف الياء من الفعل المعتل بها إذا أكد بنون في لغة طيء وفزارة، ومثل "ذو" الطائية التي يلازم اعرابها بالواو في كل موضع، ومثل إعراب المثنى بالألف مطلقاً، رفعاً ونصباًوجراً، في لغة بلحرث، وخثعم، وكنانة، ومثل "هلَمَّ" في لغة أهل الحجاز التي تلزم حالة واحدة على اختلاف ما تسند إليه مفرداً أو مثنى أو جمعاً، مذكراً أو مؤنثاً، وتلزم في كل ذلك الفتح، بينما تتغير بحسب الإسناد في لغة نجد من بني تميم"، إلى غير ذلك من أمور تحدثت عنها في فصل: لغات العرب، وهي لو جمعت في مكان واحد ودرست بعناية ودقة، دلت على أن الفروق بين هذه اللهجات في القواعد هي اًعمق بكثير مما يظن.

ومع وجود هذه الاختلافات والفررق، كان بإمكان المتكلمين بهذه اللغات الثانوية المتفرعة من المجموعات اللغوية، التفاهم فيما بينهم، كما يتفاهم العراقيون والمصريون وأهل المغرب بعضهم مع بعض مع تكلمهم بألسنة ذات لهجات مختلفة. فكان في استطاعة أهل نجد التفاهم مع عرب الحيرة، وفي استطاعة أهل مكة التفاهم مع أهل الحيرة، والعكس بالعكس، مع وجود صعوبات بالطبع في فهم النطق بالهجة، وفي إدراك مخارج بعض الحروف واختلاف القبائل في النطق بها، ووجود كلمات غريبة في لغة، قد لا توجد في لغة أخرى. إلا إن هذه الفروق لم تكن شديدة عميقة، بحيث جعلت فهم العرب بعضهم بعضاً أمراً صعباً، أو صيرت اللغات وكأنها لغات أعجمية، لا يفهم المتخاطبون بها احدهم الاخر. ودليل ذلك اننا نجد الوفود التي وفدت إلى المدينة، لمبايعة الرسول على الإسلام، تكلم الرسول وتتفاهم معه ومع أصحابه، وتخطب أو تنشد الشعر أمامه، وهو يفهمهم، وهم يفهمونه من دون صعوبة ولا كلفة كبيرة، لأن أمر هذه اللغات لم يكن على نحو ما تصوره بعضهم من التباين والاختلاف، والبعد بين الألسنة. اللهم إلا ما كان من أمر أهل العربية الجنوبية، فقد كانوا يرطنون، بدليل ما جاء في كتاب رسول الله إلى "عياش بن أبي ربيعة المخزومي" حين أرسله برسالة إلى أبناء "عبد كلال" الحميري، فقد قال له فيها: "وهم قارئون عليك، فإذا رطنوا، فقل: ترجموا". وربما كان منهم من لا يفقه عربية المسلمين، الناطقين بعربية "ال"، فكان يترجم لهم بعض من لهم علم وفقه بالعربيات الجنوبية وبعربية القرآن.

وبدليل ثانٍ، هو أن المسلمين لما حاصروا القصر الأبيض من قصور الحيرة، سمعوا أهل القصر، يصرخون: "عليكم الخزازيف" ج "فقال ضرار: تنحوا لا ينالكم الرمي، حتى ننظر في الذي هتفوا به، فلم يلبث أن امتلا رأسُ القصر من رجال متعلقي المخالي، يرمون المسلمين بالخزازيف - وهي المداحي من الخزف"، فلم يفهم المسلمون معنى "الخزازيف" في بادىء الأمر لكنهم عرفوا أنهم يعنون شيئاً له صلة بالدفاع عن القصر، ثم عرفوه، بعد نزول سيل من "الخزف" عليهم. وكان أهل "الحيرة" ينطقون بالعربية، فلما قال خالد بن الوليد" لأصحاب عدي بن العيادي: "ويحكم ! ما أنتم ! أعرب ?   

فماتنقمون من العرب اوعجم ? فما تنقمون من الانصاف والعدل فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، قال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان الا بالعربية، فقال: صدقت"، وقد كانت لهم مدلرس تدرس العربية، كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر، ومنهم أخذ أهل مكة كتابتهم، كما يذكر ذلك أهل الأخبار. فنحن نجد أن العرب كانوا يتكلمون على مقتضى سجيتهم التي فطروا عليها، ومع ذلك فقد كانوا يتفاهمون ويدركون المعاني، ولو كانوا من قبائل متباعدة، ومن اماكن متنائيهَ. "قال ابن هشام في شرح الشواهد: كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن ههنا كثرت الرواياته في بعض الأبيات".

ولما حاصر "خالد ابن الوليد" الأنبار، "تصايح عرب الأنبار يومئذ من السور، وقالوا: صبح الأنبارشر". ولما اطمأن بالأنبار "وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعريية ويتعلمونها، فسئلهم: ما أنتم ? فقالوا: قوم من العرب. نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا". فاهل الأنبار مثل أهل الحيرة عرب، كانوا يتكلمون العربيه، وهي عربية فهمها خالدُ ومن كان معه من رجال قبائل ولو كانت عربيتهم عربية قريش، لما سكتوا من النص عليها،لما في ذلك من تقرب إلى قريش. قال الأزهري: "وجعل الله، عز- وجل القرآن المنزل على النبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عريياً، لأنه نسبه إلى العرب الذين أنزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها العربية، وجعل النبي، صلى الله عليه وسلم عربياً، لأنه من صريح العرب، ولو أن قوماً من الأعراب الذين يسكنون البادية حضروا القرى العربية وغيرها، وتناموا معهم فيها، سموا عرباً ولم يسموَا أعرابا". "والعربية هي هذه اللغة". "والعرب هذا الجيل" أما أو سألتنىِ رأيي في هذه الخطب التي دوّ نها أهل السير والتواريخ والأخبار للوفود التي وفدت على الرسول لمبايعته، أو عن حديث الصحابة معه قبل الهجرة أو بعدها، فأقول لك بكل صراحة، إن هذه النصوص:.نصوص كلام الرسول مع الصحابة، ونصوص كلام الصحابة معه، هي نصوص وردت الينا بأفواه الرواة، كلامها كلامهم، وعباراتها عباراتهم، أما المعاني، اي المضامين، فهي التي أخذت بالرواية، وفي بعضها زيادات أو نقصان، ظهرت بسبب طبيعة الاعتماد على الذاكرة لا الكتابة والتدوين. فنحن اذن أمام نصوص، لا يمكن، أن نقول انها أصيلة، لأنها لم تؤخذ من محاضر جلسات، ولا من كتاّب كانوا يكتبون كل ما كان يقع ويحدث، وينقلون الكلام نقلاً أميناً صادقاً، كما ينقل الشريط المسجل للاصوات، أصوات المتكلمين، وانما رويت بعد الحادث بأمد، قد يكون قصيراً وقد يكون طويلاً، وبعضها أحاديث شخصية، ليست مهمهَ، وقد تكون من الموضوعات، ولا غرابة في ذلك فكتب التراجم والحديث والسير، مليئة بتكذيب كثير من هذه الأمور، التي افتعلت، إما من الرواة أنفسهم، وإما من آلهم، وإما عصبية، أو عن مذهب وعقيدة.

افصح العرب

وموضوع أفصح العرب موضوع لا أرى انه قد كان لأهل الجاهلية علم به، إذ كان لكل قوم منهم لسان يتعزون به ويتعصبون له، يرون انه لسانهم العزيز. ولا يكون فصاحة إلا إذا كان هنالك لسان أدب رفيع، يكونه رجال الأدب من ناثرين وشعراء، يكون لساناً مقرراً محترماً يتبعه الجميع، تعقده وحدة شاملة وشعور بوجود أواصر دم وتأريخ واحد وثقافة واحدة، وقلم يكتب به، فإذا اجتمعت كل هذه وامثالها وأضيفت إليها وجود حكومة كييرة تتخذ ذلك اللسان لساناً عاماً لها، ثم تقوم بتشجيع الأدباء والعلماء وتحسن اليهم، صار ذلك اللسان اللسان المحظوظ المأثور المقدم على سائر الألسنة، وصارت اللهجات الأخرى، آلسنة ثانوية بعده، تعد دون اللغة المذكورة.في الرتبة والمنزلة والفصاحة، كما حدث في الإسلام، حيث اعتبر اللسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم،لسان الإسلام والمسلمين، لسان الدين والدولة، به تكتب دواوين الدولة، وبه يؤلف العلماء ويكتب الأدباء، وينظم الشعراء، وبموجب قواعد المقررة يتعلم اللسان كيفية الكتابة والنطق،من خالفها أو أخذ بألفاظ خارجة على قواعد نحوها وصرفها عدّ عامياً جلفاً من سواد الناس وسوقتهم.

ومسار الفصاحة في نظر علماء العربية كثرة استعمال العرب للكلمة، سئل أبا عمرو بن العلاء": "كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة ? فقال: أحملُ على الأكثر، وأسمي ما خالفتي لغات. فما أكثرت العرب من استعماله من غيره، فهو فصيح. واما الفصاحة في المفرد: فخلوصه من تنافر الحروف، ومن الغرابة، ومن مخالفة القياس اللغوي. والتنافر ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسُر النطق بها، مثل "الهعخ" و "مستشزر". والغرابة أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها، فيحتاج في معرفتها إلى أن ينقر عنها في كتب اللغة، أو أن تكون قليلة الاستعمال، وأضاف بعضهم إلى ما تقدم: الا تكون الكلمة مبتذلة وآراء أخرى لا مجال للبحث عنها في هذا الكتاب، لعدم وجود مكان في حدوده.

وقد وضعت هذه الحدود في الإسلام، أما ما قبله فلا علم لنا برأي الجاهلين في الفصاحة وفي الفصيح، ولكننا نستطيع بالقياس إلى ما عندنا من كتابات، أن نقول: إن العرب الجنوبيين كانوا يدونون بلهجاتهم المعروفة، وهي: المعينية والسبئية والحضرمية والقتبانية، وفقاً لقواعد لهجاتهم وبالفاظهم، فهي بالنسبة لهم لغاتهم الفصيحة، لغة التدوين والكلام،ولما قضى السبئيون على استقلال حكومات معين وحضرموت وقتبان وأوسان، وتكونت منها حكومة واحدة، ضعفت الخصائص اللغوية التي ميزت لهجات هذه القبائل بعضها عن بعض، واندمجت بلغة السبئيين التي صارت لغة الحكومة، وصار العرب الجنوبيون يكتبون بها إلى ظهور الإسلام. فهذه اللغة، هي اللغة الفصحى عندهم وقلمها هو المسند.

أما بالنسبة إلى العرب الآخرين، فالظاهر إن عربية "ال"، كانت قد تغلبت عند ظهور الإسلام على العربيات الأخرى، وفي ضمنها عربية ال "ه" "ها"، و ذلك بقوة وضخامة القبائل المتكلمة بها، وباستعمال حكومة الحيرة وحكومة الغساسنة وحكومة كندة لها، مما حمل الخطباء والشعراء والكهنة والسحرة على النطق بها، وبلهجاتهم الخاصة بهم، وهي لهجات كانت متقاربة لكنها تختلف فيما بينها في استعمال بعض الألفاظ وفي كيفية النطق بالكلم، أي في مخارج الحروف، وفي خصائص نحوية وصرفية، إلا أن هذه الفروق والاختلافات لم تخرجها مع ذلك عن وحدة اللغة، وهي كلها في نظر أصحابها عربية فصيحة، وقد كانت تتقارب باحتكاك القبائل بعضها ببعض، وبتوسع نفوذ ملوك الحيرة في جزيرة العرب، وبتنقل الشعراء والخطباء بين القبائل، وبتاثر العرب بالأحداث السياسية العالمية، وبظهور النزعة إلى تكوين حكومات مدنية تحل محلّ الحكومات القبلية الضيقة، وبتوغل المبشرين والمثقفين العرب بين القبائل، يدعونهم إلى النصرانية التي كانت قد جاءت من الحيرة، بنصرانية شرقية عربية، متأثرة بالإرمية، لكنها اضطرت إلى التعرب بالتدريج، وبقي الحال على هذا المنوال إلى أن ظهرت كلمة الإسلام بلغة "ال"، فصارت بنزول الوحي بها أفصح ألسنة العرب، وصار قلمها قلم الإسلام المقرر. وبذلك نبذ المسند، وماتت الكتابة به منذ ذلك الحين،ومات التراث العربي الجنوبي بموت لسانه وقلمه. - وبانتصار الإسلام على الشرك، والإسلام دين ودولة، دعوته إلى "أمة"" المواطنون فيها اخوة، وله لسان، هو اللسان الذي نزل به القرآن، صار هذا اللسان أفصح الألسنة منذ ذلك الحين، بل لسان أهل الجنة، وصار من الواجب على المسلمين تثبيت قواعده ودراسته لفهم كتاب الله المنزل به، خدمة لدين الله الذي شرف هذا اللسان باتخاذه لساناً له. ورعاية قلمه التي ثبت كتاب الله، وقام العلماء بضبط قوإعده وجمع مفرداته، والبحث في كل ما يتعلق باللسان من علم. قام بهذه المهمة علماء المصرين: البصرة والكوفة، وكان لا بد لهم من رسم حدود، ومن وضع قواعد في كيفية تثبيت العربية، وفيمن يصح اخذ هذه القواعد من ألسنتهم، إلى غير ذلك من أمور، اتبعوها في جمع علوم العربية وحينُ شرع بوضع قواعد العربية، كان الإسلام قد حطم حدود جزيرة العرب، وتخطاها، قد غلب الساسانيين، وأبعد الروم عن بلاد الشام ومصر وما وراءها، وقد جمع العرب بالأعاجم، والعجم بالعرب،وشبك ألسنة الأعاجم بلسان العرب، ولسان العرب بألسنة العجم، واضطر العلماء إلى وضع قواعد فيمن يجب أخذ لسان العرب منهم من العرب، وفيمن لا يجوز الأخذ منهم، بسببّ اتصالهم بالعجم، وما طرأ على لسان بعضهم من خبث نتيجة لهذا الاتصال. فكانت تعاليمهم ألا تؤخذ العربية إلا من عرب بقوا بمعزل عن الأعاجم، فلا "يؤخذ عن حضري قط،ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام، لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزدُ عمان، لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمن عندهم، ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدآوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم، والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وأثبتها في كتاب فصيرها علماً وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب وذكر ان قريشاً كانوا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وأجود العرب انتقاداً للافصح من الألفاظ، أما الذين نقل عنهم اللسان العربي من "قبائل العرب، هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل، وبعض كتانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم". وروي أن أفصح العرب عليا هوازن، وسفلى تميم.

وروى "الجاحظ" أن "معاوية" قال يوماً: "من أفصح العرب ? فقال قائل: قوم ارتفعوا عن الخلخانية الفرات، وتيامنوا عن عنعنة تميم " وتياسروا عن كسكسة بكر، ليست لهم غمغمة قضاعة ولا طمطمانية حمير. قال: من هم ? قال قريش" وقد تحدث "الجاحظ" عن أثر المحيط في تكوين اللغة، فقال: "وكاختلاف ما بين المكيّ والمدني، والبدوي " والحضري، والسهلي والجبلي، وكاختلاف ما بين الطائي الجبلي والطائي السهلي، وكما يقال:إن هذيلاً أكراد العرب، وكااختلاف ما بين من نزل البطون وبين من نزل الحُزون، وبين من نزل النجود وبين من نزل الأغوار. وزعمت أن هؤلاء وان اختلفوا في بعض اللغة، وفارق بعضهم بعضاً في بعض الصور، فقد تخالفت عُليا تميم، وسِفِلى قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز، في اللغة، وهي في أكثرها على خلاف لغة حمير، وسكان مخاليف اليمن، وكذلك في الشمائل والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي. خالص غير مشوب ولا معلهج ولا مذرع ولا مزلج. ولم يختلفوا اختلاف ما بين بني قحطان وبني عدنان، من قبل ما طبع الله عليه تلك البرية من خصائص الغرائز، وما قسم الله تعالى لأهل كلّ جيزة من الشكل والصورة ومن الأخلاق واللغة". فرأى "الجاحظ" إن بين العدنانيين والقحطانيين فروقاً كبيرة في اللغة، غير إن بين كل مجموعة من هاتين المجموعتين فروقاً لغوية، كالذي أورده من أمثلة على الفروق التي تكون بين من ينزل الجبال، أو من ينزل السهول، وبين من ينزل النجود، ومن ينزل الأغوار، ثم الخلافات التي تقع بين بطون القبائل عند تشتتها وتفرقها. ثم تحدث عن لغة عليا تميم، وسفلى قيس، وعجز هوازن، ولغات أهل الحجاز. وهي قبائل تحدث عنها علماء اللغة.

وقد ذكر "الرافعي" إن الفصاحة اشتهرت في مضر، حتى عرفت اللغة بالمضرية، ومن أشهر قبائلها كنانة - ومن بطونها قريش -ثم تميم، وقيس، وأسد، وهذيل، وضبة، ومزينة". وقال أيضاً: "وأفصح القبائل الذين هم مادة اللغة فيما نص عليه الرواة: قيس، وتميم، وأسد، وللعجز من هوازن الذين يقال لهم عليا هوازن، وهم خمس قبائل أو أربع، منها سعد بن بكر، وجُشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف. قال أبو عبيدة: وأحسب أفصح هؤلاء بني سعد بن بكر، و ذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا - أفصح العربَ بيد اني من قريش، واني نشأت في بتي سعد بن بكر - وكان مستعرضاً فيهم - وهم أيضاً الذين يقول فيهم أبو عمرو بن العلاء، أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم" وتلك القبائل كلها كانت تسكن في بوادي نجد اوالحجاز ونهامة،وقد بقيت معادن الفصاحة زمناً بعد الإسلام، واليها كان يرحل الرواة، حتى إن الكسائي لما خرج إلى البصرة فلقي الخليل بن أحمد، وجلس في حلقته، قال له رجل من الأعراب: تركت أسداً وتميماً وعندهما الفصاحة وجئت إلى البصرة فقال للخليل: من أين أخذت علمك ? قال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة. فخرج اليهم ولم يرجع حتى أنفد خمس عشرة قنينة حبراً في الكتابة عن العرب.

ولم تزل هوازن وتميم وأسد متميزة بخلوص النية وفصاحة اللغة إلى آخر القرن الرابع للهجرة وقد ترك الأخذ عن "حاضرة الحجاز" أي مكة "لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتداوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم"، فلم يأخذوا منهم. وقد قرأنا قبل قليل اسماء القبائل التي أدخلها علماء اللغة في القائمة السوداء المقاطعة التي لم يجوّزوا الأخذ منها، و ذلك حين شروعهم بتدوين اللغة أيضاً للسبب المذكور وهو اتصالها بالأعاجم، وتاثر ألسنتها بلغات من اتصلت بهم من عجم.

واللغات في نظر "ابن جني" على اختلافها كلها حجة "ألا ترى أن لغة الحجاز في إعمال ما، ولغة تميم في تركه، كلّ منهما بقبله القياس، فليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها، لأنها ليست أحق بذلك من الأخرى، لكن غاية مالك في ذلك أن تتخير إحداهما فتقويها على أختها، وتعتقد إن أقوى القياسين أقبل لها، وأشد نسباً بها، فاما رد إحداهما بالأخرى فلا،.

أعود الآن فاكرر ما سبق أن قلته من اننا اليوم في حاجة ماسة، إلى وجوب تسجيل كل ما أورده علماء اللغة عن لغات العرب ولهجاتها، فصيحة كانت تلك اللغة أو رديئة، ولا سيما في الأمور التي شذت فيها هذه اللهجات بعضها عن بعض الشعر أو في النثر، تسجيل كل الأسماء الجاهلية التي عرف بها العرب قبل الإسلام، مع بيان اسماء الرجال الذين تسموا بها وأسماء القبائل التي هم منها، والمواقع التي كانوا بها، لنتعرف بذلك على أصول هذه القبائل، والأماكن التي جاءت منها، والأثر الذي تأثرت به من القبائل المجاورة لها، فنحن نعرف اليوم، إن أهل العربية الجنوبية، كانت لهم أسماء وردت في المسند لم تكن شائعة بين العرب الشماليين، وقد كانت خاصة بهم، ثم نعرف اليوم إن الأسماء الواردة في النصوص العربية الجنوبية المتاخرة المقاربة للاسلام، اختلفت بعض الاختلاف عن الأسماء القديمة المركبة المضافة، مما يدل على وقوع تغير في الذوق اللغوي عند العرب الجنوبيين قبيل الإسلام، وعلى الميل إلى اختزال الأسماء وتبسيطها، على نحو ما كان عند العرب الشماليين، ومثل هذه الدراسة، تكون ذات قيمة كبيرة في الوقوف على التطورات السياسية والثقافية والاجتماعية التي مرت على جزيرة العرب قبيل ظهور الإسلام. وهذا التغير الذي أشر إليه هو شيء طبيعي، وقع قبل الإسلام، كما وقع في الإسلام، فقد ماتت الأسماء الجاهلية، مثل "امرؤ القيس"، و "معدي كرب"، و "شرحبيل"، و "شرحئيل"، و "عبد عوف"، و "عبد مناة"، و "عبد أسد"، في الإسلام، وحلت محلها أسماء إسلامية، وماتت الفاظ جاهلية، بسبب إماتة الإسلام لها، أو إعراضه عن استعمالها، أو بسبب تغير الذوق، فلم تعد تصلح للاستمال، وولدت ألفاظ إسلامية لم تكن معروفة عند الجاهليين، ونشأت معان جديدة لألفاظ جاهلية قديمة لم تكن تعبر عن هذه المعاني قبل الإسلام، كذلك، نحن في حاجة إلى تدوين شعر الشعراء على حسب القبائل التي ينتمي اليها قالة الشعر، لنتمكن بذلك من دراسة خصائص شعر كل قبيلة، وما ورد فيه من لغتها، على أن نهتم بصورة خاصة، بالأصول الأولى لهذا الشعر، أي بأقدم الروايات التي ورد فيها، ثم ندون إلى جانبها الروايات المختلفة التي ورد فيها على ألسنة علماء الشعر واللغة، والتعديلات - التي أدخلها العلماء عليه، لترى ما فعله العلماء في الشعر الجاهلي،وطبيعة ذلك الشعر بالنسبة إلى اللغات، وخصائص كل شعر.

ونجد في كتاب "الإكليل" ملاحظات ثمينة تفيدنا كثيرأَ في دراسة اللهجات العربية الجنوبية، وقد أخذها من كلام الناس في أيامه. من ذلك ما ذكره في كتابه "الإكليل" من قوله نقلا عن كلام "أبي نصر": إن "حمير تطرح مثل هذه الألف في كلامها، فنقول: إذا أردت أن تقول للرجل: اسمع واذهب: سمعَ وذِهَب، وغِضَب في اغضب وشرب في اشرب". وهي لغة لا تزال تستعمل في بعض القبائل اليمانية. ومن ذلك استعماله لفظة "القدمان" في قوله: "وقرأ زبر حمير القديمة ومساندها الدهرية، فربما نقل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وتهانت أسماء فيها ثقل فخففتها العرب وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناسُ مخففة مبُدلة. فإذا سمعوا منها الاسم الموفر، خال الجاهل انه غير ذلك الإسم، وهو هو". ولفظة "القدمان" من الألفاظ العربية الجنوبية التي ترد بكثرة في كتابات المسند، ترد مع أسماء بعض الأشهر التي يتكرراسمها، على نحو قولنا في العربية: "ربيع الأول" و "ربيع الثاني"، و "جمادى الأولى" و "جمادى الاخرة"، فيستعملون "قد من" "قدمان" للأول، أي الأقدم والمتقدم، ويستعملون "اخرن" "اخران" للثاني، أي الاخر والمتأخر، وتعني "قدمان" القدامى والقدماء كذلك.

ونجد في ثنايا كتابه مصطلحات وألفاظاً أخرى من هذا القبيل استعملها هو،   

أو هلها عن غيره، أو من الكتب، وهي ترجع إلى اللهجات العربية القديمة، وقد لا تجد لها وجوداً في معاجم اللغة. كذلك يجب البحث في كتب "سعيد ابن نشوان" الحميري وفي كتب غيره من المؤلفين من أهل العربية الجنوبية إلى يومنا هذا، لنلتقط ما قد يكون في ثناياها من كلم عربي جنوبي قديم، ومن امثلة وجمل، وأسماء أشهر وغير ذلك.، إضافة إلى دراسة لهجات الأحياء منهم، ووجوب الحفر حفراً علمياً في مواضع الآثار لاستخراج ما فيها من نفائس مكتوبة أو غير مكتوبة لتعيننا في الوقوف على أصول لغة العرب الجنوبيين قبل الإسلام. ولا بد لنا اليوم من وجوب القيام بمسح لغوي جغرافي، للغات جزيرة العرب ولقبائل العراق وبلاد الشام، لمعرفة ما تبقى عندها من أثر للهجاتها القدبمة. مسح عام لكلامها الذي تنطق به، ولشعرها الذي تنظمه في الوقت الحاضر، وللأسماء الغريبة التي تتسمى بها، ومسح مثل هذا سيعين الباحثين كثيرأَ في الوقوف على أسرار اللهجات العربية قبل الإسلام.

الفصل الحادي والاربعون بعد المئة
المعربات

والاختلاط بين الأمم، بمختلف وسائله، ومن ذلك الاتصال التجاري، يؤدي إلى حدوث تفاعل في اللغة، فقد يولد هذا الاحتكاك ألفاظاً جديدة يطلقونها على أشياء لم يكن لأهل تلك اللغة علم بها، وقد يضطر أصحابها إلى استعمال المسميات الأجنبية كما هي، أو بشيء من التبديل والتغيير ليناسب النطق بتلك اللغة. وقد وقع ما أقوله في كل اللغات، ويقع الآن أيضاً، وسيقع في المستقبل إلى ما شاء الله، لا استثناء في ذلك، ولا تفاضل، ولا امتياز. فاللغات كلها، ومنها اللغة العربية في جاهليتها واسلاميتها، تخضع لهذا والقانون وليس الأخذ والعطاء دليلا على وجود نقص في لغة ما، أو وجود ضعف في تفكير المتكلمين بها. فكل اللغات مهما بلغت من النمو والكمال والسعة، لآ بد لها من أن تأخذ وأن تطور مدلول مفرداتها أو تضع مفردات جديدة لأمور لم تكن معروفة وموجودة عندها. ولا نعرف لغة ما من اللغات الميتة أو الحية، انفردت بنفسها انفراداً تاماً، فلم تأخذ شيئاً ولم تعط شيئاً.

والعربية بجميع لهجاتها وألسنتها مثل اللغات الأخرى، وفي جملتها اللغات السامية أخذت وأعطت، قبل الإسلام وبعد الإسلام، ولا تزال تأخذ وتعطي ما دام أصحاب اللسان العربي باقين في هذا الكون. والأخذ والعطاء ووضع. مفردات جديدة في لغة ما، هما من دلائل، الحيوية ومن أمارات القرة رالتكامل في تلك اللغة. ومن دلائل هذا الأخذ والعطاء، ما حدث في العصور الإسلامية: من أخذ وعطاء بين العربية واللغات الأعجمية، فطعمت العربيةُ الفارسيةَ والتركية والرومية وغيرها بمادة غزيرة من الكلمات، كما أخذت هي حاجتها منها. ومن دلائله أيضاً ما يقع اليوم من وضع المصطلحات لمعاني لا عهد لعربية بها.من قبل كمخترعات تظهر دوماً ومعاني علمية ليس للعلماء عهد بها، ولا بد من وضع ما يقابل في العربية، بوضع لفظ عربي، أو تعريب المصطلح وتكييفه وفق النطق العربي إن كان من غير الممكن إخضاعه للمفردات العربية.

وقد يزعج هذا الرأي فريقاً من الناس يذهبون إلى أن العربية لغة نقية صافية لم تتأثر بغيرها من اللغات، فلم تأخذ من اللغات شيئاً، ولم يدخل إليها لفظ أجنبي، أو إن ما دخل إليها من دخيل معرب هو قليل، وهم في منطقهم هذا محافظون متزمتون لا يعترفون بنظرية الأخذ والعطاء في اللغات. فإذا قلت لهم إن اللفظة الفلانية لفظة معربة واصلها أعجمي، أجابوك: ولكنها وردت في القرآن الكريم، ووردت في شعر فلان، وفلان من الشعراء الجاهليبن. واذا قلت لهم: ولكن دخولها العربية كان قبل الإسلام بزمن، وقبل ذلك الشاعر بزمن طويل، وأن الجاهليين نسوا أصلها واستعملوها استعمال الألفاظ العربية، فحكمها اذن حكم الألفاظ العربية في أيام ذلك الشاعر، وعند نزول الوحي، أجابوك أيضاً: وكيف نؤمن أنها معربة، أفلا بجوز أن تكون عربية في الأصل، وقد أخذها الأعاجم أنفسهم من العربية، ومن أين لك الدليل على العكس ? واذا ذكرت لهم أن اللفظة الفلانية عبرانية في الأصل أو سريانية أو كلدانية، قالوا:.وكيف تثبت ذلك، وهذه اللغات والعربية كلها من أصل واحد ودوحة واحدة، فلمَ تحكم بأنها من أصل سرياني أو عبراني أو كلداني أو غير ذلك، ولا تحكم باًنها عربيهّ أصيلة، وان وجودها في نلك اللغات، هو بسبب اشتراكها والعربية في الأصل السامي. فهي في العربية أصيلة اذن، وهي في تلك اللغات أصيلة أيضاً وقديمة بسبب مشاركتها للعربية في الأصل السامي.

وقد فات مثل هؤلاء إن القدامى من العلماء لم يفتهم أمر هذه ألمعربات فأشاروا إليها، ومنهم جمهور أصحاب كتب التفاسير والحديث والمعجمات، وأن من العلماء من ألف فى هذا الموضوع، فألف أبو منصور المعروف بالجواليقي. كتاباً في هذا الباب دعاه: "المعرب من الكلام الأعجمي". ولم ينتقده مع ذلك علماء يومه، ولا من جاء بعده لإقدامه على تأليف كتابه هذا، ولم يفل أحد انه كان جاهلا أو متحاملا على العربية، مسيئاً إليها، لأنه أنكر أصول الألفاظ المذكورة في مؤلفه، فعدّها أعجمية معربة مع انها عربية أصيلة، لا شك في عربيتها ولا شبهة. قال "الجاحظ": "ألا ترى إن اهل المدينة لمّا نزل فيهم ناس من الفرس في قديم الدهر علقوا بألفاظ من الفاظهم، ولذلك يسموّن البطيخ الخربز، ويسمون السميط الرزدق، ويسموّن المصوص المزور، ويسقون الشطرنج الاشترنج، في غير ذلك من الأسماء". وتجد في تفسير "الطبري"، وهو من العلماء الثقات المحققين وفي تفاسير غيره من العلماء المدققين إشارات إلى أصول ألفاظ وردت في كتاب الله ذكروا انها من المعربات،وقد نصوا على أصولها التي أخذت منها، حسب علمهم واجتهادهم في ذلك الوقت، لم يجدوا في ذلك. بأساً ولا انتقاصاً لحرمة القرآن، أو مساً به، وفي القرآن - كما يذكر العلماء - أكثر من مائة لفظة معربة، نصوا على أصولها حسب علمهم واجتهادهم واستفسارهم من الأعاجم، وهي كلمات دخل بعضها العربية قبل الإسلام بعهد طويل بل لعدم وجود مثيل لها في لغة العرب،فاخرجتها العرب على أوزان لغتها وأجرتها في فصيحها، فصارت بذلك عربية،وانما وردت في القرآن لأنها كانت قد تعربت وجرت عند العرب مجرى الفصيح، ولم تكن لديهم ألفاظ غيرها. وفي بعض هذه المعربات ألفاظ لم تكن مالوفة أو معروفة عند الوثنيبن، لأنها من ألفاظ أهل الديانات، وتظراً لكونها تعبر عن أمور دينية ضرورية لا مثيل لها في العربية، كان من اللازم تعليم الناس اياها،لذلك وردت في القرآن.

وقد رجح العلماء أصول المعربات الواردة في القرآن إلى لغات كانت شائعة انذاك ومعروفة للعرب، أخذها العرب منها باحتكاكهم باهلها، مثل اليونانية، والفارسية، والسريانية، والعبرانية، والحبشية، والهندية، و القبطية، والنبطية، حتى ذهب "أبو ميسرة"، وهو من العلماء التابعين إلى أن "في القرآن كل لسان"، وروى مثله عن "سعيد بن جبير"، و "وهب بن منبه". ولو راجعنا أقوال العلماء في هذه المعربات التي درسوها وتحدثوا عنها لوجدنا أنهم قد أخطأوا في تشخيص الكثير منها، فلم يتمكنوا من الوقوف على أصولها، لعدم معرفة أكثر علماء العربية اللغات الأعجمية. نعم تمكن العارفون منهم بالفارسية من تشخيص المعربات عن الفارسية، غير أن منهم من زاد عليها وبالغ فيها، فأدخل في المعرب عن الفارسية ما ليس من الفارسية بشيء. وأدخل ألفاظاً عربية أصيلة في طائفة المعربات،مع أنها عربية جاهلية، وردت في نصوص المسند وفي النصوص الأخرى،وسبب ادخالهم لها ضمن المعربات، هو عدم احاطتهم باللهجات العربية الجنوبية، وباللهجات الجاهلية الأخرى، فتخبطوا في تعيين الأصول، فترى بعض منهم يرجع معرباً إلى أصل عبراني، ونجد آخر يرجعه إلى أصل يوناني، بينما يرجعه ثالث الى أصل حبشي، وقع ذلك بسبب عدم وقوف العلماء على اللغات الأجنبية وكتفائهم بالاستفسار من الأعاجم، ممن لم يكن لهم علم بعلوم اللغات، وإنما كانوا يعرفون الكلام بها، إذ لم يكونوا من أصحاب التضلع والتخصص، كما أن عصبية البعض منهم للسانهم دفعهم أحياناً للى الاختراع وصنع الأجوبة الكاذبة، يضاف إلى ذلك عامل الادعاء بالعلم والفهم، مما يحمل صاحبه على الوضع والكذب.

وبين الباحثين في المعربات الواردة في القرآن جدل في وجود المعرب فيه، منهم من قال بوجوده، ومنهم من رد القول به ومنعه، فقال: "انما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم إن فيه غير العربية، فقد أعظم القول، ومن زعم ان كذا بالنبطية، فقد اكبر القول"، وقالوا: "ما ورد عن ابن عباس وفيه من تفسير الفاظٍ من القرآن انها بالفارسية لو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك، انما اتفق فيها توارد اللغات، فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد"، وبالغ بعضهم في نفي المعربات، حتى قال: "كل هذه الألفاظ عربية صرفة، ولكن لغة العرب متسعة جداً، لا يبعد أن تخفى على الأكابر الجلة، وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر وفاتح" والذين ذهبوا إلى وقوعه فيه، يرون بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لانحرجه عن كونه عربياً. وعلل بعضهم سبب وقوعه في القرآن بقوله: "إن حكمة وقوع هذه الألفاظ في القرآن، انه حوى علوم الأولين والآخرين، ونبا كل شيء، فلا بد أن تقع فيه الاشارة إلى انواع اللغات والألسن ليتم إحاطته بكل شيء، فاختير له من كل لغة أعذبها واخفها وأكثرها استعمالا للعرب"، وأيضاً النبى صلى الله عليه وسلم، مرسل إلى كل أمة، وقد قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، فلا بد وأن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم، وإن كان أصله بلغة قومه هو". وقال "ابن سلام": " والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعاً، و ذلك إن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب، فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال انها عربية فهو صادق، ومن قان أعجمية فصادق. ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجوزي وآخرون".

وقال "ابن النقيب": " من خصائص القرآن على سائر كتب الله تعالى المنُزلة، انها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، ولم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم، والقرآن احتوى على جميع لغات العرب، وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير،. فهو من الذين يرون إن في القرآن كل لسان.

ولا يقوم جدل المانعين من وقوع المعرب في القرآن، أو القائلين به على أساس اختلافهم في وقوع المعرب في العربية، وانما انصب كل اختلافهم على وقوع المعرب في كتاب الله. فالمانعون يقولون - كما رأينا - إن الله يقول: "قرآناً عربياً"و "ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا: لولا فصلت آياته أ أعجمي عربي"، فكل ما فيه هو عربي اذن، والذين يجيزونه،. يقولون إن هذه الأحرف أصولها أعجمية، لكنها وقعت للعرب، فعربتها بألسنتها وحوّ لتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال انها عربية فهو صادق، ومن قال أعجمية صادق. فالخلاف اذن خلاف عقائدي لا صلة له باللغة، وبوقوع المعرب أوعدم وقوعه في العربية.

وهناك فريق آخر جماعته من المحدثين في الغالب ومن غير العرب، ذهب مذهباً معاكساً لمذهب من ذكرت تماماً. تطرف في رأيه تطرفاً مسرفاً وبالغ في أحكامه مبالغة منكرة. رجعَ ألفاظاً عربية استعملها، الجاهليون إلى أصول أعجمية،وادعى انها من الألفاظ المعربة عن السريانية أو اليونانية أو اللاتينية،أو العبرانية أو الفارسية، لمجرد ورودها أو ورود مشابه لها في تلك اللغات، وحجته في ذلك أن الجاهليين أميون أعراب وثنيون، وأن الألفاظ التي رأوا عجمتها هي ألفاظ حضارة لها مدلولات دينية أو سياسية أو اجتماعية أو حرفية أو غير ذلك، ولهذا لا يمكن أن تكون من صميم العربية، بل لا بد أن تكون طارئة عليها دخيلة في الأصل، ثم عربت. وفي هؤلاء المتعصب لجنسيته، مثل إن يكون سريانياً أو يهودياً، هذا رجع تلك الألفاظ إلى لغته لتعصبه لها،والمتأثر بنظرية جهل الجاهليين وعدم وجود أي علم أو ثقافة لديهم، والمتعصب على الإسلام، هذا رجع أكثر الألفاظ الحضارية إلى النصرانية أو اليهودية أو الفارسية، لإثبات أخذ الإسلام منها،وتعلم الرسول ديانته من تلك الديانات. أما البحث العلمي الخالص، فهو ما كان بعيداً عن كل الميول والاتجاهات والنزعات ودوافع التعصب، قائماً على الحقائق والوقائع وفكرة البحث عن الحق للتوصل إليه. فالرأيان في نظري باطلان، بعيدان عن جادة العلم. وواجب الباحث في مثل هذه الأمور أن يتريث اولا"، وألاّ يبت في قرار إلا إذا كان متأكداً من سلامة السبل التي سار عليها في الوصول إلى قراره، ولا سيما أن العربية والعبرانية والسريانية كلها من هذا الأصل الذي يطلق علماء الأجناس واللغات عليه: الأصل السامي، وتشترك كلها أو أكثرها في كثير من الألفاظ، والحكم بأن هذه اخذت من هذه أو تلك، حكم فج ناقص إذ لم يستند إلى موارد ونصوص مرتبة ترتيبا تاًريخياً. ثم إن العربية ليست عربية واحدة؛ فإن هناك ألسنة عربية أخرى، مثل عربيات اليمن، وهي لهجات عربية قديمة ذات نصوص يعود تأريخ بعضها الى ما قبل الميلاد، فلا بجوز التعميم بالاستنآد إلى لغة القرآن الكريم وحدها، بل لا بد من تتبع ما جاء في اللغات العربية الأخرى. أضف الى ذلك أن أهل اليمن كانوا أصحاب حضاره وحضارتهم أرقى واعلى درجة من حضارة بعض الساميين. ولذلك يدفعنا الواجب إلى دراسة ما جاء في نصوصهم. من ألفاظ ومسمّيات وآراء ومقارنتها بما جاء في النصوص الواردة في اللغات. السامية الأخرى، للحصول على رأي علمي في هذه الأمور. ولكننا مع ذلك نحن في وضع لا نتمكن فيه من البت في هذه الأمور، لأن مالدينا من نصوص جاهلية أغلبه من النوع الذي عز عليه على ظاهر الأرض، لأن الظروف لم تمكن العلماء حتى الآن من التنقيب تنقيباً علمياً عميقاً في باطن مواطن الاثار، لاستخراج المطمور من الكتابات والاثار الأخرى، الغالب أن يكون المطمور ذا أهمية كبيرة، وسيعين المؤرخين في كتابة الأجزاء المفقودة من تاريخ العرب قبل الإسلام. وقد يكون من بين ما يعثر عليه ما هو أقدم من النصوص التي بين أيدينا. وعلى هذه النصوص إن رتبت ترتيياً زمنياً يوثق به، يمكن أن يكون اعتمادنا في تئبيت المفردات وفي تعيين زمن استعمالها في العربية وفي كونها عربية أصيلة أو معربة.

ان وجود المعربات دليل على اتصاله الجاهليين بغيرهم، واتصال غيرهم بهم، ُعلى الروابط الفكرية التي كانت بين العرب وبقية الساميين،ويين العرب والشعوب الأخرى وجمعها وتصنيفها لذلك في مجموعات حسب الموضوعات يعطينا رأياً عن النواحي التي تاثر بها الجاهليون في أمور الحياة. غير إن هذا العمل عمل شاق، ويجب أن يستند إلى معجمات جامعة مرتبة ترتيباً تاريخياً، تذكر الكلمة، ثم تذكر أصلها من اي أصل أتت وفي أي زمن كان ذلك وأول من استعملها أو أقدم نص عربي وردت فيه، وفي اي معنى استخدمت، وهكذا. ولكننا لا نملك، يا للأسف، مثل هذه المعجمات. وكل ما لدينا معجمات قديمة، لم تنتبه لهذه الأمور، لم يميز الجاهلي من الإسلامي، ولا اللفظ الوارد في عربية القرآن الكريم من اللفظ الوارد في اللهجات العربية الأخرى على انها مرادفات، ترد في عربيتنا على حين انها مسميات للشيء ذاته في اللغات العربية الأخرى.

والذين يقولون بعدم وقوع المعرب في كلام العرب، كانهم يتصورون إن العرب كانوا بمعزل عن العالم وانقطاع عن الناس. ولهذا لم يتأثروا بغيرهم، ولم يؤثروا في غيرهم، وأن عرقهم لذلك بقي صافياً نقياً سليماً، لم تدنسه أعراق أعجمية، ولم يمازج دمهم دم غريب، ولم تدخل لغتهم لفظة غريبة، بل بقيت نقية صافية على ما خلقها الله يوم خلق اللغات. وقد تكون في اللغات الأخرى، كلمات دخيلة، أما العربية فحاشاها من ذلك وهؤلاء لا يدرون انه قد كانت في سواحل جزيرة العرب قبل الإسلام مستوطنات يونانية، نشاًت في مواضع عديدة من سواحل البحر الأحمر وسواحل البحر العربي وا الخليج العربي، وقد بقي أصحاب تلك المستوطنات في مستوطناتهم فلم يعودوا إلى ديارهم، ونسوا أصولهم وعاداتهم، وصاروا عرباً مثل سائر العرب،يرجعون أنسابهم الى أصول عربية على عرف العرب وألأعراب. وأن منهم من بقي عرقه الدساس يحنّ إلى أصله،فقد ذكر المؤلفون اليونان إن بعض القبائل العربية الساكنة على السوآحل، كانوا يرحبون ببعض اليونان، لاعتقادهم انهم يجمعهم واياهم صلب واحد.

يضاف إلى ذلك الرقيق من الجنسين، وقد كانت بلاد العرب تجلب عددأَ كبيراً منه في كل عام، تشتريه من أسواق العراق ومن أسواق بلاد الشام، وتوكل إليه القيام بأعمال مختلفة، ولا سيما الأعمال التي نحتاج إلى خبرة ومهارة فنية ودراية. ونحن نعلم أن العربي الصريح يأنف من الاشتغال بالحرف وزراعة الخضر، ولذلك وُ كِلَ إلى هذا الرقيق أمر القيام بها، فأدخل إلى العربية كثيراً من الألفاظ الخاصة بالزراعة وبالحرف، لم تكن معروفة في العربية، كماسأتحدث عن ذلك فيما..

يضاف إلى ذلك أيضاً، التجارة فقد كان التجار من عرب وغرباء يتعاطونها في جزيرة العرب وفي خارجها، يصدرون منها حاصلاتها وما تجمع فيها من سلع مستوردة من سواحل افريقية الشرقية والهند، ويأتون إليها بما تحتاج إليه قبائلها وأهل مدرها وأهل إفريقية من بضائع مصنوعة أو منسوجة من حاصل الانبراطوريتين الساسانية والرومية والأرضين المصاقبة لهماومن الطبيعي أن يؤدي ذهاب التجار العرب إلى اسواق العراق وبلاد الشام، واحتكاكهم بالفرس والروم، إلى الوقوف على أحوالهم والاتصال بهم والأخذ منهم والتأثر بثقافتهم وحضارتهم واقتباس ما يلائمهم منهم ومن الطببعي أن يؤثر التجار الروم والفرس بعض اسلتاثر في نفوس زملائهم العرب في الأماكن التي ولجوها من جزيرة العرب، وأن ينقلوا اليهم شيثاً من آراثهم وأفكارهم وتجاربهم في الحياة،وأن يعطوهم شيثاً من مصطلحات لغتهم التي لا تعرفها العربية، ومن الأسماء الخاصة بالتجارة وبالبضائع التي يأتون بها إلى جزيرة العرب لبيعها في أسواقها.

وكان للمبشرين شاًن مهم في نقل التراث اليوناني والإرمي إلى جزيرة العرب في ايام الجاهلية، وبجهادهم المضني المتواصل وعملهم المتواصل، دخلت النصرانية في أماكن متعددة قاصية من بلاد العرب،حتى نمكنوا من تنصير قبائل وامراء ورؤساء قبائل، بطريقتهم الخاصة في الاقناع والتأثير، وبالتطبيب، وبالتقرب إلى ضعاف الحال من الناس.وقد اتبعوا في التبشير وفي إدارة المؤسسات التبشيرية النظم الإدارية والدينية المتبعة في الكنيسة، فجعلوا "بيث قطرايا"، أي "قَطرَاً" الموضع المعروف اليوم على ساحل ا الخليج، كرسياً ل "مطرابوليطي"، يقيم فيه، ويشرف على إدارة خمسة أساقفة، يقيمون في "ديرين" و "مشمهيغ" أي "سماهيج" وهجر وبلاد "مازون" و "حطا" المسماة "ييد أردشير"، وهي الخط.

وفي موضع مثل نجران غلبت النصرانية على أهله،نظمت الكنيسة شؤون المدينة، فتولى رئيسها الديني، وهو بدرجة "أسقف"، الأمور الدينية، وتولى "السيد" أمور الحرب و ادارة المسائل الخارجية المتعلقة بعلاقة نجران بغيرها، وتولى "العاقب" الأمور الداخلية، وهم جميعاً يؤلفون معاً مجلس المدينة فيديرون معاً أمور الناس، وينظرون في كل ما حدث بينهم من نزاع وخصومات. وهكذا نظمت العلاقات بين كنيسة المدينة وحكهامها، وانسجم الحكم بين الجماعتين.

وقد أدخل التبشبير ألفاظاً يونانية وسريانية ترد في الديانة وفي الحياة اليومية إلى اللغة العربية، ولا سيما المصطلحات الخاصة بتنظيم الكنيسة وبالحياة النصرانية، كما كان لبعض الشعراء الجاهليين يد في إدخال بعض المصطلحات النصرانية إلى العربية، كالذي نجده في شعر "مرىء القيس" والأعشى وعدي بن زيد العبادي وغيرهم من كلمات ترد بكثرة عند النصارى، نتيجة اتصالهم واحتكاكهم بهم، فصارت بذلك تلك الكلمات من المعربات ويضاف إلى من ذكرنا اليهود، ففد كان لهم أثر في الجاهليين، في يهودالعربية الغربية خاصة، أي في الحجاز، في البقعة الممتدة من "يثرب" حتى بلاد الشام، وفي اليمن. فقد سكن اليهود في هذه المواضع، وبنوا لهم مستوطنات فيها، واختلطوا بعربها، واحترفوا الحرف كما ذكرت ذلك في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب.

وقد كانت "مدراشات" اليهود في يثرب وفي المستوطنات اليهودية الأخرى تلقن اليهود أحكام دينهم، وتعلم أطفالهم القراءة والكتابة. وقد قصدها العرب وجلسوا في مما يستمتعون إلى يهود. وقد شاهدها الرسول بعد هجرته إلى المدينة، وحفر جدلاً كان قد وقع بين جماعة من يهود، كما حضرها أبو بكر ونفر آخرون من الصحابة. وكان أحبارهم يدرسون فيها ويفتون، كما كانوا يقيمون الصلوات واحتفالات الأعياد في "الكنيس". ومن هؤلاء.اليهود ومن "مدراشاتهم" انتقلت الألفاظ العبرانية إلى العربية فعربت، وفي جملة ذلك لفظة "مدراس"، و "سفر"، و "تور اة"، و "تا بوت"، و "حبر"، و "كاهن" وغير ذلك من مصطلحات لأكثرها صلة بشؤون الدين.

إن الحاجة، هي التي تحمل الناس على الأخذ والعطاء، وبها نفسر اقتباس العرب للمعربات. فأسماء بعض الالات والأدوات والطرق الفنية والأنسجة الدقيقة المصنوعه من الحرير وأسماء المأكولات النفيسة وأسماء النبات التي هي من أصل شمالي وبعض المشروبات وما شابه ذلك، انما دخلت العربية وعربت لأسباب عديدة، أهمها أن الحياة في جزيرة العرب حياة عادية، تكاد تجري على وتيرة واحدة، فلم تساعد على ظهور الأمور المذكررة، فاضطر الناس بحكم الحاجة إلى أخذها من غيرهم واستيراد أشياء مادية وغير مادية من جيرانهم، حتى في الأمور الفكرية والروحية، مثل المعربات الدينية فإن خضعت الحاجة، فالنصارى العرب استعملوا معربات من اصل سرياني، لأنهم اضطروا إلى استعمالها، لأنها تعابير دينية لا وجود لها عند العرب الوثنيين أولاّ، ثم هي مصطلحات رسمية كنسية، لم تتساهل الكنيسة في تغيير أسمائها، ولهنا استعملها العرب على النحو المرسوم، كما يستعمل الأعاجم المسلمون المصطلحات العربية، لأنها مصطلحات اسلامية ليس لها مقابل في لغتهم، أو لأنها مصطلحات دينية نحب المحافظة على تسميتها وان وجد لها مقابل في لغات الأعأجم.

واكثر المعربات الجاهلية، هي من أصل يرجع إلى لغة بني ارم أو إلى لغة الفرس، ثم تليها المعربات المأخوذة من لغات أخرى مثل اليونانية والعبرانية واللاتينية والحبشية والقبطية، وكثير من الألفاظ اليونانية إنما دخل إلى العربية عن طريق السريانية، فقد كان السريان قد أدخلوها في لغتهم، لأنها لم تكن معروفة عندهم، ومن لغتهم هذه تعلمها الجاهليون.

والمعربات السريانية الأصل، هي في الزراعة في الغالب، وفي التوقيت، ثم في موضوعات دينية وصناعية وتجارية وفي أمور أخرى. أما المعربات عن الفارسية فهي في موضوعات زراعية كذلك وفي أسماء المأكول والملبوس وأمور اجتماعية. وأما المعربات عن العبرانية، ففي أمور خاصة بسكناهم بين العرب وبأمور دينهم وشؤونهم. وأما المقتبس عن اليونانية فهو في أمور حِرفية، وفي مصطلحات دينية ومصطلحات زراعية ومصطلحات تستعمل في شؤون البحروما شاكل ذلك. وتفسر وجود المعربات السريانية والفارسية بنسبة تزيد على نسبة وجود المعربات الأخرى هو إن المتكلمين بلغة بتي إرم كانوا مزارعين في الغالب، وكانوا على اتصال بالعرب، وقد خالطهم العرب وعاشوا بينهم، واقتبسوا منهم، حتى انهم كتبوا بلسانهم، ودخل الكثير منهم في دينهم، دين النصرانية، ولا سيما قبيل الإسلام. وقد كانت أحوالهم الاجتماعية مشابهة للاحوال الاجتماعية عند العرب، ولا سيما عرب بلاد الشام والعراق. ووضع مثل هذا يؤدي بالطبع إلى الاقتباس والأخذ والعطاء. وأما الفارسية، فقد كان الفرس يحتلون بلاد العراق وكان لهم نفوذ على العربية الشرقية، وقد استولوا على اليمن قبيل الإسلام، ولهم تجارة مع أهل مكة وأماكن أخرى، وبحكم هذه الصلات دخلت في العربية ألفاظ فارسية وصارت في عداد المعربات.

ونحن إذا تتبعنا صورة توزع المعربات بين العرب، نجد إن توزيعها يختلف باختلاف الأمكنة، فهناك أمكنة تأثرت بالمعربات الفارسية بالدرجة الأولى، وهناك مواضع تأثرت بالمعربات السريانية في الأكثر، وهناك أقاليم تأثرت بالمعربات عن اليونانية أو الحبشية بالدرجة الأولى. ثم نجد ظاهرة أخرى في كيفية توزع المعربات وظهورها، هي ظاهرة الحاجة والظروف السائدة في مكان ما. فيمكننا اذن ارجاع تأثر لهجات العرب الجاهليين بالمؤثرات اللغوية الأعجمية اذن الى عاملين: عامل الاختلاط بالأعاجم عن طريق الجوار أو السكن معهم في موضع واحد، واستخدامهم لهم ومجيء الأجانب من تجار ومبشرين اليهم، وعامل الحاجة التي كانت تدفع إلى أخذ أشياء غير معروفة في بلاد العرب، فتدخل العربية باسمائها الأعجمية، فإذا انقضى زمن عليها، تدخل في ضمن اللسان العربي وتعرب، حتى ليخيل إلى من لا يعرف أصلها انها عربية الأصل والنجار.

ولما تقدم نرى إن المعربات عن السريانية والفارسية هي أظهر وأبرز في لهجات عرب العراق من المعربات الأخرى،وان المعربات عن السريانية واليونانية - اللاتينية أبرز وأوضح في لغة عرب بلاد الشام من المعربات المنقولة عن الفارسية أو الحبشية. وان المعربات عن الحبشية واللهجات الافريقية، هي أوضح وأكثر ظهوراً في لهجات العرب الجنوبيين من المعربات الأخرى، و ذلك بسبب اختلاط العرب الجنوبيين بأهل الساحل الافريقي الشرقي ووجود جاليات افريقية في العربية الجنوبية وجاليات عربية جنوبية في السواحل الافريقية المقابلة منذ أيام ما قبل الميلاد، فأذى هذا الاختلاط والتجاور إلى الأخذ والعطاء في اللغة. كما نجد المعربات عن الهندية والفارسية والإرمية ظاهرة بارزة على ألسنة أهل ا الخليج " لاتصالهم بالهند وبفارس.وبالعراق.

وأما مثال ظهور المعربات بسبب الحاجة، فهو مما نجده في لهجة أهل يثرب وما حولها من مؤثرات فارسية وسريانية في الزراعة بصورة خاصة وفي نواح أخرى من نواحي الحياة الاجتماعية، فقد استعل أهل المدينة ألفاظاً فارسية في لهجتهم، بسبب حاجتهم وظروفهم. فأرضهم أرض خصبة ذات آبار ومياه، ولما كانوا في حاجة إلى أيدي عاملة لتشغيلها لاستغلال مواردها استعانوا بالرقيق،وكان معظم الرقيق الذي جيء به، من رقيق العراق الذي يرجع إلى أصل فارسي، أو نبطي متأثر بالفارسية، لرخص ثمنه بالنسبة إن رقيق الروم، ولفطنته ولمهارته في الحرف بالنسبة لرقيق افريقية، وعن طريق هذا الرقيق دخلت المعربات الفارسية والنبطية المستعملة في الزراعة وفي أمور أخرى عرف بها الفرس والنبط إلى "يثرب". أما أهل مكة، فلم تظهر المعربات الزراعية عندهم، لعدم وجود حاجة لهم إليها، بل استخدموا معربات أخرى في الأمور التي كانوا بحاجة إليها، والتي لم يكن لها وجود عندهم، وقد دخلت اليهم من اماكن مختلفة، كان لهم تعامل معها، ومن الرقيق والتجار الغرباء الذين كانوا يعيشعون بها.

ولبعض المحدثين بحوث في الدخيل من السريانية على العربية، من جملتها بحث المستشرق "فرنكل" Frankel دعاه "الألفاظ الآرامية الدخيلة على العربية" "Die Aramaischen Fremdworter im arabicchen". وكتابه هذا هو أشهر كتاب ألفه المستشرقون في هذا الباب. كما إن لآباء للكنيسة الشرقيين مؤلفات وبحوثاً في الألفاظ السريانية في العربية، وضعوها بالعربية، نشر بعضها في مجلة المشرق، ونشر بعض آخر في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، ونشر بعضه في كتب، مثل كتاب: "غرائب اللغة العربية"، تأليف الأب رفائيل نخلة اليسوعي، وفيه باب خاص بالكلمات الدخيلة في العربية الداخلة فيها من الارامية والعبرانية والفارسية واليونانية ومن التركية واللاتينية والايطالية والفرنسية:من لغات أخرى. وفي بعض هذه البحوث تسرع في الأحكام، إذ فيها ألفاظ نسبت إلى أصل سرياني، وهي من الألفاظ الواردة في اللهجات العربية القديمة، وفيها مما يرد في العربية وفي اللغات السامية الأخرى، لأنه من المشترك الذي يرد في أصول الساميات..وقد رأيت اختيار ألفاظ في الزراعة أو ألفاظ لها علاقة بها، من القائمة التي أوردها "الأب رفائيل نخله اليسوعي"، للالفاظ الآرامية الداخلة في العربية، و ذلك للقوف عليها، ولتكوين فكرة عنها، وبعض هذه الألفاظ هو في رأيي مما استعمله العرب قبل الإسلام، ووارد في النصوص الجاهلية، فمن الصعب ارجاعه إلى أصل ارامي من غير نص أو دليل منطقي مقبول وبعضه من النوع الوارد في العربية وله أصل عربي، فلا يمكن أن يقال إنه من أصل آرامي، لمجرد وجود مرادف له أو لفظ مقارب له، وبعض آخر هو من الألفاظ التي ترد في كثير من اللغات السامية فلا يجوز تخصيصه بالسرياني، وارجاع أخذ العرب له من هذا الأصل.

ومن اللهجات في الزراعة وما يتعلق بها وبالفواكه والحبوب والأزهار وما شاكل ذلك: "آس" وهو من أصل سرياني هو "اسو"، و "أب" بمعنى ثمرة من "أبو"، و "ارف" و "أرفى" من أصل سرياني كذلك بمعنى قسم الأرض وحددها، ومن يمسح الأرض ويحددها. و "أكتار" بمعنى حراث، أي من محرث الأرض من أصل Akoro، و "أنبوب"، من "أبوبو" Aboubo بمعنى قصبة وأنبوب أجوف وما بين عقدتين من القصب، و"اندر" بمعنى بيدر، من "ادرو" Edro و "باسور" بمعنى عنب غير ناضج، و "باكورة" ويراد بها أول الثمر من Bakorto و "بطيخ"، أي البطيخ من Fatiho"بور" صفة للارض من "بورو"Bouro و "بيب"، بمعنى قناة ومجرى الماء إلى الحوض من أصل "بيبو" Bibo، و "بيدر" منBayt-edro و "- تبن" من "تبنو"، و "تخم" بمعنى حد" من أصل "تحومو"thoumo و "ترعة"، بمعنى قناة عميقة من "توعتو" و "توت" من "توتو" toutoا و"ثوم"من toumo و "جبن من أصل goubno والجريب منgribo، و "جرام" بمعنى نواة من أصل garmo، و "الجران" ويراد به حجر منقور للماء وغيره من Gourno، و "الحب" بمعنى الجرة الكبيرة من "حبو" Houbo و "حمص" من "حمصو" Hemso و "حندقوق" من Handqouqo، و "خبيص"، بمعنى حلوى مخبوصة، من طحين وسمن وعسل وأصلها "حييصو" Habiso، و "ا لخر د ل" من "حرد لو"Hardlo، و "خس" من "خسو" Haco، و "الخوص" الذي يكون على السعف من "حوصو" Housoا، والخوخ من Houho و "الدبرة" البقعة المزروعة أي الحقل من "دبرو" dabroو "دبس" أي الدبس من debcho و"دبق" من debeq و "درس"، كأن نقول درس الحنطة من drach و "دقلة" أي نخلة من deqlo، و "رُب" وهو ما ينثر من عصير الثمار من أصل Raubo و "رحى" من Rahyo و "رمان" من أصل Roumano و "ريحان" من Rihno و"زبن"بمعنى باع الثمرعلى شجره من Zaban نمعنى باع و "زبون" بمعنى مشتري من zobouno و "زفت" من أصل zefto و "زق" من zeqo و "زمارة " قصبة يزمر بها من zamorto و "زيت" من zayto و "زيتون" من zaytouno و "سكة" مثل سكة المحراث من sekto   

و "سكر" ما يسد به النهر من chakro و "سلاء" أي شوك النخل من salow و "سماق" من أصل sawmoqo، وسنبل الحنطة من seblo و"سنبل" بمعنى نيات طيب الرائحة من sanboul و "شتلة" ما قلع من النبات ليغرس في مكان آخر من أصل chetlo و "شرعوف" نبات وثمر من أصل sourafo و "شالم" و "شولم" و "شيلم" من chaylmo و "صعتر" من setro و "صفصاف" من safsofoو "مطمورة"، وهي حفرة تحفر في الأرض يوسع أسفلها لحفظ الحبوب من matmourto و "عذق" أي عنقود عنب أونخل من "عدق" daq و "عقا ر" خمر ونبات يتداوى به، وقد سمى العرب الخمر دواء من أصل egro، و "عنب" من enbo، و "عنقر" جذر القصب من eqoro. بمعنى جذر و "عود" وهو العود الذي يتبخر به من ouda، و "غابة" من أصل obto بمعنى غابة كثيرة الأشجار، وغدير بمعنى نهر وبركة يتركها السيل من gadiro،و"غرب" نوع من الحور من أصل arbo، و "فجل" من fouglo، وفدان من أصل fando و "فرث"، من ferto" و "الفروج" من farougo، و"الفرخ" من farahto، و "فرع" بمعنى غصن من "فرعو"fero، و "فقح" مثل "فقح النبات" بمعنى أزهر من أصل، "فقح" fqah، و "فقاح النبات" أي زهره من أصل "فقو" fagho، و "فقد"، بمعنى شراب من زبيب أو عسل من "فقودو" fqodo،، و "فل" وهو زهر يشبه الياسمين من "فلو" falo و "قثاء" من qtouto، و "قش" من qecho، و "قصر" وهو ما يبقى في الغربال من النفاية، من أصل "قصرو" qisro أي قشرة الحنطة، و "القطران" وهو سائل زيتي يستخرج من بعض الأشجار من أصل "قطرون" qotron " و "القفيز" وهو مكيال من "قفيزو" qfizo، و "قفص" من "قفسو"qafso، و "قلة" بمعنى جرة كيرة من "قلتو" qoulto، و "قمح" أي حنطة، من "قمحو" qamho، و "كاث" وهو ما ينبت مما انتثر من الزرع المحصود من koto و "كداس"الحب المحصود المجموع من "كديخو" qdicho، و "كر"" بمعنى حمل ستة اوقار حمار، أو ستون قفنزاً من "كورو" kouro، و "كرب" من أصل "كزب" krab، و "كُر ا ث" من karoto، و "كرخ" بمعنى أجرى وحول من "كرخ" krak، و "كرفس" من "كرفسو"،krafso و "كزبرة" من "كوزبرتو" kouzbarto، و "كمثر ى" من "كو متر و" komatro، و "معين" نعت للماء الجاري على وجه الأرض من "مينو" mino، و "نجر" من "نجر"nagar ومنها النجار، و "نشوق" من "نسكو" nosko و "نطر" بمعنى حرس من "نطر" ntar ومنها الناطور أي الحارس، و "نطُاٌ ر" وهو ما يكون على هيأة رجل ينصب بي الزرع لإخافة الطيور. وإبعاد الحيوانات المضرة به من "نوطورو"notoro، و "نيطل" بمعنى دلو من "نطلو" notlo.، ونعناع من mono، و "نورج" سكة المحراث من "نورجو" norgo، و "نير" وهي خشبة معترضة في عنقي ثورين يجران محراثاً من "نيرو" niro، و "هرطمان" من qourtomo، وبل ووابل بمعنى المطر الشديد من "يبل"، و "ورد" من "وردو" wardo، و "وسق" بمعنى حمل بغير من "وسقو" wasqo، و "يتوع"، كل نبات له لبن، أي سائل أبيض في داخله يشبه اللبن من"يتوعو"،yatou,o. وقد وردت لفظة "الأب "" في القرآن الكريم: "وفاكهة وأب... متاعاً لكم". وقد ذكر إن "عمر" قال: "قد عرفنا الفاكهه فما الأبّ ? قال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف"،قد اختلف المفسرون في المراد منها، مما يدل على أن اللفطة لم تكن معروفة عندهم معرفة واضحة، وفي كلام عمر: "إن هذا لهو التكلف"، أو قوله: "ما كلفنا أو ما أمرنا بهذا" دلالة على عدم وضوح معناها عنده وعند الناس. وهي بمعنى "ثمرة" في الإرمية Ebo، وقد ذهب العلماء إلى أن "الأبَّ" ما تنبت الأرض للانعام والماشية، فهي في معنى آخر، يخص العشب والكلا وما تنبته الأرض ليعلفه الحيوان في راي غالبية العلماء، في المعنى الوارد لها في السريانية.

وأما "الأرف"، فبمعنى تقسيم الأرض وتحديدها، ويقال لمن يمسح الأرض يعين حدودها "ارفو"، Arfoفي الارمية، وقد ذكر علماء ا الغة ان الارف الحدود بين الأرضين، أو معالم الحدود بين الأرضين، "وفي حديث عثمان رضي الله عنه، الارف تقطع الشفعة، وهي المعالم والحدود، هذا كلام أهل الحجاز، وكانوا لا يرون الشفعة للجار".

وأما "الأكار" فيذكر علماء اللغة أنها من أصل "أكر"، بمعنى "حفر"، والأكار بمعنى الحفار والحراث والزارع. ومن ذلك حديث "أبي جهل: فلو غير اكار قتلتي"، أراد به احتقاره وانتقاص". تقابل هذه اللفظة لفظة "اكورو" Akoro في الأرمية التي هي "اكار"، ويين الألفاظ التي ذكرتها ألفاظ لايوجد دليل على انها معربة من اصل ارمي لأننا نجد إن لها جذراً عربيا، وهي ليست من المسميات التي لم يعرفها العرب حتى نقول انها استوردت من الخارج، أو ان الحاجة حملت العرب على تعلمها من الرقيق الذي كان عندهم أو من المبشرين أو التجار الغرباء.

وأما المعرب عن الفارسية مما في الزراعه، فاكثره من اسماء أثمار او أزهار أو روائح وعطور، مثل أ الخريز" بمعنى البطيخ، من اصل "خربوزة". وفي الحديث عن أنس قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يجمع يين الخربز والرطب". وفي حديث عن عائشة: "ياكل البطيخ بالرطب". و "السيسنبر" نوع من الريحان، و "الجل" بمعنى الورد، و "الجلاب" اي ماء الورد. وقد وردت اللفظة في حديث عائشة عن الرسول. و ذلك دليل على إن الفظة كانت معروفة قبل أيام الرسول. ويلاظ إن لفظة "بطيخ" هي من الألفاظ المعربة كذلك، عربت من أصل "فطيخو" بلغة بتي ارم، وقليل منه ما يخص آلات للزراعة أو الأرض، مثل "بستان" والجمع "بساتين".، وذلك لأن غالبية الذين كانوا يفلحون الأرض ويزرعونها في العراق وفي بلاد الشام، هم من بني إِرم أو من المتكلمين بلغتهم، وباحتكاك العرب بهم تعلموا اسماء الآلات والأدوات وطرق حرث الأرض وزرعها، وأسماء كثير من الزروع ومقاييس الأرض وطرق الاستفادة من الأرض، فدخلت إلى العربية. أما الفرس في العراق، فلم يكونوا يباشرون زراعة الأرض وفلاحتها في العراق،وانما كان "مرازبتهم" وأثرياؤهم يمتلكون الأرضين الواسعة، ويسخرون أهل البلاد في استغلالها لهم، ولهذا لم تترك لغتهم أثراً كبيراً يشبه الأثر "الإرمي" من ناحية الزراعة في العربية.

أما المعربات في الزراعة عن اليونانية، فاقل عدداً، إذ لم يكن العرب على اتصال مباشر بالمزارعين اليونان، لهذا لم ياخذا عنهم كثيراً، والمعروف من المعربات في هذا الباب هو في أسماء نمر نبات او بذور، أو ما يتعلق بحاصل عنب، مثل الخمور، فقد كان أهل الحجاز يستوردون الخمور من بلاد الشام، وقد تعلمها أهل هذه البلاد من الروم بأسمائها اليونانية. ولما أخذها العرب من بلاد الشام، حرفوا الأسماء بعض التحريف يلائم المنطق العربي.

ُمن هذه المعربات: "الاسفنط": وهي أجود الخمر المطيب من عصير العنب.، من أصل "افسنتين" Apsinthion، كان الخمر يطيب به. و "خندروس"، ويراد بها نوع حنطة، أو حنطة مجروشة من أصل Khandhros، و"خندريس" ويراد بها خمر معتقة، ونعت لخمر مصنوعة من الكرم اسمه Kantharios. و "زنجبيل"، وهي من اصل zinguiveri. ومن الألفاظ الواردة في القرآن الكريم. وقد ذكرت في شعر منسوب إلى الأعشى.

و "القرنفل"، من أصل Kariofillon. و "كافور" من Kafoura. وفي السريانية qafouro. و "المسطار"، ويراد بها الخمر التي اعتصرت من أبكار العنب حديثاًْ، وأصلها "مسطس" Mousotos. و "نرجس" من أصل Narkisos.

وبلاد الشام أكثر شهرة من العراق في الأعناب، وهي مادة صالحة لصنع أنواع متعددة من الخمور. اما اهل العراق، فقد استخرجوا خمرهم من التمر،فلم يعرف لهذا السبب بتنويع الخمور. وقد استغل سكان جزيرة العرب التمور أيضاً لاستخراج الخمور منها، و ذلك في الأماكن التي تكثر فيها النخيل، وتقل أشجار الكروم. ولاتصال الحجاز ببلاد الشام بالقوافل الكبيرة، كانت الخمور من أهم السلع التي تستوردها القوافل من تلك البلاد. - ومن الألفاظ الارامية التي دخلت في العربية،.ولها معان سينية لفظة "ابل" بمعنى تنسك من ebal، و "تابس" بمعنى "حزن" من etebal، و "أبيل" بمعنى راهب من "ابيلو" abilo الإرمي بمعنى ناسك وراهب. وقد جعلها "الجواليقي" فارسية الأصل وهو خطأ منه. و "الباعوث"، صلاة لثاني عيد الفصح في بعض الطوائف من أصل boouto" بمعنى صلاة وطلب "برخ" بمعنى زياده ونماء من "برختو" bourhto بمعنى بركة وعطية و" البيعة" من "بيعتو" bito. و "الدنح"، ويراد بها عيد الغطاس،   

من اصل "دنحو" و "دير" اي بيت الرهبان، من أصل دار. و "ديراني." نسبة إلى "دير"، من أصل Dayronoyo. و "رباني"، بمعنى عالم بشريعة اليهود، وحاخام أي معلم من أصل "ربونو" Rabono. و "روح القدس" من "روح قدشو" Rouhqoudcho. و "مزمور" من "مزمورو" Mazmouro. و "سلاّق" عيد صعود السيد المسيح،من Souloqoأي صعود. و لا "صلاة" من "صلوتو" Salouto. و "قس" "قسيس" من "قشيشو" Qachicho. و "القوس" ويراد بها الصومعة، من أصل Kaucho، بمعنى عزلة.. و "ناقوس" من أصل. noqouch وهناك ألفاظ أخرى لها معان دينية، لم تكن شائعة معروفهَ الا بين النصارى، لذلك لم أرَ حاجة إلى الاشارة إليها، ثم إن من الصعب البرهنة على انها كانت مستعملة عند النصارى الجاهليين،.

وبعض الألفاظ المذكورة معروف، وقد ذكر في الحديث، وهذا مما يدل على شيوعه عند أهل الحجاز عند ظهور الإسلام، وبعضه مما ورد في القرآن الكريم من ايات تعرضت للنصرانية في ذلك العهد. " وباتصال العرب باليهود في الحجاز، دخلت في العربية ألفاظ ومصطلحات دينية، عُربت، مثل: "آمين" من أصل "امن"، و"اسرائيل" و "اسرائين" من "يسرائيل" "ي س رال"، و"تابوت" "ت ب ه" بمعنى صندوق خشب و "تلمود" و "توراة" من "تورا" بمعنى تعليم وشريعة، و "جهنم" من "جي هنم"، بمعنى وادي هنم، وهو جنوب أورشليم، أي القدس، وقد كثر فيه قبل الميلاد إحراق الأطفال تضحية لإله العمونيين. و "حبر" من "حبر" "ج ب ر" بمعنى "الرفيق" في الأصل، ثم قصصت بعالم. و "اسرافبل" من "سرافيم" "س ر ف ي م"، ملك من الملائكة الكبارْ، و "سبت" امم يوم، من "شبث" بمعنى يوم الراحة، واستراح. و "سبط"، قبيلة من قبائل اليهود الاثني عشر، من "شبط"، و "مدِراس"، بمعنى معهد تدرس فيه التوراة، من "مدرثس، "مدراش"، اي بحث وشرح نص.

ولفظة "نبي" "نابى" nabi للستعملة في عربيتنا من الألفاظ الواردة في التوراة، وردت "300" مرة في مواضع مختلفة منها. وترد في لغة بني إرم ايضاً، حيث وردت على هذه الصورة nbiyo. وقد ذكر علماء اللغة انها من المعربات.

واخذت العربية من العبرانية ألفاظاً قليلة ذات صلة بالحرف، مثل "تايوت" بمعنى صندوق من "تبا" teba، ويراد بها معنى صندوق في العبرانية. و "فطيس" من "بطيش" Pattich بمعنى مطرقة كا ا. و "قدوم" من "قردم" "قردوم" qardom بمعنى فاس، و "كرزن" من "كرزن" بمعنى فاس كبيرة"، وقد احترف اليهود الحدادة والصياغة والنجارة في الحجاز، وتكسبوا منها، ورآهم الجاهليون، وهم يعملون بآلاتهم، فتعلموا منهم أسماء الآلات المذكورة وغيرها، واستعملوها على النحو المذكور.

ويلاحظ إن الباحثن في المعربات من المستشرقين والشرقيين، رجعوا أصول ألفاظ يهودية إلى السريانة، وهي يهودية في الأصل، وقد أحلها السريانية من العبرانية بواسطة النصرانية، بدليل.ورودها في اليهودية قبل ظهور النصرانية بزمن. أما المجوسية، ديانة الفرس، فلم تترك اثراً يذكر في العربية من ناحية المعربات ذات المعاني الدينية، لقلة اتصالا العرب بها، وعدم اهتمام المجوس بنشر دينهم، وقلة عددهم في جزبرة العرب. ولهذا كانت أكئر ألألفاظ الدينية التي عرفها الجاهليون، قد دخلت فيهم من اليهودية والنصرانية،بسبب اتصال اليهودية والنصرابية بالجاهليين اتصالاً مباشراً، ولفظة "المجوسية" نفسها هي من الألفاظ المعربة، فهي من أصل Magush في الفارسية القديمة، Magh في الفارسية الحديثة، و Maghos في اليونانية، وقد اتتقلت من الإرمية إلى العربية، وفي الحديث: " كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يمجسانه، أي يعلمانه دين المجوسية" وذكر أن اللقظة قد وردت في ييت شعر جاهلي هو: أحارأريلكَ برقاًهبَّ وهـنـا  كنار مجوس تستعر استعارا 

يقال إن صدر البيت لامرىء القيس وعجزه للتوأم اليشكري، "قال، أبو عمرو ابن العلاء: كان امرؤ القيس معنا عريضاً ينازع كل من قال إنه شاعر،فنازع التوأم اليشكري، فقال له: إن كنت شاعراً فملّط انصاف ما أقول وأجِزها، فقال: - نعم، فقال امرؤ القيس: أصاح أريك برقاً، هب وهناً 

ففال التوأم: كنار مجوس تستعر استعارا 

فقال أمرؤ القيس: أرَقت له ونام أبو شريح 

فقال التوأم: إذا ما قلتُ قد هدأ استطارا 

إلى آخر الشعر. وإذا صح هذا التمليط، تكون هذه اللفظة قد وردت فيه لأول مرة في شعر جاهلي.

ُمن الألفاظ التي لها صلة بالمجوسية لفظة."موبذ." و "موبذان"، بمعنى الرئيس الديتي للمجوس. من أصل "موبد"، بمعنى كاهن ورجل دين عند الفرس القدماء. وفي باب الماًكولات والمشروبات وما يتعلق بهما، تجد المعربات عن الفارسية أبرز وأطهر من المعربات الماخوذة من لغة بني ارم، أو من لغة الروم واللغات الأعجمية الأخر. ف "الباذق"، وهو ضرب من الأشربة، من أصل فارسي، هو "باذة" "باده" بمعنى خمر، ئي شراب مسكر. ولفظة "باطية" ويراد بها إناء زجاج للشراب، من أصل "باديه" أي جرة، و "البالغاء"، بمعنى الاكارع من أصل "بايها" بمعنى أرجل.. و "الجلاب" اي ماء للورد، من أصل "كُل آب"، و "كُل" بمعنى ورد،و"آب" بمعنى ماء. و"الجوزينج" "الجوزينق" من الحلاوات، وتعمل من الجوز. من أصل "كوزينة". و "الخربز" البطيخ، من أصل "خربوزة" و "ا لخشكنان" و"الخشكار"، اي خبز مصنوع من قشر الحنطة والشعير، من أصل "خشك"، يمغنى يابس وآرد، بمعنى طحين. و "خوان" بمعنى مائدة و "دوق" بمعنى لبن استخرج زبده، من أصل "دوغ"، بمعنى لبن حامض. و "فالوذج" "الفالوذ" "الفالوذة"، نوع من الحلواء، من أصل "فالوده" "بولاد""، ويذكر أهل الأخبار: أن عبدالله بن جدعان كان يطعم العرب هذا الطعام، فمدح. و "القند"، السكر، و "الكعك"، من أصل "كاك". و "اللوزينح" نوع من الحلواء، من أصل "لوزينه"، و "الأنبار" أهراء الطعام، واحدها "نبر"، و "أنابير" جمع الجمع، من أصل "انباشتن" بمعنى خزن. و "الدّرمك"، وهو الدقيق الأبيض، أي لباب الدقيق، و "الجردق"، و "السميذ".

و "السكباج"، وهو لحم يطبخ بخل، من أصل "سركه باحة"، و "السكبينج" دواء. وصمغ شجرة بفارس، و "السكرجة" قصاع يؤكل فيها صغار، و "الز ير باج"، و "الاسفيداج"، و "الطباهج"، و "النفرينج." من ألوان الطبيخ.

وسبب ذلك إن الفرس كانوا ارفع مستوى من بني إرم في الحياة الأجتماعية" واكثر تقدماً في الحياة البيتية منهم، فتفننوا في الماكل والملبس،وتنوعوا في المطبخ وافتنوّا في تنويع الأكل، وأوجدوا لكل طعام اسماً، لم تعرفه لغة بني إرم، لأنهم لم يكونوا يعرفون تلك الأطعمة، وباحتكاك العرب بالفرس وببني ارم الذين اقتبسوا من الفرس بعض تلك الماكولات تعلموا منهم أنواع الأطعمة، وأخذوا منهم أسماءها أيضاً، ودخلت على بعضها الصنعة، لتحويلها وفق قواعد النطق العريي.

وينطبق ما قلته عن المعربات الفارسية في الأكل والمشروبات وما يتعلق بهما، على المعربات من الفارسية في العطور والروائح والطيب وما يتعلق بها،.وعلى بعض العوائد الاجتماعية، ولا سما بين العرب الذين كانوا على انصال مباشر بالفرس. فقد تاًثروا بحكم هذا الاتصال بهم، واقتبسوا منهم بعض عوائدهم، مثل استخراج ماء الورد المسمى "جلاب"، وهو "ماء الورد" للتطيب به. وقد وردت لفظة "الجل"، ومعناها الورد في بيت شعر للأعمثى. وكذلك الجلسان"، وقد ذكر إن "الجلسلن" من "كلشان" "كلشن"، اي ما يخثر من الورد على الحلفرين في العرس، وذكر انها الورد، أو قبة يعجلون عليها الورد.

و "القمقم"، قنينة لماء الزهر أو نحوه "قمَقمة". وتعتي لفظة كوكوميون وهي "قمقم" وعاء من نحاس لتسخين الماء في اليونانية.. ولعل احدى اللغتين قد استعارتها من الأخرى. وقد رجع بعض علماء اللغة اللفظة إلى الرومية، أي اليونانية، وذكر إن اللفظة وردت في بيت شعر لعنترة.

و "مسك". من "مشك". و "نافجة" وعاء المسك، من أصل "نافه" من "ناف" بمعنى سرة.

واستعارت العربية من الفارسية الفاظاً من الألبسة والأنسجة والخياطة، و ذلك مثل "ابريسم" وهي من اصل "أبريشم" و "استبرق" من أصل "استبرك"، أي ثوب حرير مطرز بالذهب. وقد ذكر علماء اللغة أنها من "لستفره" و "استر وه". و "بركان" "بر نكان"، كساء، من "يرنيان".

و "تخريص" "دخريص" من أصل "تيريز"، وورد أن "البنيقة" معربة كذلك من اصل "بنيك" في معنى "التخريص" و"الدخريص". و "جربان" زيراد بها جيب القميص من أصل "كريبان" و "الجوالق"، من أصل "كوال" "جوال"، ومعناها عدل كبير منسوج من صوف أو شعر.

و "الخسرواني"، وهو الحرير الرقيق الحسن الصنعة، وهو منسوب إلى الأكاسرة أي الملوك. و "الدخدار" وهو الثوب، من أصل "تخت دار". و "الديباج" من أصل "ديوباف" أي نساجة. الجن، و "السبيج"، وهو قميص بلا كمين ولا جيب، من أصل "شبى"، اي ليلى. و"سربال"، من أصل "سر بال". و "سروال"،. و "الشوذر" الملحفة والإزار،، من أصل "جادر". و "الطيلسان" من "طيلسان" "تالسان"، و "الفرند"، الحرير من "برند" و "الكرباس"، ثوب خشن من "كر با س".

وقد عرف الجاهليون ألقاب بعض القادة العسكريين والاداريين في الانبراطوريتين اليونانية والفارسية، فأدخلوها في العربية، لأنها ألقاب رسمية نعت بها أولئك الموظفون الكبار، وعرفوا بعض الرتب الكنسية كذلك. فما دخل إلى العربية من اليونانية واستعمل عند الجاهلين لفظة "بطريق"، من أصل Patrikios. وقد وردت في بعض الرسائل المنسوبة إلى الغساسنة،ويراد بها درجة قائد في الانبراطورية البيزنطية. ولفظة "أسقف"، وقد ورد في كتب السير: إن وفد نجران حين قدم على الرسول، كان يتألف من رؤساء المدينة أصحاب الحل والعقد، ويلقبون ب "السيد" و "العاقب" و "الأسقف". والسيد عندهم صاحب رحلتهم، والعاقب أميرهم وصاحب مشورتهم الذي يصدرون عن رأيه، والأسقف حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم. ولفظة "أسقف" هذه من أصل يوناني هو Episkopos، وأما "قيصر" التي يراد بها في العربية "انبراطور" الروم، أي ملكهم، فإنها من أصل لاتيني هو "سيسر" Caesar. وترد في كتب السير في معرض الكلام على الكتب التي أرسلها الرسول إلى الروم والفرس والحبشة وبعض الأمراء.

ومن المصطلحات المأخوذة من الفارسية في هذا الباب، "الأسوار"، وهو الرامي، وقيل الفارس،وقائد الفرسانْ، من أصل "أسب سوار"، و "اسب" الحصان، و "سوار" على ظهر أي راكب، ومعناها راكب الحصان أي فارس، وتجمع "أسوار" على "أساورة". وترد في الكتب أحياناً مضافة "أساورة الفرس"، وتجمع على "أساور" و "اساورة" أيضاً، وقد وردا جميعاً في الشعر. وأما "الأشائب"، و،مفردها "أشابة"، فمعناها الأخلاط من الناس من أصل "آشوب". وذكر انها عربية خالصة،من "أشب الشيء" بمعنى خلطه. وترد لفظة "أنبار" و "الأنبار"، وتعني أهراء الطعام ويقال للواحد "نبر" أيضاً وأما "الأنابير" جمع الجمع. وقد اشتهر موضع "الأنبار" على نهر الفرات على مقربة من الفلوجة، وكان مأهولا" بالعرب عند ظهور الإسلام، وقد ذكرت في الجزء الأول من هذا الكتاب أن بعض أهل الحجاز ينسب أخذ أهل مكة الكتابة إلى قوم منهم ذكروا أنهم تعلموها من أهل الأنبار.

و "الإيوان" في العربية، الرواق. وهو مكان متسع من بيت تحيط به ثلاثة حيطان، من اصل "أيوان" eyvan. وأما "الدهقان"، فحاكم اقليم، من "ده" بمعى ضيعة و "خان" بمعنى رئيس قبيلة، و ذلك في الفارسية القديمة. وقد وردت اللفظة في بيت شعر للأعشى وتجمع على "دهاقين". وأما "كسرى"، فملك من ملوك الفرس، وهو "خسرو" Khosrow في الفارسية. ولكن الجاهليين جعلوا اللفظة لقبا لملوك إيران، يقابل "شاه" أي الملك، وصارت عندهم مثل: "قيصر" للروم، وتبع لليمن، والنجاشي للحبشة. واما "المرزبان"، فالرئيس من الفرس، وتفسيرها "حافظ الحدّ" في مقابل حاكم ووالي ولاية، وتجمع على "المرازبة".

وأما لفظة "الهربذة" وتجمع على "الهرابذة"، فخادم النار عند المجوس. وقيل: رئيس خدام النار الذين يصلون بالمجوس، وقد تكلمت بها العرب قديماً. وقد وردت هذه اللفظة فىِ بيت شعر لامرىء القيس. وأما "موبذ" و "موبذان" فحاكم المجوس، بمثابة القاضي عند المسلمين، من "موبد" وهو الكاهن ورجل دين عند المجوس.

اما اسماء النقود، فإنها معربات يرجع أصلها إلى الفارسية أو اليونانية أو اللاتينية. فقد كان الجاهليون يتعاملون مع الفرس والأرضين الخاضعة للانبراطورية الرومية، ولهذا تعاملوا بنقود هاتين الانبراطوريتين. وهي نقود.ضرورية من المعادن. وتعاملوا بها في بلادهم ايضئاًكما نتعامل نحن بالنقود الأجنبية، ف "النمي" مثلاَ، هي فلوس رصاص كانت تتخذ ايام ملك بني المنذر، يتعاملون بها في الحيرة، هي من أصل رومي، أي يوناني، هو noummiyon. وقد وردت في بيت للنابغة: وقارفت وهي لم تجرب وباع لها  من الفصافص بالنمي " سفسير

وقد نسب هذا البيت لأوس بن حجر أيضاً.

فيظهر من ذلك إن "بني المنذر" كانوا قد أخذوا اللفظة من اليونانية، أي من نقود نحاس ضربها الروم، فضربوها هم في الحيرة، وتعامل بها الناس.وأما "الدينار"، وهو نقد كان معروفاً متداولاّ بين الجاهليين، مستعملا في أسواق مكة وبقية مواضع الحجاز وجزيرة العرب عند ظهور الإسلام. وقد ذكر في القرآن الكريم فإنه نقد روماني يساوي عشرة دراهم، ويعرف ب denarius في الاتينية.

وأما "الدرهم" فاسم نفد يوناني، يسمى دراخمي نdhrakhmiفي اليونانية، وقد شاع استعماله إذ ذاك.

وقد وردت التسمية في بيت شعر هو: وفي كل أسواق الـعـراق إتـاوة  وفي كل ما يباع امرؤ مكس درهمْ 

ويفيد هذا البيت أن الحكومة كانت تاًخذ إتاوة من الأسواق من التجار والباعة، وأن ما يباع يدقع عنه مكس، قدره درهم.

ولفظة "مكس"، هي أيضاً من الألفاظ المعربة، عربت من أصل "مكسو" Makso في لغة بني إرم.

و "الدانق" نقد أخذت تسميته " من الفارسية" من "دانك". وقد بقي مستعملا في الإسلام. وقد عرف ا الخليفة. "أبو جعفر المنصور" ب "الدوانيقي" نسبة إلى هذا النقد.

وأما "الفلس" وتجمع على "فلوس"، فإنه نقد من نحاس، وأصله في اليونانية "فولس" Follis. وقد عبر عنه بمعنى نقود أيضاً، فقيل في العامية "فلوس"، وقصد بها نقود.

ومن المعربات المستعملة في تقويم النقد وفحصه، لفظة "شقل" بمعنى الوزن، أي وزن النقد لمعرفة مقدار معدنه المؤلف منه. ولفظة "قسطار"،ومعناها ناقد الدراهم، أي الناقد الماهر العارف بالنقد، من أصل لاتيني هو quaestor. وتظهر هذه المعربات إن أهل الحجاز وفي والعرب الشماليين كانوا قد استعملوا النقد البيزنطي والساساني في أسواقهم وفي تجارتهم، وكانوا عالة على الأعاجم في استعمال النقد. و ذلك مما يدل على إن تعاملهم التجاري مع الانبراطوريتين كان وثيقاً. وقد بقيت هذه النقود الأعجمية مستعملة في الإسلام كذلك،وبقيت أسماؤها حية حتى بعد تعريب النقد، ولا يزال اسم الدينار والدرهم والفلس إلى هذا اليو م.

أما العرب الجنوبيون، فكان لهم نقد خاص بهم. تحدثت عنه في الجزء الثامن من كتابي: تأربخ العرب قبل الإسلام. وقد ذكرت أن بعض العلماء رجع تأريخ أقدم نقد عريي جنوبي عثرعليه سنة "405" قبل الميلاد. ويظهر أن أهل الحجاز لم يتعاملوا به كثيراً،بدليل عدم وجود ذكر له في المؤلفات الإسلامية، وفي الأخبار الواردة عن أيام الرسول. وقد ذكرت أن أسماء تلك النقود أسماء عربية جنوبية لا صلة لها باًسماء النقود التي تحدثت عنها، ومن تلك الأسماء: "بلط" ويجمع على "بلطات"، وهو اسم نقد من ذهب. و"خبصت" "خبصة"، نقد من نحاس، و "رضى"، قيل إنهاِ اسم نقد، وقيل إنها صفة للنقد. بمعنى رضية وصحيحة غير مزيفة ولا منقوصة، لأن النقد كان على أساس الوزن والنوع في ذلك العهد. وذكرت أيضاً بعض الألفاظ التي استعملوها في الصيرفة وفي نقد النقود.

ومن الألفاظ اللاتينية التي دخلت إلى العربية "لبرجد"، وهو ثوب مزدان بالذهب، وثوب غليظ مخطط من أصل Paragauda. و "برذون" من أصل burdo وBurdonis، و "دينار" من أصل denarius، وهو نقد من المعدن و "سجل" وقد تحدثت عنها و "سجلاط" من أصل "سجلاطس" Sigillatum ثياب كتان موشاة، وكأن وشيها خاتم وتزدان بصور صغيرةْ. و "سجنجل"، وتعتي المرآة، أو سبيكة فضة مصقولة، استعملت استعمال المرآة، من أصل Sexaangulus التي تعني "المسدس الزوايا" في اللانينية. قد وردت في بيت لامرىَء القيس. و "الصراط"، بمعنى الطريق، من أصل لاتيني هو strata بمعنى طريق كبير مبلط. وقد عرف الرومان ببراعتهم في شق الطرق العسكرية لاستعمالها في التجارة وفي الأغراض العسكرية. و "الصاقور" الفاًس لكسر الحجارة، من أصل لاتيني هو Securis. ويظهر أثر الأخذ من اليونانية واللاتينية والفارسية والارمية في المكاييل والموازين كذلك، و ذلك عند عرب الحجاز ونجد والعراق وبلاد الشام. أما عرب الجنوب فقد كانت لهم أسماء للمكاييل والموازين خاصة بهم، اختلفت عن الأسماء المستعملة عند العرب الشماليين المذكورين و ذلك كما نحدثت عنها في الموضوع الخاص بالمكاييل والموازين عند الجاهليين في الجزء الثامن من كتابي: تأريخ العرب قبل الإسلام. ومن هذه المعربات "المد"، وهو نوع مكيال للحبوب، وهو من أصل لاتيتي هو Modius و "الجريب"، من أصل إرمي هو " جرييو" Gribo. و "الرطل" من أصل يوناني هو Litra، و "الأوقية" من أصل يوناني uncia ounguiya، و "مثقال" من أصل matqolo"، وهو وزن في الإرمية. و "قيراط"، وهو جزء من أربعة وعشرين من أجزاء شيء،أو حبة واحدة من اربعة وعشرين حبة.. وكانه القدماء يزنون بالحب. واللفظة من أصل يوناني هو Keration. و "قنطار"، وهو مئة رطل، من أصل لاتيني هو Certennarium Pondus. و "الكر"، وهو ستة أوقار حمار، وهو مكيال لأهل العراق، وقد ورد ذكره في الحديث، هو". كرو" Kouro في لغة بني إرم. وغير ذلك من أسماء ذكرتها في الجزء الثامن من هذاالكتاب. ولا حاجة بنا إلى اعادة ذكرها.

وأخذت العربية من اللغة "السنسكريتية" بعض الألفاظ الخاصة بالمحاصيل لخاصة بالهند، مثل الفلفل وبعض الأسماء المتعلقة بالتوابل والعقاقير والأطياب والجواهر وقد أشار علماء اللغة إلى ألفاظ شائعة على الألسنة، لكنها أعجمية الأصل تاًتي في نوع المعرب. ذكر "الثعالبي" أمثلة منها في كتابه "فقه اللغة"، وقال " عنها انها: "أسماء فارسيتها منسية وعربيتها محكية مستعملة، هي: الكف.

الساق، الفرش، البز"از، الوزان، الكيال، المساح، البياع، الدلاءل، الصر"ا ف، البقا ل، الجمال، الحمأ ل، القصاب، البيطار، الرائض، الطر"از، الخراط، الخياط، القزً از، الأمير، ا الخليفة، الوزير، الحا جب، القاضي، صاحب البريد، صاحب الخبر، السقاء، الساقي، الشراب، الدخل، الخرج، الحلال، الحرام" إلى غير ذلك من ألفاظ تجدها في كتابه وفي كتب اللغة التي نقلت منه.

وفي بعض الذي ذكره، ما هو فارسي حقاً، أو من مصدر أعجمي آخر، لم يعرفه "الئعالبي"، لأنه لم يعرف من اللغات الأعجمية غير الفارسيه، فنسب أصل تلك الألفاظ إليها، ولكن البعض الباقي هو عربي، ما في أصله العربي من شك، ولا يمكن أن يكون من المعربات.

ونجد في المعاجم وفي كتب اللغة كلاماً عن هذه المعربات، فقي كتاب "المزهر" وكتب اللغة المعتبرة صفحات نص فيها على الألفاظ المعربة من مختلف اللغات. فلا أرى بي حاجة هنا إلى ذكر تفاصيل اخرى عن الألفاظ المعربة بتفصيل كل ما نص عليه العلماء من المعربات. ولكتي أود أن أيين إن علماء اللغة لم يكونوا على علم باللغات الأعجمية، ونلك لم يتمكنوا من رجع المعربات إلى أصولها الحقيقية، فأخطأوا في ذكر الأصول. ونظراً إلى إن فيهم من كان يتقن الفارسية فقد رجع أصول كثير من الألفاظ إلى أصل فارسي، لأنه وجد أن الفرس نطقوا بها، ولم يعلموا انهم أخذوها هم بدورهم من غيرهم، فصارت من لغة الفرس، أو انهم وجدوا بعض الألفاظ قريبة من أوزان الفارسية للكلمات، فظنوا انها فارسية، مع انها من أصل آخر. وفعل بعض منهم ذلك عصبية منهم إلى الفارسية لأنهم من أصل فارسي، فتمحلوا لذلك تكثيراً لسواد المعربات من لغة الفرس وتعصباً لهم.

وفي شعر الأعشى معربات عديدة مقتبسة من الفارسية، قدّ يكون أخذها من عرب الحيرة وبقية عرب العراق، وقد يكون اخذها من الفرس مباشرة لاتصاله واختلاطه بهم في العراق. واقتبسها إما ليحكي عما شاهده ورآه في العراق،فاستعمل الألفاظ الفارسية الشائعة هناك، وإما أن يكون قد تعمد إدخالها في شعره ليري الناسَ أنه حاذق بثقافة الفرس واقف على حضارتهم ولغتهم، كالذي بفعله بعض من يدرس في بلاد الغرب من استعماله ألفاظاً أعجمية في لغته ليلمح للناس بانه قد تثقف بثقافة الأجانب، وتلك في نظره مبزة يفتخر بها على الناس.

وقد زعم أن الأعشى رحل إلى بلاد بعيدة، فبلغ عمان وحمص وأورشليم وزار الحبشة وأرض النبط وأرض العجم، وقد ذكز ذلك في بيتين من الشعر. والى زيارته هذه للعراق ولأرض العجم ينسب أهل الأخبار ورود الألفاظ الفارسية في شعره. وفي بعض المعجمات وكتب اللغة مثل لسان العرب والمعرب للجواليقي، أبيات للاعشى يرد فيها وصف لأحوإل الفرس وعرب العراق، وقد استعمل فيها ألفاظاً فارسية لها مناسبة وصلة بذلك الوصف. منها ما يتعلق بالملابس، ومنها مايتعلق بالأشربة والخمور والأفراح، ومنها ما يتعلق بالمناسبات مثل الغناء والأعياد. وشاعر آخر نجد في شعره معربات فارسية، هو "عدي بن زيد العبادي". وهو من أهل الحيرة، المقربين إلى ملوكها والى الفرس، الحاذقين بالعربية وبلغة الفرس. وقد كان كاتباً باللغتين، كما كان أبوه بليغاً باللسانين، وتولى رئاسة ديوان العرب عند الأكاسرة. وهو نصراني، ولهذا استعمل في شعره ألفاظاً نصرانية اقتبست من السريانية، وأشار بحكم نصرانيته إلى عادات نصرانية، كما كان حضرياً مترفاً غنياً أدخل إلى بيته وسائل الترف والراحة المعروفة في ذلك اليوم، ولهذا فإن لجمع شعره جمعاً تاماً ونقده وتحليله واستخراج صحيحه من منحوله أهمية كبيرة في اعطاء رأي عن الحياة الفكربة والثقافية لعرب العراق قبيل ا لاسلام.

وبعد، فإن اللغة التي بحثت عن وجود المعربات فيها، هي اللغة العربية التي نزل القرآن بها. أما اللهجات والألسنة العربية الجنوبية، فإن أثر هذه المعربات فيها كان قليلاَ، ونجد في كتاباتها ألفاظاً عربية جنوبية، مكان تلك المعربات. ومعنى هذا بعُد نلك اللهجات عن المؤثرات الأعجمية الشمالية. وسبب ذلك رقي المتكلمين بها، وتقدمهم في الحضارة بالقياس إلى بقية سكان جزيرة العرب والى ابتكارهم أنفسهم لكثير من الأشياء، فكان من الطبيعي إن تكون أسماؤها بلغة الصانعين لها.

ولدي ملاحظة، هي إن وجود المعربات في العربية الحجازية، يدل دلالة صريحهَ واضحة، على إن المتكلمين بها كانوا قد تأثروا بالحضارات الشمالية أكثر من تاثرهم باخوانهم العرب الجنوبيين، وان اتصالهم الفكري كان بالشمال أكثر منه بالجنوب، ولا يقتر هذا التأثر على المعربات فقط،بل يشمل كل المؤثرات الثقافية الأخرى، كالذي رأيناه في مواضع متعددة من الأجزاه المتقدمة من هذا الكتاب. فكأننا أمام ثقافتين مختلفتين وشعبين متباينين،بالرغم من اتصال حدود الحجاز باليمن، وقرب المسافة بينهما، حتى اللغة نجد بوناً شاسعاً بينها وبين اللغات العربية الجنوبية، وهذا ما حمل بعض العلماء على القول: ما لغة حمير بلغتنا،ولا لسانهم بلساننا، ففرق بين اللسانين.

أما "أمية بن أبي الصات" فقد وردت في شعره معربات من أصل سرياني في الغالب، يظهر أنه أخذها من المنابع النصرانية التي قيل إنه وقف عليها. فقد ذكر أنه كان قد قرأ كتب أهل الكتاب، ووقف على أخبارهم وعقائدهم، وإن اتصاله بهم أثر في رأيه الذي كونه لنفسه في الأديان. وأرى أن من اللازم توجيه العناية لدراسة ما تبقى من شعره للوقوف على أصوله، وعلى درجة تأثره بالتيارات الفكرية والآراء الدينية لأهل الكتاب، وعلى الألفاظ المعربة عن السريانية أو غيرها التي ترد في شعر هذا الشاعر، و ذلك بعد التأكد من صحة الشعر. ومن المعربات الواردة في شعر "أمية" لفظة "تلاميذ" جمع تلميذ، و ذلك في هذا الشعر المنسوب إليه: والأرض معقلنا وكانت أمّنـا  فيها مقامتنا وفيهـا نـولـد

وكا تلاميذعلى قذفـاتـهـا  حُبسوا قياماً فالفرائص ترعد 

وفي هذا الشعر: صاغ السماء فلم يخفض مواضعها  لم ينتقص علمه جهـل ولاهـرم

لا كشفت مرة عتا ولا بليت  فيها تلاميذ في أقفائهم دغم 

وذكز أن "المتلمد" الواردة في شعر ينسب له أيضاً، بمعنى متلمذ، وأن لفظة "التلاميذ" قد ترخم في الشعر على "تلام"، كما جاء في شعر "الطرماح"،و "غيلان بن سلمة" الثقفي، وهو من الشعراء المخضرمين. ووردت لفظة "التلاميذ" في شعر لبيد، في هذا البيت: فالماء يجلو متونهن كما  جلو التلاميذ لؤلؤ اًقشبا 

وقد ذكر علماء اللغة أن التلاميذ: غلمان الصاغة، وهي فارسية.

معرفة المعرب

قال علماء العربية تعرف عجمهّ الاسم بوجوه: 1- النقل بأن ينقل ذلك أحد أئمة العربية.

2- خروجه عن أوزان الأسماء إلعربية نحو إبريسم، فإن مثل هذا الوزن مفقود في أبنية الأسماء في اللسان العربي.

3- أن يكون أوله نون ثم راء نحو نرجس، فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية.

4- أن يكون آخره زاي بعد الدال، نحو مهندز، فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية.

5- أن يجتمع فيه الصاد والجيم، نحو الصولجان والجص.

6- أن يجتمع فيه الجيم والقاف نحو النجنيق،والجردقة، والجرموق، والجوسق، و ا لجلاهق، و جلنبق.

7- أن يكون خماسياً أو رباعباً عارياً عن حروف الذلاقة، وهي: الباء، والراء، والفاء، واللام، والميم، والنون، فإنه متى كان عربياً، فلا بد أن يكون فيه شيء منها. نحو سفرجل، وقِرطعب، وجحمرش.

هذا وقد تتبع بعض علماء العربية كلام العرب، فوجدوا بعض حالات إذا اجتمعت فيها حروف معينة دلت على أصل أعجمي، من ذلك قولهم: 1- الجيم والتاء لا تجتمعان في كلمة من غير حرف ذي لقيّ، ولهذا ليس الجبت من صميم العربية.

2- الجيم والطاء لا تجتمعان في كلمة عربية،.ولهذا كان الطاجن والطيجن مولدين، لأن ذلك لا يكون في كلامهم الأصلي.

3- لا تجتمع الصاد والطاء في كلمة من لغتهم، أما الصراط، فصاده من السين.

4- ندر اجتماع الراء مع اللام إلا في ألفاظ محصورة: كور ل ونحوه.

5- قال "البطليوسي": لا يوجد في كلام العرب دال بعدها ذال الا قليل، ولذلك أبى البصريون أن يقولوا بغداذ.

6- ليس في كلام العرب شين بعد لام في كلمة عربية محضمة، الشينات كلها في كلام العرب قبل اللامات.

اقسام الأسماء الأعجمية

"قال أبو حيان في الارتشاف: الأسماء الأعجمية على ثلاثة أقسام: قسم غيرته العربُ،وألحقته بكلامها فحكم أبنيته في اعتبار الأصل والزائد والوزن حكم أبنية الأسماء العربية الوضع، نحو درهم وبهرج. وقسم غيرته ولم تلحقه باًبنية كلامها، فلا يعتبر فيه ما يعتبر في القسم للذي قبله، نحو آجر وسفسير.وقسم تركوه غير مغير، فما لم يلحقوه بأينية كلامهم لم يعد منها، وما ألحقوه بها عد منها مثال الأول خراسان، لا يثبت به فُعالان، ومئال الثاني: خُرم ألحق بسلُّم، وكُركُم ألحق بقُمقُم.

ابدال الحروف

وهناك حروف لا تتكلم بها العرب إِلاّ ضرورة، فإذا اضطروا إليها حولوها عند التكلم. بها إلى أقرب الحروف إلى مخارجها، و ذلك كالحرف الذي بين الباء والفاء مثل "بور" إذا اضطروا قالوا "فور". لأن "بور" ليس من كلام العرب. وحرف "ب" حرف غير عربي. وقد يحولون ل "ب" إلى "ب"، كما في "سابور"، وأصله "شابور".

وقد يحول حرف ل "ب" إلى "P"" إلى "ف" عند تحويل الأعلام الأجنبية إلى عربية. مثل Platon، اسم الفيلسوف اليوناني، "27 4 - 347 ق. م" الذي حول إلى "افلاطون". و ذلك بتحويل حرف "الباء" إلى "ف"، وبتحويل حرف "التاء" إلى "طاء". وقد اتيع المعربون قاعدة تحويل "التاء" الواردة في الأعلام الأعجمية إلى حرف "طاء" في الغالب، فحول Aristoteles "384 - 2 32 ق. م" إلى "أرسطو طاليس". و Plotinus الاسكندري "205 - 270 م"، إلى "فلوطين". ولو زالت هذه الطريقة معروفة ف "تهران" عاصمة ايران، هي "طهران".

والعرب يعربون الشن سيناً، فيقولون: نيسابور، وهي نيشابور، وقد أبدلوا بالإضافة إلى حرف "الشين" حرف "الباء" "ياء"". فالأصل "نيشابور"، ومثل ذلك: "سابور"، فالأصل هو "شابور".

"وقال بعضهم: الحروف التي يكون فيها البدل في المعرب عشرة: خمسة يطُرد إبدالها، وهي: الكاف، و ا لجيم، والقاف، و الباء، و الفاء. و خمسة   

لا يطرد إبدالها ة وهي: السين، والشين، والعين، واللام، والزاي. فالبدل المطرد: هو في كل حرف ليس من حروفهم كقولهم:كربج، الكاف فيه بدل من حرف بين الكاف والجيم، فابدلوا فيه الكاف؛ أو القاف نحو قربق. أو الجيم نحو جَورب، وذلك فِرند هو بين الباء والفاء فمرّة بدل منها الباء ومرّة تبدل منها الفاء. وأما ما لا يطرد فيه الإبدال، فكل حرف وافق الحروف العربية كقولهم اسماعيل أبدلوا السين من الشين، والعين من الهمزة، وأصله إشمائيل. وكذلك قفشليل أبدلوا الشين من الجيم واللام من الزاي، والأصل قفجليز، وأما القاف في أوله فتبدل من الحرف الذي بين الكاف والجيم".

الفصل الثاني والاربعون بعد المئة
النثر

النثرهو الكلام المرسل الذي لا يتقيد بالوزن والقافية، وهو الجزء المقابل للشعر، من أجزاء الكلام. وهو أقدر من الشعر على إظهار الأفكار وعلى التعبير عن الراي، وعلى الإفصاح عن علم ومعرفة، لكونه كلاماً مرسلا حراً لا يتقيد بقيود، خالياً من الوزن والقافية ومن المحافظة على القوالب، إلا انه دون الشعر في التاثر في النفوس وفي اللعب بالعواطف، لما في الشعر من سحر الوزن والقافية والإنشاد بانغام متباينة مؤثرة، لا سيما إذا ما اقترن بعزف على آلات طرب. ولوجود القافية والوزن في الشعر، ولكونه أبياتاً، سهل حفظه،وصار من الممكن خزنه في الذاكرة أمداً طويلاّ، وهن هنا امتاز على النثر، الذي لا يمكن حفظه بسهولة، ولا خزنه في الذاكرة، لعم وجود مقومات الخزن المذكورة فيه. والنثر الذي نقصده ونعنيه، هو النثر الذي يبحث عنه مؤرخ الآداب، لكونه قطعة فنية، تعبر عن عاطفة انسانية، وعن مظاهر الجمال والشوق والتأثر في النفوس، فيه صياغة وفن في حبك القول، وتفنن في طرق العرض، وإغراء في تنميق الكلم ودبج الكلمات، وحلاوة وطراوة وسحر وبيان، فهو كلام عال لا يشبه كلام العامة، ولا مما يتخاطب به الناس، ولا مما يتعامل به في التجارة والمكسب أو في الدوائر، وانما هو من قبيل كتب الأدب، ومن قبيل الأمثال والخطابة والمراسلات الأدبية وما شاكل ذلك من وجوه. ولهذا، نستبعد من هذا النثر، ما وصل الينا من نصوص جاهلية، لأنها كتبت في أغراض أخرى، كتبت في تقديم نذور، وفي معاملات: من بيع وشراء، وتئبيت ملك، أو تحديد حدود، أو في قوانين وأوامر، ولم تكتب في أغراض أدبية خالصة. وبين ايدينا خطب طويلة ومتوسطة وقصيرة، نسبها الرواة إلى خطباء جاهليين، زعموا أنهم كانوا في ايامهم آية في الفصاحة والبلاغة. والبيان، وأساطير وقصص زعم أهل الأخبار أنها أخبار صحيحة وروايات مروية،وأصول منافرات ومفاخرات ومعاتبات ومشاتمات، زعموا انها جرت في الجاهلية، وانتقلت اصولها بنصها وفصها وحروفها وكلمها من رواتها إلى الإسلاميين، فدو نت في كتبهم، كما رووا حكماً وأمثالاَ وأقوالا"، زعموا أنها لحكماء من أهل الجاهلية حفظها الناس حفظاً، ورووها رواية رجلاّ عن رجل، وجيلاَ عن جيل، حتى وصلت، مرحلة التدوين. وكل هذا المسجل الذي نتحدث عنه، هو من مدونات أهل الإسلام، ليس فيه من مدونات أهل الجاهلية أي شيء.

وبين هذا النثر، خطب منمقة مزوقة، نسبت إلى ملوك وسادات العرب البائدة، الذين بادوا قبل الإسلام بعهد طويل، ومات معهم أدبهم بالطبع، وخطب نسبت إلى التبابعة، وقد هلكوا أيضاً قبل الإسلام، وكلام نسب إلى أنبياء جاهليين، والى الجن أيضاً، رواه أهل الأخبار، دون أن يكلفوا أنفسم مشقة الإفصاح عن كيفية وصول تلك الخطب و ذلك الكلام اليهم، مع أنهم كرّروا القول بأن كلام بعضهم كان كلاماً آخر يخالف كلامنا، وأن عربيتهم لا تشاكل عربيتنا، فكيف نقلوها ودوّنوها إذن في الإسلام إن نثراً من هذا النوع هو نثر مصطنع بالطبع صنع على لسان أولئك الماضين، من غير شك ولا شبهة، فهو من هذه الناحية مكذوب مرفوض.

وأما النثر المنسوب إلى العرب الذين عاشوا قبيل الإسلام، أو أدركوا الإسلام، فالصحيح في " أقل من المصنوع، خاصة نصوص الخطب والحكم والمواعظ، والقصص والأيام، والوفادات والخطب الطويلة، لأن من المستحيل على الذاكرة، حفظ الكلام المنثور بالحروف والكلمات حفظ اشرطة التسجبل له أو للغناء أو الموسيقى، مهما وهب الله تلك الذاكزة من قوة في قدرة الأخذ والحفظ. ثم هي إذا حفظته اليوم، فلا بد وأن تتعثر به غداً، ثم يزداد تعثرها به بعد ذلك. هذا رسول الله يذكر "قس بن ساعدة الإيادي"، فيقول: "رحم الله قساً كأني أنظر إليه على جمل أورق، تكلم بكلام له حلاوة لا أحفظه"، وإذا راجعت نص خطبة "قس" في الموارد، تجد الرواة على اختلاف شديد فيما بينهم في ضبط نصها، وهذا حديث رسول الله التام، لي المروي بالنص، وبالطرق الصحيحة تراه يرد أحياناً بعبارات مختلفة مع اتحاد المعنى، مما يدل على أن رواته قدأجهدوا أنفسهم جهد طاقتهم في حفظه، لكنهم عجزوا عن حفظه حقظ الكتاب للمكتوب. خذ صيغ التشهدات في الصلاة مثلا، وهي قصيرة العبارة، لا طول فيها، تجد الصحابة والفقهاء يختلفون مع ذلك في ضبطها، فترى نص تشهد "ابن مسعود" يختلف بعض الاختلاف عن نص تشهد "ابن عباس"، وعن نص تشهد"عمر"، وعن نص تشهد "أبي سعيد الخدري"، وعن تشهد "جابر"، مع قول "ابن مسعود": "علمني رسول الله التشهد وكفيّ بكفّه، كما يعلمني السورة من القرآن"، وقول "أبي سعيد الخدري": "وكناّ لا نكتب إلا القرآن والتشهد"، وقول "جابر": "كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"، بل خذ القرآن، وهو كتاب الله المضبوط المدو"ن، الذي حفظه بعض الصحابة، وتلوه على الرسول، وحرصوا على المحافظة على نصه حرصهم على حياتهم، بل أشدّ منها، ودونوه ساعة الوحي، وأمام الرسول، ظهرت مع ذلك فيه قراء ات، بسبب اختلاف مدارك الصحابة في فهمه وفي حفظه، وبسبب اللهجات وعيوب الخط، فإذا كان هذا ما حدث في أيام الرسول وبعد وفاته بقليل، وقد وقع في أعز كلام بالنسبة للمسلمين، فهل يعقل بعد،التصديق بصحة النصوص المروية لخطب طويلة، زعم أنها قيلت في قصور كسرى، أو بحضرة ملوك الحيرة، أو الغساسنة، أو تبابعة اليمن، أو الكلام المروي عن قوم عاد وثمود، وقوم لوط، وغيرهم وغيرهم ممن هلكوا وبادوا قبل الإسلام بزمن طويل.

ثم كيف نصدق بخطب زعم انها قيلت في الجاهلية، مثل خطبة "النعمان بن المنذر" أمام كسرى، أو خطب الوفد الذي أرسله هذا الملك إلى "كسرى" ليكلمه في أمر العرب، وهي خطب طويلة منمقة، على حين يذكر العلماء إن الأحاديث لم تنقل كما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم،وانما رويت بالمعنى". وسبب ذلك، انهم وجدوا إن من غير الممكن اثبات النص بالرواية من غير تبديل ولا تغيير قد يقع عليه، وخشية وقوع هذا الخطاً في كلام الرسول، وهو أعز كلام، وعليه ترتيب الأحكام في الحلال والحرام، جوّ زوا الرواية بالمعنى. ولهذا تركوا الاستشهاد بالحديث "على إثبات القواء- الكلية في لسان العرب"، ولو وثق العلماء من أن لفظ الحديث، هو لفظ الرسول حقاً "لجرى مجرى القرآن الكويم في إثبات القواعد الكلية. واتما كان ذلك لأمرين: أحدهما إن الرواة جوّزوا النقل بالمعنى، فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه صلى الله عليه وسلم لم يقل بتلك الألفاظ جميعها، نحو ما روى من قوله: زوجتكها بما معك من القرآن، ملكتكها بما معك من القرآن، خذها بما معك من القرآن، وغير ذلك من الألفاظ الواردة، فتعلم يقيناً انه صلى الله عنيه وسلم، لم يتلفظ بحميع هذه الألفاظ، بل لا يحزم بأنه قال بعضها، إذ محتمل انه قال لفظاً مرادفاً لهذه الألفاظ، فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه إذ المعنى هو المطلوب،ولا سيما تقادم السماع وعدم ضبطها بالكتابة والاتكال على الحفظ. والضابط منهم من ضبط المعنى. وأما من ضبط اللفظ فبعيد جداً، لا سيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم اني أحدثكم كما سمعت، فلا تصدقوني، انما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين انهم يروون بالمعنى وفي سنن الترمذي، عن مكحول عن وائلة بن الأسقع قال: إذا حدثناكم على المعنى فحسبكم، ورواية الذهبي في سر أعلام النبلاء: إذا حدثتكم بالحديث على معناه فحسبكم.

لقد وجد الصحابة إن من الصعب عليهم حفظ كلام الرسول بالنص والحرف، وهم معه في كل وقت، يحدثهم ويحدثونه، فيشق عليهم ضبط كلامه، وهم لا يكتبونه ولا يكررونه عليه، وليس من الممكن أن يجلس رسول الله، ثم يطلب من أصحابه إعادة كل كلام كلمهم به، فسأله أحدهم: "يارسول الله ني اسمعع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمعه منك، يزيد حرفاً أو ينقص حرفاً. شال: لذا لم تحلوا حراماً ولم تحرموا حلالاّ وأصبتم المعنى فلا بأس" وكان من الصحابة من يروي حديثه تاماً، ومنهم من ياتي بالمعنى، ومنهم من يورده مختصراً، وبعضهم يغاير بين اللفظيٍن ويراه واسعاً إذا لم يخالف المعنى. وروي عن "مكحول"، "قال دخلت أنا وأبو الأزهر على وائلة بن الأسقع فقلنا له: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله ليس فيه ولا تزيد ولا نسيان !فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئاً ? فقلنا: نعم وما نحن له بحافطي جداً. إنا نزيد الواو والألف وننقص، فقال: هذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تالونه حفظاً، وانكم تزعمون انكم. تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى ألا يكون سمعنا لها منه إلا مرة واحدة? حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى.

وكان ابن أبي ليلى يروي الشيء مرة هكذا ومرة هكذا بغير إسناد، وانما جاء هذا من جهة حفظه، لأن أكثر من مضى من أهل العلم كانوا لا يكتبون،ومن كتب منهم فإنما كان يُكتب لهم بعد السماع،وكان كثير منهم يروي بالمعنى فكثيراً ما يعبر عنه بلفظ من عنده فياتي قاصراً عن أداء المعنى بتمامه، وكثيراً ما يكون أدنى تغير له محيلاً له وموجباً لوقوع الإشكال فيه، وقد أجاز الجمهور الرواية بالمعنى".

ولتجويزهم رواية الحديث بالمعنى، لم يحتج أئمة النحو المتقدمين من المصرين بشيء من الحديث في النحو، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب "ولولا تصريح العلماء براز النقل بالمعنى في الحديث، لكان الأولى في اثباته فصيح اللغة كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أفصح العرب. جرى على ذلك الواضعون الأولون لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، وا الخليل، وسيبويه من أئمة البصرة، والكسائي، والفراء، وعلي بن المبارك الأحمر، وهشام الضرير من أئمة الكوفة فعلوا ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول، إذ وثقوا بذلك لجرى مجرى. القرآن الكريم في اثبات القواعد الكلية. وإذا كان هذا موقف ذاكرة الصحابة من كتاب الله ومن حديث رسوله، فهل يعقل أن تكون حافظتهم أقوى وأشد حفظاً واكثر دقة في رواية كلام هو دون كلام الله وكلام رسوله، فنصدق قول من قال إن "سلمة بن غيلان" الثققي مئلاّ دخل في ناس من العرب على كسرى، فطرُح لهم مخاد عليها صورته، فوضعوها تحتهم، إلا سلمة بن غيلان فإنه وضعها على رأسه، فقال له: ما صنعت ? قال: ليس حق ما عليه صورة الملك أن يبتذل، وما اجد في جسدي عضواً لا أكرم ولا أرفع من رأسي فجعلتها فوقه. فقال له: ما أكلك ? فقال: الحنطة. فقال: هذا عقل الحنطة أو أن نصدق بكلام وفد "طي إلى "سواد بن قارب" الدوسي، وامتحانهم إياه، ثم جوابه المسجع على سجعهم، أو كلام الكاهنة "عفيراء" الحميرية،، أو كلام "ابنة الخس"، أو كلام "عبد المطلب"، وغره من سادات قريش مع تبابعة اليمن وحكامها الحبش، وهو كلام مضبوط بالحروف والكلمات، ترويه كتب أهل الأخبار على أنه كلام صحيح صادق، لم ينله تغيير ولا اعتراه تبديل، وكأنه قد سجل على شريط "تسجيل"، أو على اسطوانة، لم تلعب بها يد إنسا ن.

جاء في "لسان العرب": "قيل لسيدنا محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الأمي لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب،وبعثه الله رسولاَ وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه ا الخلة احدى آياته المعجزة، لأنه، صلى الله عليه وسلم، تلا عليهم كتاب الله منظوماً، تارة بعد أخرى، بالنظم الذي أنزل عليه فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه، وكان الخطيب من العرب، إذا ارتجل خطبة ثم أعادها زاد فيها ونقص"، فإذا كان هذا شان الخطيب،   

وهو مرتجل الخطبة، وصاحبها لا يستطيع إعادة نصها، فكيف يكون حال السامع الذي يسمعها سماعاً ولا يكتبها على صحيفة، فهل يحوز اذن لنا التصديق بصحة نصوص هذه الخطب الجاهلية وما يروونه عن الجاهليين من أدب منثور !

السجع

وقد جعل "الجاحظي" كلام العرب أنماطاً، جعله "في الأشعار، والأسجاع، و ا لمزدوج، و المنثور".

والسجع في تعريف العلماء له: الكلام المقفى، أو موالاة الكلام على رويّ واحد. وقيل: السجع أن يأتلف أواخر الكلم على نسق كما تأتلف القوافي. وسجع يسجع سجعاً: نطق بكلام له فواصل كفواصل الشعر من غير وزن. وقد ألفِ "الكهان" النطق بالسجع، حتى غلب على كلامهم، واختص بهم، كما اختص الشعر بالشعراء، فعرف لذلك ب "سجع الكهان". "ولما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، في جنين امرأة ضربتها الأخرى، فسقط ميتاً بغرة على عاقلة الضاربة، قال رحل منهم: كيف ندى من لا شرب ولا أكل ولا صاح، فاستهل. ومثل دمه يطل. قال صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الكهان. وفي رواية: اياكم وسجع الكهان. وفي الحديث انه، صلى الله عليه وسلم، نهى عن السجع في الدعاء. قال الأزهري: انما كره السجع في الكلام والدعاء.لمشاكلة كلام الكهنة وسجعهم فيما يتكهنونه، فأما فواصل الكلام المنظوم الذي لا يشاكل السجع، فهو مباح في الخطب والرسائل". وروي الحديث على هذه الصورة: ا اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت احداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله إن دية جنينها غُرّ ة، عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها. وورثها ولدها ومن معهم. فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل، ففال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: انما هذا من اخوان الكهان، من اجل سجعه الذي سجع".

. قال الجاحظ في معرض كلامه على السجع وقول الرسول: أسجع كسجع الجاهلية. "وكان الذي كره الأسجاع بعينها وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، أن كهان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون اليهم، وكانوا يدعون الكهانة، وأن مع كل واحد منهم رئياً من الجن، مثل حازي جهينة، ومثل شق وسطيح، وعُز"ى سلمة، وأشباههم: كانوا يتكهنون، ويحكمون بالأسجاع، كقول بعضهم: والأرض والسماء. والعُقاب الصقعاء، وافعة ببقعاء، قهد نفر المجد بني العُشراء، للمجد والسناء.وهذا الباب كثير. ألا ترى أن ضمرة بن ضمرة، وهرم بن قطبة،والأقرع ابن حابس، ونفيل بن عبد العزى، كانوا يحكمون.، وينفرون بالأسجاع وكذلك ربيعة بن حذار. قالوا: فوقع النسُ في ذلك الدهرِ، لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها في صدور كثير منهم، فلما زالت العلة، زال التحربم. وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فيكون في تلك الخُطب أسجاع كثيرة فلا ينهونهم. وقد كان الكهان حكاماً كذلك، يفصلون في الخصومات بين الناس. يأتي اليهم المتخاصمون، وبعد أن يؤكدوا لهم رضاهم وقناعتهم بحكمهم، يحكمون بينهم فيما يرونه، وينسب الناس إلى الكهان إدراك الغيب برئي ياًتي اليهم فيلقي لهم بما يراه ويعلمهم من المغيبات عما يسألون، ولذلك ورد: أن الكهانة هي ادعاء علم الغيب، كالإخبار بما سيقع، وورد: الكاهن القاضي بالغيب، وكل من ادل بشيء قبل وقوعه.

ويفهم من روايات أهل الأخبلر ومن كتب الحديث والموارد الأخرى، أن الكهانة كانت شائعة في الناس،فكانوا يقصدونهم في كل شيء لاستشارتهم وللاخذ برأيهم وللفصل في الخصومات والنزعات. وقد منعها الإسلام، حتى ورد في كتب الحديث: إن من أتى كاهناً او عرافاً فقد كفر.

ونجد في بطون الكتب أمثلة من سجع الكهان. وهو يستحق الدرس والبحث، لتحليل عناصره، وبيان صدقه من كذبه، وصحيحه من فاسده. وفي بعضه مثل ما نسب إلى "زبراء الكاهنة"، محاكاة لأسلوب السور القصيرة من القرآن الكريم. وهو مرحلة مهمة من مراحل تطور أسلوب الكلام عند العرب، وهو حري اذن بالدراسة وبالبحث.

وقد أشير إلى قول الكهان في القرآن الكريم في آية: "فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون"، و "انه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كإهن، قليلا ما تذكرون". فقد زعموا انه كاهن، وزعموا انه مجنون، فوبخوا لزعمهم هذا، وقيل لهم إن "محمداً ليس بكاهن فتقولوا هو من سجع الكهان". "وكانت قريش يدعون انهم أهل النهي والأحلام"، " فقال الله أم تأمرهم أحلامم بهذا أن يعبدوا أصناماً بكماً صماً، ويتركوا عبادة الله، فلم تنفعهم أحلامهم حين كانت لدنياهم"، فانزعجوا منه وقالوا عنه انه كاهن، وانه شاعر، وانه مجنون. وفي اتهامهم الرسول بانه كاهن، وبأن القرآن "هو من سجع الكهان"، دلالة على وجود السجع عند الجاهليبن، وانه كان من نمط الكلام الذي اختصوا به. فلا مجال اذن للشك في وجود السجع عندهم، وان كنا نشك في صحة نصوص السجع المنسوب اليهم ويذكر أهل الأخبار، أن "ضماداً" لما قدم مكة معتمر اً، "سمع كفار قريش يقولون: محمد مجنون. فقال: لو اتيت هذا الرجل فداويته، فجاءه فقال له: يا محمد إني أداوي من الريح، فإن شئت داويتك لعل الله ينفعك. فتشهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حمد الله وتكلم بكلمات فأعجب ذلك ضمادأَ فقال: أعدها عليّ، فأعادها عليه، فقال: لم أسمع مثل هذًا الكلام قط، لقد سمعت كلام الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل هذا قط". فالكنهة والسحرة والشعراء هم طبقة خاصة، كانوا يؤثرون في عواطف السامعين باستعمالهم أسلوباً خاصاً من الكلام، هو أسلوب السجع، بالنسبة إلى الكهنة والسحرة، والشعر بالنسبة الى الشعراء. أما الخطباء، فقد كانوا سجاعاً في الغالب، لكنهم كانوا يستعملون المرسل من النثر أيضاً بأساليبه المختلفة.

وقد ذكر "الجاحظ" أن "الكهان" كانوا "يتكهنون ويحكمون بالأسجاع"، هذه "زبراء" تنذر "بني رئام"، عن أنباء ستقع، فتقول "واللوح الحافق والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأدو ختلا، ويحرق أنياباً عُصلا، وإِن صخر الطود لينذر ثُكلا، لا تجدون معه معلا، فوافقت قوماً أشارى سكارى، فقالوا: ريح خجوج، بعيدة ما بين الفرُُ وج، أنت زبراق بالأبلق النتوج. فقالت زبراء: مهلاً يا بني الأعزة، والله إني لأشم ذفر الرجال تحت الحديد، فقال لها فتى منهم يقال له هُذيل بن منقذ: يا خذاقِ، والله ما تشمين إلا ذَفَر إبطيك، فانصرفت عنهم وارتاب قوم من ذويَ أسنانهم، فانصرف منهم أربعون رجلاٌ وبقي ثلاثون فرقدوا في مشربهم، وطرقتهم بنو داهن وبنو ناعم فقتلوهم أجمعين".

وهذا كاهن "بني أسد" "عوف بن ربيعة"، يأتيه " رئيه"، فيتكهن لقومه قائلاً: "يا عبادي قالوا: لبيك ربنا، قال: من الملك الأصهب، الغلاّب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يعلق رأسه الصخب، هذا دمه ينثعب، وهذا غداً أول من يسُلب، قالوا: من هو يا ربنا ? قال: .

لولا: أن تجيش نفس جاشية، لأخبرتكم انه حجر ضاحية. فركبوا كل صعب وذلول فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكرُ حجر فهجموا على قبته "". وهذا "ختافر بن التوءم" الحصري الكاهن، وكان قد أوتي بسطة في الجسم، وسعة في المال، وكان عاتياً، يأتيه "رئيه" بعد غيبة طويلة، فيقول: "خُنافر" فيجيبه: "شصار ?"، فقال: "اسمع أقل"، قال خنافر: قل اسمع، فقال: عه تغنم، لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية. قال خنافر: أجل، ففال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، انتسخت النحلَ، ورجعت إلى حقائقها الملل، انك سجير موصول،والنصح لك مبذول، وإني آنست باًرض الشام، نفرا من آل العُذام"، حكاماً على الحكام، يذبرون ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزجرت، فعاودت فظلفت، فقلت بم تهيمنون، وإلام تعترون ? قالوا: خطابٌ كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع ياشصار،عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الاثار، تنج من أوار النار، فقلت: وما هذا الكلام ? فقالوا: فرقان بين الكفر والايمان، رسول من مضر، من أهل المدر، ابتعُث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجاً قد دَثرَ، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومعاذ لمن ازدجر، ألف بالآي الكبر، قلت: ومن هذا المبعوث من مضر ? قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشر، وان خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر، وأقبلت اليلك ابادر، فجانب كل كافر، وشابع كل مؤمن طاهر، وإِلا فهو الفراق، لا عن تلاق، قلت: من اًين أبغي هذا الدين ? قال: من ذات الإحرين، والنفر اليمانين، أهل الماء والطين، قلت: أوضح، قال: الحق بيثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل، فهناك أهل الطول والفضل، والمواساة والبذل، ثم املس عتي، فبت مذعوراً أراعي الصباح، فلما برق لي النور امتطيت راحلتي، وآذنت أعبدي، واحتملت بأهلي حتى وردت الجوف، فرددت الإبل على أربابها بحولها وسقابها، وأقبلت أريد صنعاء، فأصبت بها معاذ بن جبل أميراً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبايعته على الإسلام وعلمني سوراً من القرإن، فمنّ الله عليّ بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة" وهكذا اسلم على حد قول أهل الأخبار والفضل يعود في ذلك إلى "رئيه" "شصار" الذي أسلم قبله، وهو من الجن، والجن مثل البشر، منذ ظهر الإسلام بين مسلم وكافر. ولما أسلم "خنافر"، قال شعراً يحمد الله فيه على ان من عليه بالإسلام، ويذكر "رئيه" "شصار" بالخير، إذ لولاه لكان في نار جهنم.

وأسندوا له قوله: ألم ترَ أن الـلـه عـاد بـفـضـلـه  وانقذ من لفح الجـحـيم خـنـافـرا

دعاني شصار للتي لو رفـضـتـهـا  لأصليت جمراً من لضى الهون جائرا 

وهو خبر يرجع سنده إلى "ابن الكلبي". وقد ذكر في الأخبار المنثورة لابن دريد، وقد ذكر انه اسلم على يد معاذ بن جبل باليمن. لا أدري كيف حفظه "ابن الكلبي" ورواه عن والده، الذي صنعه ووضعه، إلا أن يكون والده قد حضر المحاورة فكان يسجلها، وهو ما يعد من المستحيلات.

وقد أمات الإسلام "الكهانة"، فقد اجتثها وحاربها، وحث على نبذ سجع الكهان و أساليب الكهان في الملبس، فكان منهم من قاوم، ثم انخذل، بدخول قومه في دين الله، فدخل معهم فيه. وفي كتب أهل الأخبار قصص على نمط قصة اسلام "خنافر"، وكلام دار بينهم وبين "رئيهم"، دوّ نه أهل الأخبار بالخروف والكلم، لم يتركوا منه حرفاً، وكأنهم كانوا كتاب ضبظ محضرجلسات أمروا بتدوين كل محضر ساعة وقوعه. وتجد أخبار الكهان، وما لاقوه من عنت من "رئيهم" حين أدركوا الإسلام، وما أخبروا به من قرب ظهور الرسول كأخبار العر اف اللهبى "العائف"، و "الغيطلة" الكاهنة، والكاهن "خطر" والكاهن "سواد بن قارب" الدوسي، و "ابن الهيبان"، والماًمور الحارثي، وغيرهم وغيرهم.

ولسجع الكهان، طريقة خاصة به، ميزته عن سجع غيرهم، فهو قصير الفقرات، يلتزم التقفية وتساوي الفواصل من كل فقرتين أو اكثر، يعمد إلى الألفاظ العامة المبهمة المعماة، والى تكوين الجمل الغامضة، ليمكن تأويلها تأويلات متعددة، وتفسيرها بتفاسير كئيرة، لا تلزم الكاهن، فيقع في حرج، كالذي يقعع لو تكلم بكلام واضح صريح. فيظهر في الجاهل الكاذب. أما السجع المنسوب إلى الخطباء، ففقره أطول، وكلمه أوضح، طويل النفس، متحرر نوعاً ما من قيود سجع الكهان بين الفقر تطابق في الطول، وفي فقره بيان مشرق، فواصله كفواصل الشعر من دون وزن. جهد صاحبه أن يجعل الفواصل واضحة صافية، ذات مقاطع مستقلة في الغالب بمعناها، وينتهي الكلام بانتهائها من غير التزام قافية، وقد يكون مرسلاً، خالصاً من تساوي الجمل والتزام القافية، فهو بين سجع وازدواج وترسل. وقد يكون مزدوجاً، فهو سجع خفيف مقبول.

وبالاضافة إلى السجع، واستعمال الألفاظ الغامضة المبهمة، والإيماءة والرموز والتكنية عن الأشياء، تهرباً من التصريح، وحذر افتضاح الأمر، كان الكاهن، يلحف في الأسئلة ويمعن في الاستفسار، حتى يستنبط من ذلك بفطنته وذكائه ما يريد السائل، فيعطيه جواباً مائعاً، شأن جواب السحرة والعرافين، كما كان يعمد إلى القسم بظواهر الطبيعة من كواكب ونجوم،وشمس وقمر،ورياح وعواصف وسحب، وليل ونهار، وشجر وحجر،وإمثال ذلك مما نجده في خطبهم وأقوالهم، وهو شيء يلفت النظر، ويبعث على التعجب من قسم القوم بهذه الأمور. ولكن المتتبع الدارس لعقائد القوم في الجاهلية، ولحياتهم الاجماعية لا يعجب من ذلك، كما لا يعجب من قسمهم بالخبز، والملح، واللبن، والقوس، والعصا، فإن لهذه الأمور وأمثالها معاني عميقة عند أهل الجاهلية، فقدت أكثريتها معانيها في الإسلام، بسبب ابطاله لتلك العقائد، وان بقي حشد منها في نفوس الناس إلى هذا اليوم، بسبب رسوخه في العقل والدم..

وفي القرآن قسم بالسماء، وبالعاديات، وبالتين والزيتون، وبغر ذلك، ذهب المفسرون في سبب القسم بها مذاهب، ففسروا وتأولوا، ولو فكروا إن هذا النوع من القسم، هو أسلوب من أساليب العرب في القسم قبل الإسلام، وأن القرآن انما نزل بلسان العرب، ولذلك اتبع طريقتهم في القسم، لأنه خاطبهم على قدر عقولهم وبلغتهم، عرفوا السبب، ولا زال الأعراب على سجيتهم القديمة في القسم بهذه الأشياء، يقسمون بها كما يقسم المتحضر باعز شيء عنده. والسجع في الواقع باب من أبواب الشعر، والمرحلة الأولى من مراحله، والبذرة التي أنبتت الشعر العربي. ويتكون من فقرات. واذا اخذنا الشعر البدائي الذي يكون المرحلة الأولى من الشعر، نرى انه لا يختلف اختلافاً كبيرأَ عن السجع. و "الكلام المسجع، هو ضرب من ضروب الشعر عند غير العرب. وقد طوّ ر الشعراء السجع، واوجدوا منه الشعر، واذا درسنا أول الشعر العبراني، أو أوليات الشعر عند الشعوب السامية، وعند الشعوب الارية، في انه نمط من أنماط هذا الكلام الذي نسميه "السجع". وهو لا زال يعد شعراً عند كثير من شعوب هذا اليوم.

والمزاوجة والازدواج بمعنى واحد.. وازدوج الكلام وتزاوج أشبه بعضه بعضاً في السجع أو الوزن، والازدواج لون من ألوان الإفصاح عن الشعور بأسلوب من أساليب الأدب المنثور، أخف على النفس من السجع.، وأسهل انقياداً لأنامل الكتاب منه. وهو على كل حال لون من ألوانه، خففت قيود قوافيه، حتى صار على هذا الشكل. ومن الازدواج قول أحد بني أسد يخاطب رجلا شيخاً مات ابن له: "اصبر أبا أمامة، فإنه فرط افترظه، وخير قدمته، وذخر أحرزته". فقال مجيباً له: "ولد دفنته، وثكل تعجلته، وغيب وُ عِدته، والله لئن لم أجزع النفس، لا افرح بالمزيد".

وقد تحدث "الجاحظ". في أثناءحديثه عن الشعوبية ومطاعتها على خطبا، العرب عن اساليب الجاهليين في الكلام في أمورهم الجليلة مثل المنافرة والمفاخرة، وعقد المعاقدة والمعاهدة وأمثال ذلك، ثم عن أخذهم المخصرة، عند مناقلة الكلام"فقال: "وبمطاعنهم على خطباء العرب: بأخذ المخصرة عند مناقلة الكلام" ومساجلة الخصوم بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لم يُقفّ، وبالأرجاز عند المتح، وعندُ مجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادة والمحاورة. وكذلك الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعمال المنثور في خطب الحمالة، وفي مقامات الصلح، وسل السخيمة، والقول عند المعاقدة والمعاهدة، وترك اللفظ يجري على سجيته وعلى سلامته، حتى يخرج على غير صنعة ولا اجتلاب تاًليف،ولا التماس قافية، ولا تكلف لوزن. مع الذين عابوا من الاشارة بالعصي، والاتكاء على أطراف القسي، وخذ وجه الأرض بها، واعتمادها عليها إذا اسحنفرت في كلامها، وافتنّت يومَ الحفل في مذاهبها، ولزومهم العمائم في أيام الجموُع، وأخذ المخاصر في كل حال، وجلوسها في خطب النكاح، وقيامها في خطب الصلح وكل ما دخل في باب الحمالة، وأكد شأن المحالفة، وحقق حُرمة المجاورة، وخطبهم على رواحلهم في المواسم العظام، والمجامع الكبار، والتماسح بالأكف، والتحالف على النار، والتعاقد على المِلح، وأخذالعهد الموكّد واليمين الغموس، مثل قولهم ما سرى نجم وهبت ريح، وبل بحر صوفة، وخالفت جرة" درة". فنحن إذن أمام طرق من الكلام، كل طريق منها يؤدي إلى نوع من الكلام، يستخدم في حالة من الحالات، فمساجلة الخصوم، تكون بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لا يقفى، أي المرسل، أما في حالة الشدة والعمل، مثل المتح، أي الاستقاء من البئر، وفي حالات البناء ورقع الحجر، وفي القتال، فتستعمل الأرجاز، لتنشيط المهمة. واما السجع، فيستعمله الكهان، ويستخدم في المنافرة والمفاخرة، وأما المنثور، أي الكلام المرسل، الحالي من السجع والازدواج، فيستعمل في الحمالة، أي تحمل ديات قوم لا مال لهم، فيقوم غيرهم بتحمل مبلغ الدية، وفي مقامات الصلح، ودفن الأحقاد والصغائن، إلى غير ذلك من حالات. فالسجع، إذن غير النثر، وفي المزاوجة، وغير الرجز. وقد جعل "الجاحظ" الكلام المنثور: أسجاعاً، وازواجاً، ومنثوراً. فهذه في نظره أساليب النثر.

وأنا إذ أصف أسلوب النثر عند الجاهليين، لا أعتي اني أثق بصحة هذا النثر المنسوب اليهم، وأثبت صحة نصه، وانما أنا أصفه مستنداً في وصفي هذا على المدون المعمول عليهم، الوارد الينا في بطون الكتب، لأنه وإن كان في نظرنا مصنوعاً موضوعاً، لكنه صيغ على كل حال وفق أسلوب الجاهليين، وعلى نمط كلامهم، إذ لا يعقل أن يكون الرواة قد اخترعوا تلك الأنماط من الكلام اختراعاً، وأوجدوها من العدم ايجاداً، فهم إذ وضعوا على ألسنة أهل الألسنة من العرب، فإنما وضعوا عن تقليد ومحاكاة، وعلى نمط كلام سابق كان مألوفاً عند أهل الجاهلية الذين أدركوا الإسلام. ودليل ذلك أثره في خطب الخطباء الذين خطبوا أمام الرسول، وفي خطب الخطباء الذين، عاشوا في صدر الإسلام. فأنا حين أرفض النصوص، لا أزعم انه لم يكن لهم نثر، وان النثر انما ظهر وعرف في الإسلام، بل أقر انه قد كان لهم نثر، وكانت لهم خطب وكان لهم كلام، ولكن أقول إن هذه النصوص المتبتة المدوّ نة، هي نصوص لا يجوّ ز العقل أن تكون صحيحة أصيلة مضبوطة، لما قلته من عدم قدرة الذاكرة على المحافظة على أصالة النثر.

وأود أن أستثني الأمثال الجاهلية من هذا التعميم للذي عممته على نصوص النثر الجاهلي، فالأمثال بحكم ايجازها وكثرة انتشارها على الالسنة، ولكونها أداة تعليمية تحفظها الذاكرة، ولا نخطىء فيها كثيراً، حافظت لذلك على أصلها ونصها، ودليل ذلك اننا لا نزال نضرب الأمثال بها حتى اليوم، ثم إن منها ما قد ضرب به مثلاً في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي، وفي خطب ا الخلفاء الراشدين وكتبهم، ولهذا فنحن لا نبتعد عن العلم إن قلنا بصحتها من حيث النص والمعنى، أي من حيث الضبط بالكلم ومن حيث المحافظة على المعنى. أما بقبة النثر، فأنا على رأيي من عدم إمكان القول بصحة نصوصه،وإن كنت أبى افق على جواز بناء بعض النصوص على معان جاهلية، فيكون النص في هذه الحالات من وضع الروة، أما المضمون فجاهلي، تطور وتزوق حسب الأفواه التي روته ودبجته، بحيث ظهر على الصورة التي وصلت الينا وإذا كان الحال على هذا المنوال، فأين يا ترى نجد النثر ? وجوابي أنك لا تجد النثر الصحيح المنثور بهذه العربية البينة الفصيحة إلا في القرآن الكريم. فالقرأن الكريم، لكونه كتاب الله وقد دوءن ساعة نزوله، دو"نه كتبة عند نزول الوحي، وأخذه عتهم كتبة آخرون وحفظه الحفاظ، وقرأ الكثير منهم ما كتبه من آي أو ما حفظه منها ومن السور على الرسول، فأبد قراءتهم،وثبت كتابتهم، فهو لهذا الكتاب الوحيد المنزل بلسان عربي مبين. لا شبهة في ذلك ولا شك. أرشدنا إلى أساليب الجاهليين في فنون القول، بمخاطبته لهم بلسانهم وبطرق بيانهم، وبأسلوب محاججتهم، وضرب لهم الأمثال باًمثالهم، كي تكون جمرة مقبولة عندهم، وخاطبهم على قدر عقولهم، بلسان عربي مبين، يفهمه كل العرب، ففيه إذن نجد نثر العرب، وإن كان هو أبلغ النثر، وفيه تجد حياة الجاهليين وعقليتهم.

وقد وصف "الجاحظ" أسلوب القرآن بقوله: "خالف القرآن جميع الكلام الموزون والمنثور، وهو منثور غير مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع، وكيف صار نظمه من أعظم الرهان، وتاليفه من أكبر الحجج".

ثم نجد هذا النثر في،الحديث، في الحديث النبوي، وفي الحديث موضوع وضعيف، إلا إن فيه ما لا يشك في صحته. وفيه ما روي بالمعنى، لتجويزهم الرواية عن الرسول بالمعنى، خشية الخطا في النص، والتقول عليه، ومن تقول على رسول الله متعمداً، تبوأ مقعده في النار، وقد روي الحديث رواية، أي مشافهة، غير إن من العلماء من ذكر إن "عبدالله بن عمرو بن العاص"، كان قد كتب حديث الرسول، و ذلك انه استاًفنه في أن يكتب حديثه فاًذن له. وروي عنه انه قال حفظت عنه ألف مَثَل، وروي عن "ابي هريرة" قوله: "ما أجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب". ولكنا لم نسمع بما حل بالصحف التي دوّ ن بها "عبدالله" حديث الرسول، ولا أدري اذا كان ما روي عنه في المساند، مثل مسند "أحمد بن حنبل" قد نقل من تلك الصحيفة نقلا" أم رواية.

وهناك روايات تذكر إن "همام بن منبه"، أخذ عن "أبي هريرة"، حديث رسول الله، وكتب ما أخذه في صحيفة عرفت ب "الصحيفة الصحيحة" في مقابل "الصحيفة الصادقة" المنسوبة لعبدالله بن العاص، وتجد نقولاء منها في البخاري، وفي مسند " أحمد بن حنبل". وقد نشرت هذه الصحيفة في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق. وهذه الصحيفة، إن صح انها من وضع "همام بن منبه" وانها أصيلة، ذات أهمية كبيرة بالطبع، لأنها أقدم صحيفة نعرفها في الحديث بعد صحيفة "عبدالله بن عمرو بن العاص"، وان كانت دونها في المنزلة، لأنها أخذت عن لسان "أبي هريرة"، واخذ "عبدالته" حديثه من فم الرسول، ومن الجائز أن يكون حديث أبي هريرة بلسانه، أما حديث "عبدالله"، فربما كان بلسانه أيضاً، في انه كان ينقله من فم الرسول فيحفظه ثم يدونه، فهو اقرب إلى الصحة من صحيفة "همام". وربما كان "عبدالله"، قد دوّ ن حديثه بحضرة الرسول، فإن هذا الموضوع، لا زال مجهولاً، لم يبحث بحثاً علمياً صحيحاً، وهو ينتظر من الباحثن من يقوم بالبحث عنه.

ويظهر من أحاديث تنسب إلى الرسول مثل حديث: "لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه"، ومن أخبار تنسب إلى "أبي بكر" و "عمر" في النهي عن كتابة الحديث، مثل ما نسبوا إلى"عمر" من انه كتب إلى الأمصار من كان عنده شيء من الحديث فليمحه، ومن انه أنشد الناس أن ياًتوه بصحف الحديث، فلما أتوه بها أمر بتخريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب ! ومثل ما نسب إلى "علي" من قوله: "اعزم على كل من عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم"، وأمثال ذلك مما نسب إلى الصحابة في النهي عن كتابة الحديث، وفي الحث على تحريق ماقد كان عندهم من صحف وكتب أو إمحائه، انه قد كان عند الصحابة صف فيها حديث رسول اذ كتبت في أيام الرسول وبعده، كانوا يراجعونها ويستعزون بها، وكان في بعضها ما يشك في صحته وفي صدوره من الرسول، ولخوف الرسول وصحابته من إن ياتي يوم تكون فيه تلك الصحف مرجعاً للناس مثل رجوعهم للقرآن، يتخذونها سنداً لهم، اتخاذ اليهود للمثناة، أي "المشنا"، أمروا بانلافها وبالنهي عن التدوين. والاكتفاء بالحديث مشافهة، وبنشره بالرواية. وهي طريقة غير مامونة أيضاً، فالتدوين أضمن منها وأسلم، ولكنها طربقة كانت متبعة في ذلك الحين، لأسباب لا أستطيع إن أتحدث عنها في هذا المكان، لأن الحديث عن تدوين حديث رسول الله وعن ورود النهي عن تدوينه يخرجنا عن الحدود المرسومة لهذا الكتاب. على كل فإن أخذ المحدثين بمبدا رواية حديث الرسول بالمعنى، كان هو السبب الذي حمل علماء النحو واللغة على عدم الاستشهاد به في شواهد القواعد واللغة، كما بينت ذلك في موضعع آخر من هذا الكتاب.

وفي رسائل الرسول وكتبه ووصاياه وخطبه وأوامره، وفي خطب الوفود التي كانت تفد عليه، وفي خطب الصحابة، أمثلة على طبيعة وأسلوب الخطب عند الجاهليين، ولا سيما القديم من تلك الخطب الذي ألقاه الخطباء أمام الرسول قبل دخولهم في الإسلام، فهو في الواقع استمرار لأسلوب الخطاب في الجاهلية، القي بالطريقة المالوفة عندهم التي تمثل التفكير الجاهلي، والعقلية الجاهلية أيام ظهور الإسلام. وإن كنت اشك في صحة كثير من الخطب والرسائل المنسوبة إلى الرسول ذلك لأننا إذا درسنا نصوص هذه الرسائل، نجد أصحاب السير والتواريخ يروونها بصور مختلفة، وفي اختلافهم هذا، د لالة على ان الرواة لم ينقلوها من أصل مكتوب،وإنما اخذوا النص بطريق المعنى والرواية، فوقع من ثم هذا الاختلاف. أضف إلى ذلك شل التزوير، فقد نص المؤرخون وأرباب السير على أن بعض أهل الكتاب وسادات القبائل والرجال، قدموا للخلفاء كتباً مزورة فيها إقرار قرار وإحقاق حق، للمطالبة بتنفيذ ما جاء فيها، وفي حديث: "من كذب على متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار"، وحديث آخر يشبهه هو: "إن الذي يكذب علطّ يبتي له بيتاً من النار"، وأحاديث أخرى من هذا القبيل، دلالة على وقوع الكذب على الرسول في حياته وبعد وفاته.

وقد ورد أن الرسول "حين جاءته وفود العرب، فكان يخاطبهم جميعاً على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلىّ ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين أن أصحابه رضوان الله عليهم ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوُجه اليهم الخطاب كانوا يجهلون من ذلك اشياء كثيرة: حتى قال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسمعه يخاطب وفد بتي نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره ?فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الإختلاف فطرياً في "العرب فلم يلتفتوا إليه".

فإذا كان الأمر من اختلاف لغات العرب على هذا النحو، واذا كان الصحابة ومنهم ا الخلفاء، وهم على ما هم عليه من فصاحة وبلاغة، لم يفهموا كلام الوفود، فهماً صحيحاً، حتى كان الرسول يفسر لهم ما كان يقوله للوفود، وما كانت الوفود تقوله له، فكيف نصدق بصحة نصوص خطبهم وكلامهم، وقد ألقيت بلهجاتهم الخاصة، ولم يكن هناك كتبة ولا مدونون، يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ومحاضر كلامه معهم، وما كان يقع بحضرته من نقاش وكلام ?.

وأنت إذا راجعت خطب الرسول التي خطها في "حجة الوداع" تجدها وقد رويت بصور مختلفة، وفي هذا الاختلإف دلالة بينة على انها لم تنقل من أصول مكتوبة، وانما أخذت من الأفواه، وإلا لما جاز عقلاً وقوعه أبداً. وسبب ذلك، أن الناس في ذلك الوقت، لم يكونوا قد تعودوا لا في الجاهلية ولا في الإسلام اتخاذ كتاب لتدوين ما كان يقع لهم من أحداث، ولم يكن عندهم مراسلون يرافقون الملوك والحكام وسادة القبائل والوفود، لوصف مواكب الملوك ومشاهدهم وحروبهم، وخطبهم ومفاوضاتهم مع سادات القبائل. وكذلك كان الحال في الإسلام، بل ولا رواة لهم ذاكرة قوية، لحفظ أحاديث المجالس والأحداث، واذاعتها بين الناس، لأن العناية بحفظ الأحداث والتواريخ وتخليدها تقتضي وجود وعي باًهميهَّّ تدوين التأريخ، ولم يكن هذا الوعي معروفاً آنذاك. ولهذا جائت أخبار الحوادث عن طريق شهود عيان رووا ما شاهدوه لأصحابهم، كما يروي أي إنسان ما قديقع له من أمور لأصدقائه،وهؤلاء قصوا تلك المرويات على أصحابهم وعلى من جاء بعدهم بلغتهم، وبهذه الطربقة وصلت الأخبار إلى المدونين عندما بدئ بالتدوين.وليس من المعقول بالطبع محافظة الذاكرة على النصوص الأصلية للخطب وللكلام، ولقول الراوي الأول للاحداث. وليس من المعقول أيضا" وصولها سالمة تقية من كل تغيير أو تبديل أو تحريف، ولا سيما في الأمور العاطفية التي تضرب على أوتار العصبية. ولهذه الأسباب وغيرها فنحن لا نستطيع الاطمئنان إلى صحة هذه الأخبار المروية من الأفواه، لما محتمل أن يكون قد وقع فيها من زيف أو من تحريف عن عمد أو من غير عمد. ولو كانت الذاكرة تعي كل كلام وتحفظ كل حديث بالحرف والكلمة، لما اجاز العلماء رواية حديث الرسول بالمعنى، إذ كان من الصعب حفظه بالحرف. ولا أظن أن أحداً يقول إن حفظ أخبار الجاهلية ونصوص كلام رجالها،أهم عند العرب من حفظ حديث الرسو ل وأنا أشك في صحة أكثر ما نسب إلى "مسيلمة" من كلام وقرآن. وهو "مسيلمة بن حبيب الحنفي"، المكنى ب "أبي ثمامة"، والمنعوت بين المسلمين ب "الكذاب". واسمه الصحيح "مسلمة"، وقد صغر في الإسلام، ازدراء بشأنه. فقد روي انه صنع قرآناً مضاهاة للقرآن، غير انهم لم يتحدثوا بشيء عن قرآنه. واذا صح ما ذكره أهل الأخبار من انه ادعى الوحي بمكهَ أو باليمامة قبل الإسلام، وانه نزّ ل على نفسه آيات زعم انها تنزيل من الرحمان، فيكون قد باشر بتأليف قرآنه قبل الوحي.

وذكر إن في حقه نزلت الاية: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، أو قال أوحي إلى ولم يوح إليه بشيء. ومن قال سانزل مثل ما أنزل الله". فقد ذكر علماء التفسير إن عبارة: لا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه بشيء"، نزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة، فيما كان يسجع ويتكهن به. ومن قال: ساًنزل مثل ما أنزل الله نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي صرح،أخي بتي عامر بن لؤي، ءكان يكتب، للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيما يملي: عزيز حكيم، فيكتب: غفور رحيم فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حول، فيقول: نعم سواء، فرجع عن الإسلام م، ولحق بقريش. وقال لهم: لقد كان ينزل عليه عزيز حكيم، فأحوله ثم أقول لما أكتب،فيقول: نعم سواء". وكَان من حديث "سيلمة" إن قريشاً قالت للرسول: "بلغنا افه ايما يعلمك هذا رجل باليمامة، يقال له الرحمان، وإنا والله ما نؤمن بالرحمان ابداً"، وذكر أهل الأخبار إن قريشاً "حين سمعت: بسم الله الرحمن الرحيم، قال قائلهم: دق فوك، انما تذكر مسيلمة رحمان اليمامة"، لأنهم كانوا قد سمعوا بدعوته إلى عبادة الرحمان، قبل نزول الوحي على الرسول. وورد "انهم لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن قالت قريش: أتدرون ما الرحمن ? هو كاهن اليمامة !". وقد قالوا لمسيلمة: رحمان، وقالوا أيضاً فيه: رحمان اليمامة.

وأنا لا أستبعد احتمال مجيئه إلى مكة قبل الإسلام. فقد ذكر انه تزوج "كبشة" "كيسة بئت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس"، وهي من مكة، فلا يعقل عدم مجيئه. إلى مكة وإقامته بها بعض الوقت، ومجيئه إليها بين الحين والحين. ومن هنا كان لأهل مكة علم بدعوة مسيلمة إلى عبادة "الرحمان": وقد زعم أنه "كان يقول: أنا شريك محمد في النبوة، وجبريل عليه السلام ينزل عليّ كما ينزل عليه، وكان.رجَآل بن عنفوة من رائشي نبله، والحاطبين في حبَله، والساعين في نصرته، وكان مسيلمة يقول: يا بني حنيفة، ما جعل الله قريشاً بأحق بالنيوة منكم، وبلادكم أوسع من بلادهم، وسوادكم أكثر من سوادهم، وجبريل ينزل على صاحبكم مثل ما يزل على صاحبهم. ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد الناس يتذاكرونه وما ييلغهم عنه من قوله وقول بني حنيفة فيه، فقام يوماً خطيباً، فقال بعد حمد الله والثناء عليه. أما بعد، فإن هذا الرجل الذي تكثرون في شأنه كذاب في ثلاثين كذاباً قبل الدجال، فسماه المسلمون مسيلمة الكذاب، وأظهروا شتمه وغيه و تصغيره، وهو باليمامة يركب الصعب والذلول في تقوية أمره ويعتضد برجال بن عنفوة، وهو ينصره ويذب عنّه ويصدق أكاذيبه، ويقرأ أقاويله التي منها: والشمس وضحاها، في ضوئها ومنجلاها. والليل إذا عداها، يطلبها ليغشاها، فأدركها حتى أتاها وأطفأ نورها فمحاها".

. "ومنها: سبح اسم ربك الأعلى، الذي يسر على الحبُلى، فأخرج منها نسمة تسعى من بين أحشاء ومعى، فمنهم من يموت ويدس في الئرى، ومنهم من يعيش ويبقى إلى أحل ومنتهى، والله يعلم السرّ وأفى، ولا تخفى عليه الآخرة و الأولى ومنها: اذكروا نعمة الله عليكم واشكروها؛ إذ جعل لكم الشمس سراجاً، والغيث ثجاجاً، وجعل لكم كباشاً ونعاجاً، وفضة وزجاجاً، وذهباً وديباجاً، ومن نعمته علكم ان أخرج لكم من الأرض رماناً، وعنباً، وريحاناً، وحنطة و زؤا ناً. " وكان أبو بكر إذا قرع سمعه هذه الترهات يقول: أشهد أن هذا الكلام لم يخرج من إله" "وكان رجال بن عنفوة صاحب مسيلمة قدم المدينة مراراً، وقرأ القرآن وأظهر الايمان، وأسرّ الكفر. ويروى إن للنبي صلى الله عليه وسلم، بينما هو جالس في "أصحابه إذ سمع وطئاً من خلفه، فقال: هذا وطء رجل من أهل النار، فإذا هو رجّال بن عنفوة. فلما قدم وفد حنيفة على اي صلى الله عليه وسلم - وفيهم مسيلمة إلا انه لم يلقه - وأظهروا الإسلام وأرادوا ألانصراف، أمر لهم عليه الصلاة والسلام بجوائز كعادته في الوفود، وقال: هل بقي منكم أحد ? قالوا: لا، إلا رجل منا يحفظ رحالنا - يعنون مسيلمة - فقال صلى الله عليه وسلم: ليس بشرَكم مكاناً. فلما رجع الوفد إلى مسيلمة وقد بلغه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم:.قد سمعتم قول محمد في ": ليس بشركم مكاناً، وقد أشركني في الأمر بعده، فعليكم به. ولما انصرفوا إلى اليمامة أعلن مسيلمة النبوة، وادعى الشركة، وفتن أهل اليمامة، وانقسموا بين مصدّ ق ومكذب، وراضٍ وساخط، وكتب مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كتاباً قال فيه: إلى النبي محمد رسول الله من مسيلمة رسول الله، أما بعد، فإني قد أشركت في الأمر معك، وان لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم يعتدون ولا يعدلون. وختم الكتاب وأنفذه مع رسولين، فلما قرىء الكتاب على النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهما: ما.تقولان ? قالا: نقول ما قال أبو ثمامة، فقال: أما والله لولا إن الرسل لا يقتلون لقتلتكما.

واملي في الجواب: من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ولما صدر الرسولان إلى مسيلمة الكذاب افتعل كتاباً يذكر فيه انه جعل له الأمر من بعده، فصدّقه أكثر بتي حنيفة.

وبلغ من تبركهم به انهم كانوا يسألونه أن يدعو لمريضهم،ويبارك لمولودهم، وجاءه قوم بمولود لهم فمسح رأسه فقرع. وجاءه رجل يساله إن يدعو لمولود له بطول العمر، فمات من يومه.

وكان ثمامة بن أثال الحنفي يقشعر جلده من ذكر مسيلمة، وقال يوماً لأصحابه: إن محمداً لا نبي معه ولا بعده، كما إن الله تعالى لا شريك له في ألوهيته، فلا شريك لمحمد في نبوته. ثم قال: أين قول مسلمة: يا ضفدع نقي نقي، كم تنقين ! لا الماء تكدرين، ولا الشرب تمنعين،من قول الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: حم. تنزيل الكتآب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. فقالوا: أوقح بمن يقول مثل ذلك مع مثل هذا.

وقد روي قول "مسيلمة" في الضفدع على هذا النحو: "يا ضفدع بنت ضفدعين: نقي ما تنقين. نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين". وروي أن وفد اليمامة لما قدم على "أبي بكر" بعد مقتل مسيلمة، "قال لهم: ما كان صاحبكم يقول ? فاستعفوه من ذلك، فقال: لتقولن. فقالوا: يا ضفدع نفي كم تنقين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين... في كلام من هذا كثير. فقآل أبو بكر ويحكم إن هذا الكلام لم يخرج من إل " ولا بر، فاين ذهب بكم"?، أو آنه قال: "هذاكلام ما اتى من عند آل، أي من عند الله. وهو في الأسماء الأعجمية إيل، مثل إسرافيل، وجبريل، وميكائيل، وإسرائيل، واسماعيل". وقيل الإل: الربوبية، والأصل الجيد والمعدن الصحيح، أي لم يجىء من الأصل الذي جاء منه القرآن. ويجوز أن يكون بمعنى النسب والقرابة، من قوله تعالى: "لا يرقبون في مؤمن إلاّّ ولا ذمة". وقول حسان: لعمرك إن إلك من قـريش  كإلء السقب من رأل النعام 

وقد ذكر "الطبري" في مقدمة تفسيره، أن القرآن لما نزل على الرسول، "أقر جميعهم بالعجز وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا على أنفسم بالنقص، إلا من تجاهل منهم وتعامى، واستكبر وتعأشى، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز، ورام ما قد تيقن أنه غير قادر عليه، فأبدى من ضعف عقله ما كان مستوراً ومن عيَ لسانه ما كان مصوناً، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق، والجاهل الأحمق، فقال: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، فالحابزات خبزاً، والثاردات. ثرداً، واللاقمات لقماً... ونحو ذلك من الحماقات المشبهة دعواه الكاذبة". والطري وإن لم يصرح باسم قائل هذه الحماقات، لكنه قصد به مسيلمة من غير شك اما أن تلك الآيات آيات قالها "مسيلمة" حقأ، فتلك قضية لا يمكن إثباتها، فلما قتل، وضع أصحابه عليه أموراً كثيرة، قد يكون في جملتها هذه الآيات أما قرآنه الذي قيل إنه وضعه يضاهي به القرآن، فقد هلك بهلاكه، ولم أجد أحداً ذكر أنه وقف عليه، ونقل منه، ولعله كان كلاماً. لم يسجل في حياة مسيلمة، وإنما كان محفوظاً في صدر صاحبه وفي صدور أتباعه، ودخل من دخل من أصحابه في الإسلام طمس أثر ذلك القرآن.

وقد دون "الرافعي" الآيات التي أخذتها من تفسير الطبري، على هذه الصورة: "والمُبذرات ز رَعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقَماً، إهالة وسمناً... لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر،ريفكم فامنعوه، والمُعتر فآووه، والباغي فناوئوه"..

ونسب "الرافعي" له قوله "والشاء وألوانها، واعجها السود والبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، انه لعجبَ محض، وقد حرم المذق فما لكم لا تمجعون.

وقوله: "الفيلُ ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل". وروي انه "جعل يسجع لهم الأساجيع ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا"، أو انه قال: "ألم ترَ إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى". روي انه قال هذه الآيات لسجاح لما اراد الدخول بها، فقالت:"، وماذا أيضاً ? قال: أوحى إلي: إن الله خلق النساء أفراجأ، وجعل الرجال لهن ازواجاً، فنولج فيهن قُسعاً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً انتاجاً. قالت أشهد انك نبي، قال: هل لك إن أتزوجك فآ كل بقومي وبقومك العرب ! قالت: نعم، قال: ألا قوفسا إلى الـنـيك  فقدُ هبي لك المضجع

وإن شئتِ فقي البـيت  وإن شئت ففي المخدع 

وإن شئت سلقـنـاك  وإن شئت على أربع 

وإن شئت بثـلـثـيهَ  وإن شئت به أجمع

قالت: بل به اجمع.،قال بذلك اوحى إليّ فأقامت عنده ئلاثاً ثم انصرفت إلى قومها، فقالوا: ما عندك ? قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته، قالوا: فهل أصدقك شيئاً ? قالت: لا، قالوا: ارجعي إليه، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق فرجعت، فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن، وقال: ما لك ? قالت أصدقني صداقاً، قال: من مؤذنك ? قالت: شبث بن ربعى الريآحي، قال: علي به، فجاء، فقال: ناد في أصحابك إن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد: صلاة العشاء الاخرة وصلاة الفجر". وأما "سيف" فذكر انه صالحها "على أن يحمل إليها النصف من غلا"ت اليمامة، وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها، فباح لها بذلك، وقال: خلفي على السلف من يجمعه لك، وانصرفي أنت بنصف العام، فرجع فحمل إليها النصف، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة.

وذكر أن "سجاح" لما دخلت قبة "مسيلمة"، "قالت له: اخبرني بما ياًتيك به جبريل ? فقال لها: اسمعي هذه السورة: انكن معشر النساء خلقن أمواجاً، وجعل الرجال لكن أزواجاً، يولجن فيكن إيلاجاً، لا ترون فيه فتوراً ولا إعوجاجاً، ثم يخرجونه منكن إخراجاً، فقالت له: صدقت، والله إنك لنبي مرسل"، وهي قصة أخذت من موارد سابقة، مثل الطبري، غير أنها غيرت فيها بعض التغبير، تنتهي بأنه رفع عن قومها صلاهّ العشاء والصبح لأجل المهر. - وزعم أن "من قرآن مسيلمة التي يزعم أنه نزل عليه، لعنة الله عليه: والنازعات نزعاً، والزارعات زرعاً، والحاصات حصداً،، والذاريات ذرواً، فالطاحنات طحناً، والنازلأت نزلاً، فالجامعات جمعاً، والعاجنات عجناً، فالخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، فالاكلات أكلاً، والماضغات مضغاً، فالبالعات بلعاً".

وقد اتخذ قتل "مسيلمهّ" فخراً، فادعى قتله بنو عامر بن لؤي، وادعى بعض الخزرج قتله، وادعى "بنو النجار" قتله، وادعى "حبشي" قاتل حمزة قتله، وكان "معاوية يدعي قتله" ويدعي ذلك له "بنو أمية". وذكر أن "عبد الملك بن مروان" قفىّ لمعاوية بقتل مسيلمةْ، وهو قضاء سياسي لا أصل له بالطبع.

ويظهر إن بتي حنيفة بقوا على تعلقهم بمسيلمة، حتى بعد مقتله وذهاب امره.

ففي خبر ينسب إلى "ابن معيز" السعدي انه مر على مسجد بني حنيفة، فسمعهم يذكرون "مسيلمة"، ويزعمون انه نبي، فأتى "ابن مسعود" فاًخبره، فبعث اليهم الشرط، فجاموا بهم فاستتابوا فخلي عنهم، وقدم "ابن النواحة" فضرب عنقه. هذا، ويدل تعلق "بتي حنيفة" وغيرهم من عرب اليمامة بمسيلمهَ، واستماتتهم في الدفاع عنه، وتذكرهم له حتى بعد هلاكه، على انه كان شخصية موثرة قوية، سحرت أتباعها، حتى انقادوا له هذا الانقياد. وقد نص "ابن حجر" على قتل "ابن مسعود" لابن النواحة، إلا انه لم يذكر إن ذلك كان بسبب اعتقاده بنبوة "مسيلمة"، وانما ذكر انه "كان قد اسلم ثم ارتد فاستتابه عبدالله بن مسعود، فلم يتب فقتله على كفره وردته". امم "ابن النواحة" "عبادة بن الحارث" احد بني عامر بن حنيفة.

ويروى إن "الألخل" الضبعي، قال في مسيلمة: لهفاً عليك أبا ثـمـامة  لهفاًعلىُ ركني شمامه

كم آية لـك فـيهـــمُ  كالبرق يلمع في غمامه 

وكان "الضبعي" شاعراً، زعم انه ادعى النبوة، وكان يقول: لمضر صدر النبوة، ولنا عجزها، وقد ضرب عنقه "عمر بن هبيرة"، ومن شعره: لنا شطر هذا الأمر قسمهّ عادل  متى جعل الله الرسالة ترتبـا

اي راتبة في واحد، وسئل "الأحنف بن قيمس" رأيه في مسيلمة، فقالا: "ماهو بنبي صادق ولا بمتنبىء حاذق.

وانا لا استبعد ما نسب إلى "مسيلمة" من دعوى نزول الوحي عليه، وتسمية ذلك الوحي "قرآناً" أو كتاباً أو سفراً، أو شيئاً آخر، ولكني استبعد صحة هذه الايات التي نسبتها الكتب إليه، وأرى أن أكثرها ورد بطريق آحاد، فلما نقلها الخلف عن السلف، وكثر ورودها في الكتب ظهرت وكأنها أخبار متواترة، وصارت في حكم ما أجمع عليه. وقد رويت بعض الآيات مئل:آية الضفدع، بصور متعددة مختلفة، مع أفها أشهر وأعرف آية أو آيات نسبت إليه، فما بالك بالآيات الأخرى، ثم إننا نجد الرواة يناقضون أنفسهم كثيراً فيما نسبوه إليه، وبعضه مما لا يعقل صدوره من مسيلمة، مثل شعره الذي قاله لسجاح، حين أراد الدخول بها. وهل يعقل أن يقول إنسان يدعي النبوة مثل هذا الكلام الفاحش أمام الناس، ليدون ويسجل عليه! وقد ذكر "ابن النديم" إن لابن الكلبي مؤلفاً خاصاً ألفه في مسيلمة دعاه: "كتاب مسيلمة الكذاب، لم يصل الينا، وله كتاب آخر في بني حنيفة اسمه: "كتاب أيام بني حنيفة"، وهم قوم مسيلمة، وكتاب دعاه: "كتاب أيام قيس بن ثعلبة".

وزعم أن من كلام "طليحة" الأسدي الذي قاله لأصحابه: والحمام واليمام، والصرد والصو ام، قد صمن قبلكم بأعوام، "ليبغن ملكنا العراق والشام". وروى "الطبري" سجعاً من سجع "سجاح"، وكانت نصرانية راسخة في النصرانية، قد علمت من علم تغلب، هو قولها لأتباعها: "عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة"، فلما جاءت مع قومها اليمامة، قال لها مسيلمة: لا لنا نصف الأرض، وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش، فحباك به، وكان لها لو قبلت. فقالت: لا يرد النصف إلامن حنف، فاحمل المنصف إلى خيل تراها كالسهف. فقال مسيلمة: سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذطمع، ولا زال اًمره في كل ما سرّ نفسه يجتمع. رآكم ربكم فحياكم، ضمن وحشة خلاكم، ويوم دينه أنجاكم، فأحباكم علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجاّر، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم و الأمطار.

وقال أيضاً: لمّا رأيت وجوههم حسُنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت، قلت لهم: لا النساء تاًتون، ولا الخمر تتشربون، ولكنكم معشر أبرار تصومون يوماً، وتكلفون يوماً، فسبحان الله !إذا جاءت الحياة تحيون، والى ملك السماء ترقون ! فلو انها حبة خردلة، لقام عليها شهيد بعلم ما في الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور وكان مما شرع لهم مسيلمة إن من أصاب ولداً واحداً عقباً لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن فيطلب الولد، حتى يصيب ابنأَ ثم يمسك، فكان قد حرّم النساء على من له ولد ذكر و بلاغة الكلام معروفة عند الجاهليين، فقد كانوا ينعتون المتكلم الجيد بالبليغ، وفي القرآن الكريم: "وقل لهم في أنفسم قولاَ بليغاً". والبليغ الفصيح الذي يبلغ بعبارته كنه ضميره ونهاية مرامه. سأل "معاوية" "صحار بن عياش" العبدي"، ما البلاغة ? فقال: لا تخطىء ولا تبطىء. أو أنه قال له: ما البلاغة ? قال: الإبحاز. قال: ما الايجاز ? قال: أن لا تبطىء ولا تخطىء وكان قد دهش من فصاحته وبلاغته،-فقال له: ما هذه البلاغة فيكم ? قال: شيء يختلج في صدورنا فنقذفة كما يقذف البحر بزبده.

وقد ميز "الطبري" وغيره من العلماء بين الخطباء وبين الفصحاء والبلغاء، فالخطباء هم من جماعة صناع الكلام، وصناعتهم صناعة الخطب، وذكر بعدهم "البلغاء"، صناع البلاغة، ثم "الشعر" والفصاحة، فجعل للشعر في مقابل الفصاحة، ثم السجع والكهانة، وقال: " كل خطيب منهم وبليغ، وشاعر منهم وفصيح"، فالخطيب هو الذي يخطب باسم الوفد أو القوم، وله لذلك عندهم مقام جليل، لأنه عقل من يتكلم باسمهم ولسانهم، والبليغ من يتحدث ويتكلم في المجالس والأندية، بكلام بليغ رصين، والفصيح من يفصح ويعرب بلسانه، ونجدهم يقولون أحياناً خطيب فصيح، وشاعر فصيح، فالفصاحة صفة تلحق بالمتكلم ناثراً كان أو كان شاعراً.

وللبيان عند العرب مقام كبير. وقد أشاد القرآن بالبيان، فقال: "الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان" فجعل الببان في جملة ما علمه الله الإنسان. ونعت القرآن بانه نزل "بلسان عربي مبين"، ووصف القرآن بقوله: "طس،تلك آيات القرآن وكتاب مبين". وينسب إلى الرسول قوله: "إن من البيان لسحرا". وورد في المثل: "جرح ا السان كجرح اليد. هو في شعر امرىء القيس". يضرب في تاثير الوقيعة، وفي أئر القول في فعل الناس، وروي أن ذوي الفهم والعلم من قريش تاثروا ببلاغة القرآن وفصاحته، فروي أن "الوليد بن المغرة"، وكان من بلغاء قريش وفصائحهم ومن علمائهم بالشعر، لما دخل على "أبي بكر" يساًله عن القرآن "فلما أخره خرج على قريش، فقلل: يا عجباً لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر، ولا بسحر، ولا جهني من الجنون"، أُ انه قال لما سمع القرآن: "والله لقد نظرت فما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس بشعر وان له الحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وانه ليعلو وما يعلى،وما أشك أنه سحر"، أو أنه قال: "سمعت قولاً حطواً أخضر مثمراً، يأخذ بالقلوب. فقالوا: هو شعر. فقال: لا والله ما هو بالشعر، ليس أحد أعلم بالشعر مني، أليس قد عرضت على الشعراء شَعرهم ! نابغة وفلان وفلان. قالوا: فهو كاهن. فقال: لا والله ما هو بكاهن قد عرضت علي الكهانة. قالوا: فهذ سحر الأولين اكتتبه. قال: لا أدري إن كان شيثاً فعسى هو إذا سحر يؤثر"، أو أنه قال أشياء اخرى من هذا القبيل، اتفقت في المعنى والمقصد، واختلفت في العبارات، كما روي أن قوماً من قريش ومن غيرهم، أسلموا بتاًثر بيان القرآن عليهم، فقد روي إن "عمر بن الخطاب" أسلم على ما يقال حين سمع القرآن. روي عنه انه قال: "خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أتعجب من تأليف القرآن. فقلت هذا والله شاعر، كما قالت قريش. فقرأ: انه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر، قليلاً ما تؤمنون. فقلت كاهن. قال: ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون حتى ختم السورة. قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع". وهي رواية تخالف ما جاء في خبر اسلامه، من انه كان قد خرج يريد قتل الرسول، فتلقاه "نعيم بن عبدالله" النخام، وكان من المسلمين، فقال له: أين تريد يا عمر ? فقال له: "اريد محمداً هذا الصابىء الذي فرّ ق أمر قريش وسفه احلامها، وعاب دينها وسب آلهتها، فاقنله"، فقال له "نعيم":،"أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم قال: وأي أهل بيتي ? قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فا طمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمداً على دينه فعليك بهما"، فرجع عمر عامداً إلى اخته وختنه وعندهما "خباب بن الأرت" معه صحيفة فيها "طه" يقرئهما اياها، فلما سمعوا حس، عمر، أخذت "فاطمة" الصحيفة. فلما دخل "عمر"، قال: ما هذه الهينمة التي سمعت ? قالا: ما سمعت شيئا، ثم قال لأخته اعطني هذه الصحيفة التي سمعتم تقرأونها أنظر ما هذا الذي جاءبه محمد. فأبت أخته اعطاءها. إلا أن يغتسل، فاغتسل عمر، فأعطته الصحيفة وفيها "طه" فقرأها وتأثر بها فأسلم.

ورووا أن "سويد بن الصامت"، صاحب صحيفة لقمان، كان ممن أعجب بالقرآن، ورووا أن "جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل"، وكان من أكابر قريش ومن علماء النسب، قدم على النبيّ، فسمعه يقرأ "الطور"، فأثرت القراءة فيه، وقد أسلم فيما بعد، بين الحديبية والفتح، وقيل في الفتح. والفصاحة في معنى البلاغة، فهي مرادف لها في الاستعمال. والفصيح هو البين في اللسان والبلاغة، ولسان فصيح، أي طلق. وقد اشتهر "قس بن ساعدة الايادي" في الفصاحة حتى ضرب به المثل فيها، فقبل: أفصح من قس، وأنطق من قس، وأبين من قس، أي أفصح، وأبلغ من قس. وقد ذكره "الأعشى" بقو له: وأبلع من قسّ وأجرأ من الذي بذي  الغيل من خفان أصبـح خـادرا

كما ذكزه الحطيئة بفوله: وأبون من قس وأمضى إذا مضى  من الريح إذ مسّ النفوس نكالهاْ

ونسبوا إلى "قس" قوله ينصح ولده: "إنّ المعا تكفيه البقلة. وترويه المدقة، ومن عيرك شيثاً ففيه مثله، ومن ظلمك وجد من يظلمه، ومتى عدلت على نفسك عَدَل عليلك من فوقك،وإذا تنهيَنتَ عن شيء فانْهَ نفسك، ولاتجع ما لا تأكل، ولا تأكل ما لا تحتاج إليه، وإذا ادخرت فلا يكونن كنزك إلا فعلك. وكن عف العيلة،مشترك الغنى، تسد قومك. ولا تشاورن مشغولاَ وإن كان حازماً، ولا جائعاً، وإن كان فهما"، ولا مذعوراً وإن كان ناصحاً ولا تضعنّ في عنقك طوقاً لا يمكنك نزعه إلا بشق نفسك. وإذا خاصمت فاعدل، وإذا قلت فاقتصد. ولا تستودعن أحداً دينك وإن قربت قرابته، فإنك افا فعلت ذاك لم تزل وجلاً، وكان المستودعَ بالخيار في الوفاء والغدر، وكنت له عبداً ما بقيت. وإن جنى عليك كنت أولى بذلك، وان وَ فى كان الممدوح دونك". وقد اشتهرت "إياد" بالفصاحة والبيان، وبقدرة في اللسان. وقد ظهر منهم جملة خطباء. واشهرت "بنو أسد" بالخطابهَ كذلك، قال "يونس بن حبيب ليس في بني أسد إلا خطيب أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس. قال: وليس في هذيل إلا شاعر أو رام، أو شديد العدو.

والان، وبعد أن انتهينا من الكلام على النثر، نفول هل كان للجاهليين أدب منثور ? أي مدونات من الأدب المنثور. لقد ذهب البعض إلى انه لو كان للجاهليين أدب منثور مدون، لعدّ عجيباً اختفاء آثاره هذا الاختفاء الكلي، حتى من أحاديث العرب المنقولة. والواقع إن من غير الممكن في الوقت الحاضر البت علمياً في هذا الموضوع، لأننا لا نملك أدلة علمية، لنستنبط منها أحكاماً تؤيد أو تنفي وجود التدوين في الجاهلية. أما مسالة عدم ورود نصوص أدبية منثورة الينا، أو عدم ورود إشارات إلى وجودها في الجاهلية، فإنها أمور لا يمكن أن تكون حجة على اثبات عدم وجود التدوين عند الجاهليين، اذ لا يجوز انها كانت، ولكنها تلفت، بسبب كونها كانت مكتوبة على مواد سريعة التلف، فهلكت، كما هلكت مدونات صدر الإسلام، حيث لم يصل من أصولها إلا النزر اليسير، وهو نزر يشك في أصالته وصحته.

وذهب بعض إلى وجود أدب منثور، إذ لا يعقل وجود أدب منظوم، ثم لا يكون للعرب أدب منثور. ويتجلى طراز هذا الأدب في الأمثلة والحكم المنسوبة إلى الجاهلييبن. أما مؤلفات وكتب، وصحف مدونة فلم يصل منها الينا أي شيء. ولكن ذلك لا ينفي عدم وجودها عند أهل الجاهلية، وقد تحدثت عن موضوع التدوين عند الجاهليين في موضع آخر من هذا الكتاب.

وللجاحظ رأي في كلام العرب، فهو يرى أن "كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكاًنه إلهام، وليست هناك معاناة ه ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام "فتاًتيه المعاني أرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده"، عل حين يكون كلام العجم "عن طول فكرة وعن اجتهاد راي، وطول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكير ودراسة الكتبُ". وقد حصر اصناف البلاغة عند العرب بالقصيد والرجز، وهما من الشعر، وبالمنثور، وهو الكلام المرسل، وبالأسجاع، وبالمزدوج وما لا يزدوج من الكلام.

أما موضوع وجود ترجمات جاهلية عربية للتوراة والانجيل والكتب الشرعية الأخرى المعتبرة عند اهل الكتاب، فموضوع لم يتفق عليه الباحثون حتى الآن. نعم ورد في الأخبار أن الأحناف كانوا قد وقفوا على كتب الله،وقرأوها بالعبرانية وبالسريانية، وانهم كتبوا بهما وبالعربية، ولكن هذه الأخبار غامضة غير واضحة، يجب أخذها بحذر، كما ورد أن بعض الرقيق من أهل الكتاب ممن كان بمكة كان يقرأ كتاب الله، وكانت قريش ترى رسول الله يمرّ عليه وبحلس عنده ويستمع إليه، فقالت إنما يتعلم "محمد" منه، ولكن " الأخبار الواردة عن هذا الموضوع لا تشير إلى أن هذا الذي زعم أنه كان يعلم الرسول، كان قد دون ترجمة كتب الله، أو تفاسيرها بالعربية، وأن الناس قد وقفوا عليها.

وأما ما ورد من أمر "عمرو بن سعد بن أبي وقاص" "عمرو بر سد ير أبي وقاص" المذكور في تاريخ "ميخائيل السوري" "المتوفى سنة 1169 المهيلاد" البطريق "البطريارك يوحنا" بطريق اليعاقبة، ترجمة "الانجيل" من السريانية إلى العربية ثم ما جاء من وقوع خلاف بين "عمرو" ويين "البطريارك" بشان الترجمهَ، ثم من استعانة "البطريارك" بعد ذلك برجال من "تنوخ"، و "عاقولا"، و "طيء"، كانوا يتقنون العربية والسريانية للقيام بالترجمة. ولترجمه التوراة، مع رجل يهودي، فإنه خبر غير مؤكد، وقد شك فيه بعض الباحثين، وربما وضع للطعن في "البطريارك"، وضعه خصومه عليه.

ولم تأت جهود "بومشتارك" وتلامذته بنتائج مؤكدة مقبولة عن اثبات وجود كتب للصلاة بالعربية، ترجمت من االسريانية إليها قبل الإسلام، ومن المحتمل أن رجال الدين كانوا يعطون نصارى العرب في الجاهلية بالعربية، أما نصوص الصلاة، فكانوا يلقونها عليهم بالسريانية. وربما كان الحال على هذا المنوال. بالنسبة إلى رجال الدين المتنقلين مع الأعراب، فقد كانوا يتنقلون معهم، يعلمونهم ويرشدونهم بالعربية، ولكنهم لم يكونوا قد ترجموا كتب الصلوات ترجمة مدونة بلغتهم. وقد ورد إن رجال الدين كانوا يحملون "الدفة" معهم، حيث تحل القبائل، لترتيل الصلوات على المذابح المتنقلة، فعل ذلك رجال الدين مع "بني ثعلب" وقبائل من اليمن وغيرها. وينطبق ما اقوله على العرب الجنوييين أيضاً، فلم يعثرحتى الان على دليل يثبت وجود ترجمات بعربيات جنوبية للتوراة أو الإنجيل أو الكتب الدينية الأخرى. ولكن هنلك أخباراً يذكرها أهل الأخبار تشير إلى وجود مثل هذه الترجمات، غير اننا لا نتمكن من التسليم بها، لما فيها من عناصر تدعو إلى الشك في أمرها وعدم إمكان الأخذ بها في الوقت الحاضر.

وقد ورد إن عرب بلاد الشام من لخم وجذام وغسان وقضاعة وتظب وكلب وغيرهم، "وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية"، وقصُد بالعبرانية السريانية، ولهذا لم ياخذ علماء اللغة عنهم. غير انهم لم يشيروا إلى ما كانوا يقراون، ويظهر انهم قصدوا بذلك الصلوات والكتب المقدسة، يقواًونها عليهم بالسريانية وربما ترجموا ما قرأوه عليهم إلى العربية.

الفصل الئالث والاربعون بعد المئة
الخطابة

والخطابة وجه آخر من أوجه النشاط الفكري عند الجاهليين. وقد كان للخطيب عندهم، كما يقول أهل الأخبار، مقام كيير للسانه وفصاحته وبيانه وقدرته في الدفاع عن قومه والذب عنهم والتكلم باسمهم، فهو في هذه الأمور مثل الشاعر، لسان القبيلة ووجهها. وقد ذكر اهل الأخبار أسماء جماعة من الخطباء، اشتهروا بقوة بيانهم وبسحر كلامهم، وأوردوا نماذج من خطبهم. ومنهم من اشتهر بنظم الشعر، وعدّ من الفحول، مثل عمرو بن كلثوم.

قال "الجاحظ": "وكان الشاعر أرفع قدراً من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكرهم بايامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدراً من الشاعر". وذكروا إن الشعراء كانوا في ارفع منزلة عند العرب،وما زال الأمر كذلك حتى أفضى الشعر إلى قوم اتخذوه أداة للتكسب وسعوا به في كل مكان، فوضعوه أمام الملوك والسوقة، سلعة في مقابل ثمن، واستجداءّ لأكف الناس، فانف منه الأشراف وتجنبه السادة، ونبهت الخطابة. وصار للخطيب شان كبير، ارتفع على شأن الشاعر. ولخص "الجاحظ" ذلك بقوله: "كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيبَ من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر".

وكانوا يحبون في الخطيب أن يكون جهير الصوت، ويذمون الضئيل الصوت وأن يكون مؤثراً شديد التاًثر في نفوس سامعيه حتى يسحرهم وياخذ باًلبابهم. وكانوا يجعلون مثل هؤلاء الخطباء ألسنتهم الناطقة إذا تفاخروا أو حضروا المجالس أو تفاوضوا في أمر، أو أرادوا تأجيج نيران الحروب، أو عقد صلح، أو البت في أي أمر جلل. ولذلك صارت الخطابة من امارات المنزلة والمكانة، فصارت في ساداتهم وأشرافهم الذين يتكلمون باسمهم في المحافل والمجامع العظام.

وقد ذكر "الجاحظ"، أن حمل العصا المخصرة دليل على التأهب للخطبة.والتهيؤ للاطناب والإطالة، و ذلك شيء خاص فيّ خطباء العرب، ومقصور عليهم، ومنسوب اليهم. حتى انهم ليذهبون في حوائجهم والمخاصر بأيدهم، إلفاً لها، وتوقعاً لبعض ما يوجب حملها: والإشارة بها". ولا يخطب أحدهم الا وعنده عصاً أو مخصرة.، جرى على ذلك عرفهم حتى في الإسلام. "قال عبد الملك ابن مروان: لو ألقيت الخيزرانة من يدي لذهب شطر كلامي"، وأراد معاوية سحبان وائل على الكلام، فلم ينطق حتى أتوه بمخصرة. وكانوا يعتمدون على الأرض بالقسي، ويشيرون بالعصا والقنا، ومنهم من يأخذ المخصرة في خطب السلم، والقسي في الخطب عند الخطوب والحروب. وذكر أن من عوائدهم أن يكون الخطيب على زيّ مخصوص في العمامة واللباس. وان يخطب الخطيب وعلى رأسه عمامة، علامة المكانة والمنزلة عند الجاهليين. وذكر أيضاً أن من عوائدهم ألا يخطب الخطيب وهو قائد إلا في خطبة النكاح. كما ذكر أن منهم من كان و يخطب وهو على راحلته. وذكر "الجاحظ" أن الشعوبية طعنت على "أخذ العرب في خطبها المخرة والقناة والقضيب، والاتكاء والاعاد على القوس، والخد" من الأرض، والإشارة بالقضيب". وذكر أن من المستحسن في الخطيب أن يكون جهوري الصوت، قليل التلفت، نظيف البزة، وأن يخطب قائماًعلى نشز من الأرض، أو على راحلته، وأن يحتجز عمامته، ويكمل هذه الخصال شرف الأصل وصدق اللهجة.

وقد كان بين الخطباء من كان يقول الشعر بالإضافة إلى علو شانه بالنثر. غير إن العادة، إن الشعراء لم يبلغوا في الخطابة مبلغ الخطباء، وأن الخطباء دون الشعراء في الشعر. "ومن يجمع الشعر والخطابة قليل". ومن الشعراء الخطباء: "عمرو بن كلثوم" التغلبي، و "زهير بن جناب"، و "لبيد"، و "عامر ابن الظرب العدواني".

وذكر "الجاحط" إن العرب استعملت الموزون، والمقفى، والمنثور في مساجلة الخصرم، والرجز، في الأعمال التي تحتاج إلى تنشيط وبعث همة، وعند مجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادلة والمحاورة، واستعملت الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعملت المنثور في الأغراض الأخرىّ، وقال أيضاً: "وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكاًنه إلهام، وليمست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وانما هو أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، والى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالاّ،وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده. وكانوا اميين لا يكتون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر، وله أقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجد، والكلامّ عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، ويحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يخطوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد، ولا تحفظ ولاطلب "ويظهر إن من الخطباء من استعمل السجع في خطبه، ولا سيما في المفاخرات والمنافرات وأمور التحكيم، وهو في الغالب. ومنهم من كان يستعمل الكلام المرسل و ذلك في الأمور الأخرى، ولغلبة السجع على الخطب، قال بعض علماء اللغة: "الخطبة عند العرب: الكلام المتثور المسجع ونحوه.

وقسم "الجاحظ" الخطب على ضربين، فقال: "اعلم إن جميع خطب العرب من أهل المدر والوبر والبدو والحضر على ضربين، منها الطوال، ومنها القصار،ولكل ذلك مكان يليق به، وموضع يحسن فيه. ومن الطوال ما يكون مستوياً في الجودة، ومتشاكلأ في استواء الصنعة، ومنها ذات الفقر الحسان والنتف الجياد. وليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ، وإنما حفظًه التخليد في بطون الصحف. ووجدنا عدد القصار أكثر، ورواة العلم إلى حفظها أسرع" وقد اقتضى النظام الاجتماعي والسياسي في الجاهلية أن يقيم العرب للخطابة وزناً خاصاً في المفاوضات التي تكون في داخل القبيلة للنظر في أمورها وفي شؤونها الخاصة بها في أيام السلم وفي أوقات الغزو والغارات، في حالتي الهجوم والدفاع. وأقاموا لها وزناً خاصاً بالمناسبة للمفاوضات التي جرت بين القبائل، أو بين القبائل والملوك. ثم في الفاخرات وفي المنافرات. فكل هذه الأمور وأشباهها استدعت ظهور أناس بلغاء اعتمدوا على حسن تصرفهم في تنظيم الكلم وفي تنسيق الجمل وفي التلاعب بالألفاظ للتأثير على القلوب والأخذ بمجامع الألباب. فرب كلمة كانت تقيم قبيلة وتقعدها لتلاعب الخطيب بقلبها بسحر بيانه وفي كيفية اختيار ألفاظه واستخدامه مواضع الإثارة التي يعرف أنها ستثير النار الدفينة في أفئدة سامعيه.

ولهذا كانوا لا يختارون لمن يتكلم باسم قومه إلاّ من عرف بسحر لسانه وقوة بيانه،ليتمكن بما وهب من مرونة وتفنن في كلامه من التغلب على خصمه وافحامه، ولما مات "أبو دليجة" "فضالة بن كلدة" رثاه "أوس بن حجر" بكلمة مؤثرة تعبر عن مبلغ شعوره وشعور قومه للفاجعة الأليمة التي جعلت قوم الخطيب فى لبس وبلبال، لعدم وجود من سيحل محله في الدفاع عنهم، اذ حفلوا لدى الملوك، فيقول: ابا دليجة من يكفي العـشـيرة إذ  أمسوا من الخطب في لبس وبلبال 

أم من يكون خطيب القومِ إذحفلوا  لدى الملوك ذوي أيد وافـضـال

وندخل في الخطباء جماعة عرفت بإلقاء المواعظ والنصائح في أمور الدين والأخلاق والسلوك وفي التفكير، وهم قوم تأثروا بالمؤثرات الثقافية التي كانت في أيامهم بجب وجود اليهود والنصارى بينهم،وبسبب اتصالهم بالرهبان والمبشرين في داخل جزيرة العرب وفي خارجها، فأخذوا يحثون قومهم على التعقل والتامل والتفكر في أمور دينهم ودنياهم، وترك ما هم عليه من عبادة الأصنام والتقرب إلى الأوثان، وهي حجارة صلبة، أو من خشب أو معدن لا يسمع ولا يجيب. وينسب اليهم، انهم كانوا على دين ابراهيم،على ألسنة العربية الأولى دين الفطرة دين التوحيد. وينسب اليهم أيضاً، انهم كانوا يقرأون ويكتيون، لا بالعربية وحدها، بل بالعبرانية والسريانية أيضاً، وانهم كانوا يتدارسون التوراة والانجيل وكتب الأنبياء، إلى غير ذلك من دعاوى قد تكون وضعت عليهم. وهم قوم سبق أن تحدثت عنهم، وقلت عنهم انهم الأحناف.

.واذا درسنا الأغراض التي توخاها أهل الجاهلية من الخطابة، نجدها تكاد تتجمع في الأمور الاتية: التحريض، على القتال،وإصلاح ذات الببن، ولمّ شعث، لكثرة ما كان يقع بينهم من تافر وتشاحن، ثم السفارات إلى القبائل أو الملوك، لأغراض مختلفة، مثل التهنثة والتعزية، أو طلب حاجة، وحلء معضل، أو انهاء خصومة، ثم الجلوس لحل الديات وانهاء نيران الثأر، ثم التفاخر والتنافر والتباهي بالأحساب والأنساب والمآثر والجاه والمال، ثم في الوفادات حيث تقتضي المناسبة إلقاء الخطب، أو في الحث على التعقل والتفكر وتغير رأي فاسد، كما في خطب قس بن ساعدة الإيادي وفي خطب الأحناف، ثم في المناسبات الأخرى مئل تعداد مناقب ميت، أو خطب الإملاك وما إلى ذلك، ومن اشهر الطخب المنسوبة إلى الجاهليين، الخطب التي زعم إن "أكثم بن صيفي"، و "حاجب بن زرارة"، وما من "تميم"، و "الحارث بن ظالم"، و "قيس بن مسعود"، وهما من "بكر"، و "خالد بن جفر"، و "علقمة بن علاثة"، و "عامر بن الطفيل" من "بني عامر"، قالوها في مجلس كسرى، يوم أرسلهم "النعمان بن المنذر" إليه، ليريه درجة فصاحة العرب ومبلغ بيانهم وعقلهم، مما اثار إعجاب "كسرى" بهم، حتى عجز عن تفضيل أحدهم على الآخر، مما جعله يقر ويعترف بذكاء العرب وبقوة بيانهم وبقوة عقلهم، فقدرهم لذلك حق قدرهم وأكرمهم. وهي خطب مصنوعة موضوعة، قد تكون من وضع جماعة أرادت بها الرد على الشعوبين الذين كانوا ينتقصون من قدر العرب، ومن لسان العرب، ومن دعوى الإعجاز في لغتهم، فصنعت هذا المجلس، وعملت تلك المحاورة والخطب في الرد عليهم،وهي تتناول صميم ذلك الجدل.

وأكثر ما نسب إلى زيد وأمثاله من الأحناف مختلق، وضع عليهم فيما بعد. وأكثر ما ورد عنهم في شرح حياتهم هو من هذا النوع الذي يحتاج إلى إثبات. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر من الجاهليين قالوا عنهم إنهم كانوا من خطباء الجاهلية المشهورين المعروفين، وقد أدخلوا بعضهم في المعمرين. والمعُمرَّ في عرفهم من بلغ عشرين ومئة سنة" فصاعدأ، وإلاّ، لم يعدوه من المعمرين. وعلى رأس من ذكروا دويد بن زيد بن نهد بن ليث بن أسود بن أسلم الحميري"، فهو إذن من حمير. وقد ذكر أنه عاش أربع مئة سنة وستاً وخمسين سنة، ونسبوا إليه وصية أوصى بها بنيه. ولكنهم لم يذكروا متى عاش، وفي أي زمان مات، وكيف أوصى بنيه بهذه اللهجة الحجازية، لهجة القرآن الكرم، وهو من حمير، وحمير لها لسانها وكتابتها -وذكر أهل! الأخبار اسم "سر بن جناب بن هبل" في ضمن المشهورين في قو ة البيلن والفصاحة والمنطق عند الجاهليين، ويذكرون أنه كان على عهد "كليب ابن وائل"، وانه كان لسداد رأيه كاهناً، ولم تجتمع قضاعة إلا عليه وعلى "رزاح بن ربيعة"، وقالوا إنه: "كان سيد قومه وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، وأوفدهم إلى الملوك، وطبيبهم، وحازي قومه، وفارس قومه، وله البيت فيهم والعدد منهم". وقد ذكروا له وصية أوصى بها بنيه، وأبيات شعر، زعموا أنه نظعها.

وذكروا أيضاً "مرثد الخر بن ينكف بن نوف بن معديكرب بن مضحى"، زعموا أنه كان قيلا حدباً على عشيرته،محباً لصلاحهم. وكان من أفصح الفصحاء وأخطب الخطباء، وزعموا أيضاً انه أصلح بين القيلين: "سبيع بن الحرث" و ميثم، بن مثوب بن ذي رعين"، وأوردوا ما دار بينهم من نقاش وحوار ضبطوه وسجلوه، حتى لكأن كاتب ضبط كان حاضراً بينهم كلفَ تسجيل محضر ذلك الحديث.

وعد "الحارث بن كعب الذحجي" من هذه الطبقة البليغة التي اشتهرت بسحر البيان. وقد زعم أهل الأخبار"أنه كان على دين "شعيب" النبيّ، وهو دين لم يكن قد دخل فيه غيره وغير "أسد بن خزيمة" و "تميم بن مرّ". وقد ذكروا له وصيةّ لأبنائه، أوصاهم بها حين شعر بدنو أجله، بعد أن عاش على زعمهم ستين ومئة سنة.

ولم يذكر أهل الأخبار شيئاً عن هذا الدين، دين شعيب. وليس في الوصية المنسوبة إليه ما يميزه عن غيره من الخطباء، مثل قس بن ساعدة الايادي أو غيره من المتالهين الرافضبن لعبادة الأوثان.

وعدّ علمء الأخبار كعب بن لؤي في جملة الخطباء القدماء، وذكروا انه كان يخطب على العرب عامة، ويحض كنانة على البر وكان رجلا طيباً خيراً، فلما مات، أكبروا موته، فلم تزل كنانة تؤرخ بموت كعب بن لؤي إلى عام الفيل.

وكان ابن عمار عمرو بن عمار الطائي خطيب مذحج كلها، وكان شاعراً كذلك، فبلغ النعمان حسن حديثه، فاستدعاه، وحمله على منادمته. وكان النعمان أحمر العينين والجلد والشعر، وكان شديد العربدة، قتالا للندماء، فنهاه ابو قردودة الطائي عن منادمته، ولكنه لم ينته، فلما قتله النعمان، رثاه ابو قرلودة، وهجا النعمان.

وعدّوا "عبد المطلب" في جملة خطباء قريش، الذين كانوا يخطبون في الملمات وفي الأمور العظيمة، وكان وافد أهل مكه على ملوك اليمن، فإذا مات ملك منهم، أو تولى ملك منهم العرش، ذهب إلى اليمن معزياً ومهنئاً. فهو خطيب القوم اذن.

ومن خطباء "غطفان" في الجاهلية: "خويلد بن عمرو"، و "العُشَراء بن جابر" من "بني فزارة"، وخويلد خطيب يوم الفجار.

وأما بقية من ذكر أهل الأخبار من خطباء الجاهلية، فهم: "أبوالطمحان القيني"، واسمه حنظلة بن الشرقي من "بني كنانة بن القين"، و "ذو الاصبع العدواني" وهو من حكام العرب كذللث، و "أوس بن حارثة"، و "أكيم ابن صيفي التميمي"، وهو من حكام العرب أيضاً. وقد ذكر إن "يزيد بن المهلب" كان يسلك طريقته في خطبه ووصاياه، و "عمرو بن كلثوم"، وهو من الخطباء الشعراء البارزين في الفنين. وقد ذكروا له خطبة نصح ووصية ذكروا انه أوس بها بنيه، في الأدب والسلوك، و "نعيم بن ثعلبة الكناني"، وكان ناسثاً، ينسىء الشهور، وقيل: انه أول من نساًها. وكان يخطب في الموسم، و "أبو سيّارة العدواني"، واسمه "عميلة بن خالد الأعزل" و "الحارث بن ذبيان بن لجأ بن منهب اليماني وفي الملمات والأوقات العصيبة وفي الوفدات على الملوكُ نحتار خيرة الخطباء المتكلمين المعروفين بأصالة الرأي وبسرعة البديهة والجواب، ليبيضوا الأوجه، ويؤدوا المهمة على أحسن وجه. ولما قدم النعمان بن المنذر الحيرة، بعد زيارته لكسرى،وتفاخره عنده بقومه العرب،وفي نفسه ما فيهامماسمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين امرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميبن، والى الحارث بن عباد "الحارث بن ظالم"، وقيس بن مسعود البكريين، والى خالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل العامريين، والى عمرو بن الشريد السلمي، وعمرو بن معديكرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المريّ، وهم خيرة من عرفهم في أيامه بالأصالة في الرأي وبقوة البيان، وطلب منهم الذهاب إلى كسرى والتكلم معه، ليعرف عقل العرب وصفاء ذهنها. فذهبوا وتكلموا، فاًعجب بهم، وقدرهم حق تقدير.

وذكرعن حاجب بن زرارة: أنه وفد على كسرى لما منع تيمماً من ريف العراق، فاستأذن عليه، وتحدث معه، فأرضاه، واذن عندئذ لتميم أن يدخلوا الريف. وقد وفد ابنه عُطارد على كسرى أيضاً بعد وفاة والده.

وأدرك "الربيع بن ضبيع الفزاري" الإسلام كذلك، ويذكر أهل الأخبارانه أدرك أيام عبد الملك بن مروان. وإذا كان هذا صحيحاً، فيجب أن يكون قد عاش معظم ايامه في الإسلام. أما في الجاهلية، فقد كان طفلاً، أو شاباً، وإن ذكر أهل الأخبار أنه كان من المعمرين.

ومن الخطباء عطارد بن حاجب بن زرارة، وقد خطب أمام الرسول، ومن خطباء غطفان في الجاهلية: خويلد بن عمرو، والعشراء بن جاير بن عقبل. وكان الأسود بن كعب، المعروف بالكذاب العنسي، الذي ادعى النبوة من الخطباء كذلك.

وذكر أهل الأخبار اسم: "قيس بن عامر بن الظرب"، و "غيلان بن سلمة الثقفي" في جملة حكام العرب. وذكروا انه كان قد خصص يوماً له يحكم فيه بين الناس، ويوماً ينشد فيه شعره. وذكووا من حكام قريش عبد المطلب، وهاشم بن عبد مناف، وأبا طالب والعاص بن وائل.

وعدّوا "قيس بن زهير العبسي" من خطباء الجاهلية المعروفين، وقدذكروا عنه انه جاور "النمر بن قاسط" بعد "يوم الهباء ة" وتزوج منهم. ثم رحل عنهم إلى "غمار"، فتنصر بها، وعف عن المأ كل، حتى أكل الحنظل إلى إن مات. وله امثلة مذكورة في كتب الأمثال. وقيل فيه: "أدهى من قيس بن زهر"، ومن أقواله: "أربعة لا يطاقون: عبد ملك، ونذل شبع، وأمة ورثت، وقبيحهَ تزوجت"، وله امثال عديدة. وذكر انه طرد إبلاَ لبني زياد، وباعها من عبدالله بن جدعان، وقال في ذلك شعراً.

وأما "سحبان بن زفر بن اياس" المعروف ب "سحبان بن وائل الباهلي"، فإنه خطيب ضرب به المثل في الفصاحة فيقال: "اخطب من سحبان وائل"، و "أفضح من سحبان وائل"، و "أنطق من سحبان"، و "أبلغ من سحبان"، لمن يريدون مدحه واعطاءه صفة البيان. وذكر أنه عاش في الجاهلية وعاش في الإسلام حتى أدرك أيام معاوية، وقد عرف بخطبته "الشوهاء"، قيل لهاذلك لحسنها. و ذلك انه خطب بها عند معاوية فلم ينشد شاعر ولم يخطب خطيب. "وكان إذا خطب لم يعد حرفاً ولم يتلعثم، ولم يتوقف، ولم يتفكر بل كان يسيل سيلا" وقد ورد انه توفي سنة "54".

ذكر انه دخل على معاوية وعنده خطباء القبائل، فلما رأوه خرجوا، لعلمهم. بقصورهم عنه، فقال: لقد علم الحي اليمانيون انني  إذا قلت أما بعد اني خطيبها 

فقال له معاوية: أخطب، فطلب عصا، فلما أحضرت له خطب جملة ساعات، فقال له معاوية: أنتَ أخطب العرب، قال: أو العرب وحدها، بل أخطبُ الجن والانسْ، وقد اشتهرت إياد وتميم بالخطابة وبشدة عارضة خطبائها وبقوة بيانهم، وقد ذكر إن معاوية ذكر تميماً، فقال: "لقد اوتيت تميم الحكمة، مع رقة حواشي الكلم". وهناك قبائل أخرى أخرجت خطباء مشهورين، نسبت اليهم خطب بليغة. وقد يكون من الأعمال المفيدة النافعة، وضع دراسة خاصة بعدد الخطباء الذين نبغوا في القبائل، وبدراسة خطبهم، وبمساكن أولئك الخطباء ومهاجر قبائلهم، فإن دراسة علمية مثل هذه تعيننا كثيراً على الوقوف على تطور هذه اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، والقبائل التي تكلمت بها سليقة وطبعاً.

وذكر "الجاحظ" أن شاًن "عبد القيس" عجب، "و ذلك أنهم بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين: ففرقة وقعت في عمان وشق عمان، وهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين، وهم من أشعر قبيل في العرب، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن الفصاحة. وهذا عجب"،. وذكر "الجاحظ" أن "معاوية" كان يعجب من فصاحة "عبد القيس"، ولما اجتمع ب "صحار ابن العباس" "صحار بن العياش"، المعروف ب "صحار العبدي"، عجب من بلاغته وفصاحته، فقال له، ما هذه البلاغة فيكم ? قال: ضيء بختلج في صدورنا، فنقذفه كما يقذف البحر بزبده. قال: فما البلاغة ? قال: أن تقول فلا تبطىء، وتصيب فلا تخطىء. وورد في "كتاب الحيوان"، للجاحظ،أنه قال له: "ما الإيجاز ? قاله: أن تجيب فلا تبطىء، وتقول فلا تخلىء".

وله كلام فيما يجب أن يقال عند تذكر الاحسان،. وكان نسابة، وله مع "دغفل" النسابة محاورات. وقد ذكر "ابن النديم"، أن له من الكتب: "كتاب الأمثال"، وقد أشاد "الجاحظ" بعلمه في الأنساب، وذكره فيمن ذكر ممن ألف في كتب النسب، من أمثال "ابن الكلبي"، و "الشرقي بن القطامي"، و "أبي اليقظان"، و "أبي عبيدة"، و "دغفل بن حنظلة" النسابة، و"ابن لسان الحمرة"، و "ابن النطاح اللخمي.

وكان لبني عبد الفيس، اتصال بمكة قبل الإسلام، لهم معها تجارة. يرسلون إليها التمر والملاحف والثياب والتجارة المستوردة من الهند. وقد أشير اليها في خبر إسلام "الأشج": "أشج" عبد القيس، واسمه "المنذر بن عائذ بن الحارث بن المنذر بن النعمان" العبدي. فقد أرسل ابن أخته "عمرو بن عبد القيس.

إلى مكة عام الهجرة، ومعه تجارة من تمر وملاحف، فلقيه النبي، وهداه إلى الإسلام، وكان مثل قومه نصرانياً، فاًسلم، وتعلم سورة الحمد واقرأ باسم ربك، فلما باع تجارته وعاد، أخبر خاله "الأشج" بإسلامه، فأسلم وكتم إسلامه حيناً، فلما كان عام الفتح، خرج مع وفد من أهل "هجر" وعبد القيس، وصل المدينة، وقابل الرسول، وأعلنوا إسلامهم، فقسموا بلادهم، وحوّ لوا "الببعة"مسجداً.

وممن اشتهر من "بتي عبد القيس" بالخطابة والفصاحة: "صعصعة بن صوحان" العبدي، وأخواه: "سيحان" و "زيد". وقد شهد "صفين" مع "علي"، وكانت له مواقف مع معاوية، وقد مات في خلافته. "وقال الشعبي كنت أتعلم منه الخطب"، وله شعر.

وذكر في أثناء تحدث أهل الأخبلر عن "الردة" وادعاء "لقيط بن مالك" الأزدي النبوة، إن "الحارث بن راشد"، و "صيحان بن صوحان" العبدي جاء ا على رأس مدد من "بني ناجية." و "عبد القيس"، لمساعدة "عكرمة"   

و "عرفجة"، و "جبير"، و "عبيد"، فاستعلاهم، فلما وصل المدد انهزم "لقيط"، وقتل ممن كان معه عشرة آلاف. ولعل "صيحان" هذا هو اخ "صعصعة بن صوحا ن ومن منازل "عبد القيس" "دارين" و". الزارة"، وكان بها رهبان وببع، ويظهر إن النصرانية كانت متفشية بين "عبد القيس"، وردت إليها من العراق. وكان "بنو عبد القيس" من العرب المتحضرين بالنسبة إلى أعراب البوادي، ولهم اتصال بالعالم الخارجي، وقد قام المبشرون بنشر الكتابة بينهم، ولا بد وأن تكون كتابتهم بالفلم العربي الشمالي، الذي كان يكتب به النصارى العرب. ونجد في قرى البحرين أناساً من مختلف الأجناس، بسبب اتصالها بالبحر ومجيء الأقوام إليها من الهند وايران والعراق، فظهرت فيهأ ثقافة، امتصت غذائها من مختلف الثقافات.

وهناك من اشتهر بالخطابة وكان قريب عهد من الإسلام، أو أدركه وأسلم،.منهم: " قيس بن ساعدة الإيادي"، وقد رآه الرسول، وسمعه يتكلم، وهو راكب على جمل أورق، ويذكر أن الرسول قال: "يرحم الله قساً، إني لأرجو يوم القيامة أن يبعث أمة واحده". وقد عد"ه بعض الباحثين من النصارى، ولكن معظم أهل الأخبار يرى أنه كان على الحنيفية، أي على التوحيد، لا هو من يهود، ولا هو من النصارى.

وقد ذكر أهل الأخبار أنه " كان من حكماء العرب وأعقل من سمع به منهم وهو أول من كتب من فلان إلى فلان، وأول من أقر بالبعث من غيرعلم، وأول من قال: أما بعد، وأول من قال: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر". وأنه اول من خطب على شرف، وأول من اتكأ عند خطبته على سيف أو عصا. وكان أحكم حكماء العرب، وابلغ وأعقل من سمع به من إياد. وبه ضرب المثل في الخطابة والبلاغة روي أن الرسول سمع كلام "قس ابن ساعدة" الإيادي ورواه، ذكر "الجاحظ" أن رسول اللًه "هو الذي روى كلام "قس بن ساعدة" وموقفه على جمله بعُكاظ وموعظته، وهو الذي رواه لقريش والعرب، وهو الذي عجب من حسنه وأظهر من تصويبه".

وذكر في موضع آخر من كتابه "البيان والتبيين" أن الرسول قال: "رأيته بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول،: أيهآ الناس اجتمعوا واسمعوا وعوُا من عاش مات، ومن مات فات" وكل ما هو آت آت.

وهو القائل في هذه: آيات محكمات، مطر" ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت، ضوء وظلام، وبر وأئام، ولباس ومركب، وبطعم ومشرب، ونجوم تمور، وبحور لا تغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، وليل داج، وسماء ذات أبراج. ما لي أرى الناس يموتون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم حبسوا، فناموا.

وهو القائل: يا معشر إياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد. أين المعروف الذي لا يشكر، والظلم الذي لم يذكر، أقسم قس قسماً بالله، إن لله ديناً هو أرضى له من دنيكم هذا.

وأنشسوا له: في الذاهـبـين الأولـين  من القرون لنا بصـائر.

لمــا رأيت مـــوارداً  للموت ليس لها بصـائر

ورأيت قومي نـحـوهـا  يمضي الأصاغر والأكابر

لا يرجع المـاضـي ولا  يبقى من الباقين غـابـر

أيقـنـت أنـى لا مـحـا  لة حيث صار القوم صائر 

وقد اشتهر قس بخطبته التي خطبها بسوق عكاظ، وبأبيات من الشعر رويت عن "أبي بكر الصديق". وبفصاحته وبلاغته ضرب المثل، فقيل: "أبلغ من قس". وقد استشهد ببعض شعر "قس" في كتب الشواهد. وذكر انه أول من قال: أما بعد في العرب.

وفي رواية من روايات أهل الأخبار:،إن أول من قال: "أما بعد"، هو كعب بن لؤي. بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. زعيم قريش، وأحد خطبائها المشهورين.

وذكر بعض أهل الأخبار: أنه قيل لقس بن ساعدة: ما أفضل المعرفة قال: معرفة الرجل نفسه، قيل له: فما أفضل العلم ? قال: وقوف المرء عند علمه قيل له: فما أفضلُ المروءة ? قال: استبقاء الرجل ماء وجه وقد وردت في الخطبة المنسوبة إلى قس بن ساعدة الإيادي هذه الجملة: "إن في السماء لخبراً". ويلاحظ إن العبرانين كانوا يراقبون السماء لأخذ الأخبار عما سيقع لهم من احداث منها. وقد تخصص بذلك نفر منهم، عرفوا ب "خبرى شمايم"، اي المخبرون عما يقع في السماء، و "قيري شمايم"، أي قراء السماء. وكان العرب يراقبون السماء كذلك، استطلاعاً للاخبار، وفي الجملة المنسوبة إلى "قس" تعبير عن ارتقابه وقوع امر مهم.

و "قس" من المعمرين، زعم بعض أهل الأخبار أنه عمر سبعمائة سنة، وزعم بعض آخر أنه عاش ثلمائة وثمانين سنة، وقال المرزباني: ذكر كثير من أهل العلم انه عاش ستمائة سنة". وقال بعضهم انه أدرك نبيتنا، وسمعه، وجعله بعضهم في الصحابة، وأماته بعضهم قبل البعثة. وقال قوم إنه أول من آمن بالبعث من أصل الجاهلية. وفي الذي يرويه أهل الأخبار عن خطبة قس ورواية النبي لها. تصادم في الروايات.. وقد ذكر ذلك العلماء، واني أرى أن القصة موضوعة، وهي من هذا النوع الذي وضع للتبشير بقرب ظهور دين جديد.

وقد اشير إلى قس في أبيات نسبت إلى الحطيئة والأعشى ولبيد. وقد ضرب الحطيئة به المثل في البيان، وبقوة تأئره في نفوس السامعين. اما الأعشى فقد وصفه بالحلم، واما لبيد فقد قال فيه: وأخلفن قساً ليتني ولعلـنـي  واعيا على لقمان حكم التدبر 

ويقولون: وانما قال ذلك لبيد، لقول قس: هل الغيب معطى الأمن عند نزوله  بحال مسيء في الأمور ومحسن

وماقد تولى فهـو لإشـك فـائت  فهل ينفعتي ليتني ولعـلـنـي ?

ونسبوا إليه أبياتاً من الشعر.

وورد إن "الجارود بن عبدالله" من "بني عبد القيس"، وكان سيداً في قومه لما قدم علي رسول الله، وأسلم مع قومه، قال له الرسول: "يا جارود هل في جماعة وفد عبد القيس من يعرف لنا قساً ? قالوا: كانا نعرفه يا رسول الله وأنا من بين يدي القوم كنت أقفو أثره. كان من أسباط العرب فصيحاً، عمرسبعمائة سنة، أدرك من الحواريين سمعان، فهو أول من تأله من العرب، كاًني أنظر إليه يقسم بالرب الذي هو له ليبلغن الكتاب أجله وليوفين كل عامل عمله، ثم أنشأ يقول: هاج للقلب من جواه ادكار  وليال خلا لهـنّ نـهـارُ

في أبيات آخرها: والذي قدذكرتُ دلّ على الله  نفوساً لها هدى واعتبـار

فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا جارود، فلست أنساه بسوق عكاط على جمل أورق، وهو يتكلم بكلام ما أظن اني أحفظه. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، فإني أحفظه: كنت حاضراً ذلك اليوم بسوق عكاظ فقال في خطبته: يا أيها الناس اسمعوا وعوا، فإفا وعيتم فانمنعوا، انه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إلى أخر ما أورده من الوعظ".

و "الجارود"، هو "بشر بن عمرو بن حفش بن النعمان"، وقيل هو "أبو المُعلى"، "الحارث بن زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة"،وقيل: "الجارود بن المعلى"، ويقال ابن عمرو بن المعلى، وقيل الجارود بن العلاء" وقيل الجارود بن عمرو بن حنش، وقيل اسمه بشر بن حنش، إلى غير ذلك من أقوال تدل على اضطراب أهل الأخبار في معرفته، وكان نصرانياً، وكان شاعراً، وأوردوا له شعراً يعلن إِيمانه بالرسول، وبأنه حنيف حيث كان من الأرض. قيل إنه قتل بفارس في أيام عمر سنة "21"، وقيل بقي إلى خلافة عمان.

وذكر "الجاحظ" أن من خطباء العرب: "الصباح بن شفي" الحميري، زعم أنه كان من أخطب العرب، وقيس بن شماس، وثابت بن قيس بن شماس، خطيب النبي، فقد أوكله الرسول بالرد على خطاب من كان يخطب أمامه من الوفود، فهو الناطق باسمه بالنثر، كما كان "حسان" الناطق باسم الرسول شعرأَ. وذكر أن من خطباء العرب "الأسود العني"، و "طليحة ابن خويلد" الأسدي، تنبأ في خلافة أبي بكر في بني أسد بن خزيمة، وعاضده "عيينة بن حصن" الفزاري، فوجه "أبو بكر" إليه خالد بن الوليد،فهزمه، وأسر "عيينة " سنة "11" للهجرة، وقد اسلم "طليحة"، واستشهد بنهاوند سنة "11" من الهجرة. وذكر "الجاحظ": "مسيلمة" بعد "طليحة"، فقال: "وكان مسيلمة الكذاب، بعيداً عن ذلك كله"، أي انه نفى الخطابة عنه.

ومن الخطباء النابهين اصحاب الرأي والبيان، خطيب عاش في الجاهلية والإسلام وقد أسلم وحسن إسلامه، هو: سهيل بن عمرو الأعلم، أحد بني حسل بن معيص. يقال انه كان مؤثراً جداً، أخاذاً يأخذ بعقول الناس، حتى ذكر إن عمر قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، انزع ثنيتيه السفليين حتى يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً أبداً. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:   

لا أمثل، فيمثل الله بي، وإن كنت نبياً. دعه يا عمر، فعسى أن يقوم مقاماً تحمده. فلما هاج أهل مكة عند الذي بلغهم من وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قام خطيباً، فقال: "أيها الناس، إن يكن محمد قد مات، فالله حي لم يمت، وقد علمتم أني أكثركم قتباً في بر، وجاريةَ في بحر، فاقروا أميركم وأنا ضامن، إِن لم يتم الأمر، أن أردها عليكم" فسكن الناس.

وهو الذي قال يوم خرج آذن عمر، وبالباب عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وفلان، وفلان، فقال اذان:. أين بلال ? أين صهيب ? أين سلمان? أين عمار ? فتمعرت وجوه القوم، فقال سهيل لمَ تتمعر وجوهكم ?ُ دعوُا ودعينا، فاسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على باب عمر، لما أعد الله لهم في الجنة أكثر. وفي هذا الجواب دلالة على عقل فاهم للواجب مدرك لمهمات رئيس الدولة، ولما يجب أن تقوم الحكومة عليه، لا يبالي بالعنعنات القديمة وبالعرف القبيلي الجاهلي.

وروي "أنه لما ماج أهل مكة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد من العرب، قام سهيل بن عمرو خطيباً. فقال: والله اني لأعلم أن هنا السين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها إلى غروبها، فلا يغرنكم هذا من أنفسكم - يعتي أبا سفيان -، فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلم، ولكنه قد جثم على صدره حسد بني هاشم. وأتى في خطبته يمثل ما جاء به أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالمدينة".وقد كان مخلصاً في عقيدته مطيعاً لأمر الحاكم، ذكر أنه حضر" الناس باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن عمرو وأبو سفيان إن حرب، وأولئك الشيوخ من قريش، فخرج آذنه. فجعل يأذن لأهل بدر، لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم. وكان قد أوصى بهم. فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط ا انه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس، لا يلتفت الينا فقال سهيل بن عمرو، وقال الحسن: ويا له من رجل، ما كان أعقله، أيها القوم إني والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإت كنتم غضاباً، فاغضبوا على أنفسكم، دُ عي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم. أما والله قد سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتاً من باكم هذا الذي تتنافسون فيه. ثم قال: أيها القوم إن هؤلاء القوم قدسبقوكم بما ترون، ولا سبيل لكم والله إلى ماسبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فالزموه عسى الله عز وحل أن يرزقكم شهادة، ثم نفض ثوبه وقام ولحق بالشام". فالرجل مؤمن، صاحب مبداً، يرى الفضل لأصحابه بأعمالهم، لا بالرئاسة والنسب والجاه، كما كان يريد أبو سفيان وقومه. وقد نعت ب "خطيب قريش" لفصاحته.وقوة بيانه، ولهذا اختارته قريش ليكون لسانها حن فاوضت الرسول على الصلح في الحديبية. وقد تكلم فاًطال الكلام وتراجع مع الرسول حتى وافق على تدوين كتاب الصلح. وكان هو لسان قريش يوم وضع الرسول يده على عضادتي باب الكعبة، فقال: "ماتقولون" ? فقال سهيل: نقول خبراً ونظن خيرأَ، أخ كريم وابن اخ كريم، وقد قدرت".

وتعد "ابنة الخس هند الإيادية"، وهي بنت "الخس بن حابس"، رجل من إياد، من النساء المعروفات بالفصاحة. وقد رووا عنها الأمثال. وذكر إن والدها هو "خس بن حابس بن قريط" الإيادي. وقال بعض أهل الأخبار إن ابنة الخس من "العماليق". والإيادية هي "جمعة بنت حابس" الإيادي، وكلتاهما من الفصاح. وذكر بعض آخر، إن الصواب إن ابنة الخس المشهورة بالفصاحة واحدة، وهي من "بني إياد". واختلف في اسمها، فقيل هند وقيل جمعة. ومن قال انها بنت حابس، فقد نسبها إلى جدها.

وممن ضرب به المثل في الفصاحه "سحبان بن زفر بن إياس" الوائلي، وائل باهلة. خطيب مفصح يضرب به المثل في البيان، أدرك الجاهلية وأسلم، ومات سنة "54" شهرته في الإسلام، كشهرة "قس" في الجاهلية. واشتهر "هيذان بن شيخ" "هيدان بن سنح"، بكونه خطيب "عبس"، وذكر أن النبي قال للنابغة الجعدي: لا يفضض الله فاك، وقال لهيذان: رب خطيب من عبس.

والخطابة عند الجاهليين حقيقة لا يستطيع أحد أن يجادل في وجودها، ودليل ذلك خطب الوفود التي وفدت على الرسول، وهي لا تختلف في أسلوب صياغتها وطريقة إلقائها عن اسلوب الجاهليين في الصياغة وفي طرق الإلقاء. ثم إن خطب الرسول في الوفود وفي الناس وأجوبته للخطباء، هي دليل أيضاً على وجود الخطابة بهذا الاسلوب وبهذه الطريقة عند الجاهليين. بل في أن الخطابة كان لها شأن في الحياة العربية في الجاهلية وفي الإسلام. ففي المناسبات مثل عقد زواج، لا بد للخاطب من خطبة يخطبها أمام العروس والحاضرين، يذكر فيها مناقب موكا " ومناقب الأسرة التي رغب العروس في مصاهرتها ولعلها هي التي حملت الناس على نعت هذه المناسبة ب "الخطبة" و "بخطبة العروس"، حتى قيل: "جاء يخطبُِ فلانة لفلان"، وان فرق العلماء بين "الخُطبة" التي هي الموعظة والكلام، وبين "الخِطبة" التي هي طلب المرأة، بالحركة، فذكروا أن الأولى هي بضم الخاء والثانية بكسرها.

ونجد في كتب الأدب والأخبار نصوص خطب نسبت إلى خطباء جاهليين، يخرج المرء من قراءتها ومن قراءة ما ذكره أهل الأخبار عنها، بأنها نصوص دقيقة تمئل الأصل تمام التمثيل، أو كانها نسخ استنسخت عن نسخ أصلية كتبها اخطباء باًنفسهم، أودونها كتاب شهود كانوا حضوراً وقت القاء الخطب. ونحن وإِن تعوسنا على اعتبار هذه الخطب، وكأنها خطب أصيلة لا شك عندنا في أصالتها ولا شبهة. لكننا لا نستطيع اقناع أنفسنا ولا غيرنا بصحة رأينا هذا.واذا كنا قد قبلنا ما قيل لنا عن الشعر الجاهلي، فإننا لانتمكن من قبول مايذهب إليه الأدباء المقلدون من أن الخطب المنسوبة إلى خطباء الجاهلية، هي نصوص دقيقة صحيحة، أو إن أكثرها صحيح لاشك لأحد في صحته، و ذلك لاْسباب: منها ما ذكره أهل الأخبار أنفسهم من قولهم "وكان الخطيبُ من العرب إذا لرتجل خطبة ثم أعادها زاد فيها ونقص"، ثم ما نجده من اختلاف في رواية خطبة "قس بن ساعدة"، ومنهم أناس حضروا خطابه، فكيف نصدق صحة نصوص خطب لأناس جاهليين تبلغ عدة صفحات وكيف يصدق انسان بصحة ما ينسب إلى الجاهلييٍن من خطب وأقوال، وهو يعلم إن خطبة "حجة الوداع"، قد اختلف الرواة في رواية نصها اختلافاً كييراً، واذا كانوا قد اختلفوا في ضبط نص خطبة تعد من أهم خطب الرسول، لما جهاء فيها من بيان واحكام، وكلام الرسول أفضل كلام المسلم، فهل يعقل اخذ موضوع صحة نصوص خطب الجاهليين، على انه كلام صحيح بالنص ولطرف والمعنى ! واذا كان المسلمون قد جوزوا رواية حديث رسول الله بالمعنى، لصعوبة الرواية بالحرف والكلم والنص، فهل يعقل ضبط الناس لخطب للجاهليين، ضبطاً تاماً كاملاً بالحرف والمعنى،مع إن كلام أهل الجاهلية لا يقاس بكلام الرسول في نظر المسلمين من دون شك.

والأمر بالنسبة للشعر الجاهلي من حيث الصنعة والافتعال أهون أمراً في نظري من موضوع الخطب الجاهلية، فالشعر كلام موزون مقفى وهو عير طويل، يمكن حفظه بسهولة، ويمكن خزنه في الذهن أمداً طويلاً، أما النثر، فليس من السهل حفظه حرفياً؛ واذا حفظ، فلا يمكن للذاكرة مهما كانت قوية أن تحافظ على صفائه إلى أجل طويل، لا سيما إذا كانت الخطب طويلة، لا تعاد قراءتها إلا في المناسبات. وللسبب المذكور ولخوف المسلمين من التقول على الرسول بما لم يقله من حروف وألفاظ وجمل، جوءزوا رواية حديثه بالمعنى، لصعوبة حفظ النص، فهل تعد خطب الجاهليين أكثر أهمية من حديث الرسول، حتى نقول انها نصوص مضبوطة صحيحة، لاغبار على صحتها، ولا شك من نصها !   

وطابع الخطب، السجع وقصر الجمل والإكثار من لحكم والأمثال، والتفصيل والإزدواج. ويرد غالب السجع في كلام الكهان لذلك وسم بهم، فقيل "سجع الكهان". والسجع في كلام العرب أن يأتلف أواخر الكلم على نسق كما تاًتلف القوافي، وأن يكون في الكلام فواصل كفواصل الشعر من غير وزن. وذكر ان الرسول قال لأحدهم وكان يتكلم سجعاً: أسجع كسجع الكهان ! وفي روايهّ إياكم وسجع الكهان، وفي الحديث أنه نهى عن السجع في الدعاء. وإنما كره السجع في الكلام لمشاكلته كلام الكهنة. قال "الجاحظ": "وكان الذي كرّه الأسجاع بعينها وإِن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، ان كهان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون اليهم، وكانوا يدعون الكهانة وأن مع كل واحد منهم رئيأَ من للجنً، مثل حازي جُهينة، ومثل شق وسطيح، وعزى سلمة وأشباههم، كانوا يتكهتون ويحكمون بالأسجاع كقوله: والأرض والسماء، والعقاب الصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفر المجدُ بني العشراء، للمجد والسناء". "فوقع النهي في ذلك الدهر لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبمًيتها فيهم وفي صدور كثير منهم، فلما زالت العِلة زال التحريم"، وقد كانت الخطباء تتكلم عند ا الخلفاء الراشدين، فيكون في ذلك الخطب أسجاع كثيرة، فلاينهونهم. واتبع الخطباء في الإسلام وبعض الكتاب اسلوب السجع في خطبهم وفي كتبهم، ولا زال السجع محبوباً عند كثير من الناس، ولهذا فهم يكتبون به.وأغلب الخطباء هم سادات قبائل واشراف من أهل القرى ومن أصحاب المكانة والجاه والكهنة والحكام. ومنازلههم تحتم عليهم الخطابة في المناسبات، لأنهم ألسنة قومهم، فللكلام أثر في نفوس العرب، يثير الحرب ويهدىء الأعصاب ويعقد السلم، ويفض المشكل، فصار من ثم للخطيب أثر كبير في الجاهلية. وكانت القبائل تفتخر بكثرة ما عندها من خطباء. وذكز "الجاحظ" إن رجلاً من حمير قام في مجلس لمعاوية اجتمع فيه الخطباء، فقال: إنا لا نطيق أفواه الكمال، عليهم المقال، وعلينا الفعال. ومعناه: إنا لا نستطيع الكلام كما يفعل غيرنا، ولذلك فأنا لا أريد أن اتسابق معهم، ثم اننا معشر عمل لاقول و "الكمال، بمعنى الجمال، جمع جمل، نطق بها بالكاف على لغة أهل اليمن القدبمة، لأن لسان حمير ينطق الجيم كافاً مفخمة.

ويلاحظ إن اكثر الذي ذكره أهل الأخبار من كلام الخطباء، هو وصايا.رْعم أهل الأخبار أن أولئك الخطباء أوصوا بها أبناءهم، و ذلك حين تقدمت بهم السن، وحين شعروا بدنو أجلهم. وهي يمثل خلاصة تجارب الموصى ومجمل ما حصل عليه من اختبارات في هذه الحياة. وهي على الجملة حكم، وآراء في الدنيا، ومواعظ، لا تخطر إلا على بال رجل سئم من الحياة ويئس منها، أو من زاهد متصوف متدين يؤمن بإله وبحساب وكتاب، وجد إن الحياة مدبرة، وانها زائلة فانية، لا تدوم لأحد، لذلك يريد أن يوصي أبناءه بما وجده فيها وخبره ورآه.

ولم يهمل أهل الأخبار ذكر أهل العي والبلادة، وهم على قلتهم وضآلة عددهم مجتمع خاص قائم بذاته، فأشاروا إلى نوادرهم وبعض قصصهم، وجعلوا رأسهم وحامل لوائهم في الجاهلية شخصاً ضربوا به المثل في العيّ، دعوه "باقلا" وجعلوه من قيس بن ثعلبة. وقالوا: إن من حماقته وعيه انه اشترى عنزاً من الظباء باًحد عشر درهماً، فقيل: بكم اشتريتها ? فأطلق كفيه ومد اصابعه واخر ج لسانه، أي يعده بلسانه واصابعه، فنفرت العنز، فعُير بذلك وفيه يقول الشاعر: يلومون في حمقه باقلا  كاًن الحماقة لم تخلق

الفصل الرابع والاربعون بعد المئة
الاعراب والعربية واللحن

و لابد لنا وقد تحدثنا عن لغات العرب وعن العربية الفصحى من التحدث عن "الإعراب" لما له من صلة بها. فأقول الإعراب في تعريف علماء اللغة: الإبانة والافصاح عن الشئ. يقال للعربي: أعرب لي أي بين لي كلامك. وأعرب الكلام وأعرب به بينّه. روي عن النبي أنه قال: "الثيب تعرب عن نفسها"، وإنما سُمي الإعراب إعراباً لتبيينه و إيضاحه. ومن هنا يقال للرجل الذي أفصح بالكلام: أعرب. ويقال أعرب الأعجمي إعراباً، أي أفصح وأبان. وعَرّبه: علَّمه العربية. "وفي حديث الحسن أنه قال له البَتيُّ: ما تقول في رجل رعُفَ في الصلاة ? فقال الحسن: إن هذا يُعرّب الناس، وهو يقول رِعُفَ، أي يعلمهم العربية، إنما هو رَعُفَ". وتعرب واستعرب أفصح، قال الشاعر: ماذا لقينا من المُستعربين ومن  قياسِ نحوِهِمُ هذا الذي ابتدعوا 

وعرف الإعراب، بأنه أن لا تلحن في الكلام. يقال أعرب كلامه إذا لم يلحن في الإعراب. فربطوا بين الإعراب واللحن. وذكروا أيضاً "أن الإعراب الذي هو النحو، انما هو الإبانة عن المعاني والألفاظ"، "وانما سمي الإعراب إعراباً، لتبيينه وإيضاحه"، "وعرب منطقه أي هذبه من اللحن". وروي عن "أبي هريرة" قوله: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه"، والمراد بالغريب أن تكون اللفظة حسنة مستغربة في التأويل، لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس. وقد عدّوا من ذلك في القرآن كله سبعمائة لفظة أو تزيد قليلاً.

ورد في تأريخ "الطبري" ان رجلاً من العباديين مرّ بجمع من المسلمين أصابوا جراباً من "كافور" فحسبوه ملحاً، فأخذوا يلقون منه في طعامهم، فقال لهم: "يا معشر المعربين، لا تفسدوا طعامكم، فإن ملح هذه الأرض لا خير فيه"، فاستعمل المعربين في معنى العرب، ولعل العباديين، وهم نصارى الحيرة كانوا يطلقون على العرب الخلص معربين، لوضوح لسانهم بالنسبة لغيرهم ممن كان لا يعرب على طريقة العرب الخلص من أهل البوادي.

وقد ذهب "ابن فارس" إلى وجود "الإعراب" عند العرب العاربة، إذ يقول: "وزعم قومُ أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وانهم لم يعرفوا نحواً و لا إعراباً و لا نصباً و لا همزاً". وقد رد على من أنكر وجود الإعراب عند العرب قبل الإسلام، وأورد حديثاً في ذلك، إذ قال: "وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، انه قال: اعربوا القرآن". وقد ورد ان "عمر بن الخطاب"، وجه كتاباً إلى "أبي موسى" الأشعري، عامله على البصرة فيه: "أما بعد، فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن، فإنه عربي، وتمعددوا فإنكم معديون"، ووجه إليه كتاباً آخر فيه "أما بعد، فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفقهوا في العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب". غير ان العلماء من فسّر الإعراب في القرآن بأن المراد به معرفة اللحن.

وعرف الإعراب، بأنه: "الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يعرف الخبر الذي هو أصل الكلام، ولولاه ما ميّز فاعل من مفعول، ولا مضاف من منعوت، و لا تعجب من استفهام، و لا صدر من مصدر، و لا نعت من تأكيد. وذكر بعض أصحابنا أن الإعراب يختص بالإخبار. وقد يكون الإعراب في غير الخبر أيضاً، لأنا نقول: أزيدُ عندك ? وأزيداً ضربت ? فقد عمل الإعراب وليس هو من باب الخبر"، فبالإعراب تميز المعاني ويوقف على أغرض المتكلمين. وأنواع الإعراب رفع، ونصب، وجر، وجزم، فالإعراب عبارة عن الحركات. وقد جعل الإعراب من العلوم الجليلة التي اختصت بها العرب. والإعراب في الواقع، هو التعرب، أي التكلم بالعربية وفق طريقة العرب الخلص في مراعاة أواخر الكلم، ومراعاة التصرف الإعرابي.

والإعراب في نظري، أن يتكلم الإنسان بطريقة العرب في كلامهم، وذلك بأن يبين وفقاً لقواعد لسانهم، وقد عرفنا ورود لفظة "عرب"و "عربية "في النصوص الآشورية واليونانية والسريانية، فالإعراب إذن من هذا الأصل، أي من العربية، ثم اطلق على النطق وفقاً لأساليب العرب في كلامهم ووفقاً لقواعد لسانهم.

وللوقوف على معنى: "العربية"، يجب الرجوع إلى ما ورد عنها في الأخبار. فقد ورد أن الرسول "دخل المسجد فرأى جمعاً من الناس على رجلٍ، فقال: ما هذا ? قالوا: يا رسول الله، رجل علاّمة، قال: وما العلاّمة ? قالوا: أعلم الناس بأنساب العرب، وأعلم الناس بعربية، وأعلم الناس بشعر، وأعلم الناس بما اختلف فيه العرب، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر". وهو خبر يرجع سنده إلى "أبي هريرة".

ووردت اللفظة في روايات أخرى يرجع الرواة زمانها إلى أيام الخليفة "عمر بن الخطاب". فقد روي عن "عثمان المهرّي"، انه قال: "أتانا كتاب عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، ونحن بأذربيجان يأمرنا بأشياء، ويذكر فيها: تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المرؤة". "وقد روي أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ: إن الله برئً من المشركين ورسوله، بجرّ رسوله، فتوهم عطفه على المشركين. فقال: أو برئ الله من رسوله ? فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأمر أن لا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية". وروي أن الخليفة المذكور، كتب إلى "أبي موسى الأشعري"، يوصيه، فكان مما قاله له: "خذ الناس بالعربية، فإنه يزيد في العقل ويثبت المروءة". ونسبت إلى "عمر"رسائل أخرى، ذكر انه وجهها إلى عامله المذكور فيها: "أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، واعربوا القرآن فإنه عربي وتمعددوا فإنكم معديون"، و "أما بعد: فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"، أو انه قال: "تفقهوا في الدين، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وتعلموا العربية". وفسّر "الحسن"العربية، بأنها التنقيط، أي أن ينقط المصحف بالنحو، وذكر ان النبي قال: "عليكم بتعلم العربية، فإنها تدل على المرؤة وتزيد في المودة. وروي أن عمر كتب: "أما بعد: فإني آمركم بما أمركم به القرآن، وأنهاكم عما نهاكم عنه محمد، وآمر باتباع الفقه والسنة والتفهم في العربية"، و "مُر من قبلك بتعلم العربية، فإنها تدل على صواب الكلام، ومرهم برواية الشعر، فإنه يدل على معالم الأخلاق".

وورد أن "عبد الله بن مسعود "كان يتعاطى العربية والشعر، وقد كان يسأل في ذلك "زر بن حُبيش"، وكان من أعراب الناس. "قال عاصم: كان من أعرب الناس. وكان ابن مسعود يساأله عن العربية". وورد: "كان بعض اليهود قد علم كتاب بالعربية، وكان تعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول". وورد أن أهل الحيرة كانوا يتعلمون "العربية" في الكتاتيب، وان لهم ديواناً يكتب بالعربية، كما كان للفرس ديوان يدون الرسائل إلى العرب بالعربية، وأن أهل الأنبار كانوا يكتبون بالعربية ويتعلمونها.

وبعد، فما هي تلك العربية التي كان "العلامة ? "المزعوم يعلمها في المسجد وكان من أعلم الناس بها ? وما هي تلك العربية التي كان الخليفة يوصي حكامه وأصحابه بأخذ الناس بها ? أو العربية التي علمها اليهود بيثرب ? عربية بمعنى الإبانة والافصاح وتحريك الفم تحريكاً كفيلاً بإخراج الحروف من مخارجها إخراجاً واضحاً ? أم عربية أخرى ? أم عربية الكتابة. أي تقليم الخط، أم بالمعنى الذي دفع "أبا الأسود" على وضع العلأمات لضبط الحركات ولصيانة الألسنة من الوقوع في اللحن. ولو سألتني رأيي، لقلت لك حالاً: أنها العربية الثانية. العربية الكفيلة بضبط الألسنة وتعليمها كيفية النطق الصحيح وفقاً لقواعد العربية، أي الإعراب وتفسير معاني الألفاظ، أي اللغة، وأوضح دليل على ما أقوله، ما جاء في الرواية المتقدمة من أن "عمر بن الخطاب "لما سمع خطأ الأعرابي الفاحش في قراءة الآية أمر "أن لا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية"، ومن وصيته بأخذ الناس بالعربية، ومن قوله أيضاً: "تعلموا الفرائض والسنن واللَحٌن كما تعلمون القرآن"، و "تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه، يريد تعلموا لغة العرب في القرآن"، أو: "تعلموا اللحن والفرائض فإنه من دينكم". فلم يكن خطأ "الإعرابي" هو خطأ في كيفية اخراج الحروف من مخارجها، و لا في كيفية الإفصاح وإبانة الكلم، وإنما في جره رسوله، وتوهمه عطفها على المشركين، مما أخرج الآية إلى عكس ما أراد الله منها. أي غلطه في اللغة، ولهذا فزع الخليفة فحث الناس على تعلم العربية، لتكون دليلاً لمن يتعلمها وهادياً له في صون لسانه من الوقوع في الخطأ، وفي هذا الحث دلالة على وجود علم سابق عند العرب بكيفية حفظ الألسنة من الوقوع في الخطأ ومجانبة القواعد العامة. ويعود هذا العلم إلى ما قبل الإسلام.

أضف إلى ذلك ما ذكرته سابقاً من قول عمر: "أما بعد: فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب". فإذا صح هذا الخبر دل على وجود الإعراب في زمن عمر، وعلى ان المراد من الإعراب الذي كلّف "أبا الأسود" أن تعلم أهل البصرة به، هو النحو، أي قواعد صيانة اللسان من الوقوع في الخطأ في الكلام.

ولو تساهلنا فأخذنا "العربية "الواردة في قول "عمر" وغيره بالمعنى اللغوي الظاهر من اللفظة، وهو الإفصاح والإبانة وإخراج الكلم حسب أصول النطق عند العرب، فإن هذا المحمل يحملنا على الذهاب إلى وجود علم سابق، كان الناس يراعونه ويسيرون بمقتضى اعتباراته وقواعده في كيفية النطق بالكلم، ويسمونه: العربية.

ويتبين مما ذكره أهل الأخبار من أن "أبا الأسود" "كان أول من وضع العربية"، أن مرادهم من العربية المذكورة هذه العلأمات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون، تلك العلأمات التي استعملها في المصحف، وأن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعدُ وسمّوا كلامهم نحواً سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود. وبهذا المعنى نستطيع فهم ما ورد في الحديث والأخبار من وجوب الإعراب في القرآن. أي إظهار حركات الكلم عند القراءة. فالعربية، تعنى النحو. "ولما وضع أبو الأسود النحو وأطلق عليه لفظ العربية ..."، كان يقصد منه صيانة اللسان من الخطأ، والنطق بصحة. فقد ورد ان الرسول قال: اعربوا القرآن، أو اعربوا القرآن فإنه عربي، وأن "عمر بن الخطاب: "قال: تعلموا إعراب القرآن كما تتعلمون حفظه"، وروى انه قال: "تعلموا النحو كما تعلمون السنن والفرائض".

وبهذا المعنى وردت "العربية" في حديثهم عن الشاعر "عدي بن زيد " العبادي، فقد ذكروا انه تعلم "العربية" في كتاب بالحيرة حتى غدا من أكتب الناس بها، فلما حذق ومهر فنه بالعربية، أرسل إلى كتّاب الفارسية، فتعلم مع أولاد المرازبة. وذكروا انه "قرأ كتب العرب والفرس"، إذ لا يعقل أن يكون مرادهم تعلم حروف الهجاء وحدها، أو الخط، أو مجرد معاني الألفاظ.

وقد تحدثت عن التنقيط عند أهل الكتاب في أثناء حديثي عن نشأة الخط العربي. ويظهر أن كتاب المصاحف، لم يكونوا على أتفاق في موضوع العواشر، أي تعشير القرآن، والتنقيط والخواتم، والفواتح، والألفاظ المفسرة في المصحف، بدليل ما ورد عنهم من اختلاف رأي في هذا الموضوع، فمنهم من كان يأمر بتجريد القرآن من كل ذلك ومنهم من جوّز، ومنهم من كره نقط القرآن بالنحو.

وقد اختلف العلماء في تفسير معنى جملة "يريد أن يعربه فيعجمه" الواردة في شعر ينسب لرؤبة ويقال للحطيئة، هو: الشعر صعب وطويل سلمـه  إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمـه

زلت به إلى الحضيض قدمه 

وقوله: والشعر لا يسطيعه من يظلمه  يريد أن يعربه فيعـجـمـه

فذهب بعضهم إلى أن مراد الشاعر أنه يأتي به أعجمياً، يعني يلحن فيه، وقيل يريد أن يبينه فيجعله مشكلاً لا بيان له، وقيل أزال عجمته بالنقط.

والذي أراه أن قول العلماء: "العجم النقط بالسواد مثل التاء عليها نقطتان، يقال: أعجمت الحرف والتعجيم مثله"، وقولهم: "معجم الخط هو الذي أعجمه كاتبه بالنقط، تقول: أعجمت الكتاب أعجمه إعجأما"، هو تعريف يجب أن يكون قد وضع بعد وضع الإعجام، أي التنقيط، فإذا كان الإعجام من وضع "أبي الأسود الدؤلي"، فيجب أن يكون ظهوره منذ أيامه فما بعد، أما إذا كان قبله فيجب أن يكون من مصطلحات الجاهليين.

ويذكر علماء اللغة أن "أعجم الكتاب خلاف أعربه، أي نقطه" فأزال الكاتب عجمة الكتاب بالنقط. ومعنى هذا أن النقط قد أزال الغشاوة عن الحروف المعجمة، أي المتشابهة في الشكل، بوضع النقط فوقها، فصارت حروفاً معربة واضحة. و لولا الإعجام لما استبان الكلام، ولوقع سوء الفهم واللبس في كثير من الألفاظ التي ترد فيها الحروف المعجمة، ففي الإعجام لبس ووقوع في خطأ، وفي اللحن مثل ذلك أيضاً، ولهذا أرى وجود صلة كبيرة بين اللحن، الذي هو الخطأ في الكلام، بسبب الجهل بالاعراب. وقد رأيت قول العلماء: "أعجم الكتاب خلاف أعربه"، أي وضحه وصححه بالنقط. فبين الاثنين ترابط في الأصل، فالاعجام خلاف الاعراب، واللحن خلاف الإعراب كذلك.

وقد صار النقط، أو وضع الحركات على الحروف لإرشاد القارئ إلى القراءة الفصيحة الصحيحة، ضرورة لازمة، بدونها قد يخطئ الإنسان فهم المعنى، وقد يقع في أخطاء جسيمة لو أخليت الكتابة من النقط والإعجام. وقد ضرب العلماء الأمثال على أخطاء وقع بها الناس بسبب طريقة الكتابة القديمة التي لم تكن تنقط الحروف و لا تعجمها، فكان القارئ يقع في أخطاء.

والإعراب بعد، لا يختص بالعربية وحدها، بل نجد آثاره في لغات سامية أخرى، وانما ظهر وعرف في عربيتنا، لأن اللغات الأخرى قد ماتت في الغالب، فلم يبق أحد من الناطقين بها، لنتبين كلامه، ولأن نصوصها غير مشكلة، وهي خالية من الحروف التي تدل على الشكل والحركات، لذلك لا نستطيع التحدث عن وجود الإعراب بها. ولكن بعض النصوص البابلية تشير إلى وجود الإعراب بها. واللاتينية مع أنها من اللغات الآرية فهي لغة معربة كذلك. ويخيل لي ان معظم العامة، ولتكون اللسان الرفيع الذي يخاطب الإنسان به أربابه، ثم خفت حدة الحاضر، تبسط لغتها وتختزل لغتها قواعدها وجمل كلامها ليتناسب الكلام مع عقلية السرعة التي أخذت تسيطر على الإنسان الحاضر.

وما قلته عن اللغات الأخرى من صعوبة التكلم عن إعرابها، بسبب عدم وجود نصوص مشكلة عندنا تشير إلى طرق اإعراب بها، ينطبق كذلك على اللغات العربية الجنوبية، وعلى اللغات الأخرى، مثل الصفوية، والثمودية واللحيانية، لعدم وجود الحركات بها أو العلأمات الدالة على الإعراب. وخلو هذه اللغات من العلأمات التي تقوّم الإعراب، هو بالنطق في اللسان، وهو ما لا يمكن استخراجه من الكتابة العربية الجنوبية، فاللسان هو الذي يشكل ويحرك الألفاظ وفق مقتضيات قواعد الألسنة: أما النبطية، وهي من اللهجات العربية الشمالية، ففيها ظواهر بالرزة تشير إلى انها كانت لغة معربة، وهي في نظري أقرب اللغات العربية الجاهلية إلى عربية القرآن الكريم، فالأسماء في النبطية، معروفة في عربيتنا قليلة في العربيات الأخرى، وهي قريبة من هذه العربية في أمور أخرى نحوية وصرفية.

اللحن

من معاني اللحن: اللغة. "روي أن القرآن نزل بلحن قريش، أي بلغتهم. وفي حديث عمر رضي الله عنه: تعلموا الفرائض والسنة واللحن، بالتحريك، أي اللغة"، ومنه قول "عمر": "تعلموا الفرائض والسنن واللحن، كما تَعلَّمون القرآن". ومن معانيه الخطأ في الكلام. "قال أبو عبيد في قول عمر رضي الله عنه: تعلّموا اللحن، أي الخطأ في الكلام لتحترزوا منه"، وورد: "وأما قول عمر رضي الله عنه: تعلّموا اللحن والفرائض، فهو بتسكين الحاء، وهو الخطأ في الكلام ... قال أبو عدنان: سألت الكلابيين عن قول عمر: تعلّموا اللحن في القرآن كما تعلمونه، فقالوا: كُتب هذا عن قوم ليس لهم لغو كلغونا، قلت: ما اللغو ? فقال: الفاسد من الكلام. وقال الكلابيون: اللحن: اللغة. فالمعنى في قول عمر: تعلموا اللحن فيه، يقول: تعلموا كيف لغة العرب فيه الذين نزل القرآن بلغتهم"، "وجاء في رواية تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه، يريد تعلموا لغة العرب بإعرابها"، ووردت اللفظة بمعان أخرى. وقد أجمل العلماء ما جاء فيها من معان بستة معان: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفطنة، والتعريض، والمعنى.

وقد ذكر أن الرسول لما أرسل "سعد بن معاذ"، وهو يومئذ سيد الأوس و "سعد بن عبادة"، وهو يومئذ سيد الخزرج إلى "كعب بن أسد"، وكان قد نقض عهده للرسول وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله، قال لهما: "انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقاً فالحنوا إليّ لحناً أعرفه و لا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس"، فلما أتيناهم وجداهم على أخبث ما بلغهما عنهم، نالوا من رسول الله، "وقالوا: من رسول الله ! لا عهد بيننا وبين محمد و لا عقد"، فلما عادا إلى رسول الله قالا: "عضل والقارة. أي كغدر عضل والقارة"، فاللحن هنا بمعنى الإيماءة والاشارة والرمز، فاللحن هنا أن تريد الشئ فتوري عنه.

والذي أريده من اللحن، الخطأ في الكلام، والزيغ عن الإعراب، وهو معنى لا نستطيع فهمه من النصوص الجاهلية، لخلو تلك النصوص من الكركات، ومن الإشارة إلى قواعد لغاتها. ولذلك فلا مناص لنا لفهمه إلا بالرجوع إلى الموارد الإسلامية. وهي تذكر أن اللحن بهذا المعنى، لم يظهر إلا في الإسلام، ظهر بسبب دخول الأعاجم في دين الله، واختلاطهم بالعرب، وأخذهم لغتهم واتصال العرب بهم، ففسدت الألسنة، وظهر اللحن بين الموالي وبين العرب. وقد عيب ظهوره في العربي، حتى غلب على ألسنة الناس. وهم يذكرون ان العربي القح الأصيل، لم يكن يخطئ في كلامه، لأنه يتكلم عن طبع وسجية، ومن كان هذا شأنه، لا يقع اللحن في كلامه، أو لأنهم كانوا يتأملون مواقع الكلام ويعطونه في كل موقع حقه وحصته من الإعراب عن ميزة وعلى بصيرة.

يقول العلماء: وكان أول لحن ظهر بين العرب على عهد النبي، فقد رووا أن الرسول سمع رجلاً يقرأ فلحن، فقال: ارشدوا أخاكم، أو ارشدوا أخاكم فإنه قد ضل، ثم فشا وانتشر في مواضع الإختلاط خاصة، حيث اختلط العجم بالعرب، كالعراق و بلاد الشام ومصر، حتى دخل أعمال الحكومة، فأخطأ الكتاب في النحو، وأفحشوا في الإعراب، فكتب كاتب من كتاب "أبي موسى" الأشعري كتاباً فيه، "من أبو موسى ..."أو ما شابه ذلك من خطأ في القول، فكتب "عمر" إلى عامله: "سلام عليك. أما بعد، فاضرب كاتبك سوطاً واحداً، وأخر عطاءه سنة": أو: "إذا أتاك كتابي هذا، فاجلده سوطاً واعزله عن عملك"، أو "قنع كاتبك سوطاً"، أو: "ان كاتبك الذي كتب إليّ لحن، فاضربه سوطاً"، وذكر "الجاحظ"، أن "الحصين بن أبي الحرّ"كتب إلى "عُمر" كتاباً "فلحن في حرف منه، فكتب إليه عمر: أن قنع كاتبك سوطاً".

وسبب ذلك انهم كانوا يرون ان اللحن عيب مشين. قال "عبد الملك بن مروان: اللحن هجنة على الشريف، والعجب آفة الرأي. وكان يقال: اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدري في الوجه".

و لا يمكن تفسير قول القائل ان "اللحن بمعنى الخطأ محدث، لم يكن في العرب العاربة الذين تكلموا بطباعهم السليمة"، الا أن يكون مراده أن الجاهليين كانوا يتكلمون بطباعهم السليمة بلغاتهم، كل يتكلم بلغته، ووفق سجيته ولسانه الذي أخذه من بيته، فهو ينطق وفق ما سمع وحفظ، فلا يلحن في الكلام بلسانه الذي أخذه من أهله، وهو رأي أقول أنه على الجملة مقبول معقول. أما اذ أريد به، أن العرب كانوا جميعاً يتكلمون بلسان واحد، فلا يخطئ أحدهم فيه و لا يلحن، فإن ذلك يتعارض مع قولهم بوجود اللغات، وبأن تلك اللغات كانت تتباين في أمور كثيرة في جملتها قواعد في النحو والإعراب، كما في "ذي" الطائية، وفي اعراب المثنى بالألف مطلقاً، رفعاً ونصباً وجرّاً وذلك في لغة "بلحرث"و "خثعم" و "كنانة"، فيقولون: جاء الرجلان، و رأيت الرجلان، و مررت بالرجلان، وكما في "كم" الخبرية، حيث ينصب "بنو تميم" تمييز "كم"، و لغة غيرهم وجوب جره و جواز إفراده و جمعه، و كما في إعراب "الذين" من أسماء الموصول إعراب جمع المذكر السالم في لغة "هذيل"، أو "عقيل" و في قول بعضهم هذه النخيل و قول بعض آخر هذا النخيل إلى غير ذلك من مواطن خلاف و تباين بحث فيها العلماء، لا مجال للبحث فيها في هذا المكان ، و وجدود هذا الاختلاف، هو دليل في حد ذاتهعلى خروج القبائل على قواعد اللغة، و الخروج على القواعد هو الحن.

لقد أقر علماء العربية بوجود خلاف بين القبائل المتكلمة بلهجات عربية شمالية، وقد أشرت إلى مواضع ذكروها في هذا الباب، و كشف علماء النحو عن خلاف في قواعد النحو، في مثل اختلاف القبائل في التذكير و التأنيث، كما في مثل الطريق و السوق و السبيل و التمر، فهي ألفاظ مؤنثة عند اهل الحجاز، وهي مذكرة عند قبائل أخرى، و كشفوا عن أمور أخرى إن تكلم المتكلم أو كتب بها عدّ صدور ذلك لحنا منه، فهل يعدّ العربي المتكلم بلهجة من هذه اللهجات المخالفة مخالفاً لقواعد العربية، أي لحّاناً، كما نعد الاعجمي الذي يقع في الخطأ نفسه، أم نعدّه فصيحاً، عربي اللسان و السليقة? أما الاعجمي الذي يقع في الخطأ ذاته فنعده لحّاناً لحنة! لقد ذكروا ان الرسول "حين جاءته وفود العرب، فكان يحاطبهم جميعاً على اختلاف شعوبهم و قبائلهم و تباين بطونهم و أفخاذهم، و على ما في لغاتهم من اختلاف الاوضاع و تفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين إن أصحابه رضوان الله عليهم و من يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوجَّه اليهم الخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة، حتى قال له علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه و سمعه يخاطب بني نهدّ: يا رسول الله، نحن بنوا أب واحد و نراك تككلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره? فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات"، فهل يعقل بعد، أن يقال إن العربي كان لا يلحن و لا يخطئ في كلامه و لا يزيغ عن العربية المبينة، و العرب هم على هم عليه من اختلاف في اللجات، الذي يدفع حتماً على وقوع اللحن، لو تكلموا بالعربية القرآنية، أي هذه العربية التي يسميها علماء اللغة لغة قريش، و التي هي اللسان العربي المبين على تسمية القرآن لها.

ثم كيف نفسر حديث: "أرشدوا أخاكم"، أو "أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل" مع قولهم ان العربي لا يخطئ في كلامه ولا يلحن، لآنه يتكلم عن طبع و سليقة، و لم يكن هذا الذي لحن أمام الرسول، أعجمياً، و إنما كان عربيا، غأذا كان الامر كذلك، فكيف وقع اللحن إذن? ثم كيف نفسر خبر سماع الأمام "علي" أعرابياً، وهو يلحن في القرآن و يقرأ: )لا يأكله إلا الخاطئين"، أو حبر ذلك الأعرابي الذي قرأ )إن الله بريء من المشركين و رسولِه( بالجر، لأن رجلاً من أهل المدينة أقرأه إياه على هذا النحو، فبلغ ذلك "عمر"، فأمر ألاّ يقرأ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو، و الأعراب هم لبّ العرب، و صفوتهم في الكلام، فكيف وقع هذا الاعرابي في اللحن ياترى? ثم كيف نفسر قول من زعم أن في القرآن آيات فيها لحن، مثل: )إن هذان لساحران(، )و المقيمين الصلاة و المؤتون الزكاة(، )وان الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئون(، و مواضع أخرى تحتاج إلى تأويل ليستقيم إعرابها، أو إلى إصلاح أملائها لتنجو من اللحن.

ثم كيف اختلف قراء القرآن في نصب "الطير" في الآية: )يا جبال أوبي معه و الطير( أو رفعها، و أختلافهم في ضم الفاء أو فتحها في الآية: )لقد جائكم رسول من أنفسكم(، و اختلافهم في بناء الفعل للمجهول أو للمعلوم في الآية: )الم. غلبت الروم(، و غير ذلك من مواضع اختلاف، فيها القرّاء، مع كونهم من العرب الأقحاح.

ثم كيف نفسر اضطراب العلماء و ذهابهم مذهاب في قراءة الآية: )قالوا: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم و يذهبا بطريقتكم المثلى(، و تأويلهم القراءة جملة تأويلات، لأن القاعدة النحوية تقول: "ان هذين" بينما القراءة: "إن هذين"، فعللوها جملة تعليلات، منها أن هذه القراءة نزلت بلغة "بني الحارث بن كعب" ومن جاورهم يجعلون الاثنين، أي المثنى في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف، كما في قول بعض "بني الحارث بن كعب": فأطرق اطراق الشجاع و لو يرى  مساغاً لناباه الشجاع لصـمـمـا

و قيل إن هذه القراءة، هي قراءة بلحارث بن كعب، وخثعم، وزبيد ومن وليهم من اليمن. ونسبها "الزجاج "إلى كنانة، وابن جني إلى بعض بني ربيعة.

ثم ما ورد في خبر آخر عن سعيد بن جبير، من قوله: "في القرآن أربعة أحرف لحن: الصابئون، والمقيمين، و فأصدّقَ وأكن من الصالحين، وإن هذان لساحران" إلى غير ذلك من أخبار. ثم ما ورد من قول "عثمان": "إن في القرآن لحناً، وستقيمه العرب بألسنتها"، وأمثال ذلك، و ما ذكر من أن "أبا بكر"، كان يستحب أن يُسقط القارئ الكلمة من قراءته على أن يلحن فيها، أفلا يدل هذا الخبر، على أن اللحن كان معروفاً ومتفشياً في عهد "أبي بكر"، و ما روي في رواية تقول: "لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان رضي الله عنه، فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها، أو قال ستعربها بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف و المملي من هذيل لم يوجد فيه هذه"، ثم ما ورد من وقوع اللحن من عرب أقحاح، ومنهم من ولى الحكم وادارة أمور المسلمين، ومنهم أبنة "أبي الأسود الدؤلي" التي لحنت أمامه، فعمل باب التعجب على ما يزعمه الرواة.

وتوحي الأحاديث الواردة في الحث على إعراب القرآن، والكتب التي ألفها العلماء في إعرابه، أن من العرب: من أهل مدر وأهل وبر، من كان يقرأ القرآن بغير إعراب، أما لأن لغته لم تكن معربة، وأما لأن إعرابها كان لا يتجانس مع إعراب القرآن، و سببه أن الجاهليين لم يكونوا يتقيدون جميعاً بقواعد الإعراب، فمنهم من كان يتحلل منه، ومنهم من يعمل به وفق قواعد لغته ولهجته، و دليل ذلك قراءة الصحابة القرآن بألسنتهم، مما سبب في ظهور مشكلة القراءات، و هذا ما أخاف الصحابة، وجعلها تخشى من احتمال ظهور قرائين مختلفة، مما حمل "عثمان" على توحيد لغة القرآن، وتدوين كتاب الله حسب التوصيات التي أعطاها إلى اللجنة التي كلفها بتدوينه.

أضف إلى ذلك ما نجده في الكتب من إجازة اصلاح اللحن والخطأ في الحديث. من مثل ما نسب إلى الأوزاعي من قوله: "لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث"، وقوله: "اعربوا الحديث فإن القوم كانوا عرباً"، ومثل ما نسب إلى "يحيى بن معن" من قوله: "لا بأس أن يقوم الرجل حديثه على العربية" و إلى "أبن أبي رباح" حين سئل عن الرجل يحدث بالحديث فيلحن، هل يحدث به كما سمع منه أم يعرب، فقال لسائله: لا، بل اعربه. و ما ورد في أقوال العلماء في جواز أو عدم جواز اصلاح اللحن في الحديث، واختلافهم فيه، هو دليل على أن من العرب من كان يقع في اللحن أيضاً، وان اللحن لم يقع من الأعاجم وحدهم.

ثم ان من غير المعقول ألا يقع اللحن من أهل اليمن ومن بقية عرب العربية الجنوبية، الذين كانوا يتكلمون بألسنة عربية جنوبية، رأينا أنها تختلف عن عربيتنا في مفردات الألفاظ وفي قواعد النحو والصرف.

إن كل من صدر منهم اللحن، ممن أشرت اليهم و ممن لم أشر، كانوا من العرب، منهم من كان من أهل المدر، ومنهم من كان من أهل الوبر، بهم بدأ اللحن، أما لحن العجم، فقد بدأ بعد اللحن الذي ظهر في أيام الرسول، و في أيام "عمر "بدأ بالطبع بالفتوح، فلحن العرب اذن أقدم عهداً من لحن العجم، يؤيد ذلك ما يرويه العلماء من وقوع الشعراء الجاهليين في أخطاء نحوية، هي لحن و خروج على القواعد في نظرهم. و الشعراء الجاهليون عرب، ومن لسانهم استمد علماء النحو نحوهم وصرفهم. فقد زعموا أن "النابغة"أخطأ في قوله: "في أنيابها السم ناقع"، أخطأ و لحن لحناً شنيعاً، و كان عليه أن يقول: "في أنيابها السم ناقعاً"، أخطأ و لحن على زعمهم، مع ان كلامه حجة عندهم، و استشهدوا به في قواعد النحو والصرف.

وأخذ "حفص بن أبي بردة"، وهو من أهل الكوفة ومن أصحاب "حماد" الراوية على "المرقش"، انه كان يلحن، زعم أنه لحن في شعره، وقد أشير إلى زعمه هذا في شعر هجاء هجوه به، هو: لقد كان في عينيك يا حفص شاغل  وأنف كثيل العود عما تـتـبـع

تتبعت لحنناً في كـلام مـرقـش  وخلقك مبنيُ على اللحن أجمـع

فعيناك إقواءُ وأنـفـك مُـكـفـأُ  ووجهك إيطاءُ فأنت المـرقـع

وزعم علماء الشعر، أن "أمرأ القيس" حامل لواء الشعر، ومن جاء بعده من الشعراء، مثل "النابغة"، و "بشر بن أبي خازم"، و"الأعشى"، أقووا في شعرهم، والإقواء: هو اختلاف إعراب القوافي، وهو أن تختلف حركات الروي، فبعضه مرفوع وبعضه منصوب أو مجرور. ويكثر وروده في اجتماع الرفع مع الجر، وأما الإقواء بالنصب فقليل. وهو في نظرهم عيب. وزعموا أن بعضاً من شعراء الجاهلية أكفأوا في شعرهم. والإكفاء، المخالفة بين حركات الروي رفعاً ونصباً وجراً، أو المخالفة بين هجائها، أي القوافي، فلا يلزم حرفاً واحداً تقاربت مخارج الحروف أو تباعدت، ومثله أن يجعل بعضها ميماً وبعضها طاء، وقال بعضهم: الإكفاء في الشعر هو التعاقب بين الراء واللام والنون. وهو أحد عيوب القافية الستة التي هي: الإيطاء، والتضمين، والإقواء، والإصراف، والإكفاء، والسناد.

وقد روي أهل الأخبار قصة زعموا انها وقعت للنابغة، وكان لا يعرف شيئاً عن إقوائه بشعره، فلما وقعت له عرف به فعافه، ذكروا أن الناس خافوا تنبيه الشاعر إلى إقوائه، وبقي هو عليه، حتى دخل يثرب، فأرادوا إظهار عيبه له فأمروا قينة لهم أن تغنيه شعره، فغنته: أمن آل ميّة رائح أو مغتدي  عجلان ذا زاد و غير مزود 

زعم البوارح أن رحلتنا غدا  وبذاك حدثنا الغراب الأسود

ففطن إليه ولم يعد إلى إقواء. "قال أبو عمرو بن العلاء: فحلان من الشعراء كانا يقويان، النابغة و بشر بن أبي خازم، فأما النابغة فدخل يثرب فغنى بشعره ففطن فلم يعد للإقواء، وأما بشر، فقال له أخوه سوادة: انك تقوي، قال: و ما الإقواء ? قال: قولك: ألم ترَ أنّ طول الدهر يُسلى  و يُنسي مثل ما نسيت جذامُ 

ثم قلت: و كانوا قومنا فبغوا علينا  فسقناهم إلى البلد الشام

فلم يعد للإقواء".

ورويت قصة إقواء "بشر بن أبي خازم" بشكل آخر، فقد زعم ان أخاه "سوادة" قال له: إنك تقوي، قال: و ما الإقواء ? قال: قولك: ألم ترَ أنّ طول الدهر يُسلي  وينسي مثل ما نسيت جُذامُ

ثم قلت: و كانوا قومنا فبغوا علينا  فسقناهم إلى البلد الشام

فلم يعد للاقواء"، أو أن أخاه "سمير"، قال له: "أكفأت وأسأت. فقال: وما ذاك ?".

وقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن المصاحف لما كتبت "عرضت على عثمان، فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: لا تغيّروها، فإن العرب ستغيرها - أو ستعربها - بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد هذه الحروف"، وقد كان كل من اختارهم الخليفة لكتابه القرآن من خالص العرب، ولم يكن من بينهم من هو من المولدين أو الموالي، وقد كانوا من الفصحاء الألباء، فكيف وقع منهم اللحن إذن ?   

بل زعموا أن "عمر" ضرب أولاده لما لحنوا، وأن "معاوية" كلم "عبيد الله ابن زياد"، فوجده كيساً عاقلاً على أنه يلحن فكتب إلى والده بذلك، وزعموا ان "الحجاج "كان يلحن، زعموا انه لحن في القرآن، فقرأ: )إنا من المجرمون منتقمون(، وزعموا انه لحن في آيات آخرى، والحجاج من ثقيف، ولم يكن أعجمياً، حتى يظهر اللحن منه، مع انهم جعلوه أحياناً من أفصح العرب، وممن لم يلحن في حياته في جدّ و لا هزل. قال "الأصمعي": "أربعة لم يلحنوا في جد و لا هزل: الشعبي، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وابن القرية. والحجاج أفصحهم"، وزعموا ان "الوليد بن عبد الملك"، وأخاه "محمد بن عبد الملك" كانا لحاّنين. ذكر ان "الوليد" خطب الناس يوم عيد، فقرأ في خطبته "يا ليتُها كانت القاضية، بضم التاء، فقال عمر بن عبد العزيز: عليكَ وأراحنا منك. ورووا قصصاً عن لحنه. وذكر أن "عبد الملك" قال: "أضر بالوليد حبنا له، فلم نوجهه إلى البادية "يقصد أنه كان يلحن بسبب عدم ارساله إلى الأعراب ليأخذ عنهم اللسان الفصيح. وقد كان أخوه محمد لحاناً كذلك، وذكر أنه لم يكن في ولد عبد الملك أفصح من هشام ومسلمة. قال "الجاحظ": "وكان الوليد بن عبد الملك لحنة، فدخل عليه أعرابي يوماً، فقال: أنصفني من ختني يأمير المؤمنين. فقال: ومن ختنك ? قال: رجل من الحي لا أعرف اسمه. فقال عمر بن عبد العزيز: ان أمير المؤمنين يقول لك: من ختنك ? فقال: هو ذا بالباب. فقال الوليد لعمر: ما هذا ? قال: النحو الذي كنتُ أخبرتك عنه. قال: لا جرم: فإني لا أصلي بالناس حتى أتعلمه". وذكر "الجاحظ "أمثلة على اللحن. وروي أن كتب "الوليد"كانت تخرج ملحونة. فسأل "اسحاق بن قبيصة "أحد موالي "الوليد" ما بال كتبكم تأتينا ملحونة وأنتم أهل الخلافة ? فأخبره المولى بقولي، فلإذا كتابُ قد ورد عليّ: أما بعدُ فقد أخبرني فلان بما قلت، و ما أحسبك تشك أن قريشاً أفصح من الأشعرين، والسلام".

وقد ورد في شعر "مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري: قوله: وحديثُ الذّه هـو مـمـا  ينعت الناعتون يوزن وزنا 

منطق صائب وتلحن أحيا- ناً وخير الحديث ما كان لحنا وقد ذكر أنه لم يرد اللحن في الإعراب الذي هو ضد الصواب، وإنما أراد الكتابة عن الشئ والتعريض بذكره، والعدول عن الافصاح عنه. قيل: تكلمت "هند بنت أسماء بن خارجة"، أخت الشاعر المذكور فلحنت، وهي عند الحجاج، فقال لها: أتلحنين وأنت شريفة في بيت قيس ?! فقالت: أما سمعت قول أخي مالك لامرأته الأنصارية ? قال: وما هو ? قالت: قال: منطق صائب وتلحـن أحـيا  ناً وخير الحديث ما كان لحنا 

فقال لها الحجاج: إنما عني أخوك اللحن في القول، إذا كنّي المحدث عما يريد، ولم يَعٌنِ اللحن في العربية، فأصلحي لسانك. غير أن منهم من رأى أن المراد بهذا اللحن، اللحن المخالف لصواب الاعراب.

وقد ذكر "السهيلي"، أن الجاحظ قد أخطأ حين قال في كتابه "البيان والتبيين"، ان الشاعر لم يقصد اللحن الذي هو الخطأ في الكلام وإنما أراد استملاح اللحن من بعض نسائه، وخطأه في هذا التأويل، قال: فلما حدث الجاحظ بحديث "الحجاج"، "قال: لو كان بلغني هذا قبل أُألف كتاب البيان، ما قلت في ذلك ما قلت ! فقال له: أفلا تغيره ? فقال: كيف وقد سارت به البغال الشهب، وانجد في البلاد وغار". و "قال السيرافي: ما عرفت طريق الصواب، والنحو قصد إلى الصواب".

وذكروا أن بعض شعراء الدولة الأموية كان يلحن، وممن وقع منه اللحن "الفرزدق". رووا أن "عبد الله بن يزيد الحضرمي" البصري، كان ينتقده ويتعقب لحنه، فهجاه الفرزدق، بقوله: فلو كان عبد الله مولى هجوته  ولكن عبد الله مولى المواليا

فقال له الحضرمي: لحنت. ينبغي أن تقول مولى موالٍ.

"وقالوا: تربع ابن جؤية في اللحن، حين قرأ: هؤلاء بناتي هنّ أطهرَ لكم"، وجعلوه حالاً، يعني: أطهر. وليس هو كما قالوا ..."، و "تكلم معاوية بن صعصعة بن معاوية يوماً، فقال له صالح بن عبد الرحمن: لحنتَ. فقال له معاوية: أنا ألحن يا أبا الوليد، والله لنزل بها جبريلُ من الجنة".

وقد فشا اللحن وانتشر حتى بين العلماء، وبين علماء النحو واللغة أيضاً، حتى غلط بعضهم بعضاً، ونسب بعضهم اللحن إلى البعض الآخر، قال "ابن فارس": "وقد كان الناس قديماً يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أو يقرأونه اجتنابهم بعض الذنوب. أما الآن، فقد تجوزوا حتى إن المحدّث يحدث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبّها قالا: ما ندري ما الإعراب ! وانما نحن محدثون وفقهاء". ولما كثر اللحن في الحديث، جوزوا إعرابه. قال "الأوزاعي": "لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث"، وقال أيضاً: "أعربوا الحديث فإن القوم كانوا عرباً". وقال "النضر بن شميل": "كان هشيم لحاناً، فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة، يعني بالإعراب".

وبعد، فقد رأيت من روايات أهل الأخبار أنفسهم، أن اللحن لم يكن قاصراً على العجم، بل كان قد عرف بين العرب كذلك، وعلى هذا يجب ألا نلقي مسؤولية ظهوره على الأعاجم، بل على العرب أولاً، لأنهم هم الذين بدأوا باللحن، بدأوا به قبلهم بأمد طويل، لحنوا في الجاهلية، أي قبل دخول العجم في اإسلام. فنحن نظلم الأعاجم اذن، إن ألقينا على عاتقهم مسؤولية إشاعة اللحن بين العرب. ولكن هل يعقل وقوع اللحن من عرب كالجاهليين، ومن شعراء فحول، استمد علماء اللغة قواعد النحو والصرف من شعرهم مثل "النابغة "الشاعر المعظم، أو من غيره ? لقد سبق أن ذكر علماء اللغة أن العربي، لا يزال في كلامه وحاشا له أن يلحن أو يخطئ في لسانه، لأنه إذا تكلم عن سليقة وطبع، وقد حماه الله من الوقوع في زلل الكلام ! إذن فكيف نفسر ما ذكروه من وقوع النابغة في اللحن، ومن وجود الإقواء في شعره وفي شعر غيره، ومن ظهور اللحن في أيام الرسول ? هل نرجع ذلك إلى خطأ الرواة في رواية شعر النابغة وأمثاله، أو نرجع ذلك إلى التزوير، فنقول إن ذلك الشعر مفتعل، وإنه ليس من شعر النابغة، وإنما هو شعر منحول وضع عليه، ومن ثم وقع الخطأ. ولكن الذي نعرفه أن من كان ينحل العرب الشعر وينسبه للجاهليين، كان من أتقن الناس لشعر الجاهلية ومن أعرف الناس بالعربية، ومن البارعين الحاذقين بقواعدها، وأناس على هذا الطراز من الفهم والعلم، هل يعقل وقوع مثل هذا الغلط منهم ? أو هل نرجع ذلك إلى الخطأ في التدوين والاستنساخ، ولكن كيف غفل العلماء من النص على ذلك ? وجوابي أن القول بأن اللحن بمعنى الخطأ في الكلام، يستوجب وجود لغة فصيحة ذات قواعد نحوية وصرفية مقدّرة ومقننة وثابتة تعدّ اللغة الفصيحة العالية في نظر أصحابها، من يخالف قواعدها يعدّ لحاناً لا يحسن القول و لا الكلام. وهو قول لا يعارضه أحد بالنسبة إلى وجوده في الإسلام، بعد أن فرض الإسلام دين الله على المؤمنين به كتاباً سماوياً ولساناً عربياً مبيناً، تثبتت قواعده نحوه وصرفه في الإسلام. فمن سار عليها عدّ فصيحاً، ومن خالفها عد لحاناً عامياً. أما بالنسبة لأهل الجاهلية، فالقول بوجود اللحن عندهم، يقتضي التسليم بوجود لغة فصيحة عليا لديهم، لها قواعد مقررة، من تكلم وفقها عد فصيحاً، حسب درجة إعرابه وملكته في اللغة، ومن خالفها عد عامياً جلفاً. وقد أكد علماء اللغة، وجود هذه العربية الفصيحة، التي هي عندهم عربية قريش، عند ظهور الإسلام، وقالوا: إن بها كان نزول عربية القرآن، وبها نظم الشعر الجاهلي، وبها نثر الكلام الجاهلي المنثور. أما اللحن، فقد أنكروا وجوده، ولم يسلموا بوقوعه، وحجتهم ما ذكرته من أن العربي فصيح بطبعه، إذا تكلم تكلم عن سجية فيه وسليقة، لم يلحن و لم يخطئ في كلامه في الجاهلية، إلى أن كان الإسلام، فاختلط العرب بالأعاجم، ودخل الغرباء بين العرب، ففسد الطبع وظهر الخطأ في اللسان، وفشا اللحن.

وقد يعقل تصور وجود هذه العربية الفصحى، إذا افترضنا - مع المفترضين الأخباريين -ان تلم العربية، هي عربية أهل مكة ومن عاش حولهم، وانها كانت عربية قريش، وأن المتكلمين بها كانوا بشراً عصموا عن الخطأ في اللسان وجبلوا على التكلم بها على الفطرة، ولكننا لا نستطيع القول انها كانت عربية كل عرب جزيرة العرب، إذ رأينا العرب الجنوبيين، وقد كانوا يتكلمون بلغات أخرى، ووجدنا عرب أعالي الحجاز، ولهم ألسنة تباين عربية القرآن، ورأينا للقبائل لهجات، تختلف بدرجات عن هذه العربية. فكيف يتصور اذن اتفاق العرب كلهم على التكلم بلسان قريش، وبغير خطأ أو زلل في اللسان.

وفي نفي علماء اللغة وجود اللحن عند الجاهليين تعارض مع رواياتهم القائلة بوجود الإقواء والأكفاء في شعر بعض الشعراء الجاهليين، وبلحن "النابغة" في قوله: "في أنيابها السم ناقع"، وبلحن الأعرابي في حضرة الرسول، وبتياين لغات العرب، تبايناً تحدثت عنه في فصل "لغات العرب" وقد وقع في كثير من صميم خصائص اللغات، ومن بينها أمور تخص قواعد الإعراب، وفيه تعارض أيضاً مع القرارات الشهيرة والشاذة للقرآن، وبينها أمور تخص قواعد النحو والصرف والإعراب، وفيه تعارض مع ما ذكروه من أن "أطراف الجزيرة لم تكن خالصة العروبة في القديم، بل كان أهلها مغلوبين على أمرهم ؛ فلم يكن لهم من معنى اللغة إلا تعاور المنطق والاستبداد بالكلمات يتلقفونها ممن حولهم، لأن ملكات الوضع العربي فيهم غير صحيحة، وشروطه غير تامة، وليس كل عربي الجنس عربي اللسان، وإلا فما بال الحميريين ومن قبلهم من الأمم السالفة ?".

وكيف يعقل نفي اللحن عن العرب مع وجود اللغات، ووجود التعارض والإختلاف البين بين قواعد هذه اللهجات، هل يعقل أن يتكلم العربي الجنوبي، باللغة العربية الفصيحة من غير خطأ و لا لحن، ولسانه غير لساننا، وعربيته غير عربيتنا، وقواعده على خلاف قواعدنا، وإعرابه على خلاف إعرابنا، كما أثبت ذلك بالبرهان القاطع من الكتابات الجاهلية، وبأقوال علماء العربية أنفسهم، وفي مقدمتهم "أبو عمرو بن العلاء"، القائل: "ما لسان حمير بلساننا، و لا لغتهم بلغتنا". ثن اننا إذا أخذنا القراءات المتنوعة التي قرئ بها القرآن، والشواهد الشعرية الكثيرة التي أوردها علماء العربية والنحو على الشواذ، وما يذكره العلماء من خلاف في النحو، فإننا لا يمكن تفسير خروجها على القواعد إلا بأنها أثر من أثر بقايا اللهجات. وخروجها على القواعد، هو لحن. ومن خرج على القواعد عدّ لحاناً، مهما كان عصره أو جنسه، جاهلياً كان أو مسلماً، عربياً كان أم أعجمياً، لأن اللحن لا يختص بعصر أو جنس.

ان ما دعوه باللحن، وما أخذوا الأعاجم عليه، من عدم تمكنهم من النطق ببعض الحروف، أو من وقوعهم في أخطاء نحوية، نراه قد وقع للعرب الفصحاء في الجاهلية وفي الإسلام، فما كان ينطقه بعض العرب من اشمام الصاد صوت الزاي، أو من النطق بالجيم "كافاً" على اللهجة المصرية، يعدّ لحناً، إن صدر من أعجمي، أما ان صدر من عربي، فلا يقال لذلك لحناً، بل يقال انه لغة من لغات العرب. واذا تصورنا ان عربية الجاهليين، كانت عربية عالية واحدة، على نحو ما يراه أهل الأخبار وعلماء اللغة، وجب اعتبار هذه اللغات لغات عامية، المتكلم بها خارج على قواعد اللغة، فهو ممن يلحن ويخطئ سواء كان عربياً، أم أعجمياً، جاهلياً أم أسلامياً، فنحن نتكلم هنا عن اسلوب كلام، لا عن رسّ وأصل.

اننا حين نقول ان اللحن لم يكن معروفاً بين أهل الجاهلية، نكون قد حصنّاهم بالعصمة: بعصمة اللسان، ونكون قد جعلناهم بذلك شعباً مختاراً، فضل بعصمة لسانه على ألسنة سائر البشر، ولكن العلم لا يعرف عصمة و لا حصانة في لسان، وهو يرى ان اللحن لا بد وأن يقع عند أي شعب، أو قوم، أو قبيلة، حتى ان كانت القبيلة في سرة البادية، وفي معزل ناءٍ، لأن الطبيعة توجد من اختلاف قابليات أفراد القبيلة ومن اختلاف مستوى عقلياتهم وثقافاتهم وتباعد سكنهم بعضهم عن بعض، خروجاً على اللسان، فيظهر اللحن الشاذ، ويبرز النشاز في اللغة، مهما كان موطن هذه القبائل، في جزيرة العرب أو في أي موضع آخر من العالم، فاللحن، أي التبليل في الألسنة من الأمور الطبيعية، التي توجدها طبيعة البشر وطبيعة الاقليم، وأمور أخرة بحث فيها علماء اللغة و الاجتماع، و لا يمكن أن يكون العرب بمنجاة منها ! لقد تحير "السيوطي" وغيره في تفسير خبر ورد عن "سعيد بن جبير" من انه "كان يقرأ: والمقيمين الصلاة، ويقول: هو لحن من الكاتب". فقال: "وهذه الآثار مشكلة جداً، وكيف يظن بالصحابة أولاً انهم يلحنون في الكلام فضلاً عن القرآن، وهم الفصحاء اللدّ ! ثم كيف يظن بهم ثانياً في القرآن الذي تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنزل، وحفظوه، وضبطوه، وأتقنوه، ثم كيف يظن بهم ثالثاً اجتماعهم على الخطأ وكتابته ! ...الخ"، وفي بعض هذه القراءات خطأ حصل من الكتابة، قال "هشام بن عروة عن أبيه، قال: سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله تعالى: إن هذان لساحران، وعن قوله تعالى: والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة. وعن قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون، فقالت: يا ابن أخي، هذ عمل الكتّاب اخطئوا في الكتاب"، أي من الرسم، وهو في الأكثر، فهذا الخطأ في الرسم القديم للكتابة، هو الذي جعل العلماء يسمونه لحناً، وهو ليس بلحن في الأصل، وانما جاء اللحن من قراءة القراء بألحانهم، أي على حسب لغاتهم، وإلا فلا يعقل تطاولهم على القرآن بقراءاتهم له قراءة مخالفة للإعراب ولما نزل به الوحي. وهكذا كان الأمر بالنسبة للمواضع الأخرى مثل: "اثنتا عشرة عيناً"، فقد قرئ بسكون الشين وهي لغة تميم"، وكسرها وهي لغة الحجاز، وفتحها وهي لغة، ومثل "الصراط"، فقد قرأت بالسين وبالصاد، والقراءتان لهجتا قبائل، ومثل "حتى"، فقد قرئت "عتى"، قرأها "ابن مسعود"على لسانه، إذ كان من هذيل.

وقد ذكر "المعري" أمثلة على قراءات في القرآن قرأها علماء مشهورون مثل "حمزة بن حبيب"، هي منكرة في نظر غيره من العلماء، "ينكرها عليه أصحاب العربية، كخفض الأرحام في قوله تعالى: وأتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، وكسر الياء في قوله تعالى: وما أنتم بمصرخي، وكذلك سكون الهمزة في قوله تعالى )استكباراً في الأرض ومكر السئ (، وجاء بأمثلة أخرى من قراءات غيره للقرآن.

والخلاف الذي نلاحظه في أمور النحو بين علماء البصرة وعلماء الكوفة، في مثل عمل الأسماء والأدوات: أدوات الجرّ، أو الخفض، وأدوات النصب، وأدوات الجزم، وأمثال ذلك، هو في حدّ ذاته دليل على وجود إعراب متعدد للعرب، وقف العلماء على شئ يسير منه، فوقعوا من في بلبلة من أمره، بسبب عدم اهتمامهم بأمر تلك اللغات، واقتصارهم في جمعهم قواعد النحو على لهجات الأعراب الذين اتصلوا بهم، فظهر لهم وكأنه نشاز، ولو فطنوا يومئذ إلى أنه من إعراب الذين أخذ عنهم البصريون: قيس، وتميم، وأسد، "فإن هؤلاء هم الذين أخذ عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب، وفي الإعراب، والتصريف. ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم"، والقبائل المذكورة باستثناء الطائيين، هم من مجموعة "مضر"، وليس فيها قبيلة من "ربيعة"، لذلك نستطيع القول ان العربية قد بنيت على لهجات مضر، وحيث أن علماء اللغة أهملوا لغات القبائل الأخرى وبينها قبائل من مضر كذلك، فلم يأخذوا منها إلا عرضاً، تولد من عملهم هذا بناء العربية على تلك اللهجات وبموجب اجتهاد واستقصاء أولئك العلماء، فطهر من أجل ذلك الغريب والنشاز، والاختلاف في الإعراب، الذي أشار إلى قسم منه العلماء، وهو الذي احتاجوا اليه للاستشهاد به في الشواهد والمناظرات، وأكثره من لغات مضر، وأهملوا الباقي، ولو هم سجلوا كل ما عرفوه من نشاز لتجمع من ذلك تراث كبير كثير من تراث اللغات الجاهلية من اختلاف في لغة وقواعد اعراب وصرف.

لقد تمسكت القبائل بقواعد ألسنتها حتى في الإسلام، فكان أفرادها ينطقون بلهجتهم، من ذلك ما ذكره "الزجاجي" من اختلاف "عيسى بن عمر "الثقفي، و "أبو عمر بن العلاء" في رفع أو نصب: "ليس الطيب إلا المسك"، ومن احتكامها إلى "أبي المهدي"، فلما ذهبا اليه وجداه لا يرفع، فلما حاولا اقناعه بالرفع، أبي عليهما ذلك وقال: "لا، ليس هذا من لحني و لا من لحن قومي"، فلما ذهبا إلى "المنتجع" التميمي، وجداه لا ينصب وأبى إلا الرفع، وذكر "الزجاجي": "ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، و لا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع". وقع ذلك في الإسلام وبعد تثبيت القواعد، وكان هذا حال قبائل الحجاز، وحال تميم في الجاهلية و لا شك، فهل يعد هذا الاختلاف دلالة على عدم وجود اللحن عند أهل الجاهلية، أم يعدّ دليلاً على وجوده عندهم ? لقد أدى اقتصار العلماء في أخذهم العربية عن القبائل التي ذكروها وفي تمسكهم برأيهم في أن تلك القبائل، هي صاحبة اللغة الفصيحة، إلى نبذ اللهجات العربية الأخرى، لاعتبارهم اياها لهجات مستقبحة، ولغات حشوية، فخسرت العربية بذلك خسارة كبرى، وظهر بسبب ذلك التنابذ في مذاهب علماء العربية، بسبب اعتمادهم على لغات معينة محدودة، وليس على كل اللغات العربية القريبة من لغة القرآن، ليتمكنوا بذلك من استقرائها كلها واستنباط القواعد الكلية منها.

ومن جملة الأمور التي يجب أن نشير إليها وننتبه اليها، هو أن علماء العربية حين كانوا يشيرون إلى لهجة من اللهجات، مثل لهجة أهل الحجاز، أو لهجة هذيل، أو تميم، وأمثالها، كانوا يشيرون اليها بالتعميم، مثل: جاء هذا على لغة اهل العالية: أو على لغة اهل الحجاز، أو على لغة تميم مع ان حكمهم هذا لم يؤخذ من دراسة لغة القبيلة المشار اليها، وانما اخذ من لسان اعرابي أو اكثر، بينما الحكم على منطق انسان واحد أو اثنين أو ثلاثة، لا يمكن ان يتخذ حجة للحكم على منطق قبيلة باكملها، اضف إلى ذلك ان القبائل الكبيرة كانت موزعة منتشرة، والحجاز وحده ذو قبائل كثيرة، متعارضة اللغات، فكيف يقال: جاء هذا على لغة اهل الحجاز وكانت اسد وتميم متجزئة منتشرة في مناطق واسعة وهذا مما يجعل لهجتها تتاثر بالاقليمية وبالجوار، فلم يكن لها لسان واحد، غير ان علماء العربية لم يفطنوا إلى هذه الامور، فوقعوا من ثم في اخطاء فاخذوا من بعض تميم، ونسبوا ما اخذوه على كل تميم مثلا.

ثم انهم لم يستخلصوا النحو من القرآن رأسا، وقد كان عليهم الاعتماد عليه أو لانهم انما اتخذوا النحو لصيانة اللسان من الخطأ في القرآن وفي لغة التنزيل، وانما مالوا عنه إلى الشعر، والى كلام اعراب من قبائل معينة وثقوا بصحة كلامهم وزاد ابتعادهم عن الاسلوب العلمي، باخذهم بالعصبية العلمية، فظهرت الاراء المتعصبة للمدن وللعلماء، فهذا رجل محب للبصرة، مفرط في حبها، لا يقدم على علمائها عالم، وهذا كوفي متعصب لنحو الكوفة، لا يقدم على اهل الكوفة احدا ثم زاد هذا التعصب للعلماء فهذا يلميذ عالم يتعصب له وياخذ برايه كانه راى نزل من السماء وهذا عالم كبير يعيب على عالم منافس له، ويتهجم هو وتلاميذه عليه، وهذا نحوي يعيب نحو الاخرين، وقد دفعت هذه العصبية بعض العلماء إلى الابتعاد عن العلم، باللجوء إلى الموضع والفتعال والاتهام، لافحام الخصوم، حتى جاء بعضهم بشواهد نحوية وصيرفية مفتعلة، وبشهود من الاعراب، تكلموا باطلا لتأييد عالم على عالم، وفي المسألة الزنبورية التي وقعت بين سيبويه والكسائي، وفي مجالس الجدل التي تجادل فيها العلماء في محضر الخلفاء في قضايا النحو و اللغة والشعر أمثلة عديدة على ما أقول.

وعندي ان ما نسب إلى بعض الشعراء الجاهليين من وقوعهم في اغلاط نحوية أو لغوية أو شعرية لم يكن خطأ بالنسبة لهم، وانما بان الخطأ عند علماء العربية، حين قاسوا الشعر بمقياس واحد، هو العربية التي جمعوا قواعدها ودونوها في الإسلام، والعروض الذى ضبطه "الخليل" ومن جاء بعده، ولو كانوا قد درسوا لهجات القبائل، وعلموا ان الشعر الجاهلي، جاء بالسنة متعددة، لعلموا اذن سر وقوع هذا الاختلاف في الشعر، ولاراحوا انفسهم من دراسة كثير من هذا الغريب والشاذ الذي ادخلوه كتب النحو واللغة، بعد صقل الشعر وتهذيبه. وقد فطن إلى ذلك "المعري" فاعتذر عما نسب إلى "امرىء القيس" من خروج عن القواعد بسوء الرواية وبالتصحيف، وبانهم في الجاهلية كانوا لا يعدون لذلك خروجا على القاعدة، وانما كان ذلك شيئا مالوفا عندهم فلما جاء "المعلمون في الإسلام" "غيروا على حيب ما يريدون"، وجعله يقول عن "الاقوياء": "لا نكرة عندنا في الاقواء واعتذر عما نسب إلى غيره من الشعراء من عيوب احصاها علماء الإسلام عليهم، بان قال ان هذه لم تكن من العيوب في ايامهم، وانما هي صارت عيوبا في الإسلام".

لقد اعتمد علماء العربية على الشعر الجاهلي وعلى لغات العرب التي وثقوا منها في جمع قواعد العربية وتثبيتها، كما استشهدوا بالقرآن، الذي نزل بلسان عربي مبين، والذي ثبت الغربية. أما "الحديث"، فقد اختلفوا في جواز الاستشهاد به ذلك لان الحديث لم ينقل كما سمع النبي وانما روي بالمعنى، وهذا فان ائمة النحو المتقدمين من المصرين: البصرة والكوفة لم يحتجوا بشيء منه، وقد جوز بعض العلماء الاستشهاد به على التقدير السليم بان النقل كان بالمعنى، انما كان في الصدر الاول، وقبل تدوينه في الكتب وقبل فساد اللغة، وغايته تبديل لفظ بلفظ، وهذا يجوز الاحتجاج به، لان السلائق العربية لم تكن قد فسدت بعد. وموضوع الخلاف، هو ان النقل لم يكن بالحرف، وانما بالمعنى، ولو كان بالاول لما وقع الخلاف في وجوب الاستشهاد به، ولجرى ذلك مجرى القران الكريم في اثبات القواعد الكلية بموجبه. قال "سفيان الثوري: ان قلت لكم اني احدثكم كما سمعت، فلا تصدقني، انما هو المعنى. ومن نظر في الحديث ادنى نظر علم العلم اليقين انهم يريدون المعنى". وقد وقع اللحن كثيرا فيما روي من الحديث لان كثيرا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ويتعلمون لسان العرب بصناعة النحو فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون، ودخل في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، فدخل من ثم هذا اللحن في الحديث، ولهذا امتنع علماء المصرين من الاستشهاد بالحديث في النحو. وقد جوز بعض المتأخرين الاستشهاد بالحديث والامثال النبوية الفصيحة، ولم يجوزوا الاستشهاد في غير ذلك للسبب المذكور.

هذا وقد الف العلماء كتبا عديدة في اعراب القران وفي معانيه وغريبه، وصل بعض منها الينا. وقد اشار "ابن النديم" إلى اسماء عدد من تلك المؤلفات. وهي مرجع هام بالنسبة لعلماء العربية، لورود آراء لغوية ونحوية قيمة فيها تفيد في شرح النحو العربي.

الفصل الخامس والاربعون قبل المئة
النحو

والنحو في الطريق والجهة والقصد، ومنه نحو العربية. وهو اعراب الكلام العربي. اخذ من قولهم: انتحاه إذا قصده. وهو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من اعراب وغيره ليلحق به من ليس من اهل اللغة العربية باهلها في الفصاحة فينطق بها، وان لم يكن منهم أو من ليس من اهل اللغة العربية باهلها من الفصاحة فينطق بها، وان لم يكن منهم أو ان شذ بعضهم عنها رد به اليها. وهو في الاصل مصدر شائع، أي نحوت نحوا، كقولك قصدت قصدا ثم خص به انتحاء هذا القبيل مع العلم. وقيل لقول علي بن ابي طالب بعدما علم الاسود الاسم والفعل وابوابا من العربية: "انح هذا النحو". أو لان ابا الاسود لما وضع ما وضع في النحو وعرضه على "علي" قال "علي" له: "ما احسن هذا النحو الذي نحوت ! ولذلك سمي النحو نحوا". ولكننا نجد "الجاحظ" يشير إلى وجود اللفظة في ايم "عمر"، اذ يقول: "وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا النحو كما تعلمون السنن والفرائض"، ويشبه هذا الخبر خبرا آخر نسب اليه ايضا فقد ذكروا انه قال: "تعلموا اعراب القران كما تتعلمون حفظه"، وانه قال: "تعلموا الفرائضنن واللحن، كما تعلمون القرآن". ويظهر ان الكتاب قد فصحوا في خبر "عمر"، فخلطوا بين "اللحن" و "النحو"، وعلى كل فان بين اللفظتين صلة. واذا صح خبر "الجاحظ"، اعتبرنا لفظة "النحو" لفظة صحيحة غير محرفة، دلت على وجود هذه التسمية علما لهذا العلم في ايامه، وقبل ايامه، أي في ايام الجاهليين.

والجمهور من اهل الرواية ان النحو علم ظهر في الإسلام. ظهر بظهور الحاجة الماسة اليه لضبط اللسان وصيانته من الخطأ ولتعليم الاعاجم الكلام بالعربية. ورجع اكثرهم مصدره واساسه إلى الأمام "علي بن ابي طالب"، ويقولون ان ابا الاسود الدؤلي "69 ه" اخذ هذا العلم عنه. وان الأمام القى عليه شيئا من اصول النحو. فاستأذن التلميذ استاذه ان يصنع نحو ماصنع، فاذن له به، فسمي ذلك نحوا. وذكر بعضهم ان الأمام دفع إلى ابي الاسود رقعة مكتوبا فيها: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما انبأ عن المسمى، والفعل ما انبىء به، والحرف ما افاد معنى. واعلم ان الاسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وانما يتفاضل الناس فيما ليس بظاهر ولا مضمر. ثم وضع ابو الاسود بابي العطف والنعت ثم بابي التعجب والاستفهام، إلى ان وصل إلى باب ان واخواتها ما خلا لكن، فلما عرضها على علي امره بضم لكن اليها، وكلما وضع بابا من ابواب النحو عرضه عليه". وذكر بعض اخر ان اول من اسس العربية وفتح بابها، وانهج سبيلها، ووضع قياسها، ابو الاسود الدؤلي، وضع العربية "حين اضطرب كلام العرب فغلبت السلسقة، فكان سراة الناس يلحنون، فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب، والجزم". وقال "ابن قتيبة": "وهو اول من وضع العربية". وذكر "ابن حجر"، انه اول من وضع العربية ونقط المصاحف. وروى "ابن النديم" ان اربعة اوراق، وجدت فيها كلام في الفاعل والمفعول من ابي الاسود الدؤلي، وكانت بخط "يحيى بن يعمر"، وتحت هذا خط علان النحوي، وتحته هذا خط النضر بن شميل. ففي هذه الاوراق دلالة على ان هذه الاوراق من كلام "ابي الاسود"، وانه كان صاحب علم النحو.

وروى ابن النديم رواية اخرى، ذكر فيها ان "الطبري" قال: "انما سمي النحو نحوا لان ابا الاسود الدؤلي قال لعلي عليه السلام، وقد القى عليه شيئا من اصول النحو. قال ابو الاسود: واستاذنه ان يصنع نحو ما صنع، فسمي ذلك نحوا. وقد اختلف الناس في السبب الذي دعا ابا الاسود إلى ما رسمه من النحو. فقال ابو عبيدة اخذ النحو عن علي بن ابي طالب ابو الاسود، وكان لا يخرج شيئا يكون اخذه عن علي كرم الله وجهه إلى احد، حتى يعث اليه زياد ان اعمل شيئا يكون للناس أماما ويعرف به كتاب الله، فاستعفاه من ذلك حتى سمع ابو الاسود قارئا يقرأ ان الله بريء من المشركين ورسوله بالكسر، فقال: ما ظننت ان امر الناس آل إلى هذا فرجع إلى زياد، فقال ابو الاسود: إذا رايتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نفطة فوقه على اعلاه، وان ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وان كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف. فهذا نقط ابي الاسود. قال ابو سعد رضي الله عنه ويقال: ان السبب في ذلك ايضا انه مر بابي الاسود سعد=، وكان رجلا فارسيا من اهل زندخان، كان قدم البصرة مع جماعة من اهله فدنوا من قدامه بن مظعون وادعوا انهم اسلموا على يديه، وانهم بذلك من مواليه. فمر سعد هذا بابي الاسود وهو يقود فرسه. فقال: مالك يا سعد لو لا تركب ? قال: ان فرسي ضالع اراد ضالعا. قالفضحك به بعض من حضره. فقال ابو الاسود هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه فصاروا لنا اخوة، فلو عملنا لهم الكلام. فوضع باب الفاعل والمفعول".

"وقيل لابي الاسود: من اين لك هذا العلم ? _ يعنون النحو _ فقال: لقنت حدوده من علي بن ابي طالب - عليه السلام - وكان ابو الاسود من القراء، قرأ على امير المؤمنين عليه السلام".

وتذكر رواية اخرى، ان "ابا الاسود" دخل على "علي" فوجده مطرقا مفكرا، فساله عن سبب ما به، فذكر له امر اللحن وما فشا من الخطأ في السنة الناس، وانه يريد ان يصنع كتابا في اصول العربية، فانصرف عنه، وهو مغموم، ثم عاد اليه بعد امد، فألقي الأمام عليه رقعة كتب فيها: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما بنأ عن المسمى، والفعل ما أنبىء به، والحرف ما افاد معنى"، ثم امره ان ينحو نحوه، وان يزيد عليه، فجمع "ابو الاسود" اشياء وعرضها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكر منها: ان، أن، وليت، ولعل، وكأن، ولم يذكر لكن، فاشار الأمام عليه بادخالها عليها.

وذكر "ابن الانباري" "577 ه"، "ان من وضع علم العربية، واسس قواعده، وحدد حدوده، امير المؤمنيينن علي بن ابي طالب رضي الله عنه لهذا العلم، ما روى ابو الاسود، قال: دخلت على امير المؤمنيين علي بن ابي طالب رضي الله عنه فوجدت في بده رقعة، فقلت: ما هذه يا امير المؤمنيين ? فقال: اني تاملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء - يعني الاعاجم - فاردت ان اضع لهم شيئا يرجعون اليه، ويعتمدون عليه، ثم القي الي الرقعة، وفيها مكتوب: كلام كله اسم، فعل، حرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبىء به، والحرف ما جاء لمعنى. وقال لي: انح هذا النحو، واضف اليه ما وقع اليك، واعلم يا ابا الاسود ان الاسماء ثلاثة: ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر، واراد بذلك الايم المبهم.

قال ابو الاسود: فكان ما وقع الي: ان واخواتها ما خلا لكن، فلما عرضتها على علي رضي الله عنه، قال لي: واين لكن ? فقال ما حسبتها منها، فقال: عي منها فألأحقها، ثم قال: ما احسن هذا لانحو الذي نحوت، فلذلك سمي النحو نحوا.

وتذكر رواية تنسب إلى الاصمعي تذكر انه قال: "سمعت ابا عمرو بن العلاء يقول جاء اعرابي إلى علي عليه السلام، فقال، السلام عليك يا امير المؤمنيين. كيف تقرا هذه الحروف ? لا ياكله إلا الخاطون، كلنا والله يخطو، قال: فتبسم امير المؤمنيين عليه السلام، وقال: بيا اعرابي: لا ياكله إلا الخاطئون. قال صدقت والله يا امير المؤمنيين، ما كان الله ليظلم عباده، ثم التفت امير المؤمنيين إلى ابي الاسود الدؤلي، فقال: ان العاجم قد دخلت في الدين كافة فضع للناس شيئا يستدلون به على صلاح السنتهم، ورسم له الرفع والنصب والخفض".

و "روي من حديث علي رضي الله عنه مع الاعرابي الذي أقرأه المقرىء: ان الله بريء من المشركين ورسوله: حتى قال الاعرابي: برئت من رسول الله، فأنكر ذلك علي عليه السلام، ورسم لابي الاسود من عمل النحوما رسمه ما لا يجهل موضعه".

ونجد رواية اخرى تذكر ان "ابا الاسود"، كان اول من وضع العربية، واول من املى في الفاعل والمفعول به، والمضاف، زالنصب، والرفع، والجر، والجزم. وكان قد اخذ العلم من "علي بن ابي طالب". وحدث ان ابنته لحنت في فعل التعجب، فقالت لابيها وكان اليوم حارا شديد الحر: "ما اشدُ الحر" وكانت تقصد "ما اشدًّ الحر" أي على باب التعجب. فلما علم "أبو الأسود" بخطأها، نبهها إلى موضع الخطأ. ثم ذهب إلى "زياد" والى البصرة، وطلب منه السماح بوضع علم النحو، فلم يسمح له. ولما اخطأ رجل أمام "زياد"، كبر عليه ذلك فوضع "أبو الأسود" قواعد النحو. فأخذ عنه "الليثي" هذا العلم ووسعه، ثم وسعه "عيسى بن عمر" في كتابيه الجامع والمكمل.

ورويت قصة وضع النحو بشكل آخر، "روي أيضاً ان زياد بن أبيه بعث إلى أبي الأسود، وقال له: يا أبا الأسود، إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم، ويعرب به كتاب الله تعالى ! فأبى أبو الأسود، وكَرِه إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلاً وقال له: أقعد على طريق أبي الأسود، فإذا مر بك، فاقرأ شيئاً من القرآن، وتعمّد اللحن فيه. فقعد الرجل على طريق أبي الأسود، فلما مر به رفع صوته فقرأ: إن الله برئ من المشركين ورسولهِ "بالجر، فاستعظم أبو الأسود ذلك، وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله ! ورجع من حاله إلى زياد، وقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إلى بثلاثين رجلاً، فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال:خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحتُ شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعتُ شيئاً من هذه الحركات غُنة فانقط نقطتين".

"وقيل: إنه دخل إلى منزله، فقالت له بعض بناته: ما احسنُ السماء! قال: أي بنية نجومها، فقالت: إني لم أرد أي شئ منها أحسن ? وإنما تعجبت من حسنها ؛ فقال: إذا فقولي ما أحسنَ السماء ! فحينئذ وضع كتاباً".

و"قيل: وأتى أبو الأسود عبد الله بن عباس، فقال: إني أرى ألسنة العرب قد فسدت ؛ فأردت أن أضع شيئاً لهم يقوّمون به ألسنتهم. قال: لعلك تريد النحو ؛ أما إنه حق، واستعن بسورة يوسف". و"قال ابو حرب بن أبي الأسود: أول باب رسم أبي من النحو باب التعجب. وقيل: أول باب رسم باب الفاعل والمفعول، والمضاف، وحروف الرفع والنصب والجر والجزم".

"ومن الرواة من يقول: إن أبا الأسود هو أول من استنبط النحو، واستخرجه من العدم إلى الوجود، وأنه رأى بخطه ما استخرجه، ولم يعزه إلى أحد قبله". وكان "أول من أسس العربية وفتح بابها وأنهج سبيلها ووضع قياسها". وروي عن "أبي سلمة موسى بن اسماعيل" "عن أبيه، قال: كان أبو الأسود أول من وضع النحو بالبصرة".

وتذكر رواية ان "أبا الأسود" الدؤلي، إنما وضع النحو بأمر من الخليفة "عمر"، روت أن أعرابياً قدم المدينة في خلافته، فقال: "من يُقرئني شيئاً مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ? فأقرأه رجل سورة براءة، فقال: "ان الله برئ من المشركين ورسولهِ" بالجر، فقال الأعرابي: أو قد برئ الله من رسوله ! إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه ! فبلغ عمر رضي الله عنه مقالة الأعرابي، فدعاه فقال: يا أعرابي: أتبرأ من رسول الله! فقال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرأني هذا سورة براءة، فقال: إن الله برئ من المشركين ورسولهِ، فقلت: أو قد برئ الله تعالى من رسوله ! إن يكن برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فقال له عمر رضي الله عنه: ليس هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين ? فقال: )إن الله برئ من المشركين ورسولهُ(، فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر رضي الله ألا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو".

وذكر أن "عمر بن الخطاب" كتب إلى "أبي موسى" الأشعري، كتاباً فيه: "أما بعد: فتفقهوا في الدين وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرّية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب".

ويفهم من هذا الكتاب، أن "أبا الأسود"، كان على علم بالنحو وبالإعراب قبل أيام "علي"، ولهذا طلب الخليفة من عامله أن يكلف "أبا الأسود" بتعليم أهل البصرة الإعراب.

ويظهر من الرواية التي ذكرتها عن التقاء "أبي الأسود" بعبد الله بن عباس، وقوله له: "إني أرى ألسنة العرب قد فسدت ؛ فأردت أن أضع شيئاً لهم يقوّمون به ألسنتهم "ومن رد "عبد الله بن عباس" عليه بقوله له: "لعلك تريد النحو"، أن "ابن عباس"، كان على علم بالنحو، ودليل ذلك نصه على اسمه، مما يدل على أنه معروفاً. وذلك إن جاز لنا التصديق بصحة هذه الرواية، التي أرى أنها من المصنوعات.

وكان "أبو الأسود" مثل غيره من العرب الفصحاء يكره اللحن واللحانين. روي عنه أنه ذكر اللحن، فقال: "إني لأجد للحن غمزاً كغمز اللحم".

ولأبي الحسن أحمد بن فارس المتوفي سنة 395 للهجرة، وهو كما نعلم من مشاهير علماء اللغة، رأي طريف في منشأ هذا العلم خلاصته: ان أبا الأسود كان أول من وضع العربية، لكن هذا العلم قد كان قديماً، وأتت عليه الأيام، وقلَّ في أيدي الناس، ثم جدده هذا الأمام. فأبو الأسود الدؤلي هو مجدد هذا العلم وباعثه، وليس موجده ومخترعه.

فنحن اذن أمام رأي جديد، رأي يرجع على العربية إلى ما قبل الإسلام وكفى لكنه لم يفصل ولم يشرح ولم يتعرض لموضوع متى كان ظهور هذا العلم في القديم وكيف وجد وهل كان للألسنة الأعجمية كاليونانية أو السريانية أثر في ظهوره ونشوئه ? ثم انه لم يتعرض للأسباب التي جعلت الأيام تأتي عليه حتى قلَّ في أيدي الناس، إلى أن ظهر أبو الأسود فأعاده إلى الوجود، ولم يذكر كيف عثر أبو الأسود على هذا العلم ومن لقنه به حتى بعثه وجدده ? تعرض "ابن فارس"لبحث منشأ علم النحو في أثناء كلامه على الخط العربي فقال: "وزعم قوم ان العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وانهم لم يعرفوا نحواً ولا إعراباً و لا رفعاً و لا نصباً و لا همزاَ". وهو يرى ان رأيهم باطل، وان بين العرب من كان يقرأ كما كان بينهم من كان أمياً، وجاء بأمثلة في تفنيد دعواهم، ثم خلص إلى هذه النتيجة: "فإنا لم نزعم ان العرب كلها -مدراً ووبراً - قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها. وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم، فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة". ثم قال: "والذي نقوله في الحروف، هو قولنا في الإعراب والعروض، والدليل على صحة هذا وان القوم قد تداولوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحطيئة التي أولها: شاقتك أظعان لليلى  دون ناظرة بواكر

فنجد قوافيه كلها عند الترنم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علم الحطيئة بذلك لأشبه أن يختلف إعرابها، لأن تساويها في حركة واحدة اتفاقاً من غير قصد لا يكاد يكون.

فإن قال قائل: فقد تواترت الرويات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية، وأن الخليل أول من تكلم في العروض، قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول: إن هذين العملين قد كانا قديماً، وأتت عليهما الأيام وقلاّ في أيدي الناس، ثم جددها هذان الأمامان. وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب.

وقال "ابن فارس": "ومن الدليل على عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم العربية كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء، والهمز، والمد، والقصر، فكتبوا ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكناً في مثل: الخبء، والدفء، والملء".

وقد استخدم "ابن فارس"لفظة "العربية" في معنى: الإعراب. وذكر لفظة "النحو"قبل كلمة: "الإعراب"، حيث قال كما ذكرت ذلك قبل قليل: "وانهم لم يعرفوا نحواً و لا إعراباً و لا رفعاً و لا نصباً و لا همزاً". وذكر غيره أيضاً ان "أبا الأسود"" أول من وضع العربية، و "أول من نقط المصحف ووضع العربية". وقد استنتج المرحوم "احمد أمين" من ذلك الاستعمال انهم يعنون بالعربية هذه العلأمات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون والتي استعملها أبو الأسود في المصحف، وان هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموّا كلامهم "نحواً" سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود وقالوا: انه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم النحو بتاتاً". ففرق "أحمد أمين" بين "العربية" و "النحو"، وجعل للعربية سابقة على علم النحو، وجعل النحو وليداً ولد من العربية. وهو رأي لا يتفق مع رأي "ابن فارس"، الذي نص على النحو بذكر اسمه، كما نص على الإعراب من بعده.

هذا هو المشهور المعروف المتداول بين أكثر الناس عن منشأ علم النحو. وقد تعرض "ابن النديم" لهذا الموضوع فقال: "قال محمد بن اسحاق: زعم اكثر العلماء ان النحو أخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وان أبا الأسود أخذ ذلك عن أميلا المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام"، ثم روى روايات أخرى، تذكر ان غيره قام برسم النحو، إذ قال: "وقال آخرون رسم النحو نصر بن عاصم الدؤلي، ويقال الليثي. قرأت بخط أبي عبد الله بن مقلة عن ثعلب، انه قال: روى ابن ابي لهيعة عن أبي النضر، قال: كان عبد الرحمن بن هرمز أول من وضع العربية، وكان اعلم الناس بأنساب قريش وأخبارها وأحد القراء".

وقد رد "ابن الأنباري" على من ذهب إلى أن علم النحو من صنع رجل آخر غير "أبي الأسود"، إذ قال: فأما زعم من زعم ان أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ونصر بن عاصم فليس بصحيح، لأن عبد الرحمن بن هرمز، أخذ النحو عن أبي الأسود، وكذلك أيضاً نصر بن عاصم أخذه عن أبي الأسود، ويقال عن ميمون الأقرن". وكان قد ذكر ما ورد في الأخبار من قيام "أبي الأسود به"، ثم رجحها على غيره بقوله: "والصحيح ان أول من وضع النحو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لأن الروايات كلها تُسنِد إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه روي عن أبي الأسود انه سئل فقيل له: من أين لك هذا النحو ? فقال: لَفَقٌتُ حدوده من علي بن أبي طالب رضي الله عنه".

ويلاحظ ان الذين رجعوا سبب وضع النحو إلى الخطأ في قراءة الآية: "إن الله برئ من المشركين ورسوله"، قد اختلفوا فيما بينهم في العهد الذي لحن فيه قارئ الآية في قراءتها، فمنهم من جعله في عهد "عمر"، ومنهم من صيره في عهد "علي"، ومنهم من رجعه إلى أيام "زياد بن أبيه"، فأنت أمام رواية واحدة، لكنك تراها وقد نسبت إلى ثلاثة عهود، ومثل هذا الاختلاف أمر غير غريب بالنسبة إلى مراجعي الموارد الإسلامية، إذ نجد فيها أمثلة كثيرة من أمثاله، ويظهر ان الرواة تلاعبوا في الخبر، فنسبه كل واحد منهم إلى عهد لغاية أرادها، من هذا التحريف والتغيير.

وقد رجح "أحمد أمين"نسبة النحو إلى أبي الأسود، اذ يقول: "ويظهر لي ان نسبة النحو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح، وذلك ان الرواة يكادون يتفقون على ان أبا الأسود قام بعمل من هذا النمط، وانه ابتكر شكل المصحف ... وواضح ان هذه خطوة أولية في سبيل النحو تتمشى مع قانون النشوء، وممكن أن تأتي من أبي الأسود، وواضح كذلك ان هذا يلفت النظر إلى النحو .... وعلى هذا فمن قال ان أبا الأسود وضع النحو، فقد كان يقصد شيئاً من هذا، وهو انه وضع الأساس بضبط المصحف حتى لا تكون فتحة موضع كسرة، و لا ضمة موضع فتحة، فجاء بعدُ من أراد أن يفهم النحو على المعنى الدقيق، فاخترع تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، والاسم إلى ظاهر، ومضمر، وغير ظاهر و لا مضمر، وباب التعجب وباب إن".

وقال:"فالذي يظهر انهم يعنون بالعربية هذه العلأمات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون والتي استعملها أبو الأسود في المصحف، وان هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموا كلامهم نحواً سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود، وقالوا: انه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم النحو بتاتاً ... فالظاهر ان عمله كان في أول الأمر ساذجاً بسيطاً، وهو وضع علأمات الرفع والنصب وما اليهما ولم يزد على ذلك، فلما سمى العلماء بعدُ بعض ضروب الرفع فاعلاً، وبعض ضروب النصب مفعولاً، قالوا: إن أبا الأسود وضع باب الفاعل والمفعول، وإن كان أبو الأسود نفسه لم يعرف فاعلاً ولا مفعولاً، بل ربما لم يعرف أيضاً رفعاً و لا نصباً، فإنهم يروون انه قال لكاتبه: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه، وإن ضممت فمي فانقط بين يدي الحرف، وان كسرت فاجعل النقطة من تحت. وهو تعبير ساذج يتفق وزمن أبي الأسود".

ولإبراهيم مصطفى، رأي قريب من رأي "أحمد أمين". فهو يرى إن المصطلحات والقواعد التي ذكر ان "أبا الأسود" وضعها بأمر "علي" لا يمكن أن تتفق وزمنه، لأن المصطلحات النحوية إنما ظهرت في وقت متأخر. ويذكر إن الآراء النحوية، لم تظهر أيضاً في عهده، بدليل اننا لا نجد في كتاب سيبويه و لا في كتب النحو الأخرى رأياً له. ويستنتج من ذلك ان عمل أبي الأسود، كان وضع الإعراب وضبط المصحف.

وقد درس المستشرقون موضوع نشأة علم النحو وأصله، فمنهم من قال انه نقل من اليونان إلى بلاد العرب، وقال آخرون برأي علماء العربية، من أنه عربي الأصل والنجار، وقد نبت كما تنبت الشجرة في أرضها. وتوسط آخرون، فقالوا: انه كان من إبداع، ولكن لما تعلم العرب الفلسفة اليونانية من السريان في بلاد العراق، تعلموا أيضاً شيئاً من النحو، وهو النحو الذي كتبه "ارسطو طاليس"، وبرهان هذا ان تقسيم الكلمة مختلف، قال"سيبويه":"فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم و لا فعل"، وهذا تقسيم أصلي، أما الفلسفة فيقسم فيها الكلام إلى اسم وكلمة ورباط، أي الأسم هو الاسم، والكلمة هي الفعل، كما يقال له في اللغات الأوروبية Verb، والرباط هو الحرف، كما يقال له في اللغة الأوروبية Conjunction أي ارتباط، وهذه الكلمات اسم وفعل ورباط، ترجمت من اليوناني إلى السرياني، ومن السرياني إلى العربي، فسميت هكذا في كتب الفلسفة لا في كتب النحو، أما كلمات اسم وفعل وحرف فإنها اصطلاحات عربية ما ترجمت و لا نقلت.

ثم ان "القياس" هو من أهم الأسس والأصول في المنطق اليوناني، وحيث انه كان من أهم أدوات علماء النحو في تفريع علم النحو، حتى صار من مميزات مدرسة البصرة، والبصرة غير بعيدة عن "جند يسابور"وعن مدارس نصرانية، كان فيها علماء يدرسون علوم اليونان، ومنها المنطق والنحو، فلا يستبعد تأثر"أبي الأسود"الدؤلي ومن جاء بعده بهذه الدراسات، ودليل ذلك، هو ظهور هذا العلم في البصرة دون سائر المدن الأخرى، ومنها مدن الحجاز مهد الإسلام.

ويرى "فون كريمر"، ان ما يقال من أن ظهور اللحن، كان السبب في وضع النحو، دعوى لا يعول عليها، و لا أساس لها، وإنما هو وليد الحاجة التي أحس بها الأعاجم من آراميين وفرس، لتعلم العربية، وللتكلم بها على وجه صحيح.

وقد ألّف بعض المستشرقين بحوثاً في موضوع النحو العربي ومدارسه، منهم المستشرق "فلوكل"، و"هول"، و"رايت"، وغيرهم، وقد تطرقوا فيها إلى قواعد العربية وآراء علمائها فيها.

وقد ذهب بعض المحدثين مذهب المستشرقين القائلين بتأثير النحو العربي بالنحو اليوناني، وذلك لأمور، منها: ان تقسيم الكلم المألوف المتبع في النحو، هو تقسيم يوناني، واعتبار القياس أصلاً من أصول النحو، ووجود مدارس سريانية كانت تدرس علوم النحو في مدارسها عند ظهور الإسلام، ووجود يونان وأديرة في العراق، فهذه الأسباب وأشباهها تحمل الإنسان على القول ان النحو العربي قد تأثر بالنحو اليوناني وبمنطق "أرسطو" خاصة، لاسيما وان النحو قد ظهر في العراق، وهو ملتقى الحضارات. وقد تأثر خاصة في عهد "الخليل بن أحمد"الذي كانت له صلات وثيقة مع العلماء السريان، مثل حنين بن اسحاق وأضرابه، حتى ذهب بعض الباحثين إلى وقوف "الخليل"على اللغة اليونانية.

وقد ذهب "مصطفى نظيف" إلى أن "يعقوب" الرهاوي، كان من معاصري "أبي الأسود" الدؤلي، وكان من تلامذة "سويرس سيبخت"، ومن البارعين في الفلسفة والنحو والتأريخ، ومن المؤلفين في النحو السرياني، ومن الذين أدخلوا التنقيط والحركات. وكان في البصرة، والبصرة ملتقى الثقافة، وحولها أديرة ومدارس، وهي غير بعيدة عن "جند يسابور"، فلا يستبعد اذن تاثر "ابي الأسود"بهذه التيارات اليونانية التي كانت هناك.

وأنا على رأي "ابن فارس" القائل ان الإعراب كان قديماً عند العرب، قدم معرفتهم بالحروف، وان علم العربية كان قديماً، ثم جدده "أبو الأسود الدؤلي" على نحو ما حكيته من قوله في ذلك قبل قليل. وعندي ان علم "العربية" كان معروفاً في العراق، وانه كان يدرس في مدارس الحيرة وعين التمر والأنبار وربما في مواضع أخرى، كانت غالبية سكانها من العرب النصارى، كان يدرسه لهم رجال الدين، الذين كانوا يتقنون الإرمية، وكانوا قد أخذوا علومهم في النحو من اليونان، بتأثير النصرانية ودراسة الأناجيل والكتب الدينية المؤلفة باليونانية. ولما كان أهل المواضع المذكورة من العرب، فلا يستبعد ظهور جماعة من رجال الدين النصارى العرب، اتخذت من مبادئ النحو التي وضعت للسريانية والمنقولة عن اليونانية، قواعد لضبط العربية بموجبها، كما ضبطوا الكتابة بها بالأبجدية التي صارت الأبجدية التي انتشرت بين أهل مكة ويثرب وأماكن أخرى. وبين هذه الأبجدية وبين العربية، من حيث هي قواعد صلة متينة. فلا يستبعد قيام رجال الدين بتعليم العربية والخط للعرب، لأنهم كانوا يقومون بالتبشير، وكان من مصلحتهم نشر الكتابة بين من يبشرون بينهم، وتعليمهم أصول اللغة، ليكون في وسع من يعتنق النصرانية تثقيف المشركين، وكانت هذه طريقتهم في التبشير في المواضع الأخرى من العالم.

وأنا لا أستبعد احتمال وقوف "علي بن أبي طالب"، أو "أبو الأسود"الدؤلي على تقسيم الكلم إلى اسم وفعل وحرف. وقفا عليه باتصالهم بالحيرة أو بعلماء من أهل العراق كانوا على علم النحو وعلوم اللغة في ذلك العهد، وقد كان ذلك في الأسس والمبادئ، فلما جاء الإسلام، وأخذ المسلمون علم العربية عن المتقدمين، زادوا فيه وفرَّعوا واستقصوا وقاسوا، وأخذوا من كلام العرب ومن الشعر، حتى تضخم النحو فبرز على الصورة التي نجدها في "كتاب" سيبويه وفي الكتب التي وضعت بعده.

ومما يؤسف له كثيراً ان المؤرخين اليونان واللاتين والسريان لم يذكروا أي شيء عن علوم العربية عند العرب، وفي ضمنهم المؤرخون الذين أرخوا تأريخ الكنيسة والنصرانية، بسبب أنهم لم يكونوا يحلفون كثيراً بأمور العرب، وأكثر ما ذكروه عنهم انما تناول الغزوات التي كانت تقوم بها القبائل على حدود الانبراطوريتين، فأضاعوا علينا بذلك فوئد كبيرة، كان يمكن الاستفادة منها في تدوين تأريخ ظهور الكتابة وعلوم العربية عند العرب. أما الموارد الإسلامية، فقد رأينا رأيها في أول ظهور النحو، وقد رأينا حاصل روايات مضطربة، يكتنفها غموض، ثم هي عاجزة في النهاية عن بيان كيفية توصل الأمام "علي" أو "أبو الأسود" إلى استنباط هذا التقسيم الثلاثي للكلم، ثم البحث في "العطف" و "النعت"والتعجب والاستفهام، وباب إن وأخواتها، والفاعل والمفعول، ونحو ذلك من قواعد، لايمكن لإنسان استنباطها بمفرده من غير علم سابق له بقواعد اللغات، مهما أوتي ذلك الإنسان من ذكاء خارق وقوة إبداع ! وأنا لا أستطيع أن أتصور ان انساناً يستطيع أن يجلس بمفرده ثم يجيل النظر في محيط اللغة التي يتكلم بها قومه، وهو غير مسلح بعلم سابق باللغات و لا بمعرفة مسبقة بقواعدها. ثم تنثال عليه المعرفة ويستخرج منها بنفسه القواعد المذكورة، ثم يضع لأبوابها تلك الأسماء التي لا يمكن لأحد وضعها إلا إذا كان ذا علم بقواعد اللغات عند الأمم الأخرى، لأنها مصطلحات علمية منطقية، لا يمكن أن تخرج من فم رجل لا علم له بمصطلحات علوم اللغة والمنطق، ولأنها ليست من الألفاظ الاصطلاحية البسيطة التي يمكن أن يستخرجها الإنسان من اللغة بكل سهولة وبساطة حتى نقول انها حاصل ذكاء وعقل متقد. وكيف يعقل أن يتوصل رجل إلى استنباط ان الكلمة أما اسم، أو فعل، أو حرف، ثم يقوم بحصرها هذا الحصر الذي لم يتغير ولم يتبدل حتى اليوم، بمجرد إجابة نظر وإعمال فكر، من دون أن يكون له علم بهذا التقسيم الذي تعود جذوره إلى ما قبل الميلاد. ثم كيف يتوصل إلى إدراك القواعد المعقدة الأخرى التي لم يبتدعها انسان واحد، وإنما هي من وضع أجيال وأجيال، إذا لم يكن له علم بفلسفة الفعل وعمل الفاعل وما يقع منه الفعل على المفعول، وكذلك الأبواب المذكورة التي لا يمكن أن يتوصل اليها عقل انسان واحد أبداً.

لقد كان للبابليين ولغيرهم من أهل العراق علم باللغات، وكان لهم أساس في النحو وفي دراسة اللغة، كما كان لليونان ولغيرهم علم بالمنطق والنحو واللغات، وصل إلى العراقيين قبل النصرانية وبعدها، بطرق لا مجال للتحدث عنها في هذا المكان. وبقي العلم اليوناني إلى الإسلام، ومنه جاء في نظري علم النحو وعلوم العربية، وبسببه صار العراق القطر الإسلامي الأول الذي نبت فيه علم العربية والنحو، لا بسبب لحن وقع من أعاجم، أو من أعراب جهلاء، و لا بسبب تلك القصص التي ساقوها في أسباب اختراع النحو، وانما بسبب وجود علم سابق في العربية عند أهل الحيرة والأنبار والقرى العربية الأخرى، وبسبب ظهور الحاجة اليه، لتعليم العرب وغيرهم أصول لغتهم وكيفية صيانة اللسان من الوقوع في الخطأ، فكان ما كان من وقوف "علي" أو "أبو الأسود"، وهما من أصحاب الذكاء الخارق والتعطش إلى البحث والاستقصاء، فأخذا به، وتوسع من جاء بعدهما في تفريعه وفي تثبيته في كتب، كملت وتمت بالتدريج، فهي من حاصل ذلك التراث العربي الجاهلي.

ولسابقة العراق هذه في الجاهلية بزَّ سائر الأقطار الإسلامية في علوم العربية، حتى "يثرب" و "مكة"، وهما موطنا الإسلام ومهبطه، لم ينافساه فيها. قال "السيوطي": "فأما مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نعلم بها أماماً في العربية. قال الأصمعي: أقمت بالمدينة زماناً ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة. وكان بها ابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكلأما ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه، وخفيت روايته". "وممن كان بالمدينة أيضاً عليّ الملقب بالجمل، وضع كتاباً في النحو لم يكن شيئاً. وأما مكة، فكان بها رجل من الموالي يقال له: ابن قسطنطين، شدا شيئاً من النحو ووضع كتاباً لا يساوي شيئاً". وفي انفراد العراق، وتفوقه على غيره من الأمصار في هذه العلوم، دلالة على وجود البذور القديمة لها في هذه الأرض قبل الإسلام، فلما دخل العراق في الإسلام أينعت واتسعت، فكان ما كان من ظهورها فيه.

وقد تأثر النحاة والمناطقة في الإسلام بمنطق "أرسطو". هذا الأمام "الشافعي" يشير إلى تأثر القوم بمنطقه، إذ قال: "ما جهل الناس و لا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطو طاليس". وقد توفي الشافعي سنة "204" للهجرة، فلا بد اذن من أن يكون ميل الناس إلى هذا المنطق قد كان هذا العهد. ولعله قصد ب "لسان أرسو طاليس" العلوم اللسانية التي كان قد برع بها اليونان. فتكلموا عن أقسام الكلمة وعن بناء التركيب القياسي وعن الموضوع والمحمول وأنواع الإعراب بحسب لغتهم وعن النعت والضمائر والأفعال وما إلى ذلك من قواعد.

و"أبو الأسود"الدؤلي، هو "ظالم بن عمرو بن سفيان"، أو "عمرو ابن ظالم بن سفيان" أو "عويمر بن ظليم"، من أشياع "علي بن أبي طالب" ومن أصحابه. استعمله "عمر" و "عثمان" على البصرة، ثم استعمله "علي" عليهما بعد "ابن عباس". وقد ذكر "أبو عبيدة"، انه كان كاتباً لابن عباس على البصرة، وكان "ابن عباس" يكرم "أبا الأسود" لما كان عاملاً بالبصرة لعليّ ويقضي حوائجه. وقد اشترك مع "علي"في وقعة صفين. ويذكر انه توفي في وباء سنة "تسع وستين"، وقيل مات بعد ذلك، توفي بالبصرة. قال عنه "الجاحظ": "أبو الأسود الديلي، معدود في طبقات الناس، وهو فيها كلها مقدم، ومأثور عنه الفضل في جميعها. كان معدوداً في التابعين والفقهاء والمحدثين والشعراء والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين، والحاضري الجواب، والشيعة، والبخلاء، والصلع الأشراف". وله أجوبة مسكتة مع معاوية، ومع أشخاص آخرين أرادوا التحرش به، تدل على بديهة وذكاء.

ولأبي الأسود الدؤلي شعر، وقد طبع شعره في ديوان، وقد استشهد به في شواهد اللغة والنحو، ونجد نتفاً منه في الكتب التي تعرضت لسيرته، وليس شعره على مستوى رفيع من الوجهة الفنية، و لا يتعرض للأحداث التأريخية التي وقعت في أيامه.

وقد أخذ عن أبي الأسود جماعة من التلامذة، صاروا من مؤسسي علم النحو عند العرب، ومن مبوبيه ومصنفيه. منهم ابنه "عطاء". وكان قد بعج العربية وبرز بها. ومنهم "يحيى بن يعمر"وهو من عدوان بن قيس، وكان عدده في "بني ليث بن كنانة"، ولقي ابن عباس وابن عمر، وروي عنه قتادة. ومنهم "عنبسة بن معدان"، المعروف ب"عنبسة الفيل"، ويقال ان "نصر ابن عاصم" أخذ عن أبي الأسود، وأخذ عن "نصر" "أبو عمرو بن العلاء"البصري، وأخذ عن "أبي عمرو" "الخليل بن أحمد"، وأخذ عن الخليل "سيبويه"، وأخذ عن سيبويه "الأخفش". وممن أخذ عن أبي الأسود: "ميمون الأقرن"، و"عبد الرحمن بن هرمز".

وفي رواية: ان الذي برع بعد أبي الأسود ميمون الأقرن، وبعد ميمون عنبسة الفيل، وبعده عبد الله بن أبي اسحاق، فقاس وأكثر، ثم برع بعده أبو عمرو بن العلاء، ولحقه الخليل بن أحمد، إلا أن نظر أبي عمرو أقدم من نظر الخليل.

ثم أتى الخليل في النحو بما لم يأت بمثله أحد قبله في تصحيح القياس، واللطافة والتصريف.

وكان يونس في عصر الخليل، وبقي بعده مدة طويلة، ويقال ان سيبويه مات قبل يونس.

وكان عيسى بن عمرو في عهد أبي عمرو وعهد الخليل، وكان بارعاً أيضاً. وكان "عنبسة" الفيل، من أبرع أصحاب "أبي الأسود" الذين كانوا يتعلمون منه العربية. وذكر ان الناس اختلفوا اليه بعد "أبي الأسود"، وكان من بينهم "ميمون الأقرن" الذي كان من أبرع أصحابه. وقد ذكرت رواية تنسب إلى "أبي عبيدة" اسم "ميمون الأقرن" قبل عنبسة.

وأما "نصر بن عاصم"الليثي "89 ه" "90 ه"، فإنه كان فقيهاً عالماً بالعربية، فصيحاً قرأ القرآن على "أبي الأسود"، وقرأ "أبو الأسود"على "عليّ"، فكان "أبو الأسود" أستاذه في القراءة.

و"ابن أبي اسحاق" الحضرمي، هو "أبو بحر عبد الله بن أبي اسحاق" "117 ه"، وكان قيّماً بالعربية والقراءة، شديد التجريد للقياس. ويقال انه كان أشد تجريداً للقياس من "أبي عمرو بن العلاء"، وكان "أبو عمرو ابن العلاء "أوسع علماً بكلام العرب ولغاتهم وغريبها. ويقال انه أول من علل النحو. وكان قد قرأ على "يحيى بن يعمر"، وعلى "نصر بن عاصم"، وزعم انه كان أول من بعج النحو ومدّ القياس والعلل.

وأما "يحيى بن يعمر" العدوانبي، "129 ه"، فكان عالماً بالعربية والحديث، لقي "عبد الله بن عمر"، و"عبد الله بن عباس" وغيرهما من الصحابة. وكان يستعمل الغريب في كلامه. وقد لحق بخراسان، وكتب ليزيد ابن المهلب، ألحقه بها "الحجاج".

وكان "عيسى بن عمر" الثقفي "149 ه"، ثقة عالماً بالعربية والنحو والقراءة، وصنف كتابين في النحو، يسمى أحدهما: الجامع، والآخر الإكمال، وقد ذكرهما "الخليل بن أحمد" بقوله: ذهب النحو جمـيعـاً كـلـه  غير ما احدث عيسى بن عمر 

ذاك إكمـال وهـذا جـامـع  فهما للناس شمـس وقـمـر

وبلغ النحو درجة كبيرة من التقدم، حين انتقلت الزعامة فيه إلى "الخليل ابن احمد" الفراهيدي، الذي "كان غاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس". "فهو الذي بسط النحو ومد اطمنابه وسبب علله، وفتق معانيه، واوضح الحجاج فيه حتى بلغ اقصى حدوده، ثم لم يرض ان يؤلف فيه حرفاً أو يرسم منه رسماً. . واكتفى في ذلك بما اوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره ونتائج فكره، ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلده، والف فيه الكتاب الذي اعجز من تقدم قبله، وامتنع على تأخر بعده". وقد كان علم الخليل، في جملة المنابع التي غرف منها "سيبويه" في كتابه:الكتاب. وقد ذكر "سيبويه" اسمه في "410" مواضع من كتابه، واشار إلى ارائه دون ان يذكر اسمه في "174" مكاناً اخر، وهو وان لم يشر إلى اسمه، لكن العلماء ذكروا انه قصده.

واورد"سيبويه" له في كتابه اراء استاذه في اعراب آيات من القرآن الكريم، وتأويلها، كما جاء له بشواهد من الشعر في شرح قواعد نحوية، منها اشعار نص على اسماء قائليها، مثل امية بن ابي الصلت، وطرفة والنابغة والاعشى، وغيرهم. ومنها اشعار لشعراء مخضرمين واسلاميين، ومنها اشعار لم يذكر اسماء اصحابها.

ونعت بانه "نحوي عروضي، استنبط من العروض وعلله ما لم يستخرجه احد، ولم يسبقه إلى علمه سابق من العلماء كلهم. وقيل انه دعا بمكة ان يرزق علماً لم يسبق اليه احد، ولا يؤخذ عنه، فرجع من حجه، ففتح عليه بالعروض". وذكر انه كان "الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله"، "وكان اول من حصر اشعار العرب". دخل عليه ولده وهو يقطع العروض، فخرج إلى الناس وقال: ان ابي قد جن، فدخل الناس عليه فرأوه يقطع العروض، فأخبروه بما قال ابنه، فقال له: لو كنت تعلم ما اقول عذرتني  أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتنـي  وعلمت انك جاهل فعذلتكـا

ويظهر من دراسة "كتاب" "سيبويه" ان اثر "الخليل" عليه كان كبيراً، لا يدانيه اثر أي عالم اخر عليه، وان علم الخليل بالنحو، كان غزيراً جداً، يؤيده استشهاد "سيبويه" بآرائه اكثر من استشهاده برأي أي عالم اخر من علماء هذا العلم، مثل "ابو عمرو بن العلاء" "154ه"، و"عيسى بن عمر الثقفي"، "149ه"، و"يونس بن حبيب"، "182ه". ويظهر ان "الخليل" لم يدون علمه بالنحو في رسائل أو كتب، وانما كان يعلم من يقصده مشافهة، فكان تلامذته يسمعونه ويحملون العلم عنه، وذلك على طريقة اكثر العلماء في ذلك العهد.

وللخليل بعد، آراء خاصة في النحو، ونجد "الخوارزمي" يتكلم في الفصل الثاني من فصول النحو، بقوله: "في وجوه الاعراب وما يتبعها على ما يحكى عن الخليل بن احمد"، مما يشير إلى وجود آراء خاصة له به، اشير اليها في كتب النحو، وربما وضعها بعضهم في مؤلفات خاصة بآرائه في النحو. ومن آرائه أستعماله مصطلح الرفع في الاسم المضمون المنون، ومصطلح الخفض في الاسم المجرور المنون، والنصب في الاسم المفتوح المنون، على حين يسمى بقية الحركات العارية من التنوين في الاحوال والصيغ المختلفة بأسماء الحركات العامة، أي: الضم، والكسر، والفتح، كما انه يسمى بالجر حركة الكسر التي تربط بين آخر الصيغة الفعلية وبين همزة الوصل. ولا يوجد عنده ما يدل على تأثير النظرية القائلة بأن اختلاف حركات الكلمات المتصرفة متوقف على العامل النحوي، الاغ في التفرقة التي جعلها بين التوقيف، أي عدم الحركة في اواخر الحروف وما شاكلها، والجزم، أي سكون الفعل المجزوم.

وكان سند علماء العربية ومنبعهم الذي اخذوا منه علمهم في وضع القواعد العربية كتاب الله والشعر وكلام العرب. ويكون كلام العرب، المنبع الاول الذي استمد منه علمهم في اللغة وفي وضع القواعد، وهو مال ما اخذ من القبائل والأفراد، و نجد للهجات اهل الحجاز وتميم اهمية كبرى في كتب الشواهد والقواعد. ونظراً لاعتماد العلماء على هذا المورد اكثر من غيره، وقعوا في مشاكل، جعلتهم يتحايلون في حلها، ويرجعون إلى التأويل والتفسير، من ذلك ما وقعوا فيه من عدم تمكنهم من التوفيق بين القواعد التي وضعوها، وبين ما جاء في القرآن أو الشعر من امور لا تنسجم مع هذه القواعد. وكل هذه الموارد المذكورة، هي موارد اخذ منها بالسماع، وهناك قواعد وضعها العلماء قياساً على كلام العرب، استنبطوها بطريق "القياس". و"القياس"من أهم الميزات التي ميزت البصرة على الكوفة في وضع قواعد اللغة.

والقياس ركن من ركنيين مهمين، قام عليهما علم النحو، أما الركن ألاول، فهو السماع. وللدور الخطير الذي قام به القياس في تكوين اصول وقواعد النحو، قال المستشرقون وغيرهم بتأثير النحو العربي بمنطق "ارسطو". وممن اخذ وعمل به في النحو "عبد الله بن ابي اسحق" الحضرمي، قيل عنه "وكان شديد التجريد للقياس. ويقال انه كان اشد تجريداً للقياس من ابي عمرو بن العلاء".

وفرع النحو وقاسه، وكان اول من بعج النحو ومد القياس والعلل.

وكان الخليل بن احمد على رأس العاملين بالقياس في فتاوي النحو. كان قياساً بارعاُ فيه. قيل عنه "انه سيد قومه، وكاشف قناع القياس في علمه". وقد تأثر "سيبويه" بقياس الخليل، فأستعمله في تثبيت العربية. فتجد في كتابه جملاً مثل:"والقياس كذا" أو "والقياس يأباه" و "سألت الخليل عن قول العرب ما أميلحه، فقال:لم يكن ينبغي ان يكون في القياس لأن الفعل لا يحقر، وأنما تحقر الاسماء".

وقد انقسم علماء اللغة والنحو إلى فئتين بالنسبة لاستعمال القياس في اللغة والنحو. ولكن الاغلبية معه، وقد وقع فعلاً، واثر في وضع القواعد اثراً خطيراً. فبه اوجد النحاة كليات القواعد. "قال ابن الانباري: اعلم ان انكار القياس في النحو لا يتحقق لأن النحو كله قياس، فمن انكر القياس فقد انكر النحو، ولا يعلم احد من العلماء انكره. وينسب إلى الكسائي انه قال: انما النحو قياس يتبـع  وبه في كل امرٍ ينتفع 

ولعلماء اللغة، كلام طويل في مدى جواز استعمال القياس، وفي حالة ورود السماع، لأن اللغة في نظر بعض منهم سماع، فأذا كانت سماعاً، وجب الاخذ بالسماع، فأذا ورد السماع بطل القياس. وقد تحدث العلماء عنه. قال "ابن فارس": "اجمع أهل اللغة -الا من شذ عنهم- ان للغة العرب قياساً، وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض". غير انه قال:"وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا ان نقول غير ما قالوه، ولا ان نقيس قياساً لم يقيسوه، لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائقها، ونكتة الباب ان اللغة لا تؤخذ قياساً نقيسه الآن نحن".

ولابن جني رأي في القياس. قال: "واعلم انه إذا أداك القياس إلى شئ ما، ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشئ آخر على قياس غيره، فدع ما كنت عليه إلى ما هم عليه، فأن سمعت من آخر مثل ما اجزته، فأنت فيه مخير، تستعمل ايهما شئت، فإن صح عندك ان العرب لم تنطق بقياسك انت كنت على ما اجمعوا عليه البتة وأعددت ما كان قياسك أداك اليه لشاعر مولد، أو لساجع، أو لضرورة، لأنه على قياس كلامهم".

والاجماع ان النحو لم يجمع ولم يرتب ترتيباً علمياً إلا في الإسلام، وإلا في ايام العباسيين، حيث ظهر علماء العربية نشاطاً عظيماً في تتبع القواعد واستنباطها من المظان التي اشرت اليها. وقد استقر وثبت، بعد أخذ ورد بين علمائه في المسائل الفرعية التي أثارت الاختلاف فيما بينهم، فكانت ردود وتخطئة بعض منهم لبعض، ثم استقر في كتب تمثل اليوم ثروة قيمة تقدر في هذه اللغة الواسعة الثرية بألفاظها وبقواعدها.

ولا بد في نظري لمن يريد فهم النحو العربي فهماً صحيحاً واضحاً، من دراسة نحو اللغات الجاهلية من عربية جنوبية ومن ثمودية ولحيانية وصفوية ونبطية، لأنها وإن فارقت العربية القرآنية في امور، إلا انها عربية في النهاية، ودراستها تفيدنا فائدة كبيرة في الوقوف على تأريخ تطور عربيتنا والعربيات البعيدة عن الإسلام، وهي كما نعلم من اقدم اللهجات العربية التي افادتنا في تقديم كتابات مدونة في تلك الايام، يعود تأريخ بعض منها إلى ما قبل الميلاد. وقد تحدثت عن نحو اللهجات العربية الجاهلية وعن امور من صرفها في الجزء السابع من كتابي الاول المعروف بتاريخ العرب قبل الإسلام، المطبوع ببغداد.

هذا وقد عثر حديثاً على آثار في أمارة "ابي ظبي" وفي مواضع اخرى من سواحل الخليج، قد تقدم لنا علماً جديداً بلهجات عربية قديمة لا نعرف اليوم من امرها شيئاً، وبذلك يتسع علمنا عن لهجات العرب قبل الإسلام، وقد نستطيع بواسطتها الوقوف على كيفية تطور اللغة العربية القرآنية وعلى حصر المواضع التي كان سكانها يتكلمون بها، أو بلهجات قريبة منها.

بل ارى ضرورة دراسة اللغات السامية للاستفادة من هذه الدراسة المقارنة في فهم خصائص اللغة العربية ولحل بعض مشاكلها في النحو والصرف والالفاظ. وقد بذل-المستشرقون-والحق يقال- جهوداً يشكرون عليها في دراسة هذه اللغات دراسة مقارنة. ولدينا اليوم مؤلفات كثيرة في هذه الدراسة، تعرضت للحروف بنوعيها الصامتة "The consonant sounds" والحروف المتحركة "The vowels "وللضمائر، وللأسماء الموصولة وادوات الوصل، وللأسماء، وللجموع وللأفعال، ولحروف الجر، وغير ذلك من الموضوعات التي تجدها في الكتب التي بحثت عنها.

ومن أهم الموضوعات التي يجب توجيه العناية اليها، موضوع: علم الاموات "Phonology"بالنسبة إلى اللغات السامية، مثل دراسة مخارج الحروف، والحركات، والأمالة، والتفخيم، والاشمام في العربية على وجه خاص، ثم دراسة صرف هذه اللغات "Morphology"، مثل جذور الالفاظ التي يغلب عليها الطابع الثلاثي "Triconsonantal"المكون من الحروف الصامتة، بينما تقل فيها الجذور المكونة من حرفين صامتين أو من اربعة حروف صامتة. ومثل دراسة كيفية تكون الأسماء، وأبنيتها، ودراسة الجنس في هذه اللغات، والعلأمات التي تميز الجنس:المؤنث عن المذكر، ثم العدد:المفرد، والمثنى والجمع، جموع التذكير وجموع التأنيث، وجموع التكسير، ثم الظرف، وحروف الجر، والعطف، ودراسة الافعال بأنواعها، وحالات الجمل، وغير ذلك من أمور تخص علم اللغات.

وقد عالج بعض العلماء موضوعات خاصة من موضوعات النحو والصرف، مثل موضوع الفعل في اللغات السامية. وموضوع الصلة بين العربيات الجنوبية وبين اللغة الحبشية. والصلة بين العربية وبين اللغات السامية الاخرى، أو بين لغة سامية ولغة سامية اخرى من حيث قواعد النحو والصرف.

الفصل السادس والاربعون بعد المئة
الشعر

الشعر والحكم والكهانة والخطابة وأضرابها، هي أهم المظاهر التي تحدد لنا العقلية الجاهلية، وتعطينا فكرة عامة عن العقل الجاهلي.

أما الشعر الجاهلي، فلم يصل الينا من الجاهلية مدوناً قط، وانما وصل الينا مدوناً في الإسلام. وأقصد اننا لم نعثر حتى الآن على أي شئ منه مكتوباً بقلم جاهلي أو محفوراً على نص جاهلي. وكل ما نحفظه ونعرفه من ذلك الشعر، هو مما وصل الينا بنقول الاسلاميين.

وللعلماء، من اسلاميين قدامى ومحدثين، ومن مستشرقين، آراء في هذا الشعر. منهم من يبالغ في اليقين، فيرى ان كل ما وصل الينا منه صحيح، ومنهم من يبالغ في الشك، فيرى ان أكثر ما وصل هو شعر منتحل فاسد موضوع، وضع لأغراض عديدة يذكرونها: دينية وسياسية وجنسية وغير ذلك، ومنهم من يتوسط فيرى أن فيه الصحيح وفيه الفاسد المدسوس، وان من الخير البحث فيه من نواح متعددة ودرسه دراسة علمية حديثة ونقده نقداً علمياً لتمييز صحيحه من فاسده، ولكل فريق حجج وأدلة مدونة، وكتب افردوها، فيها رأيهم وحججهم، اليها استحسن رجوع من يريد الوقوف على تلك الاراء.

ومن الكتب المؤلفة في الأدب الجاهلي، واشتهرت خاصة بين ادباء العربية بنقد الشعر الجاهلي وبتوجيه الشك إلى صحة أكثره، فأثارت لذلك ضجة كبيرة كتاب الفه الدكتور طه حسين في العربية بعنوان:"في الادب العربي". وقد رد عليه أدباء عديدون في مصر وغيرها من البلاد العربية الاخرى. وقد أوضح الدكتور في كتابه العوامل التي حملته عيى تكوين رأيه المذكور في الادب الجاهلي.

وليس مرجع هذا الاختلاف هو في حقيقة وجود شعر جاهلي اصلاً، أو فيعدم وجوده. فوجود شعر للجاهليين، حقيقة لا يشك فيها ابداً، لأن الجاهليين هم مثل سائر الناس، لهم حس ولهم شعور، وما دام الحس موجوداً، فلال بد ان يظهر على شكل شعر أو نثر. وانما الاختلاف هو في هذا الشعر المروي لنا، والمدون في بطون الكتب. هل هو جاهلي حقاً، أو هو منحول فاسد محمول على الجاهليين? أو وسط بين بين، وفي كمية الصحيح منه?، بالنسبة إلى مقدار الفاسد منه? هذا موضع الاختلاف بين العلماء.

وقد وصف القديس "نيلوس" المتوفي حوالي السنة 430 للميلاد غارة بدوية على دير سيناء، وقعت سنة 410م، وتحدث عن تغني الاعراب بأشعارهم وهم يستقون الماء. كما أشار المؤرخ "سوزيموس" إلى تغني العرب بأشعارهم وذلك في المعارك التي وقعت بينهم وبين الروم في حوالي سنة "440م"، وهي اغان نشبه الاشعار التي كان يتغنى بها الاعراب في حروبهم وغزواتهم، مثل يوم ذي قار، والمعارك التي وقعت في فتوح العراق والشام. ولا زال الاعراب يترنمون بالشعر عند غزوهم بعضهم بعضاً، لأن الشعر عندهم سلاح مهم من اسلحة القتال.

ثم ان شعر المخضرمين، هو في حد ذاته دليل على وجوةد شعر سابق جاهلي، فشعر مثل هذا لا يمكن أن يكون قد ظهر فجأة من غير شعر سابق ومن غير شعراء ماضين مهدوا الجادة لمن جاء بعدهم ووضعوا لهم البحور المعروفة، وقد وجدها المخضرمون، فنظموا عليها.

وفي القرآن الكريم سورة تسمى "سورة الشعراء"، وهي تدل على كثرة الشعراء، وعلى تأثر الناس الناس بهم، وعلى تأثير شعرهم في النفوس وتلاعبه بأفئدة الجاهلين. وتجاسر بعض الكفار على الرسول، فوصفوه بأنه شاعر. ووصفه بهذه الصفة دليل على ما كان للشعر من اثر في نفوس القوم. وقد ورد في الحديث: ان الرسول قال: "إن من البيان لسحراً، وان من الشعر لحكماً"، أو ان من الشعر لحكمة. وفي الأخبار انه كان يرفع أناساً ويذل آخرين، وان من الناس من كان يشتري ألسنة الشعراء. وورد في الحديث، ان الرسول ذكر الشعر فقال: "إن من الشعر لحكمة، فأذا ألبس عليكم شئ من القرآن فالتمسوه في الشعر، فأنه عربي". ووردت عنه احاديث أخرى في حق الشعر.

وورد في خبر آخر ان "العلاء بن الحضرمي"، لما وفد على رسول الله، قال له الرسول: أتقرأ شيئاً من القرآن?فقرأ سورة عبس، ثم زاد فيها من عنده: وهو الذي اخرج من الحبلى نسمة تسعى بين شراسيف وحشى، فقال رسول الله كف فإن السورة كافية، ثم قال: أتقوا شيئاً من الشعر? فأنشده: وحي ذوي الاضغان تسب قلوبهـم  تحيتك الادنى فقد يدبغ الـنـعـل

فأن دحسوا بالكره فأعف تكـرمـاً  وإن اخنسوا عنك الحجديث فلا تسل 

فإن الذي يؤذيك منه استماعه=وإن الذي قالوا وراءك لم يقل فقال النبي: إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكماً.

وورد ان الرسول كان يسأل الصحابة أن يسمعوه شعراً، سأل مرة "الشريد ابن سويد" الثقفي أن ينشده شيئاً من شعر أمية بن ابي الصلت، فأنشده مائة بيت، فقال الرسول:كاد امية بن ابي الصلت أن يسلم، أو ان كاد ليسلم. وكان الرسول يقول: أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد: ألا كل شئ ما خلا الله باطل، أو ان أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شئ ما خلا الله باطل.

وورد أنه استشهد ببيت شعر لطرافة بن العبد، هو: ستبدي لك الايام ما كنت جاهلاً  ويأتيك بالاخبار من لم تـزود

وورد انه جلس في مجلس من الخرزج، فأستنشدهم شعر: "قيس بن الخطيم"، فأنشدوه بعض شعره. وللرواة أخبار عديدة تشير إلى سماع الرسول الشعر والى وقوفه عليه وعلمه به، وأنه كان يكلف الصحابة بأن ينشدوه من شعر الشعراء، وذكر أنه نهى من رواية رثاء "امية بن ابي الصلت" قتلى قريش في معركة بدر، لما فيها من رثاء لمشركين ومن تحريض على الإسلام. وورود أن الشاعر "العباس بن مرداس"، شهد مع النبي حنيناً على فرسه "العبيد"، فأعطاه النبي أربع قلايص، فقال: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع 

وكانت نهاباً تلافيتها  بكرى عـلـى الـمـهـر فـي الأجـرع

فقال الرسول: اقطعوا عنا لسانه=ولسانه هو شعره وروي عن "عمر" قوله: "نعم ما تعلمته العرب الأبيات من الشعر يقدمها الرجل أمام حاجته فيستزل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم، مع ما للشعر من عظم المزية، وشرف الابية، وعز الانفة، وسلطان القدرة".

وقديماً قال ابن عباس: "إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله، فاطلبوه في الشعر فإنه ديوان العرب". وقيل إنه -أي ابن عباس - ما فسر آية من كتاب الله، إلا نزع فيها بيتاً من الشعر. وروي أن غيره كان يحفظ شيئاً وافراً من الشعر، الشعر المروي عن أناس عاشوا قبل الإسلام وأناس أدركوا الإسلام، وأنهم كانوا يتداولونه ويتطارحونه ويحفظونه لصلته بكل فرد منهم. ففيه أخبار القبائل وأيام العرب وما قيل فيهم من مدح أو ذم، والحق أننا بفضل هذا الشعر حصلنا على كثير من هذا القصص المنسوب إلى أهل الجاهلية، وبفضله عرفنا أخبار الشعراء والقبائل والأيام والحروب، فهو كما قلت في الجزء الأول من هذا الكتاب مورد مهم رئيسي يرد منه المؤرخ في تدوينه تأريخ العرب قبل الإسلام.

ونحن لا نكاد نقرأ قصة من قصص "أيام العرب"، إلا نجد فيها شعراً، ينسب إلى بطل من الأبطال الذين ساهموا فيها، أو من شاعر يذكر قومه أو خصوم قومه أو خصومه بالأيام التي أنتصر فيها على خصومهم. وقد ساعد هذا الشعر على تثبيت تلك الأيام في ذاكرة رواتها، حتى وصلت إلى أيام التدوين فدونت، على نحو ما نقرأها في هذا اليوم.

ثم ان كتب الأدب بأنواعها مملوءة بأخبار المساجلات والمطارحات التي وقعت بين الشعراء قبيل الإسلام وفي أيام الرسول والخلفاء. وقد رويت فيها أشعار وقصائد لشعراء جاهليين، ولشعراء مخضرمين. وقد تحدث معظم المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والاسلام عن ذكرياتهم في الجاهلية، ورورا ما نظموه فيها من أشعار وما وعوه من المناسبات التي نظموا فيها. ثم ان هذه الكتب مملوءة أيضاً بأخبار مجالس سمر تناولت الحوادث والأيام والشعر والشعراء، وفيها نقد ومفاضلات لما ذكر في تلك المجالس من من شعر. وقد روي: ان الرسول كان يجالس أصحابه ويتحدث معهم ويصغي اليهم، ويستمع إلى ما يروونه وما يتذاكرونه من الشعر، وروي: ان الحطيئة، وهو شاعر معروف، كان يتذاكر الشعراء ويحفظ أشعارهم.

وقيل للحسن البصري: "أكان أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يمزحون ? قال: نعم ويقارضون، أي يقولون القريض وينشدونه. والقريض الشعر". وروي أن أصحاب رسول الله، كانوا يتناشدون الأشعار ويذكرون أمر جاهليتهم، وأن رسول الله كان يجالسهم في المسجد، وهم يتناشدون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم. وعن "أبي سلمة": "لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متحزقين و لا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون".

وقد ذُكر أن من الأعاجم من تعلم الشعر العربي ورواه وعشقه، فزعم "أبن الكلبي" مثلاً أن "خُرَّخسرة"، وهو ابن "المروزان"، كان قد تعرب، أعجبته العربية فتعلمها وروى الشعر، وكان والياً على اليمن في عهد "كسرى"، ثم بلغ "كسرى"تعربه، وروايته الشعر، وتأدبه بأدب العرب، فعزله، وولى باذان.

وللشعر أثر خطير في نفوس العرب، كان يهز عواطفهم هزاً، ويفعل فيهم فعل السحر، فلا عجب إذا ما قرن "رؤبة" الشعر بالسحر، وجعله مثله في التأثير لتلك العلة: لقد خشيتُ أن تكون ساحراً  رواية مَرَّا ومَرّا شاعـرا

قال "الجاحظ": "وكان الشعر أرفع قدراً من الخطيب، وهم اليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدراً من الشاعر.

وقد بقي أثر الشعر هذا في نفوس الناس حتى بعد زوال الجاهلية ودخول الناس في الإسلام. فكان مدح الشاعر لقوم، من المآثر والمفاخر، وكان ذمه مما يشين ويسيء إلى المهجو. فلما هجا "جرير" "بني نمير" بقوله: فغض الطرف انك من نميرٍ  فلا كعباً بلغت و لا كلابـاً

أخذ بنو نمير ينتسبون إلى "عامر بن صعصعة"، ويتجاوزون أباهم نميراً إلى أبيه، هرباً من ذكر "نمير" وفراراً مما وسم به من الفضيحة والوصمة. مع انهم كانوا قبل ذلك إذا سئل أحدهم ممن الرجل فخم لفظه ومدّ صوته وقال: من بني نمير، وكانوا جمرة من جمرات العرب. وكان أحدهم إذا رأى نميرياً وأراد نبزه والإساءة اليه قال له: غمض وإلا جاءك ما تكره، وهو انشاد هذا البيت. وصار الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل ? قال: من بني عامر ! قال الجاحظ: "وفي نمير شرف كثير. وهل أهلك عنزة، وجرماً، وعُكلاً، وسلولَ، وباهلة، وغنياً، إلا الهجاء ?! وهذه قبائل فيها فضلُ كثيرُ وبعض النقص، فمحق ذلك الفضل كله هجاء الشعراء. وهل فضح الحبطات، مع شرف حسكة بن عتاب، وعبّاد بن الحصين وولده، إلا قول الشاعر: رأيت الحُمر من شر المطايا  كما الحبطات شر بني تميم

وقد هُجيت فزارة بأكل أير الحمار، وبكثرة شعر القفا. وكان "حذف" الفزاري قد أطعم جُردان الحمار، فقتل الذي أطعمه. وقال: طاح مرمقه، فذهبت مثلاً. ففزارة تعير بذلك إلى اليوم. قال الشاعر: إنّ بني فـزارة بـن ذبـيان  قد سبقوا الناس بأكل الجُردان 

وقال آخر: أصيحانـية عُـلّـت بُـزد  أحب اليك أم أير الحمار

وبين الشعر والسحر صلة، حتى ذهب بعض الباحثين في الشعر إلى أن الشعر هو فن من الفنون التي كان يمارسها السحرة في التأثير في مشاعر الناس، إذ كانوا يتخذونه وسيلة من وسائل التأثير في النفوس، لما يستعملونه فيه من كلام مؤثر ساحر يترك أثراً خطيراً في نفس سامعه. ولهذا عدوّا السحرة في جملة أوائل من كان ينظم الشعر من القدماء، كما ذهب بعض الباحثين إلى أن الشعراء كانوا "أهل المعرفة" والفهم، لما كان لهم من ذكاء وصفاء ذهن في فهم تجارب الحياة، وفي نظم خلاصة تلك التجارب على شكل علم أو حكم تفيد في التهذيب وفي التوجيه وفي وعظ الناس، ولهذا كان لهم رأي في السياسة في السلم وفي الحرب.

وفي كتب الأدب والأخبار أمثلة كثيرة عن أثرالشعر في القبائل وفي الأشخاص من مدح وذمّ، يرينا كيف كان العرب يتأثرون به، وكيف كان يلعب دوراً خطيراً في حياتهم، والعرب قوم عاطفيون، تلعب العاطفة دوراً خطيراً في حياتهم، وما الشعر إلا نتيجة لهذا الطبع المتوارث في العربي. وقد كان أثر الشعر في المغازي وفي الحروب أثر السيف في الخصوم، يحرض المقاتلين على الاستبسال في القتال. ولما وقعت الوقائع بين المسلمين والفرس، لعب الشعر والنثر دوراً خطيراً فيها، ففي يوم "أرماث" مثلاً، أرسل سعد إلى قادة الكلام، من رجال النثر والشعر، يدعوهم إلى استخدام سلاحهم في هذه المعارك، فكان ممن حضر عنده: "طليحة"، و"قيس بن هبيرة" الأسدي، و"حذيفة"، و"غالب"، و"عمرو بن معد يكرب"، و"ابن الهذيل" الأسدي، و"عاصم بن عمرو"، و"ربيع بن البلاد" السعدي، و"ربعي بن عامر" وهم من الخطباء، و"الشماخ"، و"الحطيئة"، "أوس بن مغراء"، و"عبدة بن الطيب " وأمثالهم، وهم من الشعراء، فلما تجمعوا، قال لهم "سعد": "قوموا في الناس بما يحق عليكم ويحق عليهم، عند مواطن البأس، فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم، فسيروا في الناس، فذكروا وحرضوهم على القتال". فالشعر سلاح ماضٍ عند العرب، مثل الأسلحة الأخرى وربما كان أمضى منها أثراً في نفوسهم لما كان يفعله فيهم، وكذلك النثر من أثر في النفوس يحملهم على الإقدام وعدم التهيب من الموت.

ونحن لا نعرف حرباً أو غزواً وقع للعرب، ثم لم يقترن خبره بشعر أو بأبيات منه، فقد كان المحاربون، يحاربون خصومهم بألسنتهم وبسيوفهم وبسهامهم ورماحهم في الوقت نفسه، وقد رأينا أنه قد كان للشعر الفضل الأكبر في كثير من الأحايين في حفظ أخبار الحروب وبقاء ذكرها إلى هذا اليوم. ونستطيع القول بأن قسطاً كبيراً من الشعر الجاهلي، هو من شعر القتال. ولذلك نستطيع جعله صنفاً قائماً بذاته نسميه شعر القتال والحروب.

ومن هذا الأثر الذي كان يعرفه الشعراء حق المعرفة، كانوا يستعلون ويترفعون به عن غيرهم، كتب "هوذة بن عليّ" الحنفي، إلى النبي يجيبه على رسالته التي أرسلها اليه: "ما أحسن ما تدعو اليه واجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والهرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك"، فهو شاعر قومه وخطيبهم، وله مكانة فيب العرب، فهو يرى ان مايميز عن غيره بميزات تمنح له، وكان الشعراء يمنّون على قومهم بأنهم ألسنتهم المخرسة الناطقة المهاجمة المدافعة، فهم من الطبقة المثقفة الممتازة التي حظيت بالتقدير ونالت الاحترام، بسبب قدرة اللسان، وأثر الشعر في الناس.

و لا زال الشاعر ينال مكانة محترمة عند أهل الحضر وعند أهل الوبر، فهو لسان القبيلة حتى اليوم، يدافع عنها، ويهجو أعداءها، ويرّد على شعراءها، ويشيد بفعال قومه. وللهجاء عندهم مكانة، إلا انها أخذت تتزلزل عن مكانها، بفعل التحضر الذي أخذ يغزو البوادي، وتغير العقلية، وعدم الاهتمام بالقيل والقال، مما أثر على مكانة الشعر والشاعر أيضاً، فلم يعد الناس يخشون لسان الشاعر، كما كانوا يخشونه أيام الجاهلية، يوم كانوا يسترضون الأعشى والحطيئة، خوفاً من لسانيهما السليطين.

ويطلق على الشعر الذي قيل قبل الإسلام: الشعر الجاهلي، لأنه قيل في الجاهلية التي شرحنا معناها في الجزء الأول من هذا الأول من هذا الكتاب، وأصحابه كلهم ممن عاشوا وماتوا قبل الإسلام. أما الذين أدركوا الإسلام وأسلموا، فهم الشعراء المخضرمون لأنه أدركوا عهدين، فعاشوا ردحاً من عمرهم في الجاهلية، وقضوا البقية الباقية من حياتهم في الإسلام.

واذا قلنا الشعر الجاهلي، أو شعر الجاهليين، فلا نريد أو يريد أحد منا الغض من شأنه، أو الحط من قدره، فإننا على العكس، نجد علماء الشعر والأدب، يرفعون من قدره، ويرون انه الأوج الذي بلغه العرب في الشعر، و لاسيما الشعر المختار منه مثل المعلقات، فقد بلغ القمة في نظرهم، وقد بلغ من تقدير بعضهم للشعر الجاهلي، انهم كانوا "أحياناً يذهبون بعيداً في تدقيقهم إلى حد التهوين من قيمة شاعر لا يمكن إنكار تفوقه، لمجرد أن ولادته كانت بعد ظهور الإسلام".

وروي أن عمر قال: "الشعر علم قومٍ لم يكن لهم علمُ أعلم منه" وأنه كتب إلى "أبي موسى الأشعري": "مُر مَنٌ قِبلَك بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب". ولقد قال الجاحظ: "وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها، وعلى أن الشعر يُفيد فضيلة البيان، على الشاعر الراغب، والمادح، وفضيلة المأثرة، على السيد المرغوب اليه، والممدوح به". وقال العسكري: "لا تعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملة أشعارها، فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها"، والشعر هو ديوان تسجيل من لا تسجيل له، لجأت اليه الشعوب القديمة حين لم تعرف الكتابة، ليقوم مقام الكتابة في تخليد المآثر والأحداث وما يستجد لها من أمور عظام، بما فيه من أثر على القلب، ومن نغم يساعد على الحفظ، فقام الشعر عند العرب مقام الكتابة، قبل أن تتفشى الكتابة بينهم.

والواقع ان هذا الشعر الجاهلي قد أفاد المؤرخ الباحث في تأريخ الجاهلية فائدة لا تقدر بثمن، وربما زادت فائدة هذا الشهر من الوجهة التأريخية على فائدته من الوجهة الأدبية، لأنه حوى أموراً مهمة من أحداث العرب الجاهليين، لم يكن في وسعنا الحصول عليها لولا هذا الشعر.

ولكن كثيراً من هذا التراث الذي أريد تخليد عمل العرب به قد ضاع، قبل الإسلام، بسبب عدم تدوينه وتخليده في كتاب واعتماد الناس في روايته على الحافظة وحدها، والحافظة لا تحفظ المحفوظ لأمد طويل، فضاع منه ما ضاع، ووصل بعض منه بصورة يرتاب منها، وآفة كل ذلك هو الموض الذي يصيب الذاكرة: مرض النسيان. "قال ذو الرمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري ؛ فالكتاب أحب إليّ من الحفظ. لأن الأعرابي ينسى الكلمة وقد سهر في طلبها ليلته، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى و لا يبدل كلاماً بكلام".

والشعراء الجاهليون كثيرون، ونجد في كتب اللغة والمعاجم، أسماء شعراء، لم يرد لهم خبر في موارد أخرى، ذكروا لمناسبة الاستشهاد بشعرهم، ونجد في كتب السير والرجال أسماء رجال لهم شعر، لم يرد اسمهم في كتب الشعر. قال "ابن قتيبة": "والشعراء بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والاسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفذ عمره في التنقير عنهم ؛ واستفرغ مجهوده في البحث و السؤال. ولا أحسب أحداً من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر الا عرفه، ولا قصيدة الا رواها".

و أنت إذا قرأت بعض الكتب مثل كتاب: "الاشتقاق"، و"المحبر"، وكتب المجالس والأمالي والشواهد، تجد أمامك أسماء عدد كثير من الشعراء الجاهليين، لم يرد اسمهم في كتب الشعر الجاهلي، ولم يحفل بهم علماء الشعر مع انهم كانوا في أيامهم من الشعراء المعروفين، وقد نص على انهم كانوا من الشعراء.

ولا أجد في كلام قدماء العلماء القائل ان الذي وصل الينا من أمر الشعر الجاهلي والشعراء الجاهليين، هو قليل جداً من كثير جداً من كثير جداً، وأن الذي فات عن علم العلماء من أمر الشعراء الجاهليين أكثر بكثير مما بقي، أية مبالغة أو تهويل، لأننا نجد في الموارد التي تتحدث عن الصحابة أو عن الأخبار، أسماء رجال كانوا شعراء، لا نجد لها وجوداً في كتب الشعر، ثم ان علماء الشعر أنفسهم يعترفون في كتبهم ودفاترهم، انهم لم يدونوا من أسماء الشعراء الا من اشتهر أمره و عرف بغزارة شعره، أما من كان دون هؤلاء، فأنهم لم يتحرشوا بهم، اذ لو تعرضوا بهم لاحتاجوا إلى تدوين كتب ضخمة في الشعر و الشعراء. اضف إلى ذلك موت ذكر كثير من الشعراء، بسبب عدم وجود التدوين قبل أيام التدوين و عجز الذاكرة عن المحافظة على أسماء الشعراء و على شعرهم إلى أمد طويل. ثم ان الشعر سليقة عند العرب، وبديهة، وقلما نقرأ اسم رجل من أهل الجاهلية، الا وقد نسب له أهل الأخبار البيت أو البيتين، أو أكثر من ذلك من الشعر.

ونحن لا نذكر هنا من الشعراء الا من نبه منهم، وترك أثراً في الأدب العربي إلى يومنا هذا.

وقد جرت العادة بأن يدرس الشعر الجاهلي على أسلوب الجادة القديمة، بالاعتماد على الروايات المدّونة عنه في الموارد الاسلامية القديمة، وهي روايات لاقت رواجاً كبيراً بين المعنيين في الشعر الجاهلي، حتى صارت في درجة القضايا البديهية المسلم بصحتها، مع أنها في الواقع أخبار آحاد، وردت في كتب اسلامية قديمة نقلها عنها المؤلفون المتأخرون عن المؤلفين القدماء. مع أن الصحيح هو في وجوب درس الشعر الجاهلي، على ضوء شعر المخضرمين والشعراء الاسلاميين الذين عاشوا في صدر الإسلام، وعلى ضوء الدراسات المعروفة عن الشعر عند الساميين، مثل شعر السريان الذي يأخذ أيضاً بالوزن والقافية وله مصطلحات قديمة في الشعر تعود إلى ما قبل الإسلام، ثم الشعر العبراني والشعر البابلي وشعر بقية الساميين.

وفي دراسة شعر القبائل الحاضرة المنزوية في جزيرة العرب، فائدة كبيرة في تشخيص الشعر الجاهلي، لأنها-ولا سيما القبائل القابعة في العربية الجنوبية- لا زالت تنظم الشعر متاثرة بالقوالب القديمة وببحور جاهلية لم يحفل بها "الخليل" أو أنه لم يقف عليها، ففات أمرها على العلماء، وعدت من الشعر العامي المبتذل. الذي لا يليق بالعالم المتزن أن يحفل به. وقد تفيدنا دراسة شعر القبائل العربية ن الناطقة بلهجات بعيدة عن عربيتنا بعض البعد، فائدة كبيرة في الحكم على طبيعة ونوع الشعر عند العرب الجنوبيين قبل الإسلام، فألسنة هذه القبائل هي من وحي الألسنة العربية الجنوبية الجاهلية، و نظم الشعر بها بأسلوب خاص وببحور متميزة، هو دليل قاطع على وجود الشعر عند العرب الجنوبيين، وهو شعر لا نعرف اليوم من أمره أي شئ، لعدم وصول نماذج مدّونة منه الينا حتى الآن، ولعدم اهتمام العلماء القدامى به، لاختلافه عن عربية القرآن الكريم، وفي الشعر اليماني القديم الذي نجد نماذج منه في المؤلفات اليمانية، مثل مؤلفات "الهمداني"، فائدة في تشخيص الشعر اليماني الجاهلي، وان كان هذا الشعر قد صيغ وفقاً للشعر العربي القرآني، بفعل دخول أهل العربية الجنوبية في الإسلام، و أخذهم بلغة القرآن الكريم. و لا استبعد احتمال ترك علماء الشعر و اللغة كثيراً من الشعر الجاهلي، لأنه شعر لم ينظم وفق عربية القرآن الكريم أو وفق البحور "الكلاسيكية" المعروفة التي اعتبرت الصور الرغفيعة لبحور الشعر العربي الصحيح، نبذوه لأنه كان في أعينهم من الشعر العامي المبتذل الذي لا يليق بالعالم المدقق توجيه عنايته اليه، على نحو ما فعلوه بالنسبة إلى اللهجات العربية الأخرى التي كانت تختلف عن العربية المألوفة التي أخذوها من أفواه القبائل التي اعتبروا لسانها هو اللسان العربي الفصيح، و أما ما سواها فألسنة رديئة لا يؤخذ بها و لا يحتج بما ورد فيها من نثر أو نظم.

?خبر شعراء الجاهلية

وقد حصلنا على أسماء الجاهلية من الموارد الاسلامية، فقد ذكرت ان النصوص الجاهلية لم تتعرض لأمر الشعر الجاهلي ولا للشعراء الجاهليين. ونجد أسماء هؤلاء الشعراء في مختلف الموارد، في كتب الأدب و في ضمنها دواوين الشعر، و في كتب النثر الباحثة عن الشعر، وفي كتب التفسير والحديث واللغة والمعاجم، بل وفي الشعر الجاهلي كذلك، اذ ذكر بعض أسماء الشعراء. ونجد في شعر بعض الشعراء الذين ظهروا في العصر الاموي أسماء جاهليين، فنجد في شعر للفرزدق أسماء شعراء جاهليين، اذ يقول: وهب القصائد لي النوابغ اذ مضوا  وأبو يزيد و ذو القروح و جرول

والفحل علقمة الذي كـانـت لـه  حلل الملوك كلامـه لا ينـحـل

وأخو بني قيسٍ وهن قـتـلـنـه  ومهلهل الشـعـراء ذاك الأول

والأعشيان كلاهمـا ومـرقـش  وأخو قضاعة قولـه يتـمـثـل

وأخو بني أسد عبـيدُ إذ مـضـى  وأبـو دوُاد قـولـه يتـنـخـل

وابنا أبي سلمى زهـير وابـنـه  وابن الفريعة حين جدّ المـقـول

والجعفري وكان بشـر قـبـلـه  لي من قصائده الكتاب المجمـل

ولقد ورثتُ لآل أوسٍ منـطـقـاً  كالسم خالط جانبيه الحـنـظـل

والحارثي أخو الحمِاس ورثـتـه  صدعاً كما صدع الصفاة المعول 

ونجد في شعر "جرير" الذي نقض على الفرزدق قصيدته المذكورة، وفي شعر "سراقة" البارقي، ذكراً لأسماء بعض الشعراء الجاهليين إذ يقول: ولقد أصبت من القريض طريقةً  أعيت مصادرها قرين مُهلهـل

بعد امرئ القيس المُنوّه باسمـه  أيام يَهٌذي بالدخول فحـومـل

وأبو دُواد كـان شـاعـر أمةٍ  أفَلَتٌ نجومهم ولـمّـا يأفـل

وأبو ذؤيب قد أذل صعـابـه  لا ينصبك رابض لـم يذلـل

وأرادها حسان يوم تعرضـت  بردى يصفق بالرحيق السلسل

ثم ابنه من بعده فتمـنـعـت  وإخالُ أن قرينه لـم يخـذل

وبنو أبي سُلمى يقصر سعيهـم  عنّا كما قصرت ذراعاً جَرول 

واذكر لبيداً في الفحول وحاتماً=يلومك الشعراء إن لم تفعل ومُعقِّرا فاذكر وإن ألـوى بـه  ريب المنون وطائر بـالأخـيل

وأمية البحر الذي في شـعـره  حكم كوحي في الزبور مُفصل

واليذمري على تقـادم عـهـده  ممن قضيتُ له قضاء الفيصـل

واقذف أبا الطحمان وسط خوانهم  وابن الطرمة شاعر لم يُجهـل

لا والذي حجت قـريش بـيتـه  لو شئت إذ حدثتكـم لـم آثـل

ما نال بحري منهم من شـاعـرٍ  ممن سمعت به ولا مستعجـل

وجمع رواة الشعر شعر الشعراء الجاهليين وأخبارهم من موارد متعددة، من الشعراء انفسهم، مثل الحطيئة الذي ادرك الإسلام، ومثل حسان وبقية الشعراء، وبما حفظوه من شعرهم، وبما استحسنوه من اشعارهم، كما مونوهم بأخبارهم التي بقيت عالقة في اذهانهم عن الجاهلية، وعن ايامهم في الإسلام. كما جمعوا اخبارهم من أبناء الشعراء الجاهليين ومن ذوي رحمهم وآلهم، ونجد في كتب الأخبار والأدب أخباراً كثيرة من شعراء جاهليين، نقلها الرواة من ابناء أولئك الشعراء، أو من ذوي قرابتهم، فقد جاء قسط كبير من شعر الشاعار "تميم ابن مقبل" عن ابنته أم شريك، وجاء جزء من شعر "حاتم" وأخباره عن ابنه "عدي".

وأخذ الرواة شعر الشعراء الجاهليين من قبائلهم كذلك، فقد كان القبيلة من يحفظ شعر شعرائها أو شعر البارزين منهم. وقد رأينا كيف استعزت تغلب بقصيدة "عمرو بن كلثوم"فكانت ترددها دوماً حتى عيبت على ذلك، وكان في القبائل الاخرى من حفظ شعر شعرائها، ونجد كتب الأدب والأخبار تنص على اسمائهم، فتذكر اسم الشخص، وتنص على اسم قبيلته، وقد تذكر جملاً مثل "سمع أشياخاً من طئ"، أو "حدثني الطائيون"، وأمثال ذلك، من جمل تنص على أسم المورد الذي استقى منه الرواية خبره أو شعر الشاعر من القبيلة.

كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة "276ه"، اسماء شعراء جاهليين، وقد أخذا علمهما بهم ممن تقدم عليهم فألف قبلهم في موضوع الشعر والشعراء، ودون "اليعقوبي" في تأريخه جريدة بأسماء شعراء العرب، وقد جعل أولهم "امرئ القيس"، وذكر "النابغة" الذبياني بعده، وانتهى بالمخضرمين، ولكنه لم ينص على اسم المورد الذي أخذ تلك الاسماء منه.

ولا نجد بين أسماء الشعراء الجاهليين اسم شاعر واحد نظم شعره وعاش في العربية الجنوبية أو نظم بلهجة متأثرة باللهجات العربية الجنوبية، فأكثر من ذكروهم من الشعراء انما هم من الشعراء الذين قضوا أكثر حياتهم خارج العربية الجنوبية، وقد كان في هذه العربية شعراء ولابد، فليس من المعقول خلوها من الشعر والشعراء، ولكن علماء العربية لم يعتنوا إلا بشعراء القبائل التي احتكوا بها والتي أخذوا العربية عنها، والتي اعتبروا لسانها من افصح ألسنة العرب، فضاع بسبب ذلك شعر القبائل التي كانت بعيدة عنهم أو التي كان لسانها بعيداً بعض البعد عن العربية التي ارتضوها والتي نزل بها القرآن الكريم.

ولا نجد في الشعر الجاهلي الواصل الينا شعراً نظم في أغراض دينية وثنية، أي في عبادات القوم قبل الإسلام، اللهم إلا ما نسب إلى بعض الشعراء الأحناف من شعر فيه تحنف، وإلا ما نسب إلى بعض آخر من شعر فيه اشارات عابرة إلى عقائد يهودية أو نصرانية. أما شعر وثنى خالص، من شعر فيه ترنيم بالأصنام والأوثان، وتحميد لها وتقديس، أو وصف لطقوس دينية وثنية، فهو شعر لم يصل الينا منه شئ، وسبب عدم وصوله الينا هو الإسلام، الذي اجتث ما يمت إلى الوثنية بصلة قريبة، وقضى عليه، فأمتنع المسلمون من رواية هذا النوع من الشعر.

الشاعر

والشاعر متعاطي الشعر ومحترفه ومن يقوله، أو يكثر القول منه. ذكر علماء اللغة أنه أنما سمي شاعراً، لأنه يشعر ما لا يشعر غيره، أي يعلم، أو لفطنته.

ومن هنا قال البعض ان الشعراء في الجاهلية كانوا أهل المعرفة، يعنون أنهم كانوا من اثقف أهل زمانهم، وأنهم كانوا على مستوى عال في الفكر والرأي وفي فهم الامور.

وجعلوا للشعراء مزايا، ومنحهم العلماء امتيازات خاصة، وقالو عنهم: "الشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدون المقصور، ويقدمون ويؤخرون، ويؤشرون ويشيرون، ويختلسون ويعيرون ويستعيرون. فاما لحن في إعراب، أو أزالة كلمة عن نهج صواب، فليس لهم ذلك".

وفي كتب أهل الأخبار أخبار تدل على اعتداد الشعراء بأنفسهم من ناحية الرقي العقلي، وعلى تقدير الناس لمدارك الشعراء. جاء أن "الطفيل الدوسي قدم مكة ورسول الله بها، فحذره رجال من قريش من سماع النبي حتى لا يتأثر بقوله. قال الطفيل: فما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئاً، ثم قلت في نفسي: واثكل أمي! والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني من ان أسمع هذا الرجل ما يقول? فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وان كان قبيحاً تركته"، وجاء في خبر اخر، "ان الطكفيل لما قدم مكة، ذكر له ناس من قريش أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وسألوه أن يختبر حاله فأتاه فأنشده شعره، فتلا النبي الاخلاص والمعوذتين فأسلم". وفي هذا الخبر ان صح دلالة على تقدير الناس لفطنة الشاعر ولسمو مداركه. وقد رأينا ما كتبه "هوذة بن علي" الحنفي، للرسول من انه شاعر قومه وسيدهم، ونجد في خبر "جلاس بن سويد" الصامت الانصاري، أن قومه اتوا عليه "فقالوا: إنك امرؤ شاعر..."، وفي هذه الاخبار وغيرها دلالة على ان الشعراء كانوا يرون أنفسهم فوق الناس في الفطنة والفهم، وأن الناس كانوا يرون هذا الرأي فيهم، لما يجدونه فيهم من فطنة وذكاء.

ولا يعني هذا ان الشعراء كانوا كلهم من أرقى الناس عقلاً، ومن افهم الناس ادراكاً، ومن اعلمهم بالأمور وابصرهم بالمعرفة، فبينهم ولا شك تفاوت في الادراك، وفي مجتمعهم من هو أرقى منهم عقلاً وأكثر منهم ادراكاً، وهم مع ذلك لا يقولون الشعر أو لا يمارسونه، مثل الحكام والكهنة وأصحاب الآراء. وانما الشعر، ملكة لا تكون إلا عند صاحب حس مرهف ولا تظهر الا في انسان ذكي فطن لبيب، يذل الالفاظ والابيات، لتنصاع لإرادته، فيخرجها أبياتاً وقصائد تعبر عن مشاعره ومداركه. فالشاعر من هنا من اذكى الناس، ومن أهل الإدراك والمعرفة.

والشعراء ككل البارزين من طبقات مختلفة تباينت في السويات، منهم من نبت من عائلة شريفة، ومنهم من نبت من عائلة أعرابية، ومنهم من نبغ من بيت فقير. وقد سمي أهل الاخبار شعراء بأسمائهم كانوا من اشراف قومهم، وسموا شعراء كانوا من اوساط أقوامهم، أو من النابتة. فالنبوغ لا يختص بجماعة دون جماعة، ولا بطبقة دون طبقة.

وشعر الشاعر دليل على عقليته ومقدار مداركه، ولهذا تباين واختلف، فنجد في شعر شعراء البادية الروح الاعرابية والخشونة تتجسم في المعاني وفي الالفاظ، ونجد في شعر الحضر اثر النفس الحضرية، ونرى في شعر الجوابين القاصدين للملوك، والذاهبين إلى الحضر والاعاجم، أثر اختلاطهم بهم في شعرهم، كما هو في شعر الاعشى.

والشعراء الجاهليون، هم من قبائل متعددة ذات لهجات وحروف في الكلام مختلفة، ولكننا نرى أن لغة شعرهم وطريقة نظمهم واحدة، لا فرق فيها بين قحطاني وعدناني، ولا بين شاعر من عرب العراق أو بلاد الشام وشاعر من أهل اليمن أو الحجاز أو نجد. ومعنى هذا ان الشعراء كانوا إذا نظموا شعراً، نظموه ببحور معروفة مقررة، وبلغة عالية، سمت فوق لهجات القبائل، على نحو ما نفعل في الزمن الحاضر من استعمال لغة عربية فصيحة هي لغة القرآن الكريم في النظم والنثر والاذاعة وما شابه ذلك من وسائل الايضاح والاعلان، ومن استعمال لهجات محلية في الحياة اليومية الاعتيادية في مثل البيت والسوق والتفاهم بين الناس.

ولكن هذا لا يعني أن الشعراء لم يكونوا ينظمون الشعر بألسنتهم القبلية، ووفق وقاعد منطقهم، فقد ثبت من اقوال علماء الشعراء، ومن اخبار أهل الاخبار ان الجاهليينه كانوا ينظمون بلهجاتهم، وكان نظمهم مفهوماً عند غيرهم، وقد تحتاج الاذن إلى تأمل وتفكير، لإدراك كلمات ومعاني ذلك الشعر. قال "ابن هشام" في شرح الشواهد: "كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم بمقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن ههنا كثرت الروايات في بعض الابيات". فالشاعر التميمي، ينظم بلهجته، والشاعر الاسدي ينظم بلهجة بني اسد قومه الذين ولد بينهم، والشاعر الثقفي ينظم بلهجة ثقيف، ولكنه إذا انشده في غير قومه، فهم وعرف معناه، وان احتيج إلى ترقيع أو تعديل في بعض الاحيان.

ودليل ما اقول: هو ما نجده في شعر الشواهد من اظطراب في القواعد، وخروج على اصول النحو والصرف، وورود ألفاظ في الشعر الجاهلي دعاها علماء اللغة غريبة أو وحشية، أو ألفاظ خاصة ذكروا انها وردت في شعر الشاعر، لأنها من ألفاظ قبيلته، التي انفردت بها دون سائر القبائل، ولو كان نظم الشعر بغير لغة القبائل، لما شاهدنا فيه هذه الخصائص اللسانية التي وجدها علماء اللغة في شعر بعض الشعراء، ولجاء الشعر كله بلا خصائص قبلية وبلا ألفاظ غريبة، أما وقد صقل العلماء الشعر وحسنوا في بعض الفاظه، ونقحوا منه ما نقحوه، فإن ذلك دليل في حد ذاته على ان الشعراء كانوا ينظمون الشعر بألسنتهم، وهي غير متباينة تبايناً كبيراً، فلما ظبطه العلماء، ودونوه، هذبوا ما شذ منه وفق القواعد التي تثبت في الإسلام. ففي الاخبار أن رواة الشعر، كانوا يجرون تغييراً في نصوص الشعر، لتحسين الشعر وتصليحه، فقد رووا أن "الاصمعي" رفع لفظة "زندية" من هذا البيت المنسوب إلى "امرئ القيس": رب رام من بني ثعـل  مخرج زنديه من ستره 

فجعله كفيه، ورووا اجراء اصلاحات أخرى، أدخلها علماء اللغة على شعر امرئ القيس وغيره، اقتضتها قواعد الاعراب أو البلاغة والبيان.

ونجد في رسالة الغفران ملاحظة طريفة عن التغيير الذي كان يجريه "المعلمون" في نصوص الشعر، فقد تصور ان "امرئ القيس" قد سئل عن كيفية وجود "الزحاف" في شعره، ثم اجالب على لسانه بقوله: "فيقول امرؤ القيس: أما أنا فما قلت في الجاهلية إلا بزحاف: لك منهن صالحٍٍ 

وأما المعلمون في الإسلام، فغيروه على حسب ما يريدون.

وورد ان رواة الشعر كانوا ينقحون حتى في شعر الشعراء الاسلاميين، وحجتهم في ذلك ان "الرواة قديماً تصلح من أشعار القدماء". وقد يقوم بذلك رواة الشاعر نفسه. وورد ان رواة الفرزدق كانوا "يعدلون ما انحرف من شعره" وان رواة جرير، فعلوا مثل فعلهم في إصلاح شعر صاحبهم.

والتصحيح المذكور، وان كان جزئياً، تناول الفاظاً في الأكثر، لكنه في الواقع تحريف وتزييف، وتغيير للنصوص وتبديل لها، حرمنا من الوقوف على قواعد اللهجات العربية عند الجاهليين، بسبب ان المعدلين المصححين، لم يشيروا في كثير من الاحايين إلى المواضع التي غيروا وأجروا التصحيح فيها، ولو فعلوا ذلك، لكان الأمر علينا سهلاً هيناً، إذ يكون في وسعنا إرجاع الأمور إلى نصابها والوقوف على النصوص، وإن كان علملهم هذا هو عمل مخالف للذمة وللحق، حتى في هذه الحالة، لأن من قواعد الأمانة وجوب المحافظة على الاصل.

وعندي ان اللغة التي نظم بها الشعر الجاهلي هي لغة الأعراب، وهي اصل اللغة العربية، ولغه أهل البوادي والقرى التي غذتها البادية بالسكان. ولهذا قال "الجاحظ": "ومن تمام آلة الشعر أن يكون الشاعر أعرابياً"، دلالة على ما ببلادية والبداوة من صلة به. ولهذا أيضاً جعل العلماء مقياس الشعر أن يكون عربياً بألفاظ نجدية، أي اعرابية خالصة، وهذه العربية كانت تمتد فتشمل لغة أعراب بادية الشام، بما في ذلك قرى الفرات العربية، التي جاء سكانها العرب من البادية. ولهذا ايضاً حفلوا بالشعر الصلب الصلد، المنظوم بألفاظ بدوية صميمة تمثل الغلظة والشدة والمتانة، ولم يميلوا إلى شعر شعراء أهل القرى، لأنه شعر سهل سلس، خال من صلابة البوادي ومن غلظة الشعر الاعرابي.

وشعراء الجاهلية بعد، إما شعراء ظهروا بين أهل الوبر، فهم شعراء أعراب يمثل شعرهم نفس البادية، وطبيعة البداوة وعقليتها، وإما شعر أهل المدر وهم الحضر، المستقرون، وسكان القرى. ولشعر شعرائهم طابع خاص يمثل الطبيعة الحضرية حسب درجاتها ومراتبها واختلاط أهلها بالاعاجم، أو انعزالهم في مستوطنات حضرية ظهرت في البادية. فمن سافر من شعرائهم واختلط بالاعاجم، وشاهد بلاد الشام والعراق، تأثر بما شاهده، فبان ذلك الاثر في شعره، كما يظهر ذلك في شعر الاعشى، وعدي بن زيد العبادي، وأمية بن أبي الصلت.

وطبيعي أن يكون بين الشعراء تنافس وتحاسد وتقديم وتأخير وتفضيل. وفي كتب الأدب أمثلة على منافرات ومناظرات جرت بين شعراء، لبيان رأيهم في شعر شعراء آخرين. وطبيعي أيضاً أن يكون بين شعراء الجاهلية كالذي وقع في كل زمان ومكان، شعراء فحول، وشعراء دونهم في المنزلة والدرجة وفي القدرة في الشعر.

وذكر أن الشعراء الجاهلية كانوا يتفاخرون بعضهم على بعض، ويتعارضون في قول الشعر، يومالطون. والممالطة: أن يقول رجل نصف بيت ليتمه الاخر، ويقال لذلك التمليط، وأن يتساجل الشاعران فيصنع هذا قسيماً وهذا قسيماً، لينظر أيهما ينقطع قبل صاحبه، وهو نوع من التفاخر والتنافر والتعجيز وإظهار النفس بالتغلب على المنافس.

وللشعراء بعد منازل في قول الشعر، فمنهم الشاعر الفحل، الذي لا يبارى، ذكر أنهم كانوا لا يسمون الشاعر فحلاً، إلا إذا كانت له حكمة. ومنهم الشاعر الخنديد. والخنديد: الفحل، والشاعر المجيد المفلق، وتطلق اللفظة ايضاً على الخطيب البليغ المفوه المصقع وعلى العالم بأيام العرب وأشعارهم. وقيل: الشاعر الخنديد، هو الذي يجمع جودة شعره في رواية الجيد من شعر غيره. والمفلق، هو الذي لا رواية له، إلا أنه مجود كالخنديد في شعره، وقيل: هو الذي يأتي في شعره بالفلق، وهو العجب. ثم يليه الشاعر فقط، وعرفوا الشاعر، انه الذي لم ينعته علماء الشعر بنعت نمن هذه النعوت ومن كان فوق الردئ بدرجة. وأما الشعرور، فهو لا شئ، والشويعر، هو من كان دون الشاعر في الشعر. ويذكرون ان الشعراء أربعة. ذكروا في شعر، ينسبه بعضهم إلى الحطيئة، هو: الشعراء فأعلـمـن أربـعة  فشاعر لا يرتجى لمنفـعة

وشاعر ينشد وسط العمـعة  وشاعر اخر لا يجري معه

وشاعر يقال خمر في دعه 

وقالوا: رابع الشعراء، ازدراء وتحقيراً: يا رابع الشعراء كيف هجوتني  وزعمت أني مفحم لا أنطـق

وقسم بعض العلماء الشعراء: ثلاث طبقات:شاعر وشويعر، وشعرور. وروا: أن امرأ القيس بن حجر أطلق لفظة "الشويعر" على "محمد بن حمران بن ابي حمران"، وهو ممن سمي محمداً في الجاهلية، وهو شاعر قديم، فقال فيه: أبلغا عني الشويعر أني  عمد عين نكبتهن حزيما 

فسمي بهذا البيت الشويعر: قال "الجاحظ": "والشعراء أربع طبقات. فأولهم:الفحل الخنديد. الخنديد هو التام. قال الاصمعي: قال رؤبة: الفحولة هم الرواة. ودون الفحل الخنديد الشاعر المفلق، ودون ذلك الشاعر فقط، والرابع الشعرور. ولذلك الاول في هجاء بعض الشعراء: يا رابع الشعراء كيف هجوتني  وزعمت أني مفحم لا انطـق

فجعله سكيتاً مخلفاً ومسبوقاً مؤخراً.

وسمعت بعض العلماء يقول:طبقات الشعراء ثلاث: شاعر، وشويعر، وشعرور. قال: والشويعر مثل محمد بن حمران بن أبي حمران، سماه بذلك أمرؤ القيس بن حجير".

ويظهر من القول المنسوب إلى "رؤبة"، ان الشعراء الرواة، كانوا في نظره ارفع منزلة من بقية الشعراء، ولعل ذلك بسبب طول حفظهم للشعر، مما أكسبهم علماً وخبرة ومراناً به، فصارت صياغتهم له أعلى من صياغة الشعراء الذين لم يكونوا يحفظون شعر غيرهم من الشعراء، ولم يكن لهم علم بأسايب غيرهم من الشعراء. فبسبب الحفظ، طوعوا الشعر والكلم وركبوا ظهره بكل سهولة، حتى صار طوع أيديهم.

والتقسيم المذكور هو تقسيم اسلامي، كما ان تقسيمهم الشعراء إلى سبع طبقات هو تقسيم اسلامي كذلك. فقد قسموهم إلى اصحاب المعلقات، وأصحاب المجمهرات، واصحاب المنتقيات، واصحاب المذهبات، وأصحاب المرائي، وأصحاب المشوبات، وأصحاب الملحمات.

عدد الشعراء

وقد احصى بعض الباحثين عدد أسماء الشعراء الجاهليين الذين ذكروا في كتب الادب، فبلغ عدد ما احصوه "125" شاعراً. وهناك اسماء جاهليين استشهد الرواة ببيت أو ابيات من شعرهم في كتب الأدب واللغة، لو أحصوا واعتبرناهم من ضمن الشعراء، لاضطررنا إلى تغيير هذا الرقم، بأضافة هؤلاء عليهم. ومع ذلك فإننا نستطيع القول بأن هذا الرقم هو رقم نهائي ومظبوط لشعراء الجاهلية، فالمنطق يحملنا على تصور وجود عدد آخر من الشعراء فات خبرهم عن رواة الشعر، لأسباب عديدة، منها قدم اولئك الشعراء، بحيث لم تتمكن ذاكرة حفظة الشعر من استيعابهم، ثم بعد بعضهم عن الارضين التي حصر علماء الشعر فيها نشاط بحثهم عن الشعر الجاهلي وعن شعرائه، ثم كون قسم منهم من الشعراء المحليين، أو الشعراء المقلين الذين لم ينتشر شعرهم بين الناس.

وقد فطن إلى ذلك القدماء، فقال "ابو عمرو بن العلاء": "ما انتهى اليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر به". وذكر غيره ان العلماء على حرصهم على العناية بجمع شعر الشعراء، لم يتمكنوا مع ذلك من جمع أشعار قبيلة واحدة، فكيف بشعر كل القبائل ! والواقع ان في العرب قابلية على قول الشعر، وبين الصحابة عدد كبير نظموا شعراً روي في الكتب، ومع ذلك، فلم يعدّهم العلماء في جملة الشعراء، وكذلك الحال بالنسبة إلى أهل الجاهلية، فقد كان بينهم عدد كبير ينظم الشعر.

انشاد الشعر

وللشعراء طريقة خاصة في انشاد الشعر. يذكرون ان الشاعر منهم كان إذا أراد إلقاء شعر، تهيأ لذلك واستعد له، وأظهر للناس انه يريد إلقاء شعر. ومن أصولهم في الإلقاء أن ينشد الشاعر شعره وهو قائم. وأن يلبس الوشي والمقطعات والأردية السود وكل ثوب مشهر.

وذكر أن من عادة الشعراء في الهجاء، أن أحدهم كان إذا أراد الهجاء "دهن أحد شقي رأسه، وأرخى إزاره، وانتعل نعلاً واحدة". وقد ذكر "المرتضى"، في خبر وفود العامريين على النعمان بن المنذر، وكان فيهم "لبيد ابن ربيعة"، وهو يومئذ غلام له ذؤابة، وكان القيسيون قد صدوا وجه النعمان عنهم، فأرادوا تقديم "لبيد" ليرجز بالربيع بن زياد رجزاً مؤلماً ممضاً، وكان هو الذي صرف الملك بالطعن فيهم وذكر معايبهم، فحلقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين وألبسوه حلة وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان. فقام وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلاً واحدة على فعل شعراء الجاهلية إذا أرادت الهجاء، ثم أنشد رجزه الذي أثر في النعمان، حتى صار سبباً في ابعاد "الربيع بن زياد"عنه.

واذا أراد شاعر انشاد شعر، وقف وأنشد شعره، بأسلوبه الخاص في الإنشاد. وقد يترنمون في انشادهم ليكون الإلقاء أوقع أثراُ في نفوس السامعين. وقد يلقي راوية الشاعر شعر شاعره إذا كان أقدر منه على الإنشاد. وذكر أن "النشيد" هو الشعر المتناشد بين القوم ينشد بعضهم بعضاً، ومنه نشد الشعر وأنشده، إذا رفعه. وأنشد بهم، هجاهم. "وفي الخبر أن السلّيطين قالوا لغسان: هذا جرير ينشد بنا، أي يهجونا". و لا يخلو الانشاد من الترنم على اللحن الذي يتسمح به بالطبع، ومن مدّ الصوت، ليكون للشعر وقع على نفوس سامعيه، وتأثير جميل على المنصتين له.

وذكر ان الشعراء كانوا لا ينشدون إلا قياماً، وقد يعلو أحدهم موضعاً مشرفاً، أو يركب ناقته، ليدل على نفسه، ويعلم انه المتكلم دون غيره، وكذلك كان يفعل الخطيب. وقد استدل بعض المستشرقين من هذا الوصف على أن الشعراء انما أخذوا تقليدهم هذا من السحرة: الشعراء الأوائل ومن الكهنة، لأن السحرة والكهنة كانوا ينظمون الشعر وينشدونه على هيأة خاصة، يلبسون فيها أردية خاصة ويقفون في وضع خاص حين إنشاد الشعر.

وذكر ان الملوك كانوا يجلسون خلف الستور حين يستمعون إلى شاعر. فروي ان "عمرو بن هند" كان يسمع الشعراء من وراء سبعة ستور. وان الشاعر "الحارث بن حلزة" اليشكري لما طلب قومه منه انشاد قصيدته أمام "عمرو بن هند"، قال لهم: "والله إني لأكره أن آتي الملك فيكلمني من وراء سبعة ستور، وينضح أثري بالماء، إذا انصرفت عنه، وذلك لبرص كان به". فلما سمع قصيدته أمر برفع الستور ستراً ستراً، حتى صار مع الملك في مجلسه، وأمر أن لا ينضح أثره بالماء. . " "وأمره أن لا ينشد قصيدته إلا متوضئاً".

ولكن العادة أن الشاعر يقف أمام الملك، الذي قد يكون جالساً على سرير، فينشده شعره بعد أن يكون قد استأذنه بذلك. وقد يكون في المجلس جملة شعراء، أُذن لهم بالدخول عليه جملة واحدة، لينشدوا الملك شعرهم وما جاءوا به من شعر في مديحه. ويكون المجلس عامراً بأهل الحظوة من المقربين إلى الملك ومن الشعراء الملازمين له. وكانت مجالس ملوك الحيرة، عامرة بهذه المناسبات، أكثر بكثير من مجالس الغساسنة، لغلبة النزعة الأعرابية على ملوك الحيرة وقلة تأثرهم بالحضارة، وتغلب الحياة الحضرية على الغساسنة وتأثرهم بالحياة اليومية لأهل الشام، وبنزعة الروم في الحكم وفي آداب السلوك، حتى أنهم كانوا يتلذذون في الاستماع إلى غنائهم، ولهم قيان في قصورهم وبيوتهم يغنّين لهم بغناء الروم.

وكان من عادة الأعراب الطواف حول قبة الملك مع رفع الصوت بالرجز، ليسمع الملك صوت الراجز، فإذا عرفه أو أعجبه رجزه، اذن له بالدخول. وكان الملوك يضربون قبة على أبوابهم، يقعد فيها الناس حتى يؤذن لهم وقد يكون هذا الرجز مقدمة لدخول الشاعر على الملك حتى يلقي عليه ما يكون نظمه في مدحه وفي مدح آله من شعر.

وكان من عادة الملوك وسادات القوم والأشراف انهم إذا سمعوا الشاعر، واستحسنوا شعره، طربوا حتى يظهر الطرب عليهم وأظهروا استجادتهم لشعره، وربما شربوا إذا كانوا في مجلس الشرب، وأدنوا الشاعر اليهم، وأسقوه من شرابهم حتى يطرب. وقد يطلبون من الشاعر إعادة إنشاد الأبيات المستجادة. وكان الشاعر يستأذن صاحب المجلس أولاً ليسمح له بانشاد شعره. ولما استأذن "النابغة" الجعدي رسول الله، أن ينشده شعره، قال له الرسول: أجدت لا يفضض الله فاك، أي لا يكسر أسنانك، والفم هنا الأسنان. و لا زال الناس يرددون هذه العبارة وعبارة: أعده أحسنت وأجدت، أو أعد أعد، يقولونها بحماس وبصوت مرتفع ارتفاعاً يتناسب مع حس الاستحسان إذا قال الشاعر قولاً يستجيده العارفون بالشعر.

سوق عكاظ

ومن مرويات الأخبار، ان الشعراء الجاهليين كانوا يفدون إلى عكاظ، "فيتعاكظون، أي يتفاخرون و يتناشدون ما أحدثوا من الشعر، ثم يتفرقون". وذكر ان "النابغة" الذبياني، كان ممن يأتيها، فتضرب له قبة حمراء من أدم، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، وكان ممن تحاكم اليه، الأعشى، أبو بصير، فأنشده، ثم أنشده "حسان بن ثابت"، ثم الشعراء، ثم جاءت "الخنساء" فأنشدته، فقال لها "النابغة": والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفاً لقلت انك أشعر الجن والإنس. فقال حسان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك ومن جدك. فقبض النابغة على يده، ثم قال: يا ابن أخي، انك لا تحسن أن تقول مثل قولي: فإنك كالليل الذي هو مـدركـي  وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسعُ 

ثم قال للخنساء: أنشديه، فأنشدته، فقال: والله ما رأيت ذات مثانة أشعر منك، فقالت له الخنساء: والله ولا ذا خصيين".

وروي أن "حسان" كان قد أنشده شعره: لنا الجفنات الغُر يلمعن بالضحى  وأسيافنا يقطرن من نجدة دمـا

ولدنا بني العنقاء وابني محـرق  فأكرم بنا خالاً واكرم بنا ابنمـا

فقال له "النابغة": أنت شاعر، ولكنك أقللت جفناتك وسيوفك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك.

وهو خبر مصنوع، شك فيه العلماء، "قال أبو علي: هذا خبر مجهول لا أصل له". وقد روي عن الآمدي قوله: "أجمعت العرب على فضل النابغة الذبياني، وسألته أن يضرب قبة بعكاظ، فيقضي بين الناس في أشعارهم لبصره بمعاني الشعر، فضرب القبة وأتته وفود الشعراء من كل أوب". ثم ذكر القصة، وروي أن الذي فَنَّد حساناً وعاب عليه بيته، هو الخنساء. والقصة مطعون فيها. "حكى ابن جني عن أبي علي الفارسي، أنه طعن في صحة هذه الحكاية". فالقصة موضوعة، وما هذا القصص المروي عن "عكاظ"، إلا من روايات أهل الأخبار، وضعوه مع قصصهم الموضوع عن اختيار قريش للغة، وتخيرها أحسن الألفاظ، وتحكيمها في الشعر.

وذكر أن "عمرو بن كلثوم" كان ممن حضر سوق عكاظ، وقد أنشد فيها قصيدته الشهيرة: ألا هبي بصحنك فاصبحينا  ولا تُبقي خمر الأندرينـا

وهي معلقته الشهيرة، وهي قصيدة طويلة، ذهب الكثير منها، قيل إنها كانت تزيد على ألف بيت. وقد ذكر أن الرسول سمع الشاعر ينشد قصيدته هذه بسوق عكاظ.

ولم نسمع ان أحداً من الشعراء حكم في الشعر في سوق عكاظ قبل "النابغة" ولابعده. وسوق عكاظ سوق لم تقم إلا قبيل الإسلام، ولعل هذا التحكيم من القصص الذي أوجده أهل الأخبار، وقد يكون "النابغة" قد نظر حقاً في شعر "حسان"، ولكن ذلك لا يمكن أن يعد حكومة دائمة لسوق عكاظ، اختصاصها النظر والتحكيم في شعر الشعراء الجاهليين، واذا كان "النابغة" حاكم سوق عكاظ حقاً، فلمَ لم نسمع بأحكام أخرى له في حق شعر شعراء آخرين، ما دام كان يحضرها في كل عام، وتضرب له قبة من أدم، يجعلها مقراً له ولحكومته، ولمن يحضر اليه من الشعراء رجاء النظر في شعره.

وذكر ان القبائل كانت تفد إلى "عكاظ" وتبحث عن مختلف الأشياء وتتداول أشياء قبيحة أو محمودة، وأن الرسول حضرها، للدعوة إلى الإسلام.

ولم نسمع بأن الشعراء كانوا يتوافدون إلى مكة موسم الحج، لإنشاد شعرهم، على نحو ما ذكر عن سوق عكاظ، مع أن موسم الحج من المراسم المعهودة بالنسبة إلى قريش والى من كان يعيش حولها من قبائل، وشرف إلقاء الشعر في موسم الحج أسمى ولاشك من شرف إلقائه بسوق عكاظ وفي الأسواق الأخرى، فلو كان الشعراء كما زعم أهل الأخبار يقيمون وزناً كبيراً لحكم قريش في أشعارهم، فلِمَ لا نجد في أخبارهم خبراً يشير إلى تجمع الشعراء في مكة للتباري في انشاد الشعر وفي الحصول على شرف التقدير والتقييم من قريش، ليتباهى الفائز بالتقدير على سائر أقرانه الشعراء ? ثم لِمَ لم نسمع بأسماء القصائد التي نالت منهم شرف التقدير والتعظيم، خلا المعلقات السبع، التي شك في صحة تعليقها حتى المحافظين من أمثال المرحوم "الرافعي"!

يثرب

واذا كانت سوق عكاظ موضع تحكيم على النحو الذي رأيناه، واذا كانت مكة، قد نظرت في شعر شاعر، أو شاعرين، فقد كانت يثرب موضع تقدير وتقييم للشعر كذلك. فقد ذكر أهل الأخبار ان "النابغة قدم المدينة، فدخل السوق، فنزل عن راحلته، ثم جثا على ركبتيه، ثم اعتمد على عصاه ثم أنشأ يقول: عرفت منازلاً بعـربـيات  فأعلى الجزع للحي المبين 

حتى انتهى من شعره، قال ألا رجل ينشد ? فتقدم "قيس بن الخطيم"فجلس بين يديه وأنشده قصيدته التي مطلعها: "أتعرف رسماً كاطراد المذهب "حتى فرغ منها، ثم استمع إلى شعر حسان. وذكر انه قال لكل واحد منهما: "أنت أشعرالناس".

وروي ان "النبي"وضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يهجو الذين كانوا يهجون النبي، وذلك لما كان للشعر من أثر في نفوس الناس آنذاك.

وقد تخصص أناس بإنشاد الشعر، كانوا رواة شعر، ينشدون شعر غيرهم أو شعرهم بأسلوب مؤثر، ذكر ان منشداً أنشد يوماً رسول الله: لا تأمنن وإن أمسيتَ في حـرم  حتى تلاقي ما يمني لك الماني

فالخير والشر مقرونان في قرن  بكل ذلـك يأتـيك الـجـديدان

تطواف الشعراء

وكان الشعراء يتنقلون من مكان إلى مكان، فكان "الأسود بن يعفر"، "يكثر التنقل في العرب يجاورهم، فيذم ويحمد"، وجاب "الأعشى" معظم أنحاء جزيرة العرب والعراق وبلاد الشام، وكان النابغة يتنقل، فيزور ملوك الحيرة والغساسنة، ويسافر إلى مكة وسوق عكاظ، وكان "عمرو بن كلثوم" من المتنقلة كذلك، وقد علمت أمر:امرئ القيس "وتنقله بين القبائل، وأمر "الصعاليك"، الذين كانوا يتنقلون من مكان إلى مكان للحصول على رزقهم، وأمر "حسان" وقصده ملوك الغساسنة ووصوله إلى الحيرة، بل اننا لا نكاد ندرس حياة شاعر جاهلي، حتى نراه جواباً، متنقلاً من مكان إلى مكان، حتى صار التنقل من سيماء الشاعر عند الجاهليين، وكان هدفهم في الدرجة الأولى ملوك الحيرة ثم ملوك الغساسنة، أما ملوك اليمن، فقلما نجد في أخبار الشعراء وصولهم اليهم وانشادهم شعرهم أمامهم، وذلك بسبب أن لسانهم كان لا يشاكل لسان الشعراء، وأما ما نسب اليهم من شعر، وما قيل من مدح بعض الشعراء لهم، فهو من القصص الذي لا يرجع إلى أصل، إلا ما ذكره من شعر في مدح بعض أذواء اليمن، فإن هؤلاء لم يكونوا ملوكاً، وإنما كانوا سادة مواضع وقبائل تقع شمال اليمن في الغالب، وقد كانت على صلة بالعرب الشماليين، وبلغة "ال" في ذلك الحين، ومع ذلك فإن صلتهم بهم لم تكن على نمط صلة الشعراء بسادة العرب الشماليين.

كان الشاعر يتنقل بين القبائل، فينزل على سادتها ويحل في ضيافتهم، يقصد ملوك الحيرة خاصة، لما كان لهم من نفوذ في جزيرة العرب، ولينال عطاياهم، أو ليتوسط في حل ما بين الملوك وما بين قبيلة الشاعر، أو قبائل أخرى من أمور معقدة ومشكلات مستعصية، كما كان يزور الريف والقرى للميرة ولنيل هبات ساداتها من تمور أو دقيق أو أي شيء آخر يكون عند الحضر. فيمدح ويذم، وينشد شعره في أسواق القرى وفي نواديها ومجتمعاتها، فكان سوق "يثرب"، وهو المحل الذي يتجمع فيه الناس للبيع والشراء الموضع الذي يقصده الشاعر لإنشاد شعره به، ثم حل مسجد الرسول محله في الإسلام.

وقد ورد في الشعر الجاهلي ذكر بعض المواضع التي نزل بها الشاعر، أو التي ارتحل اليها ليزورها، وقد طمست أسماء بعض منها، وبقيت أسماء بعض آخر. وقد أمدتنا هذه الأسماء بمادة طيبة، أفادتنا فيؤ الحصول على معارف تأريخية وجغرافية عنها. ففي شعر "الأعشى"، وهو من الشعراء المتنقلة الذين أكثروا من الأسفار، وتنقلوا من مكان إلى مكان، نجد أسماء أماكن عديدة وردت في شعره، مثل "عانة"، و"بابل"، و"الحيرة" و، ومواضع في اليمامة وفي اليمن. وتطرق في شعره هذا إلى أحوال من مر بهم، وذكر أسماءهم وأسماء قبائلهم، فصار شعره لذلك مورداً هاماً بالنسبة لنا، أفادنا في الوقوف على نواح مهمة من التأريخ الجاهلي.

رحل "الأعشى" إلى الغساسنة ملوك عرب الشام، والى المناذرة ملوك عرب العراق، والى "قيس بن معديكرب"، والى "ذي فائش" في اليمن، والى "بني الحارث بن كعب" في نجران، فمدحهم ونال عطاءهم، وأقام عندهم يسقونه الخمر ويسمعونه الغناء الرومي، مما يدل -إن صح هذا الخبر- على تأثر سادة نجران بالثقافة الرومية، التي ربما أخذوها عن طريق ارتباطهم بالروم بروابط النصرانية، وعلى وجود جالية من الروم في نجران أو رجال دين من الروم، عينته الكنيسة لتعليم الناس أمور الدين، فقد كان الروم يرسلون رجال دينهم إلى هذه المواضع والى غيرها للتبشير، ولأغراض سياسية في الوقت نفسه.

ونجد في شعر "الصعاليك" أسماء المواضع التي غزوها، والطرق التي سلكوها في طريقهم إلى الغارات، أو في طرق عودتهم منها إلى ديارهم، ونظراً إلى كثرة تنقلهم وخبرتهم بالمواضع، وبأبعادها وبأصحابها، لما في هذهة الخبرة من العلاقة بنجاح سوقهم وتجارتهم، أفادتنا إشارتهم إلى المواضع والقبائل فائدة كبيرة إذ حصلنا بواسطتها على معارف عن أحوال أهل الجاهلية، ساعدتنا في سد بعض الثلم الكثيرة من ثلم بنيان التأريخ الجاهلي.

طباع الشعراء

والشعراء في الطبع مختلفون، منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء، ومنهم من تتيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل، ومنهم من يحسن الوصف، فإذا صار إلى المديح والهجاء، أو إلى الحكم والموعظة، خانه الطبع، وتأخر عن غيره من الفحول. ومن هنا لم يبرز فحول الجاهلية، ومن عدّ في الطبقة العليا من طبقات الشعراء في كل درب من دروب الشعر وطرقه وفنونه. بل ظهروا وبرزوا في أمور، وتأخروا أو لم يبرزوا في أمور أخرى، فذكروا مثلاً ان "النابغة" الجعدي، كان أوصف الناس لفرس. وورد عن "ابن الأعرابي" قوله: "لم يصف أحد قط الخيل إلا احتاج إلى أبي دواد، و لا وصف الحُمر إلا احتاج إلى أوس بن حجر، و لا وصف أحد النعامة إلا احتاج إلى علقمة بن عبدة، و لا أعتذر أحد في شعره إلا احتاج إلى النابغة الذبياني.

وقد قال من قدّم "امرئ القيس" على غيره من الشعراء، انه "سبق العرب إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب واتبعته فيها الشعراء، منه استيقاف صحبه والبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وشبّه النساء بالظباء والبيض والخيل والعقبان والعصي، وقيّد الأوابد ؛ وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى، وكان أحسن طبقته تشبيهاً". فهذه هي المزايا التي ميزت شعره عن غيره من الجاهليين.

وقال علماء الشعر الذين قدّموا النابغة على غيره، انه كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتاً، كأن شعره كلام ليس فيه تكلف. وأما الذين قدّموا "زهيراً"على غيره، فقالوا: "كان زهير أحكمهم شعراً وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح".

وقلما نجد الشاعر الجاهلي يعنى بوصف الطبيعة أو مظاهرها بشعر خاص، كأن يصف المطر وحده، أو الشمس والكواكب والأجرام السماوية، أو الجبال أو السهول أو الحيوانات أو النبات، وصفاً خاصاً لا يهرب منه إلى أمور أخرى لا صلة لها بهذا الوصف، ثم إنه قلما يتعمق في الوصف، فيصف الأجزاء والفروع وكل ما في الموصوف من مميزات، وهو إذا وصف الطبيعة، أو تعرض لوصف مشهد بارز منها أثر عليه، فإنه لا يفرد ذلك الوصف في كلمة خاصة به لا يشاركه فيها مشارك بحيث يكون شعره وصفياً خاصاً بالطبيعة، وإنما يقحم الوصف في القصيدة جرياً على العرف الشعري الذي سار عليه الشعراء، وليس عن عمد وتقصد لوصف ما يراد وصفه بالذات. ثم هو لا يصف من الشيء الموصوف ككل، وإنما يصف منه ما يلفت نظره، وما يؤثر على حسه وبصره. فهو إذا وقف أمام شجرة لا ينظر اليها ككب، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها ؛ وإذا كان أمام بستان لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة يطير من زهرة إلى زهرة فيرتشف من كل رشفة.

هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف لك ما ترى في أدب العرب-حتى في العصور الإسلامية -من نقص، وما ترى فيه من جمال.

فأما النقص فما تشعر تقرأ قطعة أدبية -نظماً أو نثراً-من ضعف المنطق، وعدم تسلسل الأفكار تسلسلاً دقيقاً، وقلة ارتباطها بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً، حتى لو عمدت إلى القصيدة -وخاصة في الشعر الجاهلي -فحذفت منها جملة أبيات أو قدّمتَ متأخراً أو أخرت متقدماً، لم يلحظ القارئ أو السامع ذلك-وإن كان أديباً - ما لم يكن قد قرأها من قبل.

"وهذا النوع من النظر هو الذي قصَّر نَفس الشاعر العربي، فلم يستطع أن يأتي بالقصائد القصصية الوافية، و لا أن يضع الملاحم الطويلة كالإلياذة والأوديسا.

أما ما أفادهم هذا النوع من التفكير، وخلع على آدابهم جمالاً خاصاً، فذلك ان هذا النظر لما انحصر في شيء جزئي خاص جعلهم ينفذون إلى باطنه، فيأتون بالمعاني البديعة الدقيقة التي تتصل به، كما جعلهم يتعاورون على الشيء الواحد، فيأتون فيه بالمعاني المختلفة من وجوه مختلفة، من غير إحاطة و لا شمول، فامتلأ أدبهم بالحِكم القصار الرائعة والأمثال الحكيمة. وأتقنوا هذا النوع إلى حد بعيد، غَنِيَ به عقلهم، وانطلتق به ألسنتهم، حتى لينهض الخطيب فيأتي بخطبته كلها من هذه الأمثال الجيدة القصيرة، والحكم الموجزة الممتعة، فلكل جملة معانٍ كثيرة تركزت في حبّة، أو بخار منتشر تجمع في قطرة. ولما جاء الإسلام تقدم هذا النوع من الأدب، واقتبسوا كثيراً من حكم الفرس والهند والروم".

وأكثر الوصف الوارد في الشعر الجاهلي، وصف لم يرد لأن الشاعر قصده وأراده، وإنما هو وصف ورد عرضاً في القصيدة على النسق الذي زعموا أن "امرأ القيس" وضعه وحاكاه فيه غيره ممن عاصره أو جاء بعده من الشعراء. فالشاعر يبدأ بتذكر الديار وبالبكاء على الأحبة وعلى من فارقهم، فيدفعه ذلك إلى الوصف، بأبيات يجعلها مقدمة لغرض آخر، فهي إذن مقدمة، وليست غاية، ثم هو إذا افتخر وأراد الاشادة بنفسه وبما قام به من عمل بطولي، لم يصف نفسه وصفاً شاملاً عاماً، وإنما يصف من نفسه بعض ما يعجبه وما يريد التبجح به، من مغامرات عجيبة قام بها، ومن صبر وتحمل للجوع وللمشقات وللأهوال ومن عدم تهيب من اقتحام الصحاري الموحشة المخوفة، وحده، لأنه لا يرهب أحداً، و لا يخشى وحشاً، فإذا جابهه وحش، وصفه وصفاً، لا يتعدى النواحي الخاصة التي يراها تظهر شخصيته وتبرز شجاعته ثم يبالغ ويبالغ في وصف المخاطر والمهالك التي لم يبال بها، للوصول إلى هدفه. وهو إذا اصطاد صيداً، بالغ في الجهد الذي صرفه في صيده، ونوه بجودة حصانه، وبالطريقة التي صاد بها فريسته.

وهو إذا ما أراد مدح انسان، قدم لمدحه مقدمة تزيد على شعر المدح في الغالب، يذكر فيها الأهوال والمخاطر وحرّ الشوق، والتلهف الشديد وما شاكل ذلك من أمور، لتكون شرح حال له يبين مبلغ حبه له واخلاصه لمن سيمدحه، ذي الجود والكرم والسخاء، الذي يجود بماله عنده، و لا يحسب لنفسه ولأهله حساباً، يجود خاصة في السنة الجماد، وفي مواسم القحط والبرد الشديد حيث تموت الماشية والأنعام، ومع ذلك فإن الممدوح، لا يعبأ بكل ذلك، ويسخر من الخوف من العواقب السيئة التي ستحيق به إن بذر ماله. وقد يبالغ الشاعر نفسه في مدح نفسه، ويشيد بسخائه وجوده، ويتخذ من ذلك قصص شجار يقع بينه وبين زوجه في الغالب، يشاركها ولدها فيه، بسبب تبذير الرجل لما عنده من مال، وعدم اهتمامه بما سيحيق بأهله من جوع وفقر.

وهو إذا تغزل، فوصف محبوبته، فإنما يصف منها ما يلفت نظره، من أجزاء في الجسد، أو لون أو ما شاكل ذلك مما يلفت نظره، وقد يقارن بينها وبين بعض الحيوانات التي تعجبه مثل المها والظباء، والخيل والعقبان وقد زعم أهل الأخبار ان "امرأ القيس" كان قد سبق العرب إلى أشياء لبتدعها استحسنتها العرب واتبعه فيها الشعراء، منها انه شبّه النساء بالأمور المذكورة، فصار تشبيه هذا لهن سنّة لمن جاء بعده من قالة الشعر. وقد يصف الليل وشدة طوله وسهره فيه ومبلغ ما ألمّ به من أرق لفراق محبوبته، أو من شدة تذكره لها، وقد يذكر حزنه على فراقها وكيف انه كان يقضي لياليه ساهراً يناجي نجوم السماء، ويعدها، ينتظر ذهاب كابوس ليله عنه حتى يتراءى له نور الصباح، وفيه الأمل والرجاء. ووصفه كله، ليس وصفاً كلياً عاماً محيطاً، وانما وصف جزئي، جاء تعبيراً عن خاطر الشاعر ومحاكاة للطريقة التقليدية التي توارثها الشعراء بعضهم عن بعض.

وقد برز بعض الشعراء في وصف بعض الحيوانات، كما أشرت إلى ذلك في مواضع سابقة، فقد اشتهر "أبو دؤاد" بوصف الخيل، حتى صُيّر بطل الشعراء في هذا الميدان، واشتهر النابغة الجعدي بوصف الفرس، واشتهر أوس ابن حجر بوصف الحمر، وعرف علقمة بن عبدة بوصف النعامة. وقد وصف غيرهم من الشعراء هذه الحيوانات وغيرها، كما نجد ذلك في الأشعار المنسوبة اليهم.

ومن أبرز المواضيع التي تطرق اليها الشعراء في وصفهم لمظاهر الطبيعى: المطر، والنخيل، والسحب، ومشاهد من فصول الشتاء، والغدران ومواضع المياه والسيول والنحل والعسل البري، وبعض الصخور الغريبة، والطيور، أما البحر والسفن، فيردان على لسان الشعراء الساكنين على السواحل، حيث يرون البحر وسفنه. ولكننا لا نجد وصفاً خاصاً بهما، يظهر فيه تأثر الشاعر وإحساسه بالبحر، أو بالسفن، من حيث هي سفينة، وإنما ذكر وهماً عرضاً على سبيل الفخر، ولأمور عرضية أخرى. فالوصف الجاهلي لعناصر الطبيعة خالياً من المشاعر الخاصة، ومن التصورات المعبرة عن إلهام الشاعر الذاتي.

وذكر أن من الشعراء من كان يتأله فيؤ جاهليته ويتعفف في شعره، ولا يستبهر بالفواحش ولا يهتم في الهجاء، ومنهم من كان ينعي على نفسه ويتعهر، ومنهم امرؤ القيس والأعشى، وأن منهم من كان يأتي بالحكم في شعره، مثل:زهير والأفوه الأودي، وعلقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص، وعدي بن رعلاء الغساني وغيرهم. والحكمة عندهم، هي خلاصة تجارب الشاعر في هذه الحياة، وما حصل عليه من رأي استوحاه من الواقع أو من أفواه الناس وتجاربهم. وهي بديهة من البديهات صيغت شعراً. قد يبدع في صياغتها الشاعر فتسير بين الناس مثلاً، كقول "عدي بن رعلاء" الغساني: 3ليس من مات فاستراح بمَيْتٍ=إنما الميّتُ ميّت الأحياء ويظهر من بيت ينسب إلى "زهير"، هو: ما أرانا نقول إلا مُـعـاراً  أومعاداً من لفظنا مكرورا 

إن شعراء الجاهلية كانوا قد وصلوا إلى حالة جعلتهم يقلدون من سبقهم في الشعر ويحاكون طرقهم في النظم، فهم يعيدون ويكررون ما قاله الشعراء قبلهم. وهو كلام يؤيده قول علماء الشعر في القصيدة، من انها كانت تسير على هدى الشعراء السابقين في نظمها من بدءٍ بذكر الديار والبكاء على الأحبة والأطلال إلى غير ذلك من وصف، حتى صارت هذه الجادة، جادة يسير عليها كل شاعر، مما أثّر على البراعة والابتكار وجعل الشعر قوالب معروفة معينة، يختار الشاعر قالباً منها ليعبر به عما يريد أن يقوله نظماً. ومن هنا ثار "أبو نواس"وأضرابه من الشعراء الإسلاميين على "التقليد" في النظم، لتبدل العقلية وتغبير الزمن، وإن كنت أجد فيؤ هذه الثورة مبالغة وإفراطاً في الاتهام. فالقصيدة الجاهلية وإن غلب عليها التقليد والمحاكاة، مما ضيق عليها المعاني، إلا انها لم تكن كلها على نمط واحد على نحو ما يقوله علماء الشعر والأ>ب، كان الشعراء يراعون الوزن والقافية والرويّ، وهي أمور ميزت الشعر العربي عن غيره، ولكنهم كانوا يتحللون فيما عدا ذلك، فيأتون بالمعاني التي تدركها عقولهم، وهي معان استمدت من المحيط، وهو محيط واحد، ألهم الشعراء شعرهم، فمن ثم تقارب الإلهام وقربت المعاني، ولو تعددت طبيعته، لما غلب على شعر أولئك الشعراء ما نأخذه عليهم وقد كان تغير وتنوع معاني الشعر في الإسلام، نتيجة حتمية لتغير المحيط.

المغلبون

ومن الشعراء من كان لا يستطيع الوقوف أمام خصمه، فيغلب، فذكر ان "النابغة" الجعدي، كان مختلف الشغر مغلَّباً. وكانت العرب إذا قالت مغلَّباً فهو مغلوب، واذا قالب غَلَبَ، فهو غالب، وقد غلبت عليه "ليلى الأخيلية" و"أوس بن مغراء" القريعي. وذكروا ان "تميم بن أبي مقبل" وهو شاعر "خنذيذ" مُغَلّب عليه النجاشي، ولم يكن اليه في الشعر، وقد قهره في الهجاء، ثم هاجى النجاشي عبد الرحمان بن حسان فغلبه عبد الرحمان، وكان "ابن مقبل جافياً في الدين. وكان في الإسلام يبكي أهل الجاهلية و يذكرها، فقيل له تبكي أهل الجاهلية وأنت مسلم، فقال: ومالي لا أبكي الديار وأهلـهـا  وقد زارها زوار عكٍ وحميرا

وجاء قطا الأجباب من كل جانب  فوقع في اعطاننـا ثـم طـيرا

ومن المغلبين: الزبرقان، غلبه عمرو بن الأهتم، وغلبه المخبل السعدي، وغلبه الحطيئة، وقد أجاب الإثنين ولم يجب الحطيئة.

والهجاء فن، لا يستطيع كل شاعر أن يبرز فيه، لما يجب أن يكون في الشاعر من ذكاء وسرعة خاطر وقابلية على إسكات الخصوم. ولهذا كان يخشى جانب الهجاء فلا يتعرض له إلا من وهب قابلية على الهجاء. وإلا غلب على أمره، وصار من المغلبين، وهو من أهم أبواب الشعر عند الجاهليين، لما له من أثر في حياتهم، حيث يغض من منزلة المهجو.

وذكر أن الشعراء كانوا يتنازعون بعضهم بعضاً على التقدم في الشعر، فذكر أن "امرأ القيس" نازع "الحارث بن التوأم" اليشكري، فقال: إن كنت شاعراً، فأجز أنصاف ما أقول فأخذا يتسابقان في ذلك. وذكر أن "عبيد بن الأبرص" الأسدي، لقي "امرأ القيس" يوماً، فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد? فقال له: إلق ماشئت، وأخذا يتسابقان. وكان آخر ما أجاب به "امرؤ القيس" هذا البيت: تلك الموازين والرحمان أنزلها  ربّ البرية بين الناس مقياسا

وهو بيت مفضوح، يحدثك عن أصله وفصله، وعن هذه القصة، وقد فات وضاع القصة أن هذا الشعر لا يمكن أن يقع من ةشاعر جاهلي، و لاسيما إذا كان على شاكلة امرئ القيس.

والأبيات الجيدة من الشعر، في نظر نقدة الشعر هي الأبيات التي إذا سمعت صدر البيت فيها، عرفت قافيته.

بدء الشاعر

يبدأ الشاعر بالشعر بعد إحساسه بوجود ميول له إلى الشعر، تدفعه دفعاً على الاقبال عليه، فيبدأ بحفظ الشعر المقال، وبنظمه، ويكون هذا النظم نظماً تجريبياً غير متقن في بادئ أمره، ويقال لهذه المرحلة "الغرزمة". و"الغرزمة" أن يقول الشاعر الشعر قبل أن يستحكم طبعه وتقوى قريحته. فإذا قوي به وتمكن منه صار من الشعراء المجيدين.

وقد كان الشاعر الجاهلي مثل الشاعر الاسلامي، يبدأ لكي يكون شاعراً بحفظ شعر غيره، و لا سيما شعر المشهورين من الشعراء المتقدمين عليه، حتى يرويه رواية، وقد يتصل بشاعر يعجبه من شعراء قبيلته أو من غيرهم، فيلازمه ويأخذ عنه شعره، حتى يصير رواية له، ومتى شعر هذا الراوية الحافظ لشعر غيره، ان عوده قد استوى، وأن له قابلية في النظم، أظهر شعره للناس، وربما بعد أن يكون قد وجد التشجيع ممن اتصل بهم من الشعراء ومن المتذوقة للشعر، العارفين به، ولما كانت الشاعرية موهبة يصقلها المران ومرور الزمن، فإن كثيراً من الشعراء نظموا الشعر وهم صغار، و لا سيما أولئك الذين نشأوا في بيت برز بهى شاعر، أو في بيوت عرفت بنبوغ جماعة من أفرادها بنظم الشعر، فهناك بيوت معرقة توارثت الشعر أباً عن جد. وقد سبق أن ذكرت قول "رؤبة": "الفحولة هم الرواة"، أي ان فحول الشعراء هم الذين كانوا في بادئ أمرهم رواة شعر.

فحفظ الشعر وروايته هو مران كان لا بد منه لتهيئة شاعر فحل. وقد وجدت هذه النظرة عند الفرس كذلك، قال صاحب "جهار مقالة": "و لا يبلغ الشاعر هذه المنزلة إلا أن يحفظ في عنفوان الشباب وريق العمر عشرين ألف بيت من أشعار المتقدمين ويجعل نصب عينه عشرة آلاف كلمة من آثار المتأخرين ويديم القراءة في دواوين الأئمة ويلتقط منها ليعلم كيف تصرفوا في مضايق القول ودقائق الكلام حتى يرتسم في طبعه صور الشعر وطرائقه، ويتجلى له مزايا الشعر ونقائصه، فريتقي قوله ويعلو طبعه. فإذا رسخ طبعه في نظم الشعر، وانقاد له الكلام عمد إلى علم الشعر وقرأ العروض ... وقرأ نقد المعاني والألفاظ والسرقات والتراجم وأنواع هذه العلوم على أستاذ يحذقها ليكون جديراً بالأستاذية". وهذا الرأي الفارسي الاسلامي، يمثل و لا شك رأي قدماء الفرس كذلك.

ولم يكن الشاعر الجاهلي يعرف بالطبع هذه العلوم والقيود التي عرفت وشاعت في الإسلام، بل لم يكن للشاعر العربي الإسلامي ليحفل بالعروض وبعلوم البيان والبديع، لأن الشعر طبع وموهبة، وإذا لم تكن الموهبة موجودة في إنسان، فلن يكون هذا الشخص شاعراً موهوباً مرموقاً مهما حفظ من ةالشعر، وبلغ من علم العروض ومن علوم الصناعة الأخرى التي لها مساس بالشعر. فقد برز شعراء جاهليون قالوا شعراً وهو بعد أحداث، واشتهروا به بين قومهم وهم بعد شباب. وطرفة الشاعر المشهور، كان لا زال شاباً حين قتل، ومع ذلك، نجد ترتيبه بعد امرئ القيس في ترتيب المعلقات، وفي ترتيبه هذا دلالة على تقدير قصيدته، واشتهار أمره بالشعر. وقد نظم "الخليل بن أحمد" شعراً، وهو صاحب العروض، ونظم غيره من فحول هذا العلم، ومن فحول اللغة شعراً، لم يعد من عيون الشعر العربي، ونظم الفقهاء شعراً عرف بين نقاد الشعر، وأهل البصر به ب"شعر الفقهاء" ازدراء به. بل نجد السعراء الإسلاميين يهزأون من قواعد العروض.

ألقاب الشعراء

ويذكر أهل الأخبار ويؤكدون ان أهل الجاهلية لقبوا شعراءهم بألقاب، مثل: المهلهل، والمرقش، وذا القروح، والمثقب، والمنخل، والمتنخل، والأفوه، والنابغة. قيل عن المهلهل، انه انما سمي مهلهلاً لهلهلة شعره، أي رقته وخفته، وقيل لاختلافه، وقيل: بل سمي بذلك لقوله: لما توقل في الكراع شريدهم  هلهلت أثأر جابراً أو صنبلا 

وقيل لأنه كان أول من هلهل الشعر وأرقه وألان ألفاظه.

وذكر ان "المرقش" الأكبر، انما عرف بذلك، بقوله: الدار قفر والرسوم كمـا  رقش في ظهر الأديم قلم 

أو لأنه كان قد عني بتنميق شعره ورقشه.

وروي ان لقب:المثقب" العبدي، انما جاءه من قوله: رددن تحية وكنن أخـرى  وثقبن الوصاوص للعيون 

وعرف المتلمس بهذا الاسم بقوله: فهذا أوان العِرض حيّا ذبابه  زنابيره والأزرق المتلمس

وعرف الممزق بهذا اللقب لقوله: فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل  وإلا فأدركني ولمـا أمـزق

وعرف "النابغة" بالنابغة بقوله: وحلت في بني القين بن جسر  وقد نبغت لنا منهم شـؤون

وذكر أن "منبه بن سعد"، إنما عرف ب"أعصر"، بقوله: أعمير إم أباك غـيّر لـونـه  مرّ الليالي واختلاف الأعصر 

وأن معاوية بن تميم، إنما عرف ب "الشقر" بقوله: قد أحمل الأصم كُـعـوبُـه  به من دماء القوم كالشقرات 

وأن "خالد بن عمرو بن مرة"، إنما قيل له:الشريد"، بقوله: وأنا الشريد لمن يعرفني  حامي الحقيقة ما له مثل 

وأن "صريم بن معشر"التغلبي، إنما عرف ب "أفنون"بقوله: منيّتنا الودّ يا مضنون مضنونا  أزماننا إن للشبان أفنـونـا

وأن معاوية بن مالك، سُمي معود الحكام لقوله: أعودّ مثلها الحكّام بـعـدي  إذا ما الأمر في الأشياع نابا 

وذكر "الجاحظ"، أن "عمرو بن رياح" السلمي أبو خنساء ابنة عمرو، غلب عليه الشريد، لقوله: تولي إخوتي وبقيت فرداً  وحيداً في ديارهم شريدا 

وعرف "خداش بن بشر"، "خداش بن لبيد بن بيبة"، "خداش بن بشر بن خالد بن بيبة"من بني مجاشع بالبعيث، لقوله: تبعث مني ما تبعثَ بـعـدمـا  أمرت حبالي كل مرتها شزارا 

وذكروا ان "الفند"، واسمه "شهل بن شيبان"، انما سمي الفند، لأنه قال يوم "قضة": أما ترضون أن أكون لكم فِنداً. وأن طفيلاً الغنوي، انما عرف بالمحبر، لتحسينه الشعر، وأن علقمة بن عبدة، انما لقب بالفحل، لأنه تزوج امرأة امرئ القيس، بعد أن حكمت له بتفوقه على زوجها في الشعر أو لأنه كان في قومه علقمة آخر عرف ب"علقمة الخصي"، وان "الأعشى" انما عرف بصنّاجة العرب، لكثرة ما تغنت العرب بشعره، وأن عنترة انما لقب بالفلحاء لفلحة كانت به.

وأما الأغربة من الشعراء، فهم عنترة، وخفاف بن ندبة السلمي، وأبو عمير ابن الحباب السلمي، وسليك بن السلكة، وتأبط شرّاً، والشنفري، وكلهم من الشعراء الجاهليين.

إلى آخر ما ذكروه من تعليلات عن أسباب تلقيب الشعراء الجاهليين بألقابهم التي عرفوا بها، تجد بقيتها مدونة في كتب الأدب واللغة والأخبار.

ولعلماء الشعر بعد، آراء في أحسن وأجود ما قيل من شعر في فن واحد من فنون الشعر، فقيل أرثى بيت قيل في الجاهلية، قول أوس بن حجر: أيتها النفس اجملي جزعا  إن الذي تحذرين قد وقعا 

وهذا على رأي الأصمعي، وقدم غيره قول عبدة: فما كان قيسُ هلكه هلك واحد  ولكنه بنيان قـوم تـهـدمّـا

ومنهم من قدم شعر الخنساء.

وقيل قول إن امرئ القيس في الماء، هو أحسن ما قيل فيه. وان وصف "أوس بن حجر" للسحاب، هو أحسن ما قيل فيه، وان أهجى بيت قالته العرب، قول الأعشى: تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم  وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

وأن أمدح بيت قالته العرب قول زهير: تراه إذا ما جئته متـهـلـلاً  كأنك معطيه الذي أنت سائله 

وبيت النابغة: بأنك شمس والملوك كواكـب  إذا طلعت لم يبد منهن كوكب 

ولكنك لو أطلت النظر في كتب الأدب، تراها تختلف في هذا الاختيار وفي اسم الشاعر، وسبب ذلك اختلاف أمزجة العلماء، واختلاف وجهات نظرهم في نقد الشعر.

وللعلماء كلام في أوصف الشعراء للدرع، أو للفرس، أو للنجوم والكواكب، أو للدنيا إلى غير ذلك من أشياء.

وقد عرفت القصائد التي يكون الشاعر فيهاً منصفاً في شعره، بالمنصفات، والمنصفة هي القصيدة التي يكون الشاعر فيها قد أنصف من تحدث عنه، فإذا كان في فخر واستعلاء على قوم، فخر بقومه، وذكر في الوقت نفسه فضائل خصوم قومه، وشجاعتهم واستبسالهم في معاركهم مع قومه. ومن المصنفات قصيدة "العباس بن مرداس" السينية التي قالها في يوم "تثليث"، حيث غزت "سُليم" مراداً، فجمع لهم "عمرو بن معد يكرب"، فالتقوا بتثليث، س فصبر الفريقان، ولم تظفر طائفة منهما بالأخرى، فصنع العباس بن مرداس قصيدته المذكورة.

وزعم علماء الشعر، ان الشعراء الجاهليين كانوا في سرقة الشعر مثل الشعراء الاسلاميين، فقد كان منهم من يسطو على شعر غيره، فيدخله في شعره، وينحله نفسه، أو يضمن شعره من معانيه، ولهم في ذلك بحوث. وذكروا ان من الشعراء الاسلاميين من سطا على شعر الشعراء الجاهليين، أو أخذ منه.

الشهرة بالشعر

يقول الرواة والعلماء بالشعر: من أراد الغريب فعليه بشعر هذيل، ومن أراد النسيب والغزل من شعر العرب الصلب، فعليه بأشعار عُذرة والأنصار، ومن أراد طرف الشعر وما يحتاج إلى مثله عند محاورة الناس وكلامهم فذلك في شعر الفرسان.

وأشعر الفرسان: دريد بن الصمة، وعنترة، وخفاف بن ندبة، والزبرقان ابن بدر، وعروة بن الورد، ونهيكة بن إساف، وقيس بن زهير، وصخر ابن عمرو، والسليك بن سلكة، وأنس بن مدركة، ومالك بن نويرة، ويزيد ابن الصعق، ويعّد من الفرسان الأشراف، ويزيد بن سنان بن أبي حارثة.

التكسب بالشعر

يذكر أهل الأخبار أن العرب كانت لا تتكسب بالشعر، أنفة وتعززاً، وإنما يصنع أحدهم ما يصنع مكافأة عن يد لا تستطيع على أداء حقها إلا بالشكر إعظاماً لها. بقوا على ذلك دهراً، حتى نشأ النابغة الذبياني فمدح الملوك، وقبل الصلة على الشعر، وخضع للنعمان بن المنذر، وقد كان أشرف بني ذبيان، وكان قادراً على الامتناع منه بمن حوله من عشيرته، وله مال يكفيه، فسقطت منزلته، مالاً جزيلاً حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة وأونيهم من عطايا الملوك. وذكر عنه من التكسب باشعر مع النعمان بن المنذر ما فيه قبح من مجاعلة الحاجب ومجاملته والتودد اليه تقرباً وتزلفاً ليوصله إلى النعمان، ومن دس الندماء على ذكره بين يديه، وما أشبه ذلك. هذا، وانما امتدح ملكاً، فكيف بشاعر يمدح من هم دون الملوك والأشراف من السوقة وسواد الناس، طمعاً في صلة وعطاء !   

وتكسب زهير بن أبي سُلمى يسيراً مع "هرم بن سنان"، ونال "أمية ابن الصلت"عطايا "عبد الله بن جدعان" لمدحه اياه، فلما جاء الاعشى جعل الشعر متجاً يتجر به نحو البلاد، وقصد حتى ملك العجم فأثابه، لعلمه بقدر ما يقول عند العرب، وأقتداء بهم فيه، على أن شعره لم يحسن عنده حين فسر له، بل استخف به و استهجنه لكنه حذا حذو ملوك العرب.

ثم إن الحطيئة أكثر من السؤال بالشعر وانحطاط الهمة فيه، حتى مقت وذل أهله، و استصغر شأنه، و عرف بتكسبه بشعره.

وقد عيب "من تكسب بشعره و التمس به صلات الأشراف و القادة، وجوائز الملوك والسادة، في قصائد السماطين". وانما المقبول ما جاء بما لا يزري بقدر ولا المروءة، مثل الفلتة النادرة، والمهمة العظيمة، وعن باب التودد والتلطف والتذكر، فأما من وجود الكفاف و البغلة فلا وجه لسؤاله بالشعر.

ومن هنا زعم أهل الأخبار ان أشراف أهل الجاهلية، كانوا يأنفون من قول الشعر، وكانوا ينهون أولادهم من قوله، فلما خالف "امرؤ القيس"، وهو شريف وابن ملك، أمر والده من وجوب ترك الشعر، واستمر على قوله، طرده بسببه من بيته، وأخرجه من داره، فصار من الضلّيلين، وهو زعم عارضه "ابن رشيق" وردّ عليه بقوله:"وقد غفل أكثر الناس عن اليبب، وذلك انه كان خليعاً، متهتكاً، شبب بنساء ابيه، وبدأ بهذا الشر العظيم، و اشتغل بالخمر والزنا عن الملك والرياسة، فكان اليه من أبيه ما كان، ليس من جهة الشعر، ولكن من جهة الغي والبطالة، فهذه العلة، وقد جازت كثيراً من الناس و مرت عليهم صفحاً". فلم يكن طرد امرئ القيس من بيت أبيه اذن بسبب قوله الشعر، و إصراره عليه تنافي أخلاق الأشراف.

وقد قيل في الشعر إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل، مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل. وإنه أسنى مروءة السري. و قيل ان الشريف كان يتحاشى قول الشعر، ويمنع أولاده من قوله. لأن قول الشعر مثلبة للرجل الشريف. وقد فسر هذا الزعم بعض العلماء بقوله: "ان الشعر لجلالته يرفع من قدر الخامل إذا مدح به، مثل ما يضع من قدر الشريف إذا اتخذه مكسباً، كالذي يؤثر من سقوط النابغة الذبياني بامتداحه النعمان بن المنذر، وتكسبه عنده بالشعر، وقد كان أشراف بني ذبيان، هذا، وإنما امتدح قاهر العرب، وصاحب البؤس والنعيم". مدحه و لم يكن في حاجة اليه، وكان أكله و شربه في صحاف الذهب و الفضة و أوانيه من عطاء الملوك. وبين الشعراء الجاهليين من كان من السادة الأشراف، ولم يجد مع ذلك غضاضة في قوله الشعر، ومن غض من قدره، هو من استجدى بشعره، واتخذ شعره سبباً من أسباب التكسب.

وما يقوله أهل الأخبار عن التكسب بالشعر يمثل و جهة نظرهم حسب، وهو رأي لا أساس له، بسبب ان علمهم بالشعر لا يستند إلى دليل جاهلي مكتوب، وإنما هو من رواية ولدت في الإسلام لاكتها الألسن، و تناولتها الكتب، حتى صارت في حكم الإجماع، يردده الخلف عن السلف إلى هذا اليوم. والشعراء في نظرنا قبل النابغة وبعده بشر، فيهم المترفع وفيهم المستجدي الذليل، الذي لا يبالي أن تمتهن كرامته في سبيل الحصول على المال. وإذا كان في هذا اليوم شعراء يمدحون ويذمون لغاية الكسب والحصول على مغنم، فلم نجعل شعراء ما قبل أيام النابغة الذبياني ملائكة، لا يمدحون إلا الشريف المستحق للمدح، ولا يذمون إلا الحقير الذي يستحق الذم، وما شعراء تلك الأيام، إلا كشعراء أيام، وما بعده، فيهم الشاعر المترفع وفيهم الشاعر المتبذل ن وفيهم من لا يبالي بشعره، يمدح اليوم هذا ن ثم لا يبالي من ذمه بعد حين. و في حقهم جميعاً جاء القرآن )والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون(، و نحن نظلم "النابغة" ان جعلناه أول المتكسبين بالشعر، ونخرج عن المنطق ان ذهبنا هذا المذهب.

وذكر ان ممن رفعه الشعر من القدماء: "الحارث بن حلزة"اليشكري، وكان أبرص، فلما أنشد الملك "عمرو بن هند"قصيدته: آذنتنا ببينهـا اسـمـاء  رُب ثاوٍ يمل منه الثواء 

وبينه وبين سبعة حجب، فما زال يرفعها حجاباً فحاجباً لحسن ما يسمع من شعره حتى لم يبق بينهما حجاب، ثم أدناه وقربه. وأمثاله ممن رفع من قدرهم الشعر كثير.

ورووا إن الملحق كان ممن الشعر بعد الخمول، وذلك ان الأعشى قدم مكة وتسامع الناس به ن وكانت للملحق امرأة عاقلة، وقيل بل أم، وكان الملحق فقيراً خامل الذكر، ذا بنات، فأشارت عليه، ان يكون اسبق الناس اليه في دعوته ال الضيافة، ليمدحهم، ففعل، فلما أكل الأعشى وشرب، و أخذت منه الكأس، عرف منه انه فقير الحال، وانه ذا عيال، فلما ذهب الأعشى إلى عكاظ أنشد قصيدته: أرقت و نما هذا السهاد المؤرق  وما بي من سقم و ما بي معشق 

ثم مدح المحلق، فما اتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنؤونه ن والاسراف من كل قبيلة يتسابقون اليه جرياً يخطبون بناته، لمكان شعر الأعشى.

هذا ما يرويه أهل الاخبار عن اثر الشعر في الناس ز وروي ان الاعشى انشد قصيدته المذكورة "كسرى"، فقال: "إن كان سهر من غير سقمٍ و لا عشق فهو لص".

"قال أبو عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يُقيد عليهم مآثرهم و يفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم و يخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، اتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى اعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر" "ولقد وضع قول الشعر من قدر النابغة الذبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده ذلك إلا رفعة البيان".

ويذكر الرواة ان القبيلة كانت إذا نبغ فيها شاعر احتفلت به، وفرحت بنبوغه، واتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن. بالمزاهر، وتباشروا به لأنه حماية لهم، ولسانهم الذاب عنهم المدافع عن أعراضهم واحسابهم و شرفهم بين الناس. وكانوا لا يهنأون إلا بغلام يولد أو فرس تُنتج أو شاعر ينبغ فيهم. فالشاعر هو صحيفة القبيلة و "محطة إذاعتها"، وصوته يحط ويرفع و يخلد لا سيما إذا كان مؤثراً، فيرويه الناس جيلاً بعد جيل.

وكان اثره في الناس أثر السيف في الحروب، بل استخدمه المحاربون أول سلاح في المعارك. فيبدأ الفارس بالرجز، ثم يعمد إلى السيف أو الرمح أو الآت القتال الاخرى. و لأثره هذا، ورد الحديث عن الرسول قوله: "والذي نفسي بيده، لكأنما تنضحونهم بالنيل بما تقولون لهم من الشعر" مخاطباً بذلك شعراء المسلمين، الذين حاربوا الوثنيين بهذا السلاح الفتاك ن سلاح الشعر. وقد كان الوثنيون قد اشهروه أيضاً وحاربوا به المسلمين.

وطالما قام الشعراء بدور السفارة والوساطة في النزاع الذي كان يقع بين الملوك وبين القبائل، أو بين القبائل والقبائل، فلما أسر "الحارث بن أبي شمر"الغساني" شأس بن عبدة"في تسعين رجلاً من "بني تميم"، وبلغ ذلك اخاه "علقمة بن عبدة"، قصد "الحارث"، فمدحه بقصيدته: طحا بك قلبُ بالحسان طروب  بعيد الشباب عصر حان مشيب 

فلما بلغ طلبه بالعفو عن اخيه وعن بقية المأسورين، قال الحرث: نعم واذنبة، واطلق له شأسا اخاه، وجماعة اسرى بني تميم، ومن سأل فيه أو عرفه من غيرهم.

ولم يقل اثر الشاعر في السلم وفي الحرب عن اثر الفارس، الشاعر يدافع عن قومه بلسانه، يهاجم خصومهم ويهجو سادتهم، ويحث المحربين على الاستماته في القتال، ويبعث فيهم الشهامة والنخوة للاقدام على الموت حتى النصر، والفارس يدافع عن قومه بسيفه، وكلاهما ذاب عنهم محارب في النتيجة. بل قد يقدم الشاعر على الفارس، لما يتركه الشعر من اثر دائم في نفوس العرب، يبقى محفوظا في الذاكرة وفي اللسان، ويريه الخلف عن السلف، بينما يذهب اثر السيف، بذهاب فعله في المعركة ن فلا يتركه شعر المديح أو الهجاء من اشر في النفوس، يهجيها حين يذكر، وكان من اثره ان القبائل كانت إذا تحاربت جاءت بشعرائها، لتستعين بهم في القتال. فلنا كان يوم "احد" قال "صفوان ابن امية" لأبي عزة عمرو بن عبد الله الجمحي: "يا ابا عزة انك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك، فاخرج معنا. فقال: ان محمدا قد من علي فلا اريد ان اظاهر عليه. قال: فاعنا بنفسك فلك الله علي ان رجعت ان اغنيك، وان اصبت ان اجعل بناتك مع بناتي ما اصبهن من عسر ويسر، فخرج ابو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة" شعرا إلى السير مع قريش لمحاربة المسلمين.

وكان للرسول شاعره "حسان بن ثابت" يدافع عن الإسلام والمسلمين، وكان المشركين من أهل مكة شاعرهم "عبد الله بن الزبعري" يرد عليه ويهاجم المسلمين في السلم وفي المعارك، وقد دونت كتب السير والاخبار والتواريخ اشعارهم زما قاله احدهم في الآخر، وقد فات منه شيء كثير، نص رواة الشعر على انهم تركوه لما كان فيه من سوء ادب وخروج على المروءة. وكان إلى جانب الشاعرين شعراء اخرون، منهم من ناصر المسلمين لأنه كان منهم، ومنهم من ناصر المشركين لأنه كان منهم. بل كان المحاربين إذا حاربوا، فلا بد وان يبدأوا حربهم بتنشيطها وبتصعيد نارها برجز أو بقريض.

ومن خوفهم من لسان الشاعر، ما روي من فزع "ابو سفيان"، لما سمع من عزم "الاعشى" على الذهاب إلى يثرب ومن اعداد=ه شهرا في مدح الرسول، ومن رغبته في الدخول في الإسلام. فجمع قومه عندئذ، وتكلم فيما سيتركه شعر هذا الشاعر من اثر في الإسلام وفي قريش خاصة ان هو اسلم، ولهذا نصحهم ان يتعاونوا معه في شراء لسانه وفي منعه من الدخول في الإسلام بإعطائه مائة ناقة فوافقوا على رأيه وجمعوا على رايه وجمعوا له ما طلبه، وتمكن ابو سفيان من التاثير عليه، فعاد إلى بلده "منفوحة" ومات بها دون ان يسلم.

قال "الجاحظ": "ويبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السب عليهم، وتخوفهم ان يبقى ذكر ذلك في الاعقاب، ويسب به الاحياء والاموات، انهم إذا اسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدوا لسانه بنسعة ، كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص الحارثي حين اسرته بنو تيم يوم الكلاب. و "عبد يغوث ابن وقاص" شاعر قحطاني، وكان شاعرا من شعراء الجاهلية، فارسا سيد قومه من "بني الحارث بن كعب"، وهو الذي قادهم يوم كلاب الثاني فأسرته بنو تيم وقتلته. وهو من أهل بيت شعر معروف في الجاهلية والاسلام، منهم "اللجلاج" الحارثي، وهو طفيل بن زيد بن عبد يغوث، وأخوه "مسهر" فارس شاعر، ومنهم من أدرك الإسلام، : "جعفر بن علية بن ربيعة بن الحارث ابن عبد يغوث"، وكان شاعراً صعلوكاً.

ولما مدح "الحطيئة" "بغيض بن عامر بن لاي بن شماس بن لاي بن انف الناقة"، واسمه "جعفر بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم"، وهجا "الزبرقان"، واسمه "الحصين بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن عوف بن كعب"، صاروا يفخرون ويتباهون بأن يقال لهم "انف الناقة"، وكانوا يعيرون به ويغضبون منه، ويفرقون من هذا الاسم، حتى ان الرجل منهم كان يسأل ممن هو فيقول من "بني قريع" فيتجاوز جعفراً أنف الناقة، ويلغي ذكره فراراً من هذا اللقب، إلى ان قال "الحطيئة" هذا الشعر فصصاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدون به اصواتهم في جهارة، إذ قال: قوم هم الانف والاذناب غيرهم  ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا

وقد تعزز الاعشى على قومه، وبين مكان فضله عليهم، إذ كان لسانهم الذاب عنهم المدافع عن اعراضهم، الهاجي لأعدائهم بشعر هو كالمقرض يقرض أعداء قومه قرضاً.

وادفع عن اعراضكم وأعيركم  لساناً كمقراض الخفاجي ملحبا 

وذكر ان بني تغلب كانوا يعظمون معلقة "عمرو بن كلثوم" ويرونها صغاراً وكباراً، حتى هجاهم شاعر من شعراء خصومهم ومنافسيهم:بكر بن وائل، إذا قال: ألهي بني تغلب عن كل مكرمة  قصيدة قالها عمرو بن كلثـوم

يرونها أبداً مذ كـان اولـهـم  يا للرجال لشعر غير مسـئوم

ولسلاطة ألسنة بعض الشعراء، ولعدم تورع بعضهم من شتم الناس ومن هتك الاعراض، ومن التكلم عنهم بالباطل، تجنب الناس قدر امكانهم الاحتكاك بهم، وملاحاتهم والتحرش في أمورهم، خوفاً من كلمة فاحشة قد تصدر منهم، تجرح الشخص الشريف فتدميه، و "جرح اللسان كجرح اليد"، كما عبر عن ذلك "امرؤ القيس" أحسن تعبير. والامر ما قال طرفة: {ايت القوافي تتلجن موالجـاً  تضايق عنها أن تولجها الابر 

وفي هذا المعنى دون "الجاحظ" هذه الابيات: وولشعراء ألسـنة حـداد  على العورات موفية دليله 

ومن عقل الكريم إذا اتقاهم  وداراهم مدارة جـمـيلة

إذا وضعوا مكاويهم علـيه  وإن كذبوا فليس لهن حيله

و "كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه عالماً بالشعر، قليل التعرض لأهله:استعداه رهط من تميم بن أبي مقبل على النجاشي لما هجاهم، فأسلم النظر في أمرهم إلى حسان بن ثابت، فراراً من التعرض لأحدهما، فلما حكم حسان أنفذ عمر حكمه في النجاشي كالمقلد من جهة الصناعة، ولم يكن حسان-على علمه بالشعر- أبصر من عمر رضي الله عنه بوجه الحكم، وان اعتل فيه ما اعتل".

"وكذلك صنع في هجاء الحطيئة الزبرقان بن بدر: سأل حسان، ثم قضى على الحطيئة بالسجن"، وقد كان عمر قد كره ان يتعرض للشعراء، فاستشهد حساناً، فلما بيّن حسان رأيه في الشعر، انفذ حكمه، فتخلص "عمر" بعرضه سليماً.

و"تميم بن مقبل بن عوف بن حنيف" العجلاني، من الشعراء الذين أدركوا الإسلام فأسلم، وكان يهاجي "النجاشي"، فهجاه "النجاشي" يوماً، فاستعدى "تميم" "عمر"عليه. فلما قرأ "النجاشي" على "عمر" ما قاله في "تميم" أمر بضربه وحبسه. وكان يبكي أهل الجاهلية.

"وسئل أبو عبيدة: أي الرجلين أشعر: أبو نُواس، أم ابن أبي عيينة ? فقال: أنا لا أحكم بين الشعراء الأحياء، فقيل له: سبحان الله كأن هذا ما تبين لك ! فقال: أنا ممن لم يتبين له هذا ?! "وذلك خوفاً ولاشك من لسان الشاعر الحي. "ولسير الشعر على الأفواه هذا المسير تجنب الأشرافُ ممازحة الشاعر خوف لفظة تسمع منه مزحاً فتعود جداً " وكانوا يهابون الشاعر الهجّاء البذيء اللسان المتمكن من شعر الهجاء، أكثر من غيره من بقية الشعراء، لما كان يتركه هجاؤه من أثر فيهم، حتى الشعراء البارزون كانوا يتقون شر الشاعر الهجاء ويبتعدون عنهم. فلما هجا "عبد الله بن الزبعري"، بني قصيّ، خاف قومه من هجاء "الزبير بن عبد المطلب"، فرفعوه برمته إلى "عتبة بن ربيعة"، فلما وصل اليهم أطلقه "حمزة بن عبد المطلب" وكساه، وكان "الزبير" غائباً بالطائف، فلما وصل مكة وبلغه الخبر هجا قوم "ابن الزبعري" هجاء مراً، بقوله: فلولا نحن لم يلبس رجـال  ثيابَ أعزة حتى يمـوتـوا

ثيابهم سِمـالُ أو طـمـارُ  بها دسم كما دسم الحَمـيت

ولكنّا خلقنا إذ خـلـقـنـا  لنا الحبرات والمسك الفتيت 

وكان عبد الله بن الزبعري قد قال حين أطلقه حمزة: لعمرك ما جاءت بنكر عشيرتي  وإن صالحت إخوانها لا ألومها

فودّ جناة الشرّ أن سـيوفـنـا  بأيماننا مسلولة لا نشـيمـهـا

فإن قصيّاً أهل عـزّ ونـجـدة  وأهل فعالٍ لا يرام قديمـهـا

هُمُ منعوا يومي عُكاظ نساءنـا  كما منع الشول الهجان قرومها 

ونظراً لأثر شعر الهجاء في الناس، من أفراد وقبائل، صاروا يصطنعون الشعراء ويحسنون جهدهم اليهم خشية ألسنتهم، يفعلون ذلك بشعرائهم وبشعراء القبائل الأخرى ممن يخشون سلاطة ألسنتهم. يفعلون ذلك حتى إذا كان الشاعر قد أساء اليهم، على أمل التكفير عن ذنبه، بمدحهم بشعر ينفي أثر ما قاله فيهم من هجاء. حتى انهم كانوا يعفون عن شاعر قد يقع أسيراً في أيديهم، إذا أعطاهم العهود والمواثيق ألا يعود إلى هجوهم، وألا يقول شعراً في ذمهم. وقد يغدقون عليه بالهدايا والألطاف تأليفاً للسانه، وأملاً في مدحه لهم، والقاعدة عندهم ان أثر الهجاء يمحوه المدح.

وبين الشعر الجاهلي والشعر الاسلامي فروق واضحة في الأسلوب وفي الاتجاه وفي الجزالة واختيار الكلمات، اقتضتها طبيعة اختلاف الزمان وتغير الحال واتصال العرب بغيرهم، وخلود أكثرهم إلى الحضارة، إلى غير ذلك من أسباب.

ومما امتاز فيه الشعر الجاهلي عن الشعر الاسلامي، هو أن شعراءه كانوا من العرب، إلا بضعة شعراء، كانوا من أصل خليط، مثل الأغربة، الذين كانت أمهاتهم من أصل افريقي. و لا أعلم اسم شاعر جاهلي، يرجع أصله إلى فارس أو الروم، إلا ما ذكره "ابن الكلبي" من أمر "خرخسرة". أما في الإسلام فقد زاحم الفرس بصورة خاصة العرب على تراثهم التليد، وهو الشعر، برزّ منهم فيه فحول، طوروا الشعر ولوّنوه، وأضافوا اليه معاني جديدة، اقتضتها طبيعة الامتزاج بين العقليتين والتطور الجديد الذي ظهر في المجتمع الجديد، مجتمع العرب والموالي.

ولعلماء الشعر آراء في الشعر الجاهلي وفي شعراء الجاهلية، وفي شعرهم وفي الاستشهاد بالشعر الجاهلي. ولهم آراء في ذلك دوّنوها في كتبهم. من ذلك أن العرب كانت لا تروي شعر شاعر، أو لا تعجب به إذا كانت ألفاظه ليست نجدية. ذكروا أن "العرب لا تروي شعر أبي دواد وعدي بن زيد. وذلك لأن ألفاظهما ليست بنجدية". وذكروا عن شعر "عدي بن زيد العبادي"، أن "العرب لا تروي شعره، لأن ألفاظه ليست بنجدية. وكان نصرانياً من عباد الحيرة قد قرأ الكتب". وقالوا عنه أيضاً "وكان يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شيء كثير جداً، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة".

وجزالة الألفاظ وشدة وقعها على الأسماع وغرابتها، هي من أهم المعايير التي اتخذها علماء الشعر في تقدير قيم الشعر الجاهلي، والقصيدة الجيدة الحسنة هي القصيدة الجزلة الفخمة الألفاظ التي لا تتسم بالسهولة والليونة، والتي لا تفهم إلا بالرجوع إلى الشروح والتعليقات والايماءات والإشارات. ومن هنا فوّقوا شعر الأعراب على شعر الحضر، لوجود لين في شعر أهل المدر، ولسهولته، ومن هنا قالوا: إن في شعر قريش ليناً وسهولة، وفي شعر أهل الحيرة وأهل القرى مثل ذلك.

وقد تعرض "ابن رشيق" لموضوع الشعر الجاهلي القديم والشعر الإسلامي المحدث، فقال: "إنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رَجُلين ابتدأا هذا بنا فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزيّنه فالكلفة ظاهرة على هذا وان حسن، والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن".

الخمر والشعر

وقد كان الشعراء يقبلون على شرب الخمر، إقبال أكثر الجاهليين على شربها لتنسيهم همومهم وفقرهم، حتى أن منهم من كان يبيع ما عنده ليشتري الخمر. وقد كان الشعراء يشربون ليستوحوا الوحي من الشرب، حتى ان الأعشى لما قدم ليسلم، فقيل له ان الإسلام يحرم الخمر، توقف، ولم يسلم، إذ شق عليه هذا التحريم، ولم يتمكن بعضهم من تركها، فحدّوا على شربها. وقد هرب "ربيعة بن أمية بن خلف" الجمحي، من بلاد الإسلام ولحق بالروم، لأن عمر جلده الدّ في الخمر، وكان من آنف العرب وأسخاهم، فحلف أن لا يقيم بأرض حد فيها و لا يدين من حده، فحمله الأنف إلى أن يأتي الروم فمات بها نصرانياً. ويروى انه قال: لحقت بأرض الروم غير مـفـكـر  بترك صلاة من عشاء و لاظـهـر

فلا تتركوني مـن صـبـوح مـدامةٍ  فما حرم الله السلاف من الـخـمـر

إذا أمـرت تـيم بـن مـرة فـيكـم  فلا خير في أرض الحجاز ولا مصر 

فإن يك اسلامي هو الحق والـهـدى  فإني قـد خـلّـيتـه لأبـي بـكـر

ويذكر "المعري" انه قد جرى له مع "أبي بكر" خطب، فلحق بالروم. د

شيطان الشاعر

ولابد لي هنا من أشير إلى ما كان يعتقده الجاهليون من أن الشعراء كانوا يستلهمون وحيهم بالشعر من "شيطان"، كنّوا عنه ب"شيطان الشاعر". فقالوا: "لكل شاعر شيطان". وهم يعبرون بذلك عن الحس الذي يصيب كل انسان حساس شاعر عندما يهز مشاعره وإحساسه شيء ما يؤثر عليه فيستولي على عقله وشعوره ويستهويه، ولا يتركه يستقر ويهجع حتى يعبر عن شعوره هذا الذي سيطر عليه وملكه، بشعر يأتيه وكأنه وحي ينزل عليه تنزيلاً، وعندئذ فقط يستقر ويهجع، بعد أن يكون قد نسب هذا الشعور المرهف الذي ألمّ به إلى وحي "شياطين الشعر".

وكان الكهناء، يقولون في الجاهلية:إن الشياطين كانت تأتيهم، فهم مثل الشعراء يعتقدون بأن وحياً يوحى اليهم بما يقولونه للناس، يتجلى لهم على صورة "رئي"، الرئي يقول سجعاً، والشيطان ينظم شعراً.

وقد بلغ من اعتقاد بعضهم بوجود "شياطين الشاعر" أن رووا قصصاً تذكر كيف أن "شياطين الشعر" كانوا يعلمون الشعراء قول الشعر حين ينحبس الشعر عنهم وحين تقف قريحتهم حتى ليصعب على الشاعر أن ينظم بيتاً واحداً، حتى إذا حار في أمره، استجار بشيطانه وتوسل اليه لإنقاذه من محنته، فيرق شيطانه عليه، ويلقي عليه الشعر إلقاء فيأتي على لسان الشاعر وكأنه سيل متدفق. ولاعتقاد الشعراء هذا بوجود قرين لهم من الشياطين، أو من الجن، سموا شياطينهم بأسماء، فكان اسم شيطان الأعشى "مسحلاً"، وقيل تابعه وجنيّه الذي كان يوحي اليه بالشعر. كما أشار هو اليه في شعره:   

دعوت خليلي مسحلاً، ودعوا له  جهنام، جدعاً للهجين المذمّـم

وللأعشى أشعار أخرى ذكر فيها فضل شيطانه عليه في قول الشعر. من ذلك قوله: وما كنت ذا قولٍ ولكن حسبتنـي  إذا مسحل يبري لي القول أنطق 

خليلان فيما بيننـا مـن مـودةٍ  شريكان جنيّ وإنـس مـوفـق

وجنيّه هو الذي حباه بموهبة الشعر، وبفيض الخواطر، ينظمه كلاماً محبوكاً، فهو يشكره ويفديه بنفسه: حباني أخي الجنيّ نفسي فداؤه  بأفيح جيّاش العشيّات مرجـم

واسم هاجس الأعشى وشيطانه "مسحل بن أوثاثة"، وكان هو الذي يلقي الشعر على لسان الأعشى. وقد رآه "الأعشى"ودخل خباءه وهو من شَعر، وكان الأعشى في أول أرض اليمن يريد الذهاب إلى "قيس بن معدي كرب "بحضرموت. فضل طريقه، فأبصر هذا الخباء، فذهب اليه، وسأله الشيخ أن ينشده شعراً، فكان إذا تلا عليه مطلع القصيدة أوقفه، واستدعى جارية من جواريه لتتلو عليه بقية القصيدة، حتى سقط في يدي الأعشى وتحير، وأغشته رعدة، فلما رأى الشيخ ما حل به، قال: "ليفرج روعك أبا بصير، انا هاجسك مسحل بن أوثاثة الذي ألقى على لسانك الشعر". ثم ودعه وأرشده الطريق.

وكان للأعشى شيطان، اسمه "جهنّام"، وهو تابعة، أي شيطانة أنثى. وكان لقب "عمرو بن قطن" من "بني سعد بن قيس بن ثعلبة"، وكان يهاجي الأعشى، وقال فيه الأعشى: دعوت خليلي مسحلاً ودعوا له  جهنام جدعاً للهجين المذلـل

وقيل إن "جهنام" كان شيطان الأعشى الأول، ثم أتخذ الأعشى مسحلاً بعده.

وزعم ان "امرئ القيس" كانت له قصائد ومطارحات مع "عمرو الجني" وان اسم شيطان "امرئ القيس" هو "لافظ بن لاحظ". وان اسم شيطان "عبيد بن الأبرص" هو "هبيد"، وهو اسم شيطان "بشير بن أبي خازم ?" "بشر بن أبي خازم"كذلك. وان اسم شيطان "النابغة" الذبياني، هو "هاذر بن ماهر". وان اسم شيطان "المخبل" السعدي، هو "عمرو".

وقد بقي هذا الاعتقاد في شياطين الشعراء إلى الإسلام، فكان الشيطان الذي يلقي الشعر إلى "جرير"، هو "ابليس الأباليس"، وكان اسم شيطان الفرزدق "عمرو"، واسم شيطان بشار بن برد "شنقناق". وكان جني "حسان" وصاحبه الذي يوحي اليه الشعر من "بني شيصبان"، "وكانت الشعراء تزعم أن الشياطين تلقي على أفواهها الشعر، وتلقّنها إياه، وتعينها عليه، وتدعي أن لكل فحل منهم شيطاناً يقول الشعر على لسانه، فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود"، وورد أن "الفرزدق" كان يرى أن للشعر شيطانين، يدعى أحدهما "الهوبر" والآخر "الهوجل"، فمن انفرد به "الهوبر" جادّ شعره وصح كلامه، ومن أنفرد به "الهوجل" فسد شعره.

وقد زعم "أبو النجم" أن شيطانه الذي يوحيّ اليه الشعر شيطان ذكر، أما شياطين بقية الشعراء فأناث: إني وكلّ شاعر من البشـر  شيطانه أنثى وشيطاني ذكر 

فما يراني شاعر إلا استَتـر  فعِلَ نجوم الليل عاين القمر 

وقال آخر: إنّي وإن كنتُ صغير السـنّ  وكان في العين نبّو عـنـي

فإن شيطاني أمـيرُ الـجـنّ  يذهبُ بي في الشعر كلّ فن 

وروي ان السعلاة لقيت "حسان بن ثابت" في بعض طرقات المدينة، وهو غلام قبل أن يقول الشعر، فبركت على صدره، وقالت أنت الذي يرجو قومك أن تكون شاعرهم ? قال: نعم. قالت: فأنشدني ثلاثة أبيات على روي واحد وإلا قتلتك، فقال: إذا ما ترعرع فينـا الـغـلام  فما أن يقال لـه مـن هـوه

إذا لم يسد قـبـل شـد الازار  فذلك فـينـا الـذي لاهـوه

ولي صاحب من بني الشيصبان  فحيناً أقـول وحـينـاً هـوه

فخلت سبيله. فهذه الأبيات هي على زعم أهل الأخبار أول شعر حسان. قالها بوحي من شيطانه: "الشيصبان".

وليس هذا الشيطان الذي تصوره الجاهليون، يلهم الشعراء وحيهم ويلقي اليهم الشعر إلقاء بقذفه في قلوبهم، ليخرج على السنتهم، هو من وحي الجاهليين ومن تخيلاتهم وتخرصاتهم وحدهم، بل هو شيء معروف عند غيرهم أيضاً. فقد تصور اليونان أن للشعر آلهة تقذف الشعر في نفوس الشعراء، فينطلق على ألسنتهم. والرئي الذي يوحي إلى "الكاهن" علمه بالكهانة، هو ضرب من هذه الشياطين التي تخيلوها للشعراء، فبفضل "الرئي" يقول الكاهن سجعه لمن يطلب منه أن يتكهن عن أمر سأله عنه، وهو يجيب السائل بما يلقيه رئيه عليه. يلقيه سجعاً، أما شيطان الشاعر، فيلقيه على شاعره شعراً، ومن هنا وقع الفرق بين قول الشاعر وبين قول الكاهن.

وكانوا يسمون الشعراء "كلاب الحي"، وهم الذين ينبحون دونهم، ويحمون أعراضهم. وفي ذلك يقول عمرو بن كلثوم: وقد هرّت كلاب الحيّ منّا  وشذبنا قتادة من يلـينـا

وأما "كلاب الجن"، فشعراؤهم، وهم الذين ينبحون دونهم ويحمون أعراضهم.

الفصل السابع والاربعون بعد المئة
حد الشعر

عرّف علماء العربية الشعر بقولهم: "الشعر: منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعراً من حيث غلب الفقه على علم الشعر". وعرّف "الأزهري" الشعر بقوله: "الشعر القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها، والجمع أشعار، وقائله شاعر، لأنه يشعر ما لا يشعر غيره، أي يعلم". وعرّفه "ابن خلدون" بقوله: "الشعر هو الكلام المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على اساليب العربية المخصوصة به". فهو يجعل التقفية والوزن من شروط الشعر، ويشترط أيضاً استقلال كل بيت منها بغرضه.

وعرف بأنه الكلام المقفى الموزون قصداً، والتقييد بالقصد مخرج ما وقع موزوناً إتفاقاً، فلا يسمى شعراً. وقد قصد بهذا التعريف الإسلامي، إخراج من قال الشعر إتفاقاً لا عن قصد واحتراف. بل عفواً وسجيّة. ولما جاء في القرآن الكريم، من رمي المشركين للرسول بأنه شاعر بقول الشعر، فنزل الوحي ينفي ذلك عنه. وحدد العلماء صفة الشاعر بأنه الذي يحترف الشعر ويقوله قصداً، حتى لا تنطبق هذه الصفة على من يقول سطراً بوزن اتفاقاً من غير قصد.

وقد عرفه بعضهم بقوله: "الشعر كلام موزون مقفى، دال على معنى، ويكون أكثر من بيت". وهو تعريف وضعه علماء الشعر في الإسلام، وهو لا ينطبق بالطبع على وصف الشعر عند الأعاجم من الآريين والساميين، لأن للشعر عند هذه الأمم مفاهيم أخرى، تختلف بأختلاف وجهة نظرها إلى الشعر. فقد يكون الشعر سجعاً عند الأمم الأخرى، وتعّد الأمثال عند بعض الشعوب في جملة أبواب الشعر، كما أنه لا يمكن أن ينطبق على الشعر الجاهلي القديم، إذ ليس في استطاعة أحد حق التحدث عن الشعر الجاهلي المتقدم على شعر أقدم من وصل اسمه إلينا من الشعراء الجاهليين، لعدم وجود نصوص مدوّنة أو مروية عن ذلك الشعر، وما دمنا لا نملك نصوصاً منه، فلا حق لنا اذن في التحدث عنه.

وعندي ان الشعر الجاهلي المروي والمدون في المؤلفات الإسلامية ببحوره المعروفة انما يمثل المرحلة الأخيرة من مراحل تطور هذا الشعر، أي مرحلة الكلام الموزون المقفى الدال على معنى، ولكننا لا نستطيع كما قلت سابقاً الزعم بأن الشعر الجاهلي الأقدم كان على نفس هذه البحور، أي انه كان متمسكاً بالوزن والقافية إذ من الجائز أن يكون قد كان على شاكلة الشعر القديم الذي نظمه الشعراء الساميون، من عدم تقيد بالقافية وبوزن الأبيات، كما نجد ذلك في العبرانية وفي اللغات السامية الأخرى وانما كانوا يراعون فيه النغم، بحيث يتغنى به، أو التأثير في العواطف، بمراعاة نسق الكلام المبني على البلاغة. ولهذا عدّ السجع نوعاً من أنواع الشعر، لأن في السجع من الوصف والعاطفة والحس ومعالجة الموضوع، ما يجعله شعراً، وفي بعضه نغم يجعله صالحاً لأن يتغنى به، وبين الغناء والشعر صلة ونسب. وقد جعل بعض العلماء الشعر وليداً من أولاد الغناء، لأن الشعوب القديمة كالبابليين، والمصريين، واليونان، والعبرانيين، كانت تقرن شعرها بالموسيقى، وعرف هذا الشعر بالإنشاد، وقد كان الإنشاد في المعابد، نوعاً من التراتيل الموجهة إلى الآلهة، كما كان يستخدم في الحروب. ولهذا رأى العلماء ان الموسيقى، أولدت الإنشاد، والإنشاد هو والد الشعر.

والشعر معروف عند كل شعوب العالم، معروف موجود حتى عند الشعوب البدائية، لأنه نوع من أنواع التعبير عن الحس. والإنسان مهما كانت ثقافته ومنزلته لابد له من التعبير عن إحساساته بمختلف الصور، وبشتى الوسائل، من كلام أو تدوين أو نقش أو صراخ أو غناء أو رمز، إلى غير ذلك من الأنواع، وفي جملتها الشعر. فهو لا يخص إذن شعباً معيناً، ولا جنساً خاصاً، إنما هو تعبير إنساني، يؤديه كل انسان، متى كانت عنده المواهب ووجد عنده الحس المرهف الذي يدفعه إلى اليف الشعر دفعاً، يؤديه على نحو ما يتأثر به إحساسه وذوقه، في أسلوب يختلف عن الكلام المعتاد المألوف، ولكنه ليس على نمط واحد عند جميع البشر، فقد يكون الشعر شعراً عند أمة، وهو ليس شعراً عند أمم أخرى، والمصطلح العربي الذي ذكرته للشعر، يختلف عن المصطلح المفهوم للشعر عند اليونان مثلاً أو عند الرومان أو عند البابليين، كما أن أبوابه وأنواعه قد تختلف بين أمة وأخرى.

فقد كان العبرانيون يحبون الشعر، حب العرب له، ويقولون له:"ه-ش"، أي الشعر وكانوا ينظمون أشعاراً رتلوها في مختلف المناسبات، في الأفراح وفي الأتراح في المدح وفي الهجاء، وفي الغزل وفي الوصف، وفي تمجيد الرب، وكانوا يستعينون بالشعر في القتال، ينشدونه في قتالهم ويجعلونه عوناً لهم في شحذ الهمم وفي تقوية العزائم للنصر، كما نرى ذلك في أسفار التوراة. ونجد ثلث التوراة شعراً، لا سيما في أسفار أيوب والمزامير والأمثال والجامعة ونشيد الانشاد. وفي مواضع من "التكوين" وكتب الأنبياء. ولكن شعرهم ليس وزناً وقافية، على نمط الشعر العربي، بل هو شعر من طراز آخر. هو شعر بالنسبة للعبرانيين، وهو ليس بشعر بالنسبة لمصطلحنا المحدد للشعر.

وقد بدأ الشعر بداية متحررة، فلم يكن الإنسان في بادئ أمره بالشعر يتقيد بالوزن والقافية، وإنما كان يميز بينه وبين النثر بالنغم الذي يجعله فيه، وبالنبرات التي يخرجها مخارج الغناء، ولهذا نجد المقطوعات الشعرية القديمة التي وصلت الينا مدوّنة في كتابات مختلف الشعوب لا تشبه الشعر المعروف، إذ فيه تحرر، وفيه اعتماد على الترنم والإنشاد وعلى فن الإلقاء، أما الاعتبارات الفنية المعروفة، فهي من عمل الشعراء المتأخرين الذين أحلّوا الوزن محل الإلقاء، ووضعوا قواعد فنية في نظم الشعر. فلم تكن الأبيات الشعرية في الشعر القديم متساوية، ولم تكن هناك قوافي بالضرورة، حتى أنك لا تستطيع تمييز القطعة الشعرية عن غيرها، إلا بالإنشاد.

والشعر من أقدم الأحاسيس التي عبر بها الإنسان عن نفسه، فهو يعبر عن عواطفه وعن أحاسيسه، من سرور أو حزن، أو ألم، وعن اهتمامه بالأمور وعن تصوراته، وعن كل ما يدور في رأسه من أمور تسترعي حسه، فيشعر عندئذ بالترفيه عنه بإخراجه كلاماً فيه نغم "Rhythm"، أي إيقاع ووزن، وفيه توازن ونظام بين أجزائه، على غرار ما يفعله الراقص في رقصه، من اقران رقصه بحركات موزونة. وهو من العواطف المولودة في الإنسان. ولهذا تعدّ العواطف التي عبر بها الإنسان عن نفسه شعراً، وإن خرجت بغير بحور، وبدون وزن و لا قافية. ففي كلام "سارة": "وقالت سارة قد أنشأ الله لي فرحاً فكل من سمع يفرح لي، وقالت من كان يقول لإبراهيم إن سارة ستُرضع ابناً. فقد ولدت ابناً في شيخوخته"، وفي الآيات: "ثم أخذت مريم النبية أخت هارون الدفَّ في يدها وخرجت النساء كلهن وراءها بدفوف ورقص. فجاوبتهن مريم: سبّحوا الرب، لأنه قد تعظم بالمجد. الفرس وراكبه طرحهما في البحر"، وفي مباركة يعقوب أبنائه عند شعوره بدنو أجله، وفي كلام موسى حين قهر "فرعون"، معان شعرية، وتعد من أقدم أنواع الشعر السامي التصويري.

وذلك لأن الشعر السامي القديم، لم يكن يتقيد بالقافية "Rhyme"، ولا بالتفعيلات " "Feets أو بالمقاطع القصيرة "Short Syllables"، وإن حاول و لاسيما فيما بعد، أن يضع في كل شطر أو بيت عدداً من الكلمات أو المقاطع، يعادل ما يضعه في الشطر أو البيت الثاني منها، ليتولد من ذلك الوزن.

ويقسم الغربيون الشعر عادة إلى"Epic"، وهو شعر الملاحم، حيث يمتاز بطول قصائده وفخامة أسلوبه، وبقصصه الذي يدور حول أبطال الملحمة والأحداث التي تعرض لها هذا النوع من الشعر. وشعر يقال له ""Dramatic، وهو شعر مسرحي، أو تمثيلي. وشعر يقال له "Lyric"، وهو شعر غنائي. وشعر يقال له ""Didactic، وهو شعر تعليمي، أريد به التعليم ووعظ الإنسان. ونجد النوع الأول منه عند اليونان والرومان والهنود والفرس والألمان وهم من الشعوب الهندأوروبية، أي الشعوب الآرية.

ولا نجد من شعر الملاحم، ومن شعر "الدراما" في التوراة، ولكننا نجد ما يشبه "الدراما" "Semi Dramatic" في سفر أيوب. ويكثر الشعر "الغنائي" المعدّ للترتيل والترنيم Lyric فيه. ففي كلمات موسى على البحر الأحمر، التي تمثل غناء النصر ""Triumphal Odes، وفي غناء "دبوره""Deborah" ، وفي المزامير، أشعار غنائية معدة للترتيل.

وقد أشير إلى إنشاد الشعر جماعة في التوراة، فلما وصل العبرانيون إلى "البئر" التي قال الرب فيها لموسى اجمع الشعب حتى أعطيهم ماءً، "حينئذ ترنم اسرائيل بهذا النشيد:اصعدي يا بئر تجاوبوا لها. بئر احتفرها الرؤساء، احتفرها أشراف الشعب بمخصرة عصيهم". وقد لازم الترنم الشعر منذ أوائل أيامه، ففي الترنم به تقوية له. وما النغم سوى "ايقاع" يجعله نوعاً من أنواع الغناء "نوطته" التفعيلات التي تكون بحوره في الأدب العربي. ولهذا نجد الشعر قد رافق الغناء بل هو نوع منه منذ نشأته.

ونجد القديس "نيلوس" ""Nilus" المتوفي حوالي سنة 430 م"، يصف غارة بدوية على دير سيناء وقعت سنة 410 م، وتحدث في أثناء حديثه عنها عن إنشاد الأعراب أناشيد بترانيم عندما كانوا يأخذون الماء، وهي ترانيم لم يشر القديس إلى نوعها، ولكني لا استبعد أن تكون من الرجز، الذي يقال في المناسبات، في استنباط الماء، وفي حفر الآبار، أو رفع الأثقال، أو في بناء، وأمثال ذلك مما لا يزال مألوفاً، ويشاهد حتى بين أهل القرى. وان كان بعضها ترانيم غير فنية ولا مصقولة، ولكنها ذات ايقاع على كل حال.

ومن هذا القبيل الأشعار التي أنشدها العرب في انتصارهم على الرومان سنة 372 م، والتي أشار اليها المؤرخ "سوزومن" في كتابه "تأريخ الكنيسة"، فقد ذكر أن العرب كانوا ينشدون الشعر في قتالهم هذا مع الرومان. والواقع أننا لا نكاد نقرأ خبر معركة إلا ونجد الشعر فيها في مقدمة الأسلحة التي تستخدم فيها، وقد يسبق السيف في الضرب، حيث يخرج الفارس وهو يرتجز رجزاً يشيد فيه بنفسه، وبقومه، مهوناً من أمر من سينازله ثم يقابله من يتبارى معه برجز آخر، يشيد فيه بنفسه، رداً على خصمه.

والشعر العبراني القديم نوعان: النوع المعدّ للترتيل، والنوع التعليمي. ومن النوع الأول المزامير، ومن النوع الثاني الأقسام الشعرية من كتب الأنبياء. والمزامير ""Psalms، هي من أفصح الأشعار الدينية في التوراة، وهي تعبر عن الحس الديني عند الإنسان، وعن شعور البشر تجاه خالقهم، وهي تمجيد وحمد له، واعتراف بضعف الإنسان تجاه خالقه، فهو يرتل فيها حمد الله والثناء عليه. أما الأمثال والجامعة، وبعض أقسام كتب الأنبياء، فهي وإن كانت دينية في الأصل، إلا انها وضعت لغايات تعليمية، لإرشاد الناس وتقديم النصح لهم.

ولا توجد القوافي والبحور في هذا الشعر، ومع ان بعض الأشعار العبرانية قد نظمت أحياناً على الحروف الابجدية، لكن أشطرها لم تتضمن عدداً مماثلاً من المقاطع، فيتولد منها الوزن، أي النغم. وانما نظمت على مقابلة الأفكار في الشطر الأول والثاني، أو في الشطرين الأولين والثالث. وقد يشرح فكر الشاعر على نوع مقابلة فكرين، إما لوجه المشابه بينهما، وإما لوجه المخالفة بينهما. ومن أمثلة أوجه المشابه: فمن هو الإنسان حتى تذكره  أو ابن آدم حتى تفتـقـده

وما جاء في المزمور التاسع عشر من قوله: السموات تحدث بمجد الله  والفلك يخبر بعمل يديه

يوم إلى يوم يذيع كلامـا  وليل إلى ليل يبدي علما

ومن أوجه المخالفة بينهما: لأن عـامـلـي الـشـر يقـطـعـون  والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض 

وما جاء في الأمثال: الجواب اللين يصرف الغضب  والكلام الموجع يهيج السخط

لسان الحكماء يحسن المعرفة  وفم الجهال ينبـع حـمـاقة

وقد ذهب بعض العلماء إلى وجود "التفاعيل" ""Feetو "الوزن" ""Metre في الشعر العبراني، و ذهب بعض آخر إلى عدم وجود التفاعيل فيه، وذهب بعض إلى وجود القافية " Rhyme" والوزن ""Rhythm في الشعر العبراني. وهو شعر يختلف عن شعرنا المألوف، وهو وإن أمكن تقسيمه إلى أشطر و أبيات، إلا أن له خصائص يختلف بها عن الشعر العربي. فترى مثلاً ان الأبيات في القصيدة العبرانية غير متساوية، فقد يطول فيها بيت، وقد يقصر فيها بيت آخر. وقد ترتب الأبيات على ترتيب حروف الهجاء، كما في الأمثال وفي المزامير.

ومن أهم أبواب الشعر العبراني، باب يقال له: ""Parallellism في الانكليزية، أي التطابق. وهو انواع. وقد بحث فيه العلماء.

وقد يكون الشعر على صورة أفكار متسلسلة متتابعة، فتتقدم الفكرة تدريجياً، وتوضح الأبيات التالية السابقة مثل: نامـوس الـرب كـامـل يرد الـنـفـس  شهادات الرب صادقة تصير الجاهل حكيماً 

وصايا الرب مستقيمة تـفـرّح الـقـلـب  أمر الـرب طـاهـر ينـير الـعـينـين

خوف الرب نـقـي ثـابـت إلـى الأبـد  أحكـام الـرب حـق عـادلة كـلـهـا

أشهى من الذهـب و الابـريز الـكـثـير  وأحلى من العسل وقـطـر الـشـهـاد

ومن أنواع الشعر في التوراة، ما نقول له "ترادف المتطابقات" ""Synonymous Parallelism، وذلك أن تكون فكرة الشطرين مترادفة، وكذلك المصطلحات الواردة فيهما ن فترتبط فكرة الشطر الاول بالشطر الثاني من البيت مثل: "وقال لآمك لامرأته عادة وصلة: اسمعا قولي يا امرأتي لآمك واصغيا لكلامي. انني قتلت رجلاً لجرحي وفتى لشدخيط، فالشطر الأول هو "وقال لآمك ...الخ"، والشطر الثاني المتمم هو: "انني قتلت رجلاً لجرحي"، ومثل: "انقذ من السيف نفسي من يد الكلب وحيدتي، خلصني من فم الأسد ومن قرون بقر الوحش استجب لي". ومثل: كيف ألعن من لم يلعنه الـلـه  وكيف اشتم من لم يشتمه الرب 

وما نقول له ب"تناقض المتطابقات"، أو "تضاد المتطابقات" ""Antithetic Parallelism". وذلك أن يكون الشطر الثاني مثل الشطر الأول في احتوائه على الحقيقة، أي الفكرة، ولكنه جاء بها بصورة أخرى، أي متضادة Contrast. فالشكل متطابق تماماً، وأحد جزئي الشطر مترادف، أما الجزءان الآخران، فمتعارضان. وأكثر ما يقع ذلك في المثل: الابن الحكيم يسـرّ أبـاه  والابن الجاهل حزن أمه 

ونوع آخريقال له "الايقاع المتصاعد"، أو "الوزن الصاعد"، "Asending Rhythem" "Stair-like"، وهو شعر يرد في الشطر الثاني منه جزء مما ورد في الشطر الأول، أو مختصر الشطر الأول، ليضاف عليه شئ جديد. مثل: حتى يعبر شعـبـك يا يهـوة  حتى يعبر الشعب الذي اقتنيته 

ونوع يقال له "المتطابقات المركبة" " Synthetic Parallelism" أو "Constructive" وذلك بأن يكون ما يرد في الشطر الثاني مخالفاً، أو على الاكثر لما ورد في الشطر الأول. على ان المتطابقات في الشطرين تكون موجودة. مثل: لا تجاوب الجاهل حسب حماقته  لئلا تـعـدلـــه أنـــت

جاوب الجاهل حسب حماقـتـه  لئلا يكون حكيماً في عيني نفسه 

ومثل: ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن وارفعنها أيتها الأبواب الدهريرات فيدخل ملك المجد.

من هو هذا ملك المجد. رب الجنود هو ملك المجد. سِلاه.

ومن النوع المعروف ب "Progressive Parallelism" ، ما ورد في "أيوب" من قوله: "هناك يكف المنافقون عن الشغبِ وهناك يستريح المتعبون. الأسرى يطمئنون جميعاً، لا يسمعون صوت المسخر. الصغير كما الكبير، والعبد حرّ من سيده". وقد جاء الشطر الثاني بمعان ايضاحية جديدة، لها صة بما ورد في الشطر الأول من معنى ز ومن النوع الذي يقال له: "Climatic Parallelism"، ما ورد في "المزامير": "صوت الرب يولد الأيل، ويكشف الوعور وفي هيكله الكل قائل المجد. الرب بالطوفان جلس ويجلس الرب ملكاً إلى الابد. الرب يعطي عزاً لشعبه، الرب يبارك شعبه بالسلام"، قوله: صوت الرب بالقوة. صوت الرب بالجلال. صوت الرب مكسر الأرز ويكسر الرب أرز لبنان، ويمرحها مثل عجل سلم ارتفاع المعاني.

ويتكون ال "Parallellism" في العادة من بيتين، أو شطرين، فهو من نوع "دوبيت"، "Distich"، غير أنه يتكون أحياناً من ثلاثة أبيات"Tristichs"، ومن أربعة أبيات"Tetrastichs"، ومن خمسة أبيات "Pentastichs".

ولا يرد الشعر العبراني على صورة مقطوعات أو قصائد بالضرورة، ومع ذلك فقد ورد في بعض المزامير على شكل قصيدة مكوّنة من ثلاثة أقسام متساوية يربط بين أجزائها رابط، هو بيت مكرر "Recurring Verse". ونرى أن أحد المزامير قد تألف من ثلاث مقطوعات، كل قطعة منها بثلاثة أبيات، وفي نهاية كل مجموعة علامة "سلاه" "Selah". وقد تنتهي المجموعتان بعبارة تتكرر على نحو موصول في القصيدة أو أغنية Refrain"".

ونجدفي المزامير شعراً ورد منظوماً على ترتيب الأبجدية، فقد ورد مكوناً من اثنتين وعشرين قطعة، أي بعدد حروف الهجاء، تكونت كل قطعة منها من ثمانية أبيات "Verses"، وتبدأ كل قطعة بالحرف العددي. ونجد ان ال "Lamentation" قد رتب على الحروف، وهي مقاطع شعرية حزينة ومراثي "Eligies" تمثل شعر المراثي الأصيل "Threnody" في العبرانية. و يتوقف وزنها على بناء كل بيت. ولكن البيت فيها لا يشبه بيت الشعر في اللغة اللاتينية من نوع الأبيات تالكونة من ستة تفاعيل "Hexameter"، أو من الخماسي التفاعيل "Pentameter"، وانما يتكون من خمسة ألفاظ أو سبعة، مكونة ما يعادل احد عشر مقاطعاً "Syllables". يتكون كل بيت منها من شطرين غير متساويين أحدهما من ستة، والآخر من خمسة، أو من أربيعة و الآخر من ثلاثة، يفصل بينهما الاحساس والقواعد النحوية.

ونجد Sirach من أسفار "الأبوكريفا""Apocrypha"، وقد نظم على هيأة "دوبيت"Stichoi من حيث الوزن وعدد المقاطع. وهو من الشعر التعليمي: "Diadactic".

وقد قسم بعض العلماء الوارد في التوراة إلى أقسام: شعر يتمثل بما ورد منه في أسفار "أيوب""Job" وفي نشيد سليمان، ونوع يتمثل بما جاء في "المزامير" وهو شعر غنائي، أي يتغنى به، و قد ينشد على إيقاع "المزمار"، وهو يقال له "Lyric" في الإنكليزية، وشعر ثالث يتمثل في "الأمثال" و في أسفار الحكمة "Ecclesiaticus" التي هي في التهذيب وفي تعليم الإنسان "Didactic"، وفي الحكم الموجز المفيدة "Sententious". والنوع الاول هو شعر فني، و أما النوع الثاني فمختصر موجز، نظم لينشد، ولكل قسم طرق و بحور.

ولأجل إحلال الإيقاع أو النغم في الشعر، فقد يضطر أحياناً إلى مزج كلمتين قصيرتين، لتلفظ بهما ككلمة واحدة. كما يفعل ذلك لأسباب أخرى منها مراعاة "القافية" التي يقال لها "ميقف" "مقف""Maqqeph" في العبرانية. أما إذا كان العكس، وذلك بأن تكون الكلمة ثقيلة وطويلة، فقد تقرأ وكأنها ذات مقطعين، أو جزئين.

وإذا كان الشعر مؤلفاً من ابيات عديدة، تكون وحدة واحدة، فيطلق عليها "مقطوعة شعرية"Strophe" ". ولكن المراد بها في الغالب القطعة الكبيرة من الشعر، أي "القصيدة". واما الشعر القصير، المؤلف من بيتين، أي من "دوبيت"وهو يقال له "Couplet" أو "Distich" في الانكليزية، فأنه يكون الطابع الغالب على الشعر في هذه اللغة. يتكون من "Paralleism"، أي "موازنات" أو "متطابقات". وقد نظمت الاشطر والابيات، بحيث تتناسب فيما بينها في الالفاظ والجمل والمعاني. فيرد في الشطر الثاني جزء مما ورد في الشطر الاول بنصه أو بأختيار لفظة منه، لتذكير القارئ بالشطر المتقدم، فيتخرط مراد ذلك البيت.

ونجد في التوراة قطعاً عدها العلماء مقطعات شعرية، بينما هي خالية من النغم، أي الوزن، ونجد قطعاً ذات نغمة موسيقية، أ]ذات وزن، فهي من الشعر الصحيح، المقرون بنغم. والنوع الاول هو نثر "Prose" خالص، لكنه يمتاز عن النثر المألوف بأستعماله المجاز والاستعارة والكناية والتعابير الفنية والالفاظ المؤثرة في التعبير عن الرأي. فهو يعبر عن شعور عميق كامن في النفس بأسلوب أدبي رفيع لذلك عد من الشعر، مع انه نثر في الواقع.

ويتكون البيت من شطرين. ومن مقاطع "Stanaza" ومن "Strophe"، أي مقطوعة. ويتكون الشطر والبيت من مقاطع، أي من ألفاظ نظمت بعضها إلى بعض بحيث إذا ما قرئت بصوت مرتفع، فانها تقرأ بنغمه، و بموسيقى مؤثرة. و يقتضي ذلك تنظيم الألفاظ والمقاطع بشكل منسق ذي نغم، لتتولد منه موسيقية الشعر ز فللشعر ارتباط وثيق بالموسيقى والغناء. ونجد موسيقى الأشطر و الأبيات متناسبة ومن ايقاع واحد، أي من "بحر"واحد، وتحافظ القطعة الشعرية، على هذه الموسيقى، حتى لا يقع تنافر فيها، فتبدو متنافرة نابية على السمع فلا تعد شعراً من صميم الشعر.

ويدخل "الترنيم" في باب الشعر الذي يقرأ مع الموسيقى، وتعد "الأمثال" في جملة انواع الشعر. ونظراً لعدم وجود نصوص شعرية في العبرانية، و في اللغات السامية، مدوّنة بصورة واضحة تبين مقاطعها كيفية التغني أو النطق بها، ونظراً لجهلنا أصول الايقاع عند القدماء وطرق الغناء التي تغني بها، ليس من السهل علينا في الوقت الحاضر ابداء راي واضح عن الشعر عند قدماء الساميين، وفي جملتهم العرب بالطبع.

فنحن لا نعرف اليوم عن الشعر العربي القديم، الذي سبق الإسلام بعصور كثيرة، أي شئ. و ليس في النصوص الجاهلية التي وصلت الينا، نص فيه شعر أو تلميح عنه , وكل ما يقال عنه، وهو حدس وتخمين وظن وقياس قيس على ما نعرفه عن الشعر عند بقية الساميين، وما نعرفه عن ذلك الشعر هو بحد ذاته شئ قليل. وما لم يعثر على نصوص شعرية جاهلية، فإن من غير الممكن التحدث عنه ذي بال.

والشعر هو شعور وتعبير عن أحساسيس وخواطر قائله، واذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن يتناسب مستواه من الرقي أو السذاجة مع مستوى الشاعر العقلي. ومعنى هذا انه بدأ ساذجاً بسيطاً، ثم نما وتطور بنمو وبتطور عقل قائله. وعلى هذا فشعر كل امة بدأ كما يبدأ كل مولود ساذجاً بسيطاً، ثم نما وتطور، وهو لا يزال يتطور ما دام العقل الانساني خاضعاً لسانة التطور، ومادام الإنسان حياً. ولد من هذا الكلام الاعتيادي المرسل المنثور، بأن ميز عنه بعض التمييز، ثم زادت هذه الميزات أو العلامات الفارقة، حتى صار صنواً للنثر، بحيث صار الكلام: نثراً ونظماً.

وقد أشير إلى "الشعراء" في العهد الجديد، أي في الانجيل. ورد في "أعمال الرسل" "لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد. كما قال بعض شعرائكم أيضاً".

مما يدل على أهمية الشعراء في ذلك العهد.

والشعر أوقع أثراً على النفس من النثر، لما فيه من سحر النغم ومن جاذبية في الموسيقى، ومن توازن وتطابق في بنائه، ومن انسجام في تكوين أجزائه، بحيث إذا أسقط جزء من شطر بيت أو وضع جزء غريب في موضع الساقط، وهو ليس في وزنه اختل التوازن فيه أي النغم: ولهذا اقترن الشعر بالغناء ن لوجود النغم فيه، والنغم من أسس الغناء. فكان الشاعر يترنم بشعره ويتغنى به، ويقرأه بنغمة خاصة ليؤثر بذلك على سامعيه ن وقد يقرن ترنيمة هذا بتحريك رأسه أو يديه أو جسمه من شدة انفعاله وتأثره بشعوره، ليؤثر بذلك في السامعين فيشبه موقفه هذا موقف السحرة في الايام القديمة. ونظراُ لتغني اليونان والرومان عند تلاوتهم أشعارهم، قالوا: غنى شعراً، بمعنى نظمشعراُ، أو قالوا شعراً أو صنع شعراً. ونحن نقول في عربيتنا "أنشد الشعر، نريد: قال شعراً، وقرأ شعراً، وأنشد الشعر، قرأه، وأنشد بهم، أي هجاهم. "وفي الخبر أن السليطين قالوا لغسان هذا جرير ينشد بنا، أي يهجونا. وتناشدوا أنشد بعضهم بعضاً". و"النشيد رفع الصوت. قال أبو منصور: وإنما قيل للطالب ناشد لرفع صوته بالطلب، وكذلك المعرّف يرفع صوته بالتعريف يسمى منشداً. ومن هذا انشاد الشعر، إنما هو رفع الصوت". وفي هذا التفسير دلالة على أن الشعراء كانوا يرفعون صوتهم عند قولهم الشعر و يترنمون به، والترنيم و الترتيل و الإنشاد من ألوان الغناء. و لا استبعد كون قدماء الشعراء الجاهليين كانوا يترنمون في أشعارهم، أي انهم كانوا ينشدنوها انشادا?ً، بطريقة غنائية، قد تصاحب بآلة موسيقية، وربما كانوا يتغنون بالشعر أمام الأصنام، تمجيداً لها وتقرباً اليها، ومن هنا جاء مصطلح : "أنشد شعراً"ولا استبعد أن يكون هذا شأن العرب الجنوبيين في معابدهم، نظراً لما كان لهم من معابد ضخمة وطقوس دينية و تقرب إلى الاصنام.

ولا يستبعد احتمال ترنيم بعض الشعراء الجاهليين شعرهم على نغم آلة من الآت الطرب، على نحو ما يفعله اليوم بعض الشعراء الذين ينشدون أشعارهم بالعامية على "الرباب" "الربابة"، ينشدونه عند أبواب البيوت في الأعياد و في المناسبات، يستجدون به أصحاب البيت والناس الذين قد يجتمعون حولهم لسماع الغناء ز وقد يكون هؤلاء من ترسبات أولئك الشعراء الجاهليين.

وقد بدأ الشعر بداية أي شعر آخر، بدأ بداية بسيطة، بدأ جملاً مقفاة، الكلام فيه يوال بعضه بعضاً على روي واحد، أي سحعاً. أو كلاماً يشبهه، فيه نغم و ايقاع و تعبير عن إحساس. ثم تفنن فيه، و زيدت أنغامه، أي بحوره وأغلبها من الأنغام البسيطة السهلة، المتناسبة مع الحياة الأولية، ثم تقدم بتقدم الحياة، واتخذ صوراً متعددة تتناسب مع حياة الأمم وظروفها وعقالياتها، وماتت أوزان، وتولدت أوزان، وظهرت فيه أساليب عند امة، لم تعرف عند أمم أخرى، لاختلاف الحياة والاذواق والأجواء التي يولد فيها الإنسان.

والشعر الجاهلي الواصل الينا، إما أبيات، نسبت إلى شعراء، وقد لا تنسب، وإما جملة أبيات يقال لها "قطعة" " "Fragment، وإما "قصيدة" ""Ode وهي ما زاد عدد أبياتها على حدود القطعة التي رسمها لها علماء الشعر.

وقد لعب "السجع" دوراً هاماً في حياة الجاهليين، تكلم به الكهان بصورة خاصة، و لهذا اشتهر و عرف باسمهم فقيل: "سجع الكهان". و نطق به الخطباء، و قد تعمقوا فيه فاستعملوا أقصى ما ملكته بلاغتهم من أساليب التأثير على النفوس، لسحر عقول المستمعين لهم. فصار نوع من أنواع الكلام المقفى، ظاهرة القافية و الروي، و باطنه سحر معاني الشعر. فهو في الواقع شعر مقفى ينقصه الوزن ليكون شعراً تاماً. و"الروي"، حرف القافية، الحرف الذي تبنى عليه القصيدة، ويلزم في كل بيت منها في موضع واحد. فلما أضيف اليه النغم، أي الوزن صار شعراً، له أوزان وبحور، على نغمها ينظم الشاعر شعره.

والسجع، وان ظهر في عربيتنا كلام مقفى خال من الوزن، إلا أنه في الواقع كلام موزون، روعي فيه، أن يكون الشطر الثاني من الجملة موازٍ أي مساوٍ للشطر الأول منها، بحيث يكون بوزنه وبقافيته. ومن هنا عد شعراً عند الأمم الاخرى لأنك إذا قرأت السجع الأصيل المعتنى به، أو السجع الذي استرسلت به السليقة، والخارج من قلب إنسان ذي حس مرهف، تجد فيه الميزان الصحيح والمقابلة التامة والمطابقة الصحيحة بين الأجزاء، كل كلمة فيه تقابل كلمة مثلها، وكل عيار فيه يقابله عيار في وزنه وثقله. وفي معانيه معان شعرية وسحر بيان، ثم إنك إذا قرأته بصوت مرتفع، وبحركات صوتية ذات ترنم، بنغم فيه حركات و سكنات، صار شعراً. ومن هنا رمت قريش الرسول بقول الشعر، وما علمناه الشعر وما ينبغي له. و)إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر، قليلا ما تؤمنون. ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون(.

وما كانت قريش لترمي الرسول بقول الشعر، وتزعم ان القرآن شعر أو أن فيه شعراً، لو انها كانت تعتبر الشعر الكلام الموزون المقفى حسب و لا غير و لا تدخل التخيل فيه، أي المعنى الشعري. ومن هنا قال المفسرون: "لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبين المحسوس. وأما من جهة التخيل، فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق والبراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدق ولا يعاند. وانتفاء الكهانة عنه أمر يفتقر إلى أدنى تأمل يوقف على ان كلام الكهان أسجاع لا معاني تحتها وأوضاع تنبو الطباع عنها". وهذا المذهب الذي ذهبت قريش فيه في تفسير الشعر، هو الذي حمل علماء التفسير على الاحتراس كثيراً في تفسير معنى الشعر وفي تحديده، وتحديد مفهوم الشاعر. فقالوا: "الشعر وهو الكلام المقفى الموزون قصداً. والتقييد بالقصد مخرج ما وقع موزوناً اتفاقاً، فلا يسمى شعراً، وما يجوز من الرجز، وهو نوع من الشعر عند الأكثر".

على أن علماء العربية لم يغفلوا أو لم يشاءوا أن يخفوا حقيقة واقعة، هي أن في القرآن آيات، إذا تأملت فيها وكأنها شعر منظوم، أو من قبيل الشعر المنثور. مثل سورة الانفطار: )إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفسُ ما قدمت و أخرت( والجواب على ذلك، ان ما نجده في القرآن من آيات تبدو وكأنها شعر موزون، هو من قبيل ما يقع في كلام الناس عفواً ومن غير تعمد من كلام، لو تأملت فيه وجدته كلاماً موزوناً، ولكن لم يقصد به أن يكون شعراً، والشعر لا يعدّ شعراً إلا إذا كان قد صدر عن تفكر وعمل خاطر، وإعمال رأي، ومن رجل اتخذ الشعر صنعة له.

وليس لدى أي أحد علم بكيفية تطور الشعر العربي من حالته البدائية إلى بلوغه درجة البحور. ولا يستطيع أحد اثبات أن هذه البحور التي ثبتها "الخليل" والأخفش، وحدداها، هي كل بحور الشعر الجاهلي، فربما وجدت بحور أخرى لم يصل خبرها إلى علم هذين العالمين أو غيرهما، ولا سيما في الشعر القبلي الذي لم يشتهر أمره، ولم يعرف إلا بين السواد، ومنه الشعر العامي، أي الشعبي، أو المحلي، المنظوم باللهجات الخاصة، إذ لا يعقل عدم وجود شعر شعبي في ذلك العهد، نظمه سواد الناس، على غرار الشعر العامي الذي يقال له الشعر النبطي في جزيرة العرب، فالشعر هو شعور على طبقة من الناس دون أخرى.

ونحن لا نملك في الوقت الحاضر تعريفاً علمياً للشعر، نستطيع أن نقول بجزم و بتأكيد انه من تحديد الجاهليين له. والتعريف المألوف له، هو كما ذكرت تعريف اسلامي محض. وقد رأينا كيف احترس علماء التفسير في تعريفه، فقيّدوه بكونه "الكلام المقفى الموزون قصداً" لإخراج ما وقع موزوناً من الكلام اتفاقاً من الشعر، وهو ما وقع في القرآن الكريم و في كلام الرسول، مما يدل على ان العرب في أيام الرسول كانوا أوسع إدراكاً لمفهوم الشعر من الاسلاميين، و انهم كانوا يدخلون فيه ما أخرجه من جاء بعدهم في الإسلام منه، بسبب فرية قريش على القرآن و الرسول. و بسبب هذه الفرية، وقع جدل فيما بين الاسلاميين في موضوع الرجز، هل هو شعر، أو هو باب خاص من أبواب الكلام لا يدخل في باب الشعر، لثبوت ورود الرجز على لسان الرسول ??!   

وقد أدرك العلماء ان هنالك فروقاً بين العرب و بين العجم في نظرتهم إلى الشعر قال طالجاحظ"في معرض كلامه على ميزات اللسان العربي و تفوقه على ألسنة الأعاجم: "والأمثال التي ضربت فيها أجود وأسير. والدليل ان البديهة مقصور عليها، وان الارتجال والأقتضاب خاص فيها، وكيف صار النسيب في أشعارهم و بين الكلام الذي تسميه الروم و الفرس شعراً، وكيف صار النسيب في أشعارهم و في كلامهم الذي أدخلوه في غنائهم و في ألحانهم إنما يقال على السنة نسائهم، وهذا لا يصاب في العرب إلا القليل اليسير، وكيف صارت العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، فتضع موزوناً على موزون، والعجم تمطّط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزوناً على غير موزون". فهذا رأي "الجاحظ"في الشعر العربي و في الشعر عند الأعاجم.

وللشعر أوزان، هي بحوره. ضبطها "الخليل بن أحمد" الفراهيدي في الإسلام ثم من جاء بعده. استنبطت من الشعر المألوف الذي كان سائداً في أيامه، وضبطت باوزان هي "التفعيلات". بيد أننا لا نستطيع أن نقول إن الأوزان التي ضبطها الاسلاميون، تمثل جميع بحور الشعر الجاهلي، وأن علماء الشعر كانوا قد استعرضوا كل ذلك الشعر، وحصروه حصراً، و درسوه درساً، فوجوده لا يخرج خارج هذا الحصر، فلم يفتهم منه و لا بحر واحد. فقول مثل هذا لا يمكن أن يقال، وهل هنالك من دليل يؤيده و يسنده? وأنا لا استبعد احتمال عدم وقوف علماء الشعر على بحور أخرى، لم يصل علمها اليهم بسبب موتها قبل الإسلام، أو لقلة من كان ينظم بها، ألا لأنها كانت من الأشعار التي لم يصل علمها إلى علماء الشعر، لكونها من أشعار العرب الجنوبيين الذين كانوا يتكلمون باللهجات العربية الجنوبية، أو لكونها اشعار مناطق بعيدة لم يالف علماء اللغة و الشعر الذهاب اليها، أو لأنها من الشعر "العامي"، البعيد عن العربية المصطفاة، ولأسباب أخرى.

ونجد في خبر: "لهيب بن مالك" اللهبي، المعروف ب"لهب"، سجعاً و رجزاً، نستطيع أن نقول انه-إن صح- يمثل مرحلة من مراحل الشعر عند الجاهليين، تفيدنا دراستها فائدة كبيرة في الوقوف على تطور الشعر الجاهلي. فقد ذكر انه سمع الكاهن "خطر بن مالك"، وكان من اعلم كهان "بني لهب"، يقول: عودوا إلى السحر  ائتوني بسـحـر

أخبركم الخـبـر  ألخير أم ضرر

أم لأمن أو حذر 

وذكر انه سمع الكاهن يقول: أصابه أصابـه  خامره عقابـه

عاجله عذابـه  أحرقه شهابـه

زايله جـوابـه  يا ويله ما حاله

بلبله بلـبـلـه  عاوده خبالـه

فقطعت حبالـه  وغيرت أحواله 

ثم أمسك طويلاً، وهو يقول: يا معشر بنـي قـحـطـان  أخبركم بالحـق والـبـيان

أقسمت بالكعبة و الأركـان  والبلد المؤمـن والـسـدان

قد منع السمع عتاة الجـان  بثاقب بكف ذي سلـطـان

من أجل مبعوث عظيم الشان  يبعث بالتنزيل و الـقـرآن

وبالهدى وفاصل الفرقان  تبطل به عبادة الأوثان

ثم قال خطر: أرى لقومي ما أرى لنفسي  أن يتبعوا خير نبي الإنـس

برهانه مثل شعاع الشمس 

وهو كلام مصنوع، لكنه يفيدنا مع ذلك في الوقوف على نماذج من الشعر، روعي في صنعه محاكاة طريقة الكها في نظم الكلام. فهو يفيدنا من هنا في الوقوف على اسلوب من أساليب نظم الكهان في ايام الجاهلية، كما انه يفيدنا في دراسة موضوع صلة الكهانة و السحر بالشعر.

والشعر بعد، تعبير عن الخواطر والأحاسيس وخوالج النفوس، فلا يمكن أن تنحصر اغراضه في غرض واحد، لأن التعبير عن الحياة العامة للإنسان يحتاج إلى الوان كثيرة من ألوان التعبير الشعري، والشعر الجاهلي على كونه ضيقاً، لضيق أفق الحياة الجاهلية و بساطتها، فقد تنوعت فنونه، تنوعاً انبثق من صميم حياة الجاهليين، و أدى بذلك المعاني التي كانت تتطلبها حياتهم أداء يتناسب مع درجة عقليتهم و مستواهم المعاشي وأوضاعهم الاقتصادية و الاجتماعية. وقد استعرض الإسلاميون تلك الأغراض التي قيل الشعر فيها فحصرها "أبو تمام" وهو نفسه من مشاهير الشعراء في الإسلام في عشرة ابواب: هي الحماسة، والراثي، و الأدب، و التشبيب"النسيب"، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومعرفة النساء. وجعلها غيره:الغزل، والوصف، والفخر، والمدح، والهجاء، والعتاب، والاعتذار، والأدب، والخمريات، والأهديات، والمراثي، والبشارة، والتهاني، والوعيد، والتحذير، والتحريض، و الملح، وباب مفرد للسؤال والجواب. وحصرها "ابن رشيق" في النسيب والمديح والافتخار، والرثاء، والإقتضاء، والاستنجاز، والعتاب، والوعيد، والانذار، والهجاء والاعتذار.

وورد في "ديوان المعاني" ان "أقسام الشعر في الجاهلية خمسة: المديح، والهجاء، والوصف، والتشبيه، والمراثي، حتى زاد النابغة فيها قسماً سادساً وهو الإعتذار، فأحسن فيه".

وقد تعرض "أبو العباس ثعلب"، لهذه الأعراض فجعلها: الأمر و النهي و الإخبار، والاستفهام. وهذه الأغراض الأساسية للشعر تتفرع إلى المديح، والهجاء، والرثاء، والإعتذار، و الغزل، و التشبيه، والوصف. وجعل "أبو الهلال العسكري" أغراض الشعر: المديح، والهجاء، والفخر، والغزل، وجعلها: المديح، والهجاء، والرثاء، والغزل والوصف، في موضوع آخر.

ونلاحظ ان بعض هذه الأبواب مثل الفخر والمدح والهجاء، عامرة، وبعض منها فقيرة، حتى لا نكاد نجد فيها مما يخص الشعر القصصي Epique غير نزر يسير، وفي هذا القليل ما هو مشكوك في صحته. وأما الشعر الديني الخاص بالأصنام والاوثان، فلا نجد منه في الشعر الواصل الينا لا قطعة و لا قصيدة. ولا يعقل بالطبع ألا يكون للجاهليين شعر في هذا الباب، إذ كانوا يتوسلون ويلوذون بها ويتقربون اليها بالنذور، فلا يعقل ألا يكون لهم شعر في آلهتهم. ولا يعقل أيضاً قول من قال إن الجاهلي رجل مادي، لم يحفل بالدين ولا بالمعاني الروحية ولا بالآلهة، وهو من أبعد الناس عن الدين و التدين، لذا لم يحفل بها في شعره. فلو كان الجاهلي على هذا النحو المذكور من الابتعاد عن الدين والتدين، لما تقرب اليها بالنذور وبالقرابين وهو فقير محتاج، وبالحج، وهي عبادات لا يمكن أن ينكر وجودها عند الجاهليين أحد، لورود ذكرها في النصوص الجاهلية، وفي القرآن الكريم. والذي أراه ان سبب عدم وصول شئ من الشعر الديني الوثني الجاهلي الينا، لا يعود إلى تقصير الجاهليين في هذا الباب، بل إلى انصراف الرواة عنه، وامتناعهم من تدوينه بسبب الإسلام، لأنه من صميم ديانة أهل الجاهلية التي اجتثها الإسلام، إلا أن يكون ذلك الشعر من النوع الذي يتفق مع مبادئ الإسلام، أو لا يتعارض معها، فلم يجدوا غضاضة من روايته، ولذلك رووه.

وقد ذكر علماء الشعر "أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار و الدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين، إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب ويصرف اليه الوجوه". وذكر أن "امرأ القيس" "أول من فتح الشعر واستوقف، وبكى في الدمن، ووصف ما فيها، ثم قال: دع ذا-رغبة عن المنسبة-فتبعوا أثره، وهو أول من شبه الخيل بالعصا و اللقوة و السباع و الظباء و الطير، فتبعه الشعراء على تشبيهها بهذه الأوصاف". وكان أول من بكى الديار.

والشاعر المجيد عندهم "من سلك هذه الاساليب، وعدّل بين هذه الاقسام فلم يجعل واحداًمنها أغلب على الشعر، و لم يطل فيمّل السامعين ن ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد". "وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزلٍ عامر، أو يبكي عند مُشيَّد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر، والرسم العافي، أو يرحل على حمارٍ أو بغل ويصفهما، لان المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري، لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منبت النرجس والآس و الورد، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح و الحنوة و العرارة".

وقد جعل علماء الشعر "النسيب" باباً من أبواب الشعر، ودعاه بعضهم "التشبيب"، وجعل بعضهم "الغزل" باباً من أبواب الشعر، بأن أدخل "النسيب"فيه. وطالما نجد الناس يخلطون بين الغزل والنسيب والتشبيب. والغزل في رأي بعض علماء اللغة اللهو مع النساء، وقيل محادثة النساء، وقيل: الغزل و النسيب هو مدح الاعضاء الظاهرة من المحبوب أو ذكر أيام الوصل والهجر أو نحو ذلك، وذكر بعضهم ان الغزل و النسيب و التشبيب كلها بمعنى واحد، وقيل: إن النسيب و التشبيب، والغزل ثلاثتها متقاربة، ولهذا يعسر الفرق بينها حتى يظن إنها واحد. وذكر ان النسيب التغزل، وان قول الرجل نسب الشاعر بالمرأة، بمعنى شبب بها في الشعر، والنسيب في الشعر، هو التشبيب فيه، والتشبيب: ذكر أيام الشباب و اللهو والغزل، و يكون في ابتداء القصائد، وسمي ابتداؤهامطلقاً وإن لم يكن فيه ذكر الشباب. وقيل تشبيب الشعر ترقيق أوله بذكر النساء.

ولو دققنا النظر في معاني هذه المصطلحات، نجد أن هناك فرقاً بين الغزل وبين النسيب، والتشبيب في الأصل، غير أن الناس خلطوا بين معانيها، فلم يفرقوا بينها. فالنسيب مصطلح استعمل في الشعر للتعبير عن ذكر الديار و الأحبة في ابتداء القصيدة، فكأنه أخذ من النسب، حيث يقص الشاعر نسب أحبته ومكانهم، ومرابع الأحباب ومنازلهم واشتياق المحب إلى لقائهم ووصالهم و غير ذلك مما فصلوه وسموه التشبيب نفهو ليس بغزل إذن، فقول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل  بسقط اللوى بين الدخول فحومل 

لا يعدّ غزلاً بالمعنى المفهوم من الغزل، وإنما هو تذكر فهو شئ آخر، يمثل عاطفة الحب نحو المرأة، وما يتعلق بها، وهو ما يقال له: Love Poem في الإنكليزية. وأما التشبيب، فهو تذكر ايام الصبا و الشباب، والغزل فيه لما فيه من المغازلة والمنادمة، ونظراً لما بين هذه الأمور من تداخل، تداخلت المعاني في الإسلام، وأخذت تعني معاني متقاربة، أو شيئاً واحداً.

وشعر الهجاءLampoon" "، هو من أهم أبواب الشعر المهمة عند الجاهليين. ويتناول هجاء الاشخاص وهجاء القبائل ز ونظراً لما كان يتركه الهجاء من اثر في النفوس، كان قوم الشاعر يروونه ويحفظونه للحط من شأن المهجو. ولهذا الاثر الخطير الذي كان يتركه الهجاء في المهجو من كسر في الاسم وتحطيم في المنزلة فسّر "كولدزيهير" لفظة "قافية" بمعنى "تحطيم القفى"، أي "تحطيم الجمجمة". وذهب إلى إن القافية، كانت بهذا المعنى في الأصل، ثم فسرها العلماء بعد ذلك تفسيرهم المالوف، وهو تفسير مخالف للأصل.

قال أهل الاخبار: "وليس في العرب قبيلة إلا و قد نيل منها، وهجيت، وعيرت، فحط الشعر بعضاً منهم بموافقة الحقيقة ن ومضى صفحاً عن الآخرين لما لم يوافق الحقيقة، ولا صادف موضع الرمية.

فمن الذين لم يُحك فيهم هجاء إلا قليلاً على كثرة ما قيل فيهم:تميم بن مرة، وبكر بن وائل، وأسد بن خزيمة، و نظرائهم من قبائل اليمن.

ومن الذين شُقوا بالهجاء ن ومزقوا كل ممزق-على تقدمهم في الشجاعة والفضل-أحياء من قيس:"نحو غنى وباهلة"، "ونحو محارب بن خصفة ابن قيس عيلان، وجسر بن محارب"، "ومن ولد طابخة بن الياس بن مضر:تيم وعُكل ابنا عبد مناة بن أدّن "وعدي بن عبد مناة"، كانوا قطيناً لحاجب بن زرارة، وأراد أن يستملكهم ملك رق بسجل من قبل المنذر، والحبطات". ولم تمدح قبيلة قط في الجاهلية من قريش كما مدحت مخزوم.

وقد تعرض "الجاحظ" لهجاء الشعراء للأشراف، فقال: "وإذا بلغ السيد في السؤدد الكمال نحسده من الاشراف من يظن انه الاحق به، وفخرت به عشيرته، فلا يزال سفيه من شعراء تلك القبائل قد غاظه ارتفاعه على مرتبة سيد عشيرته فهجاه. ومن طلب عيباً وجده. فإن لم يجد عيباً وجد بعض ما إذا ذكره، وجد من يغلظ فيه ويحمله عنه. ولذلك هُجي حصن بن حذيفة، وهُجي زرارة بن عدس، وهجي عبد الله بن جدعان، وهجي حاجب بن زرارة".

فالحس في نظر "الجاحظ" من جملةعوامل الهجاء. فالنباهة والشرف والظهور في المجتمع من العوامل التي تكون سبباً دافعاً إلى الهجاء، بسبب داء الحسد، ولهذا امن الخامل من هجاء الهجائين، وسلم من أن يضرب به المثل في قلة ونذالة وبخل، إذ ليس فيه ما يحمل الشاعر على النيل منه وعلى ما يغيظه، ولا يحسده حاسد، حتى يدفع الشاعر على التحرش به وهجائه. وقد هجيت قبائل بأقذع أنواع الهجاء مع ما لها من شرف وفضل ومكانة وخير عميم، بسبب حسد الحساد، وغيظ القبائل الضعيفة، أوالتي لا خير فيها منها، فتحرش شعراؤها بها، ودفع الحسد الهجائين إلى هجائها، على كونهم من غمار الناس ومن الخاملين في الحسب والنسب.

وقد هجيت الملوك، فتناولتهم ألسنة الهجائين، ولا سيما أولئك الملوك الذين رزقوا طبعاً حاداً، وعصباً حساساً متوتراً، مثل عمرو بن هند، والنعمان بن المنذر الذي نال اكبر نصيب من الهجاء. ومما قيل فيه: ملكُ يلاعب أمه وقطـينَـهُ  رخو المفاصل أيره كالمرود 

وقد نسب قوله إلى "النابغة" الذبياني، ويمكن أن يكون قد صنعه غيره ودسه عليه حسداً له، للأيقاع به عند الملك ونسب اليه قوله: قبح اللـه ثـم ثـنـى بـلـعـن  وارث الصائغ الجبان الجهـولا

من يضر الأدنى ويعجز عن ضر  الأقاصي و من يخون الخلـيلاً

يجمع الجيش ذا الألوف و يغزو  ثم لا يرزأ الـعـدوّ فـتــيلا

وقيل ان قائل تلك الابيات هو:"عبد قيس بن خفاف"التميمي، قاله على لسانه للايقاع بينه وبين النعمان.

وللهجاء عند الجاهليين وقع شديد. ولقد بكى قوم من الأشراف من شدة هول الهجاء عليهم. ولما أمعنت قريش في هجاء الرسول والمسلمين نوجندت الشعراء للنيل من الإسلام ن أعد الرسول "حسان بن ثابت"، و "كعب بن مالك"، و "عبد الله بن رواحة" للرد عليهم، وقد قال الرسول لحسان: "اهجهم -أو هاجهم-وجبريل معك"، وقال:"إن قوله فيهم أشد عليهم من وقع النبل". "وكان حسان وكعب بن مالك يعارضانهم بمثل قولهم في الوقائع والأيام و المآثر ويذكران مثالبهم. وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وعبادة ما لا يسمع ولا ينفع نفكان قوله يومئذ أهون القول عليهم ز وكان قول حسان وكعب اشد القول عليهم. قلما أسلموا وفقهوا، كان أشد القول عليهم، قول عبد الله بن رواحة". وورد ان الرسول قال لحسان: "هيج الغظاريف على بني عبد مناف، والله لشعرك اشد عليهم من وقع السهام، في غبش الظلام" وفي هذا المعنى ورد في شعر "عبد قيس بن خفافط البرجمي: فاصبحتُ أعددت لـلـنـائبـا  ت عرضاً بريئاً وعضباً صقيلا 

ووقع لسان كحـد الـسـنـان  ورمحاً طويل القناة عـسـولا

وفي هذا المعنى ورد أيضاً قول طرفة: بحسام سيفك أو لسانك والكلُم  الأصيل كأرغب الـكـلـم

وقول امرئ القيس الكندي: ولو عن نثاً غيره جاءني=وجُرح اللسان كجرح اليد وقول طرفة: رأيت القوافي يتّلجن موالجـاً  تضايق عنها ان تَوَلجها الإبَر 

وعكس "الهجاء" هو الفخر والمدح ن وله اهمية عند العرب لا تقل عن أهمية الهجاء، لما له من مكانة في المجتمع. وقد لعب دوراً خطيراً في السياسة كذلك ن ولا يزال يلعب دوره هذا فيها إلى هذا اليوم. ولا يعني هذا المدح أن الشاعر كان صادق اللهجة في مدحه ن مخلصاً في مدحه لمن مدحه، انما المدح هو في مقابل إحسان أو طلب احسان في الغالب، فأذا قطع المحسن أحسانه عن الشاعر أو إذا حرض انسان الشاعر على من مدحه وأعطاه ليهجوه، هجاه وقد يهجوه بأقذه هجاء، ومن هنا كان الاشراف وأصحاب التستر، يبتعدون عن الشعراء، لا يريدون مدحهم ولا حمدهم، لأنهم لا يعلمون متى سنقلب الشعار عليهم، فيهجوهم بأشد هجاء، أو ينهش اعراضهم، لتقصيرهم في اعطائه المال. ومن هنا نعتوا بالتلون والكذب) والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر انهم في كل واد يهيمون. وانهم يقولون ما لا يفعلون(.

وسبب هذا التلون عامل اقتصادي، فقد كان الشاعر مثل غيره من الناس يتعيش بشعره، يبذله لمن يعطيه، ويحجبه عمن لا يعطيه، وإذا مدح أمل الإثابة، ليعيش عليها، وإن حرم منها، أو وجد أن شاعراً اخر نال من ممدوحه اكثر مما أعطاه غضب، وقلب مدحه ذماً. فيشتمه وينتقص من شأنه وان كان قد أغرق بالامس في مدحه له. وقد يثيره حساد الممدوح، بأن يعطوه أكثر مما اعطاه ممدوحه، فيغريه المال، ولا يجد عندئذ رادعاً أخلاقياً يمنعه من التهجم عليه ومن هجائه بأقبح هجاء، فالموضوع موضوع مال، ولو كان للشعراء ثراء وغنى أو سوق رائجة تباع وتقرب، ولكان حاله حال الشعراء الغربيين. يعتمدون على الرأي والفكرة والإبداع والفن، فبشتري الناس شعرهم للاستمتاع به، فما يهمهم لذلك مدح هذا أو ذاك.

ويرى "بروكلمن" أن "كثيراً ما كان الشاعر يتجه بفنه أيضاً إلى مدح بطل أو أمير من قبيلته، ولكنه لم يكن يفكر قديماً في الجائزة الرنانة، التي نزلت بمكتانة شعراء المديح المحترفين في بعض الاحيان-منذ عهد النبي- إلى درك المتسولين بالغناء". وهو يجاري بذلك أهل الاخبار القائلين بأن الشعراء المتقدمين لم يكونوا يمدحون طمعاً في مغنم ومال، وإنما كانوا يمدحون عن رأي، وان أول من تسول بشعره الأعشى، فحط بعلمه هذا من قدر الشعراء، ثم أفراط الحطيئة في ذلك، حتى أهان نفسه، فصيروا المتقدمين من الشعراء ملائكة، ورموا الأعشى بخطيئة التسول، بأن جعلوه رأس المتسولين، وما الأعشى إلا بشر، وما المتقدمين عليه الا بشر مثله، فأن تسول الأعشى، فمن يثبت أنه كان اول من تسول، وإن خطيئة التسول لم تكن معروفة بين المتقدمين عليه.

والرثاء Elegy من سنن الجاهليين القديمة، يقال رثيت الميت رثياً ورثاء ورثاية ومرثية، وعددت محاسنه، أو نظمت فيه شعراً، والمراد به المدح. وهو من أبواب الشعر المهمة كذلك، لما كان لرثاء الميت من أهمية كبيرة عند أهل الجاهلية. وقد كانوا يوصون أهلهم بأن يقيموا "النياحة"عليهم، ليقال فيها ما يقال من الشعر في حقهم. ونجد في الشعر الجاهلي قصائد وأشعاراً في الرثاء. وقد نبغت النساء الراثيات في هذا الباب، واستبطن فيه أساليب بديعة لم ينتبه لها الفحول لما طبعن عليه من رقة الطباع وشدة الجزع في المصائب، وصدق الحس، ورقة العاطفة. وقد جمع الأب "لويس شيخو" مراثي الشاعرات الجاهليات، في كتاب، جمع فيه مراثي احدى وستين شاعرة عدا شعر الخنساء. والخنساء، هي من اشهر شاعرات الرثاء برثاء أخويها: صخر ومعاوية.

وشعر الرثاء وإن كان من واجب النائحات في الغالب، وقد بلغ الغاية في شعر "الخنساء"، إلا أنه كان من واجب الشعراء كذلك. فلكثير من الشعراء رثاء لآبائهم ولاخوانهم ولأقاربهم ولأصدقائهم ولذوي الفضل عليهم، وقد ترك "اةس بن حجر"جملة مراثي رائعة، وترك غيره قصائد في رثاء الملوك وسادات القبائل والاباء والاخوة، ويلاحظ أن رثاء الشعراء إنما كان في رثاء الأموات الرجال في الغالب، وذلك نابع عن طبيعة المجتمع، التي تمجد الرجل، ولا ترى ذكر النساء الحرائر إلا في المدح والفخر.

أما شعر التوجع والتألم "Elegies" و "Threnody"الذي نجده في كتاب "المراثي""Lamentations Book"، المنظوم في الكارثة التي أنزلها "بختنصر" في اليهود عام "586" قبل الميلاد، فلا نجد مثله في الشعر الجاهلي، إنما نجد أبياتاً في النكبات التي كانت تحل بالقبائل بسبب الغارات والغزوات، وأروعه ما جاء في رثاء قتلى بدر. وهو ذو طابع شخصي في أكثر الأحيان، إذ يدور حول انفعال الشاعر وتأثره لمصرع شخص كان يحبه أو يقدره. ويدخل ما وضع من شعر حول تخرب سد مأرب، وامثال ذلك في هذا الباب بالطبع.

وقد رثى بعض الشعراء أنفسهم حين شعروا بدنو اجلهم، ونجد في كتب الشعر والادب شعراً من هذا النوع، فكأن الشاعر أراد أن يفتتح به رثاء الراثيات والنائحات، ليكون لهن مقدمة ينسجن عليها شعرهن في رثائه.

وتعد "المراثي" من عيون الشعر والتراث الخالد عند الشعوب القديمة، ولا زال الناس يقيمون للرثاء وزناً كبيراً، لأنه تخليد وتقدير لشأن الميت. ونجد في الادب القديم مكانة كبيرة له فيه. لأنه تخليد وتقدير لشأن الميت. ونجد في الأدب القديم مكانة كبيرة له فيه. وفي التوراة وصف لرثاء الناس لمواتهم. وهو سجع أو رجز يناسب ظروف الميت وحاله ومكانته، يرنم بأنغام لا يختلف من حيث الوزن عن بقية الشعر، فهو يقال في كل البحور، والفرق بينه وبين غيره هو في المعنى، وفي غلبة التوجع والألم فيه على المعاني الاخرى.

ولم يصل الينا شعر جاهلي طويل، مؤلف من مئات أو آلاف من الابيات، مثل العشر القصصي الذي نجده عند الشعوب "الآري" في سرد حكايات الالهة والابطال والحروب ونحو ذلك، ومثل الشعر الغنائي "Lyrique"، ومثل الشعر التمثيلي "Dramatique"، الذي يستند على التمثيل والحوار والغناء، وشعر الجاهليين شعر قصير في الغالب، لا يتجاوز القصيدة فيه، وهي أطول قطعة من الشعر مائة بيت.

أما القصة الشعرية القصيرة، فنجدها في قصيدة الأعشى التي وصف فيها وفاء السموأل. ونجد في شعر "عدي بن زيد" قصصاً قصيرة عن أحداث تأريخية، أوردها في شعره على سبيل العظة والاعتبار، كما نجد في شعر "أمية بن أبي الصلت" قصصاً، أخذ بعضه من قصص أهل الكتاب، وأخذ بعض آخر منه من اساطير العرب القديمة. وكل هؤلاء هم ممن نستطيع أن نقول عنهم إنهم من الحضر، أو المتأثرين بعقلية أهل القرى والحضارة. ويمكن عد قصة الأعشى عن السموأل من هذا النوع المسمى "Ballad"في الانكليزية. ويرى "بروكلمن" أن "محاولة الاعشى إنشاء شعر القصة La Ballade واختراع أسلوب الملحمة، في إشادته بوفاء السموأل، فقد بقيت عملاً فذاً لم ينسج أحد على منواله".

ونجد في شعر للنابغة قصة "زرقاء اليمامة"، وقصة الحية، إذ يقول: تذكر أني يجعل الـلـه فـرصة  فيصبح مال ويقـتـل واتـره

فلما وقاها الله ضـربة فـأسـه  وللبر عين لا تغمض نـاظـره

فقالت:معاذ الله أعطيك إنـنـي  رأيتك غدراً يمينـك فـاجـره

أبي لي قبر لا يزال مقابـلـي  وضربة فأس فوق رأسي فاقره 

والقصة: ان بلدة امتنعت على أهلها بسبب حية غلبت عليها، فخرج أخوان يريدانها، فوثبت على احدهما فقتلته، فتمكن لها أخوه في السلاح، فقالت: هل لك أن تؤمنني فأعطيك كل يوم ديناراً? فأجابها إلى ذلك حتى اثرى، ثم ذكر أخاه، فقال: كيف يهنئوني العيش بعد أخي? فأخذ فأساً وصار إلى حجرها، فتمكن لها، فمل خرجت ضربها على رأسها، فأثر فيه ولم يمعن، ثم طلب الدينار حين فاته قتلها! فقالت:إنه ما دام هذا القبر بفنائي وهذه الضربة برأسي فلست آمنك على نفسي!وكانت العرب تضرب أمثالاً على السنة الهوام.

وللحية قصص عند الشعوب القديمة، وقد صوروها بصور مختلفة، وأشير اليها في التوراة. وقد جعلت رمزاً للحيل، والإغراء والشر والغدر، ولأرجح ان واضع القصة التي نظمها شعراً على لسان النابغة، انما أخذها من أهل الكتاب.

ونجد ل"عمروا بن آلة بن الخنساء" شعراً حكى فيه قصة "سابور"، و"الحضر" منه: ألم ينبئك ولأنباء تـنـمـي  بما لاقت سراة بني العبيد

ومصرع ضيزن وبني أبيه  وأحلاس الكتائب من شريد 

أتاهم بالفيول مـجـلـلات  وبالابطال سابور الجنـود

فهدم من أواسي الحضر صخراً  كأن ثـقـالة زبـر الـحـديد

وقد لعبت قصة فتح "سابور" "شابور"، دوراً خطيراً في قصص الجاهليين. فقد وردت في شعر "أبي داود"، الذي يقول: وأرى الموت قد تدلى من الحضر  على رب أهله الـسـاطـرون

صرعته الأيام من بعد ملك=ونعيم وجوهر مكنون ونجد "عدي بن زيد" العبادي، يذكر قصة الحضر في شعره، كذلك. ذكرها في القصيدة التي تنسب اليه ومطلعها: أرواح مودع أم بكور  فأنظر لأي ذاك تصير 

ثم يذكر القصة، ويصف قصر الحضر، ثم يذكر قصصاً آخر اورده على سبيل العظة والاعتبار، قالها وهو في سجنه، للتأثير على النعمان لحمله على العفو عنه.

وذكر "عدي بن زيد" الحضر في شعر آخر ينسب اليه، منه: والحضر صابت عليه داهية  من فوقه أيد مناكـبـهـا

ربية لـم تـوق والـدهـا  لحينها إذ أضاع راقبـهـا

إذ غبقته صهباء صافية=والخمر وهل يهيم شاربها فكان حظ العروس إذ جشر=الصبح دماء تجري سبائبها وخرب الحضر واستبيح وقد=أحرق في خدرها مشاجبها وقد رود في هذه القصيدة: ما بعد صنعاء كان يعمـرهـا  ولاة ملك جزل مواهـبـهـا

رفعها من بني لدى قزع المزن  وتندى مسكاً مـحـاربـهـا

محفوفة بالجبـال دون عـرى  الكائد ما ترتقي غـواربـهـا

يأنس فيها صوت النـهـام إذا  جاوبها بالعشي قـاصـبـهـا

ساقت اليه الاسـبـاب جـنـد  بني الأحرار فرسانها مواكبها

وفوزت بالبـغـال تـوسـق  بالحتف وتسعى بها توالبـهـا

حتـى رآهـا الأقـوال مـن  طرف المنقل مخضرة كتائبها

وكان يوماً باقي الحديث=وزالت أمة ثابت مرتبها وبدل الفيح بـالـزرافة  والأيام جون جم عجائبها 

بعد بني تبع نـخـاورة  قد اطمأنت بها مرازبها

والأعشى، ممن أدخل قصة الحضر في شعره أيضاً، تطرق في شعره إلى محاصرة المدينة، وكيفية عشق "نضيرة بنت الضيزن" لسابور حولين في الحضر، ثم إلى ما لاقته "نضيرة"من جزاء، بسب خيانتها لوالدها، وذلك بقوله: ألم ترَ الحضر إذ أهـلـه  بنعمي وهل خالد من نعم

أقام به شاهبور الجـنـو  د حولين تضرب فيه القدم 

فلمـا دعـا ربـه دعـوة  أناب اليه فلـم ينـتـقـم

ونجد قصة "الغار"مسجلة في شعر. ومجمل القصة أن رجلاً من "بني ضبة" كان له في الجاهلية سبعة بنون، فخرجوا باكلب لهم ينتقصون، فأووا إلى غار فهوت عليهم صخرة لإاتت عليهم جميعاً، فلما استراث أبوهم أخبارهم أقتفى آثارهم حتى أتى إلى الغار فانقطع الأثر، فأيقن بالشر، فرجع وأنشأ يقول: أسبعة أطواد وسـبـعة أبـحـر  أسبعة آسـاد أسـبـعة أنـجـم

رزئتهم في ساعةٍ جـرّعـتـهـم  كؤوس المنايا تحت صخر مرضم 

وتأتي أبيات بعدهم في وصف حزنه، ثم لم يلبث أن مات كمداً.

ويجب ان لاننسى شعر المعارك والحروب وهو شعر نستطيع أن نسميه شعر "الحماسة". فالعادة عند العرب أنهم ينشدون الشعر عند الغزو وفي أثنائه، وفي المعارك والحروب. فالمقاتل حين يندفع بين المحاربين ليقاتل خصمه، ينشد شعراً يفتخر فيه بنفسه وبعشيرته وبقبيلته، ويكون في الغالب من الرجز، لأنه شعر سهل مطاوع، يصلح لمثل هذه المواقف، في أخبار الأيام وفي الفتوح الإسلامية شعراً وافراً من شعر المعارك من الرجز ومن بحور الشعر الاخرى.

ومن أبواب الشعر عندهم: شعر الوصايا والحكم. فنجد بين الشعر المنسوب إلى الجاهليين شعراً فيه وصايا يوصي الشاعر بها ولده وأقاربه أو عشيرته بخلاصة ما حصل عليه ذلك الشاعر في حياته من تجارب. كما نجد بينه حكماً عرف بها بعض الشعراء مثل زهير بن أبي سلمى، والافوه الأودي وآخرون.

وقد تغنى الجاهليون بشعرهم، فكانوا ينشدونه بنغم خاص، قد يصحب بآلة موسيقية، وقد يشربون ويغنون، أو يسمعون مغنياً يغنيهم بشعر. فلما انتهى "خالد بن الوليد" إلى "سوى" وأهله من بهراء، وجد ناساً منهم يشربون خمراً لهم في جفنة قد أجتمعوا عليها، ومغنيهم يقول: ألا عللاني قبل جيش أبي بكر  لعل منايانا قريب وما ندري

ونجد في الاخبار ان ملوك الحيرة والغساسنة والأثرياء كانوا يستمعون إلى الغناء وهو شعر ينشد على نغم، توقعه قينة على آلة من الآت الموسيقى، مثل الصنج والبربط، والدف، والمزهر، وآلات أخرى أخذت من الروم والفرس، وقد سبق أن تحدثت عن وجود قينتين بمكة كانتا لعبد الله بن جدعان، تغنيان له، واتخذ غيره من الموسرين والشعراء قياناً، يغنين لهم الأغاني، وأكثرهن من الموالي من روم وفرس.

والغناء كلام يجب أن يتماشى مع النغم، ولهذا ينظم نظماً يتناسب مع الإيقاع. ونجد عند اليونايين شعراً ينظم للغناء خاصة، يقال له "الشعر الغنائي" "Lyric"، وهو يختلف عن الشعر المألوف الذي لا يمكن أن يتغنى به دائماً لثقله، وعدم اتساقه مع الايقاع. ونجد في التوراة شعراً نظم خصيصاً للإنشاد وللتغني به، وهو يختلف في نظمه عن الشعر المألوف.

ولم يشر أهل الاخبار إلى وجود شعر من هذا النوع عند الجاهليين، وإن ذكروا ان الجاهليين كانوا يتغنون بالشعر، وكانت قيانهم يتغنين بشعر الشعراء. ومعنى هذا انهم كانوا يغنون ببحور الشعر المألوفة، لا بشعر غنائي خاص. ونجد في خبر "أُحد" ان "هنداً" قامت في النسوة اللواتي معها، وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضونهم، فقالت هند: إن تقبلوا نعانـق  ونفرش النمارق

أو تدربوا نفارق  فراق غير وامق 

وتقول: ويها بني عبد الدار  ويها حماة الادبار

ضرباً بكل بتار

فهذا شعر، ينسجم التغني به مع الايقاع على الدفوف، ووزنه يناسب النغم، لكنه ليس من شعر الغناء الخالص، الذي يتناسب مع الالحان المبنية على ارتفاع وانخفاض الصوت، وعلى التغير في النبرات، وعلى الجر والمط، والقصر والجزم، وما شاكل ذلك من حركات يقتضيها إيقاع اشتراك جملة آلات دفعة مع الشعر الذي يتغنى به في وقت واحد، وربما اشترك في الغناء جملة مغنيين.

ويذكر أهل الاخبار أن الغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن للعرب إلا "الحداء"و "النشيد" وكانوا يسمونه "الركبانية"، "واول من نقل الغناء العجمي إلى العربي من أهل مكة سعيد بن مسجع، ومن أهل المدينة سائب خاثر، وأول من صنع الهزج طويس"، وهو كلام قصد به أن الغناء العربي قبل الإسلام لم يكن كثير التنويع، وإنما كان مقصوراً على طرق معينة، ثم تطور في الإسلام بدخول الاعاجم فيه، وباحتكاك العرب بهم. فالشعر الجاهلي إنما كان يتغنى به بتلك الطرق المحدودة. ونحن لا نستطيع البت في هذا الموضوع، لأنه من اخبار أهل الاخبار، ولكن لا يعقل في نظري أن يقتصر غناء الحضر على هذه الانغام البدوية، وبينهم مغنون اعاجم وقيان استوردن من فارس والروم، وكن يحسن الغناء، ويتغنين بالشعر، فكان لعبد الله بن جدعان قينتان أعجميتان، تغنيان له ولضيوفه، وكان لغيره قيان، وقد ورد ان بعضهن كن يغنين بهجاء الرسول. ثم ان ملوك الحيرة كانوا على اتصال بغناء الفرس وغناء بني إرم والنبط، فلا يعقل الا يتاثروا بدروب غناء الاعجام، فدخلوها في غنائهم، ومنعوا في التغني بالشعر، والا يرز بينهم من يضع اشعارا تنسجم مع الحان الغناء.

وكان من غناء العرب "النصب"، وقد عرف به الاعراب، وهو غناء يشبه الحداء، الا انه ارق منه. وهو العقيرة. بقال: رفع عقيرته إذا غنى النصب. فهو غناء يتغنى به بشعر على طريقة معلومة، اشتهرت بها العرب أهل البوادي.

وقد لعب الجمل خطيرا في الشعر الجاهلي، وكيف لا يستأثر بمكانة مهمة في الشعر الجاهلي، وهو مرافق الاعرابي، والحيوان الوحيد الذي رضي بمصاحبته ومرافقته في الصحارى الموحشة المتعبة، ولهذا نال حقه من المدح والثناء عليه، كما الهب مشاعر الاعرابي فجعله يصفه في شعره، وصفا كاد يحيط بجميع اجزاء جسمه، وحظيت الخيل بمكان مرموق أيضاً في مملكة الحيوان المذكورة في الشعر، فالفارس لا يكون فارساً إلا بفرسه، وكان يقدم فرسه على نفسه وأهله في الطعام، لأهمية الفرس في حياته، فلا عجب إذا ما أبدع الشاعر الجاهلي في وصف الفرس، وأشاد بذكر الخيل في شعره. وحظيت الحيوانات الوحشية مثل المها والظباء، والحمار الوحشي، والأسود، على مكانة في الشعر الجاهلي كذلك، لما لها من صلة بحياة العربي.

يقول "بروكلمن": "والقصيدة، المؤلفة على نظام دقيق، ينبغي استهلالها بالنسيب، والحنين إلى الحبيبة النائية، ذلك الحنين الذي يعتري الشاعر عند رؤية أطلالها الدائرة وهو راكب في القفار. ثم يتحول الشاعر في تخلص نموذجي من مواطن لوعته وذكرياته إلى وصف مسيره في المفاوزدون انقطاع، وهو وصف قد يخرج أحياناً إلى مجرد تعداد لأسماء ما يجتازه من أماكن. ثم يخلص من ذلك إلى وصف راحلته، فإذا هو عمد في هذا الوصف إلى تشبيه راحلته ببعض حيوان الوحش استطرد أحياناً إلى وصف هذا الحيوان وصفاً شاملاً. ثم لا يتجه الشاعر إلى التعبير عن حقيقة قصده إلا في آخر القصيدة.

هذا المنهج لابد أن يكون قد رسخ منذ زمن طويل. وقد ذكر امرؤ القيس سلفاً له في الشكوى والبكاء على الأطلال، يدعى: ابن خذام، وإن لم يستطع أدباء العصر العباسي تعيين هذا الشاعر. وتبع المتأخرون هذا المنهج ولم يكادوا يجسرون على تغييره".

وقد أكثر الشعراء من استعمال بعض الجمل في افتتاح شعرهم، مثل "بانت سعاد". ذكر أن "بندر الأصبهاني"كان يحفظ تسعمائة قصيدة أول كل منها "بانت سعاد".

والشعر الجاهلي، شعر صلد متين، يميل إلى الرصانة والى استعمال اللفظ الرصين، الذي يغلب عليه طابع البداوة، وشعر هذا طابعه، لا يمكن أن يتحرر، وأن يعبر عن المعاني بحرية، إذ يكون الشاعر مقيداً بقيود الخضوع للعرف وللشكليات التي اصطلح عليها الشعراء والناس، ولهذا لم يتمكن الشعراء من التطرق إلى مختلف المعاني والتصورات الإنسانية، وصار الطابع الغالب عليه هو الطابع اللغوي، فخشونة الشعر، وجزالته وغرابته، من مميزات هذا الشعر ومن محبباته إلى النفوس، وكلما كان الشعر غريباً وبألفاظ غريبة، نال التقدير والاستحسان، لقد عمل "الأصمعي" قطعة كبيرة من أشعار العرب، لكنها لم تنل الاستحسان ولم يرض عنها العلماء "لقلة غربتها واختصار روايتها". والشعر الذي ينال التقدير، هو الشعر الخشن، الذي روي بألفاظ نجدية، ولذلك لم يحفل العلماء بشعر عدي بن زيد، لأن فيه ليونة، والعلماء يبحثون عن الشعر الخشن، الذي على العالم أن يفكر فيه ويعمل رأيه فيه طويلاً، ويفكر ويغوص فيه حتى يجد معناه.

واشتهر بعض الشعر بشهرة عرف ونعت بها، مثل قصيدة: "سويد بن أبي كاهل"، واسمه "عطيف بن حارثة" اليشكري ويقال الوائلي، ويقال الغطفاني، التي عرفت ب"اليتيمة"، وهي قصيدة عينية. قيل عرفت بذلك لما اشتملت عليه من الأمثال. وهو من الشعراء المخضرمين. وعرفت القصيدة التي نظمها "خداش بن زهير"، في هشام والوليد ابنا "المغيرة" المخزوميان، وفي "عبد الله بن جدعان "بالمنصفة. وذلك لإنصافه خصومه في شعره. ومن المنصفات قول "المفضل" النُكري: كأن هزيزنا يوم التـقـينـا  هزيز أباءة فيهـا حـريق

وكم من سيد منّا ومنـهـم  بذي الطرفاء منطقه شهيق 

لقد مر الشعر بمراحل، سنة كل شيء في هذه الدنيا. بدأ بدائياً لبداءة أصحابه، ثم تطور بتطور الناس، تطور من حيث معانيه وأفكاره، وتطور من حيث قوالبه وأشكاله، أي بحوره. واقتضى هذا التطور ومرور الزمن وتغير الإنسان، ظهور أوزان جديدة، أوجدها الشعراء هروباً من التقليد، وخروجاً على التقاليد، وابتداعاً من الشاعرية، لتقدم لعشاق الشعر لوناً جديداً من ألوان النظم، يمتاز على المعروف المألوف المتوارث، بنفس جديد، وبموسيقية حديثة تناسب الزمان والمكان، كما هو شأن الشعر عند كل أمة، فتعددت ألوانه وبحوره، حتى إذا كان الإسلام ضبطت ألوانه في بحور جمعها "علم العروض" المعروف.

أما أسماء أولئك المجددين في الشعر الجاهلي، فقضية لا يمكن البت بها، ولا إصدار حكم فيها. فنحن لا نعرف من أمر الشعر الجاهلي إلا هذا الذي يرويه أهل الأخبار عنه، وهو لا يستند -كما قلنا-إلى سند جاهلي مدون، ولا إلى كتاب من كتب أهل الجاهلية ولا إلى ديوان من دواوينهم، بل روي رواية وحكى حكاية، وأقام الاسلاميون على هذا المروي قواعد نظرياتهم في الشعر الجاهلي. ولم يرد في هذا المروي أي شيء عن كيفية ظهور بحور الشعر الجاهلي، ولا عمن جدد وأوجد هذه البحور. وليس لنا أي أمل في إمكان الحصول في المستقبل على علم جديد عن تطور ذلك الشعر وعن ابتكار رجاله الجاهليين فيه، ما دام سند علمنا هذا المورد القائم على الرواية القديمة. أما إذا عثر على نصوص مدفونة عربية جاهلية أو أعجمية فيها بحوث عن الكلام المنظوم عند العرب، فذلك شيء آخر بالطبع. ومثل هذه النصوص هي التي يكون في وسعها وحدها تقديم صورة علمية واضحة عن الشعر الجاهلي.

ومن رأي بعض أهل الأدب، "أن مُقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربعَ، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها ...ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق ...لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقاً منه بسبب، وضارباً فيه بسهم، حلال أو حرام. فإذا استوثق من الاصغاء اليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل وحرّ الهجير، وانضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل.

فالشاعرُ المجيد من سلك هذه الأساليبَ، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم يطل، فيمل السامعين، ولم يقطع النفوس ظمأ إلى المزيد".

وزعموا ان هذا كان نهج شعراء الجاهلية في نظم شعرهم، ونهج شعراء صدر الإسلام، حتى اختلط العرب بالعجم، وانتقل العرب من حياة إلى حياة، وظهر الشعراء الأعاجم الذين لم يتمكنوا من غسل أدمغتهم من المعاني الأعجمية، ومن التفكير الأعجمي، فنظموا الشعر بالعربية، ولكن بمعان أعجمية جديدة، وجاءوا ومن تأثر بالحضارة العربية الجديدة التي ظهرت في البلاد المفتوحة بآراء مستجدة، وظهر التجديد في الشعر العربي، وابتعد بذلك عن اسلوب الشعر الجاهلي.

ويتوقف طول الشعر وقصره على "نفس الشاعر"، أي على الظروف النفسية التي تحيط بالشاعر حين ينظم شعره، وبالمؤثرات التي أثرت عليه. وقد سئل "أبو عمرو بن العلاء"، "هل كانت العرب تطيل? قال: نعم ليسمع منها. قيل: هل كانت توجز ? قال: نعم ليحفظ عنها. ويستحب عندهم الإطالة عند الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب والإصلاح بين القبائل كما فعل زهير والحارث بن حلزة ومن شابههما، وإلا فالقطع أطير في بعض المواضع والطوال للمواقف المشهورة".

وقد ذهب "غرونبام" إلى امكانية تقسيم الشعر الجاهلي إلى مدارس أدبية متميزة، جعلها ستة مدارس أو أتجاهات أو مذاهب بتعبير أصح. تضم الشعراء الذين ولدوا ما بين سنة 440 و 530 م على وجه التقريب. "وليس معنى هذا أنه ليس هنالك شعراء تتجافى طبيعتهم نفسها عن مثل هذا التقسيم وتشذّ عنه. فإن الشاعرين الصعلوكين الشهيرين تأبط شراً والشنفري، هما المثلان البارزان على مثل هذه المواهب الفردية. ولعل من أمتع الأمور، ما يتجلى في آثار تلك الفئة من الشعراء، الذين عاشوا في بلاط الحيرة، من مظاهر الحضارة الساسانية. فأبو دؤاد الايادي "حوالي 480-550 م"، والشاعر النصراني عديّ بن زيد "حوالي 545 -585 م"، يتجلى في شعرهما خليط من العقلية البدوية والتفكير الحضلاي. وطرفة "حوالي 535-538 م" وكذلك الأعشى، ينقلان إلى العراق سياقاً فنياً آخر لمدرسة أخرى ينتمي أعلامها إلى قبيلة قيس بن ثعلبة، من بنب بكر بن وائل، هذا وليس من شك في أن الأعشى هو أكبر مالك لأزمة اللغة بين شعراء الجاهلية، وان المشاهد البهجة في قصائده تنم عن تأثير الشعراء الساسانيين. ثم إن امرأ القيس بن حجر الأمير الكندي "حوالي 500-540 م"أشهر شعراء العرب الجاهليين وأبعدهم أثراً، كان نظير طرفة، صاحب احدى القصائد النموذجية المعروفة بالمعلقات. ومعاصره عبيد بن الأبرص يمثل قمة مدرسة أخرى من هذه المدارس.

وقبل أن يتجرم القرن السادس، كانت وحدة اللغة واتساق الاسلوب، قد قطعا مرحلة واسعة نحو التبلور. وقد تداخلت هذه المدارس عن طريق تجمع المفردات وتوارد الصور الشعرية، لكن هذا التطور لم يتسع فيشمل جماعات الشعراء التي عاشت إلى جانب التيار الرئيسي الذي جرى فيه الشعر العربي. وأهم مدارس هذا العصر المتأخر هي مدرسة الشعراء الهذليين التي برزت آثارها ما بين سنة 550-700 م. وكان من الموضوعات التي اختصت بها هذه الجماعة وصف النحل والعسل. ومثل هذه الأوصاف قد استتبعت ضرباً من الخصوبة في مشاهد الطبيعة لا سيما حيث ألحت بالشاعر الرغبة في جمع العسل البري.

ويشتمل ديوان الهذليين على قصائد كثيرة لأفراد ما نظموا الشعر ألا لماماً. و لا بد ههنا من التأكيد أنه كان إلى جانب الشعراء "المحترفين"، عدد عظيم من الشعراء "الهواة" والذين عمدوا، بين الفينة والفينة، إلى التعبير بالشعر عن عواطفهم ورغباتهم. وهذا يعلل لنا ما نجده دائماً من أبيات هي من حيث التأريخ وليدة عصر واحد، لكنها ليست كذلك من حيث درجة الاتقان. فشعر غير المحترفين يغلب أن يكون دون شعر المحترفين بنحو من جيل على أقل تقدير. ولما لم تكن هذه الظواهر قد أخذت حتى الآن بالاعتبار الكافي، فقد ساعد ذلك على استمرار الاعتقاد بجمود الشعر القديم في سياقه الموحد. وقد بقي في مؤخرة الركب-لكن ثقافياً لا فنياً- الرجز الذي هو أقرب إلى الأدب الشعبي. على أن الفاصل ما بين الرجز والقريض -وهو الشعر بالمعنى المعروف-قد ظلحاداً إلى عهد متأخر جداً".

وبعد، فهناك مسائل تتصل بتطور الشعر الجاهلي أرى ان من المستحيل حلها في الوقت الحاضر، لعدم وجود أدلة علمية مقبولة يمكن أن يركن اليها لحل ما عندنا من عقد مستعصية، مثل نشأة وتطور الشعر العربي، وكيف نشأت القصيدة، وعدد الأوزان والبحور العروضية التي سار عليها الجاهليون في وزن الشعر، والتزام القافية أو عدم التقيد بها في الشعر، ومتى نشأت القصيدة، ثم هل كانت لغة الشعر لغة واحدة، خاصة كما نراها في الشعر الجاهلي المدون، أم لم تكن، وانما كان الشعراء ينظمون بلهجاتهم من الوجهة اللفظية والنحوية والصرفية، ولكن علماء الشعر في الإسلام، هذّبوا تلك الأشعار حتى جعلوها بلهحة واحدة، هي اللهجة التي وصلت الينا، واذا كان هذا هو ما جرى، فما هي نسبة التحوير التي أوقعها العلماء على ذلك الشعر ?

القديم والحديث

مشكلة القديم والحديث، وتصادم الحديث مع القديم، وتفضيل الناس القديم على الحديث، من المشاكل التي شغلت الإنسان منذ ظهوره على سطح الأرض حتى اليوم. فالحديث ينافس القديم، ليحل محله، والقديم يصر على حقه في البقاء وفي جدارته في الخلود. والجيل الجديد يريد أخذ القيادة من الجيل القديم، والجيل القديم لا يريد إعطاءها لأحد إلا إذا كان من جيله، لأنه أقدر في نظره على إدراك الأمور، وأكثر تجارباً وخبرة وحكمة من الأحداث جماع الجيل الجديد، مع أن كل قديم هو محدث في زمانه بالاضافة إلى من كان قبله، وكل جديد سييصير قديماً بالنسبة إلى من يأتي بعده، ولسبب آخر، هو ان القديم، هو الحاكم المتنفذ، فلا يهون عليه التنازل عن حقه لمستجد.

وقد شغلت هذه المشكلة أذهان الجاهليين ولا شك، كما شغلت أذهان الاسلاميين، فشعراء العصر الأموي، كانوا يرون في شعرهم إبداعاً لم يكن عند من سبقهم من المخضرمين والجاهليين، غير ان الناس في أيامهم، لم يكونوا يعطون شعرهم من التقدير ما أعطوه للشعر القديم، كانوا يرونه"مولداً"بالاضافة إلى شعر الجاهلية والمخضرمين، وكان لا يعد الشعر إلا ما كان للمتقدمين.

وكان الشعر القديم، هو الشعر الممتاز المقدم عند علماء الشعر واللغة، فكان "أبو عمرو بن العلاء" يقول: "لقد أحسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته "لكنه لم يستشهد به، ولم يجعل الجيد الممتاز من الشعر المولد في منزلة الشعر القديم، لسبب واحد هو قدم الشعر الجاهلي. "قال الأصمعي: جلست اليه ثماني حجج فما سمعته يحتج ببيت إسلامي، وسئل عن المولدين، فقال: ما كان من حَسَن فقد سبقوا اليه، وما كان من قبيح فهو من عندهم، ليس النمط واحداً، ترى قطعة ديباج، وقطعة مسيح، وقطعة نطع. هذا مذهب أبي عمرو وأصحابه: الأصمعي، وابن الأعرابي، أعني أن كل واحد منهم يذهب في أهل عصره هذا المذهب، ويقدم مَنٌ قبلهم، وليس ذلك الشيء إلا لحاجتهم إلى الشاهد، وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون، ثم صارت لجاجة".

وقد رجعَ "الجاحظ" سبب هذا الركض وراء الشعر الجاهلي إلى لجاجة علماء اللغة في البحث عن كل شعر يستفاد منه في الشواهد، إذ يقول: "ولم أرَ غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب، ولم أرَ غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، ولم أرَ غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل". ويقول: "طلبت علم الشعر عند الأصمعي، فوجدته لا يعرف إلا غريبه، "الألفاظ والمعاني العربية"، فسألت الأخفش، فلم يعرف إلا إعرابه، فسألت أبا عبيدة فرأيته لا ينفذ إلا فيما اتصل بالأخبار ؛ ولم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب، كالحسن بن وهب وغيره".

لقد كان القدم، هو المقياس الأول في تقدير الشعر في ذلك الحين. فالشعر القديم محبوب مطلوب، مقدم على الحديث، مهما كان في الشعر الحديث من إبداع في المعنى وفي القالب. قال عبد الله التميمي. "كنا عند ابن الأعرابي، فأنشده رجل شعراً لأبي نواس أحسن فيه فسكت. فقال له الرجل: أما هذا من أحسن الشعر ? قال: فقال: بلى، ولكن القديم أحب الي".

وقد بلغ من تعظيم بعضهم للقديم، انهم كانوا يرون المعاني على مقادير أصحابها من الشعراء، فالمعنى الذي يكون لامرئ القيس يكون كامرئ القيس في اعتباره وإجلاله وتحاميه أن يتلقى بالرد والمواجهة، ولذا فشا الغلط بينهم في تفسير الشعر وأخذ منه التصحيف كل مأخذ.

فالقدم وحاجة العلماء إلى الشعر القديم للاستشهاد به، والبحث عن الغريب، كانت كلها من العوامل أعطت للشعر القديم منزلة لم ينلها شعر المعاصرين، فأغاظ ذلك الشعراء المحدثين، وجعلهم يحنقون على علماء اللغة، ويسخرون منهم ومن عروضهم ونحوهم، ولم يخفف من غلواء هؤلاء العلماء إلا تغير الزمن، وبروز الأدباء الذين نظروا إلى الأدب نظرة أخرى، نظرة تقدر "الجيد" من الشعر من غير نظر إلى زمانه أو قائله.

ولابن قتيبة رأي في الشعر يخالف رأي "أبي عمرو بن العلاء" وأصحابه، رأيه في قيمة الشعر رأي الجاحظ الذي ذكرته، وقد عرضه بقوله: "رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، و لا عيب له عنده إلا انه قيل في زمانه، أو انه رأي قائله.

ولم يقصر الله العلمَ والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوماً دون قوم، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره، وكل شرف خارجية في أوله".

وقال: "ولم أسلك، فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختاراً له، سبيلَ من قلّد، أو استحسن باستحسان غيره، و لا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، والى المتأخر بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلاً حظه، ووفرت عليه حقه".

قال خلف الأحمر: قال لي شيخ من أهل الكوفة: أما عجبتَ من الشاعر قال: أنبتَ قيصوماً وجثُجاثاً 

فاحتُمِلَ له، وقلت أنا: أنبتَ إجاصاً وتفاحاً 

فلم يُحتمل لي ?".

ومن شدة عجب الناس بالشعر الجاهلي انهم جعلوه انموذجاً لشعرهم ودليلاً لهم وهادياً في أصول نظم الشعر، من محافظة على مظهر القصيدة وعلى "عمود الشعر". وجعلوا الشكل الخارجي، الذي رسم للقصيدة من ذكر الديار والدمن والآثار إلى آخر ما قالوه عن ترتيب المراحل التي يجب أن تمر بها القصيدة، ثم عمود الشعر مقياسين، قاسوا بموجبها الشعر الجيد من الشعر الرديء، وميزوا بينهما بهذين المقياسين. "فالشاعر المجيد مَن سلك هذه الأساليب، وعدّل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيملّ السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد".

وكان "الجاحظ" وهو من شيوخ الأدباء، يرى مذهب الأديب في تقدير الشعر وتثمينه، يرى أن الشعر بمواضع الحسن منه، وبالمعاني الجليلة التي فيه، وعلى الألفاظ العذبة التي تشتمله، وفي ذلك يقول: "وقد أدركت رواة المسجديين والمربديين، ومن لم يروِ أشعار المجانين ولصوص الأعراب، ونسيت الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعار اليهود، والأشعار المنصفة -فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة. ثم استبردوا ذلك كله ووقفوا على قصار الأحاديث والقصائد والفقر والنتف من كل شيء، ولقد شهدتهم وما هو إلاّ أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب، فصار زهدهم في نسيب العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب، ثم رأيتهم منذ سُنيات وما يروى عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعرأو فتياني متغزل.

وقد جلست إلى أبي عبيدة والأصمعي ويحيى بن نُجيم وأبي مالك عمرو بن كركرة مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحداً منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده، وكان خلف يجمع ذلك كله.

ولم أرَ غاية النحويين إلاّ كل شعر فيه إعراب، ولم أرَ غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، ولم أرَ غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل، ورأيت عامتهم - فقد طالت مشاهداتي لهم -لا يقفون على الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن، وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي ان صارت في الصدور عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني. ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتاب أعم، وعلى ألسنة حذاق الشعر أظهر ؛ ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعاراً من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التحفظ والتذاكر، وربما خُيل إليّ أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أن يقولوا شعراً جيداً، لمكان إغراقهم في أولئك الآباء، ولولا أن أكون عيّاباً ثم للعلماء خاصة، لصورت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعتُ من أبي عبيدة، ومن هو أبعدُ في وهمك من أبي عبيدة".

وكانت نظرة المبالغة هذه في تقدير الشعر القديم من جملة العوامل التي حملت جهابذة العلماء الخبراء بأساليب الشعر الجاهلي المتقنين له على وضع الشعر على ألسنة الجاهليين وعلى اذاعته ونشره بين الناس. فقد وجدوا ان سوقه رائجة، وان ما يقدمونه منه لطلابه يقدر تقديراً عظيماً، وان ما ينظمونه هم وينشرونه باسمهم لا ينال مثل ذلك التقدير. وقد يحفل به. وان بعض خلفاء بني أمية كان لهم عرف بحفظه ذلك الشعر، أرسلوا اليه، ليتحفهم بما عنده، ثم يجزلون له العطاء، على حين كانوا لا يعطون على الشعر الذي ينظمونه أو ينظمه الشعراء الأحياء إلا قليلاً، وإلا إذا كان مدحاً لهم وتزلفاً اليهم. فدفعهم حرصهم المادي هذا على صنع الشعر وإسناده إلى الشعراء الجاهليين. وهم لو نسبوه اليهم لصار فخراً لهم، يثمنه لهم من يجيء بعدهم، ولكنهم ما كانوا ليحصلوا عليه شيئاً مغرياً، ففضلوا المادة على الشهرة التي تأتي اليهم بعد الموت.

وقد اتخذ بعض العلماء ورجال الأدب موقفاً وسطاً بين المحدثين، من الشعراء الذين قيل لشعرهم: المولد، وبين الشعراء المتقدمين، فقال "ابن رشيق": "ليس التوليد والرقة أن يكون الكلام رقيقاً سفسافاً، ولا بارداً غثاً، كما ليست الجزالة والفصاحة أن يكون حُوشياً خشناً، ولا أعرابياً جافاً، ولكن حال بين حالين".

ولم يتقدم امرؤ القيس والنابغة والأعشى إلا بحلاوة الكلام وطلاوته، مع البعد من السخف والركاكة، على أنهم لو أغربوا لكان ذلك محمولاً عنهم، إذ هو طبع من طباعهم، فالمولد المحدث-على هذا-إذا صح كان لصاحبه الفضل البين بحسن الاتباع، ومعرفة الصواب، مع أنه أرق حَوٌكاً، وأحسن ديباجة.

الفصل الثامن والاربعون بعد المئة
القريض والرجز والقصيد

ويقال للشعر: القريض وهو الاسم كالقصيد، والقرض: قول الشعر خاصة، والتقريض صناعته. وقد فرّق "الأغلب العجلي"بين الرجز والقريض بقوله: أرجزاً تريد أم قريضاً?  كليهما أجِدُ مستريضا

وقد ورد أن أصحاب رسول الله كانوا يتقارضون، أي يقولون القريض وينشدونه. وورد أن "المنذر" ملك الحيرة حين أراد قتل "عبيد بن الأبرص" قال له: أنشدني من قولك، فقال عبيد: حال الجريض دون القريض، فذهب قوله مثلاً. و "قال النحاس: القريض عند أهل اللغة العربية الشعر الذي ليس برجز".

ويلاحظ ان للعرب وإن قالوا: "نظمتُ الشعر ونظمته"، وقصدوا ب "النظم" الشعر، وعرّفوا الشعر بأنه "منظوم الكلام"، غير انهم كانوا يقولون أيضاً: "قال شعراً"، و"وهو يقول الشعر"، وفي القرآن: )وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون (، و)الشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون. وانهم يقولون ما لا يفعلون (. ويقولون: قول شاعر.

والشعر في تعريف علمائه: "منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية"، وهو "الكلام المقفى الموزون قصداً"، ومن صيروا الكلام نوعين: كلام منظوم، وكلام منثور. والفرق بينهما هو في وجود الوزن والقافية في الشعر، وفي عدم وجودهما في الكلام المنثور. وتوجد هذه النظرة عند "أفلاطون"، و"فيثاغورس"، وهي تختلف بعض الاختلاف عن رأي "أرسطو" في الشعر.

"وزعم الرواة أن الشعر كله إنما كان رجزاً أو قطعاً، وأنه إنما قُصدّ على عهد هاشم بن عبد مناف، وكان أول من قصّده مهلهل وامرؤ القيس، وبينهما وبين مجيء الإسلام مائة ونيف وخمسون سنة. ذكر ذلك الجمحي وغيره. وأول من طول الرجز وجعله كالقصيد الأغلب العجلي شيئاً يسيراً، وكان على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم أتى العجّاج فافتنّ فيه فالأغلب العجلي والعجاج في الرجز كامرء القيس ومهلهل في القصيد".

والقصيد من الشعر ما تمَّ شطر أبياته، سمي بذلك لكماله وصحة وزنه. قال "ابن جني": "سمي قصيداً لأنه قصد واعتمد وإن كان ما قصر منه واضطرب بناؤه نحو الرمل والرجز شعراً مراداً مقصوداً. وذلك ان ما تمّ من الشعر وتوفر آثر عندهم وأشد تقدماً في أنفسهم مما قصر واختل، فسمّوا ما طال ووفر قصيداً، أي مراداً مقصوداً، وإن كان الرمل والرجز أيضاً مرادين مقصودين، والجمع قصائد". وذكر علماء الشعر: "سمي الشعر التام قصيداً، لأن قائله جعله من باله قصداً ولم يحتسه حسياً على ما خطر بباله وجرى على لسانه، بل رويّ فيه خاطره واجتهد في تجويده، ولم يقتضبه اقتضاباً، فهو فعل من القصد". "وقالوا شعر قصيد إذا نقح وجوّد وهذب".

جاء في قول شاعر: قد وردت مثل اليماني الهزهار  تدفع عن أعناقها بالاعـجـاز

أعيت على مقصدنا والرّجاز

يقال: أقصد الشاعر وأرمل وأهزج وأرجز، من القصيد والرمل والهزج والرجز.

والرجز عند العرب كل ما كان على ثلاثة أجزاء، وهو الذي يترنمون به في عملهم وسَوقهم ويَحٌدون به. هذا هو تعريفه عند بعض العلماء. وعَرَّفه بعضهم: أنه بحر من بحور الشعر معروف ونوع من أنواعه يكون كل مصراع منه مفرداً، وتسمى قصائده أراجيز، واحدتها أرجوزة، وهي كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر، ويسمى قائله راجزاً كما يسمى قائل بحور الشعر شاعراً وعرفه آخرون أنه شعر ابتداء أجزائه سببان ثم وتد، وهو وزن يسهل في السمع ويقع في النفس. وذكر أن كل شعر تركب تركيب الرجز سُمي رجزاً. والرجز في الوقع سجع موزون. ونجد شبهاً في التوراة، حيث ورد على ألسنة الحكماء العبرانيين في سفر الأمثال وعلى لسان بلعام الحكيم، الذي جعله بعض العلماء لقمان الحكيم المذكور في القرآن.

وذكر بعض العلماء ان الرجز انما سمي رجزاً لأنه تتوالى فيه في أوله حركة وسكون ثم حركة وسكون إلى أن تنتهي أجزاؤه، يشبه بالرجز في رجل الناقة ورعدتها، وهو أن تتحرك وتسكن ثم تتحرك وتسكن، وقيل سمي بذلك لتقارب أجزائه واضطرابها وقلة حروفه، وقيل لأنه صدور بلا أعجاز. وقيل الرجز ضرب من الشعر معروف وزنه مستفعلن ست مرات، فابتدأ أجزائه سببان ثم وتد، ولذلك جاز أن يقع فيه المشطور وهو الذي ذهب شطره والمنهوك، وهو الذي قد ذهب منه أربعة أجزاء وبقي جزءان. وذهب بعض العلماء إلى ان الرجز ثلاثة أنواع غير المشطور، والمنهوك، والمقطع.

وهو تام ومختصر. والمختصر، أنواع: المجزوء والمشطور والمنهوك. وذُكر ان الذي جرى على لسان الرسول من الرجز ضربان: المنهوك والمشطور.

والأرجوزة القصيدة من الرجز، وهي كهيأة السجع إلا انه في وزن الشعر، والجمع أراجيز. ويسمى قائله راجزاً ورجّازاً، ورجازة، ومرتجز. وقد فرّق علماء الشعر بين الشاعر والراجز، فأطلقوا لفظة "الشاعر" على من ينظم الشعر، أي "القصيد"، وأطلقوا كلمة"الراجز" على من يرتجز الرجز. فنجدهم يقولون: الأغلب الراجز، والعجاج الراجز، وأبو الزحف الراجز ودكين الراجز وغيرهم.

وقد اختلف في طبيعة الرجز، فمنهم من جعله شعراً صحيحاً، وضرباً من الشعر، معروف وزنه، ومنهم من جعله صنفاً من أصناف الكلام قائماً بنفسه ليس بشعر، ولا بسجع، وإنما مجازه مجاز الشعر. ونسب إلى "الخليل" قوله: الرجز شعر صحيح في رواية، وقوله: إنه ليس بشعر، وإنما هو أنصاف أبيات وأثلاث في رواية أخرى. ومرّد اختلافهم فيه هو ما ورد على لسان الرسول من الرجز المنهوك والمشطور، وما ورد في القرآن الكريم من قوله: ) وما علمناه الشعر وما ينبغي له(، و)انه لقول رسولٍ كريم. وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون. و لا بقول كاهن، قليلاً ما تذكرون(. وما ورد في كتب الحدبث والأخبار من أن الرسول لم يكن ينشد الشعر و لا يقوله وينظمه، لأنه لم يكن شاعراً وما كان له أن يقوله، وأنه إذا استشهد بالشعر، لم يقمه على وزنه، وإنما كان ينشد الصدر أو العجز، ثم يجيء بالنصف الثاني على غير تأليف الشعر، لأن نصف البيت لا يقال له شعر و لا بيت، ولو جاز أن يقال لنصف البيت شعراً لقيل لجزء منه شعر. وقد جرى على لسان النبي: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. فلو كان شعراً لم يجر على لسانه. وجاء على لسانه.

هل أنتٍ إلا اصبعُ دميت  وفي سبيل الله ما لقيت

فالرجز اذن ليس بشعر.

وقد ردّ من يقول إن الرجز شعر على قول من يقول إنه ليس بشعر، بقوله: "معنى قول الله عزّ وجلّ: وما علمناه الشعر وما ينبغي له، أي لم نعلمه الشعر فيقوله ويتدرب فيه حتى ينشئ منه كتباً، وليس في انشاده صلي الله عليه وسلم البيت والبيتين لغيره ما يبطل هذا لأن المعنى فيه أنا لم نجعله شاعراً"، مطبوعاً على نظم الشعر وقوله، ولهذا فلا صلة لموضوع أصل الرجز، هل هو نوع من الشعر، أو ليس بنوع منه مع ما جاء من نفي الشعر عن الرسول.

وورد في الحديث، ان الرسول كان يرتجز برجز "عبد الله الأنصاري" الشاعر النقيب، وهو ينقل التراب يوم الخندق ويقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا  و لا تصدقنا و لا صلينا 

فأنزلن سكينة علـينـا  وثبت الأقدام إن لاقينـا

إن الأعداء قد بغوا علينا  إذا أرادوا فتنة أبـينـا

ورويت الأبيات بصورة أخرى، فقد روي انه "لما خرج عامر بن الأكوع إلى خيبر جعل يرجز بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسوق به الركاب، وهو يقول: تا لله لولا الله ما اهتـدينـا  وما تصدقنا ولا صلـينـا

الكافرون قد بغوا علـينـا  إذا أرادوا فـتـنة أبـينـا

ونحن عن فضلك ما استغنينا  فثبت الأقـدام إن لاقـينـا

وأنزل سكينة علينا وموضوع أصل الرجز اذن، موضوع ظهر في الإسلام، لما ورد في الأخبار من ارتجاز الرسول بعض الرجز، ولما ورد في القرآن الكريم وفي الحديث من نفي قول الشعر ونظمه عنه. فرأى فريق من العلماء إخراج الرجز من الشعر، لما بينته من أسباب. ورأى فريق آخر، ان الرجز جزء من الشعر، وان ارتجاز الرسول الرجز، لا يتعارض مع ما جاء في القرآن الكريم، لأن الرسول لم يتدرب عليه ولم يتعلمه ولم ينشأ منه أراجيز، وانما ارتجز منه قليلاً من غير قصد و لا عمد، ولا علاقة لذلك بالانكباب على تعلم الشعر والتخصص به. والدليل على ان الرجز نوع من أنواع الشعر، هو ما يرويه أهل الأخبار أنفسهم من أن قريشاً اجتمعوا إلى "الوليد بن المغيرة" وكان ذا سن فيهم، ليتدبروا أمر الناس إذا حضر الموسم، ولإيجاد جواب موحد لهم في أنر القرآن وفيما يجب قولهم فيه. فلما قالوا له: نقول انه قول كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن و لا سجعه. قالوا: فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر". فالرجز-إن صح هذا الخبر-هو مثل الهزج والقريض والمقبوض والمبسوط صنف من أصناف الشعر، ولون من ألوانه، ومن هذه الأصناف المذكورة تكون الشعر في نظر الجاهليين.

فالرجز إذن صنف من أصناف الشعر، وبحر من بحوره، له وزن وإيقاع، هكذا كانت نظرة أهل الجاهلية اليه. وهو في الواقع شعر. و "الرّجاز شعراء عند العرب وفي متعارف اللسان".

"وليس يمتنع على المقصّد امتناع القصيد على الراجز، ألا ترى أن كل مقصد يستطيع أن يرجز وان صعب عليه بعض الصعوبة، وليس كل راجز يستطيع أن يقصّد، واسم الشاعر وإن عمّ المقصد والراجز فهو بالمقصد أعلق، وعليه أوقع، فقيل لهذا شاعر، ولذلك راجز، كأنه ليس بشاعر، كما يقال خطيب أو مرسل أو نحو ذلك".

ولسهولة الرجز على اللسان لم ينظر اليه نظرة إكبار مثل نظرتهم إلى الشعر. هذا "أبو العلاء" المعري، يجعل جنة الشعراء جنّة سامقة، لها بيوت عالية، أما جنة الرجز، فجنة أبياتها ليس لها سموق أبيات الجنة، جعل فيها: أغلب بني عجل، والعجاج، ورؤبة، وأبو النجم، وحميد الأرقط، وعُذافر بن أوس، وأبو نخلة، ثم يقول: "تبارك العزيز الوهابُ? لقد صدق الحديث المروي: إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها. وإن الرجز لمن سفساف القريض، قصرتم أيها النفر فقصر بكم".

ويعد الرجز من أقدم أنواع الشعر، ومن أبسطه وأيسره على الإنسان. ثم هو خفيف على النفس، فيه طرب وتأثير، وهو مطاوع يؤدي أغراضاً مختلفة، ويصلح لأن يعبر عن أحاسيس متنوعة، حتى يكاد أن يكون مطيّة الشعراء، يركبها كل من له طبع وذوق وحس مرهف، ومن هنا صار شعر من كان لا يقول الشعر أو لا يحضره إلا في الملمات والأزمات.

وهو في نظري أقدم من "القصيد"، لأنه أبسط منه وأسهل على النظم، فهو يمثل المرحلة الأولى من مراحل الشعر المألوف. وقد تكون سهولته في النظم، هي التي جعلت كبار الشعراء يأنفون من النظم به، فهو باب يمكن أن يلجه الشعراء الصغار، وربما يتغلبون به على كبار أهل القصيد، ولعل سهولته هذه قصرت في عمره، إذ جعلت الذاكرة تنساه بسرعة، لسهولته هذه، كما يسرع نسيان السجع والكلام الاعتيادي من الذاكرة. فضاع بسبب ذلك الرجز الجاهلي، ولم تبق منه غير بقية قليلة.

واستعمل الرجز في أحوال البديهة والارتجال، وقد ارتجز في القتال، وفي الحداء والمفاخرة، وما جرى هذا المجرى، واستعمل في الأعمال التي تحتاج إلى تنشيط واثارة همم، لما فيه من ملاءمة لذلك. فلما بنى المسلمون مسجد الرسول بالمدينة، وكان الرسول يحمل "اللبن" معهم، كان الصحابة يرتجزون الرجزو لإثارة الهمم وللتخفيف من وطأة العمل. قال "أبو عبيدة: انما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك، إذا حارب أو شاتم أو فاخر، حتى كان العجاج أول من أطاله وقصّده، ونسب فيه، وذكر الديار، واستوقف الركاب عليها ووصف ما فيها، وبكى على الشباب، ووصف الراحلة، كما فعلت الشعراء بالقصيد. فكان في الرجّاز كامرئ القيس في الشعراء... وقال غيره: أول من طوّل الرجز الأغلب العجلي، وهو قديم، وزعم الجمحي وغيره انه أول من رجز، و لا أظن ذلك صحيحاً، لأنه انما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نجد الرجز أقدم من ذلك".

ويعد "الأغلب بن جشم بن عمر بن عبيدة بن حارثة العجلي" أول من نحا بالرجز منحى القصيد، فأسبغه وأطاله. وهو من المخضرمين. وقد قتل بنهاوند سنة "21 ه". وهو الذي جاء إلى "المغيرة بن شعبة"، فقال له: أرجزاً تريد أم قصـيدا  لقد طلبت هينا موجودا 

وكان الخليفة "عمر"- على ما يذكره أهل الأخبار- كتب إلى المغيرة وهو على الكوفة أن استنشد من قبلك من الشعراء عما قالوه في الإسلام مكان الشعر، فكتب بذلك إلى"عمر" فكتب اليه أن أنقص من عطاء الأغلب خمسمائة فزدها في عطاء لبيد.

وروي أن "العجاج"، وهو "عبد الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر بن كثيف بن عمرو"أبو الشعثاء التميمي، والد الشاعر "رؤبة"، هو أول من رفع الرجز وشبهه بالقصيد، وجعل له أوائل. وهو من شعراء الإسلام، وكان يفد على ملوك أمية من امثال الوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك.

وهو قليل الورود في شعر الشعراء الجاهليين، فقلما استعمل "نوابغ الشعراء في زمان الجاهلية" "الرجز، كأنه ليس أهلاً لمنزلتهم. ففي ديوان امرئ القيس لا نعثر إلا على أربع مقطعات صغيرة منه. أعني اثنتين من المشطور واثنتين من غير المشطور. وأكثر من امرئ القيس ارتجازاً لبيد بن ربيعة من الذين أدركوا الإسلام تنسب اليه خمس عشرة مقطّعة في الرجز المشطور، تدور على المفاخرة والحكمة والمعاتبة والمديح والرثاء، وتشتمل إحداها وهي أطولها على ستة عشر بيتاً.

أما دواوين النابغة الذبياني، وزهير بن أبي سُلمى، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد، وعلقمة الفحل، فلا شيء فيها من الرجز. وعلى كل حال لم يكن الارتجاز في زمان الجاهلية إلا بصفة قطع صغيرة يقولها الناس غالباً في الهجاء أو في الحرب وعند اللقاء. أما في القرن الأول للهجرة، فأخذ بعض الشعراء من الفحول ينظمون الشعر في ذلك البحر المحتقر فإلى هذا التغير أشار ابن رشيق القيرواني في كتاب العمدة حين قال: قال أبو عبيدى انما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك إذا حارب أو شاتم أو فاخر حتى كان العجاج أول من أطاله وقصّده ونسب فيه وذكر الديار واستوقف الركاب عليها ووصف ما فيها وبكى على الشباب ووصف الراحلة كما فعلت الشعراء بالقصيد، فكان في الرجّاز كامرئ القيس في الشعراء. وقال غيره أول من طوّل الرجز الأغلب العجلي، وهو قديم. وزعم الجمحي وغيره أنه أول من رجز، و لا أظن ذلك صحيحاً، لأنه انما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نجد الرجز أقدم من ذلك.

ولكن لاشكّ في وقوع سهوٍ في آخر كلام ابن رشيق، لأنه من الواضح أن الجمحي إنما أراد بقوله استعمال بحر الرجز في نظم الشعر مثل القصائد، فليس من الممكن أن رجلاً عالماً بتأريخ الشعر ودقائقه مثل الجمحي جهل ما هو متداول عند كل العلماء أن الرجز من أقدم فنون الشعر عند عرب الجاهلية. وقول الجمحي صواب تؤيده عدة نصوص منها شهادة العجاج من أشهر شعراء الأراجيز الذي قال مفتخراً: وإن يَكُن أمسى شبابي قد حسر  وفترت مني البواني وفـتـر

إني أنا الأغلبُ أضحى قد نُشِرٌ يعني أنه احيا طريقة الأغلب. وهو الأغلب بن جشم العجلي عاش في الجاهلية مدة وأدرك الإسلام وأسلم وله شعر في سجاح لما تزوجت مسيلمة الكذاب".

و"الهزج"نوع من أعاريض الشعر، من الأغاني وفيه ترنم. وهو باب معروف من أبواب الشعر عند الجاهليين، كباب الرجز، بدليل جعل "الوليد ابن المغيرة" اياه صنفاً من أصناف الشعر. وقد عرف من كان يقول الهزج ب"الهزاج" و "أهزج" إذا هزج الهزج، أي قال به. والهزاجون طبقة امتازت عن غيرها بقولها الهزج، وكانوا يرددونه ترديد الغناء، ولذلك عدّ من الأغاني، لطيبه لأن الهزج من الأغاني. فهي إذن من الشعر الغنائي "Lyric".

وقد استعمل العرب الهزج في أناشيد التنشيط للقتال، وفي المناسبات العامة، مثل الأفراح، والتجمعات، حيث يترنم القوم جماعة بأنغام الهزج، فالهزج شعر مقرون بغناء وترنيم.

و"الرمل" من الشعر كل شعر مهزول غير مؤتلف البناء. قال بعض العلماء عنه: "وأما الرمل فإن العرب وضعت فيه اللفظة نفسها، عبارة عندهم عن الشعر الذي وضعه أهل الصناعة، لم ينقلوه نقلاً علمياً و لا نقلاً تشبيهياً. وبالجملة فإن الرمل كل ما كان غير القصيد من الشعر وغير الرجز". وقد أخذ علماء العروض اللفظة والمعنى كما سمعوها من العرب ولم يحدثوا عليهما أي تغيير. مما يدل على أنه كان من الأبواب المميزة المعروفة عند الجاهليين. وذلك مثل الرجز والقصيد، والمقبوض والمبسوط، على نحو ما ذكرت قبل قليل.

وأما "القصيد" من الشعر، فما تم شطر أبياته أو شطر أبنيته، سمي بذلك لكماله وصحة وزنه. سمي قصيداً لأنه قصد واعتمد، وإن كان ما قصر منه واضطرب بناؤه نحو الرمل والرجز شعراً مراداً مقصوداً، وذلك ان ما تم من الشعر وتوفر آثر عندهم وأشد تقدماً في أنفسهم مما قصر واختل، فسمّوا ما طال ووفر قصيداً، أي مراداً مقصوداً، وإن كان الرمل والرجز أيضاً مرادين مقصودين. وقيل "القصيد من الشعر المنقح المجوّد المهذب الذي قد أعمل فيه الشاعر فكرته ولم يقتضبه اقتضاباً كالقصيدة".

والقصيد، جمع القصيدة، وقيل: الجمع قصائد وقصيد. سُمي قصيداً لأن قائله احتفل له فنقحه باللفظ الجيد والمعنى المختار، وقالوا: سمي الشعر التام قصيداً لأن قائله جعله من باله فقصد له قصداً ولم يحتسه حسياً على ما خطر بباله وجرى على لسانه، بل روي فيه خاطره واجتهد في تجويده ولم يقتضبه اقتضاباً. ويقال قصد الشاعر وأقصد، إذا أطال وواصل عمل القصائد. والذي في العادة أن يُسمى ما كان على ثلاثة أبيات أو عشرة أو خمسة عشر قطعة، فأما ما زاد على ذلك فإنما تسميه العرب قصيدة. "وقيل: إذا بلغت الأبيات سبعة فهي قصيدة، ولهذا كان الإيطاء بعد سبعة غير معيب عند أحد من الناس. . ومن الناس من لا يعد القصيدة إلا ما بلغ العشرة وجاوزها ولو ببيت واحد. ويستحسنون أن تكون القصيدة وتراً، وأن يتجاوز بها العقد، أو توقف دونه". فالقصيدة اذن كلمة طويلة بالنسبة إلى القطعة، فيها وحدة أطول هي وحدة القصيدة، التي تعرف بفتافيتها. ويعبر عنها بلفظة "كلمة" "الكلمة" مجازاً، كما عبر عنها في المؤلفات القديمة.

وينسب إلى "الأخفش"قوله:"القصيد من الشعر هو الطويل، والبسيط التام، والكامل التام، والوافر التام، والرجز التام، والخفيف التام، وهو كل ما تغنى به الركبان، ولم نسمعهم يتغنون بالخفيف". و "القصد" مواصلة الشاعر عمل القصائد وإطالته كالإقصاد. قال الشاعر: قد وردت مثل اليماني الهزهاز  تدفع عن أعناقها بالاعـجـاز

أعيت على مقصدنا والرجاز

وكلمة "قصيدة" من الكلمات المستعملة في الشعر الجاهلي. جاء ان أحد شعراء "بكر بن وائل" سخر من تغلب لما كانت تتباهى به من ترديدها لقصيدة شاعرها "عمرو بن كلثوم" في مدح نفسه وقومه، فقال: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة  قصيدة قالها عمرو بن كلثـوم

يروونها أبداً مذ كان أولـهـم  يا للرجال لشعرٍ غير مسـئوم

وورد في شعر للمسيب بن قوله: فلأهدين مع الرياح قصيدة  مني مغلغلة إلى القعقاع

فاللفظة إذنمن الألفاظ التي استعملها الجاهليون، بمعناها المفهوم. وقد بحث في أصلها علماء اللغة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب. وللمستشرقين كلام في أصلها وفي معناها. ذهب بعض منهم إلى أنها من القصد والغرض، وإنها قيلت في شعر الطلب أولاً، ثم أطلقت على كل شعر آخر، ولهذا اقترح بعضهم ترجمتها ب"شعر الطلب" أو "شعر التسول"، و عارض هذا التفسير بعض آخر، لأن التسول في رأيهم لم يكن الغرض الأول من نظم الشعر، وإنما كان غرضاً من أغراضه، ثم إن أقدم الشعراء الذين قصّدوا القصائد لم يكونوا من الشعراء المتسولين، وإنما كانوا من المترافعين المتعالين، ولهذا رفضوا تفسير القصيد بشعر التسول والطلب، وقال "بروكلمن": "إذا صح ان لفظ القصيد بعيد القدم، فمن الممكن أن يكون الغرض والقصد بحسب الاصل غرضاً من أغراض السحر، وكثيراً ما صار غرضاً سياسياً في وقت متأخر، ثم صار يستعمل بأوسع معاني الكلمة في جميع أغراض الحياة الاجتماعية، وان كان من الحق أنه استعمل أيضاً منذ عهد قديم في أغراض أنانية محضة".

وتعرف "القصيدة" ب"القافية" كذلك. واستشهد العلماء على ذلك بقول الخنساء: فنحكم بالقوافي من هجانـا  ونضرب حين تختلط الدماء 

وبقول آخر: نبئت قافية قيلت تنـاشـدهـا  قوم سأترك في أعراضهم ندبا 

وذكروا ان "القافية"في قول حسان بن ثابت: فنحكم بالقوافي من هجانـا  ونضرب حين تختلط الدماء 

قد تعني "القصيدة"، وقد تعني البيت منها. "قال الأزهري:العرب تسمي البيت من الشعر قافية، وربما سمّوا القصيدة قافية، ويقولون رويت لفلان كذا وكذا قافية. والقافية هي "ميقف"في العبرانية.

وأطلقت على القصيدة لفظة "كلمة"، وقد استعملها "ابن سلام" في مواضع من كتابه "طبقات الشعراء". فتجده يقول: "ومن شعر حسان الرائع الجيد ما مدح به بني جفنة من غسان ملوك الشام في كلمة"، ثم ذكر القصيدة، ثم يقول: "وقوله في الكلمة الأخرى الطويلة"، و "قال في يوم أُحد كلمة قال فيها"، ويقول "وكان أبو الصلت يمدح أهل فارس حين قتلوا الحبشة في كلمة قال فيها"، و "السموأل بن عادياء يقول في كلمة له طويلة"، ووردت في مواضع عديدة أخرى بهذا المعنى وفي بقية كتب الشعر والأدب.

وتتألف القصيدة من أبيات. والبيت هو بيت الشعر. ويتكون البيت من شطرين. و "الشطر" نصف الشيء. فشطر البيت نصفه. والبيت في القصيدة الجاهلية وحدة معنوية مستقلة قائمة بذاتها، إذا انتزعت بيتاً منها، أو تركت بيتاً، أو قدمت فيها بيتاً على بيت، أو أخرت في أبياتها، فأنك لا تكاد تفصم عرى القصيدة ولا تؤثر على ترابط معناها في الغالب، لأن كل بيت منها وحدة قائمة بذاتها لا تتصل بما قبلها أو بما بعدها إلا بسبب الوزن والقافية.

وقد عرفت بعض الأبيات بالأوابد. والأوابد من الشعر: الأبيات السائرة كالأمثال. وذكر أن الأوابد الشوارد من القوافي، ورد في كتب اللغة: "ومن المجاز أبد الشاعر يأبد أبوداً، إذا أتى العويص في شعره. وهي الأوابد والغرائب وما لا يعرف معناه على بادئ الرأي".

وتكون القصائد طويلة في الغالب نأما "القطع"، فهي أقصر من القصيدة. وقد كان "ابن الزبعري"، لا ينظم القصائد الطوال، ويميل إلى القطع، وكان عذره "ان القصار أولج في المسامع، وأجول في المحافل". وللشعراء الطوال والقصار، كل حسب المناسبة. وقد اختتمت بعض القصائد الجاهلية بالحكم والأمثال وبالأقوال المأثورة. وللقصائد الطوال المحبوكة حبكاً حسناً، والمنظومة نظماً جيداً، سابقة وقدم على مثيلاتها من القصائد الوسط أو القصيرة، ومن هنا اختار "حماد" الراوية "السبع الطوال" "السبع الطول" من الشعر الجاهلي، وزعم في أصلها ما زعم. ونظم القصيدة الطويلة، يحتاج إلى نفس طويل، والى تمكن من الشعر، وإلا أصابها الوهن والعجز، ومن هنا عدّ أصحاب المطوّلات الجيدة من أحسن الشعراء.

وقد ذهب "غرونباوم" إلى أن القصيدة العاشرة من القصائد المنسوبة إلى "عمرو بن قميئة"، ربما تكون أقدم قصيدة تامة وصلت النا من الشعر الجاهلي، "على أنها لم تكن بعد تفي بجميع مقتضيات النقاد النظريين، لأنها لا تشمل، في الأبيات التسعة عشر التي تلي النسيب، إلا على وصف سحابة ممطرة، ومدح رجل يدعى امرأ القيس بن عمرة. ولو ان هذه القصيدة تأخرت عن العصر، بوقت قصير، لاعتبرت أثراً غثاً. وليس السبب في ذلك أن عدد أبيات القصيدة من بعد قد أزداد إلى ضعفين أو ثلاثة أضعاف، أو بلغ أو جاوز المائة، وإنما هو في كثرة المشاهد التي حشدت حتى تحققت هذه المنظومات الرائعة. ومن شواهد ذلك قصيدتان للاعشى" حوالي 565-629م " هما الأولى والسادسة من ديوانه وأولى قصائد أبي ذؤيب الهذلي"ت حوالي 650م"، وفيها تصوير لسلطة القدر المحتوم في ثلاثة مشاهد مؤثرة تمثل مصرع حمار الوحش القوي وثور الوحش الهائج، والفارس الشاكي السلاح المستجن بدرعه. وإذ كان الحافز لقول القصيدة هو وفاة ابن الشاعر، فقد جمعت هذه القصيدة جمعاً موفقاً بين مزايا المرثية وخصائص القصيدة".

وقد بلغ الشعر الجاهلي ذروته عند ظهور الإسلام. كان الشعراء في هذا العهد ينظمون القصيد ببحوره التي ضبطت وثبتت في الإسلام، في مقاصد أشرت اليها في موضع آخر من هذا الجزء من الكتاب، كما كانوا قد طوّروا الرجز وتفننوا فيه. وقد أدى ظهور الإسلام إلى إحداث تغير في نمط القصائد، لأن الإسلام حدث تأريخي جاء برأي في شؤون الحياة جديد، فكان لا بد للشعراء من مجاراة هذا التيار الفكري، لا سيما بعد خروج العرب من جزيرتهم وانتشارهم في أرضين جديدة غنية، وحكمهم لأقوام كانت لهم حضارة، فكان لا بد من تأثر النفس بالوضع الجديد، والشعر تعبير عن النفوس والأحاسيس.

والقافية من الشعر الذي يقفو البيت، سميت قافية لانها تقفوه، أو لأن بعضها يتبع أثر بعض. وقيل:هي آخر كلمة في البيت، أو الحرف الذي تبنى عليه القصيدة، وهو المسمى روياً. وعرّف "الخليل" القافية بقوله: "القافية من آخر حرف ساكن فيه، أي في البيت، إلى أول ساكن يليه مع الحركة التي قبل الساكن". وأرى ان هذا التعريف قد أخذه "الخليل" من أهل الكتاب.

فالقافية بهذا التعريف تقابل Maqqeph "مقف" "مقيف"عند العبرانيين، و"المقيفات"هي التي تحدد الشعر، وتجعل من الكلام المؤلف من "مقيفات"شعراً، ولا يستبعد استعمال الجاهليين لهذا المصطلح استعمال العبرانيين والسريان له، فلما دوّن "الخليل"علم العروض أخذ هذا المصطلح منهم، ودليل ذلك ورود لفظة "قافية" و "القوافي" في الشعر قبل أيام الخليل، ثم اختلاف العلماء وتباين آرائهم في معنى القافية.

ويذكر أهل الأخبار أن "مهلهل بن ربيعة"، وهو خال "امرئ القيس" الشاعر، وجدّ "عمرو بن كلثوم" هو اول من قصد القصائد. وقد قال "الفرزدق" فيه: ومهلهل الشعراء ذاك الأول 

فهو اول شعراء القصائد، وهو متقدم على "امرئ القيس".

ويرى "فون غرونباوم" ان الشعراء حرصوا منذ حوالي السنة 500 م على التصريع في المطلع، ثم التزم قافية واحدة في جميع أبيات القصيدة، من أولها إلى آخرها، بحيث يسوغ القول: إن القافية الواحدة ادل على وحدة القطعة الشعرية من المعاني الواردة فيها.

"ويتجلى في أقدم المحفوظ من الشعر العربي تنويع عظيم في الوزن، وصقل بارع في التعبير اللغوي. وهذا يعني أنه كان قد نشأ، قبل ذلك، مذهب شعري ينص على التنويع والصقل المشار اليهما. واخذت الاقطار المختلفة تؤثر أوزاناً مختلفة، ويكاد يكون من المرجح ان الفرس قد تركوا، في شعر الأقدمين من شعراء العراق، تأثير بالغاً في الطريقة الفنية. فهنالك وزنان على الاقل، امتاز بهما هؤلاء الشعراء هما الرمل والمتقارب، وربما زدنا اليهما الخفيف زويبدو انها جميعاً اقتبست من أصول فارسية بهلوية نوحورت بما يلائم الأوضاع العربية.

وربما كان للسريان فضل ما في وضع المصطلحات الفنية الأولى مثل كلمة "البيت" أي "الخيمة" لتدل على الوحدة الجزئية من القصيدة. لكن كان لنظرية الفن العروضي، على العموم نشأة مستقلة، فالخليل بن احمد "ت 175ه-791 م"، وضع قواعد العروض العربي بعد ذلك بزمن طويل، وقد بقيت قواعده معتمد الادباء عبر القرون. فقد أقر الخليل ستة عشر وزناً، واطرح بعض الأوزان الهزيلة التي كان القدماء قد استنبطوها. ثم إنه جرى على طريقة، جرى عليها الحاة من بعد في الرمز إلى صيغة اللفظة، فأشار إلى وحدة الإيقاع الشعري بصيغة مشتقة من فعل".

وقد تكلف الناس كثيراً، وحملوا أنفسهم حملاً ثقيلاً، باعتذارهم عن امور متكلفة وردت في شعر زعم انه كان للقدماء من الشعراء، فالتصريع مثلاً، إذا كثر استعماله في القصيدة دل في نظر العلماء بالشعر على التكلف، إن كان من المحدثين، أما إذا كان من المتقدمين، فلا يعد متكلفاً في نظرهم، واعتذروا عنه بأنه جرى على عادة الناس، لئلا يخرج عن المتعارف. ومن هذا القبيل التصريع المنسوب إلى امرئ القيس: تروح من الحي أم تبتكـر  وماذا عليك بأن تنتـظـر

أمرخُ خيامهم أم عـشـر  أم القلب في إثرهم منحدر 

وشاقك بين الخليط الشطر  وفيمن أقام من الحي هر

ونسبوا إلى "امرئ القيس" "المسمط" من الشعر. والشعر المسمط الذي يكون في صدر البيت أبيات مشطورة أو منهوكة مقفاة، وتجمعها قافية مخالفة لازمة للقصيدة حتى تنقفي. وقيل: أبيات مشطورة تجمعها قافية واحدة وهو الذي يقال له عند المولدين "المخمس". ومن انواعه المسبع والمثمن، وقيل المسمط من الشعر ما قفى أرباع بيوته وسمط قافية مخافة. يقال: قصيدة مسمطة وسمطية. ومن الشعر المسمط المنسوب إلى امرئ القيس قوله: ومستلئم كشفت بالرمـح ذيلـه  أقمت بعضب ذي سفاسق ميله

فجعتُ به في ملتقى الخيل خيله  تركت عتاق الطير تحجل حوله 

كان على أثوابه نضح جـريال

ونسب له قوله: توهمت من هند مـعـالـم أطـلال  عفاهنَّ طول الدهر في الزمن الخالي 

مرابع من هند خـلـت ومـصـايفُ  يصيح بمغناهـا صـدى وعـوازف

وغيَّرها هوجُ الرياح الـعـواصـف  وكـل مـسـف ثـم آخــر رادف

باسحم من نوء السماكـين هـطّـال

وتعرض "المعري" للتسميط في رسالة الغفران، حين التقى بامرئ القيس ، فسأله: "أخبرني عن التسميط المنسوب إليك، أ صحيح هو عنك ? وينشده الذي يرويه بعض الناس: يا صحبنا عرّجـوا  نقف بكـم أسـج

مهـرية دُلًـــج  في سيرها مُعـج

طالت بها الرحل

فعرّجوا كلهم  والهم يشغلـهـم

والعيس تحملـهـم  ليست تعلـلـهـم

وعاجت الرمـل

يا قوم إن الهوى  إذا أصاب الفتـى

في القلب ثم ارتقى  فهدّ بعض القوى

فقد هوى الرجل

فيجيب "المعرى" على لسانه بقوله: "لا والله ما سمعت هذا قط، وإنه لقرى لم اسلكه، وان الكذب لكثير، وأحسب هذا لبعض شعراء الإسلام، ولقد ظلمني وأساء إلي! أبعد كلمتي التي أولها: ألا انعم صباحاً أيها الطلـل الـبـالـي  وهل ينعمن من كان في العصر الخالي 

وقولي: خليلي مرا بي على أم جنـدب  لاقضي حاجات الفؤاد المعذب 

يقال لي مثل ذلك? والرجز من أضعف الشعر، وهذا الوزن من أضعف الرجز".

ونسبوا اليه كثرة التصنع في غير أول القصيدة، وكثرة استعمال الضرب المقبوض في الطويل، وكثرة الأقواء في القافية. ويعد الاقواء من عيوب الشعر، غير أننا لا نستطيع مجاراة علماء العروض في هذا الرأي، إذ يجوز ألا يكون الاقواء عيباً عند أهل الجاهلية وانما صار عيباً في الإسلام، بعد تثبيت قواعد اللغة والبحور. ونجد الرأي مثبتاً في رسالة الغفران.

ولا يمكن ان نتصور ان القصائد الجاهلية الطويلة قد نظمت على نحو ما يرويها أهل الاخبار، دون أجراء أي تغيير أو تحوير عليها. فقد كان الشاعر ينفعل فينظم قصيدته ويحفظها روايته ويذيعها بين الناس، ثم يحدث أن تخطر له خواطر أو يسمع نقداً موجهاً لبعض ابياتها أو توجيهاً يبديه له بعض أصدقائه أو يسمع تنبيهاً موجهاً اليه بوجود شيئ في قصيدته غفل عنه، فيجري بعض التغيير عليها من تعديل أو زيادة أو نقصان، قد يحفظ ويروي، وقد يهمل ويترك، ولهذا فنحن لا نستطيع الإدعاء: ان نظم القصائد كان نظماً تاماً، لم يشمله أي تعديل أو تبديل، وان الشاعر لم يكن ينشد قصيدته إلا بعد ان يكون قد اطمأن منها وضبطها ضبطاً تاماً.

"ومن الشعراء من يحكم القريض ولا يحسن من الرجز شيئاً، ففي الجاهلية منهم: زهير، والنابغة، والأعشى. وأما من يجمعهما فأروء القيس وله شيئ من الرجز، وطرفة وله كمثل ذلك، ولبيد وقد أكثر".

وليس في مستطاع أحد اثبات ان البحور المدونة في علم العروض، هي كل بحور الشعر الجاهل وأوزانه، لم يهمل منها وزن، ولم ينس منها بحر، لأن على من يدعي هذه الدعوى، إثبات ان الاسلاميين الذين جاءوا بعد الجاهليين قد أحاطوا علماً بكل الشعر الجاهلي، وانهم أحصوه عدداً، فلم يتركوا منه بيتاً ولا قطعة ولا قصيدة. وعلماء الشعر ينفون ذلك ويقولون::والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والاسلالم، أكثر من ان يحيط بهم محيط، أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو انفذ عمره في التنقير عنهم، واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال. ولا احسب احد من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر الا عرفه، ولا قصيدة الا رواها".

ويرى "غرونباوم" أن الشعر الجاهلي قد تطور: "وتتجلى فيه معالم التطور بصورة واضحة: فمن ذوبان اللهجات المتعددة في لغة واحدة، تجمع فيها تراث المدارس المختلفة واللهجات المتباينة بصورة متزايدة حتى تحقق حوالي سنة 600، إلى زيادة القيود في نظام العروض الفني، فإن ظفر بعض الفئات باستنباط تعابير جديدة لم يكن أن شاعت تدريجياً في أوساط اخرى، وأخيراً إلى اتجاه سياق الشعر نحو الإتساع وعدد أبيات القصيدة إلى الازدياد. إن تحليل هذا النمو السريع نسبياً، على ضوء ما نعرفه عن المخلفات القديمة ليحملنا على الاعتقاد بأن وضع تأريخ معين يحدد بدء الشعر العربي الفني أمر متعذر، ولكن الغالب على الظن ان اوائل هذا الشعر لا تتخطى أقدم المدونات التي بلغتنا بزمن طويل. وهذا الحكم إنما ينطبق على الطبقة الشعرية الثالثة والاخيرة لا غير. ولئن تعاصرت هذه الطبقات الشعرية الثلاث معاً في الفترة الجاهلية المذكورة، فمن البديهي أنها لم تبرز إلى الوجود في وقت واحد".

التلميط

وهو أن يتساجل الشاعران فيصنع هذا قسيما وهذا قسيماًً لينظر أيهما ينقطع قبل صاحبه، وفي الحكاية أن أمرأ القيس قال للتوأم اليشكري: إن كنت شاعراً كما تقول فملط أنصاف ما أقول فأجزها، قال نعم. فقال أمرؤ القيس: أحار ترى بريقاً هب وهنا 

فقال التوأم اليشكري: كنار مجوس تستعر استعارا 

فقال أمرؤ القيس: أرقت له ونام أبو شريح 

فقال التوأم: إذا ما قلت قد هدأ استطارا 

فقال امرؤ القيس: كأن هزيمة بوراء غيثٍ 

فقال التوأم: عشار وإله لاقت عشارا 

فقال امرؤ القيس: فلما أن علا مكتفي أضاخ 

فقال التوأم وهت أعجاز رييه فحارا فقال امرؤ القيس فلم يترك بذات السر ظبياً 

وقال التوأم: ولم يترك بجهلتها حمارا 

فلما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في ذلك الحرس من يماتنه، إلى ألا ينازع الشعر أحداً آخر الدهر.

وذكر أن شعر التوأم في هذا التمليط، أقوى من شعر أمرئ القيس، لأن امرأ القيس مبتدئ ما شاء، وهو في فسحة مما اراد، والتوأم محكوم عليه بأول البيت، مظطر في القافية التي عليها مدراها جميعاً، ومن هنا عرف له امرؤ القيس من حق المماتنة ما عرف. ونازع أيضاً علقمة بن عبدة، فكان من غلبة علقمة عليه ما كان.

والمماتنة المعارضة في حجدل أو خصومة، والمباهاة في الجري أو في الشعر، بان يتماتن شاعران أو أكثر ليتبين أيهم أشعر.

وقد يمتحن بعضهم بعضاً قول الشعر، كأن يقول أحدهم بيتاً أو نصف بيت، ثم يقول لصاحبه: أجز، ليقدم مثله، قيل: قال زهير بن أبي سلمى بيتاً ثم اكدى، ومر به النابغة الذبياني، فقال له: يا أبا أمامة، أجز، قال: ماذا? قال: تزال الارض إما مت خفا  وتحيا ما خييت بها ثقيلا

نزلت بمستقر العز منهـا  . . .

فماذا قال? فأكدى النابغة أيضاً، واقبل كعب بن زهير، وهو غلام، فقال ابوه: أجز يا بني، فقال:ماذا? فأنشده البيت الاول ومن الثاني قوله: نزلت بمستقر العز منها، فقال كعب: فنمنع جانبيها أن يزولا ومن الاجازة قول حسان بن ثابت: متريك أرباب الامور إذا اعترت  أخذنا الفروع واجتنبنا أصولهـا

وأجبل، فقالت ابنته: يا أبت، الا اجيز عنك، فقال: أو عندك ذاك? قالت: بلى، قال: فأفعلي، فقالت: مقاويل للمعروف خرس عن الخنا  كرام يعاطون العشيرة سولـهـا

فحمى حسان عند ذاك، فقال: وقافية مثل السنان ردفتـهـا  تناولت من جو السماء نزولها 

فقالت ابنته: يراها الذي لا ينطق الشعر عنده  ويهجز عن امثالها أن يقولهـا

الفصل التاسع والاربعون بعد المئة
العروض

والعربوض ميزان الشعر، سمي بن لأنه به يظهر المتزن من المنكسر عند المعارضة بها. وذكر الاخباريون جملة تفسيرات لسبب تسميتهم العروض عروضاً، منها أنه علم الشعر، الهم الخليل به بمكة، ومكة من العروض، فقيل لهذا العلم عروضاً، ومنها انما سمي عروضاً لأن الشعر يعرض عليه، ومنها أنه انما عرف بعروض الشعر، بقولهم:فواصل أنصاف الشعر، وهو آخر النصف الأول من البيت. فالنصف الأول عروض، لأن الثاني يبنى على الأول، والنصف الأخير الشطر. أو لان العروض طرائق الشعر وعموده مثل الطويل، فيقال هو عروض واحد. واختلاف قوافيه يسمى ضروباً. أو لأنه إن عرف نصف البيت، وهو العروض سهل تقطيع البيت حينئذ، ولذلك قيل له العروض. وذهب البعض إلى انه إنما عرف بذلك من العرض، لأن الشعر يعرض على هذه الأوزان فما وافق كان صحيحاً وما خالف كان سقيماً. وقيل من العروض، أي الطريق التي في الجبل، والمراد الطريق التي سلكتها العرب، وقيل لما شبهوا البيت من الشعر ببيت الشعر، شبهوا العروض الذي يقيم وزنه بالعروض، وهي الخشبة المعترضة في سقف البيت، كما شبهوا الأسباب بالأسباب والأوتاد بالأوتاد، والفواصل بالفواصل. وعلم العروض، هو علم الشعر والقافية، ويرادفه علم الوزن: وزن الشعر، ويدل اختلافهم الشديد في تعريفه على عدم وجود رأي واضح عند العلماء عن منشأه وعن كيفية ظهوره.

وعندي ان في اختلاف العلماء هذا الاختلاف الشديد في سبب تسمية العروض عروضاً، دلالة على ان اللفظة من الألفاظ التي كانت مستعملة قبل الإسلام، وانها لم تكن من وضع "الخليل"، وانما كانت لفظة قديمة جاهلية قصد بها النظر في الشعر والتبصر بدروبه وأبوابه وطرقه، فلو كانت الكلمة اسلامية ومن وضع "الخليل" لما وقع بينهم هذا الاختلاف، وما كان "الخليل" ليهمل السبب الذي حمله على اختيار هذه التسمية، ولسأله العلماء حتماً عن السبب الذي جعله يسمي هذا العلم عروضاً، فقد عوّدنا العلماء، انهم إذا وقفوا أمام أمر قديم جاهلي، وهم لا يعرفون من خبره شيئاً، جاءوا بآراء متباينة وبتعليلات مختلفة، لبيان العلل والأسباب. ولو كان العروض من العلوم أو المسميات التي وضعت في الإسلام، لما اختلفوا في تعريفه هذا الاختلاف، وفي اختلافهم هذا الاختلاف في تعريفه، دلالة على قدمه قياساً على ما عرفناه عنهم، من اختلافهم في تفسير المصطلحات والمسميات القديمة.

وقد قال قوم في الإسلام لا حاجة إلى العروض، لأن من نظم بالعروض شق ذلك عليه وأتى به متكلفاً، ومن نظم بالطبع السليم والسليقة جاء شعره طبيعياً سليماً. و لا بد وأن تكون هذه المعارضة قد ظهرت بعد ظهور علم العروض وتدوينه وتثبيت قواعده، ومحاولة العروضيين فرض سلطان قواعدهم على الشعر والشعراء، ولما كان الشعراء ينظمون الشعر بسليقتهم وفق عرفهم الذي ألفوه وتعودوا عليه، وعن طبع وموهبة فيهم، لم يحفلوا بالعروض، وصار العروض علماً يحفظه من لا يقرض الشعر الرفيع العالي المنبعث عن شاعرية وعاطفة وهيجان خاطر، وصار شعر العروضي شعراً متكلفاً في الغالب، لا يداني شعر الشعراء الذين يقولون الشعر، وهم أحرار طلقاء، لعدم وجود الموهبة الشعرية فيهم، والبصر بالعروض يجعل من حافظه شاعراً.

والمعروف بين الناس أن العروض وضع في الإسلام، وضعه "أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم" الفراهيدي الأزدي اليحمدي "100-170، 175". استخرج الأوزان، ودوّن البحور، "وكان غاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس. وهو أول من استخرج العروض وحصن به أشعار العرب". وقد عرف ب"صاحب العروض". وقيل عنه: كان "الغاية في تصحيح القياس، واستخراج مسائل النحو وتعليله"، "وهو أول من استخرج علم العروض، وضبط اللغة... وكان أول من حصر أشعار العرب...روي عنه أنه كان يقطع العروض فدخل عليه ولده في تلك الحالة فخرج إلى الناس وقال: إن أبي قد جُنّ. فدخل الناس عليه وهو يقطع العروض فأخبروه بما قال ابنه، فقال له: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني  أو كنت تعلم ما أقول عذلتكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتنـي  وعلمت أنك جاهل فعذلتكا"

و"الخليل" نفسه من الشعراء، وقد أورد العلماء له شعراً. وقد أورد "ابن قتيبة" له أبياتاً، عقب عليها بقوله: "وهذا الشعر بيّن التكلفِ رديء الصنعة. وكذلك أشعار العلماء، ليس فيها شيء جاء عن إسماح وسهولة، كشعر الأصمعي، وشعر ابن المقفع، وشعر الخليل، خلا خلف الأحمر، فإنه كان أجودهم طبعاً وأكثرهم شعراً.

وقد تعرض "أبو الحسين أحمد بن فارس" لموضوع نشأة النحو والعروض في الإسلام، فقال: "فإنا لم نزعم ان العرب كلها-مدراً ووبراً-قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها. وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم: فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة، وأبو حيّة كان أمس، وقد كان قبله بالزمن الأطول من يعرف الكتابة ويخط ويقرأ، وكان في أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كاتبون". "أفيكون جهل أبي حيّة بالكتابة حجة على هؤلاء الأئمة? والذي نقوله في الحروف، هو قولنا في الإعراب والعروض. والدليل على صحة هذا وان القوم قد تداولوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحطيئة التي أولها: شاقتك أظعان لـلـي  لى دون ناظرة بواكر 

فنجد قوافيها كلها عند الترنم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علم الحطيئة بذلك لأشبه أن يختلف إعرابها لأن تساويها في حركة واحدة اتفاقاً من غير قصد لا يكاد يكون.

فإن قال قائل: فقد تواترت الروايات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية، وأن الخليل أول من تكلم في العروض، قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول إن هذين العلمين قد كانا قديماً، وأتت عليهما الأيام، وقلاّ في أيدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان، وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب. وأما العروض فمن الدليل على انه كان متعارفاً معلوماً اتفاق أهل العلم على ان المشركين لما سمعوا القرآن قالوا-أو من قال منهم-انه شعر. فقال الوليد بن المغيرة منكراً عليهم، لقد عرضت ما يقرأه محمد على أقراء الشعر: هزجه ورجزه وكذا وكذا، فلم أره يشبه شيئاً من ذلك. أفيقول الوليد هذا وهو لا يعرف بحورالشعر?وقد زعم ناسُ ان علوماً كانت في القرون الأوائل والزمن المتقادم، وانها درست وجددت منذ زمان قريب، وترجمت وأصلحت منقولة من لغة إلى لغة. وليس ما قالوا ببعيد".

"ومن الدليل على عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم بالعربية كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء والهمز والمد والقصر. فكتبوا ذواتالياء بالياء، وذوات الواو بالواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكناً في مثل "الخبء" و"الدفء" و "الملء" فصار ذلك كله حجة، وحتى كره العلماء ترك أتباع المصحف من كره".

فابن فارس إذن من الذين رأوا أن العرب الجاهليين كانوا على علم بالعربية وبعروض الشعر، قبل "أبي الأسود الدؤلي" و "الخليل بن أحمد الفراهيدي". وأن فضل الرجلين على العلم، إنما هو في جمع علم الأوائل وتثبيته وتدوينه، وهو فضل لا ينتقصه هليهما منتقص. وهو استنتاج يتفق مع قواعد المنطق تمام الاتفاق. لأن من غير المعقول أن يضع إنسان قواعد لغة أو قواعد شعر، من غير أن يكون له علم سابق بأنواع الكلام وباختلاف الاقراء وبالأسس اللغوية والنحوية التيلابد من تعلمها حتى يتمكن المرء من بناء قواعد أساسية عليها ومن حصر دائرة العلم والإحاطة بأغصان شجرة ذلك العلم، ويكاد يكون من المستحيل وضع قواعد العربية، أو علم العروض على النحو الذي يعرضه علينا علماء اللغة والشعر، من رجل لا علم مسبق له بقواعد اللغة وبأمور الشعر.

وفي خبر أن رسول الله دخل المسجد فرأى رجلاً يحدث الناس بأنساب العرب وأيامها وبالأشعار، والعربية، فقال رسول الله: "ذاك علم لا يضر من جهله و لا ينفع من علمه، وانما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة وما خلاها فهو فضل". والأمور المذكورة هي مما كان يتحدث به أهل العلم والثقافة من الجاهليين. والشعر في طليعة تلك الموضوعات، و لا يراد به انشاده فقط، بل كانوا ينشدونه ويذكرون المناسبات المتعلقة به ومزاياه وعيوبه، ولا أعتقد ان المراد بالعربية مجرد تفسير المفردات، بل كل ما يخصها من أمور. وفي جملة ذلك أخطاء القول، وقواعد العرب في القول.

ويذكر أهل الأخبار ان الذي حمل "الخليل" على وضع العروض، هو انه مر بسوق الصفارين أو بحارة القصارين، فسمع الدق بأصوات مختلفة، فأعجبه، وقال: والله لأضعن على هذا المعنى علماً غامضاً، فصنع هذا العروض على حدود الشعر وجعل بحورها ستة عشر بحراً. وهي قصة باردة من قصص أهل الأخبار، فقد كانوا يضعون مثل هذا القصص حين يُسألون عن أمور، لا يكون لهم علم بها، وهل يعقل أخذ الخليل بحوره من دق مطارق الصفارين المزعجة، التي تخرش الأذان، وتبعد الإنسان عن التفكير، وتطير من الدماغ ما قد يكون فيه من علم. فالقصة من مخترعات أهل الأخبار وضعوها في ايجاد سبب لوضع هذا العلم، فربطوا بين دق مطارق الصفارين وبين تقطيع الشعر.

و لا يعقل في نظري أن يكون الخليل قد وضع العروض من غير علم مسبق بأصول نظم الشعر عند أهل الجاهلية. اذ لا يمكن للحس المرهف وحده أن يبتكر العلم ابتكاراً من غير علم مسبق وقواعد سابقة وأصول مقررة معروفة. و لايعقل أن يكون الخليل قد وضع الأسماء والمصطلحات والتعاريف بنفسه من غير رجوع إلى علم سبق للشعراء الجاهليين أن وضعوه، ومن رجوع إلى قواعد ومصطلحات سبق ان كانت مقررة، ففي أخبار أهل الأخبار أن أهل الجاهلية كان لهم علم بالشعر، كالذي ذكرته من مثل "حال الجريض دون القريض"، وما روي على لسان "الوليد بن المغيرة"من قوله في اتهام قريش للرسول من أنه شاعر: "لقد عرفت الشعر ورجزه وهزجه وقريضه فما هو به". وما روي عن إسلام "أبي ذر الغفاري": ومن قول أخيه "أنيس" له: "لقيت رجلاً على دينك يزعم أن الله أرسله" فلما سأله "أبو ذر" "فما يقول الناس? قال: يقولون ساحر كاهن شاعر. وكان أنيس أحد الشعراء، فقال: والله لقد وضعت قوله على اقراء الشعر فلا يلتئم على لسان أحد، أي على طريق الشعر وبحوره". وقد ورد أن أهل "يثرب"كانوا يعرفون "الاقواء" و"الإكفاء" في الشعر، وكانوا يعدوّنها من عيوب الشعر. وقد علمنا أن مصطلح "الرجز" و"الهزج" و "الرمل" و "القصيد" وأمثال ذلك هي من مصطلحات أهل الجاهلية. ثم إن أكثر مصطلحات العروض هي مصطلحات كانت معروفة في الجاهلية، وقد أخذت من حياتهم، فهي ليست بمصطلحات مبتكرة، حتى نقول إن الخليل أوجدها من عنده، وان علم العروض علم مستحدث نتيجة لذلك، أوجده الخليل بملاحظاته وذكائه من دون علم سابق بأصول الشعر.

وورد أيضاً، ان "عتبة بن ربيعة" لما مدح القرآن، لما تلاه رسول الله، قالت له قريش: هو شعر، قال: لا لأني عرضته على أقراء الشعر، فليسهو بشعر. أقراء الشعر: طرائقه وأنواعه. وسئل "الحطيئة"عن "زهير بن أبي سلمى"، فقال: "ما رأيت مثله في تكفيه على أكناف القوافي، وأخذه بأعنتها حيث شاء". وكلام مثل هذا لا يمكن أن يصدر إلا من رجال لهم علم بالشعر وبدروبه وبحوره وأنواعه.

والذي أراه، ان شعراء الجاهلية كان لهم علم سابق بالشعر وضعوه قبل الإسلام، ولهم قواعد ورثوها من أسلافهم القدماء في كيفية نظم الشعر ببحور. كانوا يعرفون البحور، وربما كانوا قد وضعوا لها أسماء، على نحو ما يفعله شعراء الشعر العامي في هذا اليوم، وأكثرهم ممن لا يحسن الكتابة والقراءة، غير انهم يعرفون طرق الشعر العامي ودروبه، سّموها بأسماء، وعرّفوها، ووضعوا لها أوزاناً وزنوا بها شعرهم، وحكموا بموجبها حكمهم على الشعر، فتراهم ينتقدون شاعراً فيرفعون شعره، أو يذمونه، يزنون حكمهم بميزان علمهم المتوارث والمتعارف عليه عن الشعر. وقد وضع بعض المحدثين كتباً في هذا الشعر، وفي ضبط دروبه وتسجيل قواعده. والذي فعله "الخليل" لا يخرج عن هذا العمل، حصر وسجل ما كان معروفاً بين الشعراء عن بحور الشعر وأبوابه وقواعده، ثم جمعه في كتاب فعّد بعمله هذا مؤسس علم العروض. وانما هو في الواقع جامع شتات هذا العلم ومسجل قواعد الشعر وبحوره. فهو بذلك أول من فعل هذا الفعل على ما أعلم. وهو عمل يشكر بالطبع عليه.

والذي أعانه وساعده على هذا الحصر والجمع، هو وجوده في العراق، وكان أهل العراق يتدارسون النحو والشعر واللغة قبل الإسلام. كانوا قد نقلوا إلى السريانية-لغة الثقافة والعلم-علم اليونان باللغة والنحو والشعر، فساعدهم هذا النقل على تهذيب ما ورثوه من رجالهم من علم بهذه المعارف، وقاسوه بأقيسة ونظموه تنظيماً علمياً، وظلوا يتداولونه، فلما دخل منهم من دخل في الإسلام، أو احتك بالمسلمين، وكان عند العرب كلام في اللغة وفي الشعر، ولا سيما عند عرب العراق النصارى، فلا يستبعد عرض هؤلاء ما كان عندهم من علم باللغة والشعر إلى من كان له ميل لمثل هذه الدراسات، كأبي الأسود الدؤلي والخليل ابن احمد، فصار هذا العرض سبباً لظهور الأسس في النحو وفي العروض. وقد أدرك ذلك العلماء، فقال "الصفدي": "إن الشعر اليوناني له وزن مخصوص ولليونان عروض لبحور الشعر. والتفاعيل عندهم تسمى الأيدي والأرجل، قلت و لا يبعد أن يكون وصل إلى الخليل بن أحمد شيء من ذلك أعانه على ابراز العروض إلى الوجود". فهو من ثم "أول من استخرج علم العروض وحصر أشعار العرب فيها"، ولكنه لم يكن مخترع هذا العلم وموجده من العدم. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى ان "عروض" Prosody "أرسطو"هو الذي علَّم "الخليل"طريقة وضع "العروض" واستنباط تفاعيل الشعر وبحوره.

ولابن خلّكان رأي طريف في المنبع الذي استمد منه "الخليل" علم العروض، تراه يتحدث عنه فيقول: "وله معرفة بالإيقاع والنغم، وتلك المعرفة أحدثت له علم العروض، فإنهما متقاربان في المأخذ". وكان الخليل صاحب علم بالوسيقى، ومن بين كتبه "كتاب النغم"، فرجل ذو علم بالموسيقى، وبتقاطيعها وأوزانها، يكون له ميل إلى الشعر وأوزانه، خاصة وأن بين الشعر والغناء والموسيقى روابط قديمة. فقد "كانت العرب تغني النصب، وتمّد أصواتها بالنشيد، وتزن الشعر بالغناء. فقال حسان: تغنّ بالشعر إمّا أنت قـائلـه  إن الغناء لهذا الشعر مضمار

وروي أن الخليفة "عمر" قال يوماً للنابغة الجعدي: "أسمعني بعض ما عفا الله لكَ عنه من غنائك. فأسمعه كلمة له، قال له: وإنك قائلها? قال: نعم. قال: لطالما غنيت بها خلف جمال الخطاب". فإذا كان العرب قد وزنوا الشعر بالغناء، فلا يستبعد أن يكون الخليل قد ألهم من فعل العرب هذا قبله.

وقد ذكرت في الجزء الخامس من هذا الكتاب، أنه قد كان للشعر علاقة كبيرة بالغناء، فالغناء نغم ووزن ويكون لذلك بكلام موزون. وهو الشعر الذي يناسب نغم الغناء. قال "الجاحظ": "العرب تقطع الألحان الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في الوزن اللحن، فتضع موزوناً على غير موزون. وقال "ابن رشيق": "وزعم صاحب الموسيقى أن ألذ الملاذ كلها اللحن، ونحن نعلم أن الأوزان قواعد الألحان والأشعار معايير الأوتار لا محالة، مع أن صنعة صاحب الألحان واضعة من قدره، مستخدمة له، نازلة به مسقطة لمروءته. ورتبة الشاعر لا مهانة فيها عليه، بل تكسبه مهابة العلم، وتسكوه جلالة الحكمة".

و لا يستبعد تغني الشعراء الجاهليين بشعرهم، واستعمالهم آلات الموسيقى مثل الرباب لترافق غناهم بشعرهم، كما يفعل شعراء البادية في هذه الأيام. وقد ذكر ان الشاعر "عروة بن أذينة"، وهو من شعراء العصر الأموي "كان شاعراً لبقاً في شعره، غزلاً. وكان يصوغ الألحان والغناء على شعره في حداثته وينحلها المغنّين". وكان من شعراء المدينة.

ومن آيات علم الجاهليين بصناعة الشعر وبفنونه وحذقهم بأساليبه، استعمالهم نحو الشعر حسب الموقف والمناسبات واتخاذهم الايقاع والنغم وجرس الألفاظ أساساً في النظم ليكون الشعر مطابقاً للمناسبة التي سينظم لها. فللغناء بحور، وللقتال بحور تثير القلوب وتلهبها، وللسفر وزن، وللمناسبات المؤلمة مثل الرثاء والتوجع وزن يناسبها، وكل ذلك ناتج عن طبع وتطبع وعلم بالمناسبة، وقد أشير إلى هذا الاستعمال في الأخبار. وهذه المناسبات هي التي خلقت تلك البحور.

ومن آيات علم الجاهليين بالشعر، ما نقرأه في الأخبار عن علم أهل الجاهلية بطرائق الشعر وأبوابه وبعيوبه وضعفه، ومن أخذهم على الشعراء في أيام الجاهلية وقوعهم في الأخطاء، أو مخالفتهم لأصوله ونغمه وخروجه على ما هو متعارف عليه. وأمثال ذلك مما يدل على ان الشاعر وإن كان ينظم الشعر عن طبع وسليقة، وعن موهبة كامنة فيه، لكنه كان يراعي في نظمه قواعد موروثة معلومة، وأصولاً محفوظة، على نحو ما نراه اليوم عند الشعراء الشعبيين، الذين ينظمون الشعر العامي "الشعر النبطي"، المقال باللهجات العامية، وفق قواعد مقررة عندهم معروفة، وأبواب مسماة عندهم موسومة، يحفظونها حفظاً، لأنها هي غير مدونة، ثم إن أكثرهم ممن لا يقرأ و لا يكتب.

ومما يؤيد هذا الرأي ما جاء في "لسان العرب": "قال أبو الحسن الأخفش: النصبُ في القوافي، أن تسلم القافية من الفساد، وتكون تامة البناء، فإذا جاء ذلك في الشعر المجزوء، لم يُسم نصباً، وإن كانت قافيته قد تمت، قال: سمعنا ذلك من العرب، قال: وليس هذا مما سمى الخليلُ، وإنما تؤخذ الأسماء عن العرب". فلأسماء والأصول أخذت من العرب، ومعنى هذا أنه قد كان للعرب علم سابق بأصول الشعر وبقواعده، في العروض ومن أخذ ما كان عند الشعراء والعافين بفنونه من مصطلحات وعلم، فكوّن من كل ذلك: العروض.

هذا وان المعلوم أن "أرسطو" كان قد ألف كتاباً في الشعر وفي العروض Prosody وقد تطرق فيه إلى الوزن Metre أي وزن الأبيات والقصيدة، كما تكلم عن "التفعيلات"، وعن أنواع النظم، وقد درس كتابه علماء ذلك الوقت، ووقف عليه السريان قبل الإسلام، ونقل إلى العربية في الإسلام، قال "ابن النديم": "الكلام على أبو طيقا: ومعناه الشعر، نقله أبو بشر متى من السرياني إلى العربي، ونقله يحيى بن عدي". وتوجد ترجمة كتاب "الشعر" في العربية مطبوعة في هذا اليوم، وثبت أيضاً ان البابليين وغيرهم من أهل العراق، كانوا قد وضعوا قواعد في نظم الأشعار وفي تأليف أبياتها، وفي أصول نظمها، فلا استبعد وصولها إلى المتأخرين من العراقيين الذين عاشوا إلى أيام الإسلام، فوقف عليها "الخليل"، واستنبط منها فكرته في وضع العروض.

والذي أراه أن للبت في منشأ علم العروض، لا بد من البحث عن المصطلحات العربية الجاهلية التي كانت شائعة عند العرب في الجاهلية وعند ظهور الإسلام، عن تكوين الشعر وأصول نظمه، ثم تتبع مصطلحات الشعر عند الساميين، مثل الكلدانيين والعبرانيين ومقارنة مسمياتها بالمسميات العربية المنسوبة إلى "الخليل"، لمعرفة صلتها بعضها ببعض. ومن دراسة البحور، وتفاعيلها، وأصول نظمها، فقد ثبت أن لتلك الشعوب قواعد في نظم الشعر، راعاها الشعراء في نظمهم شعرهم.

ولفظة "بحر" و"البحور" المستعملة في العروض، هي من الألفاظ المعروفة عند الجاهليين. ورد في كتب اللغة ان الشاعر إذا اتسع في القول، قالوا استبحر. ولما جاء "الحارث بن معاذ بن عفراء" على "حسان بن ثابت" ليستحثه في هجاء "النجاشي" الذي هجا الأنصار، ألقى عليه "حسان" ثمانية أبيات، ثم توقف ومكث طويلاً على الباب يقول: والله ما أبحرت. وذكر ان "أبا بكر" كان يقدم النابغة على غيره من الشعراء، فلما سئل عن ذلك قال: "هو أحسنهم شعراً، وأعذبهم بحراً، وأبعدهم قعراً". ومن هذا المعنى أخذ مصطلح "بحر" و "بحور الشعر" و "بحور العروض".

وكان الجاهليون أصحاب علم اذن بطرق الشعر وببحوره وبمقاصده وانحائه، وكانوا يطلقون على أنواعه وعلى ما ذكرت "أقراء الشعر". وكانوا ينقحونه ويحككون به حتى يرضون عنه. ويقال للشعر الذي لم يحكم ولم يجود "شعر خشيب" و "شعر مخشوب"، عكس الشعر المنقح المجوّد. ورد على لسان "جندل بن المثنى" قوله: قد علم الراسخ في الشعر الأرب 

والشعراء أنني لا أختشب 

حسرى رذاياهم ولكن اقتضب 

والاقراء في الشعر طرائقه وأنواعه، واحدها قرو وقرى.

والإكفاء أحد عيوب القافية الستة التي هي: الإيطاء، والتضمين، والإقواء، والاصراف، والإكفاء، والسناد. وقد عرفه العرب الفصحاء، بأنه الفساد في آخر البيت والاختلاف. وكانوا يقولون لمن يخالف بين حركات الروي: "أكفأ" أو "أكفأ الشاعر". وقد كان "النابغة" يكفئ في شعره. وقد نبّه إلى ذلك، فتجنب بعضه وهذّبه.

والإقواء عيب آخر من عيوب الشعر. وللنابغة في هذا خبر. فلما دخل "يثرب" وأنشد داليته المشهورة، عيب عليه فيها، فلم يفهم موطن العيب فيه، وهو "الإقواء"، فلما غنته المغنية بالقصيدة مطلت واو الوصل، فأحس بالإقواء واعتذر منه وغيره فيما يقال إلى قوله: وبذاك تنعاب الغرابِ الأسودِ 

ثم قال: " دخلت يثرب وفي شعري صنعة، ثم خرجت منها وأنا أشعر العرب". وكان "بشر بن أبي خازم" يقوي في شعره كذلك. وذكر ان أخاه قال له: انك تقوي.

وبينما نرى أهل الأخبار يرمون "النابغة" بالوقوع في الإكفاء وفي الإقواء، وبعدم إدراكه للإقواء مع تلميح الناس له، حتى دبر أهل يثرب حيلة، أظهرت إقواءه له، فعلمه، وخرج، وهو يقول: " دخلت وفي شعري صنعة، ثم خرجت منها وأنا أشعر العرب"، يذكرون ان "أبا ذكوان"، وهو من العلماء بالشعر يقول: "مارأيت أعلم بالشعر منه. ثم قال: لو أراد كاتب بليغ ان ينشر هذا الشعر على جميع أشعار الناس".

والإقواء أن تختلف حركات الروي، فبعضه مرفوع وبعضه منصوب أو مجرور. وقيل نقصان الحرف من الفاصلة يعني من عروض البيت. وأقوى في الشعر، خالف بين قوافيه. وقيل هو رفع بيت وجر آخر. وذكر ان الاقواء كثير في كلام العرب، لكن ذلك في اجتماع الرفع مع الجر وأما اٌقواء وان عيباً لاختلاف الصوت به، فإنه قد كثر في كلامهم"، وكان "أبو عمرو بن العلاء أن الاقواء: هو اختلاف الإعراب في القوافي، وذلك أن تكون قافية مرفوعة، وأخرى مخفوضة. كقول النابغة: قالت بنو عامرٍ: خالوا بني أسدٍ  يا بؤس للجهل ضراراً لأقوامِ

وقال فيها: تبدو كواكبهُ والشمس طـالـعة  لا النور نور ولا الإظلام إظلامُ

"وبعض الناس يسمي هذا الإكفاء: ويزعم أن الإقواء نقصانُ حرف من فاصلة البيت، كقول حَجٌل بن نضلة، وكان أسر بنت عمرو بن كلثوم وركب بها المفارز، واسمها النوار: حَنّت نوار ولاتَ هنّـا حـنـتِ  وبدا الذي كانت نوار أجـنّـتِ

لما رأت ماء السَّلا مشـروبـاً  والفرثَ يُعصرُ في الإناء أرنتِ 

سمي اقواء لأنه من عروضه قوة". "وكان يستوي البيت بأن تقول: متشرباً".

وقد تعرض "المعري" لموضوع الاقواء وأمثاله في رسالة الغفران، إذ يسأل "امرأ القيس" عنه، ثم يجيب على لسانه. يقول للشاعر: "كيف يُنشد: جالت لتصرعني فقلت لها: قرى  إني امرؤ صرعي عليك حرامِ

أتقول: حرامُ فتقوي ? أم تقول: حرامِ فتخرجه مخرج حذامِ وقطام ? وقد كان بعض علماء الدولة الثانية يجعلك لا يجوز الاقواء عليك. فيقول امرؤ القيس: لا نكرة عندنا في الاقواء". فهو يرى ان الاقواء لم يكن منكراً عند أهل الجاهلية: وإنما عيب عليه في الإسلام.

ومن مصطلحات علماء الشعر: "الإيطاء"، قال العلماء: أطأ كرر القافية لفظاً ومعنى مع الاتحاد في التعريف والتنكير، فإن اتفق اللفظ واختلف المعنى فليس بإيطاء، وكذا لو اختلفا تعريفاً وتنكيراً. وقال بعضهم الإيطاء رد كلمة قد قفيت بها مرة نحو قافية على رجل وأخرى على رجل فهذا عيب عند العرب، لا يختلفون فيه، وقد يقولونه مع ذلك. ووجه استقباح العرب الإيطاء، انه دال عندهم على قلة مادة الشاعر ونزارة ما عنده حتى اضطر إلى إعادة القافية الواحدة في القصيدة بلفظها ومعناها فيجري هذا عندهم مجرى العي والحصر، وأصله أن يطأ الإنسان في طريقه على أثر وطئ قبله فيعيد الوطء على ذلك الموضع، وكذلك إعادة القافية من هذا. وقال "أبو عمرو بن العلاء": "الإيطاء ليس بعيب عند العرب، وهو إعادة القافية مرتين"، أما إذا كثر الإيطاء في قصيدة مرات فهو عيب عندهم.

والمضمن من الشعر ما لا يتم معناه إلا في البيت الذي بعده. وقد اختلف العلماء فيه، فمنهم من عدّه عيباً، ومنهم من لم يعدّه عيباً، ويراه مذهباً أجازه العرب لسببين: السماع، والآخر القياس. أما السماع فلكثرة ما يرد عنهم من التضمين، وأما القياس فلأن العرب قد وضعت الشعر وضعاً دلت به على جواز التضمين عندهم. وحجة من قال بتقبيح التضمين: ان كل بيت من القصيدة شعر قائم بنفسه، فمن هنا قبح التضمين شيئاً. وقد أوردوا للنابغة ولغيره من الشعراء أمثلة من التضمين. وهو بهذا المعنى معروف عند غير العرب من المسلمين والآريين، إذ ان الأبيات عندهم ترتبط معانيها بعضها ببعض، فلا يفهم معنى بيت إلا باليبت الذي يليه. ولهذا تكون أبيات القطعة أو القصيدة مرتبطة بعضها ببعض، و لا سيما في أشعار الملاحم والغناء.

والإصراف في الشعر، إذا أقوي فيه وخولف بين القافيتين. وأما السناد، فاختلاف الأرداف. وقال "الأخفش" أما سمعت من العرب في السناد، فإنهم يجعلونه كل فسادٍ في آخر الشعر و لا يحدّون في ذلك شيئاً وهو عندهم عيب". وقد أشير اليه في قول الشاعر: فيه سناد واقواء وتحريد

وتحريد الشئ تعويجه.

وقيل: السناد: هو أن يختلف إرداف القوافي، كقولك علينا في قافية وفينا في أخرى.

وقد تحدث "الجاحظ" عن الأوتاد، والأسباب، والخرم والزحاف، فقال: "وكما وضع الخليل بن أحمد لأوزان القصيد وقصار الأزجار ألقاباً لم تكن العرب تتعارف تلك الأعارض بتلك الألقاب، وتلك الأوزان بتلك الأسماء، كما ذكر الطويل، والبسيط، والمديد، والوافر، والكامل، وأشباه ذلك، وكما ذكر الأوتاد، والأسباب، والحزم، والزحاف. وقد ذكرت العرب في أشعارها السِناد، والإقواء، والإكفاء، ولم أسمع بالإيطاء. وقالوا في القصيد، والرجز، و السجع، والخطب، وذكروا حروف الروي والقوافي، وقالوا هذا بيتُ وهذا مصراع".

وقد أباح علماء الشعر للشاعر ما لم يبيحوه للناثر من "ضرورة" دعوها: "ضرورة الشعر"، وقد جاءوا بأمثلة على ذلك، اعتذروا عن بعضها، وأوجدوا لها مخارج في الإعراب، وعدّوا بعضاً منها من العيب "العيب في الإعراب"، وورد: "الشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدّون المقصور، ويقدّمون ويؤخرون، ويومئون ويشيرون، ويختلسون ويُعيرون ويستعيرون. فإما لحن في إعراب، أو إزالة كلمة عن نهج صواب فليس لهم ذلك".

وقد تعرض "بروكلمن" لموضوع "العروض"، فقال: "وعلى الرغم من انه لا تزال تعوزنا بحوث شاملة لفن العروض عند قدامى الشعراء، يمكن أن نقرر اليوم بحق ان هذا الفن كان يعتمد عندهم على قواعد ثابتة. نعم نجد في بعض قصائد الشعراء الأقدمين أبياتاً خارجة عن العروض الذي وضعه الخليل بن أحمد، وما وضعه سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط في كتابه العروض، كما في قصائد المرقش الأكبر، وعبيد، وعمرو بن قميئة، وامرئ القيس، وسلمى ابن ربيعة. ويبدو ان هذه الظواهر آثار قليلة لمرحلة من النمو لم نقف على كنهها بعد.

وبذل الشعراء المتأخرون محاولات للتخلص من قوانين العروض العربي ولكنهم قلما خرجوا عليه.

وقد تعرض "الهمداني" لموضوع الشعر العربي وقواعد العروض، وخروج الشعر على سلطة هذا العلم، فقال: "أنشدني سعيد بن أبحر الهمداني، وكان شاعراً بدوياً مطبوعاً: ياسمع يا بصري لو جاءكم خبري  لكان في عذر ناع علـى كُـور

وفي بني عامر على ناع خاطـرٍ  وفي قرى صافر حزن وتثبـير

وكان للجاهلية الجهلاء مذهب في الشعر من الأزحاف وغيره ما يستنكره الناس اليوم كقول علقمة: ومنّا الذي نودي بسبعة آلاف  غلاماً صغيراً ما يشد إزارا 

وكقوله: كأن به سيد حلاحل=تُصر من دونه الطروق وقول بعض حمير في أيام جديس، النصف الأول من روي والنصف الآخر من روي، قصيدته: للهِ عينا من رأى حسان قتيلاً في سالف الأحقاب 

ومن ذلك شعر مالك بن الحصيب اللعوي، وهو قديم في حلف ربيعة، وأوله: أنا مالك وأنا الذي جددت حلفاً  لكندة قبلنا قد كان سـلـفـا

الشعر، وفي وزنه زيادة حرفين".

وقد يحسن العلماء في المستقبل بدراستهم لما ورد في مؤلفات الهمداني وغيره من شعر قديم ينسب إلى قدماء شعراء اليمن والى الشعراء اليمانيين والعرب الجنوبيين عامة الذين نظموا بأسلوبهم الخاص، لما في هذه الدراسة من فائدة كبيرة في إعادة بناء نظريات العلماء الحالية عن الشعر الجاهلي.

وفي الدواوين وكتب الأدب أمثلة على أمور خرج فيها الشعر على قواعد العروض أو النحو. من ذلك قول امرئ القيس: كأن أبانا في أفانين وّدٌقِـه  كبير أناس في بجاد مزمّل 

فقد ضم اللام في نهاية البيت، وهي مكسورة في المعلقة جميعها. ورورا أموراً أخرى وقعت في شعره أيضاً، وفي قصيدة "عبيد بن الأبرص": أقفر من أهله ملحوبُ  فالقطبياتُ فالذنـوبُ

فهي من مخلع البسيط، قلما يخلو بيت منها من حذف في بعض تفاعيله أو زيادة. وفي قصيدة المرقش الأكبر: هل بالديار أن تجيب صَمَمٌ  لو كان رسمُ ناطقاً كلّـمٌ

فهي من السريع، وقد خرجت شطور أبياتها على هذا الوزن، كالشطر الثاني من هذا البيت: ما ذنبنا في أن غزا ملكُ  من آل جفنة حازمُ مرغم 

فإنه من الكامل. ورووا اضطراباً وقع في شعر "عدي بن زيد العبادي"، على النحو المذكور، خرج فيه من السريع إلى وزن المديد، وفي شعر غيره كذلك مثل نزنية"سُلِميّ بن ربيعة ": إن شـواءً ونـشـوة  وخبب البازل الأمون 

فهي خارجة عن عروض الخليل.

ورووا وقوع مثل ذلك في قصيدة عدي بن زيد العبادي: تعرف أمس من لميس الطلَلٌ  من الكتاب الدارس الأحولٌ

فهي من وزن السريع، وخرجت بعض شطورها على هذا الوزن كالشطر الثاني من هذا البيت: أنعم صباحاً علقمَ بن عدي  أثويتَ اليومَ أم تـرحـلٌ

فإنه من وزن المديد.

وتستحق هذه الأمور وأمثالها أن تكون موضع دراسة خاصة، لما لها من أهمية في تكوين رأي علمي دقيق عن تطور العروض في الجاهلية. و لا يعقل في نظري أن يكون الشاعر الجاهلي قد كان بغفلة عن تلك الأمور التي عدّها الإسلاميون من مواطن الاضطراب والخروج عن القواعد. وإذا قسنا هذا الخروج في الوزن على مقاييس وزن الشعر عند الساميين، نرى أنه لم يكن خروجاً، لعدم تقيد ذلك الشعر بالوزن في كل القطعة أو القصيدة، وإنما كانوا يتقيدون بوزن البيت، فالقطعة أو القصيدة عندهم منسجمة ذات نغم ووزن وإن تكونت من بحر أو من جملة بحور، وربما كان هذا شأن القصيدة عند الجاهليين كذلك. ثم انه في هذه الاضطرابات دلالة على أن في العروض الجاهلي ما فات أمره عن علم "الخليل"، وأن العروض الإسلامي لا يمثل كل عروض الشعر الجاهلي.

وللخليل كتاب في العروض، أسمه "كتاب العروض" لا اعرف من أمره شيئاً. وهو أول كتاب ألف في هذا الباب، وحمل هذا الاسم، على ما أعلم، وله كتاب أسمه "كتاب النغم"، وكتاب آخر أسمه "كتاب الإيقاع"، وكتاب أسمه: "كتاب الشواهد"، وكتاب أسمه "كتاب النقط والشكل"، وكتاب باسم "كتاب فائت العين".

ولأبي الحسن سعيدبن مسعدة الأخفش "215 ه"، "221 ه"، وهو أحد أصحاب "سيبويه"، كتاب في العروض، أسمه: "كتاب العروض".

وعرف "الخليل" بسعة علمه باللغة، واليه ينسب وضع أول معجم في اللغة العربية، وهو كتاب "العين". وقد نظمت حروفه على ما يخرج من الحلق والهوات. وهو ترتيب يرى بعض المستشرقين احتمال أخذ "الخليل" له من ترتيب الأبجدية السنسكريتية وذلك عن طريق "خراسان"التي لها صلة وثيقة بثقافة الهند. وقد نسب بعض العلماء كتاب العين إلى غيره، نسبه إلى "الليث بن نصر بن سيّار" الخراساني، ومنهم من زعم أن "الخليل" عمل قطعة من كتاب العين من أوله إلى حرف الغين وكمله "الليث" ولهذا لا يشبه أوله آخره.

وقد كان للهنود حب شديد للشعر، وقد نظمت كتبهم الدينية شعراً، وقد أدرك "البيروني" الواسع الاطلاع بأحوال الهند هذا الحب الشديد له، فقال: "أكثر الهنود يُهترون لمنظومهم ويحرصون على قراءته، وإن لم يعرفوا معناه، ويفرقعون أصابعهم فرحاً به، وإستجادة له، و لا يرغبون في المنثور وإن سهلت معرفته". وقد كانوا يزنون شعرهم بميزان، ف"عملوا من التفعيلات قوالب لأبنية الشعر، وأرقاماً للمتحرك منها والساكن، يعبرون بها عن الموزون، فكذلك سمي الهند لما تركب من الخفيف والثقيل "أسماء يشيرون بها إلى الوزن المفروض. فإذا كانت للهنود تفعيلات وزنوا بها شعرهم، وهي أقدم عهداً من تفعيلات "الخليل"، أفلا يجوز أن يكون "الخليل" قد اقتبس تفعيلاته من تلك التفعيلات، وبين الهند و"الابلة" التي حلت البصرة محلها في الإسلام اتصال جد قديم، وقد كان بين سكانها عدد كبير جاءوا قبل الإسلام من الهند.

وحيث أن العلماء ينصون على أن "الخليل"، هو موجد البحور المعروفة في العروض، وهو أوزانها، وحيث أن أساس المعايير التي قيست بها الأبيات، للوقوف على البحور هي: فعل" فيجب أن تكون هذه التسمية من ابتكاراته إذن. ولم أجد أحداً وضح كيف اهتدى الخليل إلى إيجاد هذا المعيار، ولِمَ سماه بهذه التسمية، إن من المستحسن في نظري الاهتمام بهذا الموضوع، ودراسة موازين الشعر عند الهنود، لمعرفة أسماء معايير الشعر عندهم، للوقوف عليها، فقد تكون لهذه التفعيلات صلة بتفعيلات شعر الهنود. ويلاحظ أن "ابن جني"، كنّى بالتفعيل عن تقطيع البيت الشعري، لأنه إنما نزنه بأجزاء مادتها كلها "فعل".

الفصل الخمسون بعد المئة
البصرة والكوفة

لابد لنا من التعرض لأثر البصرة والكوفة في عمل القواعد وفي رواية الشعر الجاهلي، إن أردنا فهم هذا الشعر وكيف جمع ودوّن، وكيف نحل المنحول منه، فقد كان للمدينتين الأثر الأكبر في جمع هذا الشعر وفي تدوينه ونحله.

ولابد من التحدث أولاً عن أثر العصبية القبلية في هاتين المدينتين. فقد بنيتا على أساس هذه العصبية. فلما بنيت الكوفة، جعلت قسمين: قسم لليمن، وقسم لنزار، وكانت الأغلبية لليمن. وزعت المحلات والسكك حسب القبائل، وكذلك كان الأمر بالبصرة حين شرع ببنائها، فقد روعي في بنائها، توزيع أحيائها على حسب النسب والقبائل، فكانت عصبية الحي للعشيرة أولاً، وللقبيلة ثانياً، ثم للمدينة ثالثاً. وهكذا غرست بذور العصبية في أرض المدينتين، منذ شرع بوضع أساس التأسيس.

وتجسمت العصبية القبلية في العصبية للمدينة، فتعصب عرب الكوفة ومواليها للكوفة، وتعصب عرب البصرة ومواليها للبصرة، "يفخر كل منهما بطبيعة الأرض وموقعها الجغرافي، ويفخر كل بما كان على يده من فتوح البلدان، ويفخر كل بمن نزل عندهم من صحابة رسول الله، ويعير كل الآخر بما نبت عنده من دعاة للضلالة، وأخيراً كانوا يتفاخرون بالعلم. وظهرت هذه المفاخرات العلمية والمناظرات وتعصب كل مدينة لعلمائها، ظهوراً بيناً في كثير من فروع العلم فالبصريون والكوفيون في المذاهب الدينية وعلم الكلام، والبصريون والكوفيون في الأدب ؛ يقول أعشى همدان: اكسع البصريَّ إن لاقـيتـه  إنما يكسع مـن قـلّ وذلّ

واجعل الكوفي في الخيل ولا  تجعل البصريّ إلا في النفل

وإذا فاخرتمونـا فـاذكـروا  ما فعلنا بكم يوم الجـمـل

بين شيخ خاضبٍ عثنونه=وفتى أبيض وضاحٍ رفل جاءنا يخطر في سابـغة  فذبحناه ضحى ذبح الحمل 

وعفونا فنسيتم عـفـونـا  وكفرتم نعمة الله الأجل"

والكوفة بظاهر الحيرة. المدينة التي كان يقصدها الشعراء والتجار، وفيهم تجار مكة وأشرافها، مثل عبد الله بن جدعان، وأبو سفيان. ومنها انتقل الخط إلى مكة، على حد قول أهل الأخبار، ومنها انتقلت النسطورية إلى العرب النساطرة، وقد اشتهرت برجال برزوا فيها في العلوم الدينية النصرانية وبالعلوم اللسانية في لغة بني إرم، وبكنائسها وبأديرتها التي كانت تعلم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة، وتهيئ الطلاب للتبحر في علوم الدين وفي العلوم الدنيوية المعروفة في ذلك الوقت، ولما أنشئت الكوفة انتقلت اليها بأبنيتها وأناسها، فقد هدمت منازلها ونقلت حجارتها إلى الكوفة، لتبنى بيوتها بها، وانتقل أهلها إلى الكوفة، لأنها أخذت مكانها في الحكم، وصارت مقر الولاة، فشايع أهلها الكوفة في السكن وفي الالتفاف حول قصر الوالي، وانتقل ما كان قد تبقى من بقية علم من الحيرة إلى الكوفة كذلك، وتجسم في أهل الرأي الذي نسميه بعلم أهل، أو بمدرسة الكوفة.

وقد كان أهل الحيرة قوم من النبط، أي من بني إرم أهل العراق، وقوم من الفرس، فتأثر لسان أهلها العرب بلسان النبط وبلسان العجم، كما تأثروا بحياة الحضارة والاستقرار، فلان لسانهم وسهل منطقهم ؛ وثقل نطقهم بالعربيى، فلم يعد ينطق لسانهم نطق الأعراب من حيث الوضوح والإفصاح. والذي عند علماء العربية ان في لسان الأعراب جفاء وشدة وغلظة، دخلت عليه من خشونة البادية ومن طباعها، فإذا خالط أهل البادية البلديين والأعاجم، لان جفاؤهم وسهل لسانهم، فيبتعد بذلك عن اللسان العربي القح، ولهذا طلب علماء اللغة جُفاة الأعراب وأهل الطبائع المتوقحة، وأخذوا عن القبائل التي بعدت عن أطراف الجزيرة، وبقيت في سرة البادية أو فاضت حواليها، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف.

أما البصرة، فأخذت مكانة "الابلة" المدينة الشهيرة المعروفة باسم "أبولم" Ubulum في الكتابات الأكادية، وبApologus "أبولوكس" في النصوص الكلاسيكية، وهي أقرب إلى جزيرة العرب من الكوفة، ولها اتصال ببلاد الخليج وبالهند، فكانت سفن الهند وسيلان تأوي اليها، وسكن قوم من الهند بها، كما سكن بها قوم من الفرس، خالطوا العرب، ولعلي لا أخطئ إذا قلت ان شأن الموالي بالبصرة كان أقوى منه بالكوفة، لاتصال البصرة بالهند وببلاد فارس، وبعد الكوفة عنهما، وقد أثرّ هذا الاتصال في لسان عرب البصرة، مما أدى إلى ظهور اللحن في الكلام، وظهور أثر للغات أهل الهند في لسان أهل "الأبلة" ثم البصرة، بسبب نزوح جاليات كبيرة من الهند إلى "الأبلة"، وذلك قبل الإسلام.

وأما "بغداد" التي ظهرت بعد المدينتين بأمد، فقد أسسها "أبو جعفر المنصور" العباسي، فإنها كانت مدينة مُلك، ولم تكن مدينة علم، وما فيها من العلم، فمجلوب للخلفاء وأتباعهم، "قال أبو حاتم: أهل بغداد حشو عسكر الخليفة، لم يكن بها من يُوثق به في كلام العرب، ولا من تُرتضى روايته، فإن ادعى أحد منهم شيئاً رأيته مخلطاً صاحب تطويل وكثرة كلام ومكابرة". وللأصمعي كلام يستهزء به على علم أهل بغداد. قال " خرجت إلى بغداد وما فيها أحد يحسن شيئاً من العلم، لقد جاءني قوم يسألوني عن الجعطري، فأخبرتهم أنه المكتل. قالوا: وما المكتل ? قلت: هو المعضل ! قالوا: وما المعضل ? وكان بقربي بقال ضخم، فقلت: هو مثل ذلك البقال ! فرووا عني".

ونجد "المعري" يتهم رواة بغداد بعدم الفهم في الشعر، ترى رأيه هذا فيهم في رسالة الغفران، حيث يسأل "أمرأ القيس": "يا أبا هند، ان رواة البغداديين ينشدون في قفا نبك، هذه الأبيات بزيادة الواو في أولها، أعني قولك: وكأن ذرى رأس المجيمر غدوة 

وكأن مـكـاكـي الـجـواء

وكأن السبـاع فـيه غـرقـى

فيقول: أبعد الله أولئك ! لقد أساءوا الرواية. وإذا فعلوا ذلك فأي فرق يقع بين النظم والنثر ? وانما ذلك شئ فعله من لا غريزة له في معرفة وزن القريض، فظنه المتأخرون أصلاً في المنظوم، وهيهات هيهات".

وأما المدن الأخرى، فلم تبلغ في العلم شأو البصرة والكوفة ثم بغداد. فلم يعترف أحد من علماء العربية بوجود امام في العربية بدمشق أو يثرب أو مكة. وقد زعم "الأصمعي"، انه أقام بالمدينة زماناً ما رأى بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة، وكان بها "عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب" المعروف بابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكان شاعراً وعلمه بالأخبار أكثر. وكان بها "علي" الملقب بالجمل، وضع كتاباً في النحو لم يكن شيئاً.

"وأما مكة، فكان بها رجل من الموالي، يقال له: ابن قسطنطين، شدا شيئاً من النحو، ووضع كتاباً لا يساوي شيئاً".

وقد دفعت العصبية إلى المدن، أهل المدينتين على التحاسد والتفاخر والتنافر، فادعى أهل كل مدينة انهم أرسخ علماً من أهل المدينة الثانية، وانهم أكثر إحاطة به من خصومهم، ومن ثم صار أهل الكوفة يتمرأون بخصومهم، فينتقصونهم ويلصقون بعلمهم وبعلمائهم التهم، ويغمزون فيهم، وصار أهل البصرة يكيدون لأهل الكوفة وينتقصونهم، وكانوا "يرون ان أصحابهم لو ركبوا في نصاب رجل واحد ما بلغوا أن يعدلوا أضعف رجل في البصرة، وقد رموهم في باب الكذب بقمص الحناجر، والأخذ عن كل بر في الرواية وفاجر، وجعلوهم من علماء الأسواق، وتلامذة الأوراق". ووجدت هذه المنافسة أرضاً صالحة في قصور الخلفاء والوزراء والأكابر ببغداد، حتى تحولت إلى مؤامرات ومهاترات، ابتعدت عن أدب العلم والعلماء، حتى نزلت أحياناً إلى درك مهاترات العامة، والى التزوير، والاستعانة بالشهود الزور لتأييد عالم على عالم، كالذي وقع في المسألة الزنبورية في الخلاف الذي كان بين سيبويه والكسائي.

وقد وقعت العصبية بين المدينتين حتى في قراءة القرآن، ففضل أهل كل مدينة قارئ مدينتهم، واعتبروا قراءة صاحبهم أحسن القراءات، فأهل الكوفة يتعصبون لقراءة "عبد الله بن مسعود" ويرون أن مصحفه أصح المصاحف، وأهل البصرة يتعصبون لأبي موسى الأشعري، ويأخذون بقراءته وبلحنه، "وكانوا يسمون مصحفه لباب القلوب". والكوفيون يكتبون والضحى بالياء، وأهل البصرة يكتبونها بالألف.

وكانت أولية العربية بالبصرة، "لأن أبا الأسود الدؤلي قد نزل بها وأخذ عنه جماعة هناك، فكان كل أصحابه الذين شققوا العربية بعده بصريين، ثم انتقل النحو إلى الكوفة". ثم استفاض نحو الكوفيين، فنبغ فيه من سكنة الكوفة أبو جعفر الرؤاسي، ومعاذ الهرّاء، واضع التصريف، والكسائي، والفراء. وذكر أنه لم يعلم أن أحداً من علماء البصريين أخذ شيئاً من النحو واللغة عن أحد من أهل الكوفة، بينما أخذ الكوفيون عن أهل البصرة، وما من أساتذتهم أحد إلا وقد تلمذ لبصري. وقد قدم "ابن سلام" أهل البصرة على غيرهم في العربية، قال: "وكان لأهل البصرة في العربية قدمة بالنحو وبلغات العربية والغريب عناية". و "ابن سلام" نفسه من علماء البصرة، ومن المتعصبين لها على أهل الكوفة.

وروى أن "أبا الخطاب" المعروف بالأخفش، وهو من علماء البصرة كان أول من فسر الشعر تحت كل بيت، وما كان الناس يعرفون ذلك قبله، وإنما كانوا إذا فراغوا من القصيدة فسروها، فلأهل البصرة قدمة على أهل الكوفة في هذا المضمار.

ومن أهم ميزات أهل البصرة، هو استعمالهم القياس في النحو، فقد سبقوا به أهل الكوفة. أما أهل الكوفة، فقد أخذوا بالقياس في الفقه. فالقياس من أهم وسائل استنباط الأحكام الشرعية في فقه "أبي حنيفة"، وهو من علماء الكوفة. كان علماء البصرة يطبقون القياس على النحو واللغة، فما يسمعونه يقيسونه على ما جمعوه من قواعد استنبطوها من القرآن ومن الشعر ومن لغة العرب، ثم يحكمون حكمهم عليه. أما أهل الكوفة، فقد تحرروا منه، وكانوا على ما قيل عنهم، يأخذون بالشاذ والغريب، ولو خالف القياس. ومن هنا اتهموا بالضعف، وبعدم التروي في البحث والاستقصاء، وبالأخذ بالخبر من غير نقد و لا تمحيص. وهو اتهام، قد يكون للعاطفة يد فيه. وقد صار هذا القياس سبباً في لإخضاع اللغة إلى حكم قواعد ثابتة اتفق عليها، استنبطت من الاستقراء، ومن تطبيق حكم القياس عليها، إلا انه صار في الوقت نفسه سبباً في إهمال اللهجات المخالفة التي سّماها العلماء لغات شاذة أو غريبة، وتركها لعدم استحقاقها في نظرهم شرف التسجيل والتثبيت، ولم يقدرّوا آنذاك أهميتها بالنسبة لمن يريد تتبع تأريخ لغات العرب وتطورها منذ الجاهلية إلى الإسلام.

وكان لأهل البصرة ميزة قربهم من أعراب نجد والبوادي، فكانوا يأخذون منهم القواعد واللغة، أما أهل الكوفة، فقد اعتمدوا على أشباه الأعراب من المقيمين في أطراف البادية، وهم ممن رفض أهل البصرة الأخذ عنهم، لأنهم ممن خالط أهل الريف، وأقاموا على أطراف الحواضر. كما أن قياس أهل البصرة في النحو، بني على قواعد بنوها هم وأقاموها، وفق دراساتهم، وأخذهم عن الأعراب من نثر وشعر، ولهذا سخروا من علم أهل الكوفة ومن علم علمائهم في النحو، وتتجلى سخريتهم في أشعار نظموها في أهل الكوفة وفي شيخهم "الكسائي". ترى استهزاء أهل البصرة بعلم وبقياس وبعلماء أهل الكوفة في مثل هذا الشعر: كنا نقيس النحو فيما مضى  على لسان العـرب الأول

فجاء أقـوام يقـيسـونـه  على لغى أشياخ قطربـل

فكلهم يعمل في نقض مـا  به يصاب الحق لا يأتلـي

إن الكسـائي وأشـياعـه  يرقون في النحو إلى أسفل 

وتراه في شعر آخر، هو: وقل لمن يطلب علمـاً ألا  ناد بأعلـى شـرف نـاد

ياضيعة النحو، به مُغرب  عنقاء أودت ذات إصعاد

أفسده قـوم وأزروا بـه  من بين أغتـام وأوغـاد

ذوي مراء وذوي لـكـنة  لئام آبــاء وأجـــداد

لهم قياس أحـدثـوه هـمُ  قياسُ سوء غير منـقـاد

فهم من النحو، وإن عمروا  أعمارَ عاد، في أبي جاد

والكسائي، الذي طعن البصريون في علمه، وقدموا صاحبهم "سيبويه" عليه، ناظر خصمه بحضرة "الرشيد" أو في مجلس البرامكة على رواية، وغلبه بمؤامرة يقال إنها حكيت، للإيقاع به. وذلك في المسألة التي عرفت ب "المسألة الزنبورية" في كتب العلماء. وكان "الكسائي" قد أخذ النحو عن "أبي جعفر" الرؤاسب، وهو أول من وضع من الكوفيين كتاباً في النحو، وقيل إن كل ما في كتاب سيبويه: "وقال الكوفي كذا ..." إنما عنى به الرؤاسي هذا، وكتابه يقال له الفيصل، وكان له عم بقال له معاذ بن مسلم الهراء، وهو نحوي مشهور، وهو اول من وضع التصريف. وقد طعن رواة البصرة في علم "الرؤاسي". قال ابو حاتم: "كان بالكوفة نحوي يقال له: ابو جعفر الرؤاسي، وهو مطروح العلم ليس بشئ، واهل الكوفة يعظمون من شأنه، ويزعمون ان كثيراً من علومهم وقرائتهم مأخوذة عنه".

وسبقت الكوفة البصرة في رواية الشعر، وقد خاطب "علي بن طالب" اهل الكوفة بقوله "إذا تركتم عدتم إلى مجالسكم حلقا عزين، تضربون الامثال وتنشدون الاشعار"، فالامثال والشعر من اهم الموضوعات التي كان يتدارسها اهل الكوفة في ايام نشأتها الاولى، فهم على سنن الجاهليين في ضرب الامثال ورواية الشعر. روي ان المفضل كان يروي للاسود بن يعفر ثلاثين ومائة قصيدة، وكان اهل الكوفة يروون له اكثر من غيرهم، ويتجوزون فيه اكثر من غيرهم. وقد انفردوا برواية شعر امرئ القيس، خلا نتف اخذت من ابي عمرو بن العلاء وبعض رواة الاعرب. وروي ان "الشعر بالكوفة اكثر واجمع منه بالبصرة، ولكن اكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بين في دواوينهم". وقد زعم اهل الكوفة، ان علمهم بالشعر القديم، انما ورد اليهم من "الطنوج" وهي الكراريس التي امر بها "النعمان بن المنذر" بتدوين اشعار العرب عليها، وما مدح به هو واهل بيته، ثم امر بدفنها في القصر الابيض، فلما كان "المختار ابن ابي عبيد" احتفرها، "فأخرج تلك الاشعار، فمن اهل الكوفة اعلم بالشعر من اهل البصرة".

وكان حماد الراوية رأس اهل الكوفة في رواية الشعر وتدوينه، فقد بلغ الغاية في العلم بشعر الجاهليين. يقابله فيه "خلف الاحمر" عند اهل البصرة، وكان خلف اول من احدث السماع في البصرة، " وذلك انه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه الشعر، ثم تابعه البصريون فأخذوا عن حماد بعد ذلك، لانفراده بروايات الشعر، فأنه هو الذي اخذ عنه كل شعر امرئ القيس، الا شيئاً اخذوه عن ابي عمرو بن العلائ". وذكر ان "الخثعمي" و "ابا البلاد" كانا من رواة اهل الكوفة في الشعر قبل "حماد"، وكانا في خلافة عبد الملك بن مروان.

ونسب إلى بعض العلماء اضافاتهم البيت أو الابيات على السنة الشعراء، لتوجيه الحجة وتزيين الخبر، والاستشهاد على قاعدة نحوية أو صرفية. وذكر ان بعضاً منهم قد اعترف بذلك، واقر الوضع. وفي هذه الاعترافات المنسوبة اليهم، ما هو باطل مصنوع. صنعه عليهم حسادهم ومنافسوهم في الصنعة، ورموه بين الناس على انه اقرار من اولئك العلماء بالوضع، ولا يعقل صدور مثل هذه الاعترافات منهم، لشهرتهم ولمكانتهم بين الناس، ولخوفهم من السمعة السيئة، واشتهارهم بالكذب والانتحال. وليس معنى هذا انهم لم يضعوا ولم يصنعوا شيئاً على الشعر الجاهلي، انما اشك في صحة ما قيل على السنتهم من اعترافهم بالدس والوضع.

وذكر ان اهل الكوفة كانوا يقدمون الاعشى، وان علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس، وان اهل الحجاز والبادية يقدمون زهيراً والنابغة، وقد كان اللازم ان يتعصب اهل الكوفة لامرئ القيس، فقد روى اكثر شعره حماد ورواة اخرون من اهل الكوفة. وقد كان "يونس بن حبيب"، وهو من البصريين ومن المتعصبين لمدينته يقول: "يا عجباً للناس، كيف يكتبون عن حماد وهو يصحف ويكذب ويلحن ويكسر".

وقد اتهم الكوفيون بأنهم كانوا اكثر الناس وضعاً للاشعار التي يستشهد بها "لضعيف مذاهبهم وتعلقهم على الشواذ واعتبارهم منها اصولاً يقاس عليها". "واول من سن لهم هذه الطريقة شيخهم الكسائي، قال ابن درستويه: كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز الا في الضرورة فيجعله اصلاً ويقيس عليه، فأفسد النحو بذلك". وقال "قال الاندلسي في شرح المفصل: والكزفيون لو سمعوا بيتاً واحداً في جواز شئ مخالف لاصول جعلوه اصلاً وبوبوا عليه، بخلاف البصريين".

واتهموا انهم كانوا يصنعون الشاهد من الشعر فيما لا يصيبون له شاهداً إذا كانت العرب على خلافهم، ولذلك تجد في شواهدهم من الشعر ما لا يعرف قائله، بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الاخر، وربما اخذوا من العرب المتحضرة، "ومن اجل هذا ومثاله كان البصريون يغتمزون على الكموفيون فيقولون: نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب واكلة اليرابيع وانتم تأخذونها عن اكلة الشواريز والكوامخ. ومن الاعراب الذين اخذ "الفراء"، عالم الكوفة بعد الكسائي عنهم اللغة، "ابي الجراح"، و "ابي مروان"، واهل ىالبصرة يمتنعون عن الاخذ عن امثال هؤلاء الاعراب، ولا يرون في قولهم حجة. "قال ابو حاتم: إذا فسرت حروف القرآن المختلف فيها، وحطيت عن العرب شيئاً، فأنما احكية عن الثقات منهم، مثل ابي زيد، والاصمعي، وابي عبيدة ويونس وثقات من فصحاء الاعراب وحملة العم، ولا التفت إلى رواية الكسائي، والاحمر والاموي، والفراء، ونحوهم".

واتهموا بأنهم كانوا يكثرون من الشعر، يقولونه على السنة الشعراء، قال "ابن سلام" في اثناء حديثه عن "الاسود بن يعفر" الشاعر الجاهلي: "وذكر بعض اصحابنا انه سمع المفضل يقول: له ثلاثون ومائة قصيدة، ونحن لا نعرف له في ذلك ولا قريباً منه. وقد علمت ان اهل الكوفة يروون له اكثر مما نروي، ويتجوزون في ذلك اكثر من تجوزنا". وكان الاسود، يكثر التنقل في العرب يجاورهم، فيذم ويحمد. وله في ذلك اشعار. له قصيدة جيدة، طويلة رائعة تعد من اول الشعر، وهي: نام الخلي فما احس رقادي  والهم محتضر لدي وسادي 

ونسمع قصصاً عن تغليظ علماء البصرة والكوفة بعضهم البعض، فنجد خلفاً الاحمر، وهو شيخ البصرة في الشعر، يذكر انه اخذ على "المفضل" الضبي في يوم واحد تصحيف ثلاث ابيات. ونجد "الاصمعي"، وهو من علماء البصرة كذلك، يحمل على الضبي في الشعر، ويرميه بعدم الفهم. ونجد قصصاً روي عن علماء مشاهير مثل "ثعلب" وغيره، يحمل فيه اولئك العلماء بعضهم البعض، وينتقص بعضهم على البعض الاخر.

ونحن إذا اردنا الوقوف موقفاً علمياً، فلا نستطيع الا ان نقول اننا لا نستطيع تبرئة اهل الكوفة من الصنعة والوضع، كما لانستطيع تبرئة اهل البصرة منهما، لان في كل مدينة من الدينتين منافسات بين العلماء، وتزاحم على الرياسة، وحسد، يدفع الإنسان على الوضع والصنعة والاخذ بالخبر مهما كان شأنه لافحام الخصوم، والتغلب عليهم. فأذا كان "حماد" عالم الكوفة في الشعر من الوضاعيين، وكان يصحف ويكذب ويلحن ويكسر، فقد كان "خلف الاحمر"، وهو عالم البصرة، مثله في الصنعةو والوضع والكذب. وكان "شوكر" وهو من اهل البصرة، ومن رجال المائة الثانية، ممن يضع الاخبار والاشعار، وفيه يقول خلف الاحمر

أحاديث الفها شوكر واخرى مؤلفة لابن دأب 

وقد نقح علماء الشعر من المدرستين والمدارس الاخرى ما اخذوه من الشعر الجاهلي، واجروا على ما لا يتفق منه والقواعد التي ثبتوها للنحو والعروض تهذيباً وتشذيبلاً، وعابوا منه اموراً مثل الاقواء والزحاف، واختلا الوزن، وما شاكل ذلك. وقد تحدث عن ذلك "المعري" في رسالة الغفران، وهو شاعر ومن نقدة الشعر، في احاديثه التي وضعها على السنة الشعراء في الجنة أو في النار، وفي اسئلته التي وجهها اليهم، أو وجهها غيره اليهم، كما في استفساره من "امرئ القيس" عن رواة اهل بغداد في انشادهم ابياتاً من قصيدته: "قفا نبك بزيادة الواو في أولها، فوضع الجواب على لسانه، بقوله: "ابعد الله اولئك! لقد اساءوا الرواية. واذا فعلوا ذلك فأي فرق يقع بين النظم والنثر? وانما ذلك شيئ فعله من لا غريزة له في معرفة وزن القريض، فظنه المتأخرون اصلاً في المنظوم، وهيهاتّ" ثم يقول: "لو شرحت لك ما قال النحويون في ذلك لعجبت".

ونرى "المعري" يوجه اسئلة إلى "امرئ القيس" فيقول له: "اخبروني عن كلمتك الصادية" و "الضادية" و"النونية" التي اولها: لمن طال ابصرته فشجـانـي  كخط زبزر في عسيب يمان

لقد جئت فيها بأشياء ينكرها السمع، كقولك: فأن امس مكروباً فيا رب غارة=شهدت على اقب رخو اللبان وكذلك قولك في الكلمة الصادية: على نقنق هيق له ولـعـرسـه  بمنقطع الوعساء بيض رصيص 

وقولك:   

فأسقي به اختي ضعيفة اذ نأت  واذ بعد المزدار غير القريض 

في أشباه لذلك، هل كانت غرائزكم لا تحس بهذه الزيادة? ام كنتم مطبوعين على إتيان مغامض الكلام وانتم عالمون عما يقع فيه? كما انه لا ريب ان زهيراً كان يعرف مكان الزحاف في قوله: يطلب شأو امأين قدما حسبـاً  نالا الملوك، وبذا هذه السوقا 

فأن الفغرائز تحس بهذه المواضع".

ثم يجيب "المعري" على لسان "امرئ القيس" بقوله: "ادركنا الاولين من العرب لا يحفلون بمجئ ذلك، ولا ادري ما شجن به "فأما انا وطبقتي فكنا نتمر في البيت حتى نأتي إلى اخره، فأذا فنى وقارب، تبين امره للسامع".

ثم نراه يسأل "امرئ القيس" عن قوله: الا رب يوم لك منهن صالح  ولا سيما يوم بدارة جلجل

أتنشده: لك منهن صالح? ام تنشده على الوراية الاخرى. فيجيب على لسانه بقوله: "اما انا فما قلت في الجاهلية الا بزحاف: لك منهن صالح 

وأما المعلمون في الإسلام، فغيروه على حسب ما يريدون".

وقد سأله "المعري" عن الشعر المسمط المنسوب اليه، فأنكر على لسانه ان يكون قد سمع به قط، قائلاً "وانه لقرى لم اسلكه، وان الكذب لكثير، واحسب هذا لبعض شعراء الإسلام، ولقد ظلمني واساء الي". ولما سأله عن "الاقواء" في شعره، قائلاً له: "وقد كان بعض علماء الدولة الثانية يجعلك لا يجوز الاقواء عليك"، اجاب على لسانه: "لانكرة عندنا في الاقواء".

وقد كان من اصعب الاشياء على بعض رجال المدرستين الا يجيبوا على اسئلة توجه اليهم اجابة تفيد بوجود علم لهم عنها، ولهذا كانوا يعمدون إلى الصنعة والافتعال. نجد ذلك عند اهل الاخبار، وعلى رأسهم "ابن الكلبي"، كما نجد ذلك عند رواة الشعر مثل حماد الراوية، وخلف الاحمر، كما نجده عند علماء اللغة. وقد اشرت في صفحات هذا الكتاب إلى امثلة عديدة من هذا القبيل، اظطر فيها المجيب على افتعال جواب وصنعة، ليظهر نفسه بمظهر العارف بكل شئ.

ويجب الانتباه إلى ان علماء البصرة أو الكوفة، أو غيرهم، مهما سموا في العلم وارتفعوا، فأنهم بشر، لم يزرقوا العصمة، وهم في التأثر والانفعال مثل رأي كائن حي، فقد يتأثر عالم من عالم متقدم عليه، فيحاول الغمز في علمه أو الطعن به. قال علي بن العباس: "رآني البحتري ومعي دفتر، فقال: ما هذا? فقلت شعر الشنفري. قال: والى ابن تمضي?قلت اقرأه على علي ابي العباس احمد بن يحيى. قال "رأيت ابا عباسكم هذا لامنذ ايام، فلم ار له علماً بالشعر مرضياً، ولا نقداً له، ورأيته ينشد ابياتاً صالحة ويعيدها، الا انها لا تستوجب الترديد والاعجاب فيها". وروى "أحمد بن يحيى الثعلب"، خبر مناظرات وقعت بين "ابي عمرو الشيباني"، والاصمعي، ترينا مبلغ التنافس الذي كان بين العالمين، واستهتار الاصمعي بخصمه، استهتاراً تجاوز الحد.

وقد حاول "السيوطي" ايجاد عذر لغمز العلماء بعضهم في بعض، بأن قال: "فأن قلت: فأنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين، والمتحلين به من المصرين كثيراً ما يهجن بعضهم بعضاً، فلا يترك له في ذلك سماء ولا ارضاً? قيل: هذا ادل دليل على كرم هذا الامر ونزاهة هذا العلم، إلا ترى انه إذا سبق إلى احدهم ظنة، لو توجهت نحوه شبهة سب بها، وبرئ إلى الله منه لمكانها، ولعل اكثر ما يرمى بسقطة في رواية، أو غمزة في حكاية، محمي جانب الصدق فيها، برئ عند الله من تبعتها، لكن اخذت عنه اما الاعتناق شبهة عرضت له، أو لمن اخذ عنه، واما لان ثالبه ومتعيبه مقصر عن مغزاه، مغموض الطرف دون مداه، وقد عرض الشبهة للفريقين، ويعترض كلا الطرفين ثم اخذ يعتذر عن ذلكح، بأنه وقع في سبيل العلم والحق، ثم قال: "واذا كانت هذه المتناقضات والمنافسات موجودة بين السلف القديم. . . جاز مثل ذلك ايضاً في علم العرب".

ومن هنا يجب الاحتراس كثيراً حين قرائتنا الطعون التي ترد على السنة العلماء يطعن فيها بعضهم ببعض، فأكثر هذا المروي عنهم، صادر عن طبيعة بشرية، تظهر بين الزعماء نتيجة التنافس الذي يقع بينهم على الزعامة والصدارة، ولو في زعامة العلم. ولا تقتصر هذه الطعون والمغامز على طعن علماء البصرة بعلماء اهل الكوفة، أو العكس، بل نجدها بين علماء المدينة الواحدة ايضاً، لان الموضوع موضوع زعامة ورئاسة، والتحاسد بين المتحاسدين لا ينحصر بقوم دون قوم، وقد يقع بين الاخوة الاشقاء.

الفصل الحادي والخمسون بعد المئة
العصبية والشعر

رأيت ان اهل الكوفة كانوا يفضلون بعض الشعراء الجاهليين على غيرهم وان اهل البصرة كانوا يرجحون غيرهم عليهم، فلا يرون التقدمية لمن اختارهم اهل الكوفة، ورايت ان اهل الحجاز يقدمون شعراء اخرين على الشعراء الذين قدمهم اهل الكوفة أو اهل البصرة.

وموضوع من هو اشهر شعراء الجاهلية، موضوع تضاربت فيه الاراء كثيرا وكثرت فيه الاقوال، لما له من تماس بروح العصبية، والعصبية إذا دخلت قضية افسدتها. ثم ان القائم على احكام الاذواق، واذواق الناس في الشعر وفي الذوق وفي التذوق متفاوتة متباينة، ثم هو لا يستند على اسس مقررة تعود إلى ايام الجاهلية، كنقد علمي ودراسة عامة شاملة قام بها الجاهليون في ايامهم، وانما مرجعه اقوال قيل انها صدرت من خبراء الشعر وعلماؤه، لا ادري مقدار ما فيها من صدق أو كذب. وكل ما استطيع ان اقوله: انها آراء دونت في الإسلام، وهي مرسلة، محمولة في المبالغة في الاستحسان لقصيدة أو قطعة أو لبيت، بل ولنصف بيت احيانا، وهي تمثل استذواقا شخصيا، لحالة من الحالات، لا لغالب شعر الشاعر وعامة ما روى عنه، لما فيه من فن وابداع، ثم انك تجدها احيانا متناقضة متضاربة، تجد رواية تقول ان الشاعر الفلاني، أو عالم الشعر فلان قال: اشعر الناس فلانا، ثم تجد رواية ثانية تذكر انه شاعرا اخر محله فجعله اشعر الشعراء، ثم لا تلبث ان تجد رواية ثالثة، تذكر انه اختار شاعر غيرهما، فجعله اشعر شعراء الجاهلية، واشعر الناس، فتحتار في امر هذا التناقض، كيف وقع، كيف حدث والحاكم رجل واحد ? هل وقع هذا حقا، أو انه كان من وضع المتعصبين للشعراء، ارادوا تقديم شاعر لهم على سائر الشعراء، فاحتاجوا إلى حجة وسند اثبات، لاثبات دعواتهم، وتاكيدها، فاختلقوا قولاً نسبوه إلى عالم معروف وصنع قوم غيرهم مثل ما صنعوا، فاختلقوا نسبوه إلى هذا العالم ايضا، فمن ثم تعددت الاقوال وتصادمت، فليس للعلماء اذن يد في هذا التناقض أو أي ذنب ن انما الذنب هو ذنب المختلقين الذين دسوا دسهم على العلماء.

وقد لا يكون للاختلاق يد في ظهور هذا التناقض، وانما سبيهان شخصا يسال عن الشاعر، فيخطر بباله خاطر من شعره، جعله يستعذبه أو يستعذب جزءا منه، يراه اهنه اشعر الناس، ث يمض وقت، ينسى فيه ما قال، فيسأله اشخاص: من اشعر الناس: فيتخطر خاطرا، أو يحمله المجلس الذي كان يدور فيه الحديث اذ ذاك على الخاطر، يحمله على الحكم بتفوق شاعر اخر، وهكذا ومن هنا كان سبب هذا التناقض والاختلاف في الرأي.

وقد كان من السهل وقوع مثل هذا التناقض، لأن العلم كان بالمشافهة، ولم يكن عن تدوين وقراءة كتب، وكان بالذاكرة والتذكر، وكان حكمهم بنصف البيت وبالبيت وبالقطعة وبالقصيدة، أو بجملة قصائد، لا بمراجعة شعر كل شاعر، وبمقابلة بينهما، ثم للحكم للمتفوق الاجود. فذلك امر لم يكن معروفا عندهم. فلما وقع التدوين، واخذ علماء الشعر في التنقير في كل جهة بحثا عن الشعر وما قيل فيه، ظهر ذلك التناقض وبان، ودون كل ما أمكن تدوينه، وبعد ان ضاع من الشعر ومن الآراء التي قيلت عنه ما ضاع، وكانت الخلاصة هذا الواصل الينا.

وقد اشار اهل الاخبار إلى ما كان للعصبية من اثرها في تفضيل الشعراء بعضهم على بعض: عصبية قبلية، وعصبية محلية، وعصبية منافسة وتراكض على الزعامة. فالقبائل تقدم شعرائها على شعراء غيرها وتجعل في ايديهم الوية الشعر، وقيادة الشعراء في معارك القصيد، واهل العصبية إلى عدنان، يقدمون شعر "ربيعة" واولهم "المهلهل" على غيره، ويرون انه مفتق الشعر ومهلهله، وأول من قصد الفصائد، واهل اليمن يرون تقدمة الشعر لليمن، ويزعمون انه بدأ في الجاهلية بامرئ القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت، وفي المولدين بالحسن بن الهانئ، واصحابه: مسلم بن الوليد، وابي الشيص، ودعبل، وكلهم من اليمن، وفي الطبقة التي تليهم بالطائيين: حبيب، والبحتري، ويختمون الشعر بابي الطيب، وهو خاتمة الشعراء لا محالة، ويرجعون نسبه إلى اليمن.

قال "ابن رشيق" في "المعدة": "والشعراء اكثر من يحاط بهم عددا، ومنهم مشاهير قد طارت اسمائهم، وسار شعرهم، وكثر ذكرهم، حتى غلبوا على سائر من كان في ازمانهم، ولكل احد منهم طائفة تفضله وتتعصب اليه، وقل ما يجتمع على واحد، الا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، في امرئ القيس انه اشعر الناس .... ".

وكان علماء البصرة يقدمون امرأ القيس، اما اهل الكوفة فكانوا يقدمون الاعشى، واما اهل الحجاز والبادية، فقدموا زهيرا والنابغة. وكان اهل العالية لا يعدلون بالنابغة احدا، كما ان اهل الحجاز لا بزهير احدا. وهذا ما اتت به الرواية عن "يونس بن حبيب" النحوي.

ولكنك إذا تتبعت واحصيت ما قيل على السنة اهل البصرة أو الكوفة أو الحجاز من اقوال، ترى تناقضا بين هذه الرواية وبين ما حصلت عليه من دراسة تلك الاقوال. تناقضا ينبئك ان هذا المروي، وهو وجهات نظر وآراء اشخاص، و لا يمثل اجماع اهل الكوفة، أو اجماع اهل البصرة و لا اجماع اهل الحجاز، أو اجماع اهل البادية، ثم هو كله آراء وردت في الإسلام، وان حاولت ارجاع اصلها إلى الجاهلية.

ويذكر من يقدم "امرأ القيس" على غيره، ان الرسول ذكره يوما، فقال: "ذلك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، يجيء يوم القيامة وبيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار". أو انه قال: انه اشعر الشعراء، وقائدهم إلى لنار. يعني شعراء الجاهلية والمشركين".

وروي ان "عمر بن الخطاب" كان يفضل "امرأ القيس" على غيره، ذكر انه قال للعباس بن عبد المطلب، "وقد ساله عن الشعراء: امرأ القيس سابقهم: خسف لهم عين الشعر، فافتقر عن معان عور اصح بصر".

"يريد انه اول من فتق صناعة الشعر، وفنن معانيها واحتذى الشعر على مثاله". وذكر ان "علي بن ابي طالب" كان يرى له التقدم على غيره، وذلك بقوله: "رايته احسنهم نادرة، واسبقهم بادرة، وانه لم يقل لرغبة ولا لرهبة". فأنت ترى ان الرسول وعمر وعلي، قدموا "امرأ القيس" على غيره وهم من اهل الحجاز. ولكننا نجد في الوقت نفسه رواية تذكر ان "ابن عباس" "قال: قال لي عمر: انشدني لأشعر شعرائكم. قلت من هو يا امير المؤمنيين ? قال: زهير، قلت: ولِمَ كان ذل ? قال: كان لا يعاضل بين الكلام، ولا يتتبع حوشية، ولا يمدح الرجل الا بما فيه". فهو يفضل في هذه الرواية زهيرا على غيره، بما فيهم امرأ القيس، اذ لم يشر اليه باستثناء.

ثم نجد رواية اخرى تذكر ان "عمر بن الخطاب قال: أي شعرائكم يقول: ولست بمستبق أخاً لا تـلـمـه  على شعث أي الرجال المهذب 

قالوا: النابغة. قال هو: أشعرهم". "وكان أبو بكر رضي الله عنه، يقدم النابغة، ويقول: هو احسنهم شعراً، واعذبهم بحراً، وأبعدهم قعراً". فأبو بكر وعمر في هذا الموقف سواء، فضلا النابغة على سائر الشعراء.

ولو استعرضنا رأي الشعراء في في أشعر الشعراء، وجدناه غير متفق، فقد يفضل شاعر شاعراً، وقد يخالفه فيه شاعر آخر، وقد ينسب لشاعر رأي، ثم ينسب لشاعر رأي، ثم ينسب له رأي مخالف. سئل "لبيد": "من اشعر الناس? قال: الملك الضليل، قيل: ثم من ? قال: الشاب القتيل، قيل: ثم من? قال: الشيخ أبو عقيل- يعني نفسه. و "روى الجمحي أن سائلاً سأل الفرزدق: من أشعر الناس? قال: ذو القروح، قال: حين يقول ماذا? قال: حين يقول ماذا? قال: حين يقول: وقاهم جدهم ببني أبـيهـم  وبال?اشقين ما كان العقابُ 

وأما دعبل فقدمه بقوله في وصف عقاب:   

ويلُمهّا من هواء الـجـوّ طـالـبةً  ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب 

وهذا عنده أشعر بيت قالته العرب.

وقد شئل الفرزدق مرة: "من اشعر العرب? فقال: بشر بن لابي حازم، قيل له: بماذا? قال: بقوله: ثوى في ملحدٍ لابُدَّ منـه  كفى بالموت نأياً وأغتراباً 

ثم شئل جرير، فقال: بشر بن لأبي حازم، قال: بماذا? قال: بقوله رهين بلى، وكل فتى سيبلى  فشقي الجيب وانتحي انتحابا 

فأتفقا على بشر بن ابي خازم كما ترى. وقد رأيت أن الفرزدق كان قد سئل السؤال نفسه: من أشعر الناس? فأجاب: ذو القروح، أي أمرئ القيس. بسبب بيت فوقه به على غيره من الشعراء. بينما هو يقدم "بشر بن القيس". بسبب بيت فوقّه به على غيره من الشعراء. بينما هو يقدم "بشر بن أبي خازم" في هذه الرواية. وينسب أهل الاخبار لجرير رواية أخرى تزعم أنه سئل من أشعر الناس، فقال النابغة. فخالفت هذه الرواية ما جاء في الرواية الأخرى.

"وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم يسأله عن اشعر الشعراء في الجاهلية وأشعر شعراء وقته، فقال: أشعر شعراء الجاهلية امؤ القيس، وأضربهم مثلاً طرفة. وأما شعراء الوقت، فالفرزدق أفخرهم، جرير أهجاهم، والاخطل أوصفهم". "وفضل النقاد العرب طرفة على سائر الشعراء بإجاتنه وصف النلقة في معلقته على نحو لم يسبق اليه، ويميل بعضهم إلى عدة أشعر شعراء الجاهلية".

"وقيل لكثير أو لنصيب: من أشعر العرب? فقال: أمرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والاعشى إذا شرب". فهو رأي قدم الشعراء المذكورين على غيرهم في حاللات معينة، ولم يقدم "امرأ القيس" على غيره بصورة مطلقة. و "زعم أبن أبي الخطاب أبا عمرو كان يقول: أشعر الناس أربعة: امرؤ القيس، والنابغة، وطرفة، ومهلهل".

"وقالت طائفة من المتعقبين: الشعراء ثلاثة: جاهلي وأسلامي، ومولد، فالجاهلي امرؤ القيس، والإسلامي ذو الرمة، والمولد أبن المعتز. وهذا قول يفضل البديع وبخاصة التشبيه على جميع فنون الشعر".

وحجة من قدم امرأ القيس على غيره أن امرأ القيس لم يتقدم الشعراء لأنه قال مالا لم يقولوا، ولكنه سبق إلى أشياء فأستحسنها الشعراء، وأتبعوه فيها، لأنه أول من لطّف المعاني، ومن أستوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيد، وقّرب مأخذ الكلام، فقيد الاوابد وأجاد الاستعارة والتشبيه". " وكان أحسن طبقته تشبيهاً".

ووجد "زهير" له أنصاراً وأعوااناً، من المعجبين به في الإسلام بالطبع، قدّموه على غيرم من شعراء الجاهلية. وقد سبق أن أشرت إلى رواية زعمت أن "عمر" فضله على غيره من شعراء أهل الج=اهلية. وذكر أن "عكرمة بن جرير" سأل أباه جريراً: من أشعر الناس? قال: أعن الجاهلية تسألني أم الإسلام. قال: ما أردت إلا الإسلام. فإذا ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أشعر الناس، فقال: الذي يقول: ومن يجعل المعروف من دون عرضه  يفره ومن لايتق الـشـتـم يشـتـم

وليس الذي يقول: ولست بمستبق أخـاً لاتـلـمـه  على شعث أي الرجال المهذب

بدونه، ولكن الضراعة أفسدته، كما افسدت جرولاً، والله لولا الجشع لكنت أشعر الماضين، وأما الباقون فلا شك أنمي أشعرهم. قال أبن عبّاس: كذلك أنت يأبا مليكة". وقائل البيت الأول زهير، وقائل البيت الثاني هو النابغة.

ولكّنا نقرأ في رواية أخرى ما يخالف هذا الرأي، نقرأ فيها ان سائلاً سأل الحطيئة عن أشعر الناس، فقال أبو دؤاد حيث يقول: لا أعُدّ الإقتار عدماً، ولكن  فقد من قد رزئته الإعدام

وهو رأي لم يقبل به أحد من النقاد. وجعل بعده "عبيداً".

ورجح بعضهم "الأعشى" على غيره، رجحه الشاعر "الأخطل" مثلا، فزعم أنه قال: "الأعشى أشعر الناس". وكان خلف الأحمر يقول: الأعشى أجمعهم. وقال أبو عمرو بن العلاء مثله البازي يضرب كبير لالطير وصغيره، وكان أبو الخطاب الأخفش يقدمه جداً". " وقال بعض متقدمي العلماء: الأعشى أشعر الأربعة". والأربعة هم امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، وعنترة. "حكى الاصمعي عن أبي طرفة: كفاك من الشعراء أربعة: زهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والاعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب". وزاد قوم: وجرير إذا غضب"، "وقيل لكثير، أو لنصيب، من أشعر العرب? فقال: امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا شرب".

وحجة من قدم "الاعشى"، أنه كان "أكثرهم عروضاً وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جداً، وأكثرهم مدحاً وهجاء ونظراً وصفة كل ذلك عنده".

ووجد "النابغة" من فضله على غيره من شعراء الجاهلية، وفيهم الخليفة "أبو بكر" الذي كان يقول عنه "هو أحسنهم شعراً، وأعذبهم بحراً، وأبعدهم قعراً". و "عمر" والشاعر "جرير"، وحجة من قدم النابغة على غيره أنه: "كان أحسنهم ديباجة شعرٍ، وأكثرهم رونق كلام، وأذهبهم في فنون الشعر، وأكقثرم طويلة جيدة، ومدحاً وهجاء، وفخراً، وصفة"، " ,اجزلهم بيتاً. كان شعره كلام ليس فيه تكلف".

وزعم أن "الكميت" كان يقول: "عمرو بن كلثوم أشعر الناس"، وأن الشاعر "ذو الرمة" فضل "لبيداً" على كل الشعراء.

و "كان أبن أبي أسحاق، هو عالم، ناقد، ومتقدم مشهور، يقول: "أشعر الجاهلية مُرَقش"، وسأل عبد الملك بن مروان الأخطل: من اشعر الناس? فقال: العبد العَجلاني، يعني تميم بن أبي بن مقبل"، وهو من المخضرمين، "وقيل لنصيب مرة: من اشعر العرب? فقال: أخو تميم، يعني علقمة بن عبدة، وقيل أوس بن حجر، وليس لأحد من الشعراء بعد امرىء القيس، ما لزهير والنابغة، والأعشى في النفوس.

وذكر "أبن سلام" أن "أبا عمرو بن العلاء" كان يرى أن "خداش أبن زهير" " أشعر في قريحة الشعر من لبيد، وأبى الناس إلا تقدمه لبيد. وكان يهجو قريشاً". ولعل هذا الهجاء هو الذي جعل الناس يأبون تقديمه في الشعر.

وروي عن "الاصمعي"، أن "أبا عمرو بن العلاء" كان يقول: "كان أوس بن حجر فحل العرب، فلما أنشأ النابغة طأطأ منه"، وذكرعنه أيضاً، وقد سئل عن النابغة وزهير، أنه قال: "ماكان زهير يصلح ان يكون أخيذاً للنابغة، يعني راوياً عنه: وروي أن اهل البصرة أجمعوا على امرىء القيس وطرفة بن العبد واجمع اهل الكوفة على بشر بن ابي خازم والاعشى الهمداني، واجمع اهل الحجاز على النابغة و زهير.

وليونس النحوي رأي في اشعر الشعراء، قيل انهه سئل "عن اشعر الناس فقال: لا أومىء إلى رجل بعينه، ولكني اقول: امرؤ القيس إذا غضب والنابغة إذا رهب، و زهير إذا غضب". فربط الشاعرية بحالته من الحالات النفسية. وورد التفضيل على هذا النحو: "اشعر الناس أمرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والاعشى طرب. وكان زهير اجمع الناس للكثير من المعاني في القليل من الالفاظ، واحسنهم تصرفا في المدح والحكمة".

ترى مما تقدم ان موضوع من كان اشعر شعراء الجاهلية موضوع حساس، لما كان للعصبية وللذوق الشخصي دخل فيه، ثم انهم لم يكونوا يحكمون من الدارسة الكل، أي بدراسة كل ما ينسب لى الشاعر من شعر، وانما كانوا ربما حكموا على الشاعر ببيت أو بيتين، وحكم مثل هذا لا يمكن ا يتخذ حكما علميا، اضيف إلى ذلك انهم لم يميزوا بين ما نسب إلى الشاعر من شعر، وبين ما صح له من شعر، بعد تمييز صحيحه من فاسده، ثم مطابقته ومقابلته بشعر الشعراء الاخرين. إلى امور اخرى من هذا لقبيل، يطرقها النقاد الشعر والادب، بمقاييس ثابتة، اما مقاييس تلك الايام فقد اختلفت وخضعت للعواطف والاهواء، و " السيوطي " على حق حين يقول في هذا الموضوع: "و هذا يدلك على اختلاف الاهواء وقلة الاتفاق".

وقد يعمد علماء الشعر إلى بيت من شعر، فيجعاونه احسن بيت قيل في الجاهلية، أو عند العرب، فقد قالوا: ان الاتفاق قد وقع على ان امدح بيت للجاهلية، وهو قول زهير: تراه إذا ما جئته متـهـلـلا  كأنك تعطيه الذي انت سائله 

ولكنهم قالوا ان الشاعر "دعبل" قال: ان امدح بيت قالته العرب في الجاهلية قول ابي الطمحان القيني: وان بـنـي اوس بـن لأم ارومة  علت فوق صعب لا ترام مراقبته 

أضاءت لهم احساسهم ووجوههـم  دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

وروي عن الاصمعي قوله ان بيت "أبي ذؤيب" الهذلي: والنفس راغبة إذا رغبتها  واذا ترد لى قليل تقنـع

هو ابرع بيت قالته العرب.

وقد كان "بشار بن برد" حذرا حين سئل: اخبرنا عن اجود بيت قالته العرب ? فقال: ان تفضيل بيت واحد على الشعر كله لشديد، ولكن قد احسن كل الاحسان لبيد في قوله: واكذب النفس إذا حـدثـتـهـا  ان صدق النفس يزري بالامـل

واذا رمت رحيلا فـارتـحـل  واعصي من يامر توصيم الكسل 

وقد ذهب علماء الشعر إلى ان اشعر اهل المدر، اهل يثرب، ثم عبد القيس ثم ثقيف، وان اشعر ثقيف "امية بن ابي صلت". اما اشعر اهل يثرب، فهو حسان بن ثابت في نظر كثير من رواة الشعر. وورد في بعض الاخبار انه اشعر اهل المدر.

نقد الشعر

وذكر ان الشعراء الجاهليين، كانوا يراجعون شعر بعضهم بعضا، وينقدونه لما كان بينهم من تسابق على نيل الشهرة والاسم، أو لما كانوا يجدونه في شعر الشاعر من هنة أو غفل أو هفوة، كالذي ذكروه من امر الشاعر "المتلمس"، ذكر ان "طرفة بن العبد"، سمع قوله: وقد اتناسى الهم عند احتضاره  بناج عليه الصيعرية مكـدم

وكان اذ ذاك صبيا فقال: ااستنوق الجمل فصار مثلا ً.

أو انهم كانوا ينقدونه عند التحكيم. ليقتنع الشعراء بصحة حكم الحكم، كالذي كان من امر "النابغة" في سوق عكاظ، وكالذي روي من تنازع "امرأ القيس" مع "علقمة" الفحل في الشعر، وقول كل واحد منهما لصاحبه: "انا اشعر منك"، ومن قبولهما بتحكيم "ام جندب"، زوج "أمرىء لقيس" بينهما. وقبول "ام جندب" الحكم بينهما. فذكر انها قالت اهما: "قولا شعرا تصفان فيه الخيل على روي واحد وقافية واحدة، فأنشداها، ثم حكمت بترجيح شعر علقمة على شعر زوجها، وأظهرت لهما العوامل التي حملتها على هذا الترجيح، فغضب امرؤ القيس عليها وطلقها، فخلف عليها علقمة. وهي قصة من هذا القصص الموضوع على "امرىء القيس" ويقتضي ذلك ان الشعراء كانوا يحفظون شعر غيرهم، فقد كان منهم من إذا قابل شاعرا، وجادله في شعره، انشد شعره، وبين له ما يراه فيه من عيوب. وقد رأيت كيف زعموا ان " النابغة " لما جاء " يثرب"، اراد اهلها ان يظهروا له ما في شعره من " إقواء"، وهو من عيوب الشعر، فاموا قينة فغنت به، وأبانت له موطن الإقواء، فأحس به، ويقال له انه تركه من يومئذ.

اما استحسان العلماء لشعر شاعر، أو تخبيثه أو يسخيفه ونقده، فقد خضع عندهم لعوامل عديدة، قامت في بادىء امرها على الذوق والمزاج، فهذا يستحسن شعرا لورود بيت فيه استحسنه واستعذبه على حين يرى آخر انه لا يساوي شيئاً، وليس فيه ما يدعوا إلى المدح والثناء عليه، ثم على العروض، فنرى العسكري يتعرض على اختيار الصمعي لميمية المرقش، وقد سبق لابن قتيبة ان اعترض على اختيار الاصمعي القصيدة ايضا، وقال الآمدي انه ليس بحاجة إلى ذكر العيوب العروضية فيها لكثرتها، ثم على النحو والبيان و البديع وغير ذلك من علوم الصناعة التي وضعت في الإسلام، وقد كان عليهم ملاحظة هذه العلوم انما وضعت أو ثبتت في الإسلام، وان الذوق الجاهلي يختلف عن الذوق الإسلامي، وان "الخليل" ليجمع كل بحور الشعر الجاهلي، بل طرح بعض الاوزان الهزلية التي كان القدماء قد استنبطوها، ولعله لم يتمكن من الوقوف على اوزان اخرى، لانها لم تكن مألوفة بين عرب العراق، أو لانها صيغت بلهجات قبائل لم يرتح من شعرها، لانه من الشعر القبلي الخاص.

وفضل العلماء الشعر الذي يكون فيه البيت تاما مستغنيا بمعناه عن غيره، وقالوا لذلك: البيت المقلد. لأنه قائم بذاته غني عن غيره، يضرب به المثل. ولهذا رأوا في القصيدة الجيدة، ان تكون ابياتها مقلدة، إذا قدمت بيتا منها على بيت أو ابيات، أو إذا اخرت بيتا منها، أو حذفت بيتا منها أو اكثر، فانها لا تتاثر بهذا التغير والتبديل. ولعل لهذا الرأي صلة بقولهم: "ومقلدات الشعر وقلائده البواقي على الدهر".

وقد اورد "الجاحظ" رأيا في القصيدة لخلف الاحمر، فقال: "اما قول خلف الاحمر: وبغض قريض القوم اولاد علة فانه يقول: إذا كان الشعر مستكرها، وكانت الفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلا لبعض، كان بينها من التنافر ما بين اولاد العلات. واذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب اختها مرضيا موافقا، كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة.

قال: رأينا امثلة كثيرة في استحسان شعر شاعر، أو في المفاضلة بين شعر الشعراء، والموازنة بينهم، وقد بنيت على ابيات، اعجبت الناقد المفاضل، ففضل شاعره الذي جعله اشعر الشعراء على غيره، ثم رأيناه نفسه، لكن في موقف آخر يفضل غيره عليه، بسبب بيت أو ابيات اعجبه أو اعجبته. وقد تبدلت هذه النظرة في ايام العباسيين، فنجد لابن قتيبة رأيا في النقد يستند عل اراء من تقدم عليه وعلى ملاحظاته الشخصية في النقد والموازنة بين الشعراء، وقد يخالف غيره على رايه. خذ ما قاله من نقد مرير في "الاصمعي" حيث يقول: "ومن هذا الضرب ايضا قول المرقش: هل بالديار ان تجيب صَمَمْ  لو ان حياً ناطقا كـلّـم

يابى الشباب الاقورين ولا  تغبط أخاك ان يقال حكم

والعجب اهل الاخبار ان من الشعراء من كان يستحسن بيت شاعر، فسطو عليه. ونجد "ابن قتيبة" يذكر في كتابه "الشعر و الشعراء" ما اخذه الشعراء بعضهم من بعض، فذكر مثلا ان "طرفة"، و "النابغة" الجدعي، و الشماخ، و "اوس بن حجر"، و "النجاشي"، و زهير، والمسيب، وزيد الخليل أخذوا من شعر " امرىء القيس"، فنظموه في شعرهم. واذا صح ذلك، كان معناه ان اولئك الشعراء كانوا قد حفظوا شعر "امرىء القيس"، وانهم كانوا يحفظون اشعار غيرهم من الشعراء المتقدمين عليهم أو المعاصرين لهم، وبذلك سطوا على ذلك الشعر أو على معناه.

غير اننا لو درسنا الامثلة التي ذكرها "ابن قتيبة" وغيره على انها من سرقات الشعر، نرى ان اكثرها لا يمكن ان يعد سرقة، لان للسرقة الشعرية علامات، ولا نكاد نلمس من هذه العلامات شيئا في الشعر المتهم بانه شعر مسروق. وانما نجده من قبيل توارد الخاطر لا غير، اسرع نقاد الشعر، فجعلوه سطوا وسرقة.

ونحن لا نعلم من امر نقد الشعر عند الجاهليين إلا ما جاء في الموارد الإسلامية وهو شيء قليل، وهو شيء لا ندري ايضا مكانه من الصحة، وكل ما لدينا من تقسيم للشعراء إلى طبقات ومن تفضيل شعر على شعر على شعر هو مما عمل في الإسلام، صنع وفق قواعد نقد دونها العلماء. وقد ظهرت بواكير النقد العلمي للشعر الجاهلي عند علماء اللغة والنحو والعروض، ثم تولاها علماء راعوا اصول البيان والبلاغة والبديع في نقد الشعر، ولما كان هذا النقد لا يخص موضوعنا بالذات، وقد كتب عنه المتخصصون، فأنا اترك أمره اليهم، وقد وضعت فيه مؤلفات حديثة، وضعها عرب ومستشرقون.

أشعر الناس حياً

ويروي أهل الاخبار أن أشعر الناس حياً هذيل. وقيل: "أفصح الناس: علياتميم وسفلى قيس، وقيل: سافلة العالية وعالية السافلة، يعني: عجز هوزان. واهل العالية: أهل المدينة ومن حولها ومن يليها ودنا منها، ولغتهم ليست بتلك عند "أبي زيد".

ويلاحظ أن هنالك قبائل كثيرة لم يرو علماء الشعر لها شعراً، أو انهم رووا شعراً قليلاً لها، بينها قبائل كبيرة معروفة، كان لها تقدم ونفوذ، مثل: "الغساسنة" و "تنوخ" و "لخم" و "بهراء" و "كلب" ولا يعقل أن يكون الله قد حرم هذه القبائل من قول الشعر، فلم ينبت في ارضها شاعر ولم يقم بينها من جارى القبائل الأخرى في قول الشعر، وهم عرب مثل غيرهم، لهم حس وشعور، فلا يعقل عدم ظهور شعراء بينهم، ويظهر أن سبب اهمال رواة الشعر لشعر هذه القبائل هو اعتبارهم هذه القبائل دون القبائل الاخرى في اللغة والفصاحة، لأنهم كانوا على اتصال بالحضر، فلم يسائلوهم، ولم يقيموا لشعرهم وزناً، ولهذا لم يصل منه الينا شيئ، أو إلا القليل منه، فظهرت بذلك القبائل في جملة القبائل المقلة في الشعر.

وقد روي لبعض الشعراء شعر كثير، فيه قصائد طويلة، وصل لنا في دواوين، أو في كتب الشعر والادب، فوقفنا بذلك على شعرهم. وهناك شعراء اشتهر أمرهم وعرف ذكرهم، إلا أن معظم شعرهم قد ذهب معهم، فلم يبقى منه الا القليل، بحيث لا يتناسب هذا الباقي منه مع الشهرة التي أحاطت بهم. وقد عرف هؤلاء بالشعراء المقلين.

ومن المقلين في الشعر: طرفة بن العبد وعبيد بن الابرص، وعلقمة الفحل، وعدي بن زيد، وطرفة أفضل الناس واحدة عند العلماء. وهي المعلقة: لخولة أطلال ببرقة ثهمد 

وله سواها يسير. ومن المقلين سلامة بن جندل، وحصين بن الحمام المري، والمتلمس، والمسيب بن علس، ومنهم عنترة، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، وعمرو بن معدي كرب، والاسعر بن أبي حمران الجعفي، وسويد بن أبي كاهل، والأسود بن يعفر.

الشعر والإسلام

ورد في الحديث: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحاً يريه، خير أن يمتلئ شعراً"، وورد أن رسول الله بيناً كان بالعرج، إذ عرض شاعر ينشد. فقال رسول الله: "خذوا الشيطان، أو امسكوا الشيطان لأن تمتلئ جوف الرجل قيحاً، خير له من أن يمتلئ شعراً". وفي القرآن ) وما علمناه شعراً وما ينبغي له إن هو الا ذكر وقرآن مبين(، و)بل قالوا: اضغاث احلام، بل افتراه بل هو شاعر، فليأتنا بآية كما ارسل الأولون(، و)يقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون(، و)أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون(، و)ما هو بقول شاعر، قليلاً ما تؤمنون(، و)الشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر انهم في كل واد يهيمون. وانهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(.

وورد عن "عائشة" قولها، وقد قيل لها: "هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل ببيت اخي بني قيس، فيجعل آخره أوله، وأوله اخره. فقال له ابو بكر: إنه ليس هكذا ! فقال نبي الله: اني والله ما انا بشاعر ولا ينبغي لي". وورد في تفسير: "بل قالوا: اضغاث احلم، بل افتراه، بل هو شاعر". "بل قال بعضهم هو اهاويل رؤيا رآها في النوم. وقال بعضهم: هو فرية واختلاق افتراه و اختلقه من قبل نفسه، وقال بعضهم: بل محمد شاعر. وهذا الذي جاءكم به شعر". وورد في المعنى: "ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون"، ان قريشا قالوا: "أنترك عبادة الهتنا لشاعر مجنون. . يعنون بذلك نبي الله صل الله عليه وسلم". وقالوا في معنى "ام يقولون شاعر نتربص به ريب المنون"، " قال ذلك قائلون من الناس: تربصوا بمحمد صلى لله عليه وسلم، الموت يكفيكموه كما كفاكم شاعر بني فى وشاعر بني فلان"، و " قال قائل منهم احسبوه في وثاق ث تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من قبله الشعراء زهير والنابغة، انما هو كاحدهم". وفسر قوله تعالى: "وما هو بقول شاعر"، ب "ما هذا القرآن بقول شاعر لان محمداً لا يحسن قيل الشعر فتقولوا هو شعر"، وقوله: "والشعراء يتبعهم الغاوون"، "الغاوون الرواة"، وذكر انهم في كل لغو يخوضون، وان الله استثنى منهم شعراء المؤمنين.

وقد كره ناس الشعر لما ورد عنه في القرآن الكريم، وفي الحديث، وامتنع بعض الشعراء من قوله كالذي ذكروه من ترك لبيد الشعر بعد دخوله الإسلام، ومن قوله للخليفة "عمر" أو لعامله على الكوفة، وقد سأله عما قاله من الشعر في الإسلام: "ما كنت لأقول شعراً بعد إذ علمني الله سورة البقرة وآل عمران". وأهمل بعض الصحابة رواية الشعر، لما فيها من تذكير بأيام الجاهلية وبأيامها، وأقبل اخرون على القرآن يحفظونه بدلاً من الشعر الجاهلي، ورأى آخرون أن في حفظه وفي انشاده إثارة لنعرة الجاهلية بعد أن حرمها الله، كراهية وقوع الفتنة، وحدوث القتال الذي كان يقع في الجاهلية، لاسيما ما يتعلق منه بالمديح وبالهجاء وبالأيام، ولهذا قال "عمر" لحسان بن ثابت يوم مر به وهو ينشد الشعر بمسجد رسول الله: أرغاء كرغاء البطر?فقال حسان: دعني عنك يا عمر فوالله إنك لتعلم لقد كنت انشد في هذا المسجد من هو خير منك فما يغير علي ذلك، فقال عمر: "صدقت".

فهذا الشعر المفرق المسبب للفتن أو الثال للاعراض، هو الشعر الذي كره الناس روايته أو نظمه، ولهذا كان"عمر" يحاسب الهجائين فلما هجا "الحطيئة" "الزبرقان بن بدر"، وشكاه "الزبرقان" عليه، حكم "عمر" "حسان بن ثابت" فيه، فحكم عليه أنه "لم يهجه، ولكن سلح عليه، فهو اشد ايلاماً من الهجاء، فحبسه عمر، وقال "يا خبيث لأشغلنك عن اعراض المسلمين"، ولما هجا النجاشي "بني عجلان"، فشكوه إلى عمر حكم "عمر" "حسان بن ثابت"، و"الحطيئة"، في امر الهجاء، فلما حكما بأنه هجاهم، قال له "عمر": "إن عدت قطعت لسانك". رويأن رجلاً مر بباب رجل، وقد كان فتمثل: هل عـلـمـت ومـا اسـتـودعـت مـكـتــوم  فاستعدى رب البيت عليه "عمر"، فأمر به "عمر"فحد

وذكر إن النبي قال: "من قال في الإسلام هجاء مقذعاً فلسانه هدر". وأنه بلغه هجاء الاعشى "علقمة بن علاثة العامري"، نهى اصحابه أن يرووا هجاءه. وروي أن المنع عن رواية الشعر، كان خاصاً بالشعر الذي هجا به النبي.

ولما هجا "ضابئ بن الحارث" وكان رجلاً بذياً كثير الشر، وكان بالمدينة صاحب صيد وصاحب خيل، قوماً من "بني نهشل" استعدوا عليه "عثمان" فحسبه. فكان حبسه لهجائه لا لشعره.

ومع ذلك، فقد تهاجى الشعراء في ايام الأمويين وتنازعوا، وتطاول بعضهم على بعض، وجرأت السياسة هذا الهجاء وأمدته بوقود يزيد في حدته حدة، لعصبية وسياسة، وتجرأ البعض في هجاء الحكومة وفي هجاء اللمعارضين، وحرض "يزيد بن معاوية" الشاعر "الاخطل" على هجاء الانصار، وفي محيط مثل هذا المحيط، انقسم إلى احزاب وفرق، متخاصمة شديدة عنيفة في الخصومة، لا بد ةأن يجد الشعر فيه أرضاً طيبة، ومنبتاً خصباً مساعداً. فكانت للشعراء حرية في النيل بعضهم من بعض، واستفاد خلفاء بني أمية من ذلك، بتحريض شعرائهم على عض خصومهم، مما لا مجال للبحث في هذا المكان.

وكان "عمر" قد نهى الشعراء عن ذكر النساء في اشعارهم، لما في ذلك من الفضيحة، وكان الشعراء يكنون عن النساء بالشجر وبالنخلة، لئلا تشهر المرأة وخوفاً من أهلها وقرابتها.

أما الشعر الاخر، الذي لم يكن ينال الناس، ولا يتذكر الاصنام والاوثان وامور الجاهلية التي حرمكها الإسلام، فلم يتعرض له الإسلام بسوء، بل كان الرسول نفسه يسمع الشعر، ويطلب من الصحابة انشاده له، وقد ورد إن الرسول سمع "عمرو بن كلثوم"، وهو بعكتظ ينشد معلقته الشهيرة، وسمع شعر "امية بن الصلت" كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر، واستمع إلى شعر "قيس بن الخطيم"، والى شعراء اخرين، وكان يستملحه ويستعذبه، ولا سيما شعر الحكمة والارشاد. "جاء النابغة الجعدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل معك من الشعر ما عفا الله عنه? قال: نعم. قال: انشدنيمنه، فأنشده: وإنا لقوم ما نعود خيلـنـا  إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا 

فلما انشده قوله: ولا خير في جهل إذا لم يكن له  حليم إذا ما أورد الامر أصدرا

ولا خير في حلم إذا لم تكن له  بوادر تحمي صفوه أن يكدرا

قال رسول الله: "لا فض الله فاك".

ومن سيماء اهتمام الإسلام بأمر الشعر، أن الشعر الجاهلي انما دون وثبت في أيامه. وان الصحابة كانوا يحفظونه ويروونه، وأن دواوينه، إنما ظهرت في أيام الامويين. فلم يحرم الإسلام الشعر، ولم يظهر كرهه له، وإنما كره الشعر الوثني الذي مجد الوثنية، فطرح ولم يرو، ولعل هذا السبب الذي جعلنا لا نقرأ في كتب الادب والأخبار شعراً فيه اشادة بصنم، أو بأمر من امور الجاهلية المناهضة للاسلام. وقد روي عن النبي قوله: "إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكمة، أو قال: حكماً". وأنه أمر حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك بهجاء قريش. وأنه قال لحسان: اهجوا قريشاً، فأنه أشد عليها من رشق النبل.

وقد اعتذر العلماء عن سبب نفي الشعر عن الرسول، بأن الشاعر، لا يكاد يكون الا مادحاً ضارعاً، أو هاجياً ذا قذع، وهذه اوصاف لا تصلح للنبي، ثم إن فيه ايقاعاً، والايقاع ضرب من الملاهي، ومن هنا لم يصلح الشعر للرسول. وقد بحث " القرطبي" في موضوع نفي الشعر عن الرسول، فرجع ذلك إلى اربع مسائل: الاولى انه كان لا يقول الشعر ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلاً كسر وزنه، وانما كان يحرز المعاني فقط، وذلك رداً لقول من قال من الكفار انه شاعر، إن القرآن شعر. وقد كان ربما أنشد البيت المستقيم في النادر.

الثانية: اصابته الوزن احياناً لا يوجب انه يعلم بالشعر، وكذلك ما ياتي احياناً من نثر كلامه ما يدخل في وزن، كقوله يوم حنين وغيره: هل أنت إلا إصبع دميت  وفي سبيل الله ما لقيت

وقوله: أنا النبـي لا كـذب  أنا ابن عبد المطلب 

فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن، وفي كل كلام، وليس في ذلك شعر ولا في معناه، كقوله تعالى: )لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون(، وقوله: )نصر من الله وفتح قريب(، وقوله )وجفان كالجواب وقدور راسات(. إلى غير ذلك من الايات.

الثالثة: إن ما روي من عدم قوله الشعر، لا يعني عيب الشعر، وإنما لنفي الظنة عنه من أنه كان يقول الشعر.

الرابعة: إن قوله تعالى )وما ينبغي له(، يعني نفي الشعر عنه، لئلا يظن أنه قوي على القرآن بما طبعه من القوة على الشعر.

فالرسول لم يكره الشعر لكونه شعراً، ولم يعبه أو نهى عن قوله، وانما كان النهي خاصاً به. قال "الخليل بن أحمد: كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى له".

الفصل الثاني والخمسون بعد المئة
تدوين الشعر الجاهلي

ليس في الشعر الجاهلي بيت واحد يستطاع أن يثبت انه كان مدوناً في الجاهلية وان رواة الشعر وحفظته وجدوه مكتوباً بأبجدية جاهلية، فنقلوه عنها. ولم يتجاسر على ما أعلم أحد من رواة الشعر أو حافظ من حفاظه على الادعاء بأنه نقل ما عنده من شعر جاهلي، أو من قراطيس جاهلية، أو من مادة مكتوبة أخرى تعود أيامها إلى الجاهلية. فكل ما وصل الينا من هذه البضاعة، انما هو من عهد الكتابة والتدوين، وعهد التدوين لم يبدأ إلا في الإسلام، وأول تدوين للشعر، انما كان في عهد الأمين.

وعدم وصول شعر جاهلي الينا مدون في أيام الجاهلية، أو منقول عن مكتوبات جاهلية، ثم عدم ادعاء أحد من قدماء الرواة انه قد نقل من دواووين أو قراطيس جاهلية، يحملنا على القول بعدم تدوين الجاهليين لشعرهم وبعدم اهتمامهم بتسجيله. فلم وقع ذلك. ولم أحجم الجاهليون عن تدوين شعرهم، وهو تراثهم الخالد، وسجلهم وديوانهم الذي به حفظت الانساب وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله، وغريب حديث رسول الله، وآثار صحابته والتابعين? وقال علماء الشعر: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم والروم ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح، واطأن العرب بالامصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، والفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا اقل ذلك، وذهب عنهم كثير". "قال أبو عمرو لجاءكم علم وشعر كثير".

ومعنى هذا إن الشعر الجاهلي لم يكن دوناً، وانما كان محفوظاً في الصدور، وقد ورد رواية باللسان، فكانوا يتلونه حفظاً لا عن صحيفة أو كتاب، يؤيد ذلك ما ورد في الاخبار من إن "بني أمية"، وقد كانوا شغوفين جداً بالشعر القديم، ربما اختلف الرجلان منهم في بيت شعر، فيرسلان راكباً إلى "قتادة" يسأله، عن خبر، أو نسب، أو شعر، وكان قتادة أجمع الناس. ولقد قدم عليه رجل من عند بعض أولاد الخلفاء من بني مروان، فقال لقتادة: من قتل عمراً وعامراً التغلبيين يوم قضة?فقال: قتلهما "جحدر بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة". قال فشخص بها ثم عاد اليه، فقال: اجل قتلهما جحدر، ولكن جميعاً?فقال: اعتوراه فطعن هذا بالسنان، وهذا بالزج فعادى بينهما. وعلى ما في هذا الخبر من أثر الصنعة والتكلف، فإن فيه دلالة على شغف الأمويين ةالأخبار والنسب، لذلك، كانوا يرسلون إلى خاصتهم ومن يرون فيه العلم بهذه الامور للاستفسار منهم عما يريدون الوقوف عليه.

ويؤيد ذلك ايضاً ما ورد من إن الرسول كان إذا اراد سماع شعر شاعر، سأل من كان في حظرته من يحفظ شعر فلان? فينشده عليه من قد يكون حافظاً له، ثم ما يروي من إن الصحابة كانوا يحفظون الشعر، ومن انهم كانوا إذا أرادوا الوقوف على شعر شاعر لم يحفظوا شعره، سألوا غيرهم ممن يحفظه عنه. ولم نسمع في الاخبار، إن احداً من الصحابة، كان يملك ديواناً، أو كتاباً فيه شعر، أو خبر، أو نسب، وأنهم كانوا يرجعون إلى المدونات، في مثل هذه الحالات.

ولكن ما ذهبنا اليه من عدم وجود تدوين للشعر الجاهلي ولأخبار الجاهلية، تنفيه روايات تزعم إن الجاهليين كانوا يدونون أشعارهم، فقد روي إن "النعمان بن المنذر" امر "فنسخت له اشعار العرب في الطنوج وهي الكراريس، ثم دفنها في قصره الابيض، فلما كان المختار بن عبيد الثقفي، قيل له: إن تحت القصر كنزاً، فأحتفره، فأخرج تلك الاشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من اهل البصرة". وروايات تذكر انه "قد كان عند آل النعمان بن المنذر ديوان فيه اشعار الفحول، وما مدح به هو و اهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه". وروايات تقول إن العرب كانت شديدة العناية بشعرها، مبالغة في المحافظة على الجيد منه، وإشادة بذكرها. وقد عرفت تلك القصائد بالمذهبات وبالمعلقات وبالسموط. وروايات تذكر إن الملك كان إذا استجديت قصيدة يقول: "علقوا لنا هذه لتكون في خزانته".

وتنفيه ايضاً روايات أخرى تفيد أن بعض الشعراء الجاهليين كانوا يقرأون ويكتبون، كالذي جاء عن "عدي بن زيد" العبادي، وعن "المرقش الاكبر" من انه كان قد تعلم الكتابة من رجل من أهل الحيرة، فصار يكتب اشعاره، وكالذي يظهر من بيت لابن مقبل يفيد أن عرب أواسط جزيرة العرب كانوا يدونوه أشعار الشعراء. . وقد ذكر أن "سعد بن مالك" والد "المرقش"، أرسله وأخاه إلى رجل من أهل الحيرة فعلمهما الكتابة. وروي أنه كان يكتب بالحميرية، فلا يعقل إذن أن يدون أمثال هؤلاء الشعراء الكتاب القراء شعرهم، أو بعض شعرهم المستجاد على الاقل!.

وتنفيه الرواية القائلة "لقيط بن يعمر" الإيادي، كتب قصدية وارسلها إلى قومه "اياد" يحذرهم فيها من مجئ جيش كسرى اليهم، للإيقاع بهم، وذلك في قصيدته التي استهلها بقوله: سلام في الصحيفة من لقيط  إلى من بالجزيرة من إياد

وتنفيه روايات اخرى تشير إلى إن العرب في صدر الإسلام، كانوا يدونون الشعر ويوزعونه بين الناس لينتشر بينهم، فلما جاء "النجاشي" الأنصار، اجتمع سادتهم وتذاكروا أمره، ثم ذهب قوم إلى "حسان"، فنظم شعراً في هجائه، كتبه غلمانه الكتاب، وما كانت الغاية من تدوين الغلمان له، إلا اذاعته ونشره بين الناس لينتشر بينهم، فلما هجا "النجاشي" الانصار، اجتمع ساداتهم وتذاكروا أمره، ثم ذهب قوم إلى "حسان"، فنظم شعرا في هجائه، كتبه غلمان الكتاب، وما كان الغاية من تدوين الغلمان له، الا اذاعته ونشره بين الناس. وروي إن "عبد الله بن الزبعري"، و "ضرار بن الخطاب" الفهري، قدما المدينة فتلاحيا مع "حسان"، في امر الشعر، وقالا شعرا مما كانا قالاه في الانصار، وكان عمر قد نهى عن رواية شعر الهجاء حذر الفتنه، فغضب "حسان" نمهما، وذهب إلى "عمر"، فاخبره بما وقع، فارسل ورائهما، وطلب من حسان إن ينشدهما مما قاله لهما، فانشدهما، فلما انتهى من انشاده كتب ذلك، وحفظ مع شعر الانصار، وكانوا يكتبون حذر بلاه. وروى إن "طلحة"، انشد قصيدة، فما زال شانقا ناقته حتى كتبت له.

غير إننا إذا ما تبعنا تاريخ ورود هذا الذي ذكرته عن وجود التدوين في الحيرة وارتفعنا به حتى نصل به إلى اصله، نجد انه جاء كله نقلا، وقد اخذه المتاخرون عن المتقدمين، والمتقدمون عن طبقة اقدم، حتى نصل إلى مرجع واحد هو اخر سلسلة السند، الذي ينتهي ب "حماد الرواية" , "ابن الكلبي". فحماد هو صاحب الزعم المتقدم، القائل إن نعمان بن المنذر، امر فنسخت له اشعار العرب في طنوج، وابن الكليب هو صاحب الخبر القائل إن العرب علقت القصائد السبع على الكعبة، وان العرب اختارتها من بين القصائد الجاهلية الكثيرة فوضعتها على اركان الكعبة، اعجابا بها وإشادة بذكرها !   

وهناك رواية اخرى مشابهة لرواية حماد عن تعليق المعلقات، فيرجع سندها إلى "ابن الكلبي"، هذا نصها: "قال ابن الكلبي المتوفي سنة 204 وقيل سنة 206: اول شعر علق في الجاهلية شعر امرىء القيس، علق على ركن من اركن الكعبة ايام الموسم حتى نظر اليه ثم أحدر فعلقت الشعراء ذلك بعده، وكان ذلك فخرا للعرب في الجاهلية، وعدوا من علق شعره سبعة نفر، الا إن عبد الملك طرح شعر اربعة منهم واثبت مكانهم اربعة". " وزاد بغضهم انهم كانوا يسجدون لها كما يسجدون للاصنام". ولابن الكلبي زعم اخر له علاقة بهذا الموضوع، فقد ذكر انه كان يقول: "كنت أستخرج أخبار العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من ولي منهم لآل كسرى، وتأريخ نسبهم، من كتبهم بالحيرة".

فنحن اذن أمام رجلين يرجع اليهما خبر وجود تدوين للشعر الجاهلي، كان أحدهما من أمرس الناس بالشعر الجاهلي، وكان ثانيهما من أشهر رجال الأخبار. ولا نعرف أحداً تقدم عليهما: زعم هذا الزعم، أو ادعى هذه الدعوى! ثم اننا لا نجد في مؤلف من المؤلفات الاسلامية التي وصلت الينا ما يفيد إن احداً قد نقل شيئاً من مدون جاهلي، أو قرأ فيه، خلا ما ورد عن "الكلبي" من انه كان يستخرج انساب آل نصر وتاريخ من حكم منهم ومدد اعمارهم وما إلى ذلك من بيع الحيرة.

ولا يعقل بالطبع تصور انفراد حماد بمعرفة أمر ديوان النعمان بن المنذر، دون سائر الرواة وعشاق الشعر، وبينهم من كان لا يقل حرصاً ولا تتبعاً له عن حماد. ولا يعقل ايضاً تصور بلوغ الحرص والانانية بآل مروان درجة جعلتهم يضنون حتى بالتلويح أو باراءة ذلك الديوان الجاهلي بعضهم بعضاً. ولو كان عند آل مروان ذلك الديوان حقاً، لافتخروا بوجوده لديهم، ولعرضوه على الناس، ولاخذوا منه الشعر القديم، ولما استعانوا بالرواة من حماد وامثاله، ليرووا لهم الشعر الجاهلي وليجمعوا لهم ذلك الشعر، وحماد نفسه شاهد على ذلك.

حيث كانوا يستدعونه من العراق ليسألوه امر الشعر، خفي عليهم، أو شعر لا يعرفون عنه شيئاً، ثم كيف يسكت رواة أهل الكوفة عن هذا الديوان، فلا يشيرون في أخبارهم ورواياتهم اليه، ولا يلحقون به سندهم في رواياتهم للشعر? قال "ابن النديم": "قال أبو العباس ثعلب: جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ورد الديوان إلى حماد وجناد"، فلو كان لدى آل مروان ديوان جاهلي قديم، فهل يعقل ترك الوليد ذلك الديوان وذهابه إلى حماد وجناد ليستعين بما عندهما من دجواوين شعر، أو من ديوان شعر ليجمع له ديواناً بأشعار القدماء، فلما جمع له ديواناً من ديواني حماد وجناد أعادهما عليهما! ولو فرضنا انه كان قد استعان بهما، لانهما كانا قد جمعا شعر شعراء لم يكن عنده شعرهم، فإن الرواة ما كانوا ليسكتوا هذا السكوت المطبق عن ذلك، ولقالوا على الاقل إنه قد كان عنده ديوان شعر جاهلي، لكنه لم يكن تاماً، يضم كل اشعار الجاهليين، فأستعان بهما لسد هذا النقص. ولو كان ديوان حماد أو ديوان جناد من دواويين اهل الجحاهلية، لما سكت العلماء عن ذلك، ولما سكت حماد نفسه، أو جناد من التنويه به، لما هذا التنويه من أهمية بالنسبة لهما، ولإثبات أنهماغ كانا صادقين في رواية الشعر، وانهما استقيا الشعر من منابع اصلية لا يرتقي اليها الشك.

ثم انه لو كان لحماد أو غيره من أهل الكوفة ديوان جاهلي، أو إن اهل الكوفة كانوا قد وقفوا على ديوان النعمان بن المنذر أو على كتب من كتب أهل الحيرة في الشعر أو في التواريخ والاخبار، لما سكتوا عن ذلك ابداً، ولأسندوا روايتهم إلى تلك المدونات، رداّ بذلك على أهل البصرة الذين اتهموا بالافتعال وبنحل الشعر على السنة الشعراء الجاهليين، وبأخذهم من افواه اعراب لا يطمئن اليهم، على الاقل.

إن سكوت الرواة وعلماء الشعر عن امر هذا الديوان، واقتصار خبر وجوده على روايات حماد، يحملنا على التريث ولو مؤقتاً في تصديقه، حتى يقوم دليل جديد مقنع بوصول شيئ من كتوبات أهل الحيرة إلى الاسلاميين يمكننا من إبداء رأي علمي واضح في هذا الموضوع.

وقد سكتت كل الأخبار التي تحدثت عن "طنوج" النعمان بن المنذر، عن الجهة التي دخل الديوان في ملكها. كما سكتت عن مصيره النهائي. فأين ذهب يا ترى ذلك الديوان? ولم لم ينقل منه احد? ولم لم يشر إلى وجوده شخص آخر غير حماد? ولم اعثر حتى الآن على خبر يفيد علم أحد من المتقدين على حماد بوجود ديوان شعر جاهلي مدون، ولا بنقل أحد من الرواة وبضمنهم حماد نفسه من هذا الديوان أو من ديوان اخر يعود تأريخه إلى ايام الجاهلية. مع إن بين عشاق الكتب من كان يقتني الكتب والقراطيس القديمة، ويتهالك ويستهتر في المحافظة عليها والعناية بها، وبينهممن كان يملك ما شاء الله منها. وقد قص "ابن النديم" الوراق المتهالك في البحث عن الكتب قصصاً عن القراطيس والكتب القديمة وعن استهتار الناس بجمع الخطوط العتيقة، ولم يشر إلى عثوره هو أو غيره على صفحة واحدة مكتوبة قبل الإسلام في الشعر أو في النثر. ولو كان قد سمع بهذه الاوراق، لما تركها تمر سبيلها، فلا يراها أو بسمع عنها ممن وقف عليها ورآها على الاقل. نعم: ذكر أنه "كان في خزانة المأمون كتاب بخط عبد المطلب بن هاشم في جلد أدم فيه ذكر حق عبد المطلب بن هاشم من أهل مكة على فلان بن فلان الحميري من أهل وزل صنعا، عليه الف درهم فضة كيلاً بالحديدة، ومتى دعاه بها أجابه شهد الله والملكان. وكان الخط شبه خط النساء". وهو خبر تظهر عليه آثار الصنعة، والوضع.

وقد يكون خبر الديوان، وخبر "الطنوج" من مفتعلات "حماد" و"ابن الكلبي" لإظهار سبب تفوق أهل الكوفة على اهل البصرة بالعلم والشعر، كما يظهر ذلك جلياً من نص الخبر، وهو" ومن ثم اهل الكوفة اعلم بالشعر من أهل البصرة، ولإظهار سبب تفوق "ابن الكلبي" على غيره من أهل الأخبار في رواية أخبار ملوك الحيرة، غير اني لا أستبعد مع ذلك وجود دفاتر وكتب في خزائن ملوك الحيرة وفي قصورها وكنائسها، وقد كان فيها شعر ونثر واخبار ومراسلات وسجلات بالاموال وما شابه ذلك، لوجود ديوان حكومي عندهم تولاه "عدي بن زيد"، ووجود علماء ورجال دين عندهم الفوا الكتب في امور الدين وفي العلوم التي كانت سائدة في ذلك الوقت، لكنها تلفت وهلكت بسبب الاحداث التي وقعت في لحيرة ايم الفتح لاسلامي لها، ولرتحال الناس عنها وفي جملتها رجال الدين، وتهدم كنائسها وبيوتها بسبب نقل حجارتها إلى الكوفة لبناء بيوت بها، مما سبب تلف تلك المدونات المكتوبة على ادم وقراطيس سهلة التلف، والتي لا يمكن لها مقاومة مثل هذه الاحداث. و لا يستغرب ذلك، فقد تلفت نسخ القرآن الاولى مثل نسخة "حفصة بنت عمر"، ونسخة "عثمان" وهلكت رسائل الرسول وكتبه على اهميتها، وذهبت الصحف القديمة التي دون بها الحديث أو سيرة الرسول وغير ذلك في ايام الراشديين وبني امية، فهل يستغرب بعد ذلك ذهاب ما دون ايام ملوك الحيرة وانطماس أثره ???????!.

وقد تعرض "بروكلمن" لموضوع تدوين الشعر أو عدم تدوينه عند الجاهليين، فقال: "ومن ثم يعد خطأ من مركيلوث وطه حسين إن انكر استعمال الكتابة في شمال الجزيرة العربية قبل الإسلام بالكلية، ورتبا على ذلك ما ذهبا اليه من إن جميع الأشعار المروية لشعراء جاهليين مصنوعة عليهم، ومنحولة لاسمائهم.

ولكن بديهياً إن الكتابة لم تقض قضاءاً كلياً على الرواية الشفوية. فقد كان لكل شاعر جاهلي كبير على وجه التقريب رواية يصحبه، يروي عنه اشعاره، وينشرها بين الناس، وربما احتذى آثاره الفنية من بعده، وزاد عليها من عنده. وكان هؤلاء الرواة يعتمدون في الغالب على الرواية الشفوية ولا يستخدمون الكتابة الا نادراً.

وعن الرواة كانت تنتشر الدراية بالشعر في اوساط اوسع واشمل، بعد أن يذيع في قبيلة الشاعر نفسه. ولهذا لم يكن التحرز عن السقط والتحريف، وإن لاحظنا إن ذاكرة العرب الغضة في الزمن القديم كانت أقدر قدرة لا تحد على الحفظ والاستيعاب من ذاكرة العالم الحديث".

وقد تعرض المستشرق "كرنكو" لموضوع الكتابة والتدوين عند العرب، وقد ذهب إلى إن نظم الشعر مرتبط بالكتابة، بدليل أن بعض القوافي تظهر حقيقتها للعيان اكثر منه للسمع، بحيث أن الحروف وليست الاصوات، هي التي تلعب دوراً هاماً في الشعر. غير إن رايه هذا لم ينل تأييداً من غالبية المستشرقين. وذهب "كولدزيهر"، إلى احتمال تدوين العرب لشعر الهجاء، لما لهذا النوع من الشعر من أهمية عندهم، فإن في شعر الشاعرة "ليلى" الاخيلية: أتاني من الانباء أن عـشـيرة  بشوران يزجون المطي المذلا

يروح ويغدو وفدهم بصحـيفة  ليستجدلوا لي، ساء ذلك معملا 

وفي شعر ابن مقبل: بني عامر، ما تأمرون بشاعر  تخير بابات الكتابات هجـائيا

غير إن بعضهم يرى صعوبة تصور ذلك، لعدم وجودج أدلة مقنعة تثبت الرأي.

وقد توقف "بلاشير" ايضاً في قضية تدوين الرواة لشعر الشاعر الذي تخصصوا به، أو برواية شعر أي شاعر كان. يرى احتمكال تدوين بعض الرواة الحضر لبعض عيون الشعر، غير أنه يعود، فيرى أن ذلك مجرد احتمال، وإن من الصعب اثباته بأدلة مقنعة، ويذهب إلى إن رواية الرواة، كانت رواية شفوية كذلك.

ولا استبعد احتمال تدوين الشعراء الجاهليين الذين كانوا يحسنون الكتابة والقراءة لاشعارهم، كما استبعد احتمال تدجوين رواة الشعر للشعر، ولا سيما ما نبه وشرف منه، غير أننا لا يمكن أن نقول إن الشاعر كان إذ ذاك يدون كل شعره، أو أن الرواة، كانوا يدونون كل ما حفظوه من الشعر، لأن هذا النوع من التدوين لم يكن مألوفاً عندهم، كما كان يكلف ثمناً باهظاً، لا قبل للشاعر أو للرواية بتحمله، ثم إن القرطاس كان نادراً عندهم، والتدوين على الادم، غالياً، ينوء بثمنه الشاعر أو الرواية، ويأخذ مكاناً، ولا سيما إذا كان الشاعر من الاعراب، وانا لا استبعد احتمال وجود مثل هذه المدونات عند الحضر، مثل اهل الحيرة، لانتشار الكتابة بينهم ولشيوع التدوين عندهم، ولكن الاحداث وعوامل الطبيعة أتلفت تلك المدونات، فلم تسقط لهذا السبب في ايدي رواة الشعر والاخبار.

ولا تزال الرواية الشفوية مستعملة حتى اليوم، مع وجود التدوين وكثرة الورق. فلأغلب شعراء العراق اليوم مثلاً رواة يدونون شعر الشاعر ويحفظونه في الوقت نفسه حفظاً، فأذا حضروا مجلساً، وجاء ذكر الشعر، أو شعر شاعر يروون شعره تلوه حفظاً على السامعين. وفي النجف رواة شعر، دونوا شعر شعرائها المحدثين مثل الحبوبي وغيره في دواوين، وحفظوه في الوقت نفسه حفظاً في قلوبهم، ومنهم من حفظ شعره من غير تدوين له، وقد يزيد ما يحفظونه على ما هو مدون، بسبب إن الشاعر قد يحضر مناسبة تهزه فيقول فيها شيئاً، فيحفظه رواته والمعجبون به، وقد يفوت تسجيله على رواته الذين يلازمان الشاعر، فلا يقفون على خبره، ويدفع الاعجاب بالشاعر المعجبين به على التقاط شعره وحفظه في أدمغتهم حتى كأنهم أشرطة تسجيل حساسة، لا يفوتها من التسجيل أي شئ.

وبسبب عدم لجوء الجاهليين إلى تدوين شعرهم في الغالب، لاسباب عديدة، منها ندرة الورق، وغلائه، واعتمادهم في حفظة على الذاكرة، هلك اكثره بموت حفاظه، واصيب قسم منهم بتحريف وتغيير، وزيد بعض منه، ونقص منه بعض آخر، وصنع شعر على المتقدمين لاغراض مختلفة، ونسب الشعر إلى جملة من الشعراء، ورويت ابيات بروايات مختلفة، وما كان ذلك ليحدث، لو انهم كانوا قد عمدوا إلى تدوينه وتثبيته. "قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى اليكم مما قالت العرب إلا اقله لو جائكم وافراً لجائكم لعلم وشعر كثير. ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه، قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد، والذي صح لهما قصائد بقدر عشر، وان لم يكن لهما غيرهن فليس موضعها موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمه.

وأن لم يكن ما يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما على افواه الرواة. ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير، غير إن الذي نالهما من ذلك اكثر. وكانا اقدم الفحول، فلعل ذلك لذلك، فلما قلّ كلامهما حمل عليهما حمل كثير". وقد ذكر "ابن سلام" إن "عبيد بن الابرص قديم عظيم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب لا اعرف له الا قوله: أقفر من اهله ملحوب  فلقطبيات فالذنـوب

ولا ادري ما بعد ذلك".

وذكر انه قد سقط من شعر شعراء القبائل الشيء الكثير، وفات على علماء الشعر منه ما شاء الله، مما لم يحمله الينا العلماء والنقلة. وقيل عن االاصمعي: "كان ثلاثة اخوة من بني سعد لم يأتوا الامصار، فذهب رجزهم، يقال لهم، منذر زنذير ومنتذر، ويقال إن قصيدة "رؤبة" التي اولها: وقائم الاعماق خاوي المخترق لمنتذر". 

وينسب إلى "أبي عمرو بن العلاء" قوله: "لما راجعت العرب في الإسلام رواية الشعر بعد إن اشتغلت عنه بالجهاد والغزو، واستقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا إن يلحقوا بمن له الوقائع والاشعار? فقالوا على السن شعرائهم. ثم كانت الرواية بعد فزادوا في الاشعار التي قيلت، وليس يشكل اهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولدون، وانما عضل بهم إن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الاشكال.

وقال "ابن قتيبة": "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والاسلام، اكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو انفذ عمره في التنفير عنهم، واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال.

ولا احسب أحداً من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولا قصيدة ألا رواها.

وورد عن "أبي عبيدة" قوله: "إن ابن دؤاد بن متمم بن نويرة قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي من الجلب الميرة، فأتيته أنا وابن نوح، فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته، فلما فقد شعر ابيه جعل يزيد في الاشعار، ويضعها لنا، وإاذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علينا علمنا أنه يفتعله".

وقد ينسب قوم شعراً لشاعر، بينما ينسبه قوم لشاعر اخر، وقد يختلف في ذلك اهل البادية عن اهل الحاضرة، فقد روي مثلاً إن اهل البادية من "بني سعد" يروون البيت: تعدو الذئاب على من لا كلاب له  وتتقي مربض المستنفر الحامي

للزبرقان بن بدر، بينما يرويه غيرهم، للنابغة. وقد ذكر الرواة، إن من المحتمل إن يكون "الزيرقان" استزاده في شعره كالمثل حين جاء موضعه لا مجتلباً له، وقد تفعل ذلك العرب، لا يريدون به السرقة. وقد حدث مثل ذلك في بيت شعر هو لابي الصلت بن ابي ربيعة، هو: تلك المكارم لا قعبان من لبن  شيبا بماء فعادا بعد أبـوالا

بينما ترويه بنو عامر للنابغة الجعدي.

ونسب: وبعد غد، يا لهف نفسي من غد  إذا راح اصحابي ولست برائح 

إلى "هدبة بن خشرم"، وعزاه آخرون إلى "ابي الطمحان" من المخضرمين، ثرب الزبير بن عبد المطلب.

وروي أن البيت: الحمد لله لا شريك لـه  من لم يقلها فنفسه ظلما 

وهو بيت بنسب إلى "أمية بن ابي الصلت"، وكان معروفاً عند حفظة الشعر مثل "الحسن بن علي بن ابي طالب" انه له، الا إن الرواة يذكرون إن "النابغة" الجعدي، قال للحسن: "يا ابن رسول الله، والله اني لاول الناس قالها، وان السروق من سرق امية شعره". وروي ايضاً إن البيت: من سبأ الحاضرين مأرب إذ  يبنون من دون سيله العرما

هو من قصيدة للنابغة الجعدي، غير إن قسماً من علماء الشعر يرويها لأمية ابي الصلت، وقسماً اخر، كان متردداً، فقد ذكر ام راوية سأل "خلف الاحمر" عن القصيدة، فقال: للنابغة، وقد يقال لأمية. ويظهر من هذين المثلين، أن الرواة كانوا يخلطون بين شعري الشاعرين.

ومن ذلك نسبة الشعر الذي فيه: دان مسف فويق الارض هيدبه  يكاد يدفعه من قام بـالـراح

فمن بنجوته كمن بعـقـوتـه  والمشتكي كمن يمشي بقرواح 

إلى عبيد بن الابرص، أو أوس بن حجر: ونسبة الشعر: والشعر صعب وطويل سلمه  إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه 

إلى رؤبة والى الحطيئة.

ويقع من ذلك شيئ كثير مذكور في كتب الشعر والادب، وهو يدل على إن الشعر لم يكن مدوناً في بادئ امره، وانما كان يروي حفظاً، ولو كان قد أخذ من كتاب لما جاز عقلاً وقوع مثل هذا الخطأ والاشتباه.

ويحدث إن شاعرين يصنعان قصيدتين من بحر واحد وروي واحد، فيختلط امرهما على الرواة، يدخلون أبياتاً من هذه في تلك، فتختلط نسبة الابيات.

وقد وضع على لسان "عدي بن زيد" العبادي شعر كثير. وقد علل "ابن سلام" سبب ذلكبقوله: "كان يسكن الحيرة ومراكز الريف، فلان لسانه، وسهل منطقه، فحمل عليه شيئ كثير، وتخلصه شديد، واظطرب فيه خلف، وخلط فيه المفضل فأكثر. وله اربع قصائد غرر وروائع مبرزات، وله بعدهن شعر حسن"، وقد تكون العصبية يد في هذا الوضع. فعدي من اهل الحيرة، وقد تعصب اهل الكوفة للحيرة، إذ انتقل اكثر اهل الحيرة إلى الكوفة، فأقاموا بها، وتعصبوا لتأريخهم القديم، فلعل هذه العصبية هي التي حملتهم على وضع الشعر على لسانه لرفع شأن نصارى الحيرة في الشعر.

ومع اشتهار الحيرة بالكتابة، واشتهار "عدي" بها خاصة، إذ كان من كتاب "كسرى" بالعربية، فإننا لم نعثر على خحبر يفيد إن الرواة اخذوا شعر "عدي" عن ورقة جاهلية، أو ديوان جاهلي مدون. ولو كان لعدي ديوان مدون، لما وقع في شعره ما قاله "ابن سلام".

وقد يسأل سائل: كيف أن يعقل إن يضع شاعر مثل حماد الراوية فخماً جزلاً يستعز به ينسبه إلى الجاهليين? ولو نسبه إلى نفسه لكان اليوم فخراً له ولعد من أكابر الشعراء فأقول: كان طلب آل مروان للشعر الجاهلي شديداً. وهذا ما صير رواية الشعر من الحرف النافعة التي كانت تدر أرباحاً طيبة لأصحابها تزيد على الارباح التي يحصل عليها الشاعر من شعره. وقد كسب حمّاد من حرفته هذه مالاً حسناً. غير أن الإلحاح في طلب هذا الشعر والغغراء الذي أبداه عشاقه للرواة، لأفسد الرواة، وحملهم على وضع الشعر وحمله على القدماء للحصول على الاجر، ولنيل الخطوة، ولأظهار العلم وسعة الحفظ. وقد زاد في هذا الوضع المنافسة الشديدة التي كانت بين الرواة، فخلقت هذه الظروف وأمثالها شعراً جديداً منحولاً حسب على ملاك شعر الجاهليين.

ونجد في ثنايا كتب الأدب وفي كتب الشعر أشعاراً كثيرة منحولة وضعت قديماً على ألسنة الجاهليين، وضعت لأن الناس كانوا يومئذ في شوق عظيم وتعطش إلى سماع أشعار من قبلهم، كانوا يقبلون عليها أكثر من إقبالهم على شعر معاصريهم من الشعراء، ويجزلون له العطاء أكثر من إجزالهم لسماع شعر شاعر معاصر، إلا ما قد يكون منه المدح والذم. وكان ربح الرواية القدر التبحر بالشعر الجاهلي المتجر به العارف بنظم الشعر لا يقل عن ربح الشاعر العظيم أن لم يزد عليه في أكثر الأحيان. والعادة أن مكافأة الشاعر العاصر على شعره، لاتكون إلا في أمور لها صلة بالمجتمع، مثل المدح والهجاء والهزل والاستخفاف والتضحيك، أما في غير ذلك فتقديره إلى العلماء ,اصحاب الذوق، وهم لايثبتون على هذه الأمور إلا قليلاً، ولهذا يكون تقدير الشاعر الذي لايمدح ولا يهجو ولا يقرب لاحد بالأمور المذكورة، بعد موته في الغالب، فلا ينال مثل هذا الشاعر من العيش ما يكفيه. ثم إن الرواية مطلوب في كل وقت، مرغوب فيه، وسوقه رائجة. فإذا غنّت مغنية بيتاً قديماً، أراد السامعون معرفة صاحبه، وأكثر الناس خبرة بأصحاب الشعر القديم هم الرواة، وهم قلة، لما يجب أن يكون في الرواية من خصائص تجعله من نوادر الرجال. فالذكاء الخارق، والعلم بالشعر وباساليبه، والتمكن من العربية بمفرداتها وبلهجاتها وبالقبائل وبأيام العرب وبأمثال وبأمثال ذلك، هي من اللوازم التي لا تتهيأ لكل إنسان، ولذلك لم يكن أمثال هؤلاء الرواة إلا أفراداً نص العلماء على أسمائهم نصاً. وقد نالوا في أيامهم شهرة لم تكن أقل منزلة من شهرة أفذاذ الشعراء، وقد تدرب عليهم فحول الشعراء، وتخرج من مدرستهم أعاظم شعراء العرب في الإسلام. فرواية الشعر إذن وحفظه وصنعه، لم تكن حرفة سهلة يسيرة، ولا منزلة صغيرة بالنسبة إلى منزلة الشلعر، انها لاتقل في السمو عن أرفع منزلة وصل اليها الشعراء في ذلك العهد. ولم يقل دخل الر واية من عطايا الملوك وهداياهم بأقل من دخل الشاعر، إن لم يزد عليه في بعض الأحيان، ولهذا فليس بغريب إذا ما رأينا الشاعر ينسب شعره للجاهليين، ويرويه على أنه من شعر شاعر جاهلي قديمن ولاينسبه لنفسه.

وآفة ما تقدم عدم التدوين والتقييد، ولو كان الشعر مدوناً في صحف وكتب، ومقيداً على حجر، لما ضاع هذا الضياع، ولما اعتبوره هذا التغيير، الخطير، فحور فيه وغير، وقد ادرك أثر هذا المرض على الشعر، شاعر اسلامي، هو ذو الرمة، فقال: "لعيسى بن عمر: أكتب شعري، فالكتاب أحب الي من الحفظ لأن الارابي ينسى الكلمة وقد سهر في طلبها ليلته، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاماً بكلام".

وقد كان للشعراء الذين ظهروا في أيام الامويين رواة، يروون شعرهم، كما كانوا يهذبونه وينقحونه ويدخلون بعض التغيير عليه، بعلم الشاعر وبموافقته، لعلة فاتت عليه، فقد كان لجرير رواته، وكان للفرزدق رواته، وكانوا يقومون ما أنحرف من شعرهم وما قد يكون فيه من سناد وعيوب، خفي أمرها على الشاعر، فأدرك أمرها الرواة.

رواة الشعر

وقد ذكر علماء الشعر إن للشعراء في الجاهلية كانوا يتخذون لهم رواة يحفظونهم شعرهم حفظاً ويروونه رواية. ومعنى هذا إن اولئك الرواة كانوا يلازمون الشعراء، فأذا نظم الشاعر شعراً تلاه على راويته ليحفظه فلا ينساه، واذا غير الشاعر شعره أو عدل فيه اشار على راويته بما غير وعدل حتى يعدل هو ويغير في الذي حفظه. فراوية الشاعر، هو نسخة ثانية حافظة لشعر الشاعر، أما النسخة الاولى، فهو الشاعر نفسه. وقد يتهيأ للشاعر جملة رواة. ويقال لمن يحفظ الكثير من الشعر، وللكثير الرواية هو "راوية للشعر".

وأولئك الرواة، هم دواوين شعر ناطقة، تحفظ المتون، أي أصول الشعر، كما تحفظ المناسبات، أي الظروف التي قيل فيها ذلك الشعر. وهم أنفسهم ذوو حس مرهف، وفهم عال للشعر، إذ لا يقبل على رواية الشعر وحفظه إلا أصحاب الحس المرهف الموهوبون، الذين لهم طبع شاعري، وميل غريزي فيهم اليه. ولهذا تنتهي الرواية بالرواية في الاغلب إلى قول الشعر ونظمه، فيكون في عداد فحول الشعراء، والرواية هي تمرين وإعداد لقول الشعر، ولفهم دروبه تساعد الموهوب في إظهار مواهبه. "فقد وجدنا الشاعر من المطبوعين المتقدمين يفضل أصحابه برواية الشعر، ومعرفة الاخبار، والتلمذة لمن فوقه من الشعراء، فيقولون: فلان شاعر راوية" يريدون انه إذا كان راوية عرف المقاصد، وسهل عليه مأخذ الكلام، ولم يضق به المذهب، واذا كان مطبوعاً لا علم له ولا رواية ضل واهتدى من حيث لا يعلم، وربما طلب المعنى فلم يصل اليه وهو ماثل بين يديه، لضعف آلته: كالمقعد يجد في نفسه القوة على النهوض فلا تعينه الالة. وقد سئل رؤبة بن العجاج عن الفحل من الشعراء، فقال: هو الراوية يريد أنه إذا روى استفحل.

قال يونس بن حبيب: وإنما ذلك لانه يجمع إلى جيد شعره معرفة جيد غيره، فلا يحمل نفسه إلا على بصيرة. . . وقال الاصمعي: لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلاً حتى يروي أشعار العرب".

والشعراء جميعاً، هم في اول امرهم بالشعر رواة شعر، ولا يكون الشاعر منهم شاعراً حتى يحفظ الشعر ويرويه، لان الحفظ يساعده على قول الشعر ونظمه، ويكون تمرينناً له، ولا زال أمر الشعراء عندنا على هذا النحو، فأكثر شعرائنا هذا اليوم هم رواة في الاصل، حفظوا من الشعر ما ساعدهم على النظم، يضاف اليه موهبة الشاعر وسليقته فيه. وق يقال إن الشاعر الراوية أمكن في الشعر وأقدر عليه من الشاعر، الذي لا يروي من الشعر الا يسيراً، أو لا يحفظ منه شيئاً، لأن الشاعر الراوية يتعلم ىمن فنون الاقدمين ومن خبرتهم وتجاربهم في النظم ما يخفى على من ليس له علم سابق به.

الشعراء الرواة

وقد ذكر اهل الأخبار اسماء عدد من شعراء الجاهلية في قول الشعر بروايته وحفظه، ثم صاروا من اكابر الشعراء. منهم زهير بن ابي سلمى، فقد بدأ حياته في الشعر راوية لشعر "اوس بن حجر"، وكان أوس راوية الطفيل الغنوي وتلميذه. ومنهم "كعب بن زهير بن ابي سلمى"، فقد كان راوية لوالده، ثم "الحطيئة"، فقد بدأ الشعر براوية شعر "زهير" وآل زهير. وكان "زهير" راوية "طفيل" الغنوي ايضاً، وكان "امرؤ القيس" راوية "أبي دواد" الإيادي، وكان الاعشى راوية لشعر "المسيب بن علس"، والمسيب خال الاعشى.

ولا نكاد نجد شاعراً لم يحفظ شعر غيره من الشعراء المتقدمين عليه، أو من المعاصرين له. والشاعر العربي حتى اليوم، لا يكون شاعراً فحلاً في الشعر، إلا إذا حفظ من شعر غيره من الشعراء الفحول، فحفظ الشعر يدربه ويقويه على نظم الشعر، وكذلك كان أمر الشعراء الجاهليين. ويؤيد هذا الرأي ما نجده في الأخبار من حفظ الشعراء شعر غيرهم، ومن مناقشتهم للشعراء في شعرهم، مما يدل بالطبع على حفظهم له.

قال "رؤبة: الفحولة هم الرواة"، "يريد الذين يروون شعر غيرهم، فيكثر تصرفهم في الشعر ويقوون على القول"، فروايتهم للشعر أكسبتهم علماً بأبوابه وفنونه، ومنتهم منه حتى صار يخرج على السنتهم سهلاً قوياً جيداً، لما صار لهم من علم به ومران في حفظه.

ويكاد يكون لكل شاعر جاهلي راوية يصحبه، "يروي عنه اشعاره، وينشرها بين الناس. وربما احتذى آثاره الفنية من بعده، وزاد عليها من عنده. وكان هؤلاء الرواة يعتمدون في الغالب على الرواية الشفوية، ولا يستخدمون الكتابة إلا نادراً". ومن رواة "الاعشى"، الرواية "عبيد"، وكان يصحب الاعشى ويروي شعره، وكان عالماً بالإبل، وكان يسأله عن شعره وعن معانيه وألفاظه، وعنه أخذ الرواة مثل "سماك" أخبار الاعشى وشعره. و"سماك"، هو "سماك بن حرب"، وهو من مشاهير الرواة.

وكان من رواة الاعشى "يحيى بن متي"، وهو من اهل الحيرة، وكان نصرانياً عبادياً معمراً، وله راوية آخر اسمه "يونس بن متي"، وهو كما يظهر من اسمه من النصارى كذلك، وقد يكون هذا الشخص، هو الاول أي "يحيى"، حرف النساخ اسمه، فصار "يونس".

ولما كان بعض الرواة من الكتبة، فلا استبعد إن يكون من بينهم من دون شعر شاعره إلى جانب حفظه لشعره، وذلك ليرجع اليه فيما إذا خانته حافظته، أو شك في شئ منه، أو لإجراء تنقيح في شعر شاعره، وتوجد روايات تشير إلى وقوع مثل هذا التدوين، غير اننا لا نستطيع أن نسلم بتأكيدها أو نقوم بنفيها في الوقت الحاضر، فمثل هذه الاحكام تحتاج إلى ادلة قوية مقنعة، ولا يمكن لنا التسليم بصحة تلك الروايات أو بردها في الوقت الحاضر.

وقد تخصص بعض الناس برواية شعر جملة شعراء، وتخصص آخرون برواية شعر قبيلة، أو شعر جملة قبائل.

ويظهر إن أسلوب الحفظ والتسجيل في الذاكرة، كان الاسلوب الشائع بين الجاهليين في ذلك الزمن في الابقاء على النثر أو الشعر، وقد كان هذا الاسلوب متبعاً عند غير العرب في تلك الايام، إذ كانوا يقيمون وزناً كبيراً للرواية، حتى انهم يفضلون الحفظ على القراءة عن كتاب أو صحيفة، ولا سيما بالنسبة للكتب المقدسة والكتب الدينية الاخرى وفي الامور النابهة مثل الشعر. يرون إن في القراءة ثواباً وأجراً عظيماً، وتعظيماً لشأن المقروء. ولا أستبعد أن تكون هذه النظرة هي التي جعلت أصحاب الرسول يحفظون القرآن ويتلونه تلاوة من غير قراءة عن كتاب ولا نظر في صحيفة، يتلونه أمام الرسول وبين أنفسهم وبين الناس، ولا يقرأونه عن كتاب، مع أن منهم من كان يقرأ ويكتب وقد جمع القرآن. وكان تقدير العالم آنذاك بحفظه، لا بما يكتبه من صحف وبما يؤلفه من مؤلفات، ولهذا أشتهر كثير من العلماء بسعة علمهم، مع أنهم لم يتركوا أثراً مكتوباً، لأن العلم بالحفظ لا بالتدوين، وقد ينتقص من شأن العالم إذا تلا علمه عن كتاب، حتى إن كان ذلك الكتاب كتابه، لأن القراءة عن كتاب لاتدل على وجود علم عند القارئ، وشأنه اذن دون شأن الحافظ، الخازن للعلم في دماغه المملي للعلم إملاءً، وكانوا إذا انتقصوا عالماً قالوا: انه يتلو عن صحيفة، أو يقرأ عن صحيفة أو كتاب، ومن هنا قيل للذي يقرأ في صحيفة ويخطئ في قراءتها المصحفون، قال "أبن سلام": "فلو كان الشعر مثل ما وضع لأبن اسحاق ومثل ما يروي الصحفيون ما كانت اليه حاجة، ولا كان فيه دليل على علم". وقد حمل "ابن سلام على رواة الشعر الذين تداولوه من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وأنما العلم علم العلماء بالشعر وأهل الرواية الصحيحة، أما أهل الصحف، الذين يروون من صحيفة، فلا يروى عنهم، إذ لايروي عن صحفي". وأنتقصوا من علم "القاسم بن محمد بن بشار" الأنباري، ومن روى عنه مثل "أحمد بن عبيد" الملقب "أبا عصيدة" لأن هؤلاء "رواة أصحاب أسفار"، فهم لا يذكرون مع العلماء حفظة العلم، والرواة أصحاب السفر، والصحفيون، أنما كانوا يعتمدون على الصحف، ويحلون منها، ولذلك فقد يقع اللحن أو الخطأ منهم سهواً، أما الرواة الحفاظ، فلا يقع ذلك منهم إلا في النادر ثم أنهم ينشدون الشعر من مخارجه وحروفه، وهذا هو تفسير قول "أبن سلام" وأضرابه: "ليس لأحد أن يقبل من صحيفة، ولا يروي من صحفي "وفي جملة نما اخذ به "أبن سلام" الصحفيين أي الذين يكتبون ويدونون ما يقال لهم، كما هو واضح من قوله في "أبن أسحاق": "فلو كان الشعر مثل ما وضع لأبن أسحاق، ومثل ما رواه الصحفييون، ما كانت اليه حاجة، ولا فيه دليل على علم" ولهؤلاء الرواة فضل كبير ولا شك على الشعر الجاهلي وعلينا أيضاً، فبحفظهم لذلك التراث القيم وبإذاعته وبنشره بين ابناء زمانهم، أمكن وصوله إلى من جاء بعهدهم من عشاق الشعر والمتيمين به، حتى وصل إلى أيدي المدونين فدونوه. وصل بأفواه متعددة، ومن الصدور، ولهذا تعددت الروايات واختلفت القراءات وهذا شئ لابد أن يحدث، وهو أمر غير مستغرب، فحفظ الصدور ل ايكون كحفظ السطور ولو كان الشعر قد دون في ذلك العهد، وسجل في صحف ودواوين لما أختلف الرواة الاسلاميون في تدوينه يوم شرعوا في جمع ذلك الشعر وتدوينه في دواوين. فنجد الرواة قد يختلفون في عد أبيات القصيدة وفي ترتيبها وفي نص البيت، فترى روايات متعددة تمس بيتاً واحداً، لاتمس شكل الكلمة، بحيث نرجع ذلك إلى خطأ النسّاخ، وأنما تمس اللفظة نفسها، أو جملة ألفاظ شطر البيت أو البيت نفسه، وكتب الشعر والادب مليئة بأمثال هذه الأمور التي هي من حاصل الإعتماد على الرواية الشفوية في حفظ الشعر. ومتى أنشد شاعر شعره، وأذاع روايته بين الناس، حفظ وطار بين طلاب الشعر وعشاقه، لا سيما إذا كان مما يتصل بالناس. هذا "عميرة بن جعيل"، يهجو قومه، ثم يندم على ما قال، فيقول: ندمت على شتم العشيرة بعـدمـا  مضت واستتبت للرواة مذاهبـه

فأصبحت لاأستطيع دفعاً لما مضى  كما لايرد الدرّ في الضرع حالبه

وفي هذا المعنى جاء الشاعر: "المسيب بن علس": فلأهدين مع الرياح قصدسة  مني مغلغلة إلى القعقـاع

ترد المياه فما تزال غريبة  في القوم بين تمثل وسماع 

فالشعر تحمله الرياح وتنشره بين الناس، فيحفظ، ويرويه الرواة.

وكما كان لهم فضل على الشعر في تدوينه وتخليده، فكذلك كان لهم يد في إفساده وفي غشه وتزييفه. فقد كان منهم من يخلط في الشعر، ومنهم من كان يضيف عليه أو ينقص منه، أو يصنع الشعر فينحله الشعراء، ولما قيل للحطيئة، وهو من المخضرمين أوص قال: "ويل للشعر من الرواة السوء". وفي قول هذا الشاعر الخبير بدروب الشعر وفنونه، شهادة كافية على ما كان لرواة الشعر من أثر في رواية الشعر، غير إن منهم من كان يحسن الشعر ويقومه، ذكر عن"ابن مقبل" قوله: "إني لأرسل البيوت عوجاً، فتأتي الرواة بها قد أقامتها".

وقد تحدث "الجاحظ" عن رواة الشعر في ايامه، وعن ألوان الشعر التي كان الرواة يبحثون عنها، فقال: "وقد ادركت رواة المسجدين والمربديين ومن لم يرو أشعار المجانيين ولصوص الاعراب، ونسيب الاعراب، والارجاز الاعرابية القصار، وأشعار اليهود، والاشعار المنصفة، فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة. ثم استبردوا ذلك كله ووقفوا على قصار الحديث والقصائد، والفقر والنتف من كل شيئ. ولقد شهدتهم وما هم على شيئ أحرص منهم على نسيب العباس بن الأحنف، فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الاحمر نسيب الاعراب، فصار زهوهم في شعر العباس بقدر رغبتهم في نسيب الاعراب. ثم رأيتهم منذ سنيات، وما يروي عندهم نسيب الاعراب إلا حدث السن قد أبتدأ في طلب الشعر، أو فتياني متغزل.

وقد جلست إلى أبي عبيدة، والاصمعي، ويحيى بن المنجم، وأبي مالك عمرو بن كركرة مع من جالست من رواة بغداديون، فما رأيت احداً منهم قصد إلى شعرٍ فأنشده، وكان خلف يجمع ذلك كله.

ولم أر غاية النحويين إلا كل شعر فيع إعراب. ولم أر غاية رواة الاشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج. ولم أر غاية رواة الأخبار إلى كل شعر فيه الشاهد والمثل".

التصحيف والتحريف

اصل التصحيف أن يأخذ الرجل اللفظ من قرائته في صحيفة، ولم يكن سمعه من الرجال عن الصواب. وقد وقع فيه جماعة من الأجلاء من ائمة اللغة وأئمة الحديث، حتى قال الامام أحمد بن حمبل: من يعرى من الخطأ والتصحيف? قال ابن دريد: صحف الخليل بن أحمد، فقال: يوم بغاث بالغين المعجمة، وانما هو بالمهملة. أورده "ابن الجوزي". وهو شئ لا يمكن وقوعه من الخليل، صاحب العلم الغزير باحوال العرب، وقد يكون من فعل النساخ، إن صح كلام "ابن الجوزي"، فنسب التصحيف إلى الخليل.

وسبب الخط، إما لتشابه الحروف، وإما بسبب وجود الحركات، فمن النوع الاول حديث ينسب إلى الرسول هو: "تسمعون جرش طير الجنة"، وكان "الاصمعي" قد سمعه في مجلس "شعبة"، فقال "جرس" بالسين لا بالشين. ومن هذا القبيل: ما وقع من تصحيف في شعر للحطيئة هو قوله: وغررتني وزعمت انك لابن بالصيف تامر 

أي كثير اللبن والتمر، وقد قرأ: وغررتني وزعمت انك لاتني بالضيف تامر 

أي لا تتوانى عن ضيفك بتعجيل القرى اليه.

ومثل ذلك تصحيف الاصمعي في بيت لأوس: يا عام لو صادفت أرحامنا  لكان مثوى خدك الاخرما 

فقرأه "الاحزما"، وانما هو "الاخرما" بالراء، وهو طرف أسفل الكتف. ومن ذلك ما وقع بين الاصمعي والمفضل عند "عيسى بن جعفر"، فقد ناظر "المفضل" الاصمعي، بان أنشد بيت أوس بن حجر: وذات هدم عار نواشيرها  تصمت بالماء تولباً جذعاً 

فقال له الاصمعي: "هذا التصحيف، لا يوصف التولب بالإجذاع، وانما هو جدعها. الجدع: السيئ الغذاء. قال: فجعل المفضل يشغب، فقلت له: تكلم كلام النمل وأصب. لو نفخت في شبور يهودي ما نفعك شيئاً".

وقرئ يوماً على الاصمعي في شعر أبي ذؤيب: بأسفل ذات الدير أفرد جحشها 

فقال أعرابي حضر المجلس للقارئ ضل ضلالك أيها القارئ! انما هي ذات الدبر، وهي ثنية عندنا، فأخذ الاصمعي بذلك فيما بعد.

وقد اوردت الكتب امثلة كثيرة على التصحيف، وقع فيه كثير من العلماء، من ذلك ما وقع لأبي عمرو وللاصمعي، ولأبي حاتم ولكبار علماء اللغة، ويعدجو سببه إلى التنقيط، فالحروف مثل الجيم، والحاء والخاء، تميز بينها النقط، فإذا أخطأ الكاتب في وضع النقطة في محلها، وقع التصحيف. وقد يقع، ولا يقع خلل في القراءة، وانما يتبدل المعنى، دون إن يشعر القارئ بوجود ارتباك في معنى المقروء، وقد يقع في الاعلام من اسماء الرجال والنساء والامكنة، وقد وقع التصحيف في الكتب بسبب السهو في النسخ، أو جهل النساخ، ومن ذلك ما وقع في كتاب "العين" وفي كتب لغوية وأدبية ثمينة، أمكن رد بعضه إلى الصحيح، ولم يمكن تصحيح بعض اخر، لصعوبة تعيين المراد.

وقد روى "العسكري" قصة طريفة على التصحيف والتحريف، ذكر أنه "كان حيان بن بشر قد ولى قضاء بغداد، وكان من جملة اصحاب الحديث فروى يوماً أن عرفجة قطع انفه يوم الكلاب، فقال له مستمليه: أيها القاضي، انما هو يوم الكلاب، فأمر بحبسه، فدخل الناس، فقالوا: ما دهاك? قال: قطع أنف عرجفة في الجاهلية، وابتليت به أنا في الإسلام".

الخلط بين الاشعار

وبسبب اعتماد الرواة على الذاكرة في حفظ الشعر وروايته، وأنفة المتقدمين منهم من تدوينه، ومن الرجوع إلى الصحف، وقع الخلط في شعر الشعراء فصاروا ينسبون شعراً لشاعر، بينما هو من شعر شاعر آخر، أو إلى شاعر ثالث في موضع آخر من الكتاب، أو في كتب أخرى. وما كان ذلك ليقع، لو كان القدماء قد اخذوا العلم بطريق الكتابة والتدوين. من ذلك مثلاً الشعر: تلك المكارم لا قعبان من لبن  شيبا بماء فعادا بعد أبـوالا

فأنه ينسب لأبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، وينسبه بنو عامر للنابغة الجعدي. ومن ذلك قصيدة: تطاول ليك بلأثمـد  ونام الخلي ولم ترقد 

فقد نسب لأمرئ القيس الكندي، ونسبت لعمرو بن معدي كرب، ونسبت لامرئ القيس بن عانس.

وللسبب المتقدم وقع الخلط في عدد ابيات الشعر، فقد زاد بعض الرواة في قصيدة شاعر، بينما نقص رواة آخرون عدد أبياتها، وقد يدخلون في القصيدة ما ليس منها بسبب أختلاط الشعر على الراوية، وما كان هذا ليقع لو ورد الشعر المنسوب لأفنون التغلبي: لو أنني كنت من عاد ومن رام  غذى سخل ولقمانا وذا جـدن

بروايات مختلفة، كما قرئت بعض الفاظه بأوجه مختلفة من اوجه الإعراب، وما كان ليقع هذا الاختلاف لو كان الشعر قد ورد مدوناً أولاً ومشكولاً ثانياً، فلما جاء رواية بالألسن وقع فيه هذا الاختلاف. ونجد العلماء يغلط بعضهم بعضاً في اعراب ألفاظ الشعر، تتغير معانيه بقراءتها بأوجه متعددة من الاعراب، كما غلط بعضهم بعضاً وهاجم بعضهم بعضاً هجوماً عنيفاً خرج على حدود الادب واللياقة بسبب الاعجام، كما في "تعتر" و "تعنز" في بيت الحارث بن الحلزة: عنتاً باطلاً وظلماً كـمـا تـع  تر عن حجرة الربيض الظباء 

ونجد علماء الشعر والادب يروون شعر شاعر بصور متباينة في كتبهم، فتجد "الجاحظ" مثلاً، يروي أبيات شعر لشاعر، ثم يرويها بشكل يختلف عما ذكره لذلك الشاعر في موضع آخر من كتابه، وذلك أما سهواً، وإما بأختلاف رواية، واما من وقوع الزلل على اللسان. وتجد وقوع مثل ذلك في كتب اللغة، فقد ذكر "ابن منظور" بيتاً للأعشى: فأصبح لم يمنعـه كـيد وحـيلة  بساباط حتى مات وهو محرزق 

ثم ذكره بعد سطرين على هذه الصورة: هنالك ما أغنته عزة مـلـكـه  بسباط حتى مات وهو محرزق 

وقد يقع ذلك عن تعمد، بسبب الاستشهاد في تأييد مسألة نحوية أو لغوية. فقد روي أن سائلاً سأل "أبا عمرو بن العلاء" عن جمع يد من الإنسان، فقال: أيد، وأنكر أن تكون الأيادي إلا في النعم، وقال "الاخفش": "أما إنها في علمه، غير أنها لم تحضره، ثم أنشد بيت "عدي بن زيد العبادي": انكرت ما تبينت في أيادي  نا واشناقها إلى الاعناق

بينما يروي: ساءها ما بنا تبين في الايدي  واشناقها إلـى الاعـنـاق

وقد كان العلماء يتحذلقون في مثل هذه الامور، ويبحثون جهدهم عن الشاذ والغريب في الشعر، بل أخذ بعضهم يفتعل الغريب، ويضع الشاذ، فينسبه إلى المتقدمين لإفحام الخصم، ولإظهار مقدرته العلمية وبراعته في علوم اللغة أمام الخلفاء والحكام وهذا مما أساء بالطبع إلى العلم، إذ أدى إلى دخول المصنوع في الشعر، والى الإساءة إلى سمعة العلماء. وتجد في "مجالس العلماء" للزجاجي، مجالس فيها من استهتار كبار العلماء بعضهم ببعض، ومن وضع أحدهم على اللآخر، ما يبعث على الشفقة على حال قسم منهم، لما بلغوه في كلامهم وفي تصرفاتهم من الإسفاف بسبب محاولتهم التقدم عند الحكام، بالمنزلة والجاه ونيل المال.

على كل حال، فقد خفت فوضى الرواية، بعد إقبال الناس على التدوين، وتحبير الشعر وأمالي المجالس وأقوال العلماء وآرائهم على القراطيس، خاصة شيوع الاستنساخ وظهور جملة نسخ للكتاب الواحد، فظبطت بهذه الطريقة الرواية بعض الظبط، وصرنا أمام روايات متعددة للقطعة أو للقصيدة، وقد سدد هذه الطريقة وزاد في تثبيتها إقبال العلماء على نشر المخطوطات نشراً حديثاً بواسطة الطباعة فوفرت هذه الطريقة نسخ المخطوطات القديمة للباجحثين، ويسرت لهم بذلك الوقوف عليها مما مكنهم من إبداء نظرهم على ما جاء فيها من روايات عن الشعر العربي القديم.

الفصل الثالث والخمسون بعد المئة
اشهر رواة الشعر

اشتهر "مخرمة بن نوفل بن أهيب" وهيب "بن عبد مناف بن زهرة"، وهو من قريش برواية الشعر وبالعلم به. "وكان من مسلمة الفتح، وله سر وعلم، كان يؤخذ عنه النسب، ولا سيما نسب قريش إذ كان من العالمين به. وكان عالماً بأنصاب الحرم. فبعثه عمر هو وسعيد بن يربوع، وأزهر ابن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، فجدودها. وكانت أمه "رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف" شاعرة، وكانت لدة عبد المطلب.

وعرف "أبو الجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف" بالعلم بالشعر. وهو من "بني عدي". وكان من معمري قريش ومن مشيختهم، وكان أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم النسب. وكان شديد العارضة، وكان "عمر" يمنعه حتى كف من لسانه. وكان من مسلمة الفتح، وكان مقدماً في قريش معظماً، وكانت فيه وفي بنيه شدة وعرامة.

وكان "ابو بكر" من الجاهلين للشعر الراوين له، روى "المطلب بن المطلب ابن أبي وداعة" عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر رضي الله تعالى عنه عند باب بني شيبة، فمر رجل وهو يقول: يا أيها الرجل المحول رحله  ألا نزلت بآل عبـد الـدار

هبلتك أمك لو نزلت برحلهم=منعوك من عدم ومن إقتار قال: فالتفت رسول الله صلى عليه وسلم، إلى أبي بكر فقال: أهكذا قال الشاعر?قال: لا والذي بعثك بالحق، لكنه قال: يا أيها الرجل المحول رحـلـه  ألا نزلت بآل عـنـد مـنـاف

هبلتك أمك نزلت برحـلـهـم  منعوك من عدم ومن إفـراف

الخالطين فقيرهم بـغـنـيهـم  حتى يعود فقيرهم كالكـافـي

ويكللون جفانهم بـسـديفـهـم  حتى تغيب الشمس في الرجاف 

منهم علي والنبـي مـحـمـد  القائلان هـلـم لـلأضـياف

قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "هكذا سمعت الرواة ينشدونه".

وكان ابو بكر أحد العلماء بالنسب في قريش، وكانوا إذا أرادوا القوف على نسب رجل جاءوا اليه يسألونه، فهو عالم من علماء قريش فيه.

وكان "عمر بن الخطاب" ممن يحفظون الشعر، ووصف بأنه كان عالماً به وبأنه "كان أعلم الناس بالشعر"، وكان يحكم على الشعر وينتقده، ولا يكاد يعرض له أمر إلا انشد فيه بيت شعر، وأنه كان بصيراً به، حتى قيل عنه إنه كان "لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر"، ورووا له أمثلة كثيرة من حفظة للشعر ومن حسن نقده له، ونفاذه في باطن معانيه ومحاسنه.

وذكر انه كان يقدم "أمرأ القيس" على بقية الشعراء.

وكانت "عائشة" من رواة الشعر، وكانت تحفظ منه ما شاء الله، قيل انها قالت: "اني لاروي الف بيت للبيد، وانه أقل مما اروي لغيره. وانها كانت تحفظ من شعر كعب بن مالك شعرا كثيرا، منها القصيدة فيها اربعون بيت ودون ذلك، وكانت تتمثل بالاشعار، وربما دجل عليها رسول الله، فوجدها تنشد الشعر. قال "ابو الزناد": "ما رأيت أحدا اروي لشعر من عروة. فقيل له: ما ادرا، فقال: روايتي في رواية عائشة، ما كان ينزل بها شيء الا انشدت فيه شعرا"، وورد عن "عروة" قوله: "ما رأيت أحدا اعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر من عائشة". وروي انها كانت تحث على تعلم الشعر وروايته، بقولها: "رووا اولادكم الشعر تعذب السنتهم".

وكان "ابن عباس " من رواة الشعر وحفاظه. سأله "عمر" إن ينشده شعرا، فطلب منه إن يذكر له اسم شاعر لينشد له شعره، فقال زهير بن أبي سلمى، فأنشده "إلى إن برق الصباح"، وزعم انه كان يفسر كلمات كاتب الله بالشعر، قال: "ابو عبيد" "انه كان يسألا عن القران فينشد فيه الشعر". وزعم اهل الأخبار إن "نافع بن الازرق"، و "نجدة بن عويمر"، سألا "ابن عباس" عن كلمات واردة في القرآن، فجلس لهما بفناء الكعبة، واخد "نافع" يسألأه الكلمة تلو الكلمة وهو يشرحها لهم بشعر، وقد دون نصها العلماء، اخرج بعضها "ابن الأنباري" في كتاب الوقف، والطبراني في معجمه الكبير، ويرجع سند "أبن الانباري" إلى "ميمون بن مهران"، ويرجع سند "الطبراني" إلى "الضحاك بن مزاحم"، وقد أخذ "السيوطي" بالروايتين وسجلهما في كتابه: الاتقان في علوم القرآن"، بعد إن حذف منه نحو بضعة عشر سؤالاً. وقد وردت هذه الرواية بصور مختلفة، وذكر إن "ابا عبيدة معمر بن المثنى"، أخذ أسئلة نافع وادخلها في كتابه في غريب القرآن.

وكان "معاوية" ممن يروي ويحفظ الشعر الجاهلي، وقد رووا عن حفظه للشعر الجاهلي واستشهاده به في كلامه شيئا كثيرا، فزعموا أنه كان يمتحن الناس باشعار الجاهليين، فإذا وجد في احدهم علما بها زاد في عطائه وقدمه عنده وأجزل عليه. ورووا أنه كتب إلى: زياد "بشأن ابنه، وقد وجده عالما بكل ما سأله عنه إلا الشعر: " ما منعك إن ترويه الشعر ? فةالله إن كان العاق ليرويه فيبر، وان كان البخيل ليرويه فيسخو، وان كان الجبان ليريه فيقاتل. ويروى انه سألأ "عبد الله بن زياد"، ما منعك من روايته ? قال: كرهت أن أجمع كلام الله وكلام الشيطان في صدري، فقال: اغزب ! والله لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين مرارا، ما يمنعني من الانهزام إلا ابيات ابن الإطنابة، وتمثل بها، ثم كتب إلى ابيه أن روه الشعر، فرواه فما كان يسقط عليه منه شيء.

وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع الشعر الجاهلي فقال: "والعرب اوعى لما تسمع، واحف? لما تأثر، ولها الاشعار التي تقيد عليها مآثرها، وتخلد لها محاسنها. وجرت منذلك في اسلامها على مثل عادتها في جاهليتها، فنبت بذلك ابني مروان شرفا كثيرا ومجددا كبيرا وتدبيرا لا يحصى". وقد كان لبني سفيان وآل مروان عناية فائقة بالشعر الجاهلي، فقد كان "معاوية" كما ذكرت يحفظ كثيرا من ذلك الشعر، وينقب عنه، وكان يسأل من يجد فيه العلم عنه، حتى زمع انه ذكر قصيدتي "عمرو بن كلثوم" و "الحارث بن حلزة" اليشكري، وقال كانتا: "من مفاخر العرب، وكانتا معلقتين بالكعبة دهرا". وزعم إن "ابن أمية" "كانوا ربما اختلفوا وهم بالشأم في بيت من الشعر، أو خبر، أو يوم من ايام العرب، فيبردون فيه بريدا إلى العراق"، وانهم كانوا يسألون الوافدين عليهم من سادات القبائل ومن الاعراب ومن العارفين بالشعر عن الشعراء ن وقد يدكرون بيتا أو شعرا حفظوه لا يدرون اسم قائله، فكانوا يستفسرون عن قائله، وعن المناسبة التي قال الشاعر شعره فيها، ويحسنون جائزة من له علم بالشعر والاخبار.

وكان "عبد الملك بن مروان" من العلماء بالشعر الجاهلي، قيل انه كان يمتحن الناس به، ومنهم "الحجاج بن أبي يوسف" الثقفي. وقد ذكر انه استدعى اليه "عامر بن شراحيل" الشعبي، ليحدثه عن الحلال والحرام، وعن اشعار العرب وأخبارهم، وكان "الشعبي" من ذلك الطراز البارع في الشعر وفي أخبار العرب وفي الحلال و الحرام، وروي إن "عبد الملك"، كان قد طرح اربعة من شعراء المعلقات، واثبت مكانهم اربعة، واذا صح هذا الخبر دل على القصائد المسماة بالمعلقات في ذلك العهد.

وروي انه كان يقول: إذا اردتم الشعر الجيد، فعليكم بالرزق من بني قيس ابن ثعلبة، واصحاب النخيل من يثرب، واصحاب الشعف من هذيل. ويظهر انه كان من المعجبين بشعر " الاعشى"، وروي انه قال لمؤدب ولده: "ادبهم برواية شهر الاعشى فإن لكلامه عذوبة". والاعشى هو من بني قيس بن ثعلبة، وقد كان يقيم وزنا كبيرا للشعر في تأديب الاولاد. فكانت وصية لمؤدب ولده: "روهم الشعر، روهم الشعر، يمجدوا وينجدوا". وروي انه تمثل وهو بمرضه الذي مات فيه من شعر "لبيد".

ونجد في الأخبار إن عبد الملك، كان إذا شك في شعر، أو اراد الوقوف عليه وعلى ظروفه، كتب إلى العلماء به، يسالهم عنه، أو يستدعي من يعرف إن له علما به، فيساله عنه، أو يسأل آل الشعر أو احد افراد قبيلته عنه. وكان كثير الحفظ له، حتى كاد لا يدانيه فيه كثير من حفاظ الشعر، وكان يجمع اليه الشعراء في يوم، حتى يستمتع بإنشاد شعرهم، وشعر المتقدمين عليهم. وكان له ذوق في الشعر ونقد دقيق له، ذكر انه قال يوما للشعراء وقد اجتمعوا عنده: "تشبهوننا بالاسد والاسد ابخر، وبالبحر والبحر اجاج، وبالجبل مرة والجبل أوعر، اقليم كما قد قال له: "يا امير المؤمنين، قد امتدحتك فاستمع مني" "إن كنت انما شبهتني بالصقر والاسود فلا حاجة لي في مدحتك، وإن كنت كما قالت اخت بني الشريد لأختها صخر فهات. فقال الاخطل: وما بلغت كف امرىء متـنـاولٍ  من المجد الا حيث ما نلت اطول

ثم قرأ عليه الابيت. ولما دخل "جرثومة" الشاعر على عبد الملك بن المروان، فانشده والاخطل حاضر، "قال عبد الملك الاخطل: هذا المدح ويلك يا ابن النصرانية".

وكان يجمع بين الشعراء، ويستمع إلى شعرهم، يجمعهم حتى إن كانوا متعادين متنافسين، فقد جمع بين جرير، والفرزدق، والاخطل، في مجلس واحد، وذكر انه سأل اعرابيا شاعرا عن أهجى بيت في الإسلام، وعن ارق بيت في الإسلام. فاشار إلى ابيات لجرير وفضل جرير عليهما، فأيده عبد الملك في هذا الرأي.

وقد وصف "عامر" الشعبي، "عبد الملك بن مروان" وصفا يدل على شدة اعجابه به، اذ يقول في وصفه له: "فلما فرغ من الطعام وقعد في مجلسه واندفعنا في الحديث، وذهبت الناس به، وربما زاد فيه على ما عندي، ولا انشدته شعرا إلا فعل مثل ذلك، وانكسر بالي له، فما زلنا على ذلك بقية نهارنا، فلما كان اخر وقتنا التفت إلي وقال: يا شعبي، قد واللع تبينت الكراهية في وجهك لما فعلت، وتدري أي شيء حملني على ذلك ? قلت: لا يا امير المؤمنين. قال: لئلا تقول: لئن فازوا بالملك اولا لقد فزنا نحن بالعلم، فأردت إن اعرفك أنا فزنا بالملك وشاركناك فيما انت فيه"، ولهذا اجتمع اليه الشعراء وعلماء الأخبار ورواة الناس، حتى حفلت بهم مجالسه، وكان يذاكرهم ويحادثهم وينوه بهم ويدني مجالسهم. وذكر إن عبد الملك ارسل إلى الحجاج إن يرسل اليه "الشعبي"، فارسله اليه، فلما دخل عليه كان "الاخطل" عنده، فاخذ يسأله عن الشعر، ويسأل الاخطل عنه، حتى إذا انتهى، قال له: يا شعبي، انما اعلمناك هذا، لانه بلغني إن اهل العراق يتطاولون على اهل الشام ويقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة، فلن يغلبونا على العلم والرواية، واهل الشام اعلم بعلم اهل العراق من اهل العراق". وكان الشعبي قد جعل الخنساء اشعر النساء اما عبد الملك ففضل ليلى الاخيلية عليها. فشق ذلك على الشعبي، فقال له ذلك القول، وردد عليه ابيات عليه ابيات الاخيلية حتى حفظها. والرواية المتقدمة التي اخذتها من "الرافعي" هي هذه الرواية بشيء من التغير.

وكان يتمثل بالشعر الجيد، ويثني على الحسن منه، ويحسن نقده. تمثل بشعر لهذيل بن مشجعة البولاني، وقال: "هذا و الله شعر الاشراف. نفى عن نفسه الحسد والالؤم والانتقام عند الامكان، والمسألة عند الحاجة". وله مجالس كان يسألأ فيها الناس عن الشعر، يمتحنهم، وذكر انه سأل رجلا وهو بالكوفة عن شعر "ذي الاصبع العدواني" وعن اخباره، وكان من عدوان، فلما وجده جاهلا حط من عطائه، وذكر انه اجتمع بالربيع بن ضبيع الفزاري، وسأله عن اخباره، وانه كان يبدي ملاحظات قيمة على اشعار الشعراء الجاهليين والمعاصرين له، فلما قدم "الاجرد" "الاحرد"، وهو من شعراء ثقيف في نفر من الشعراء، قال له: انه ما من شاعر الا وقد سبق الينا من شعره قبل رؤيته فما قلت".

و كان "الوليد" و "سلمان" ابنا "عبد الملك" من المولعين بالشعر كذلك، وذكر إن "الوليد" كان يقدم "النابغة" على غيره من الشعراء، وكان "سليمان" يقدم "امرأ القيس"، فذكر ذلك لعبد الملك، فبعث إلى اعرابي فصيح، ليكون الحكم بينهما. ورويت القصة بشكل آخر، ورد فيها إن "الوليد بن عبد الملك" تشاجر مع اخيه "مسلمة" في شعر "امرىء القيس" و "النابغة" الذبياني في وصف طول الليل ايهما أجود، فرضيا بالشعبي فأحضر، فصار الحكم بينهما.

وكان "هشام بن عبد الملك" من المولعين بالشعر كذلك، ذكر انه كتب إلى عامله في اشخاص "حماد" الرواية اليه لبيت سمعه لم يعرف اسم قائله.

وكان "الوليد بن يزيد" من المتيمين بالشعر، وهو نفسه شاعر مجيد، وكان يستدعي "حماد" الرواية ليسأله عن الشعر، وقد قتل في سنة ست وعشرين ومائة. وكان منهمكا في اللهو وشرب الخمر وسماع الغناء، ذكر انه استفتح القرآن فخرج له: "واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد"، فألقاه ونصبه غرضا ورماه بالسهم، وقال: تهددني بجـبـار عـنـيد  فها انا ذاك جبار عـنـيد

إذا ما جئت ربك يوم حشرٍ  فقل يا رب مزقني الوليد

وكان إذا اراد الاستفسار عن شعر جاهلي خفي أمره عليه أرسل إلى "حماد" يسأله عنه، كما كان يسأل غيره عنه كذلك.

وروي انه نشر يوما المصحف، وجعل يرميه بالسهام، وهو يقول: اسقياني وابن حـرب  واستـرانـا بـازار

فلقـد ايقـنـت انـي  غير مبعوث لـنـار

واتركا من طلب الجنة  يسعى في خـسـار

ساسوس الناس حتـى  يركبوا دين الحمـار

إلى غير ذلك من اشعار واخبار، وروايات تتهجم عليه، نسبت بعضها إلى اهله واقاربه، بل زعم إن الرسول لعته في حديثه، مثل هذه الاحاديث من الحديث الموضوع.

وفي شعر الوليد سلاسة الوليد وطبع، وعدم مبالاة، فالحياة في نظره، سماع غناء ن وخمر طيب، اما الحكم والملك، فلا يساويان شيئا: أنـــا الامـــام الــــولـــــــيد مـــــــفـــــــتـــــــخـــــــرا  اجـــــــر بـــــــردي، واســـــــمـــــــع الـــــــغـــــــزلا

اســـحـــب ذيلـــي إلـــــــى مـــــــنـــــــازلـــــــهـــــــا  ولا ابـــــــالـــــــي مــــــــــــــن لام أو عـــــــــــــــذلا

ما الـــعـــيش ذيلـــي إلـــــى مـــــــنـــــــازلـــــــهـــــــا  وقـــهـــوة تـــتـــرك الــــفـــــــتـــــــى ثـــــــمـــــــلا

لا ارتجي الحور في الخلود وهليأمل حور الجنان من عقلا ? إذا حبتك الوصال غانيةفجازها بذلها كمن وصلا 

ويقال انه لما احيط به، دخل القصر واغلق بابه وقال: دعـــــــوا لــــــــــــي هـــــــــــــــنـــــــــــــــدا والـــــــــــــــربـــــــــــــــاب وفـــــــــــــــرتـــــــــــــــنـــــــــــــــي  ومـــــــســـــــــــــمـــــــــــــــعة، حـــــــــــــــســـــــــــــــبـــــــــــــــي بـــــــــــــــذلـــــــــــــــك مـــــــــــــــالا

خذوا مـــــــلـــــــكـــــــكـــــــم، لا ثـــــــبـــــــت الـــــــلـــــــــــــــه مـــــــــــــــلـــــــــــــــكـــــــــــــــكـــــــــــــــم  فلـــــــــــــــيس يســـــــــــــــاوي بـــــــــــــــعــــــــــــــــــد ذاك عـــــــــــــــــــــــــــــــقـــــــــــــــــــــــــــــــالا

وخلوا سبيلي قبل عيرٍ وما جرىولا تحسدوني إن اموت هزالا وكان "ابن شهاب الزهري" من رواة الشعر، وكان من المؤلفين، وقد توفي سنة " 124 ه"، وكان رواية للشعر، يحفظ الكثير منه، حتى كان الامويون إذا اشكل عليهم امر من امور الشعر، ارسلوا اليه يسألونه عنه

وكان "عروة بن الزبير" من رواة الشعر، ويعد من اشهر روايته عند اهل الحجاز، روى عن عائشة، وكان يقول: "روايتي في رواية عائشة"، وقد روى عن اخنها "اسماء" بنت أبي بكر، روى عنها شعرا ليزيد بن عمرو بن نفيل، ولورقة بن نوفل، وكان يزور آل مروان، رآه الحجاج "قاعدا مع عبد الملك بن مروان، فقال عروة: أنا لا أم لي ???، وأنا ابن عجائز الجنة، ولكن إن شئت اخبرتك من لا أم له يا ابن المتمنية، فقال عبد الملك: أقيمت عليك أن تفعل، فكف عروة. والمتمنية ???، هي الفريعة بنت همام، ام الحجاج وهي قائلة: هل من سبيل إلى خمر فأشربها  ام من سبيل إلى نصر الحجاج

وللمتمنية قصة، لا تخلو إن تكون من وضع اعداء الحجاج.

وقد نسب اهل الأخبار إلى بعض رواة الشعر حفظ الشيء الكثير من ذلك الشعر، نسبوا إلى بعضهم حفظ آلاف القصائد عدا القطع و الاراجيز. ذكروا مثلا إن " حمادا " الراوية كان يحفظ " 27 " قصيدة على كل حرف من حروف الهجاء الف قصيدة. وان " الاصمعي"، كان يحفظ " 16 " الف ارجوزة، وان "ابا ضمضم"، كان يروي لمائة شاعر اسم كل منهم "عمرو"، وأن "أبا تميم" حفظ "14" الف ارجوزة من اراجيز الجاهلية غير القصائد والمقاطيع، إلى امثال ذلك من ارقام لا تخلو من مبالغات اهل الأخبار.

وروي إن فتيانا جاءوا إلى "أبي ضمضم" بعد العشاء، فقال لهم: ما جاء بكم يا خبثاء ? قالوا: جئناك نتحدث، قال: كذبتم، ولكن قاتم كبر الشيخ فنتلعبه عسى إن ناخذ عليه سقطة ???????????????، فانشدهم لمائة شاعر، وقال مرة اخرى لثمانين، كلهم اسمه عمرو. وقال "الاصمعي": "فعددت انا وخلف الاحمر فلم نقدر على ثلاثين. فهذا ما حفظه ابو ضمضم، ولم يكن بأروى الناس، وما اقرب إن يكون من لا يعرفه من المسمين بهذا الاسم اكثر ما عرفه".

ولما نشأ التدوين بالمعنى المفهوم من هذه الفظة في الإسلام، كان الشعر في طابعة الموضوعات التي عني الناس بها في ايام الامويين فما بعد.

فجمعوا شعر الشعراء على انفراد، وجمعوا شعر جماعة منهم، أو شعر قبيلة أو قبائل، وجمعوا شعر طبقة من الطبقات الاجتماعية، كما عنوا بالاختيارات وغير ذلك.

وقد أخذ بعض رواة الشعر الجاهلي من منابعه، أي من القبائل، "قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: دخل أبو عمرو اسحاق بن مرار البادية ومعه دستيجان من حبر، فما خرج حتى أفناهما بكتب سماعه عن العرب". "وابو عمرو" هذا ابو عمرو الشيباني.

وقد أشار "ابن النديم" والعلماء الذين عنوا بالشعر إلى اسماء نفر من علماء عنوا واشتغلوا بجمع الشعر وذكروا اسماء كتبهم واختياراتهم. وقد وصل الينا بغض ما اشتغلوا فيه وجمعوه، فطبععع، منه ما لا زال محفوظا في خزائن الكتب. وهو معروف يعرف الناس المواضع التي يوجد فيها، وقد يهيأ له من يقوم بطبعه وتيسيره بذلك للناس، غير اننا لا نزال نجهل مصير عدد كبير من الدواوين والاشعار والاختيارات التي ذكر "ابن النديم" وغيره اسماءها مع اسماء جامعيها، ولا ندري إذا كانت اليوم في خزائن الكتب لا يعرف الناس من امرها شيئا، لعدم احاطة المسؤولين بامر تلك الخزائن العلم بها، اوانها عند اسر لا تعرف من امر المخطوطات شيئا، لجهلها بها وبالعلم، أو انها تلتف وولت لعوامل عديدة، فلا أمل إذن من بعثها ونشرها.

وقد تحرش "الجاحظ" بنموذج من رواة الشعر بالبصرة، فقال: "وقد ادركت رواة المسجدين والمربديين ومن لم يروا أشعار المجانين ولصوص الاعراب، ونسيب الاعراب، والاراجيز الاعرابية القصار، واشعار اليهود، والاشعار المنصفة، لانهم كانوا لا يعدونه من رواة. ثم استبردوا ذلك كله من ووقفوا على قصار الحديث والقصائد، والفقر والنتفمن كل شيء. فما هو الا إن اورد عليهم خلف الاحمر نسيب الاعراب، فضلر زهدهم في شعر العباس بقدر رغبتهم في نسيب الاعراب. ثم رأيتهم منذ سنيات، وما يروى عندهم نسيب الاعرب الا حدث السن قد أبتدأ في طلب لبشعر، أو فتياني متغزل.

وقد جلست إلى عبيدة، والاصمعي، ويحيى بن النمجم، وابي مالك عمرو بن كركرة، مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدا منهم قصد إلى شعر في نسيب فأنشده. وكان خلف يجمع يجمع ذلك كله.

ولم يقتصر عمل الروية على رواية الشعر وإنشاده للناس، بل كان يقوم ايضا بشرح غامض ألفاظه وبإجلاء ما قد يكون في الشعر من معان خفية غامضة، كما كان يقوم بشرح الظروف والمناسبات التي نظم الشعر فيها، إلى غير ذلك من امور تتعلق بالشعر. ولهذا فان رواية الشاعر، هو ديوان حي للشاعر، فيه كل ما يتعلق بشعر الشاعر.

ولم يقتصر جمع الشعر على عشاقه وروايته والعلماء به، أو على الرواة الشعراء، بل ساهم فيه أناس تخصصوا بامور اخرى، كان لاختصاصهم اتصال متين بالشعر، مثل علماء النسب وعلماء الايام والاخبار. فقد امدنا هؤلاء بمادة لا بأس بها من الشعر الجاهلي، في الجاهلية وفي الإسلام. كانوا إذا تحدثوا عن نسب قبيلة أو عن نسب رجل معروف، ذكروا ما قيل في حقها أو في حقه من مدح أو هجاء، وكانوا إذا تكلموا عن ايام الجاهلية، اضطروا إلى سرد ما قال فيها ابطالها وفرسانها من شعر. فقد كان من عادة الابطال إنشاد شعر التبجح بالنفس ومفاخرتها وبمفاخر القبيلة حين نزولهم ساحة القتال، وكان تسجيلا لمفاخره بين الناس.

وساهم علماء العربية: علماء اللغة والنحو والتفسير الحديث مساهمة تذكر في تخليد الشعر الجاهلي، بما جمعوه من شواهد في اللغة وفي النحو وفي الصرف، وفي تفسير القرآن والحديث من ابيات وقطع بل قصائد أحيانا. فقدموا لنا بفعلهم هذا مادة ساعدتنا في زيادة معارفنا عن شعر ما قبل السلام، وفي ضبط الشعر الوارد في مصدر الاخرى، وتصحيح ما قد يكون قد وقع في الروايات المتضاربة من اوهام، كما امدتنا بمادة لا بأس بها، بل جديدة ونادرة احيانا عن اصحاب الشعر وعن المناسبات التي قيل فيها.

وقد تعرض "الجاحظ" لأمر هؤلاء في الشعر، فقال: "ولم ار غاة النحوين الا كل شعر فيه اعراب. ولم ار غاية رواة الشعر الا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج. ولم أ، غاية رواة الأخبار الا كل شعر فيه الشاهد والمثل".

يقول "برو كلمن": "ولم يبدأ جمع الشعر الا في عصر الامويين، وان لم يبلغ هذا الجمع ذروته الا على ايدي العلماء في عصر العباسيين، بيد إن معنى التحري في وثوق الرواية، والتدقيق في النقل اللغوي على النحو الذي نعرفه في عصرنا هذا، كان أمرا غريبا بعد على جماع ذلك العصر. ولما كان كثير من هؤلاء الجماع انفسهم شعراء، فقد ظنوا انه ليس من حقهم فقط، بل ربما كان واجبا عليهم ايضا في بعض الاحيان إن يصلحوا ما رووه للشعراء القدماء أو يزيدوا عليه. فلا عجب إذا لم يبالوا ايضا بالوضع والاختراع لتوثيق رواياتهم. وقد اراد حماد الرواية إن يفسر تفوقه، والتفوق المزعوم لاصحابه الكوفيين في الدراية بالشعر القديم، فزعم انه وجد الشعر الذي كتب بامر النعمان ودفن في قصره الابيض بالحيرة، ثم كشف في ايام المختار بن أبي عبيد.

لقد غير الرواة بعض اشعار الجاهلية عمدا، ونسبوا الشعار القديمة إلى شعراء من الجاهلية الاولى، كما يمكن إن يكون وضع اشعار قديمة، منحولة على مشاهير الابطال في الزمن الاول لتمجيد بعض القبائل، اكثر مما نستطيع اثباته.

على انه بالرغم من كل العيوب التي لم يكن منها بد في المصادر القديمة، يبدو إن القصد إلى التشويه والتحريف لم يلعب الا دورا ثانويا. وقد روى علماء المسلمين اشعارا للجاهليين تشمل على اسماء اصنام وعبادتها، وأن سقطوا أيضاً أبياتاً أخرى لشبهات دينية، وذلك في حالات يبدو أنها قليلة، لان الشعور الديني لم يكن غالباً على نفوس العرب في اتلجاهلية.

ويعود الفضل في جمع الشعر الجاهلي وتدوينه وتخليده إلى مدينتين أشتهرتا بالعلم، هما: الكوفة والبصرة، فقد كان علماء هاتين المدينتين في طليعة من عني بجمع الشعر الجاهلي وتقصيه، ولا نكاد نجد مدينة أسلامية، بلغت مبلغها في هذه الناحية، أو تمكنت من مزاحمتها في جمع شتات هذا الشعر وحصره في كتب مدونة صارت مرجعاً للعلماء ولعشاق هذا الشعر إلى يومنا هذا. ونكاد لا نجد كتاباً في الشعر أو الأدب، إلا وهو عيال على علم هاتين المدينتين.

ولمك تساهم مكة مدينة قريش، مساهمة الكوفة أو البصرة في جمع الشعر الجاهلي، الذي زعم أنه نظم بلغتهم، ولم تلحق يثرب بالمدينتين المذكورتين في هذا المضمار كذلك. ولم تبلغ "دمشق" التي صارت حاضرة العالم الاسلامي بعد مقتل "علي" وتولي "معاوية" الحكم، مبلغ المدينتين في هذا العلم وفي علوم العربية الاخرى، مع حبّ الأمويين للشعر الجاهلي?، ورغبتهم في تفويق بلاد الشام المؤيدة لهم، على العراق لمشاكسته لهم، وعارضته للشام منذ ما قبل الإسلام. ويظهر أن أرض "دمشق" لم تكن أرضاً خصبة بالنسبة للشعر الجاهلي لأن سكانها حتى الفتح كانوا بين سوريين، أي من بني أرم، وبين إغريق وعناصر أعجمية اخرى، بينما كانت الحيرة والانبار وعين التمر وسائر القرى العربية الأخرى، تعلم العربية في مدارسها، وتدرس الخط العربي، وكان رجال الدين فيها، وقد وقفوا على الثقافة اليونانية، ونقلوا كتباً منها إلى السريانية، ولكونهم من النصارى الشرقيين، كانت لغة العلم والدين عندهم السريانية، ولكنهم كانوا يعظون ويعلمون العربية. أما عرب الشام، فقد اقاموا في قرى ومضارب في أطراف بلاد الشام، ومع احتفال سادات غسان بالشعراء، فإن عنايتهم بهم لم تبلغ ميلغ عناية آل لخم بهم، ولعل ذلك بسب أرتباطهم الشديد بالروم، وهيمنة الروم عليهم، بحيث لم يكونوا يسمحون لهم بالتحرك إلا بعد أستشارتهم، ولا أن يتصلوا بالعرب إلا بامر منهم، ولهذا لم يجدوا لهم منفعة تذكر بالإغداق على الشعراء وبإغراء الشعراء بالمجيء اليهم لمدحهم، اللهم إلا إذا جاء الشعراء اليهم، ورموا بأنفسهم ضيوفاً عليهم، أما سادة الحيرة، فقد كانوا أكثر تحرراً في أمورهم وسياستهم من منافسيهم الغساسنة، وكان نفوذ الفرس خفيفاً عليهم، وقد بلغ حكمهم في أيام "أمرئ القيس" "328م" أسوار نجران، وكانت البحرين تابعة للحيرة، يحكمها عامل يعينه ملك الحيرة، كما كان نفوذ الملوك يمتد إلى نجد فاليمامة، فلمملوك الحيرة إذن مصالح سياسية خاصة في منطقة واسعة من جزيرة العرب، ولهم روابط مع سادات القبائل، ونظراً إلى ما للشعر والشعراء من أهمية في التأثير بالرأي العام ، أضطروا إلى مداهنة الشعراء والإغداق عليهم والترحيب بهم، لشراء السنتهم، اما من كان يوشي به عندهم، فيغضبون عليهن أو يجد أنه لم يكافأ على مدحه لهمن وقيامه بشعره بالدعاية لهم، مكأفاة عادلة، فكان يهرب إلى اعداء آل لخم، الغساسنة، ليجد له مأوى عندهم، كما فعل النابغة والملتمس. ولما كان الغساسنة قد تأثروا بالحياة الحضرية، أكثر من ملوك الحيرة وقد تشربوا بالثقافة البيزنطية، ، فعاشوا في بيوت بدمشق بين الحضر، وبنوا القصور الكبيرة في القرى التابعة لهم، وهي مواضع خصبة، وقد أثثوها على الطريقة الرومية، وكانوا يسمعون الغناء الرومي، وكانت مصالحهم بالأعراب وبجزيرة العرب-كما قلت- غير ذات بال، لم يحفلوا بالشعراء الوافدين عليهم احتفال ملوك الحيرة بهم، ولم يغدقوا إغداق المناذرة عليهم، فصار عدد الشعراء الوافدين عليهم قليلاً إذا قيس بعدد من كان يذهب منهم إلى قصور الحيرة، كما يظهر ذلك جلياً من كتب الأخبار والأدب التي تحدثت عن الشعراء الجاهليين، ولعل هذا الصد عن الشعراء هو الذي حمل "النابغة" على ألا يمكث عند الغساسنة طويلاً، فحمل حمله، وعاد إلى الحيرة معتذراً إلى النعمان عما بدر منه من خطأ، رامياً سبب ما وقع بينهما من قطيعة إلى عمل الوشاة والحساد. ولعله كان أيضاً في جملة العوامل التي جعلت العراق يتقدم على الشام في رواية الشعر الجاهلي وفي نشره، فنحن لا نكاد نعرف رجلاً من اهل الشام الصميميين، قام بالشعر الجاهلي، أو بأمر شعراء العرب في الشام من اهل الجاهلية، كما قام به أهل العراق. ولم تشتهر "دمشق" ولا غيرها من مدن بلاد الشام بما قامت به مدن العراق من جمع الشعر الجاهلي على الرغم من تحمس الأمويين وكلفهم في جمعه وتدوينه.

وقد تعرض العلماء لامر "المدينة" فقالوا: "فأما مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، فلا نعلم بها إماماً في العربية. قال الاصمعي: أقمت بالمدينة زماناً ما {ايت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة.

وكان بها ابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكلاماً ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه وخفيت روايته، وهو عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب، يكنى أبا الوليد، وكان شاعراً وعلمه بالاخبار اكثر. وذكر إن في جملة ما صحفه من الشعر، قول "الحارث بن حلزة" اليشكري: أيها الكاذب المبلـغ عـنـا  عبد عمرو وهل بذاك انتهاء 

وانما هو: عند عمرو.

وأقدم ما لدينا من مدونات الشعر الجاهلي، الاختيارات التي جمعها "حماد" الراوية، المعروفة ب"المعلقات"، والتي عرفت بالسموط. ولعلها الديوان الذي ذكر"ابن النديم" انه أرسله إلى "الوليد بن يزيد بن عبد الملك"، فأستعان به مع ديوان لآخر بعثه اليه "جناد"، ليجمع منهما ومن غيرهما ديوان العرب، وأشعارها، وقد يكون ديواناً آخر أوسع من هذا المجموع.

ويلي هذه الاختيارات، اختيارات أخرى جمعها رجل من اله الكوفة أيضاً، وراوية من رواة الشعر المعروفين هو "المفضل بن محمد بن يعلى" الضبي، المتوفي سنة "164ه" "780م"، أو "168"، أو "170ه"، على أختلاف الروايات. وقد أتخذه "المنصور" مؤدباً لابنه "المهدي" فعمل له الاشعار المختارة المسماة المفضليات، وهي مائة وثمان وعشرون قصيدة، وقد تزيد أو تنقص، وتتقدم وتتأخر بحسب الرواية عنه، والصحيحة التي رواها عنه ابن الاعرابي. قال: وأول نسخة التي لتأبط شراً: يا عيد ما لك من شوق وابـرق  ومر طيف على الاهوال طراق 

{هذا وقد وقع الجزء الاول من هذا الكتاب سهو، إذ سقطت لفظة "مائة" من "وهي مائة وثمان وعشرون قصيدة"، فصارت على هذا النحو: "وهي ثمان وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص"، ولذلك أحببت أن ألفت نظر القراء لإصلاح هذه الهفوة.

ويلي هذه الاختيارات أختيارات اخرى جمعها "الاصمعي"، سأتحدث عنها أثناء حديثي عنه بعد قليل، ثم أختيارات اخرى عرفت ب"جمهرة أشعار العرب"، قد جمعت في أواخر المائة الثالثة للهجرة. "وهي مجموعة سباعية تشتمل على سبعة أقسام، أولها المعلقات السبع، وتحمل الستة الباقية حلى من العناويين المختارة وهي: المجمهرات، المنتقيات، المذهبات، المراثي، المشوبات، الملحمات".

"ويسمى جامعها أبا زيد القرشي، وقيل إن سند رواية أبي زيد هذا، وهو المفضل، كان في المرتبة السادسة من سلالة الخليفة عمر بن الخطاب، واذاً فلا بد أن حياته كانت في أواخر القرن الثالث الهجري. على إن كلا الرجلين: أبي زيد والمفضل، مجهول بالكلية فيما عدا ذلك. ويبدو لنا إن تسميتها موضوعة على اسمي كل من أبي زيد الأنصاري النحوي المشهور وشيخه المفضل. ولكن لما كان كتاب الجمهرة معروفاً لابن رشيق "390-456 ه1000-1064 م"، فقد يكون تم تأليفه في ملتقى القرنين الثالث والرابع للهجرة".

وهناك مجموعات أخرى مثل ديوان الحماسة لأبي تمام "المتوفى 231 ه"، وديوان الحماسة للبحتري "205-284 ه"، وحماسة "الخالديين"، أو كتاب الأشباه والنظائر، للأخوين: أبي عثمان سعيد "المتوفى 350 ه"، وأبي بكر محمد "المتوفى 380 ه"، ومجموعات أخرى معروفة، مثل كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الاصبهاني، ذكرها "بروكلمن"و "جرجي زيدان"، وغيرهما ممن بحث عن الشعر الجاهلي، فلا حاجة بي اذن إلى ذكرها في هذا المكان.

ولم يلزم رواة الشعر الأول وعلماء اللغة والنحو أنفسهم النص على اسم المنبع الذي غرفوا الشعر أو الخير منه، فصار من الصعب علينا، بل من غير الممكن التعرف على السبيل الذي سلكه هذا الشعر الجاهلي من الجاهلية حتى وصل إلى "حماد" الرواية، أو "خلف" الأحمر، أو غيرهما من رواة الشعر. ولو كانوا قد نصوا عليه، لأمكن التثبت من صحة الشعر، بنقد سلسلة السند، أو المصدر المكتوب إن كان مكتوباً، فيخفف بذلك من هذا الشك الذي يحوم حول صحة المصادر التي أخذ الرواة منها معينهم عن هذا التراث الخالد الجاهلي.

وقد اكتفى الرواة أحياناً بذكر اسم "أعرابي"، نسبوا أخذ شعرهم أو خبرهم اليه، اتصلوا به أثناء قدومه البصرة أو الكوفة، أو في أثناء ذهابهم إلى البادية لجمع العلم بأخبار العرب وبشعرها القديم منها، ومعظمهم من قبائل مختارة نصوا على اسمها، مثل تميم، وأسد، وهي القبائل التي ارتضى علماء اللغة الأخذ عنها، وكان بعضهم ممن ترك البادية وعاش في الحاضرتين، وأظهروا مقدرة وكفاءة في الرد على أسئلة العلماء، استوجبت توثيقهم وتقديمهم، حتى صار بعضهم من طبقة العلماء.

ولم يشر العلماء أحياناً إلى اسم الأعرابي، أو الأعراب الذين أخذوا عنهم، بل اكتفوا بالاشارة إلى أنهم سمعوا ما ذكروه من "أعرابي"، أو من "أعرابي" فصيح، أو من "فصحاء الاعراب"، أو "فصحاء العرب". و لا ندري حال هؤلاء الاعراب وحظهم من العلم والمعرفة بعلوم اللغة، وبامور القبيلة في الجاهلية، وقد يصح الاخذ منهم في امور لغوية تخص لهجة قبيلتهم، اما في موضوع الشعر والاخبار، فهنالك مشاكل شائكة تجعل من الصعب قبول روايتهم، لمجرد انهم اعراب، وانهم أعلم من الحضر بامور قبيلتهم، فبينهم من كان لا يبالي من التحقق باجابته، فيجيب حسب مزاجه وهواه.

وقد اشتهر وعرف بعض الاعراب، حتى دخلت اسماؤهم في الكتب، وقد دون "ابن النديم" اسماء جماعة منهم في باب دعاه: "اسماء فصحاء العرب المشهورين الذين سمع منهم العلماء، وشيء من اخبارهم وانسابهم". وقد ذكر إن من بين هؤلاء من كان معلما، يعلم الصبيان بالاجرة، ويؤخذ منه العلم، وكان شاعرا، مثل "ابو البيداء" الرباحي، وهو اعرابي نزل البصرة، وعلم بها، و"ابو مالك عمرو بن كركرة"، وكان يعلم في البادية ويروق في الحضر مولى بني سعد، رواية أبي البيداء، وكان عالما باللغة، وله رأي طريف: "يزعم إن الاغنياء عند الله اكرم من الفقراء"، و "ابو عرار"، وهو اعرابي من "بني عجل"، قريب من "أبي مالك" في غزارة علم اللغة، وكان شاعرا، وكان ممن يتصل به "جناد" و "اسحاق بن الجصاص. ولبعضهم مؤلفات، ذكر اسمائها "ابن النديم". وقد أقام معظمهم بين الحضر، في المدن المشهورة التي كانت تبحث عن امثال هؤلاء، مثل البصرة والكوفة، ثم بغداد، وكان اكثرهم ينظم الشعر، ومنهم من كان كاتبا قارئا، طابت له الاقامة بين الحضر، ووجد له الرزق بينهم، ففضل الراحة وطلب المال على الاقامة في ارض الشح والفقر.

بعض رواة الشعر

هناك رجال غلبت عليهم رواية الشعر، فاشتهروا بها، مثل حماد الراوية وخلف الاحمر. غير إن هناك رجالا، اشتغلوا بالعربية والنحو، لا يقل جهدهم في جمع الشعر الجاهلي عن جهد رواة الشعر ومنهم من جمعه لتفسير كلام الله ومنهم من حفظه للاستشهاد به في ضبط اللغة وقواعد النحو، حتى اننا لنجد في كتب اللغة والمعاجم وشواهد النحو، ابيت شعر وقطع لشعراء جاهليين فات خبرها عن رواة الشعر، ولهذا فنحن لا نستطيع فصل عمل هؤلاء عن عمل رواة الشعر، وعدم الاشارة اليهم في اثناء حديثنا عن العلماء الذين كان لهم فضل جمع الشعر الجاهلي.

ومن اعرف رواة الشعر الجاهلي، عامر بن شراحيل الشعبي، المولود سنة " 9" للهجرة والمتوفى سنة "104" أو "105" للهجرة، و "ابو عمرو بن العلاء" المتوفى ما بين السنة "151" والسنة "159" للهجرة وحماد الراوية، والمفضل الضبي، وخلف الاحمر، وابو عمرو الشيباني، المتوفى سنة "205" أو "206"، أو "213" للهجرة، وابو عبيدة، محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة "146" لهجرة، وابنه "هشام بن محمد بن السائب" الكلبي، وابن الاعرابي، وابن السكيت، المتوفى سنة "144" أو "246" للهجرة، والطوسي، المتوفى في حوالي السنة "250" للهجرة، أو "285"، أو "286" للهجرة، والسكري، المتوفى سنة "270" أو "275" للهجرة والمبرد، المتوفى سنة "282"، أو "285"، أو "286" للهجرة، وغيرهم من تجد اسمائهم في "الفهرست" لابن النديم وفي الموارد الاخرى. ويعد "ابو عمرو ابن العلاء بن عمار بن العريان" من "خزاعي بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم" المتوفى سنة "145ه"   

. من اعلم زمانه في الشعر واللغة، وقد ذكر إن اسمه "زبان بن العلاء بن عمار" المازني. وكان عالما بكلام العرب ولغاتها وغريبها، وكان مشهورا في علم القراءة والحديث واللغة والعربية. وقد أخذ الشعر من اعراب ادركوا الجاهلية، واثنى عليه "الجاحظ"، واطرى على علمه، فقال: "كان اعلم الناس بامور العرب، مع صحة سماع وصدق لسان. حدثني الاصمعي، قال: جلست إلى أبي عمرو عشر حجج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي. قال: وقال مرة: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت أن آمر فتياننا بروايته. يعني شعر جرير والفرزدق وأشباههما. وحدثني ابو عبيدة قال: كان ابو عمرو اعلم الناس بالغريب والعربية، وبالقرآن والشعر، وبايام العرب وايام الناس"، "وكانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء، قد ملأت بيتا له إلى قريب من السقف، ثم انه تقرأ فاحرقها كلها، فلما رجع بعد إلى عمله الاول لم يكن عنده الا ما حفظه بقلبه. وكانت عامة اخباره عب الاعراب قد ادركوا الجاهلية".

وقد فسر بعض المستشرقين احراق "ابو عبيدة بن العلاء" لكتبه، على انه كان تحت تأثير أزمة دينية تدل "على إن اوساط التدين في العراق لا تنظر بعين الارتياح إلى التنقيب عن بقايا الوثنية". واشار بعض منهم إلى إن الحرق تناول ما جمعه من الشعر الجاهلي، وانه كان في ازمة زهدية لينصرف إلى دراسة القرآن. وهو تفسير غريب، واستنتجوه من لفظة "تقرأ"، أي "تنسك" على ما يظهر، وليس لهذه اللفظة صلة بالوثنية وبالشعر الجاهلي، ولو كان الشعر الجاهلي ممقوتا، وجمعه وحفظه مذمومبن، لما حفظه الصحابة وترنموا واستشهدوا به، ثم إن غيره من الزهاد مثل "ابو الاسود" الدؤلي، كان يحفظ هذا الشعر ويستشهد به، وقد رأينا إن الرسول، كان يسمعه ويستشهد به، ثم إن خبر إحراق الكتب، لا يشير لا تصريحا ولا تلميحا إلى علاقته بالشعر، ولعله خبر موضوع، وضعه "ابو عبيدة"، لغرض ما، كأنه كان يريد من وضعه المبالغة في عمله وفي زهده، أو إن حريقا غير متعمد اصاب بعض كتبه، فضخمه ووسعه، وجعله احراقا متعمدا، اذ لا يعقل إن يقوم هو باحراق كتبه كلها، ثم إن قوله: "وكانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء، وقد ملأت له بيتل إلى قريب من السقف، ثم انه تقرأ فأحرقها كلها "لا يخلو من مبالغة، فليس من السهل على رجل كتابة هذا القدر من الكتب بالنسبة لذلك الوقت، حيث كان الورق غاليا، بحيث تملأ بيتا إلى قريب من السقف، ثم قيامه باحراقها كلها بمثل هذه البساطة والسذاجة، فهي في نظري قصة مصطنعة، لا حقيقة فيها. ومما يؤيد سذاجة هذه القصة، هو إن صاحبها عاد فقال انه رجع بعد إلى عمله الاول، فلم يكن امامه عنده الا ما حفظه بقلبه، مما يثبت انه اراد من وضعها المبالغة في عمله، بزعمه انه كان قد حفظ ما شاء الله من العلم، ومنه الشعر الجاهلي الذي كان يمجده، ويرى انه وحده هو الشعر، ولهذا لم يستشهد أو يحتج ببيت اسلامي، مهما بلغ الشعر الجاهلي الاصيل، مهما بلغ من الاتقان.

وقد زعم انه قال: "ما زدت من شعر العرب الا بيتا واحدا، يعني ما يروى للاعشى من قوله: وانكرتني وما كان الذي نكـرت  من الحوادث الا الشيب والصلعا 

ولا ندري بالطبع إذا كان هذا الكلام منسوب إلى "أبي عمرو" هو من كلامه حقا، أو كان من الكلام المصنوع المنحول عليه. واذا كان صحيحا، فان فيه تلميحا إلى إن هناك من قد اتهمه بالوضع، جريا على العادة التي كانت اذ ذاك من اتهام العلماء بعضهم بعضا بالوضع، فروي هذا الخبر في تبرير ذمته من الوضع، وانه لم يضع في حياته الا البيت المذكور.

و "عوانة بن الحكم بن عياض" الكلبي، ويكنى "ابا الحكم"، ومن هذا الرعيل الذي كان له الفضل في جمع الشعر. كان من علماء الكوفة، راوية للاخبار عالما بالشعر والنسب، وكان فصيحا ضريرا. وله كتب. منها كتاب التأريخ وكتاب سيرة معاوية وبني أمية، وقد ذكر بعضهم انه "لمنجاب بن حارث"، غير إن " ابن النديم"، نص على انه لعوانة، وليس لمنجاب. وذكر " ابن النديم "انه قرأ بخط" أبي عبد الله بن مقلة" "قال ابو العباس ثعلب: جمع ديوان العرب واشعارها واخبارها وانسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ورد الديوان إلى حماد وجناد". مما يدل على إن "الوليد" كان قد استعار منهما ديوانا كان عندهما من اشعار العرب. ولعل كل واحد منهما كان قد جمع ديوانا خاصا به، فاستعان "الوليد" بهما في اخراج ديوان واحد يضم ما جاء في الدواويين من شعر. وكانت وفاة "عوانة" سنة "147 ه".

و "المفضل بن محمد بن يعلى الضبي" الكوفي، المتوفى سنة "164 ه"، "168 ه"، "170 ه"، هو من اصحاب العلم بالشعر، وكان قد انضم إلى جماعة "ابراهيم بن عبد الله بن الحسن" العلوي، فظفر به المنصور، وعفا عنه، وألزمه ابنه "المهدي" وجعله مؤدبا له. وللمهدي عمل الاشعار المختارة المسماة "المفضليات"، وهي مائة وعشرين قصيدة، وقد تزيد وتنقص وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية عنه. والصحيحة التي رواها عنه ابن الاعرابي. قال: واول النسخة لتأبط شرا: يا عبد مالك من شـوق وابـراق  زمر طيف على الاهوال طراق 

وذكر "ابن النديم" إن له من الكتب: "كتاب الاختيارات. وقد ذكرناه. كتاب الامثال. كتاب العروض. كتاب معاني الشعر. كتاب الالفاظ". وكتاب الاختيارات، هو "المفضليات"، ويظهر أنه عرف ب"المفضليات" نسبة إلى الجامع، فطغت هذه التسمية على الاسم الاصل.

وكان المفضل عالماً بالشعر، وكان أوثق من روى الشعر من الكوفيين. ولم يكن أعلمهم باللغة والنحو، أنما كان يختص بالشعر. وقد روى عنه "أبو زيد" شعراً كثيراً.

وليست هذه القصائد التي يضمها كتاب المفضليات كلها من جمع المفضل وترتيبه على ما جاء في بعض الموارد، وليس في هذه القصائد المطبوعة في المفضليات إلا سبعون قصيدة هي من اختيار المفضل. أما بقيتها فهي زيادات وإضافات وضعت على تلك القصائد. وليس للمفضل منها على ما جاء في مورد آخر إلا ثمانون قصيدة هي التي أخرجها للمهدي. وأما ما تبقى منها، فهي من اختيارات الأصمعي، وهي أربعون قصيدة من مجموع عشرين ومئة. فيكون ثلثاها على وفق هذه الرواية من اختيار المفضل. واما الثلث الباقي، فمن اختيار الاصمعي ولم يذكروا شيئا عن القصائد الثماني الباقية، وقد نص "ذيل الاماني" على انها مائة وعشرون.

ويدل هذا الاختلاف عل إن رواة المفضليات لم يعتمدوا في رواياتهم للكتاب على النسخة الام، وهي النسخة التي اختارها المفضل للمهدي. و إلا لما حدث اختلاف بين الروايات في ترتيب القصائد وفي عددها، أو إن الفضل نفسه لم يدون اختياراته تلك في كتاب، وانما اختار ما اختاره دون تدوين، فكان يمليه على المهدي مجلسا مجلسا، حتى اكمل تلك الاختيارات، وانه القى اختياراته ههذهعلى من كان يحضر مجلسه طلبا للشعر في مجالس ايضا، فمن هنا وقع هذا الاختلاف. وقد كان يكتفي بالقاء المختار على طلابه دون شرح. اما الشرح المطبوع، فليس من شرح الضبي وتفسيره، وانما هو من عمل رواة آخرين ورد ذكرهم في مقدمة الكتاب، وليس للمفضل فيه الا الاختيارات.

والشرح المطبوع هو من صنع أبي محمد القاسم بن محمد بن بشار الأنباري وجمعه، وقد أخذه من رواد متعددة اشار اليها في الكتاب. وقد رواه عنه ابنه ابو بكر أحمد بن محمد الجراح الخزاز. وفي جملة من اعتمد عليه ابو محمد صاحب هذا الشرح من شيوخه، عامر بن عمران ابو عكرمة الضبي، وقد أملى عليه القصائد المختارة المنسوبة إلى المفضل "إملاء ً، مجلسا مجلسا، من اولها إلى اخرها وذكر انه اخذها من المفضل الضبي". كما كان في جملتهم ابو عمرو بندار الكرخي، وابو بكر العبدي، وابو عبد الله محمد بن رستم، والطوسي، وابو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح. من هؤلاء ومن أمثالهم جمع الانباري هذا الشرح، وفيهم من هو من الكوفة وفيهم من هو منههل البصرة وهم من اتباع الاصمعي، ولهذا نجد رواياته تتداخل فيه من ابيات شعر أو قصائد لم يخترها المفضل، ومن شرح أو تفسير لكلم غريب.

فالمفضليات وإن نسبت إلى المفضل، غير انها في الواقع من جمع الانباري المذكور، وقد جمعها من افواه جملة رجال، كل واحد منهم له عمل ويد. وفق الانباري بين تلك القصائد والاشعار وبين هذه الروايات والمعارف الواردة عن الشعر، واخرج منها هذا الكتاب الثمين الكبير.

وللمفضل أقوال حفظت في كتب اخرى غير هذه الكتاب، فنجد ابا زيد محمد بن لبي الخطاب القريشي صاحب كتاب جمهرة اشعار العرب يذكره في مواضع من كتابه، ويذكر نتفا من روايات مستندة اليه، كما نجد الاصبهاني يوردله الأخبار في الشعر في مواضيع عديدة من كتابه الاغاني، ونجد غيرها من رجال الادب يشيرون اليه. وفي الموارد التي أشاروا اليها ما يدل على علم واسع له في الشعر وعلى ادراك في النقد.

واذا كان ما ذكره "ابن النديم" عن المفضليات من قوله: "هي مائة ومنهم من صيرها مائة وعشرين".

واما "جناد" "ابو محمد ين واصل" الكوفي مولى بني أسد فقد كان على احد وصف "ابن النديم": "اعلم الناس باشعار العرب وايامها"، غير انه "لم يكن له علم بالنحو"، و "كان يلحن كثيرا". وهو يعد من الكوفيين، وقد ذكروا انه كثير الحفظ في قياس حماد الراوية، واهل الكوفة كانوا يلجأون اليه حين يشكون في شعر وحين يعزب عنهم اسم شاعر فيجدونه حافظا وبما ارادوه عارفا. غير انهم مجمعون على انه كان لحنا، "كثير اللحن جدا، فوق لحن حماد". وقد ذكروا أمثلة على لحنه، وعلى عدم وقوفه على العروض، فكان يخطىء فيه ويخلط في الاشعار. وممن كان ينتقض علمه ويرى قلة بضاعته في العربية وفي الشعر أيضا، "يونس بن حبيب" "183 ه"، وهو كما رأينا من المتحاملين ايضا على "حماد" ومن المتعصبين للبصرة على الكوفة. ولهذا يكون لتحامله على "جاند" اثر من التعصب للبصريين.

وقد اخذ "الثوري" على اهل الكوفة رواياتهم عن "حماد"، و "جناد" واتكالهم عليهما، وهما رجلان "كانا يرويان ولا يدريان، وكثرت رواياتهما، وقل عملهما"، ومن ثم فسدت رواياتهم عن الرجلين. غير إن علينا إن نكون حذرين في تقبل هذه المؤاخذة على الكوفيين في رواية الشعر، فقد كان" الثوري" من جماعة "الاصمعي" جتى كان ينسب اليه. وكان الاصمعي يحمل هلى حماد، وعلى اهل الكوفة، لانه كان بصيرا، فلا يستبعد تحمل التلميذ لاستاذه وتأثره به، فقال ما قال جناد وحماد بداعي العاطفة والتعصب للبصريين على الكوفيين. وقد اشارت إلى ورود رواية تنسب إلى "ثعلب" ذكرت إن "الوليد بن يزيد ابن عبد الملك" "جمع ديوان العرب واشعارها واخبارها ولغاتها ...ورد الديوان إلى حماد وجناد"، مما يدل وجود ديوان للشعر عند "جناد" لعله كان من جمعه.

و"يونس بن حبيب"، ويكنى "أبا عبد الرحمن"، المتوفي "سنة182ه" "183ه" من رواة الشعر كذلك، وان غلب النحو عليه. ذكر أنه من موالي ضبة. وقيل عنه: " كان اعلم الناس بتصاريف النحو". وهو من اصحاب " أبي عمرو ابن العلاء"، وكانت حلقته بالبصرة، ينتابها طلاب العلم وأهل الأدب وفصحاء الأعراب ووفود البادية. وكان له مذاهب واقيسة تفرد بها.

وذكر إن"أبا عمرو"، وهو "اسحاق بن مراد"، المعروف ب"الشيباني" مولى "بني شيبان"، كان عالماً بشعر القبائل. "أخذ عنه دواويين أشعار القبائل كلها". ولما جمع اشعار العرب كانت نيفاً وثمانين قبيلة. وقو توفي سنة "206ه"، وقيل سنة "213ه". وكان قد خرج إلى البادية ليأخذ عن الاعراب، فكان يدون ما يأخذ منهم.

و"ابو عبيدة: معمر بن المثنى" التيمي، وهو من رواة الشعر وعلمائه، كما كان من علماء اللغة وأخبار العرب وأنسابها، وقد عرف بالطعن في أنساب الناس وبالبحث عن المثالب، لذلك كرهه الناس، فلما مات لم يحضر جنازته أحد، لأنه لم يكن يسلم منه شريف ولا غيره. وقد توفي سنة ثملن وقيل تسع، وقيل عشر وقيل إحدى عشرة ومائتين وقيل ثلاث عشرة ومائتين "وكان ديون العرب في بيته". وله كتب في الأخبار والحوادث والبيوت والنسب والشعر. وفي جملة مؤلفاته شرح ديوان المتلمس. ونجد له أخبارا عن ايام العرب، ومشتتة في بعض كتب الادب، وآراء في الشعر مدونة في تلك الكتب ايضا.

و "الاصمعي" "عبد الملك بن قريب بن عبد الملك"، المتوفى سنة "213 ه" "216ه"، "217ه"، من العلماء الحفاظ للشعر، وقد بالغ مترجموه في الثناء عليه، فزعموا انه كان يروي على روي كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة، وذكر "ابن النديم" انه عمل "قطعة كبيرة من اشعار العرب، ليست بالمرضية عند العرب لقلة غربتها واختصار روايتها". ولا تشمل "الاصمعيات" الا على "72" قصيدة وقطعة، ومجموع ابياتها "1163" بيتا ً، لكثرة ما فيها من المقطوعات. وعدد شعرائها واحد وستون شاعرا، لم يسم ثلاثة منهم. وبقي خمسة مجهولين لا يعرف اسماؤهم في الموارد الاخرى. وأكثر الباقين من الجاهليين، وليس فيها الا اربعة عشر شاعرا من المخضرمين والاسلاميين. وفيها قصيدة لكل من امرىء القيس وطرفة. وقدنسب "ابن النديم" له كتابا دعاه: "مصادر كتلب القصائد الست". وربما كان هو الكاتب الذي نشره "آلورد" برواية الاعلم الشمنتري بعنوان: دواويين الشعراء الستة.

وذكر إن "الاصمعي" جمع اشعار "بني جعدة"، واشعار الانصار و انه جمع "ديوان المتلمس"، وديوان امرىء القيس، وانه روى شرح هذا الديوان لابي عمرو الشيباني. وجمع ديوان الفرزدق وجرير.

وروي إن الاصمعي كان " اتقن القوم باللغة، وأعلمهم بالعشر، وأحضرهم حفظاً، وكان قد تعلم نقد الشعر من خلف الاحمر". وروي انه كان يقول أحفظ عشرة آلاف أرجوزة.

و"ابن الأعرابي"، "ابو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي"، ممن سمع من "المفضل" الضبي، وكان يذكر انه ربيب المفضل. كانت أمه تحته. ومات سنة "231ه". فروايته للاختيارات، يجب أن تعد من أصدق الروايات، لاتصاله بالمفضل، ولصلته به. وكان له مجلس، يحضره طلاب العلم، ويسالونه فيه ويقرأ عليه، فيجيب من غير كتاب. وكان ممن لازمه بضع عشرة سنة "ابو العباس" ثعلب. ويذكر "ثعلب إن شيخه هذا "وقد املى على الناس ما يحمل على الجمال. للم ير احد في الشعر اغزر منه". وقد اورد "ابن النديم" له جملة كتب، روى بعضها عنه جماعة من مشاهير العلماء، مثل "الطوسي" و"ثعلب". وذكر إن روايته للمفضليات تعد من اصح الروايات. وقد سمع من المفضل الدواوين وصححها، واعتبر راسا في كلام العرب، وكان من اكابر علماء اللغة المشار اليهم في معرفتها.

وقد رمي بعض من جمع الشعر بالوضع وبانتحال الشعر وادخاله في شعر القدماء واتهموا بدس القصائد عليهم، أو بزيادتها أو بتنقيص ابيات منها، أو باجراء تغيير عليها. وقد تمكن بعض علماء الشعر من الاشارة إلى بعض الشعر المصنوع، أو المدخول، ولم يتمكنوا من الاشارة إلى البعض الاخر منه. ومن هؤلاء الذين عرفوا واشتهروا برواية الشعر وبعلمهم به، وبصنعهم له، ودسه بين الناس على انه شعر قديم: حماد الراوية وخلف الاحمر.

فاما "حماد" الراوية فعلى راس مشاهير رواة الشعر الجاهلي وحفاظه. وقد كان هو نفسه شاعرا مجيدا يضع الشعر على السنة المتقدمين، ولكنه اشتهر بالرواية اكثر من اشتهاره بكونه شاعرا. ولد سنة "57" للهجرة "694 م" بالكوفة، وهو من "الديلم" في الاصل، وعرف والده ب "سابور ابن المبارك بن عبيد". سباه "ابن عروة بن زيد الخليل"، ووهبه لابنته "ليلى" فخدمها خمسين سنة، ثم ماتت فبيع بمائتي درهم، فاشتراه "عامر بن مطر الشيباني" واعتقه. وقيل إن اسم أبي "ليلى" "ميسرة". وكان حماد ربما لحن في الشيء. وقيل انه كان لصا في شبابه، يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص، فوجد في بعض سرقاته جزءا من شعر الانصار، فقرأه واستعذبه وحفظه، ثم اندفع في طلب الشعر وايام الناس ولغات العرب. واخذ ينظم الشعر يشبه به مذهب شعر من الشعراء ويدخله في شعره، وكان هو بالشعر القديم بصيرا، ويحمل ذلك عنه في الافاق، فاختلط شعره بشعر الشعراء الجاهليين، وذاع بين الناس على انه لهم، حتى صار م الصعب حتى على نقاد ذلك العر والعاملين به، تمييز الفاسد منه من الصحيح.

وذكر إن "حمادا"، وهو "حماد بن هرمز"، وكان "هرمز" من سبي "مكنف بن زيد الخليل" وكان دبلميا، يكنى "أبا ليلى". واذا اخذنا ببرواية "ابن النديم" من إن مولد "حماد" كان سنة "خمس وسبعون"، ومن إن وفاته كانت سنة ست وخمسين ومائة، فيكون حينئذ قد عمر "81" سنة.

ويذكر "ابن الندي" إن "حمادا" كان في ايام "الوليد بن عب الملك"، وعاش إلى سنة "156 ه"، وانه كان يقول: "كنت انشد الوليد الشعر الجيد، فيطلب مني السفساف فأنشده فيطرب، فأعلم إن امرهم مقبل".

وذكر عنه اه كان يجالس "المهدي". ويذكر إن "الوليد بن يزيد بن عبد الملك جمع ديوان العرب واشعارها واخبارها وانسابها ورد الديوان إلى حماد وجناد". ولم يشر "ابن النديم" الذي روى هذا الخبر نقلا هن رواية تنسب إلى "ثعلب" إلى ديوان حماد المذكور في اثناء تحدثه عنه. فلعله قصد الاختيارات"، أي القصائد السبع، وقد يكون قصد ديوانا آخر. ولم نسمع أي خبر عن مصير الديوان الذي جمعه الوليد بن زيد.

ويذكر "ابن النديم" انه "لم ير لحماد كتاب، وانما روى عنه الناس وصنفت الكتب بعده". وهو خبر يظهر إن حمادا لم يؤلف كتبا، وانما كان يروي الشعر رواية، ويمليه املاء على طلاب الشعر فيدونونه. اما إن تصنيف الكتب لم يكن معروفا آنذاك، وانما الناس صنفت الكتب بعده، فيناقضه ما قاله "ابن النديم" نفسه، ومن إن "زياد بن ابيه"، الف كتابا في المثالب، ودفعه إلى ولده، وقال، استظهروا به على العرب فانهم يكفون عنكم، ومن إن "عبيد ابن شرية" الجرهمي، الف كتاب الامثال، وكتاب الملوك واخبار الماضين، وقد طبع له كتابا في "حيدر اباد" بالهند، بعوان: أخبار عبيد بن شرية الجرهمي في أخبار اليمن واشعارها وانسابها، وهو يشمل على اسئلة لمعاوية وأجوبة عبيد عليها، وما قاله من إن "صحارا" العبيدي له كتاب اسمه كتاب الامثال، وما قاله من إن لعوانة بت الحكم بن عياض الكلبي، المتوفى سنة "147 ه"، أي قبل "حماد" من الكتب: كتاب التاريخ، كتاب سيرة معوية وبني امية، و "ابن شهاب" الزهري، و "ابن سيرين" وغيرهم.

وقد روى اهل الأخبار قصصا عن مدى علم "حماد" بالشعر الجاهلي، وزعموا إن خلفاء بني أمية كانوا إذا أشكل عليهم مشكل في الشعر سألوه، وانهم كانوا يكتبون إلى عمالهم بإرساله اليهم لاستفتائه في أمر شعر جاهلي أشكل خبره عليهم وعلى من عندهم من أهل العلم بالشعر. من ذلك ما رووه عن "حماد" قوله: "كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك بن مروان في خلافته. وكان أخوه هشام يجفوني لذلك، فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إلى هشام خفته ومكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن اثق به من اخواني سراً، فلما أسمع أحداً ذكرني في السنة أمنت وخرجت وصليت الجمعة في الرصافة، فإذا شرطيان قد وقفا علي وقالا: يا حماد أجب الامير يوسف بن عمر الثقفي، وكان والياً على العراق. فقلت في نفسي من هذا كنت اخاف. ثم قلت لهما تدعاني حتى آتي اهلي وأودعهم ثم اسير معكما!فقالا: ما إلى ذلك من سبيل. فأستسلمت في أيديهما، ثم صرت إلى يوسف بن عمر، وهو في الإيواء الأحمر، فسلمت عليه، فرد علي السلام ورمى إلي بكتاب فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر. أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فأبعث إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير ترويع وادفع له خمسمائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه ثنتي عشرة ليلة إلى دمشق. فأخذت الدنانير ونظرت، فإذا جمل مرحول فركبت وسرت حتى وافيت دمشق في ثنتي عشرة ليلة، فنزلت على باب هشام، واستأذنت فأذن لي فدخلت عليه وهو جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب من حرير احمر وقد ضمخ بالمسك، فسلمت عليه، فرد علي السلام، واستدناني فدنوت منه حتى قبلت رجله، فإذا جاريتان لم أر احسن منهما قط. فقال كيف انت وكيف حالك?فقلت بخير يا أمير المؤمنين. فقال: اتدري فيما بعثت اليك? فقلت: لا. قال: بعثت اليك بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين. قال: ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت  قينة في يمينـهـا ابـريق

فقلت يقوله عدي بن يزيد"?"العبادي في قصيدة. قال أنشدنيها: فأنشدته: بكر العاذلون في وضح الصب  حيقولون لي أما تسـتـفـيق

ويلومون فيك يا ابنة عبد اللـه  والقلب عنـكـم مـوثـوق

لست ادري إذا كثر العذل فيها  اعذول يلومنـي أم صـديق

قال حماد: فأنتهيت فيها إلى قوله: ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت  قينة في يمينـهـا ابـريق

قدمته على عقار كعـين ال  ديك صفى سلافها الرووق

مرة قبل مزجها، فـأذا مـا  مزجت لذ طعمها من يذوق

قال فطرب هشام، ثم قال: أحسنت يا حماد، سك حاجتك?قلت احدى الجاريتين. قال: هما جميعاً لك بما عليهما وما لهما، فأقام عنده مدة، ثم وصله بمائة الف درهم".

وكل من تحدث عن حماد من مبغض ومحب، مجمع على سعة حفظه للشعر وإحاطته به. وحفظه للشعر هو الذي وسمه بسمة عرف بها طول حياته وبعد وفاته، حتى صار لا يعرف الا بها، هي "الراوية" فقيل له حماد الراوية. ولو جرد حماد من هذا النعت، لما صار في الإمكان التعرف عليه. قيل إن الخليفة "الوليد بن يزيد" قال لحماد الراوية: بم استحققت هذا اللقب، فقيل لك الراوية? فقال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لاكثر منهم ممن تعرف انك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أنشد شعراً قديماً ولا محدثاً إلا ميزت القديم منه من المحدث. فقال، إن هذا العلم وأبيك كثير!فكم مقدار ما تحفظ من الشعر? قال: كثيراً، ولكني انشدك كل حرف من حروف المعجم مئة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام. قال: سأمتحنك في هذا، وأمره بالانشاد. فأنشد الوليد حتى ضجر، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده الفين وتسع مئة قصيدة للجاهليين، وأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمئة الف درهم.

وفي الاغاني خبر آخر من هذا النوع يطري علم حماد ويثني عليه، روي. عن الشعر "مروان بن أبي حفصة". زعم انه رآه عند "الوليد بن يزيد" وكان قد دخل عليه في جماعة من الشعراء، "وهو في فرش قد غاب فيها، وإذا رجل عنده، كلما أنشد شاعرا شعراً، وقف الوليد بن يزيد على بيت من شعره، وقال: هذا اخذه من موضع كذا وكذا، وهذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان، حتى اتى على اكثر الشعر، فقلت: من هذا? فقالوا: حماد الراوية. فلما وقفت بين يدي الوليد أنشده، قلت: ما كلام هذا في مجلس امير المؤمنين، وهو لحنة لحانة? فأقبل الشيخ علي وقال: يا ابن أخي، إني رجل أكلم العامة فأتكلم بكلامها، فهل تروي من اشعار العرب شيئاً? فذهب عني الشعر كله إلا شعر ابن مقبل، فقلت له: نعم، شعر ابن مقبل، قال انشد، فأنشدته قوله: سل الدار من جنبي حبر فواهـب  إذا ما رأى هضب القليب المفجع 

ثم جزت، فقال لي: قف، فوقفت، فقال لي: ماذا يقول?فلم ادر ما يقول!فقال لي حماد: يا ابن اخي، أنا اعلم الناس بكلام العرب. يقال تراءى الموضعان إذا تقابلا".

وقد كان الخليفة "الوليد بن يزيد" يعطف على حماد كثيراً، ويشمله برعايته، ويجالسه، ويتباحث معه في الشعر. وقد كانت إحاطة حماد بالشعر هي السبب في تقديمه إلى الخليفة، إذ كان الوليد من العاشقين للشعر ومن الواقفين عليه المعروفين بسعة العلم به، وكان هو نفسه شاعراً مجيداً. وقد ذكر عنه انه كان يمتلك ديواناً فيه أشعار الفحول، أو جملة دواوين جمعت أشعار العرب، كما سبق أن أشرت إلى ذلك.

ويروى عن حماد انه كان ذا ذاكرة عجيبة، وحافظة قوية غريبة في سرعة الحفظ، روي إن "الطرماح بن حكيم" قص على ابنه هذه القصة، قال: أنشدت حماداً الراوية في مسجد الكوفة-وكان اذكى الناس واحفظهم-قولي: بأن الخليط بسحرة فتبددوا 

وهي ستون بيتاً: ففسكت ساعة ولا أدري ما يريد، ثم اقبل علي فقال: أهذه لك?قلت: نعم، قال: ليس الامر كما تقول، ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتاً زادها فيها في وقته، فقلت له: ويحك!إن هذا الشعر قلته منذ ايام، ما اطلع عليه احد، قال: قد والله قلت انا هذا الشعر منذ عشرين سنة، وإلا فعلي وعلي، فقلت: لله علي حجة حافياً راجلاً إن جالستك بعد هذا ابداً. فأخذ قبضة من حصى المسجد وقال: لله علي بكل حصاة من هذا الحصى مئة حجة إن كنت أبالي، فقلت، انت رجل ماجن، والكلام معك ضائع. ثم انصرف".

وقد اخذ عن "حماد" أهل المصرين: الكوفين والبصرة، ومنهم: خلف الأحمر، وروي عنه الاصمعي شيئاً من شعره. ونسب إلى "الاصمعي" قوله: "كل شئ في ايدينا من شعر امرئ القيس، فهو عن حماد الراوية إلا شيئاً سمعناه من أبي عمرو بن العلاء".

وللهيثم بن عدي خبر يشيد فيه بعلم حماد وبسعة حفظه له. وهناك أخبار اخرى في سعة حفظ حماد للشعر، مدونة في كتب الادب، قد يخرجنا سردها من صلب هذا الموضوع.

وقد عرف حماد كذلك بسعة علمه بالعربية، فقالوا انه " كان من اعلم الناس بايام العرب واخبارها واشعارها وانسابها ولغتها". وورد هن الهيثم بن عدي قوله فيه: " ما رأيت رجلا اعلم بكلام العرب من حماد"، والهيثم راويته وصاحبه. وروي إن عمرو بن العلاء كان يقدم حمادا على نفسه، وكان حماد يقدم عمرا على نفسه، وعمرو بن العلاء نفسه من شيوخ علماء العربية في ذلك العهد.

غير إن هناك اخبارا تزعم انه كان "قليل البضاعة من العربية"، وانه كان لحانا، وانه "حفظ القران الكريم من المصحف، فصحف في نيف وثلاثين حرفا"، وانه "الغاديات ضبحا" "يالغين المعجمة"، فسعى به إلى "عقبة بن مسلم بن قتيبة" الباهلي، فامتحنه بالقراءة في المصحف، فصحف في عدة ايات. ولا استبعد وقوع اللحن منه، اذ كان من الموالي، بعد إن وقع اللحن من عرب خلص ومن انبل الاسر العربية ومن بعض كبار رجال الدولة في ذلك العهد. غير إن في هذا الوارد عن قلة بضاعته فب العربية وفي كثرة لحنه وتصحبفه في القرآن الكريم، مبالغات وزيادات، وضعها عليه حساده ومنافسوه ولا شك، اذ لا يعقل وقوع مثل هذه الاغلاط الشنيعة من رجل وصل إلى الخلفاء برواية الشعر وتفسيره وتفسير غريبه، وعرف بين العلماء بسعة علمه بلغات العرب، حتى كانوا يلجأون اليه في حل مشكلها و غريبها. ولو على مثل ما ذكر من اللحن في الكلام والتصحيف فيه ومن قلة بضاعته في العربية، لما وصل إلى الوليد بن يزيد ةالى هشام والى خلفاء آخرين، وقد كانوا لا يختارون في الشعر واللغة الا الفطاحل القديرين. قال المدائني: "وكانت ملوك بني امية تقدمه وتؤثره، وتسنده، فيفد عليهم، ويسأله عن ايام العرب وعلومها، ويجزلون صلته".

ولم يكن "حماد" عند اهل البصرة ثقة ولا مامونا، وكانوا يضعفونه. ذكروا انه كان يصنع الشعر ويقتني المصنوع منه وينسبه إلى غير اهله. ورووا إن اعرابيا جاء مجلس "حماد" فانشده قصيدة لم تعرف، ولم يدر لمن هي، فقال حماد: اكتبوها، فلما كتبوها، قام الاعرابي، قال: لمن ترون إن نجعلها ? فقلوا اقوالا، فقال حماد: اجعلوها لطرفة. وروي انه قدم البصرة على " بلال بن أبي بردة"، فقال ما اطرفتني شيئا، فعاد اليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة مديح أبي موسى. فقال: ويحك يمدح الحطيئة ابا موسى ولا اعلم به وانا اروي للحطيئة ولكن دعها تذهب في الناس.

وقد اهتم "حماد" بالوضع، قال "محمد بن سلام الجمحي": "وكان اول من جمع اشعار العرب وساق أحاديثها، حماد الراوية، وكان غير موثوق به. وكان ينحل الشعر غيره، ويزيد في الاشعار"، وقال: "يونس بن حبيب": "اني لاعجب كيف اخذ الناس عن حماد، وكان يكذب ويلحن ويكسر الشعر، ويصحف ويكذب". وروي عن الاصمعي قوله: "جالست حمادا الراوية، فلم آخذ عنه ثلاثمائة حرف، ولم ارض روايته وكان قارئا". وروي عنه ايضا قوله: " كان حماد اعلم الناس إذا نصح"، ويعني إذا لم يزد وينقص في الاشعار والاخبار، فانه كان متهما بأنه يقول الشعر وينحله شعراء العرب. وهؤلاء كلهم من رؤساء البصرة في العلم، وقد كان علماء هذه المدينة، يطعنون كما سبق إن قلت في عمله مفي امانته، ولكنهم يعترفون مع ذلك بقابليته وبمواهبه في الشعر، استخراجه من الصحيح.

وقد ادخله الشريف "المرتضى" في عداد الزنادقة الملحدين المتهمين في دينهم، ومنهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، حماد الراوية، حماد بن الزبرقان، حماد عجرد، وعبد الله بن المقفع، معبد لكريم بن أبي العوجاء، وبشار بن برد، ومطيع بن اياس، ويحيى بن زياد الحارثي، وصالح بن عبد القدوس الازدي، وعلي بن خليل الشيباني، وقال عن "حماد": "وامل حماد الراوية فكان منسلخا من الدين، زانيا على اهله، مدمنا لشرب الخمور وارتكاب الفجور". ونقل عن "الجاحظ" انه كان يجمع مع امثاله "على الشرب وقول الشعر، ويهجو بعضهم بعضا، وكل منهم متهم في دينه". وقال عنه "وكان حماد مشهورا بالكذب في الرواية وعمل الشعر، واضافته إلى الشعراء المتقدمين ودسه في اشعارهم، حتى إن كثرا من الرواة قالوا: قد افسد حماد الشعر، لانه كان رجلا يقدر على صنعته فيدس في شعر كل رجل منهم ما يشاكل طريقته، فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم".

و "روي إن هارون الرشيد قال للمفضل بن محمد: كيف بدأ زهير بقوله: دع إذا وعد القول في هرم 

ولم يتقد قبل ذلك شيء ينصرف عنه. فقال المفضل: قد جرت عادة الشعراء بان يقدموا قبل المديح نسيبا، ووصف ابل وركوب فلوات، ونحو ذلك. فكأن زهيرا هم بذلك، ثم قال لنفسه: دع هذا الذي هممت به مما جرت به العادة، واصرف قولك إلى مدح هرم. فهو اولى من صرف اليه القول ونظم، واحق من بدىء بذكره الكلام والختم. فاستحسن الرشيد قوله. وكان حماد الراوية حاضرا، فقال: يا امير المؤمنين، ليس هذا اول الشعر، ولكن قبله: لمن الديار بقنة الحجر 

وذكر الابيات الثلاثة. فالتفت الرشيد إلى المفضل وقال: الم تقل إن "دع ذا ..." اول الشعر، فقال: ما سمعت بهذه الزيادة اللا يومي، ويوشك إن تكون مصنوعة. فقال الرشيد لحماد: اصدقني، فقال: يا امير المؤمنين، انا زدت هذه الابيات. فقال الرشيد: من اراد الثقة والرواية الصحيحة فعليه بالمفضل، ومن اراد الاستكثار والتوسع فعليه بحماد".

والقصة بهذا الشكل مصنوعة، فالمعروف إن وفاة "حماد" كانت سنة "156ه" وان ولاية "الرشيد" للخلافة كانت سنة "170 ه". فلا يعقل التقاء "حماد" بالرشيد ايام الخلافة. ومخاطبته له ب "امير المؤمنين". ثم لن من الصعب تصور اعتراف "حماد" باضافته اشعار من عنده على شعر الجاهليين بمثل هذه الصورة والبساطة، وهو في حضرة خليفة. والاغلب انها وضعن على حماد من خصومه، للطعن به، وللرفع من شأن " المفضل بن محمد " الضبي.

وقد وردت هذه القصة بشكل آخر، وردت انها وقعت في ايام "المهدي"، وري إن جماعة من العلماء "كانوا في دار امير المؤمنين المهدي بعساباذ، وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بايام العرب وآدابها واشعارها ولغاتها، اذ خرج بعض اصحاب الحاجب، فدعا بالمفضل الضبي الراوية، فدخل، فمكث مليا، ثم خرج الينا، ومعه حماد والمفضل جميعاً، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ثم خرج حسين الخادم معهما، فقال: يا معشر من حضر من اهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم انه قد وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألفاً لصدقه وصحة روايته. فمن أراد أن يسمع شعراً جيداً محدثاً فليسمع من حماد، ومن اراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فسألنا عن السبب، فأخبرنا إن المهدي قال للمفضل لما دعا به وحده: اني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بان قال: دع ذا وعد القول في هرم ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي امر نفسه بنركه ? فقال له المفضل: ما سمعت يامير المؤمنين في هذا شيئا، الا اني توهمته كان يفكر في قول يقوله، أو كان مفكرا في شيء من شانه فتركه وقال: "دع ذا"، أي دع ما انت فيه من الفكر وعد القول في هرم، فامسك عنه. ثم دعا بحماد، فسأله عن مثل ما سال عنه المفضل، فقال: ليس هكذا قال زهير يا امير المؤمنين، قال: فكيف قال ? فأنشده: لمن الديار بقـنة الـحـجـر  اقوين مذ حجج ومذ دهـر ?

قفر بمندفع النـحـائت مـن  ضفوى اولات الضال والسدر 

دع ذا وعد القول فـي هـرم  خير الكهول وسيد الحضـر

قال: فأطرق المهدي ساعة، ثم اقبل على حماد فقال له: قد بلغ امير المؤمنين عنك خبر لا بد من استحلافك عليه. ثم استحلفه يأيمان البيعة وكل يمين محرجة ليصدقنه عن كل ما يسأله عنه، فحلف له بما توثق منه. قال له: أصدقني عن حال هذه الابيات ومن اضافها إلى زهير، فأقر له حينئذ انه قائلها. فأمر فيه وفي المفضل بما أمر من شهرة أمرها وكشفه". فانت ترى إن هذه القصة السابقة نفسها، لو لا ما أدخل عليها من ذكر اسم "المهدي" بدل الرشيد ومن تزويقات، وهي أقرب إلى الواقع من حيث الصحة والكذب، فربما كانت من وضع اعداء حماد عليه، أو من وضع المتعصبين للمفضل الضبي المرجحين علمه على علم حماد.

وفي القصة الثانية موطن شك ايضا، فالمعروف إن خلافة المهدي كانت سنة "158 ه"، وانه اتخذ داره بعيساباذ بعد توليه الخلافة، وقد كانت وفاة حماد سنة "156ه"، أي قبل توليه امارة المؤمنين. فيظهر انها من الموضوعات التي وضعت على حماد، ربما وضعها اصحاب "المفضل" يكره "حمادا" الراوية، ويطعن في علمه، بسبب تنافس الرجلين على الزعامة في العلم.

واكثر هذه التهم التي وجهت إلى علم حماد والى جهله بالعربية، وبالعروض، إنما هي تهم وجهها اليه اهل البصرة، عصبية لمدينتهم ولرجالهم، وما اتهام "ابن سلام" و "يونس بن حبيب" لحماد، بالتهم باللحن، قد اتهم نفسه بتهمة اللحن، اتهمه خصومه اهل الكوفة بالطبع، ونجد مثل هذه الاتهامات من تجهيل العلماء بعضهم بعضا بقواعد العربية وبالوقوع في اللحن، في صفحات الكتب الباحثة في المناظرات وفي لتراجم، وفي كتب الأخبار والادب، حتى يكاد يكون من الصعب علينا العثور على عالم، نقول انه سلم من سهام النقد والتجريح.

ويظهر إن المنافسة على الزعامة في العلم بالشعر الجاهلي، جعلت "المفضل الضبي" ينال من "حماد"، ويظهر اثر هذه المنافسة فيما ينسب إلى "الضبي" من اقوال ذكر انه قالها في "حماد" مثل قوله: "قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده، فلا يصلح أبدا". فقيل له: "وكيف ذلك ? أيخطىء في رواية الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب واشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فيختلط اشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها الا عند عالم ناقد، واين ذلك ?".

و "ابن الاعرابي"، الذي يروي انتقاص "المفضل" الضبي لحماد، هو على ما يذكر ربيب المفضل، كانت امه تحته، فلا استبعد تأثره بحنق الضبي على حماد، بسبب المنافسة التي كانت بينه وبين حماد.

وقد اتهم حماد بالزندقة، كما اتهم بها حماد عجرد، ومطيعع بن 'ياس، ويحيى بن زياد، وعلي بن الخليل، وصالح بن عبد القدوس، وبشار، وابي نواس. وقد وصف "الجاحظ" الزنادقة بقوله: "ربما سمع احدهم ممن لا معرفة عنده ولا تحصيل له، إن الزنادقة ظرفاء، ، وانهم عقلاء وأدباء، وانه عباد وأصحاب اجتهاد، وان لهم البصائر في دينهم، والبذل لمهجهم، وان هناك علما وتميزا، وانصافا وتحصيلا، فيسري اليهم مسرى المهر الأرن، ويحن اليهم بهم حنين الواله العجول، ويتصبب فيهم صبابة العاشق النتيم، ويرى انه متى اتهم بهم، فقد قضى لهم بذلك كله، فلا يزال كذلك حتى يسهل في طباعه، ويرجح عنده أن يزعم انه زنديق". وذكر انه "ما منهم في الظاهر الا نظيف البزة، جميل الشكل، ظاهر المروءة، فصيح اللهجة، ظريف التفصيل ولجملة، والله اعلم ببواطنهم وضمائرهم. قال ابو نواس، وكان ايضا زنديقا يعد فيهم: تيه مغن وظرف زنديق

وكان حماد صديقا لحمادين آخرين هما حماد بن الزبرقان، وكانوا "يتنادمون على الشراب ويتناشدون الشعار، ويتعاشرون معاشرة جميلة، وكانوا كأنهم نفس واحدة، وكانوا يرمون بالزندقة". وقد هجا "حماد بن الزبرقان" "حمادا" الراوية، فقال: نعم الفتى لو كان يعرف ربـه  ويقيم وقت صلاتـه حـمـاد

هدلت مشافره الدنان فـأنـفـه  مثل القدوم يسنـهـا الـحـداد

وابيض من شرب المدامة وجهه  فبياضه يوم الحـسـاب سـواد

غير إن علينا باعتبارنا من المؤرخين إن نحترز احترازا شديدا في تقبل كل ما يروى من الأخبار، ولا سيما في المسائل الشخصية، وفي القضايا التي تكتنفها الخصومات في مثل هذه الحالة. فقد كاان لحماد خصوم كثيرون من اهل هذا الشأن، وقد حسدوه على تقديمه وشهرته، كما كان هو يحسد غيره ولا شك إن تقدم عليه. والانسان مهما تقدم وترفع، فأنه لا يستطيع إن يجرد نفسه من العاطفة، ولا سيما عاطفة الدفاع عن النفس وإثبات الشخصية والتنافس مع الآخرين. وقد كان المفضل الضبي - كما ذكرت - في جملة خصوم حماد، وهو من رؤوس رواة الشعر في تلك الايام، وهو نفسه لم يكن من الناجين من هذه التهمة التي اتهم بها حماد.

غير إن هذا لا يعني إن حمادا كان صادقا في كل ما قاله وفي كل ما رواه، فوضعه للشعر، وصنعه له ن وحمله على القدماء من المسائل المتواترة التي لا سبيل إلى نكرانها، انما اريد هنا إن انتبه على ضرورة التأني والتقصي في أثناء مجابهتنا لمثل هذه الأخبار، ولنخرج ما قد بولغ اغو زيد فيه، حتى يكون حكمنا حكما محايدا، أو قريبا من الواقع.

وكما استدعي خلفاء بني امية حمادا للاستفادة منه في الشعر، كذلك استدعاه خلفاء بني العباس الاوائل، كالمنصور والمهدي، ليروي لهم ما كان يحفظه من الشعر والاخبار، وليتحدث الهم فيما أشكل عليهم من غريب الشعر. وقد استدعاه الخليفة المنصور مرة، فأحضر من البصرة. غير إن صلاته بهم لم يكن على ما يظهر على نحو صلاته بالامويين، حيث حسب عليهم. واستدعى إلى المهدي، كما ذكرت ذلك. وتقرأ في رواية إن "حمادا" قال لا يأس بن مطيع، وقد ذكر صلاته بالعباسيين: "دعني فأن دولتي كانت في بني امية، وما لي عند هؤلاء خير"، مما يخبر انه كان مجفوا عند بني العباس، وذكر انه قال لمروان بن أبي حفصة: "ذهب ويحك ما كنت تعهد". وقد يكون لتقدم "حماد" في العمر دخل في هذا البعد، فقد كان قد جاوز السبعين من العمر في ايام المهدي، والعمر يؤثر بالطبع في مثل هذه الاتصالات، التي تحتاج إلى همة ونشاط، وجواب حاضر وبديهية، ورد على منافسين وحساد.

وعاش حماد فشهد سقوط دولة "بني امية"، إذ توفي سنة "156 ه"، وذكر انه أبطل روايته فيما دسه على غيره من الشعر.

إذا سرت في عجل فسر في صحابة  وكندة فاحذرها حذارك للخـسـف

وفي شيمة الاعمـى زيار وغـيلة  وقشب وأعمال لجنـدلة الـقـذف

وكلم شـر عـلـى إن راسـهـم  حميدة والميلاء حاضنة الكـسـف

متى كنت في حيي بجيلة فاستمـع  فأن لهم قصفا يدل علـى حـتـف

إذا اعتزموا يوما على خنـق زائر  تداعوا عليه بالنباح وبـالـعـزف

وقوله مخاطبا الشاعر أبي عطاء السندي: فما صفراء تكنى ام عوف  كأن رجيلتيها منـجـلان

وروي إن "ابا العطاء" أحس بدس حماد له، فأجابه: أردت زرارة وأزن زنـا  بأنك ما اردت سوى لساني 

أي اردت جرادة، وأظن ظنا بأنك ما اردت الا إن تستخرج رطانتي. وكان في لسانه لكنة شديدة ولثغة.

ويعد "اب كناسة" ابو يحيى محمد بن عبد الله بن عبد الاعلى الاسدي "207 ه" في جملة الرجال الذين اتصلوا بحماد ورووا عنه. ونجد في الاغاني جملة أخبار رويت عن حماد في الشعر والاخبار. وابن كناسة نفسه من علماء ايامه بالعربية وأيام الناس والشعر، وقد سمع هشام بن عروة، وسلمان الاعشى، وروي عنه أحمد بن حنبل محمد بن اسحاق الصاغاني. كذلك كان ابو ايوب المديني في جملة من رأى حمادا وروى عنه.

ومن اصحاب حماد: سالم بن أبي السمحاء، والشاعر عمار بن عمرو بن عبد الاكبر المعروف ب "ذي كناز"، وهو من الشعراء المجان المعاقرين للشراب المتهكمين القائلين للشعر الطريف المضحك المستخدمين للسخف فيه لاجل الاضحاك، وابن عياش، والحسين بن يحيى، ومعاوية بن بكر الباهلي.

ومن اشهر رواة الكوفة بعد حماد "خالد بن كلثوم" الكلبي، وله صنعة في الاشعار المدونة على القبائل. له كتاب اشعار القبائل يحتوي على عدة قبائل.

وأما "خلف الاحمر"، الذي توفي بعد "حماد"، سنة "180 ه" على رواية: فذكر العلماء انه "لم ير قط اعلم بالشعر من خلف الاحمر. كان يعمل الشعر على السنة الفحول من القدماء فلا يتميز عن مقولهم، ثم تنسك فكان يختم القرآن كل يوم وليلة، وبذل له بعض الملوك مالا جزيلا على إن يتكلم في بيت من الشعر شكوا فيه فأبى". وقيل عنه "كان من امرس الناس لبيت شعر، وكان شاعرا يعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم ...

وله من الكتب: كتاب العرب وما قيل فيها من الشعر". واسمه "خلف بن حيان"، وعرف ب محزر"، وكان مولى "أبي بردة بن أبي موسى الاشعري" اعتقده واعتق ابويه، وكانا فرغانيين، وقد ذكر "أبي قتيبة" إن في شعر العلماء تكلف، وهو رديء الصنعة، ليس فيه شيء جاء عن إسماح وسهولة، كشعر الاصمعي، وشعر ابن المقفع، وشعر الخليل، خلا خلف الاحمر، فإنه كان اجودهم طبعا واكثرهم شعرا. وكان عالما بالغريب والنحو والنسب والاخبار، شاعرا كثير الشعر جيده، ولم يكن في نظرائه من اهل العلم اكثر شعرا منه. وكان يقول الشعر وينحله المتقدمين. ويكثر قول الشعر في وصف الحيات، واراجيزه في ذلك كثيرة.

وقد انه كان يتلاعب بالشعر الجاهلي، فيزيد فيه وينقص. يروى انه زاد البيت الاول والثالث من القصيدة "زهير بن أبي سلمى" "رقم 4" في الديوان. ونسب بعضهم اليه صنع المرثية التي رثى "تأب شرا" بها أقاربه. وقد نسب بعض العلماء اليه صنع لأمية الشنفري، المشهورة بلامية العرب التي اولها: أقيموا بني أمي صدور مطيكم  فإني إلى قوم سواكم لأمـيل

وروي عن "الاصمعي" قوله: سمعت خلفا يقول: انا وضعت على النابغة هذه القصيدة التي فيها: خيل صيام وخـيل غـير صـائمة  تحت العجاج، واخرى تعلك اللجما 

وله قصائد اخرى نص على بعضه االعلماء وبينوا انها مصنوعة، وقد وضع على شعراء عبد القيس شعرا كثيرا، وقال الجاحظ: انه هو الذي اورد على الناس نسيب الاعراب، وهذه النسب من ارق الشعر قاطبة وما احراه ا يكون منوعا. ولما توفي خلف رثاه ابو نواس بشعر فيه: اودى جميع العلم مذ اودى خلف  من لا يعد العلم الا ما عـرف

قليذم من العـيالـم الـخـيف  كنا متى نشاء منه نغـتـرف

رواية لا تجتني من الصحف

وهو احد رواة الغريب واللغة والشعر ونقاده والعلماء به وبقائليه وصناعته. وله صنعة فيه. وهو احد الشعراء المحسنين، ليس في رواة الشعر احد أشعر منه.

وكان يبلغ من حذقه واقتداره على الشعر إن يشبه شعره بشعر القدماء، حتى يشبه بذلك على جلة الرواة، ولا يفرقون بينه وبين الشعر القدي، ومن ذلك قصيدته التي نحلها ابن اخت تأبط شرا، التي أولها: إن بالشعب الذي دون سلع  لقتيلا دمـه مـا يطـل

جازت على جميع الرواة، فما فطن بها الا بعد دهر طويل بقوله: خبر ما نابنا وصـمـئل  جل حتى دق فيه الاجل 

فقال بعضهم: جل حتى دق فيه الاجل 

من كلام المولدين. فحينئذ اقر بها خلف".

كان "خلف لاحمر" رأس البصرة في وراية الشعر وفي البصر به. كما كان "حماد" زعيم الكوفة في هذا العلم. وكان "خلف" نفسه ممن اخذ هذا العلم عن "حماد"، فهو من احد تلاميذه ورواته وسامعيه. وكان المقدم عند اهل البصرة، حتى كانوا لا يصدرون الرأي في شعر دونه، واذا اختلف علماؤهم في شيء منه، عرضوا خلافهم عليه للبت فيه. وروي انه كان اول من احددث السماع بالبصرة، وذلك انه جاء إلى حماد الراتوية، فسمع منه.

وقيل عنه انه كان شاعرا مجيدا جيد الشعر كثيره، ولم يكن في نظرائه احد يقول مثله الشعر. ووضع على شعراء "عبد القيس" شعراكثيرا موضوعا ةعلى غيرهم، واخذ ذلك عن اهل البصرة واهل الكوفة. وكان "خلف" اخذ النحو عن "عيسى بن عمر"، واخذ اللغة عن "أبي عمرو". "ولم ير احد قط اعلم بالشعر والشعراء منه، وكان يضرب به المثل في عمل الشعر، وكان يعمل على السنة الناس، فيشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه، ثم نسك فكان يختم القران في كل يوم وليلة، وبذل له بعض الملوك مالا عظيما خطيرا على إن يتكلم في بيت شعر شكوا فيه، فابى ذلك. وعليه قرأ اهل الكوفة اشعارهم، وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية، لانه كان قد اكثر الاخذ عنه. وبلغ مبلغا لم يقاربه حماد. فلما نسك خرج إلى اهل الكوفة فعرفهم الاشعار التي قد ادخلها في اشعار الناس، فقالوا له: انت كنت عندنا في ذلك الوقت اوثق منك الساعة فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم". وروي عن خلف قوله: "كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من اشعار العرب، واعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني، ويدخله في اشعارها، وكان فيه حمق".

ويصعب في الواقع تصديق هذه الرواية المنسوبة إلى خلف الاحمر، فلم يكن حماد بإجماع المنافسين له على شيء من الفضلة والحمق، حتى نصدق ما ورد في هذا الخبر الآحاد، الذي هو خبر من أخبار رواة البصرة، بل نرى من الأخبار الوارد عنهم العكس، نرى فيه الفطنة والخبث إلى اخر ايامه. ثم انه كان اقدم واشهر واعرف واحفظ من خلف الاحمر، ,هو في معرفة الشعر وتمييزه امرس من صاحبه خلف، فلا يعقل فوات ما نحله "خلف" القدماء على حماد. وقد كان الرواة انفسهم يتعجبون من مقدرة حماد على التمييز بين الصحيح والفاسد من الشعر، وعلى احاطته باساليب الجاهليين في نظم القريض، وعلى اتقانه تلك الاساليب، حتى صار م الصعب على عشاق الشعر التمييز بين كل ما يصنعه حماد على السنة الشعراء الجاهليين وبين ما كان من نظمهم حقا. ولهذه الاساليب يصعب التصديق بهذا الخبر، ورأيي انه من وضع اهل البصرة، وضعوه على حماد، كرها له وللكوفيين. وروايتهم هم من البصريين.

وما خبر توبة "خلف الاحمر"، وخروجه إلى اهل الكوفة، ليعرفهم الاشعار التي ادخلها في اشعار الناس، والتي ادخلها اهل الكوفة في دواوينهم، وأبوا اصلاحها، أو حذفها، سوى قصة فيها الطعن والسخرية بعلم اهل الكوفة وبفهمهم للشعر، وفيه مديح وتفخيم لعلم خلف بالشعر، وان كان لا يخلو من تجريح لخلف نفسه، وفيه مديح لعلم اهل البصرة ولتصديقهم في رواية الشعر والاخبار. استهزاء اذن وتعريض باهل الكوفة، ليس فوقه استهزاء، وضعه رجل فيه دعابة وتعصب وتحامل على الكوفيين.

وقد اختص "خلف" بالفروع التي اختص بها حماد بالكوفة، وبذلك جعل البصرة تنافس الكوفة فيها. اختص بالشعر القديم، وباللغة، وبشيء آخر مهم جدا هو وضع الشعر وحمله على السنة القدماء، فصار في هذا الباب بطل البصرة وممثلها، كما كان حماد بطل الكوفة وزعيم الوضاعين , وقد امتاز خلف على الاصمعي العالم البصري ومعاصره بقدرته على نظم الشعر، اذ كان هو نفسه شاعرا متمكنا في الشعر، متقنا لفنونه، كان من حذقه واقتداره في الشعر إن يشبه شعره بشعر القدماء فلا يفرق بينه وبين القديم. اما الاصمعي، فلم يبلغ مبلغه فيه، وان كان من علماء اللغة والادب والنحو ومن حفظة الشعر ورواته.

وهناك روايات تنسب الصدق إلى خلف، ثم لا تكتفي بذلك حتى تجعله اعرف الناس واعلمهم بالشعر. وروايات تذكر انه كان اول من احدث السماع بالبصرة، وكان "الاصمعي"، وهو من علماء البصرة، كما ذكرت، غير راض عن "خلف"، اذ كان يغمز فيه، ويتهمه بالكذب. ويظهر إن ذلك بسبب المنافسة على الزعامة في العلم. وروي عنه انه قال في خلف: "رواة غير منقحين، انشدوني اربعين قصيدة لابي داود الايادي قالها خلف الاحمر. وهم قوم تعجبهم كثر الرواية، الها يرجعون، وبها يفتخرون". ويريد بهم اهل الكوفة. وذكر "الاصمعي" ايضا إن خلفا الاحمر "وضع على شعراء غبد القيس شعرا موضوعا كثيرا، وعلى غيرهم، عبثا بهم، فأخذ ذلك عنه اهل البصرة واهل الكوفة".

وينسب إلى الاصمعي قوله انه حضر مأدبة "ابو محرز خلف الاحمر، وابن مناذر معنا، فقال له ابن مناذر: يا ابا محرز إن يكن امرؤ القيس، والنابغة، وزهير ماتوا، فهذه اشعارهم مخلدة، فقس شعري إلى شعرهم. قال: فأخذ صفحة مملوءة مرقا، فرمى به عليه فملأه فقام ابن مناذر مغضاب، واظنه هجاه بعد ذلك". وهذه القصة - إن صحت - تشير إلى وجود غلطة في طبع خلف. وهناك اخابر اخرى تؤيد هذا الرأي.

وقد اشار "ابن النديم" إلى كتاب لخلف الاحمر، سماه: "كتاب العرب وما قيل فيها من الشعر". وذكر ياقوت الحمودي له كتابين: ديوان شعر حمله عنه ابو نواس، وكتاب جبال العرب.

ومما يؤسف له حقا، هو إن حمادا الراوية، أو غير حماد ممن رووا عنه أو اخذوا عن غيره، لم يشيروا إلى الموارد التي اخذ حماد منها الفيض من الشعر، كما انهم لم يشيروا إلى الموارد التي استقى بقية رواة الشعر منها ما رووهمن الشعر الجاهلي. ولو ذكروه لافادونا ولا شك بذلك كثيرا، اذ يكون في مقدورنا التوصل إلى معرفة الاشخاص الذين كان لهم فضل حمل هذه الثروة العظيمة من ذلك الشعر. ومما يؤسف له ايضا هم إن معظم دواوين الشعراء الجاهليين لا يرتفع سندها إلى رواة يتقدم عهدهم على عهد حماد. ولو ارتفعت لاستفدنا منها بالطبع كثيرا في معرفة اسماء رواة الشعر الجاهلي وحفاظه وجامعيه وكتبته قبل ايام حماد، ولعرفنا بذلك شيئا عن الموارد التي اخذ منها هذا الراوية ذلك الكنز الثمين.

ولا بد من ذكر "السكري" في هذا المكان. وهو "ابو سعيد الحستن بن الحسين" السكري اللغوي، المتوفى سنة "275 ه". فله مؤلفات عديدة عن الشعر، وشروح للدواوين. منها: شرح اشعار هذيل، وديوان أبي كبير الهذلي بشرح السكري، وكتاب أخبار اللصوص، جمع فيه اشعار لصوص البدو المشهورين، واشعار اليهود، وشرح ديوان زهير، وديوان امرىء القيس، بروايته، وشرح ديوان حسان، وقد نقل منه "البغدادي"، وديوان الحطيئة، وهو روايته عن ابن حبيب، وديوان أبي ذؤيب الهذلي، وشرحه على ديوان عبد الله بن قيس الرقيات، وديوان اللخطل، وهو روايته عن محمد بن حبيب عن ابن الاعرابي، وديوان الفرزدق.

وقد اخذ السكري من الموارد التي الفت قبله، كما اخذ من علماء المصرين: البصرة والكوفة، دون تعصب أو تحزب، وكان راوية البصريين.

الفصل الرابع والخمسون بعد المئة
تنقيح الشعر والدواوين

والذي يطالع كتب الادب والاخبار، ويقرأ ما ورد فيها عن الشعراء الجاهليين، ويخرج منها بانطباع خلاصته إن اكثر شعراء الجاهلية، لم يكونوا يهذبون شعرهم، وام يكونوا يثقفونه، ولم يكونوا يجرون عليه تحويرا أو تغييرا أو تعديلا، بعد انشادهم له، وات اغلبهم كان يقول شعره ارتجالا من غير تحضير سابق ولا تهيئة، فهو من عفو الخاطر. جرت على ذلك سنة الشعراء في الجاهلية، فكان شاعرهم يرتجل شعره حسب الظروف والمناسبات.

وتصدق دعوى اهل الأخبار هذه في شعر المناسبات مفي المفاجآت، أي في الحالات التي لا يكون الشاعر فيها على علم مسبق بانه سيقول فيها شيئا من الشعر فتضطره المناسبة إلى قول شيء منه، اما في الحالات الاخرى، فان دعواهم هذه لا يمكن قبولها، بسبب اننا نجدهم يذكرون إن الشاعر كان يهيء شعره قبل القائه، وانه كان إذا نظم يحفظه رواته، أو يدونه على صحيفة، وقد ينقح فيه ويجود وان من الشعراء من كان يحرص على ألا يذيع شعره الا بعد امد والا بعد إن يعرضه على خاصته ليروا رأيهم فيه، فيغير فيه ويبدل، فاذا سمع آراءهم وملاحظاتهم ووجدوها وجيهة، اخذ بها، وصقل شعره بموجبها، وعندئذ يذيعه ويعطيه روايته لينشره بين الناس.

جاء في "طبقات الشعراء" إن الرسول سأل "عبد الله بن رواحة": "كيف تقول الشعر إذا قلت ?" فاجابه: "انظر في ذلك ثم اقول". فامره إن يقول شعرا تقتضيه الساعة، واخذ ينظر اليه: فانبعث عبد الله شعرا، ثم قال: "ولم اكن اعددت شيئا". وجاء في كتاب "الشعر والشعراء" عن "الحارث بن حلزة"، وهو القائل: آذنتنا بينـهـا اسـمـاء  رب ثاو ٍيمل منه الثواء 

ويقال انه ارتجلها بين يدي عمرو بن هند ارتجالا". ثم قال: "قال الاصمعي: قد اقوى الحارث بن حلزة في قصيدته التي ارتجلها، قال: فملكنا بذلك النـاس اذ مـا  ملك المنذر بن ماء السماء 

قال ابو محمد: لن يضر ذلك في هذه القصيدة، لانه ارتجلها فكانت كالخطبة". فاعتذر عن الاقواء بالارتجال، ومعنى هذا انه لو كان قد هيأها واعدها من قبل، كما هي العادة لما وقع في الاقواء.

وفي جواب "عبد الله بن رواحة" "لم اكن اعددت شيئا"، وفي اعتذار المعتذر عن اقواء "الحارث بن حلزة"، دلالة بينه على إن الشعراء كانوا يهيؤن شعرهم وينقحونه قبل انشاده، وانهم كانوا لا يقولون شيئا منه الا بعد إن يكون قد اختمر في رؤوسهم ورضوا عنه، حتى يكون سديدا اللهم الا في الناسبات وفي الظروف الحرجة الت تهز الشاعر فتحمله على نظم الشعر.

وورد إن "الحارث بن حلزة" اليشكري، قال لقومه، "وهو رئيس بكر ابن وائل: اني قد قلت قصيدة، فمن قام بها ظفر بحجته وفلج على خصمه، فرواها ناسا منهم، فلما قاموا بين يديه لم يرضهم، فحين علم انه لا يقوم بها احد مقامه، قال لهم: والله اني لاكره إن آتي الملك فكلمني من وراء سبعة ستور، وينضح أثري بالماء إذا انصرفت عنه، وكان لبرص كان به، غير اني لا ارى احدا يقوم بها مقامي، وانا محتمل ذلك لكم"، مما يدل على انه كان قد اعدها ونظمها بعد تروٍ ودراسة، ثم القاها على الملك، مع اننا نرى الكتب، تذكر انه ارتجلها ارتجالا، بمعنى انها كانت من وحي الموقف والساعة، ولم تكن مهيأة من قبل. لان الارتجال في الكلام، التكلم من غير تدبر ولا تهيئة سابقة، وقيل من غير روية ولا فكر. ويظهر انهم قصدوا بالارتجال القاء الكلام من غير نظر إلى صفيحة، وذلك اوقع في النفس عندهم من الالقاء عن شيء مكتوب، على الرغم من كون صاحبه قد اعده من قبل وقد حفظه، كما يفعل شعراء هذا اليوم من إنشادهم شعرهم المنظوم سابقا من غير النظر في الصفيحة، ليظهر الشاعر وكأنه يرتجله ارتجالا.

ولا يعقل إن يكون الشعر كله من نتاج المصادفة والمفاجأة، وانه كان يحفظ على نحو ما قيل وانشد، فلم يجر عليه قلم، ولم ينله تهذيب ولا تشذيب، ولا سيما بالنسب للقصائد. فقد كان الشاعر ينظم شعره مقدما في الغالب، ثم ينشده رواته وجماعته، لئلا ينساه، ث يرى رأيهم فيه، وقد يزيد هو عليه شيئا، وقد ينقص منه شيئا، ومن هنا نجد إن رواية اكثر القصائد لا تثبت على ترتيب واحد، وليست لها وحدة مستقلة ولا ترتيب متكامل، والا في احوال نادرة، ومن ثم اختلفت الرواية عن الشاعر، فقد يكون احد الرواة، قد افترق عن الشاعر وابتعد عنه، وهو يحفظ شعره على نحو ما سمعه منه، على حين يكون الشاعر قد اضاف على شعراً شيئاً جديداً، حفظه عنه غيره من الرواة، فتسبب ذلك في ظهور الاختلاف في القصيدة الواحدة، وتكون الرواية القديمة أقصر من الرواية الحديثة في العادة، لعدم دخول الزيادة التي ترد متأخرة بالطبع على الشعر. روي عن "ابن مقبل" قوله: "اني لأرسل البيوت عوجاً، فتأتي الرواة بها قد أقامتها". فللرواة إن صح هذا الخبر، يد في إصلاح الشعر، وفي تغييره، وفي إقامة ما قد يكون من اعوجاج.

ولا بد للشاعر من إعداد الشعر "القصيد" وتهيئته والنظر فيه قبل انشاده، كما في شعر المدح والهجاء، لما يجب أن يتفنن فيه الشاعر، وهو على علم أن من سيقصده لمدحه، قد قصده غيره للغاية نفسها، وقد يصادف انشاده لشعره قد اضاف على شعراً شيئاً جديداً، حفظه عنه غيره من الرواة، فتسبب ذلك في ظهور الاختلاف في القصيدة الواحدة، وتكون الرواية القديمة أقصر من الرواية الحديثة في العادة، لعدم دخول الزيادة التي ترد متأخرة بالطبع على الشعر. روي عن "ابن مقبل" قوله: "اني لأرسل البيوت عوجاً، فتأتي الرواة بها قد أقامتها". فللرواة إن صح هذا الخبر، يد في إصلاح الشعر، وفي تغييره، وفي إقامة ما قد يكون من اعوجاج.

ولا بد للشاعر من إعداد الشعر "القصيد" وتهيئته والنظر فيه قبل انشاده، كما في شعر المدح والهجاء، لما يجب أن يتفنن فيه الشاعر، وهو على علم أن من سيقصده لمدحه، قد قصده غيره للغاية نفسها، وقد يصادف انشاده لشعره -وهو ما يقع في الغالب-بحضور عدد اخر من الشعراء المحترفين للشعر، المتفننين فيه، فإذا هو لم يهئ شعره من قبل ولم يعرضه على أحد ولم يتفنن فيه، ويأتي فيه بغرائب الفنون، ضاع شعره بين بقية الأشعار. فهو مظطر اذن على إعداد شعره إعدادً حسناً قبل أنشاده أمام الممدوح، وحكة وتشذيبه لينال المكانة المرجوة بين بقية الشعر.

ونجد في شعر ينسب إلى "أمرئ القيس"، يذكر فيه إن المعاني كانت تنثال عليه، فكان يعمل رأيه فيها، فيؤخر ويقدم، ويتخير ما يستجاد من غرر الأبيات: أذود القوافي عـنـي ذياداً  دياد غلام جرئ جـرادا

فلما كثـرن وعـنـينـي  تخيرت منهن ستاً جـيادا

فأعزل مرجانها جانـبـاً  ةىخذ مر درها المستجادا 

وقد نسب بعض الرواة هذه الابيات إلى غيره.

ولا بد في شعر الهجاء من إعداد، ولا سيما في شعر الهجاء الذي يعد للرد على شاعر هجاء، أو على شعر هجاء سابق، إذ في هذه الحالة اعداده بعناية لتحطيم الهاجي وإسقاطه وإخماله، ويستدعي ذلك عمل الروية فيه والتأمل طويلاً، وإنشاد الشعر مراراً وتكراراً على الرواة والعارفين بالشعر لأخذ رأيهم فيه. وقد يزيدون عليه وقد ينقصون منه، فإذا رضي الشاعر عنه، وقنع به، أنشده أمام الناس، وقد يكون في المواسم ليسير بين القبائل، وقد يرسصل مكتوباً إلى من يهمهم الأمر ليصل اليهم ذلك الهجاء. وقد يكون الشاعر "تميم بن مقبل" "تميم بن أبي مقبل"، قد عنى هذا المعنى في البيت المنسوب قوله اليه: بني عامر، ما تأمرون بشاعر  تخير بابات الكتاب هجـائيا

وبابات الكتاب، سطوره، وهو بيت لا يخلو من غموض، حتى إن علماء اللغة اختلفوا في تفسيره، اختلافاً كبيراً، وقد يفهم منه أن الشاعر كان قد تخير هجاءه دونه في وجوه الكتاب، أي أن الهجاء كان مدوناً بسطور ومكتوباً، وقد يكون قد أنذر به وتوعد، بأن من سيهجوهم إذا لم يكفوا عن سفههم، فإنه سيدون هجاءه ويثبته في سطور وينشره بين الناس، فهو ينذرهم به ويتوعدهم وقد أدخله صاحب "العمدة" في باب "باب الوعيد والانذار"، وقال "كان العقلاء من الشعراء وذوو الحزم يتوعدون بالهجاء، ويحذرون من سوء الاحدوثه، ولا يمضون القول إلا لضرورة لا يحسن السكوت معها". وقد اتخذ "كولدتزهير" هذا البيت دليلاً على وجود التدوين في شعر الهجاء عند العرب، كما اتخذ من شعر "ليلى الأخيلية": أتاني من الأنباء أن عـشـيرة  بشوران يزجون المطي المذللا 

يروح ويغدو وفدهم بصحـيفة  ليستجدلوا لي، ساء ذلك معملا

دليلاً أخر على تدوين الهجاء.

وتنقيح الشعر تهذيبه. وأنقح شعره إذا حككه، أي أزال عيوبه. ولهذا قيل: خير الشعر الحولي المنقح. فكان الشاعر إذا نظم شعراً أجال بصره به، ليرى ما فيه من نشاز وعيوب، فيحك منه ما يحتاج إلى حك، ويجيل بصره به إلى أن يعجبه ويرضيه، فيقول للناس. وقد ينقحه بعد إلقائه، إذ قد يسمع نقداً يراه من شاعر أو من العارفين بالشعر، صائباً، فينقح الموضع المنتقد. وقد ينتبه الشاعر وهو يقرأ شعره على الملأ، إلى افكار لم تكن تخطر على باله ساعة نظم شعره، فينظمها ويضيفها إلى ما نظمه.

وكان من الشعراء من يكتب ويقرأ ويدون شعره. ومن هؤلاء "عدي بن زيد العبادي"، الذي كان يتولى مكاتبة العرب عند "كسرى"، والذي كان قد حذق الكتابة بالعربية والفارسية. وهو من شعراء "الحيرة"، والشاعر "سويد بن صامت الأوسي"، و"عبد الله بن رواحة"، و"كعب بن مالك الانصاري"، وهم من شعراء يثرب، ولهذا فلا يستبعد وقوع التدوين والتنقيح من هؤلاء الشعراء ومن أمثالهم الذين كانوا يقرأون ويكتبون، يكتبون شعرهم، ثم يجيلون النظر فيه، فيغيرون منه ما شاءوا ويبدلون ما لا يعجبهم منه حتى يستوي، فيذاع.

ولو ذهبنا هذا المذهب وقلنا بصحة المذكور في هذه الروايات، حق علينا أن نقول إن الشعراء الجاهليين إن لم يكن أكثرهم فبعضهم على الأقل كانوا ينقحون شعرهم ويعدلون فيه ويجيرونه، حتى يستقيم في نظرهم ويستوي. فإذا رضوا عنه، أذاعوه عندئذ، وأنشدوه حين تدعو الداعية إلى الإنشاد. وقد يطول هذا التنقيح، وقد ينقص. قد يقع في أيام، وقد يقع في شهر أو شهور أو حول أو اكثر. ومثل هذا التنقيح والتحكيك، يستدعي وجود تدوين في الغالب، بأن يدون الشاعر أو راويته الشعر، ثم يجري التنقيح على المكتوب.

ذكر "ابن قتيبة"، إن من الشعراء المتكلف والمطبوع. "فالمتكلف" هو الذي قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر، كزهير والحطيئة. وكان الاصمعي يقول: زهير والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين. وكان الحطيئة يقول: "خير الشعر الحولي المنقح المحكك"، وكان زهير يسمي كبر قصائده "الحوليات".

وقد اشار بعض الشعراء إلى تنقيحه شعره والى تهذيبه له، وتحكيكه فيه. منهم الشاعر المخضرم "سويد بن كراع" من "عطل"، وكان شاعراً محكماً.

فقال في أبيات يذكر تنقيحه شعره: أبيت بأبواب القوافـي كـأنـمـا  أصادي بها سرباً من الوحش نزعا 

أكلئها حتى اعرس بـعـدمـا  يكون سحيراً أو بعيد فأهجعا

إذا خفت أن تروي على ردتها  وراء التراقي خشية أن تطلعا

وجشمي خوف ابن عفان ردها  فثقفتها حولاً جريداً ومربعـاً

وقد كان في نفسي عليها زيادة  فلم أر إلا أن اطيع وأسمعـا

وكان هجا قومه، فاستعدوا عليه عثمان، فأوعده، وأخذ عليه إن لا يعود. فأخذ يهذب شعره ويقفه خشية الوقوع فيما لا يحمد عليه.

وذكر "ابن قتيبة" أن "المتكلف من الشعر وإن كان جيداً محكماً، فليس به خفاء على ذوي العلم، لتنبيههم فيه ما نزل بصاحبه من طول التفكر، وشدة العناء، ورشح الجبين، وكثرة الضرورات، وحذف ما بالمعاني حاجة اليه، وزيادة ما بالمعاني غنى عنه".

وقال: "والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي، وأراك في صدر بيته عجزه، وفي فاتحته قافيته، وتبينت على شعره رونق الطبع ووشي الغزيرة، وإذا لم يتلعثم ولم يتزحر".

والتكلف في نظم الشعر شئ ممجوج ما في ذلك شك، لما فيه من تصنع وتنطع، وخروج على عفو الخواطر، وعلى الطبع. اما تهذيب الشعر ومراجعته وتشذيبه، والتاني فيه، والنظر فيه، لتعبيده وتشذيبه، حتى يكون عذباً نقياً، نابعاً عن شاعرية وسليقة، خالياً من الشطحات والنزوات، يعجب السامع، فأمر آخر، على ألا يتجاوز الحد، بحيث يخضع الشعور لاستبداد الصنعة، فهو عندئذ معيب. وقد رأى "الاصمعي"، وهو من نقدة الشعر وعلمائه، في تثقيف الشعر وحكه وتشذيبه عبودية للشعر، انتقد "زهيراً" و"الحطيئة" عليها، فقال: "زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما، عبيد الشعر. وكذلك كل من جود في جميع شعره، ووقف عند كل بيت قاله، واعاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة. وكان يقال: لولا إن الشعر قد كان استعبدهم واستخرج مجهودهم، حتى أدخلهم في باب التكلف وأصحاب الصنعة، ، عبيد الشعر. وكذلك كل من جود في جميع شعره، ووقف عند كل بيت قاله، واعاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة. وكان يقال: لولا إن الشعر قد كان استعبدهم واستخرج مجهودهم، حتى أدخلهم في باب التكلف وأصحاب الصنعة، ومن يتلمس قهر الكلام، واغتصاب الالفاظ، لذهبوا مذهب المطبوعين، الذين تأتيهم المعاني سهواً ورهواً، وتثال عليهم الالفاظ انثيالاً، وانما الشعر المحمود كشعر النابغة الجعدي. . ولذلك قالوا في شعره: مطرف بآلاف، وخمار بواف وقد كان يخالف في ذلك جميع الرواة والشعراء". وقد فسر "ابن قتيبة" الجملة الاخيرة المتعلقة بالنابغة الجعدي، بقوله: "وكان العلماء يقولون في شعره خمار بواف، ومطرف بآلاف. يريدون إن في شعره تفاوتاً، فيعضه حد مبرز، وبعضه ردئ ساقط".

وجاء في "العمدة" "لابن رشيق": "وكان الأصمعي يقول: زهير والنابغة من عبيد الشعر، يريد انهما يتكلفان اصلاحه، ويشغلان به حواسهما وخواطرهما"، فوضع "النابغة" في موضع "الحطيئة" المذكور في "البيان والتبيين" وفي الموارد الأخرى.

قال "السيوطي" "قال الجاحظ في البيان: كان الشاعر من العرب يمكث في القصيدة الحول، ويسمون تلك القصائد الحوليات والمنقحات والمحكمات، يصير قائلاها فحلاً خنذيذاً وشاعراً مفلقاً". فالقصيدة الحولية المنقحة المحكمة، هي القصيدة التي يتأنى بها صاحبها، فيهذب فيها ويشذب، حتى يحكمها، لتصير متماسكة بينة متينة، ومن هنا قال "الحطيئة": " خير الشعر الحولي المنقح"، أو "خير الشعر الحولي المحكك". وكانوا يسمون تلك القصائد ايضاً المقلدات، والحوليات، والمنقحات، والمحكمات. وقد أوجز السيوطي كلام "الجاحظ"، الذي أدرك ما كان يفعله الشاعر بشعره من تغيير وتبديل ومن تنقيح وتجويد، حتى يرضى عنه. فقال أكثر مما نقله "السيوطي" عنه، فقال إن من الشعراء "من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولاً كريتاً وزمناً طويلاً، يردده فيها نظره، ويجيل فيها عقله ويقلب فيها رأيه، إتهاماً لعقله، وتتبعاً على نفسه، فيجعل زماناً على رأيه، ورأيه عياراً على شعره". يفعلون ذلك ليخرج شعرهم بليغاً بيناً، خالصاً نقياً، حتى ينالوا منه ما يريدون من التأثير في السامع، ومن استهواء الناس اليهم "وكانوا إذا احتاجوا إلى الرأي في معاظم التدبير ومهمات الأمور ميثوا الكلام في صدورهم وقيدوه على أنفسهم، فإذا قومه الثقاف وأدخل الكير وقام على الخلاص أبرزوه محكماً منقحاً ومصفى من الأدناس مهذباً". وقال: "وكانوا يسمون تلك القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها فحلاً خنذيذاً وشاعراً مفلقاً".

والحوليات، هي القصائد التي يحول عليها الحول. والمقلدات، البواقي من الشعر على الدهر وقلائده. والمنقحات، القصائد المنقحة المهذبة المحككة. يقال: خير الشعر الحولي المنقح، وأنقح شعره إذا حككه، واحسن النظر فيه، وأصلحه وازال عيوبه. وقد كان الشاعر يحيل النظر في شعره، ويفكر فيه ويصلح منه، قبل أن يعرضه على الناس، حتى لا يعاب عليه، فيغض من قدره، وتهبط منزلته بين الناس، وتطمع فيه الشعراء. فهؤلاء الشعراء، هم اصحاب فن، لا يهمهم الاخراج الكثير، بل الشعر المحنك المنسق، ولذلك يمكثون امدا يعيدون النظر فيه حتى يعجبهم نظمه، فيذيعونه عندئذ بن الناس.

وقد عرف "طفيل الغنوي" في الجاهلية بالمحبر، وذهب علماء الشعر إلى انه انما عرف بذلك الحسن لشعره، وكان مثل زهير النابغة "في التنقيح وفي التثقيف والتحنيك" وقد عرف "ربيعة بن سفيان" الشاعر لارس بالمحبر". و "الحطيئة"، و "النمر بن ثعلب" من هذه الطبقة التي تأنقت في شعرها وتثقيفه. وقد عرف "النمر بن تولب" بالكيس لحسن شعره. وورد في رواية اخرى انه قيل له المحبر لقوله: سماوته اسمال برد محبـر  وسائره من اتحمى مصعب 

وكان "طفيل بن عوف بن كعب" "طفيل بن كعب الغنوي، احد نعات الخيل من الجاهليين، فعرف بطفيل الخيل لكثرة وصفه اياها، قيل انه كان من اوصف الناس للخيل، وقد اخذ عنه بعض الشعراء، مثل النابغة وزهير. وقيل انه كان ثالث الشعراء الوصافين للخيل. وقد نشر "كرنكو" ديواني طفيل والطرماح مع ترجمتهما إلى الانكليزية، وذلك ضمن سلسلة منشورات "جب".

ذكر إن ابا بكر قال يوما للانصار: زادكم الله عنا يامعشر الانصار خيرا، فما مثلنا ومثلكم الا كما قال طفيل الغنوي: جزى الله عنا جعفرا حين انزلقت  بنا نعلنا في الواطئين فـزلـت

ابوا إن يملونـا ولـو إن أمـنـا  تلاقي الذي يلقون منا لمـلـت

وروي إن معاوية قال: دعوا لي طفيلا وسائر الشعراء لكم، وان عبد الملك ابن مروان، قال: من اراد يتعلم ركوب الخيل فليرو شعر طفيل.

ومن جيد الشعر المنسوب له، قوله: انـي وان قـل مـالـي لا يفـــارقـــنـــي  مثـل الـنـعـامة فـي اوصـالـهــا طـــول

أو قـارح فـي الـغـرابــيات ذو نـــســـب  وفـي الـجـراء مـسـح الـشـد اجــفـــيل

إن الـنـسـاء كـاشـجـار نـبـتـن مــعـــا  منها الـمـرار وبـعـعـض الـنـبـت مـأكـول

إن الـنـسـاء مـتـى ينـهـين عـن خــلـــق  فانـه واجــب لا بـــد مـــفـــعـــول

لا ينصرفن لرشد إن دعين له وهن بعد ملائيم مخاذيل 

ومن شعره: وللخيل ايا م فمن يصطبر لها  ويعرف لها ايام الخير تعقب 

وقد شرح ديوانه "يعقوب بن السكيت"، وقد رجع اله "البغدادي".

وقد قسم "ابن رشيق" الشعر إلى مطبوع ومصنوع. ,"المطببوع هو الاصل الذي وضع اولا، وعليه المدار. والمصنوع وان وقع عليه هذا السم، فليس متكلفا تكلف اشعار المولدين، ولكن وقع فيه هذا النوع الذي سموه صنعة من غير قصد ولا تمثل، ولكن بطباع القوم عفوا، فاستحسنوه ومالوا اله بعض الميل، بعد إن عرفوا وجه اختياره على غيره، حتى صنع زهير الحوليات على وجه التنقيح والتثقيف: يصنع القصيدة، ثم يكرر نظره فيها خوفا من التعقب، بعد إن يكون قد فرغ من عملها في ساعة أو ليلة، وربما رصد اوقات نشاطه فتباطأ عمله لذلك، والعرب لا تنظر في اعطاف شعرها بان تجنس أو تطابق أو تقابل، فتترك لفظة للفظة، أو معنى لمعنى، كما يفعل المحدتون، ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجزالته، وبسط المعنى وابرازه، واتقان بنية الشعر، وإحكام عقد القوافي، وتلاحم الكلم بعضه ببعض حتى عدوا من فضل صنعة الحطيئة حسن نسقه الكلام بعضه على بعض".

ولم يعب علماء الشعر المنمق المحنك، إذا لم تؤثر فيه الكلفة، ولم يظهر عليه التعمل، ولم يخرج عن حدود الطبع. ومن هنا قال بعض الحذاق بالكلام: "قل من الشعر ما يخدمك، ولا تقل منه ما تخدمه. وهذا هو معنى قول الاصمعي"، وهو معنى "ابن رشيق" وغيره من علماء الشعر، اللذين يريدون شعرا طبيعيا صدر من القلب وعن عفو خاطر، لا يعمل فيه ولا تزويق يخرجه من الطبع إلى الصنعة، فيكون ثقيل الظل لا تستسيغه الطباع.

ويرى "برو كلمن" إن "القصائد الطول كالمعلقات، لم يتم نظمها دفعة واحدة. ومهما كانت القافية كثيرا ما تهدي الشاعر في نظم شعره، فانه يجدر بنا إن نتصور نشأة القصيدة في الزمن القديم على غرار ما وصفه "موزل" عند شعراء البادية المحدثين. وعلى ذلك فلا يستبعد بحال من الاحوال أن تكون القصيدة من نتاج حول كامل ومن هنا وجدنا رواية أكثر القصائد لا تثبت على ترتيب واحد. فقد ينشد الشاعر شعراً لرواته وأحبائه اول الأمر لئلا ينساه، ثم يزيد عليه، لا سيما إذا ذكروه أحباؤه بشئ غفل عنه، وربما بدل بعض أبياته بعد ذلك باخرى لم يسمعها ذووه الأولون، فتختلف الرواية عن الشاعر. ولا يأبى الشاعر نفسه أن يعترف بأن كل ذلك من بنات افكاره. وقد يكون ذلك أيضاً هو السبب في إن كثيراً من الشعر القديم لم تبق منه إلا قطع متفرقة".

ولا يختلف الشاعر الجاهلي عن الشاعر الاسلامي في نظري في تهذيب شعره وتنقيحه. فقد كان للفرزدق الشاعر المشهور الذي حفظ وروى شعر عدد كبير من الشعراء المتقدمين رواة، كانوا يعدلون ما انحرف من شعره، ويهذبون ما يحتاج منه إلى تهذيب، وكانوا يروونه. وكان لجرير، الشاعر الآخر، وهو خصم الفرزدق ومنافسه في قول الشعر، رواته ومعدلو شعره. كانوا يقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السناد. واذا كان هذا شأن شعراء أيام الأمويين الذين ورثوا تقاليد الشعراء المخضرمين والجاهليين، وساروا على هديهم في الشعر، لا نستبعد اذن لجوء الشاعر الجاهلي ورواته إلى التحكيك والتعديل واجراء التهذيب على شعره، لغفلة قد تكون وقعت له، وقد فاتت عليه، أو لمعنى فات عليه، أدركه رواته عند إنشاده له، أو غمز به خصومه فأظطر إلى اجراء تنقيح عليه لإخراجه بالشكل الذي رآه يصلح فيه.

وقد حكك ونقح علماء الشعر ورواته، ما سمعوه واخذوه من شعر، لأنهم وجدوا انه في حاجة إلى تحكيك، أو أنهم رأوا أن فيه خللأً، وان عليهم واجب إصلاحه وتقويمه. أجروا مثل هذا التنقيح حتى في شعر الشعراء الاسلاميين. روي عن "الاصمعي" قوله: "قرأت على خلف شعر جرير، فلما بلغت قوله: فيا لك يوماً خيره قبل شره  تغيب واشيه وأقصي عاذله 

فقال: ويله! وما ينفعه خير يؤول إلى شر? قلت له: هكذا قرأته على أبي عمرو. فقال لي: صدقت وكذا قاله جرير، وكان قليل التنقيح، مشرد الألفاظ، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلا كما سمع. فقلت: فكيف كان يجب أن يقول? قال: الأجود له لو قال: فيا لك يوماً خيره دون شره.

فاروه هكذا، فقد كانت الرواة قديماً تصلح من أشعار القدماء، فقلت: لا أرويه بعد هذا إلا هكذا".

وقد اضطر علماء الشعر إلى تنقيح ألفاظ في الشعر بسبب تصحيف أو تحريف وقع عليها بفعل النساخ، ومثل هذا التنقيح مستساغ بالطبع، بل واجب لأن فيه اعادة الشعر إلى الصواب، على أن ينص على الاصل الذي كان مكتوباً به، والتصحيح الذي أدخل عليه، وعلى السبب الذي حمل العالم على اجرائه عليه.

دواوين الشعر الجاهلي

ودواوين الشعراء الجاهليين، الموجودة عندنا هي كلها وبغير استثناء من جمع علماء الشعر الاسلاميين. فلا يوجد من بينها ديوان واحد ذكر انه كان من جمع اهل الجاهلية. وقد شرع بصنع هذه الدواوين في العصر الأموي. وبلغت العناية بها ذروتها في القرن الثالث للهجرة. وقد أبدى علماء العراق من موالي وعرب تفوقاً كبيراً على غيرهم من علماء الأمصار الاسلامية في هذا الباب.

وقد نسب إلى "ابن عباس" قوله: "إذا اعياكم تفسير آية من كتاب الله، فأطلبوه في الشعر فأنه ديوان العرب". وإذا صح أن هذا الكلام الذي رواه "عكرمة" عن "عبد الله بن عباس" هو من كلامه نكون قد حصلنا لأول مرة على لفظة الديوان، بالمعنى المفهوم من اللفظة في عرف علماء الشعر والناس.

وذكر أن لفظة "الديوان" قد وردت في حديث: "لا يمجمعهم ديوان حافظ". وإذا صح هذا الحديث وثبت، يكون ورود اللفظة فيه قبل وردوها في كلام "ابن عباس"، ومعنى هذا أنها كانت معروفة عند أهل الجاهلية. غير أن ورودها في هذا الحديث لا يعني ديوان شعر، وإنما الجمع والاحصاء، وبمعنى كتاب وسجل تدون فيه الاشياء.

وروي أيضاً أن الخليفة "عمر" سأل الصحابة عن هذه الاية )أو يأخذهم على تخوف، فإن ربكم لرؤوف رحيم(، فخاضوا في معناها، فخرج رجل ممن كان حاضراً فلقي اعرابياً، فقال التخوف: التنقص، وكان ذلك الأعرابي من هذيل، فقال له: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها? قال نعم، قال شاعرنا أبو بكر الهذلي: تخوف الرحل منها تامكاً قرداً  كما تخوف عود النبعة السفن 

فقال: عمر أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا. قالوا وما ديواننا? قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.

ويقال لمجموع الشعر المدون في دفتر أو كتاب "ديوان شعر". فيقال "ديوان الشاعر" و"دواوين الشعراء"، و"ديوان فلان"، و"ديوان طئ"، و"ديوان النصار"، و"ديوان الشعراء الجاهليين"، إلى غير ذلك. ويقصدون بذك مجموعة اشعار جمعت في مجموع. وذكر علماء اللغة إن الديوان "الدفتر، ثم قيل لكل كتاب، وقد يخص بشعر شاعر معين مجازاً حتى جاء حقيقة فيه. فمعانيه خمسة: الكتبة ومحلهم والدفتر وكل كتاب ومجموع الشعر". والديوان في الأصل الكتاب الذي يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية. واول من وضعه عمر. ويرى علماء اللغة إن اللفظة من الأفاظ المعربة عن الفارسية، وان كسرى كان قد رتب الدواوين لكتابه ولمعاملاتهم، فلما جاء الإسلام، وظهرت الحاجة إلى تنظيم العمل. امر الخليفة "عمر" باتخاذ الدواوين.

واذا حملنا قول أهل الأخبار انه قد كان عند النعمان بن المنذر "ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته"، وقولهم إن النعمان ملك العرب كان قد أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج، وهي الكراريس، ثم دفنها في قصره الابيض، فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزاً، فأحتفره، فأخرج تلك الاشعار، على محمل الخبار التي ظهرت في أيام الامويين، التي صنعها وروجها بين الرواة حماد الراوية واضرابه فإننا نثبت بذلك أخبار اخرى تفيد إن الدواوين قد عرفت قبل أيام حماد.

ويظهر من قول "ابن سلام": "وكان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون واليه يصيرون. وقال ابن عوف عن ابن سيرين، قال: قال عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزوا فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح واطمانت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب..." أن الدواوين لم تكن موجودة، وأن الشعر لم يكن مكتوباً في صدر الإسلام، ولهذا ضاع أكثر الشعر الجاهلي بسبب انهماك حفاظه في الحروبوهلاك بعضهم فيها، ومنها حروب الردة، التي هلك فيها جمع من حفاظ الشعر من مسلمين ومن مشركين.

ويظهر مثل ذلك من رواية يرجع سندها إلى "ابن سلام" تذكر أنه "كان الرجلان من بني مروان يختلفان في الشعر فيرسلان راكباً فينخ ببابه يعني قتادة بن دعامة، فيسأله عنه ثم يشخص". ويظهر من هذه الرواية إن صحت إن "قتادة"، كان من الحافظين للشعر، وقد عرف بأنه كان صاحب علم بأيام العرب وأنسابها وأحاديثها، وله أخبار في تفسير القرآن، ونعت بانه كان من الحفاظ، قال عنه "السيوطي": "ولم يأتنا عن أحد من علم العرب أصح من شئ اتانا عن قتادة". وهو من التابعين، روي عن انس وابن المسيب، والحسن البصري، وروي عنه "سعيد بن أبي عروبة". وقد ضرب الجاحظ به المثل في الحفظ، إذ قال: "كان يقال، زهد الحسن، وورع ابن سيرين، وعقل مطرف، وحفظ قتادة، وكلهم من البصرة". ويظهر انه كان يروي الإسرائيليات. وجمع "سليمان بن عبد الملك" بين قتادة والزهري، فغلب "قتادة" "الزهري"، فقيل لسليمان في ذلك، فقال: إنه فقيه مليح. فقال القحذمي: لا، ولكنه تعصب للقرشية، ولانقطاعه كان اليهم، ولروايته فضائلهم، وقد عرف بالنسب، وهو أحد رواة "رسالة عمر بن الخطاب" إلى "أبي موسى" الأشعري في أصول القضاء.

وروى "الجاحظ" "إن رجلاً قتل اخوين في نقاب، أحدهما بعالية الرمح، والآخر بسافلته. وقدم في ذلك راكب من قبل بني مروان على قتادة يستثبت الخبر من قبله، فاثبته". وهو يروي عن "ابن عباس"، وعن "أبي موسى"، ويظهر من الأخبار المنسوبة اليه انه من طراز القصاص، الذين يروون الأخبار من دون نقد.

وورد إن الخطاط الشهير "خالد بن أبي الهيجا"، وهو أول من كتب المصاحف في الصدر الاول، وكان من احسن الخطاطين في زمانه، كتب "المصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبد الملك". وأذا صح هذا الخبر، نكون قد وقفنا على جمع قديم الشعر، هو في مقدمة المجموعات القديمة للشعر.

لكننا نجد في رواية تذكر إن حماداً الراوية سرق جزءاً من أشعار الانصار، فقرأه فاستحلاه وحفظه، فمن ثم صار يطلب الأدب ويحفظ الشعر. وهي رواية اك في صحتها، ويظهر نها موضوعات اعداء حماد، ولو صحت لكانت دللا على وجود ديوان شعر ضم شعر الانصار. كما نجد في خبر استدعاء "الوليد بن يزيد" له وأرساله اليه بمائتي دينار، وامره عامله "يوسف بن عمر" إن يحمله اليه على البريد، وقوله في نفسه: "لا يسألني الا سألني عن اشعار بلى"، دلالة على وجود ديوانيين كانا عند "حماد" احدهما ديوان شعر قريش، والاخر ديوان شعر ثقيف. غير اننا لا نستطيع التأكد من صحة هذا الخبر، وان كنت لا استبعده ايضا، لظهور التدوين قبل هذا العهد، وفي ايام معاوية مثلا.

واذا صح ما ذكره "ابن النديم" من قوله: "قال ابو العباس ثعلب جمع ديوان العرب واعارها واخبارها وانسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد لملك ورد الديوان إلى حماد و جناد"، فيكون معنى ذلك، انه قد كان عند "حماد" و "جناد" ديوانان أو دواوين للشعر، واستعارهما منهما "الوليد"، وجمع منهما ديوان العرب واشعارها، ثم اعاد الديوانين إلى صاحبيهما، ونكون بذلك قد وقفنا على وجود لفظة "ديوان" بالمعنى الاصطلاحي المعروف في ايام الامويين، ووثقنا من وجود دواوين الشعر في تلك الايام.

ولم اجد في الدواوين التي وصلت النا أو في كتب الادب اشارات إلى اقتباس رواة الشعر وحفظته وجماعه والمعنيين به من هذا، لأفادنا ولا شك كثيرا في التعرف على ذلك الديوان الملكي الذي يجب إن نعده اول ديوان شعر عربي وصل خبره الينا بالتأكيد حتى الان.

ويذكر إن بعض شعراء العصر الاموي كانوا يملكون دواوين شعر لشعراء جاهليين. ذكر مثلا إن "الفرزدق" كان يمتلك نسخة من ديوان الشاعر "زهير ابن أبي سلمى".

وقد اطلق القدماء مصطلح "دفاتر اشعار العرب" على مدونات الشعر. والدفاتر جماعة الصحف المضمومة، وقسم "البغدادي" هذه الدفاتر إلى قسمين: دواوين ومجاميع. فالدواوين، هي دواوين الشعراء، والمجاميع مثل اشعار بني محارب للشيباني، والمفضليات للمفضل الضبي، واشعار الهذليين للسكري، واشعار لصوص العرب للسكري، ومختار شعر الشعراء الست: امرىء القيس، النابغة، علقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة وشرحها للاعلام الشنتمري وغيرها.

ويظهر إن اول اختيار مدون للشعر عند العرب، كان القصائد المعروفة بالمعلقات اختارها حماد الراوية، ثم سار من جاء بعده مثل "المفضل" الضبي، وابو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، ثم من جاء بعدها على منهجه في اختيار وانتقاء الشعر والقصائد وجمعها في مجموعات. وقد ذكر "الجمحي" إن "حمادا" "كان اول من جمع اشعار العرب وساق احاديثها .... وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره ويزيد في الاشعار".

ولم اجد في الكتب الموضوعة التي تحدثت عن حماد ما يفيد اشتغال حماد بتدوين الشعر واثباته في دواوين. وفي الفهرست عبارة تقطع بعدم ورود كتاب، ولا ديوان كان من تأليف حماد أو جمعه، إذ يقول: "ولم ير لحماد كتاب، وانما روى عنه الناس، وصنفت الكتب بعده". ويفهم بالطبع من كلام "ابن النديم" هذا إن حماداً كان راوية حسب، يروي للناس ما حفظه من شعر دون أن يعتني هو نفسه بإثباته لما يحفظه في حروف وكلمات. غير انه يجب الاحتراز كثيراً في الأخذ برواية ابن النديم هذه، إذ لا يعقل أهمال حماد ترتيب ما كان يحفظه من شعر كثير، وتدوينه وإملاؤه. وقد اهمل ابن النديم أسماء كتب عديدة لمؤلفين معروفين، كما ذكر أسماء علماء لم يشر إلى مؤلفات لهم، مع إن غيره اشار إلى مؤلفاتهم، وقد وصلت بعض منها الينا وطبعت، فلا أستبعد أن يكون قول ابن النديم هذا من هذا القبيل.

ومما يقوي هذا الرأي ويؤيده، ما ورد في مختارات "ابن الشجري" عن أبي حاتم السجستاني من وجود كتاب لحماد الراوية، إذ قال: "قال أبو حاتم: هذا آخرها، وفي كتاب حماد الراوية زيادة"، وقوله: "قال السجستاني: وفي كتاب حماد الراوية زيادة بعد هذا البيت أربعة ابيات، كتبتها ليعرف المصنوع". وقد اورد ابن الشجري قولي السجستاني عند إيراده شعر الحطيئة. وكان السجستاني قد أشار إلى كتاب حماد هذا، لوجود أبيات فيه لم يجدها في رواية الأصمعي التي اعتمد عليها لشعر الحطيئة. وقد أورد تلك الزيادات، ذاكراً انها مع ذكره لها من المصنوعات المردودات.

وفي عبارة "ابن النديم": "ولم ير لحماد كتاب، وإنما روى عنه الناس وصنفت الكتب بعده". فقد ذكر "ابن النديم" نفسه حين كلامه عن "عوانة"، أن الخليفة "الوليد بن يزيد" "جمع ديوان العرب وأشعارها واخبارها وأنسابها ولغاتها. . . ورد الديوان إلى حماد وجناد"، وفي هذه الاشارة دلالة على أنه كان لحماد ديوان، ثم نجده يذكر أنه كان لعوانة بن الحكم كتاب التأريخ، وكتاب سيرة معاوية وبني أمية، وقد توفي "عوانة" سنة "147ه"، أي قبل "حماد" المتوفي سنة "156م"، ونجده يذكر لعبيد بن شرية الجرهمي كتاب الامثال، ويذكر لصحار العبدي كتاباً في الأمثال كذلك، وقد عاشا قبل عوانة وحماد.

ودواوين الشعر أنواع: فقد يكون الديوان مجموع شعر شاعر واحد، وقد يكون مجموع شعر شعراء قبيلة، أو مجموع شعر قبائل، أو شعر جماعة مثل الأنصار، وقد يكون مجموع شعر شعراء، جمعت اشعارهم على شكل طبقات، أو فن امتازوا به، أو اختيارات أو اسباب أخرى تذكر في مقدمة الدواوين. ومن النوع الاول دواوين بعض الشعراء الجاهليين، مثل ديوان امرئ القيس، وديوان النابغة الذبياني، وديوان عنترة، وديوان المتلمس وغيرهم. وقد يجمع ديوان شاعر واحد عدة علماء، فيرد الديوان بروايات مختلفة. وقد تختلف النسخ في ترنيب أبيات القصيدة، وفي عدد القصائد، وقد تزيد بعضها أشعاراً، وقد تنقص بعض منها أشعاراً، وقد تختلف نسخ الديوان الذي هو من جمع عالم واحد، بسبب أن العلماء كانوا يملون علمهم املاء على تلامذتهم، في مجالس املائهم، فيقوم تلامذتهم بتدوين ما يملى عليهم. ويحدث إن العالم يسمع كتابه من بعض طلابه أو من كتابه، فيصحح فيه، وقد يزيد عليه ما فات عن ذاكرته يوم إملائه في المرة الاولى، فيأمر بتدوينه، وقد يحذف منه شيئاً، ولم يرض عنه، فتعدد بذلك النسخ، ويحدث ذلك في الكتب الأخرى ومن هنا تعدد الروايات للديوان أو للكتاب، مع إن جامعه أو مؤلفه رجل واحد.

وقد يأخذ الطالب هذا الديوان، ثم يزيد عليه ما يسمعه من شيوخ آخرين، وقد يعلق عليه ويزيد على شرحه. شروحاً سمعها من رجال آخرين. وبذلك تتولد نسخ جديدة، تختلف عن النسخ الام.

وقد جمع العلماء دواوين الشعراء، وقد وصل بعض منها، وفقد البعض الاخر. وقد ذكر "العيني" انه كان قد حصل على ما ينيف على مائة ديوان شعر، من بينها ديوان امرئ القيس، وديوان النابغة الذبياني، وديوان علقمة بن عبدة التميمي، وديوان زهير بن أبي سلمى، وديوان طرفة بن العبد، وديوان عنترة ابن شداد العبسي، وديوان الاعشى ميمون، وديوان الحطيئة، وديوان أبي دؤاد، وديوان كعب بن زهير، وديوان لبيد العامري، وديوان الشنفري، وديوان الحارث بن حلزة، وديوان أبي ذؤيب الهذلي، وديوان أبي كبير الهذلي، وديوان ساعدة بن جؤية الهذلي، وديوان أبي خراش الهذلي، وديوان أبي المثلم، وديوان صخر الغي، وديوان المنتخل، وديوان أبي العيال، وديوان السموأل ابن عادياء، وديوان سحيم بن عبد بني السحساح، وديوان عمرو بن قميئة، وديوان عمرو بن كلثوم، وديوان أوس بن حجر، وديوان النمر بن تولب، وديوان أبي الطمحان القيني، وغير ذلك من دواويين لم أشر اليها. ومما يؤسف له انه لم يذكر أسماء رواة هذه الدواوين.

ومن النوع الثاني، دواوين القبائل، أو أشعار القبائل، وقد ضمت شعر شعراء قبيلة أو شعر بعض من شعرائها، ممن اشتهر وعرف، وتحتوي بالاضافة إلى الشعر كلاماً يتصل بالشعر وبالشاعر وبالمناسبة التي قيل الشعر فيها، وبنسب الشاعر وقبيلته، على نحو ما نجده في الدواوين الخاصة، فتكون بذلك وثائق مهمة جامعة لأمور شتى من حياة الجاهليين. وقد سميت هذه المجموعات بأشعار القبائل: "اشعار الأزد" وأشعار حمير، وأشعار الرباب، وأشعار بني عامر بن صعصعة، وأشعار فهم، وشعر بني يشكر، وأشعار بني عوف ابن همام، وشعر هذيل، وأشعار تغلب للسكري، وقد رجع اليه "البغدادي".

وقد هلك أكثر ما جمع من أشعار القبائل، ولم يصل الينا مطبوعاً من هذه المجموعات إلا ديوان هذيل، وأكثر شعراء هذا الديوان إسلاميون. وقد نال شعراء هذيل بذلك حظاً من العناية، كما نشرت لشعراء هذه القبيلة جملة دواوين.

وقد أطلق "ابن النديم" جملة "اشعار العرب" على معنى ديوان أشعار العرب، فذكر مثلاً إن "الاصمعي"، عمل "قطعة كبيرة من أشعار العرب ليست بالمرضية عند العلماء لقلة غربتها واختصار روايتها". وذكر إن "خالد ابن كلثوم" الكلابي، كان من رواة الأشعار والقبائل، وله صنعة في الأشعار والقبائل، وله من الكتب كتاب الشعراء المذكورين وكتاب أشعار القبائل، ويحتوي على عدة قبائل. وذكر إن "أبا عمرو الشيباني" "206ه"، كان عالماً بأشعار القبائل، وقد أخذ العلماء عنه دواوين اشعار القبائل، وكان قد جمع أشعار نيف وثمانين قبيلة. وذكر ايضاً انه قد كان في بيت "أبي عبيدة" "210ه" "211" "208ه"، "ديوان العربط"، ويظهر انه قصد به ديواناً ضم اشعار القبائل. فهو مجموع أشعار شعراء.

ومن النوع الثالث، أي الكتب التي جمعت اشعار طبقة معينة من طبقات الشعراء أو المجتمع، ما ذكره "ابن النديم" من أن "أبا العباس ثعلب"، صنع قطعة من أشعار الفحول وغيرهم، منهم الأعشى والنابغتان وطفيل والطرماح. ومن أن "أبا بكر محمد بن القاسم" الأنباري، وهو ممن اخذ عن "ثعلب"، كان قد عمل عدة دواوين من أشعار العرب الفحول، منه شعر زهير، والنابغة، والجعدي، والأعشى. وقد عمل "محمد بن حبيب" قطعة من أشعار العرب، وكتاباً سماه: "كتاب أخبار الشعراء وطبقاتهم"، وألف "ابن سلام" "231ه" كتابا في طبقات الشعراء، عرف ب"طبقات الشعراء"، وهو مطبوع معروف. ولعمر بن شبة كتاب في الطبقات اسمه: "كتاب طبقات الشعراء".

هذا ونقرأ في كتاب "الفهرست" لابن النديم، وفي مؤلفات أخرى أن من العلماء كتباً في القبائل، مثل: "كتاب الأوس والخزرج" لأبي عبيدة، وكتاب إياد، وكتاب كنانة، وكتاب بني نهشل، وكتاب بني محارب، وكتاب بني الحارث، وكتاب بني مرة، وأشعار حمير، وكتاب بني القين ابن حسر، وكتاب بني حنيفة وغيرها من كتب كان "الامدي" قد رجع اليها واخذ منها. وقد درست هذه الكتب، ولم يتحدث "الامدي" بشئ عما احتوته، لذلك لا نستطيع أن نتحدث عن موضوعاتها، بيد أن "الأمدي" يشير أحياناًن إلى مواضع اقتبس منه بعض الاشياء، لها صلة بالشعر والشعراء، مما يحملنا على القول بأن الكتب المذكورة كانت في الشعر: في شعر القبائل، وفيمن نبغ بينها من شعراء، كما يشير إلى امور أخذها من هذه الموارد التي لم يشر إلى أسماء مؤلفيها، تدل على أنها خاصة بأخبار القبائل وأنسابها، ونظراً إلى ورود اسماء قسم من هذه المؤلفات التي لم يذكر "الآمدي" أسماء مؤلفيها في "الفهرست" لابن النديم، وفي موارد اخرى نقلت منها وأشارات إلى أسماء مؤلفيها، فإن في الإمكان التعرف بهذه الطريقة على أسماء مؤلفي تلك الكتب. وقد أشار "الآمدي" إلى أسماء المؤلفين وأسماء مؤلفاتهم التي استقى أخباره منها في مواضع اخرى.

وعلى كثرة ما ألف من دواوين، فإننا لا نملك منها سوى قسم قليل من ذلك الكثير. ويرى "بلاشير" ان الدواوين القديمة المهمة لا تحتوي وسطياً أكثر أبداً الثلاثين صفحة في الأصل، غير ان المتأخرين زادوا فيها قصائد ومقطعات عثروا عليها في موارد اخرى، فتضخمت تلك الدواويين حتى صارت أضعاف ما كانت عليه في الأصل.

وجمع بعض علماء أشعار طوائف من المجتمعات مثل شعر اللصوص، فللسكري ديوان دعاه: أشعار لصوص العرب. ومثل شعر الصعاليك، وشعر الشعراء المغتالين، وأخبار من نسب إلى أمه من الشعراء، وأخبار المتيمين من الشعراء في الجاهلية والاسلام، إلى غير ذلك من مؤلفات في أخبار الشعراء وفي شعرهم.

ويظهر أن مؤلفي الدواوين لم يحفلوا في أيامهم بموضوع شرح المناسبات التي من أجلها نظم الشعر، ولهذا جاءت خالية في الغالب من ذكر المناسبة، وهي إذا ذكرتها فإنما تذكرها بإيجاز واختصارز أما الشروح التي قد ترد في الديوان، فإنها شروح لغوية ونحوية في الغالب، لم تتمكن من تقديم صورة واضحة عن الشاعر وعن المناسبات التي من اجلها نظم الشعر. وقد انبرى علماء آخرون بشرح هذه الدواوين، إلا أن شروحهم لم تخرج أيضاً عن مألوف ذلك الزمن من الاهتمام باللغة والنحو وجمع الشواهد والنادر والغريب، فضاع التأريخ نتيجة لهذهالطريقة.

وقد ذكر "ابن النديم" أن شعر "امرئ القيس" قد عمله جملة علماء، منهم ابو عمرو الشيباني، والاصمعين وخالد بن كلثوم، ومحمد بن حبيب، وأبو سعيد السكري الذي صنعه من جميع الروايات. وقد صنعه ابو العباس الأحول ولم يتمه وعمله ابن السكيت. ويلاحظ ان جامعي هذه الدواوين لم يشيروا إلى المورد الذي استقوا منه شعرهم. صحيح ان منهم من ذكر السند، إلا انه لم يذكر كيف حصل المرجع الذي ينتهي السند عنده على هذا الشعر. ولم يحفل الرجال الذين تنتهي الاسانيد بهم بذلك، مع أن لذكر السند كاملاً أهمية كبيرة بالنسبة للمؤرخ. إذ نتمكن بهذا التشخيص من الوقوف على معين هذا الشعر.

وقد دون "ابن النديم" جريدة بأسماء علماء الشعر الذين اشتغلوا بعمل دواوين الجاهليين. وقد استعمل لفظة "صنع"و "عمل" و"صنعة" في معنى "جمع" و"الف" و"تأليف". واستعمل جملة " صنعه من جميع الروايات"بعد اسم الجامع وقبل اسم الشاعر إلى ان جامع الديوان قد اعتمد على المجموعات الشعرية التي صنعت قبله، وأوجد من مجموعها ديوانه. لقد تقدم رواية قصيدة على قصيدة، وقد تؤخر أخرى قصيدة متقدمة، فتقدم عليها قصيدة "متأخرة"، وقد يقدم ديوان بعض أبيات قصيدة، وقد يرتبها ديوان آخر ترتيباً آخرن لاعتماده على مورد آخر، روى القصيدة بصورة أخرى، وقد يذكر ديوا شعراً وقطعاً وقصائد أو قصيدة لا تكون موجودة في الدواوين الاخرى أو في بعض منها، ولهذا يأتي جامع جديد، تقع عنده تلك الدواوين، أو تكون عنده كتب شواهد ونوادر وأخبار، فيها من شعر الشاعر ما لم يرد في ديوانه فيضمه اليه، ويكون من المجموع ديواناً جديداً، برواية جديدة، تنسب اليه، كما فعل "السكري" بالنسبة لشعر امرئ القيس.

ومن أعرف من اشتغل بجمع أشعار القبائل: أبو عمرو الشيباني، وخالد بن كلثوم، والطوسي، والاصمعي، وابن الاعرابي، ومحمد بن حبيب. ونظراً لحفظهم اشعار القبائل، حفظوا بالطبع اشعار الشعراء الجاهليين، وحملهم ذلك على جمع أشعارهم في دواوين خاصة. وقد أضاف "ابن النديم" عليهم، اسم "ابن السكيت"، وثعلب. وكان "الطوسي" عدواً لابن السكيت، لأنهما اخذا عن "نصران" الخراساني، واختلفا في كتبه بعد موته. وكانت كتب نصران لابن السكيت حفظاً وللطوسي سمعاً.

ولم يرتب صناع الدواوين الشعر على حسب الترتيب الزمني، وإنما رتبوه ترتيب القوافي، أي وفقاً لترتيب ابجدية القوافي. وقد يسر هذا الترتيب للقارئ الرجوع إلى الشعر الذي يريده، لكنه حرمه من شئ ثمين جداً، هو معرفة زمن نظم الشعر. وللزمن أثر كبير في الوقوف على تطور شعر الشاعر، وعلى مدى تقدمه أو تأخره في نظم الشعرن كما حرمه من الوقوف على العوامل التأريخية التي أثرت على الشاعر وعلى مجتمعه فدفعته على نظم شعره. ومع وجود بعض المراجع المساعدة من مثل كتب الأخبار والأدب والشواهد، فإن هنالك أموراً تأريخية تخص الشعراء الجاهليين والشعر الجاهلي، بقيت خافية علينا، بسبب عدم اهتمام علماء الشعر آنذاك بموضوع ترتيب الشعر ترتيباً زمنياً، ولعدم اهتمامهم بذكر أسباب نظم كل بيت أو قطعة أو شعر، أو قصيدة، مع بيان الزمن الذي نظم الشاعر فيه شعره.

وقد ظهر قوم دونوا الشعر في الصحف، وقرأوه منها، ونظراً لمكانة الحفظ عند العلماءن ولقياسهم على الإنسان بمقدار حفظه، لا بما كان يشرحه أو يفسره من الصحف والكتب، لذلك لم ينظر إلى مدوني الصحف نظرة تجلة وتقدير، لأنهم في نظرهم قراء صحف لا غير. قال "ابن قتيبة": "يرويه المصحفون والآخذون عن الدفاتر"، ذكر ذلك في معرض الاستخفاف بعلمهم، لكونهم لا يميزون بين الشعر الصحيح من الفاسد، والردئ من الجيد، لأنهم يقرأون عن صحف، وينطقون بحروف وكلم مكتوبة، لا عن فهم ودراية مثل رواة الشعر، الذين خزنوا علمهم في أدمغتهم، فإذا سئلوا عن شئ اجابوا عن روية وفكر، لا عن صحيفة مكتوبة.

وقد ساعدت الكتب المؤلفة في أخبار القبائل مساعدة كبيرة في جمع الشعر الجاهلي، ونجد في كتاب "الفهرست" لابن النديم أسماء مؤلفات كثيرة، في القبائل، وفي امور اخرى لها صلة بالشعرن ذكرها أثناء تحدثه عن الأشخاص الذين ذكرهم في كتابه. وقد هلكت أكثر المؤلفات المذكورة، ولكننا نجد نقولاً منها في بعض الكتب لها البقاء والتي قدر لها أن تطبع.

ولا أجد في نفسي حاجة إلى ذكر الموارد الاخرى التي أفادتنا كثيراص في جمع الشعر الجاهلي وفي الوقوف عليه، لأن لقارئ هذا الكتاب إلماماً بهان قد يزيد على إلمامي بها. وعلى رأس هذه الموارد كتب الادب، مثل مؤلفات الجاحظ، وكتاب الاغاني للأصبهاني، وكتب المالي والمجالس وغيرها، ففي هذه الموارد مادة قد لا نجدها في كتب الشعر، وقد ذكرت اسماء مصادر قديمة نقلت منها لا نعرف اليوم من امرها شيئاً.

ولا بد من الإشارة ايضاً إلى كتب النحو والشواهد، فقد جاءت بأشعار جاهلية استشهد بها على اثبات قاعدة نحوية، أو شاهد رأي جاء به عالم لإثبات رأيه في موضوع لغوي أو نحوي. وقد نص على اسم أو أسماء الشعراء في بعض الأحيان، ولم ينص على الأسماء في أحيان اخرى. وقد يمكن معرفة بعض الأشعار التي لم ينص على اسم قائلها، بالرجوع إلى الموارد الاخرى التي نسبتها إلى قائليها، غير ان الحظ لا يساعد في أحيان أخرى على معرفة اسم قائل الشاهد، لعدم وجوده في موارد اخرى وقد يكون شاهداً مفتعلاً، فلا يمكن التوصل إلى اصله بالطبع.

الفصل الخامس والخمسون بعد المئة
الشعر المصنوع

ليس البحث في معرفة المصنوع من الشعر، وفي أسباب وضعه، من الحبوث الجديدة، التي أوجدها المستشرقون، أو من أخذ عنهم من الباحثين المحدثين، بل هو بحث قديم، اتقنه أهل الجاهلية، وأخذه عنهم أهل الإسلام. وفي هذا المعنى قال الشاعر الشهير "الحطيئة": "ويل للشعر من الرواة السوء". فرواة الشعر، آفة بالنسبة للشعر وللشعراء، قد يزيدون فيه، وقد ينقصون، وقد يصحفون، وقد يفتلعون ويصنعون الشعر على ألسنة غيرهم، ولو لم يكن هذا المرض معروفاً في أيام الحطيئة وقبلها لما ورد هذا القول عنه.

ومعنى انتحله وتنحله ادعاه لنفسه، وهو لغيره. يقال: انتحل فلان شعر فلان أو قوله ادعاه انه قائله، وتنحله ادعاه وهو لغيره. قال الاعشى: فكيف أنا وانـتـحـال الـقـو  في بعد المشيب كفى ذاك عارا 

وقيدني الشـعـر فـي بـيتـه  كما قيد الاسرات الـحـمـارا

"ويقال نحل الشاعر قصيدة، إذا نسبت اليه، وهي من قبل غيره. ومنه حديث قتادة بن النعمان: كان بشير بن أبيرق يقول الشعر ويهجو به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينحله بعض العرب". ولم يكن "بشير" أول من فعل ذلك بالطبع من العرب، فهناك غيره ممن سبقه وممن عاش في أيامه صنعوا المنسوب إلى الاعشى، انه قد اتهم بأنتحال الشعر، بأخذ شعر غيره وادعائه لنفسه، فنفى عنه تلك التهمة.

ويروى ان"النعمان بن المنذر"، كان يرى به هذا الراي، فقد ذكروا انه قال له: "لعلك تستعين على شعرك هذا? فقال له الاعشى: احبسني في بيت حتى أقول، فحبسه في بيت، فقال قصيدته التي أولها: أأزمعت من آل ليلى ابـتـكـارا  وشطت على ذي هوى أن تزارا

ثم ذكر فيها البيتيتن المتقدمين. وورد ان الذي قال له ذلك، هو "قيس ابن معد يكرب" الكندي.

وكان السطو على الشعر، معروفاً في الجاهلية كما كان معروفاً في الإسلام. قال الفرزدق: إذا ماى قلت قافية شروداً  تنحلها ابن حمراء العجان 

وقال ابن هرمة: ولم أتنحل الأشعار فيهـا  ولم تعجزني المدح الجياد 

يقال تنحل الشاعر قصيدة، إذا نسبها إلى نفسه، وهي من قبل غيره.

قال يزيد بن الحكم: ومسترق القصائد والمضاهي  سواء عند علام الـرجـال

ويقال ان الاعشى وضع في شعره ان "هرم بن قطبة" حكم لعامر بن الطفيل على علقمة بن علاثة، وتزيد على "هرم" وأشاعه بين الناس. والتزيد تكلف الزيادة في الكلام وغيره. وورد ان من الشعراء الجاهليين من كان ينتحل شعر غيره، أو يجتلب منه. قال الراجز: يا أيها الزاعم أني أجـتـلـب  وأنني غير عضاهي أنتخـب

كذبت إن شر ما قيل الكذب

فهو ينكر انه يجتلب الشعر من غيره. واجتلب الشاعر، إذا استوق الشعر من غيره واستمده. قال جرير: ألم يعلم مسرحي القوافي  فلا عيا بهن ولا اجتلابا

أي لا أعيا بالقوافي ولا اجتلبهن ممن سواي، بل أنا في غنى بما لدي منها. وقد نحل على الاعشى، فنسب له الرواة ما ليس من شعره، مثل قصيدته التي قالها في مدح "سلامة ذا فائش"، فقد روى "ابن قتيبة" الأبيات الأربعة الأولى منها، ثم قال: "وهذا الشعر منحول، لا أعرف فيه شيئاً يستحسن إلا قوله: يا خير من يركب المطـي  يشرب كأساً بكف من نجلا 

وروي عن "الخليل" قوله: "عن النحارير من العرب ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلامن العرب، إرادة اللبس والتعنيت". وحمل الكلام على الغير شئ مألوف، كما أخذ شخص كلام غيره وادعائه لنفسه شئ مألوف كذلك. وقد اشار جهابذة العلماء إلى ان في الشعر مصنوعاً وفيه مفتعل موضوع. وهو كثير لا خير ولا حجة في عربيته. وقد انبرى له العلماء فنقدوا الشعر لاستخراج الصحيح منه من الفاسد، وتمكنوا قدر إمكانهم من ضبط بعض الفاسد المنحول ومن الإشارة اليه. قال "ابن سلام": "وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم، أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعراء، أو الرجل ليس من ولدهم فيشكل ذلك بعض الاشكال".

وقد ذكروا أن قوماً تداولوا هذا الشعر المصنوع "من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شئ منه أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي". فمقياس الصحة في نظرهم، هو الرواية والاخذ عن أهل البادية، وقول علماء الشعر في الشعر، أما الشعر المدون والمنقول من الصحف، فلا قيمة له، مع أن التدوين أصدق واكثر صحة من النقل والرواية، وإذا كانوا قد خافوا التزوير في التدوين، فإن التزوير في الرواية لا يقل خطراً عن التزوير في التدوين. وقد عدوا الصحفيين، قوماً لا علم لهم بالشعر، وإنما هم نقلة، يقرأون ما هو مكتوب، وليس في القراءة دليل على علم. وذلك لأنهم كانوا يصحفون في القراءة، ويلحنون، بينما الراوية الذي يعتمد على علمه وعلى حافظته وعلى ذوقه وطبعه، لا يصحف ولا يقع في اللحن، ولهذا قيل لهؤلاء الصحفيين المصحفين.

"قال خلاد بن يزيد الباهلي لخلف بن حيان أبي محرز-وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقولع- بأي شئ ترد هذه الاشعار التي تروى? قال له: هل تعلم أنت منها ما انه مصنوع لا خير فيه? قال: نعم. قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك? قال: نعم. قال: فلا تنكر أن يعرفوا من ذلك ما لا تعرفه أنت. وقال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك. فقال له: إذا أخذت أنت درهماً فاستحسنته، فقال لك الصراف انه ردئ، هل ينفعك استحسانك له".

وقد افتخر رواة الشعر بأنفسهم، وزعموا انهم أكثر فهماً في النقد من رواة الحديث، قال "يحيى بن سعيد القطان": "رواة الشعر أعقل من رواة الحديث، لأن رواة الحديث يرون مصنوعاً كثيراً، ورواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع ينتقدونه يوقولون: هذا مصنوع". يعيبون رواة الحديث على روايتهم الحديث المصنوع، مع ان وضعهم للشعر لا يقل عن وضع رواة الحديث للحديث.

وقد تعرض"ابن سلام" لموضوع إفساد الشعر ونحله، فقال: "وكان ممن هجن الشعر وأفسده وحمل كل غثاء: محمد بن اسحاق مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف. وكان من علماء الناس بالسير، فنقل الناس عنه الاشعار، وكان يعتذر منها. ويقول: لا علم لي بالشعر، إنما أوتي به، فأحمله ولم يكن ذلك له عذراً، فكتب في السير اشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط، وأشعار الساء فضلاً عن أشعار الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود. أفلا يرجع إلى نفسه فيقول من حمل هذا الشعر? ومن أداه منذ الوف من السنين? والله يقول: وانه اهلك عاداً وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم الا الله".

فهو يتهم"ابن اسحاق" بالجهل بالشعر، وهو جهل استغله صناع الشعر فجاءوا اليه بشعر غثاء فاسد، وبشعر مصنوع، فأدخله، وبشعر مفتعل وضع على ألسنة الماضيين فقبله، يمكن من عوامل إفساد الشعر.

وهذا الشعر بين الفساد، يمكن لكل ذوي عقل رفضه، ولكن الذي أفسد الشعر وهجنه، هم علماء الشعر وصناعه من اصحاب الحرفة، الذين وضعوا على ألسنة الشعراء، شعراً صعب حتى على نقدة الشعر رده إلى اصله، لأنهم وضعوه وصاغوه على ألسنة الشعراء صياغة محبوكة من نمط الشعر الصحيح المحفوظ عن أهل الجاهلية، ومن هنا هان عمل "ابن اسحاق" بالنسبة إلى عمل "حماد" الراوية و "خلف الاحمر" وغيرهما من صاغة الشعر.

وقال "ابن سلام": فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم واشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والاشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم. ثم كانت الرواة بعد، فزادوا غي الأشعار، وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضع المولدون، وانما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الاشكال".

وروى "ابن سلام" خبراً طريفاً من أخبار النحل في الشعر، فقال: "أخبرني أبو عبيدة ان داود بن متمم بن نويرة قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي في الجلب والميرة، فنزل النحيت، فأتيته أنا وابن نوح، فسألناه عن شعر ابيه متمم، وقمنا له بحاجته وكفيناه ضيعته، فلما نفد شعر ابيه جعل يزيد في الأشعار، ويضعها لنا، واذا كلام دون كلام متمم، واذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علينا علمنا انه يفتعله".

وتحاشياً من الوضع، امتحنوا من كان يقدم عليهم، للأخذ منه، أو من كان يتصل بهم من الاعراب، حتى يتأكدوا من أمانتهم ومن علمهم بما سيسألونهم عنه. إذ ثبت عند العلماء بالشعر ان بعض الأعراب كانوا يفتعلون الشعر ويضعون الأخبار ويجيبون عن غير علم. وقد أفرد "أبو العباس" المبرد لبعض منهم باباً خصصه بأكاذيب الأعراب. وبما كانوا يروونه من أساطير وخرافات، وممع ذلك فقد فات عليهم الكثير من هذه الاكاذيب، ودخلت كتبهم، ويمكنك التعرض على البعض منه، من دون حاجة إلى بذل مشقة أو جهد.

وقد أورد علماء الشعر أمثلة على المصنوع من الشعر من ذلك ما ذكره "أبو عبيدة" من انه انشد "بشار بن برد"، البيت: وانكرتني وما كان الذي نكـرت  من الحوادث إلا الشيب والصلعا 

وهو بيت وضعه "ابو عمرو" الشيباني على لسان الأعشى، فقال بعلمه بالشعر وبألفاظ العرب: "كأن هذا ليس من لفظ الاعشى"، وقد كان "بشار" الشاعر المعروف حاذقاً بأشعار العرب ملماً بأساليبهم، فأدرك بسليقته وبعلمه بشعر الاعشى أن هذا البيت ليس من شعره، وقد روى الرواة أن "ابا عمرو" هو الذي وضعه على لسان الاعشى، وأنه اعترف بصنعه له.

وقد جاء "المعري" في "رسالة الغفران" بأمثلة كثيرة من امثلة الشعر المنحول الذي صنع على ألسنة الشعراء الجاهليين. كما اشار إلى التحوير والتغيير الذي ادخله "المعلمون في الإسلام" على الشعر "فغيروه على حسب ما يريدون".

وروي ان قريشاً كانوا اول من وضع الشعر من القبائل في الإسلام. نظروا إلى أنفسهم، فإذا حظهم في الشعر قليل في الجاهلية، فأستكثروا منه في الإسلام.

قال "ابن سلام": "وقريش تزيد في أشعارها تريد بذلك الانصار والرد على حسان". ولم يكتف القرشيون بإضافة الشعر اليهم، وبأستكثاره، بل عملوا الشعر على لسان شعراء المدينة للغض منهم، وذلك لما كا بينهم وبين أهل يثرب من تحاسد يعود إلى ما قبل الإسلام. وقد ذكر ان "قتادة بن موسى" الجمحي هجا "حسان بن ثابت" ونحلها "أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"، صنعوا الشعر الغث الضعيف وأضافوه إلى شعراء الأنصار للغض من منزلتهم في الشعر.

وقد أشار "السيوطي" إلى أشعار، ذكر ان علماء الشعر يروون انها من صنع "خلف الاحمر"، صنعها على ألسنة الشعراء الجاهليين. من ذلك اللامية المنسوبة إلى "الشنفري"، والقصيدة التي فيها: خيل صيام ونخيل غـير صـائمة  تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما 

وقد نسبها للنابغة. والقصيدة التي فيها: قل لعمرو: يا بن هند  لو رايت القوم شنـا

رأت عيناك منـهـم  كل ما كنت تمنـى

كما روى أبياتاً ذكر انها من صنع "حماد". من ذلك قصيدة نسبها لهند ابنة النعمان، من أبياتها: ألا من مبلغ بكراً رسولاً  فقد جد النفير بعنقفـير

وقد قال الأصمعي، إنها مصنوعة، لم يعرفها أبو بردة، ولا أبو الزعراء، ولا ابو فراس، ولا ابو سريرة، ولا الأغطش، وهي مع نقيضة لها اخذت عن حماد الراوية.

وروي عن "الاصمعي" قوله: "كل شئ في أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حماد الرواية إلا نتفاً سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء".

ومرد نحل الشعر عند "ابن سلام": إما إلى عصبية قبلية، وغما إلى رواة شعر. أما عصبية القبائل، فقد دونت رأيه في سببها. وأما عن رواة الشعر، فأول المزيفين للشعر في نظره "حماد" الراوية، الذي قال عنه: "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الرواية، وكان غير موثوق به.

كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار. اخبرني أبو عبيدة عن يونس. قال: قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة، فقال ما أطرفتني شيئاً! فعاد اليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة مديح ابو موسى. فقال: ويحك يمدح الحطيئة ابا موسى، لا أعلم به، وأنا أروي للحطيئة. ولكن دعها تذهب بين الناس. واخبرنا ابن سلام، قال: سمعت يونس يقول: العجب لمن يأخذ عن حماد، وكان يكذب ويلحن ويكسر". وحماد وأضرابه في نظر "ابن سلام" مزيفزن ماهرون يزيفزن الشعر ويصنعونه، فهم أصحاب صنعة محترفون للتزييف. أما "محمد بن أسحاق"، فأنه في نظره نمط اخر، نمط رجل جاهل بالشعر، دفع اليه الناس المصنوع من الشعر وكل غثاء منه، فحمله، وأدخله في السيرة، وحمل الناس عنه الاشعار، وكان عذره انه لا علم له بالشعر، إنما يؤتى به اليه فيحمله ويدونه، ولكنه لامه على هذا الاعتذار بقوله"ولم يكن له ذلك عذراً، فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط. وأشعار النساء فضلاً عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعاراً كثيرة، وليس بشعر، انما هو كلام مؤلف معقود بقواف، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر? ومن أداه منذ آلاف السنين، والله تبارك وتعالى يقول: )فقطع دابر القوم الذين ظلموا...الخ(، وقد اتهمه غيره بأنه "كان يعمل له الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر، وأخطأ في النسب الذي أورده في كتابه، وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتابه أهل العلم الأول، وأصحاب الحديث يضعفونه". وألحق بهذا الصنف رواة الشعر ومدونيه جماعة الصحفيين، الذين لم يكونوا يميزون بين الشعر، ويحملون كل ما يعطي لهم، من شعر غث أو زائف، وقد يصحفون في تدوينه، لعدم وجود علم لهم به، فهم ايضاً في جملة من أفسد الشعر.

و"ابن سلام" الجمحي، من علماء البصرة، وأكثر حملة الشعر البصريين يتحاملون عليه، عصبية منهم لمدينتهم، لانه من أهل الكوفة، وكان أهل الكوفة يغضون أيضاً من شأن رجال العلم البصريين ويتحاملون عليهم. وكل ينسب إلى خصمه التزييف ونحل الشعر على ألسنة الشعراء المتقدمين، وكل منهم يتهم الآخر بالتهمة التي يوجهها لخصمه من التزييف والجهل.

ولم يكن " ابن سلام" أول من نبه إلى وجود النحل في الشعر، ولم يكن هو أيضاً آخر من وضع رأياً في النقد، فتوقف الناس بعده. فقد سبقه الأعشى وغيره إلى هذا الرأي. ثم جاء بعده علماء كانت لهم آراء قيمة في هذا الشعر وفي شعرائه، نجدها مدونة في كتبهم، وفي الكتب التي اعتمدت عليه، وقد نبهت ملاحظات أولئك العلماء المستشرقين الذين ظهروا في القرن التاسع عشر فما بعد، فعمدوا إلى دراستها وتحليلها، واستنبطوا منها آرائهم التي أبدوها عن الشعر الجاهلي. وقد نبه "أبو العلاء" المعري إلى وجود الشعر المصنوع في رسالة الغفران وأشار اليه وشخص قسماً منه، وذكر اسم صانعيه في بعض الاحيان، فذكر الشعر المنسوب إلى "آدم" مثلاً: نحـــــــن بـــــــنـــــــو ألارض وســـــــكـــــــانـــــــــــــــهـــــــــــــــا  منـــهـــــــا خـــــــلـــــــقـــــــنـــــــا، والـــــــيهـــــــا نـــــــعـــــــود

والسعد لا يبقى لأصحابهوالنحس تمحوه ليالي السعودوقال على لسانه: "إن هذا القول حق، وما نطقه إلا بعض الحكماء، ولكني لم أسمع به حتى الساعة". 

ويقول "ابو العلاء" مخاطباً "آدم": "وكذلك يروون لك-صلى الله عليك- لما قتل "هابيل" "قابيل": تغيرت البلاد ومـن عـلـيهـا  فوجه الارض مغبـر قـبـيح

وأودى ربع أهليهـا فـبـانـوا  وغودر في الثرى الوجه المليح 

وبعضهم ينشد: وزال بشاشة الوجه المليح 

ثم يضع الجواب على لسان آدم، فيقول: "أعزز علي بكم معشر أبيني! انكمن في الضلالة متهكون!آ ليت ما نطقت هذا النظيم، ولا نطق في عصري وانما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوة إلا بالله! كذبتم على خالقكم وربكم، ثم على آدم ابيكم، ثم على حواء أمكم، وكذب بعضكم على بعض، ومآلكم في ذلك إلى الارض".

وسأل "المعري " "آدم" عن لسانه، ثم اجاب عنه بقوله: "انما كنت أتكلم بالعربية وأنا في الجنة، فلما هبطت إلى الارض، نقل لساني إلى السريانية، فلم انطق بغيرها إلى ان هلكت، فلما ردني الله-سبحانه وتعالى- إلى الجنة، عادت على العربية، فأي حين نظمت هذا الشعر: في العاجلة ام الآجلة?".

ثم تراه يتحدث عن الشعر المنسوب إلى الجن، والى اشعار أخرى، فتراه يردها وينتقدها، ويشير إلى وجود شعر مصنوع وضع على الإنس والجن. تراه يقول: "وكنت بمدينة السلام، فشاهدت بعض الوراقين يسأل عن قافية "عدي ابن زيد" التي اولها: بكر العاذلات في غلس الصب  ح يعاتبنه أما تـسـتـفـيق

ودعا بالصبوح فجراً، فجاءت=قينة في يمينها إبريق وزعم الوراق أن "ابن حاجب النعمان" سأل عن هذه القصيدة وطلبت في نسخ من ديوان عدي، فلم توجد. ثم سمعت بعد ذلك رجلاً من أهل استرباذ يقرأ هذه القافية في ديوان العبادي، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم". وقد تحدث "ابو العلاء" المعري في "رسالة الغفران" عن القصيدة التي أولها: الأمـا عـلـى الـمـمـطـرة الـمـتـــأبـــدة  أقـامـت بـهـا فـي الـمـربـع الـمـتـجـردة

مضـمـخة بـالـمـسـك مـخـضـوبة الـشــوى  بدر وياقـوت لـهـــا مـــتـــقـــلـــدة

كأن ثناياهاوما ذقت طعمهامجاجة نحل في كميت مبردة 

ليقرر بها النعمان عيناً فإنها  له نـعـمة، فـــي كـــل يوم مـــجـــددة

فقال إنها من الشعر المنحول، نحلت على النابغة ونسبت اليه. وقال على لسانه: "فيقول أبا أمامة: ما أذكر أني سلكت هذا القري قط. فيقول مولاي الشيخ زين الله أيامه ببقائه" إن ذلك لعجب، فمن الذي تطوع فنسبها اليك?فيقول إنها لم تنسب إلي على سبيل التطوع، ولكن على معنى الغلط والتوهم، ولعلها لرجل من بني ثعلبة بن سعد فيقول نابغة بني جعدة: صحنبي شاب في الجاهلية ونحن نريد الحيرة، فأنشدني هذه القصيدة لنفسه، وذكر انه من ثعلبة بن عكابة وصادف قدومه شكاة من النعمان فلم يصل اليه فيقول النابغة بني ذبيان: ما اجدر ذلك ان يكون !". فرد هذا الشعر، وانكر كونه من شعر النابغة، وبين باسلوب جميل رايه فيمن نحله عليه.

وتحدث عن الكلمة الشينية المنسوبة للنابغة الجعدي، التي يقول فيها: ولقـد أغـدو بـشـرب انـف  فبل ان يظهر في الارض ربش 

وعـنـا زق إلـى سـمــهة  تسق اللآكال من رطب وهـش

وبعد ان دونها قال: " فيقول نابغة بني جعدة: ما جعلت الشين قط رويا، وفي الشعر الفاظ لم ااسمع بها قط: ربش، وسمهة، وخشش".

وتراه يتحدث عن قصيدة نسبت للاعشى، فيقول على لسان سائل يسأل "اعشى قيس" في الجنة قوله: أمن قتله بالنـقـاء  دار غير محلولـه

كأن لم تصحب الحي  بها بيضاء عطبوله

أناة ينزل القوسـي  منها منظر هولـه

الىان يكمل القصيدة، ثم يقول: "فيقول اعشى قيس: ما هذه مما رصد عني، وانك منذ اليوم لمولع بالمنحولات".

وفي "رسالة الغفران" مواضع اخرى كثيرة تعرض فيها "المعري" لنقد الشعر، ولبيان الصحيح منه من الفاسد، تجعل الكتاب من الكتب الجيدة القديمة التي نبهت إلى وجود الصنعة والنحل في الشعر الجاهلي، والتي مهدت الجادة لمن جاء بعده من المستشرقين والمحدثيين فتكلموا عن هذا الموضوع بلغة الصعصر الجديد.

وما ذكره "المعري" في رسالته يمثل رايه وراي من تقدم عليه من علماء الشعر في مواضع النتحال في الشعر الجاهلي وفي نقد الشعر.

ونبه "الجاحظ" في كتبه إلى وجود شعر منحول، وقد نص عليه واشار إلى اسم من نسب له من ذلك قوله: " وفي منحول شعر النابغة: فألفيت الامانة لم تخنها=كذلك كان نوح لا يخون وليس لهذا الكلام وجه، وانما ذلك كقولهم كان داودُ لا يخون، وكذلك كان موسى لا يخون".

والنحل في الشعر ليس بأمر غريب، إذ وقع في غير الشعر كذلك، وقع ذلك طلباً للغريب وللنادر، "ذكر بعض مشايخنا رحمهم الله انه رأى مصحفاً منسوباً إلى أُبي خالف بعض حروفه حروف هذا المصحف، لكنا لا نأمن أن يكون ذلك من جهة بعض من يحب الافتخار بالغريب، فإن هذه بلية قد أضرت بالدين وأخلت بمصالح المسلمين، وطرقت الملحدين إلى الطعن في أركان الإسلام، وسهلت عليهم الشغب في أمره، وقد نرى من المفتئتين نواب الملوك، وعبيد أرباب الأموال، وأبناء الدنيا إذا لم يجدوا للقرآن وعلوم الدين عندهم موقعاً فيتقربون اليهم بغرائب الكتب، واذا أعوزهم الغريب الذي يستذرع به أخذوا بعض الكتب المعروفة يزيدون فيها وينقصون، ويقدمون ويؤخرون ويعنونونه بعنوان بعيد ليتسببوا بذلك إلى استخراج شيء منهم.

فعلى هذا النحو لا يؤمن أحدهم ان يعمد إلى مصحف فيقدم منه سوراً ويؤخر أخرى، ويحرّف ألفاظاً، ثم يزعم انه مصحف عليّ أو عبد الله أو مصحف أُبي، وليس غرض البائس من ذلك إلا أن يحمله إلى بعض الملوك فيقول: إنّ خزانة مثلك يجب ألا تخلو من نسخة من كل مصحف ليستخرج من حطامه شيئاً، و لا يبالي بما كان من جناية على الدين وأهله".

ولم يقع نحل الشعر عند العرب وحدهم، وإنما وقع عند غيرهم كذلك. فقد وقع عند اليونان وعند الرومان وعند الفرس والعبرانيين، وهو آفة لا تزال حيّة منهم من يضع على ألسنة المتقدمين، ومنهم من يسرق قول غيره فينسبه نفسه، وقد ضيقت وسائل النشر والإذاعة من سرقة آراء وأقوال الغير، وتسجيلها باسم سارق نسبها لنفسه، غير أن مشكلة تعيين أصول الشعر الجاهلي والنحل القديم، لا تزال من المشاكل المستعصية، لأن الوسائل الحديثة لا تتمكن من إحياء من في القبور واستنطاقهم عن المنحول والمسروق! وقد وضع "ابن سلام" قاعدة في كيفية قبول الشعر والأخذ به، فقال: "قد أختلف العلماء في بعض الشعر، كما اختلف في بعض الأشياء، أما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه"، وبقوله: "وليس لأحد، إذا اجتمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه، أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي". وقد أبدى ملاحظات قيمة في نقد الشعر، فأشار إلى المزيف منه، وأظهر تحفظاً في قبول بعض الأشعار، لأنها منتحلة، فلما تطرق إلى شعر "طرفة" قال فيه: وشعره مضطرب ذاهب، لا أعرف له إلا قوله: اقفر من أهله ملحوبُ  فالقطبيّات فالذنـوب

ولا أدري ما بعد ذلك". وذكر أن رواة الشعر وضعواً شعراً كثيراً على "طرفة" و"عبيد بن الأبرص"، وكانا من أقدم الفحول، وقد ضاع معظم شعرهما لذلك، فوضعوا عليهما الأشعار.

وأنكر أن يكون "النابغة" قد قال: فألفيتُ الأمانة لم تخنهـا  كذلك كان نوح لا يخون 

وذكر ان أهل العلم أجمعوا على انه لم يقل هذا الشعر، وله ملاحظات أخرى من هذا القبيل، تجدها في طبقاته، فقد شك في أكثر شعر "عبيد بن الأبرص"، ولم يلبث لديه من شعره إلا ثلاث قصائد.

وطريقة "ابن سلام" في قبول الشعر وفي صحته، هو إجماع علماء الشعر واجتهادهم، فإذا قرر علماء الشعر قبول شعر ووثقوا به وثبتوه، صار مقبولاً في نظره، لأنهم هم الذين يميزون بين الصحيح وبين الفاسد، "وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة، ولا ما وضعوا، و لا ما وضع المولودون". فالعلماء هم صيارفة الشعر يستطيعون نقده، واستخراج الزائف منه ورميه، وهو لا يبالي بعد ذلك بما روى "ابن اسحاق" وأمثاله من شعر "لاخير فيه ولا حجة في عربيته، و لا أدب يستفاد ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب: و لا مديح رائع و لا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسب مستطرف".

أما ما روي من شعر على ألسنة ملوك حمير وأقيال اليمن وأذوائها، فإن العارفين بالشعر الجاهلي وبأساليبه وبروايته، يرون انه شعر لا يطمأن إلى صحته، وضع على ألسنة من نسب اليهم. وقد رواه أناس من أهل اليمن، عرف معظمهم برواية القصص والأساطير، وعرف بعضهم بروايتهم القصص الاسرائيلي. أما المعروفون بأنهم حملة الشعر الجاهلي وروايته من القدامى، فلم يرووا شيئاً يذكر من ذلك الشعر. وأما رجال العلم بالنحو وبقواعد العربية، فلم يستشهدوا به في شواهدهم، مما يدل على ان لهم رأياً فيه. وقد ذكر أهل الأخبار ان ابن مفرغ يزيد بن ربيعة، وكان يزعم انه من حمير، وضع سيرة تُبَّع وأشعاره.

وكان أول من لفت الأنظار ومهد الجادة لمن جاء بعده من المستشرقين الراغبين في دراسة الشعر الجاهلي العالم الألماني "نولدكه" "Theodor Noldeke" في كتابه، "Beitrage zur Kenntniss der Poesie der Alten Araber" الذي طبعه سنة "1864 م". وقد تطرق في مقدمته إلى تأريخ ونقد الشعر الجاهلي، وإلى ما ورد عن مبدأ هذا الشعر، وعن ابتدائه بالرجز. وقد ذهب إلى أن هذا الشعر الجاهلي الواصل الينا، والمحفوظ في الكتب، لا يمكن أن يرتقي إلى أكثر من السنة "500" للميلاد. ثم تطرق إلى التطور الذي أحاق بالأفكار والآراء والمعاني الواردة في الشعر المقال في أيام الأمويين، فأبعده من هذه الناحية عن الشعر الجاهلي، فعزاه إلى الحياة الجديدة التي دخل فيها العرب في هذا العهد، والى التغير الروحي الذي ظهر بين العرب نتيجة خروجهم من البوادي ودخولهم أرضين خصبة، ذات عمران وحضارة، وهو تغير يفوق في نظره أثر الدين الجديد، أي الإسلام في العرب. فبينما كان الشعر الجاهلي، شعر بدوي، ظهر وترعرع بين الأعراب وفي البوادي، وكان أبطاله ورجاله، يراجعون الإمارتين الصغيرتين: امارة المناذرة وامارة الغساسنة، نرى هذا الشعر ينمو ويظهر في قصور الخلفاء والولاة والحكام، وهي كثيرة، فيها البذخ والمال والترف والنعيم، وحياة هذه طرازها لا بد وأن تؤثر على مشاعر الشاعر، فتجعل شعره يختلف في معانيه وفي شعوره عن معاني وشعور الشاعر الجاهلي، وان حاول الشعراء جهدهم المحافظة على القوالب الجاهلية للشعر، والتمسك بجزالة ذلك الشعر.

ثم تحدث في مقدمته هذه عن الصعوبات التي يواجهها المرء حين يريد فهم هذا الشعر، ثم أشار إلى عمل المستشرقين الذين سبقوه في نشر وترجمة ذلك الشعر إلى لغاتهم، ثم تحدث عن تضارب الروايات واختلافها في نصوصها وعن رواة الشعر الجاهلي، وعن تداخل الشعر بعضه في بعض في بعض الأحيان، بحيث يدخل شعر شاعر في شعر غيره، أو ينسب شعر شاعر لغيره، ثم عن تغيير وتحوير الأشعار المقالة بلهجات القبائل لجعلها موافقة للعربية الفصحى، وإن كانت هذه الفروق التي كانت بين اللهجات الشمالية لم تكن كبيرة عند ظهور الإسلام. وتحدث بعد ذلك عن الشعر الوثني وعن ورود أسماء الأصنام فيه، وعن تجنب الرواة ايرادها، أو تحويرها بعض التحوير. ثم تحدث عن تعمد الرواة نحل الشعر، وحمله على ألسنة الشعراء الجاهليين، وعلى ألسنة الماضين، وعلى ألسنة الجن والملائكة.

وتطرق أيضاً إلى رأي علماء العربية في الشعر الجاهلي، وفي المعلقات، ورأي "النحاس" فيها، ثم تحدث عن تصنيف علماء الشعر للشعراء إلى طبقات، وعن الأسس التي وضعوها في هذا التصنيف.

وبعد هذه المقدمة التي أخذت "24" صفحة من الكتاب، ترجم الصفحات الأولى من كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، إلى باب "العيب في الإعراب"، وانتهى منه بقول القائل: قل لسُليمـى إذا لاقـيتـهـا  هل تبلغنّ بـلـدة إلا بـزاد

قل للصعاليك لا تستحسـروا  من التماسٍ وسير في البـلاد

فالغزو أحجى مـا خـيّلـت  من اضطجاع على غير وساد 

لو وصل الغيث أبناء امـرئٍ  كانت له قبة سحـق بـجـاد

وبلدة مقفـرٍ غـيطـانـهـا  أصداؤها مغرب الشمس تنادّ

قطعتها صاحبـي حـوشـية  في مرفقيها عن الزور تعاد

ثم تطرق في كتابه إلى شعر يهود جزيرة العرب، ثم إلى شعر مالك ومتمم ابنا نويرة، فشعر الخنساء، ودوّن بعض النماذج من الشعر.

وقد تهيأت للمستشرقين الذين جاءوا بعد "نولدكه" موارد جديدة لم تكن معروفة في أيامه، بفضل جهود العلماء الذين بعثوها، بإخراجها مطبوعة، بعد ان كانت مخطوطة، قابعة في زورايا النسيان، بعيدة عن متناول اليد، فزاد علمهم بالشعر الجاهلي، وأحاطوا بما فات وخفي عن علم ذلك المستشرق الكبير العالم، وكوّنوا لهم آراءهم عنه، نشروها في مقدمات الدواوين ومجموعات الشعر التي أخرجوها، أو في كتبهم التي وضعوها في الأدب الجاهلي، وفي مقالاتهم التي نشروها في المجلات. وقد ترجمت بعض منها إلى العربية، ولخصت بعض منها، في الكتب العربية التي تناولت الأدب الجاهلي.

وللمستشرق "آلورد" "W. Ahlwardt" ملاحظات قيّمة عن الشعر الجاهلي من حيث الصحة والصنعة والإصالة.

وقد تعرض "بروكلمن" لموضوع الشعر المنحول، فأشار إلى أثر الرواية الشفوية في الوضع، والى موضوع التدوين وعدم وجوده في الجاهلية، وأثره في فقدانه على انتحال الشعر، ثم قال: " ومن ثم يعد خطأ من مرجليوث وطه حسين أن أنكروا استعمال الكتابة في شمالي الجزيرة العربية قبل الإسلام بالكلية، ورتبا على ذلك ما ذهبا اليه من أن جميع الأشعار المروية لشعراء جاهليين مصنوعة عليهم، ومنحولة لأسمائهم.

ولكن بديهياً أن الكتابة لم تقض قضاء كلياً على الرواية الشفوية. فقد كان لكل شاعر جاهلي كبير على وجه التقريب رواية يصحبه، يروي عنه أشعاره، وينشرها بين الناس، وربما احتذى آثاره الفنية من بعده، وزاد عليها من عنده.

وكان هؤلاء الرواة يعتمدون في الغالب على الرواية الشفوية و لا يستخدمون الكتابة إلا نادراً.

وعن الرواة كانت تنتشر الدراية بالشعر في أوساط أوسع وأشمل، بعد أن يذيع في قبيلة الشاعر نفسه. ولهذا لم يمكن التحرز عن السقط والتحريف، وإن لا حظنا أن ذاكرة العرب الغضة في الزمن القديم كانت أقدر قدرة لا تحدّ على الحفظ والاستيعاب من ذاكرة العالم الحديث.

ولم يبدأ جمع الشعر العربي إلا في عصر الأمويين، وإن لم يبلغ هذا الجمع ذروته إلا على أيدي العلماء في عصر العباسيين، بيد أن معنى التحري في وثوق الرواية، والتدقيق في النقل اللغوي على النحو الذي نعرفه في عصرنا هذا، كان أمراً غريباً بعد جماع ذلك العصر. ولما كان كثير من هؤلاء الجمّاع أنفسهم شعراء، فقد ظنوا أنه ليس من حقهم فقط، بل ربما كان واجباً عليهم أيضاً إذا يبالوا أيضاً بالوضع والاختراع لتوثيق رواياتهم. وقد أراد حماد الراوية أن يفسر تفوقه، والتفوق المزعوم لأصحابه الكوفيين في الدراية بالشعر القديم، فزعم أنه وجد الشعر الذي كتب بأمر النعمان ودفن في قصره الأبيض بالحيرة، ثم كشف في أيام المختار بن أبي عبيد.

لقد غير الرواة بعض أشعار الجاهلية عمداُ، ونسبوا بعض الأشعار القديمة إلى شعراء من الجاهلية الأولى، كما يمكن أن يكون وضع أشعار قديمة، منحولة على مشاهير الأبطال في الزمن الأول لتمجيد بعض القبائل، أكثر مما نستطيع اثباته.

على أنه بالرغم من كل العيوب التي لم يلعب إلا دوراً ثانوياً. وقد روى علماء المسلمين أشعاراً للجاهليين تشتمل على أسماء الأصنام وعبادتها، وإن أسقطوا أيضاً أبياتاً أخرى لشبهات دينية، وذلك في حالات يبدو أنها قليلة، لأن الشعور الديني لم يكن غالباً على نفوس العرب في الجاهلية".

وقد جاء المستشرق "كارلو نالينو" في محاضراته التي ألقاها بالجامعة المصرية في سنة 1910-1911 م، بشيء جديد في طريقة التحدث عن الأدب العربي من الجاهلية حتى عصر بني أمية، فقد عرضه عرضاً جميلاً واضحاً، مستعملاً ملاحظات أئمة العربية عنه، مع بيان ملاحظاته وآارائه فيه، وقد أحدثت محاضراته هذه أثراً في كيفية دراسة الأدب العربي، لا بمصر وحدها، بل في الأقطار العربية التي كانت تتابع ما يحدث في مصر من تطور ثقافي.

وهو وإن لم يأت في كتابه برأي جديد مثير، إذ كانت أفكاره وسطاً في الواقع بين القديم وبين الجديد، إلا ان طريقة عرضه لآرائه وأسلوبه في بحثه وفي تحدثه عن الشعراء، كانت طريقة جديدة غريبة بالنسبة لدارسي الأدب العربي في ذلك الوقت، ولدت شوقاً في نفوس الدارسين للأدب العربي في ذلك الوقت إلى السير على الطريقة الغربية في نقد الأدب وفي تقبله وتحليله، وأولدت الشك في الوقت نفسه في الروايات القديمة المروية عن الأدب العربي، التي كان يتمسك بها القدماء تمسكهم بنصوص كتاب سماوي مقدس، باعتبار انها روايات تتعلق بالماضي وبالتراث. ومن التجني على العربية والإسلام التعرض لها بأي سوء، وفي جملة ذلك الشك في صحتها والنيل منها وإلحاق الأذى بها.

وتطرق المستشرق الانكليزي "مركليوث" في بحثه: "أصول الشعر العربي" "The Origins of Arabic Poetry" إلى الشعر الجاهلي، وقد ذهب إلى ان أكثر هذا الشعر منحول، صنع في الإسلام ووضع على ألسنة الجاهليين. وقد أورد فيه الأدلة والبراهين التي استدل بها على إثبات رأيه. وقد لخصت ىراؤه هذه ونقلت إلى العربية، فلا أجد حاجة إلى البحث عنها، ما دام غيري قد سبقني إلى هذا العمل.

وقد رأى بعض المستشرقين ان علماء اللغة أدخلوا تغييراً على نصوص الشعر الجاهلي، لما وجدوا ان قواعدها لا تتفق مع القواعد التي استنبطوها من القرآن والحديث، أي من لغة قريش، ولذلك عدّلوها ليكون إعرابها ملائماً لما وضعوه من قواعد النحو. وهو رأي يتناقض مع رأي المستشرقين القائلين بأن القرآن انما نزل بلغة عربية مبينة كانت فوق اللهجات وفوق اللغات، ولم ينزل بلهجة قريش، ورأيهم ان ما ورد من زول القرآن بلسان قريش، انما هو را] ظهر في الإسلام، ظهر ببروز النزاع الذي كان بين الأنصار والمهاجرين، أدى إلى التعصب لقريش والى تقديمهم على كل العرب بحجة ان الرسول منهم، وانه ولد بينهم، فيجب أن تكون لغته لغتهم، وان يكون نزول الوحي بلسانهم، فهو رأي برز عن نوازع دينية وسياسية، مجدت قريشاً، لأن في تمجيدهم تمجيد على رأيهم لرسالة الإسلام.

ونظرية وقوع االتعديل و التغيير والاصلاح في أصول الشعر الجاهلي، رأي قال به علماء العربية قبل المستشرقين، إذ نجد في كتبهم إشارات إلى تعديل أو تهذيب أو تغيير أحدثه "أبو عمرو"، أو "الأصمعي" أو غيرهما على لفظة أو بيت، لاعتقادهم بعدم انسجام أصل ما غيروه مع المعنى أو مع قواعد اللغة، أو لمخالفته للعروض، أو لوقوع تصحيف، فصححوا ما صححوه، بدافع عدم إمكان صدوره من شاعر جاهلي قديم. وفي رسالة الغفران، لأبي العلاء المعري، أمثلة كثيرة على ذلك، وقد خطأ الاقدام على التعديل، ودافع عن وقوع الزحاف والإقواء في الشعر الجاهلي، معتبراً ذلك شيئاً لم يكن عيباً في الشعر عند الجاهليين، لأنه كان أمراً مألوفاً عندهم، وقد ذكرت رأيه في مواضع من هذا الكتاب.

وتتبع المرحوم "مصطفى صادق الرافعي"، ما جاء في التراث العربي عن الأدب العربي، فدوّنه في كتابه "تأريخ آداب العرب" تدويناً يدل على إحاطة جيدة بما جاء في كتب الأسلاف من أخبار عن الشعر وأصحابه وعن انتحاله والعوامل التي دعت إلى الغش فيه، وإدخال ما ليس منه فيه، وقد خالف رأي من قال بتعليق "المعلقات"، ومخالفته هذه تعّد فتنة بالنسبة لرواد الشعر وللمعجبين به بالنسبة لذلك اليوم. ويعّد كتابه من الكتب القيمة المدوّنة بالعربية بالنسبة لتلك الأيام، فهو رصين حوى خلاصة ما ذكره السلف عن أدب العرب، وإذا نظرنا إلى عمره يوم ألفه والى أسلوب دراسته، نجد أنه كان من نوادر المؤلفين في ذلك العهد.

وأحدث كتاب الدكتور "طه حسين": "في الشعر الجاهلي" رجّة عنيفة في مصر وفي البلاد العربية الأخرى، لما جاء فيه من آراء خالفت المألوف والمتعارف عليه عند علماء العربية آنذاك الذين كانوا يسيرون على الجادة القديمة في دراسة أدب العرب، ولما تضمنته من عبارات اعتبرت نابية فيها تهجم على المقدسات. فشكي إلى الحكومة، ورفع أمره إلى القضاء، فكان أن غير عنوانه بعض التغيير فصار: "في الأدب الجاهلي"، وحذف منه فصل، وأثبت مكانه فصل، وأضيفت اليه فصول. وقد لقي الكتاب نقداً شديداً في مصر وفي خارجها، من جانب المحافظين الحروفيين، إذ رأوا فيه هدماً للتراث العربي وللمألوف المتوارث، بينما لقيّ قبولاً حسناً من جانب الشباب والجيل الجديد، الذين تأثروا بالمؤثرات الثقافية الحديثة وأخذوا يجاهرون بنقد الأوضاع القائمة الجامدة، وسرعان ما دخل هذا النقد ميدان العراك الذي كان قد وقع آنذاك بين المحافظين وبين المصلحين الذين كانوا يدعون إلى اصلاح المجتمع بصورة عامة وإيقاظ العقل من سباته، والذين كانوا ينادون بإصلاح كل ما يخص هذه الحياة من مادة وروح.

ووجود شعر جاهلي منحول، أو وجود شعر منحول، صنع وصيغ على ألسنة الجاهليين بتعبير أصح، قول لا يتخلف فيه أحد، لا يختلف فيه علماء العربية عن المستشرقين، و لا القدماء عن المحدثين، و لا المحافظون المتزمتون عن المدعين بالتقدمية والتجديد، فكلهم مجمعون على وجوده، وكل منهم أثبت وجوده بطرقه وبأساليبه التي كانت متبعة في زمانه في طرق النقد، فهم في هذه القضية متفقون تماماً و لا خلاف بينهم فيه، اللهم إلا في شيء واحد، هو: سعة حجم المصنوع بالنسبة إلى حجم الصحيح من الشعر، فمنهم من يزيد في نسبة حجم المصنوع حتى يغلبه على الصحيح، بل يجعل الصحيح منه شيئاً ضئيلاً، بالنسبة اليه، ومنهم من يقلل هذه النسب إلى درجات قد يصيرها بعضهم دون الشعر الصحيح بكثير.

وأول أسباب نحل الشعر: العصبيات التي عبر عنها "ابن سلام" بقوله: "قال ابن سلام: فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم، ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار". من ذلك ما فعلته "قريش"، الذين كانوا -كما يذكر أهل الأخبار-أقل العرب شعراً وشعراء، فلما نظروا فإذا حظهم من الشعر قليل في الجاهلية، استكثروا منه في الإسلام.

ومن هذا القبيل ما نسب إلى قدماء أهل اليمن من شعر، وما أضافوه من شعراء وشعر، فجعلوا للتبابعة شعراً فيه تبجح بأعمالهم وبما قاموا به من فتوح هزت الدنيا في يومها امتدت من أقصى طرف من الأرض إلى أقصى طرفها الآخر من "الصين" إلى "روما"، والى آخر المعمور الممتد على البحر المظلم، وفيه إيمان بالله وبملائكته، وتبشير بظهور الرسول، وأسف شديد لأنهم ولدوا قبل زمانه، فلم سيسعدعم الحظ بإدراكه، وهم لو أدركوه لكانوا أول المؤمنين به، وأول المدافعين عنه، وحيث حرموا من هذه النعمة، نعمة ملاقاته لإعلان إيمانهم به أمامه، فهم يدعون من يأتي بعدهم ممن سيدرك أيامه إلى الذبّ عنه والدخول في دينه. فيقول "الرائش" منهم، وهو "الحارث"، في شعر له، ذكر فيه من يملك منهم ومن غيرهم: ويملك بعدهم رجل عظـيم  نبي لا يرخص في الحرام 

يُسمّى أحمداً يا ليت أنـي  أعمر بعد مخرجه بعـام

وإذا عرفت أن هذا "الرائش"، كان قد حكم قبل "بلقيس"، وبلقيس معاصرة "سليمان" على زعم أهل الأخبار، وقد كان حكم "سليمان" في حوالي السنة "969" قبل الميلاد، أدركت كم سيكون إذن عمر هذا الشعر المنسوب إلى "الحارث" الرائش، الذي لقب بهذا اللقب، لأنه كان أول من راش الناس، أي أول من غزا من أهل اليمن، وأول من أصاب الغنائم والسبي، وأدخلعا اليمن، فراش الناس.

وبالمعنى المتقدم نطق "التبع": "تبع بن كليكرب"، حيث قال: شهدتُ على أحمـد انـه  رسولُ من الله باري النسم 

فلو مُدّ عمري إلى عمره  لكنت وزيراً له وابن عم

ولم يكتف أهل الأخبار بكا هذا، بل زعموا انه كان كسا البيت وانه قال في ذلك: وكسوت بيت الله غير كسائه  حذر العقاب ليرحم الرحمن

ومقالة الحبرين واليوم الـذي  يتلى الكتاب وينصب الميزان 

وزعموا ان التبع "تبع بني حسان"، أو "تبع الأوسط" كسا البيت الحرام وأطعم الناس بمكة، وقوّلوه هذا البيت: فكسونا البيتَ الذي حرم الل  ه ملاءً معضـداً وبـرودا

فالتبابعة هم أول من كسا البيت، وأول من آمن بالله وبرسوله، كانوا مسلمين قبل ظهور الإسلام، وقبل ميلاد الرسول بعشرات المئات من السنين.

ونسبوا لذي جدن الحميري الملك شعراً، ذكر فيه الموت، حيث يقول: لكل جنبٍ اجتبي مضطجـع  والموت لا ينفع منه الجزع

اليوم تجزون بأعمـالـكـم  كلُّ امرئ يحصد مما زرع

لو كان شيء مفلتاً حتـفـه  أفلت منه في الجبال الصّدع 

ونسبوا له أشعاراً أخرى. وذو جدن من أذواء اليمن، والأذواء بعضهم ملوك وبعضهم أقيال، والقيل دون الملك، والمقِوَل: القيل أيضاً بلغة أهل اليمن. وقد ذكر صاحب "خزانة الأدب" أسماء عدد من الأقيال. فذو جدن هذا شاعر، متفاسف يذكر الناس بالموت وبما بعد الموت، حيث تجزى كل نفس بما كسبت، ويحصد كل امرئ ما زرعه بيديه في دنياه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشرّ، ولن يفلت أحد من الموت، وهيهات له ذلك.

ونجد في شعر التبابعة أشعاراً في الحكم وفي الحث على مكارم الأخلاق، وفي حروبهم وفتوحاتهم التي تشبه فتوحات الإسكندر والفتوحات الإسلامية فيما بعد، فتوحات سبقت الفتوحات الإسلامية بمئات من السنين، حاول صانعوها المبالغة فيها، حتى صيروا الفتح الاسلامي وكأنه ذيل لتلك النتوج القحطانية التي زرعت "حمير" في الصين وفي تركستان، صنعوا ذلك في الإسلام، لما تبجح عليهم العدنانيون بالإسلام وببلوغه الصين والمحيط الأطلسي.

وذكر أن الشاعر "يزيد بن ربيعة بن مفرغ" الحميري، كان ممن أذاع أسطورة "تبع"، وكان يتعصب إلى اليمن، ولعله هو الذي وضع أكثر الشعر المنسوب إلى "التبابعة"، وكان "عبيد بن شربة" الجرهمي، ممن صنع الشعر على ألسنة التبابعة وغيرهم، وأضافه اليهم. ونجد في كتاب صفة جزيرة العرب للهمداني وفي الإكليل، وهو من كتبه أيضاً، شعراً كثيراً يرويه علىى أنه من شعر التبابعة، ومن شعر عاد وثمود، وسادات حمير، وهو مصنوع من دون شك، صنعه المتعصبون لليمن من اليمانية، وقد كانت العصبية قد أخذت مأخذها في الإسلام. والهمداني نفسه من المتعصبين لليمن قبله. وأدخله في كتبه دون أن يُسائل نفسه عن كيفية وصول ذلك الشعر من أفواه قائليه اليه، مع بعد الزمن وتقادم العهد، وتكلم أهل اليمن في القديم بكلام لا يشلبه كلام الشعراء.

ويدخل في هذه العصبية الشعر المنسوب الىالشعراء في هجاء قحطان أو عدنان أي في هجاء القحطانية أو العدنانية بتعبير أدق، من ذلك القصيدة التي صنعوها على لسان "الأفوه الأودي" الشاعر الجاهلي، الذي هو من "مذحج"، ومذحج من اليمن، التي أولها: إن ترى رأسي فيه نزع  وشواي خلة فيها جوار 

وهي قصيدة فيها هجاء لبني نزار ولبني هاجر، صنعت و لا شك في الإسلام. وقد زعم ان النبي نهى عن روايتها. واذا كانت القصيدة مصنوعة، أو ان أبيات الهجاء منها مصنوعة على الأقل، كان حديث النهي عن روايتها مصنوعاً أيضاً، لأن هذا الصنع انما وقع في الإسلام.

ومن فرسان العصبية اليمانية الشاعر "حسان بن ثابت"، فقد كان من المتحاملين على قريش، ومن المتعصبين ليثرب ولليمن على قريش ومعدّ. مع ان الرسول نهى عن أمر ااجاهلية، فكان يجالس قريشاً وهو في اسلامه، وينشد الناس ما قالته الأوس والخزرج في قريش ليشفي بذلك غليله. وكان الخليفة "عمر" قد نهى أن ينشد الناس شيئاً من شعر الهجاء الذي كان بين الأنصار ومشركي قريش حذر تجديد الضغائن، ومع ذلك فإن عصبية حسان لمدينته ولليمن كانت تدفعه على مخالفة ما أمر به.

ومن هذا القبيل ما فعلته قريش بشعر حسان. فقد "حمل عليه مالم يحمل على أحد، لما تعاضهت قريش، واستبت، وضعوا عليه أشعاراً كثيرة لا تليق به"، وقد وضعت قريش وأشياعها المتعصبون للعدنانية أشعاراً أخرى على ألسنة بقية شعراء يثرب، أرادت من وضعها الحط من شأنهم، وإلحاق السخف والركة بشعرهم وبهم، وفعل غيرهم فعلهم في إضافة الشعر إلى من كانوا يكرهونه، للنيل منه، فنسبوا اليهم شعراً سخيفاً مشيناً، أو فيه تحامل وقدح على بعض الناس، للإساءة اليهم بظهور هذا الشعر وانتشاره.

وقد ذكر "ابن سلام" أن "قدامة بن عمر بن قدامة" الجمحي، نحل شعراً على "أبي سفيان بن الحارث" للنيل منه، وأن قريشاً تزيد في أشعارها تريد بذلك الأنصار والردّ على حسان. وورد أن "قتادة بن موسى" الجمحي هجا "حسان بن ثابت" بأبيات ونحلها "أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب".

وكان الأنصار يقظون، واقفون لقريش بالمرصاد، وكانت قريش يقظة كذلك، إذا سمعت شاعراً مدح الأنصار ولم يمدحها استاءت منه. فلما قدم "كعب بن زهير" يثرب معتذراً عن كفره، معلناً إسلامه أمام الرسول، مدح قريشاً وعرّض بعض التعريض بالأنصار لغلظتهم كانت عليه، تجهمته الأنصار وغلظت عليه، ولانت له قريش، غير أنها لم ترض عن مدحه، إذ وجدته قليلاً، وأنكرت عليه ما قال، إذ قالت له: " لم تمدحنا إذ هجوتهم، ولم يقبلوا ذلك"منه. ولما قدم "الحطيئة" المدينة أرصدت له قريش العطايا، فعلت ذلك ليخلص لها في المدح، وليصرف مدحه عن الأنصار.

وندخل في هذه العصبية، العصبية إلى البيوتات، فقد كان قوم "سعيد بن العاص بن أمية" يذكرون أن "سعيداً" كان إذا اعتم لم يعتم قرشي إعظاماً له، وينشدون: أبو أحيحة من يعّتـم عِـمّـتـه  يُضرّبٌ وإن كان ذا مال وذا عددِ 

ويذكر "الزبيريون" ان هذا البيت باطل مصنوع.

ولم تتورع العصبية والخصومات من الكذب عمداً على الناس ومن الطعن في الأنساب. فلما اعترض "مزرد" أخو الشمّاخ، وكان عريضاً، "كعب بن زهير" عزاه إلى "مزينة"، وكان "أبو سُلمى" وأهل بيته في "غطفان"، فقال كعب بن زهير شعراً يثبت انه من مزينة، " وقد كانت العرب تفعل ذلك، لا يعزى الرجل إلى قبيلة غير التي هو منها، إلا قال: أنا من الذين عنيت. كان أبو ضمرة يزيد بن سنان بن أبي حارثة لاحي النابغة فنماه إلى قضاعة"، فقال شعراً يثبت أنه منها. وهناك أمثلة عديدة من هذا القبيل، أدت إلى وقوع النسابين في أخطاء بسبب هذه الأكاذيب.

وقد ساهم الخلفاء الأمويون في هذه العصبية، ساهموا حتى في التزام العلماء والشعراء. "جمع سليمان بن عبد الملك بين قتادة والزهري، فغلب قتادة الزهري، فقيل لسليمان في ذلك، فقال: انه فقيه مليح. فقال "القحذمي": لا، ولكنه تعصب للقرشية، ولانقطاعه كان اليهم، ولروايته فضائلهم".

وكان "معاوية" يتعصب لليمن على قيس، وذلك بسبب زواجه من "كليبة"، مع أنه من عدنان. حتى صار من فرط تعصبه لليمن لا يفرض إلا لهم، ولم يزل كذلك حتى كثرت اليمن وعتزت قحطان، وصعفت عدنان، فبلغ معاوية أن رجلاً من اليمن قال: هممت أن لا أحل حبوتي حتى أخرج كل نزاري بالشام، ففرض من وقته لأربعة آلاف رجل من قيس. وكان معاوية يغزي اليمن في البحر وتميماً في البر، وفي ذلك يقول "النجاشي" شاعر اليمن: ألا أيها الناس الذين تـجـمـعـوا  بعكا انـاس أنـتـم أم أبـاعـر

أيترك قيسـاً آمـنـين بـدراهـم  ونركب ظهر البحر والبحر زاخر 

فوالله مـا أدري وإنـي لـسـائل  أهمدان تحمي ضيمها أم يحابـر

أم الشرف الأعلى من اولاد حمير  بنو مالك أن تستمـر الـمـرائر

أأوصى أبوهم بينهم أن تواصلـوا  وأوصى أبوكم بينكم أن تداابـروا

فرجع القوم جميعاً عن وجوههم، فبلغ ذلك معاوية، فسكن منهم. وقال: أنا اغزيكم في البحر لأنه أرفق من الخيل وأقل مؤؤنة، وأنا اعاقبكم في البر والبحر ففعل ذلك.

وأوجدت هذه العصبية كثيراً من الشعر المصنوع، روي على انه من شعر التابعية، صنع ولا شك في الإسلام، حين بلغت العصبية العدنانية والقحطانية ذروتها في أيام الأمويين فما بعد. فلما نظر اليمانيون إلى أنفسهم، واذا بالحكم لغيرهم. وقد كانت لهم دولة قبل الإسلام، ثم إذ بهم يحكمهم من كان دونهم في الجاهلية، أخذتهم العزة، ودفعتهم العصبية على الاحتماء بالماضي، وإعادة ذكرياته، وما كان لهم من مآثر، ولاجل توكيد ذلك وتثبيته، لجأوا إلى الشعر، ولم يكن لهم شعر في الجاهلية بهذه العربية التي نعرفها، لأنها لم تكن في عربيتهم، فصنعوا شعراً كثيراً بهذه العربية، نسبوه إلى التبابعة، وأرتفعوا به إلى عهود جاوزت الحد المألوف الذي حدده علماء الشعر، لتأريخ ظهور "القصيد" عند الجاهليين، تجد الكثير منه مدوناً في الكتب التي تتعاطف مع اليمانية، مثل كتب الهمداني، ونشوان بن سعيد الحميري.

ولما كان هذا الشعر هو في ذكريات أيام اليمن الماضية واحوالها القديمة، وفي أخبار ملوك حمير وأعمالهم، اتخذ أسلوب القص والفخر، فكثرت أبيات القصائد أحياناً، وارتبطت الابيات في المعاني بعضها ببعض، نظراً لاقتضاء طبيعة القص والاساطير ذلك، وهو يفيدنا من ناحية الوقوف على الاساطير اليمانية القديمة التي أوجدتها مخيلتهم عن تأريخهم القديم، وفي تطور أسلوب القص في الشعر.

ويظهر من عبارة "الامدي": "وهي ابيات تروى لامرئ القيس بن حجر الكندي، وذلك باطفل، إنما هي لامرئ القيس الحميري، وهي ثابتة في اشعار حمير"، انه قد كان لحمير ديوان فيه أشعارهم، أو ان قوماً منهم أو من غيرهم جمعوا شعر حمير، وإذا كان الامر كذلك، فلا بد ان يكون هذا الجمع قد وقع في الإسلام، وأن ما فيه من شعر جاهلي، هو من الشعر المصنوع.

ومن العصبيات عصبية قريش على ثقيف. فقد كانت قريش وبين ثقيف خصومة، بسبب طمع أهل مكة في الطائف، وشارء سادات قريش الملك في الطائف لاستغلاله، مما جعل ثقيفاً يكرهون أهل مكة، ثم عامل اخر، ظهر في الإسلام، هو كره أهل العراق للحجاج، مما جعلهم يذمونه ويذمون ثقيفاً معه. فزعموا أن قومه من بقايا ثمود، وذلك في أيام الحجاج. "رووا أن الحجاج قال على المنبر يوماً: تزعمون انا من بقايا ثمود، وقد قال الله عز وجل: وثموداً فما ابقى". وذكر "الجاحظ"، زعم الناس هذا في أصل ثقيف، وذكر أن ثمود كمثل "بني الناصور"، فقد هلكوا في الجاهلية، كما هلك غيرهم من الأمم البائدة، وذكر أن هناك من قال إن أصل "بني الناصور" من الروم.

وقد وجدت العصبية مرتعاً خصباً بين الموالي والعبيد، فساهموا فيها أيضاً. فلما رأى "جرير" "الحَيُقطان" يوم عيد في قميص أبيض وهو أسود، قال: كأنه لمـا بـدا لـلـنـاس  أير حمار لُفّ في قرطاس 

فلما سمع بذلك "الحَيقطان" وكان باليمامة، دخل إلى منزله فقال شعراً افتخر فيه بالنجاشي وبالسودان، وبلقمان وبأبرهة وذم قريشاً ومضرَ، وتحامل عليهما، ففرحت اليمانية به، وأخذت تحتج به على العدنانية، واحتج بها العجم والحبش على العرب.

ويلاحظ ان الحبش قد تعصبوا أيضاً على العرب في الإسلام، وتفاخروا بملوكهم وبأبرهة، وقد كان لازدراء الأغنياء لهم، وتسخير أصحاب المال لهم في أداء الأعمال الحقيرة، ونظرتهم اليهم نظرة ازدراء وتحقير، فلم يصاهروهم، ولم يروا انهم أكفاء لهم، مثل العجم على الأقل، أثر في إثارة هذه الضغينة في نفوسهم وفي وقوفهم موقف الضد من العرب. وقد تعرض "الجاحظ" لذلك، فقال: " وقد قالت الزنج: من جخلكم انكم رأيتمونا لكم أكفاء في الجاهلية في نسائكم، فلما جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسداً". ثم روى على لسانهم ما قاله بعض الشعراء مثل النمر بن تولب، ولبيد من مدح أبرهة، ثم أعقب ذلك بذكر من برز وظهر من الزنوج.

ومن أسباب النحل دوافع نشأت عن عاطفة دينية، رأت أن في نحل الشعر على ألسنة الجاهليين، عملاً ليس فيه ضرر ولا اساءة، بل فيه منفعة من ناحية التوعية الدينية والحث على التدين والتزهد، وعمل الخير والإيمان بدين الله، فروت الأشعار على ألسنة المتقدمين في التبشير بظهور الرسول، قبل ميلاده بأمد، وفي الحث على نبذ الوثنية والإيمان بإله واحد. نظم على لسان القحطانيين وعلى لسان العدنانيين، الذين عاشوا قبل الإسلام، كما نظم على ألسنة الجن والهواتف والكهنة.

ومن هذا القبيل ما قيل من شعر في التوحيد وفي الذب عن الإسلام على لسان "أبي طالب" وغيره، وفي مدح قريش، وجعلها القبيلة المختارة التي اصطفاها الله من بين سائر العرب ففضلها على العالمين، بأن جعلها الصفوة، وجعل لسانها اللسان الذي نزل به القرآن، فعل أصحاب الصنعة ذلك لنوازع مذهبية، ولعصبية قبلية سياسية، ذات صلة بالعواطف الدينية، فلم يكن يهن على أهل يثرب مثلاً التسليم بسيادة قريش عليهم، فكان ما كان من وضع قريش الحجج التي تؤيد قريشاً في الجاهلية، وتجعلهم أفضل العرب على الاطلاق، وما كان الأنصار ليقبلوا ذلك بالطبع، فأوجد صناعهم فخراً وسبقاً لهم على قريش، بأن قالوا إنهم الأنصار وأنهم نصروا رسول الله منذ سمعوا بالإسلام، فلما سمع "أبو قيس بن الأسلت" وهو من الأوس، مقالة "أبي طالب": ولما رأيت القوم لا ودّ فـيهـم  وقد قطعوا كل العرى والوسائل 

حين أرادوا منه تسليم النبي، أرسل اليهم قصيدة ينهى فيها قريشاً عن الحرب، ويأمرهم بالكفّ عن رسول الله، إذ يقول: يا راكباً أما عرضت فبلغن  مغلغة عني لؤي بن غالب 

وهي قصيدة طويلة دوّنها "ابن هشام" في سيرته، إذا قرأتها خرجت منها ان صاحبها انما أراد من صنعها على لسان "ابن الأسلت" إظهار ان أهل يثرب كانوا أول من دافع عن الرسول والاسلام، وانهم كانوا أول المؤمنين به، إذ كفرت قريش بدين الله. مع انه مات مشركاً، ولم يثبت انه دخل في الإسلام.

والقصيدة بعد من صنع أناس من الأنصار، لعلهم كانوا من صلبه، وجدوا ان من السهل وضع الشعر على لسانه، فقد كان شاعراً معروفاً، وكان من سادة يثرب ومن الوافدين على مكة، وله فيها أصحاب ودالة، وفي صنع هذا الشعر فخر للأنصار عظيم، فنسبوا له تلك القصيدة، وجعلوها جواباً لاستغاثة "أبي طالب" في قصيدته التي قال ما قال فيها في حق قريش وفي تعنتها تجاه الرسول والاسلام.

ومن هذا القبيل، تطويلهم القصيدة المنسوبة إلى أبي طالب التي قيل انه قالها في النبي، وهي: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه  ربيع اليتامى عصمة للأرامل 

فقد زيد فيها وطولت، بحيث صار لا يعرف أين منتهاها. وقد أورد ابن هشام اشعاراً نسبها إلى "ابي طالب" منها قصيدته التي رد فيها على قريش حين عرضت عليه تسليم النبي لهم، على اين يعطوه في مقابله "عمارة بن الوليد"، وقد دونها "ابن هشام" وذكر انه ترك منها بيتين أقذع فيهما. ومنها قصيدته: ولما رأيت القوم لا ود فـيهـم  وقد قطعوا كل العرى والوسائل 

وهي قصيدة طويلة، قال عنها "ابن هشام": "وبعض أهل العلم ينكر أكثرها".

ومن هذا القبيل ما وضع من شعر في الاحداث التي وقعت بين المسلمين والمشركين في أيام الرسول، مثل معركة بدر، وبقية المعارك. فقد وضع الناس شعراً كثيراً على لسان المسلمين والمشركين، ونجد "ابن هشام" يقول في تعليقه على شعر لأبي أسامة معاوية بن زهير، وكان مشركاً، وقد مر بهبيرة بن أبي رهم، وهو منهزم: "وهذه اصح أشعار بدر"، ونجد "ابن هشام"، يعلق ويصحح ويشكك في صحة بعض هذا الشعر الذي اخذه من "ابن اسحاق"، وقد طعن على "ابن اسحاق"، لأنه أخذ مثل هذا الشعر فأدخله في السيرة، مع انه شعر مصنوع.

ومن هذا القبيل ما روي من أن امرأة من حضرموت ثم من "تنعة" صنعت لرسول الله كسوة، ارسلتها مع ابنها "كليب بن أسد بن كليب" إلى رسول الله، فأتاه بها واسلم، فدعا له، فقال حين اتى النبي: من وشز برهوت تهوى بي عذافرة  اليك يا خير من يحفى وينتـعـل

تجوب بي صفصفاً غبراً مناهلـه  تزداد عفواً إذا ماكـلـت الإبـل

شهرين أعملها نصاً علـى وجـل  أرجو بذاك ثواب اللـه يا رجـل

أنت النبي الذي كـنـا نـخـبـره  زبشرتنا بك التـوراة والـرسـل

والذي نعرفه أن لسان أهل حضرموت لم يكن في هذا العهد على هذا البيان والعربية، وإنما على عربية حضرموت، ولا ادري إذا كان هذا الرجل يعرف شيئاً عن التوراة والرسل، أو سمع بأسم التوراة وبالرسل حتى يذكرها ويذكر رسل الله في هذا الشعر.

ومن هذا النوع ما روي من شعر الجن والهواتف: من مثل الشعر المبشر بقرب ظهور نبي، كما في قصة: "راشد بن عبد ربه" السلمي التي رواها عن سبب اسلامه، وما سمعه من هاتف يصرخ من جوف الصنم، بظهور نبي، أو من شعر آخر، قيل على السنة الجن، في أغراض مختلفة وهو كثير، من ذلك قولهم: وقبر حرب بمكان قـفـر  وليس قرب قبر حرب قبر 

وقائله مجهول. فلما رأوا ان من الصعب إنشاده ثلاث مرات في نسق واحد فلا يتتعتع ولا يتلجلج، قيل لهم انه من شعر الجن. فصدقوا بذلك.

وذكر أهل الاخبار اسم شاعر من الجن، قالوا له: "مالك بن مالك" الجني، فقد زعموا ان "خريم بن فاتك" الاسدي، خرج في بغاء إبل له، فأصابها بالابرق، فقال: اعوذ بعظيم هذا الوادي، فأذا هاتف يهتف: ويحك عذ بالله ذي الجلال  منزل الحلال والحـرام

فقال خريم: يا أيها الداعي فما تحيل  أرشد عندك أم تضليل

فقال الهاتف: هذارسول الله ذو الخيرات  جاء بياسين وحماميمـات

محرمات ومـحـلـلات  يأمرنا بالصوم والصـلاة

فقال خريم: من أنت يرحمك الله?فقال: أنا مالك بن مالك، بعثنر رسول الله على جن أهل نجد.

وروى أهل الاخبار شعراً لشاعر آخر من الجن اسمه، "مالك بن مهلهل بن إياد" ويقال "دثار"، زعموا انه أحد من أسلم من الجن، رووا له قصة مع "رافع بن عمير"التميمي المعروف ب"دعموص الرمل"، لأنه كان اعرف الناس لطريق وأسراهم بليل، وأهجمهم على هول، وقعت له برمل عالج، لما قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن أن أوذى أو اهاج. فهتف به هذا الجني الشاعر، وأمره أن يذهب إلى يثرب، ليسلم أمام الرسول.

ومن ذلك ما روي من حديث عن "قس بن ساعدة"، وما رواه صاحب الحديث من صوت هاتف يقول: يا أيها الراقد في الليل الأحم  قد بعث الله نبياً في الحـرم

من هاشم أهل الوقار والكرم  يجلو دجنات الليالي البهـم

ثم قول صاحب الحديث للهاتف: يا أيها الهاتف في دجى الظلم  أهلاً وسهلاً بك من طيف ألم 

بين هداك الله في لحن الكلـم  من الذي تدعو اليه تغتـنـم

ثم جواب الهاتف عن سؤاله بقوله: الحـمـد لـلـه الـذي  يخلق الخلق عـبـث

ولـم يخـلـنـا سـدى  من بعد عيسى واكترث 

أرسل فـينـا أحـمـدا  خير نبي قـد بـعـث

صلى عليه الـلـه مـا  حج له ركـب وحـث

وللجن أشعار، ولها مع الإنس حوار. وللأعراب خاصة في الجن قصص وحكايات، وقد ذكر "الجاحظ" أن الاعراب يتزيدون في هذا الباب. والحديث عن الجن من الاحاديث التي يميل لسماعها الناس لما فيها من غريب وطريف واختراع، مالوا إلى سماعها في الجاهلية وفي الإسلام، ونجد لأبي المطراد "المطراب" "عبيد بن أيوب" العنبري، وهو شاعر اسلامي، وكان لصاً قد جنى جناية فنذرالسلطان دمه وخلعه قومه، قصص واشعار كثيرة عن الجن والوحوش. اخبر "في شعره انه يرافق الغول والسعلاة، ويبايت الذئاب والافاعي، ويأكل مع الظباء". ونجد في كتاب "الحيوان" وفي كتب الاخبار والأدب والسير، طرف من أشعار الجن والغيلان والسعالي، وطرف من أخبارهم وأحاديثهم مع اللإنس.

ومن هذا القبيل ما نسب إلى "جذع بن سنان" من شعر زعم انه جرى له من الجن، وهو: أتوا ناري فقلت منـون أنـتـم  فقالوا: الجن قلت عموا صباحاً 

نزلت بشعب وادي الجن لمـا  رأيت الليل قد نشر الجنـاحـا

أتيتـهـم ولـلاقـدار حـتـم  تلاقي المرء صبحا أو رواحا

وجذع شاعر جاهلي قديم، من غسان، وهو الذي ضرب به المثل بقولهم: خذ من جذع ما اعطاك. والشعر المذكور من أكاذيب العرب.

وللأعشى إشارة إلى الجن، بقوله: وسخر من جن الملائك سبعة  قياماً لديه يعلمون بلا أجـر

وفي شعره مواضع اخرى تعرض فيها إلى ذكر الجن.

وقد تحدث "المعري" عن "شعر الجن"، تحدث عنهم في رسالة الغفران فكلم احدهم واسمه "الخيتعور"، احد "بني الشيصبان"، فقال له: "اخبرني عن شعر الجن، فقد جمع منها المعروف بالمرزباني قطعة صالحة، فيقول ذلك الشيخ، انما ذلك هذيان لا معتمد عليه، وهل يعرف البشر من النظيم إلا كما تعرف البقر من علم الهيئة ومساحة الارض?وانما لهم خمسة عشر جنساً من الموزون قل ما يعدوها القائلون، وان لنا آلاف أوزان ما سمع بها الإنس". ثم يقول الجني له إن في الجن شعراء، من لا يعدل "امرئ القيس" أضعفهم شعراً، ثم يروي قصيدة للمتكلم معه، وهو "ابو هدرش".

وروي حديثاً في رسالة الغفران عن قصص "تأبط شراً" مع الغيلان، ثم أجاب على لسانه، قال له: "أحق ما روي عنك من نكاح الغيلان?"، ثمن اجاب على لسانه بقوله: " لقد كنا في الجاهلية نتقول ونتخرص، فما جاءك عنا مما ينكره المعقول، فإنه من الاكاذيب". ثم روى الشعر المنسوب اليه، وهو: أنا الذي نكح الغيلان في بلد  ما طل فيه سماكي ولا جادا 

وقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الشعوب يعتقدون بالجن، وقد تصوروهم-كما سبق أن تحدثت عن ذلك-مثلهم، قبائل وعشائر، لهم ملوك وسادات فما كانوا يروونه عنهم وعن اتصالهم بهم، يمثل حقيقة في نظرهم، وما كان يضعه الوضاعون من شعر على السنتهم، يقبل ويصدق عندهم، ويسمع اليه بتلهف، ولا سيما القسم الغريب منه، إذ كانوا يتلذذون بسماعه، ويذكر معه في العادة قصص لشرح المناسبة التي قيل فيها الشعر، على طريقتهم في رواية أخبار "الايام". فالقصص المتعلق بالجن، باب من أبواب التسلية التي كان يتسلى بها أهل الجاهلية، بل بقي من القصص المستملح المطلوب سماعه حتى اليوم.

ومن هذا القبيل، ما ورد في أيام العرب من شعر، ففي هذا الشعر ما شاء الله من المنحول. نحل تمجيداً لقبيلة أو لبطل من أبطالها، أو للغض من شأن قبيلة معادية، اشتركت معها في قتال، وفي اخبار هذه الايام تعصب وتحظب، ولذلك يجب النظر اليها بحذر شديد.

وشعر الشواهد من الابواب التي فتحت المجال لنحل الشعر. قال عنه" الرافعي": "وهو النوع الذي يدخل فيه أكثر الموضوع، لحاجة العلماء إلى الشواهد في تفسير الغريب ومسائل النحو". وقد كانوا يستشهدون بأشعار الجاهليين والمخضرمين. ونظراً لوجود عنصر التفوق والتغلب على الخصوم واظهار العلم، ولوجود العصبيةاندفع البعض إلى افتعال الشواهد والاتيان بالغريب وبما هو غير معروف. وق اتهم الكوفيون بأنهم كانوا اكثر الناس وضعاً للأشعار التي يستشهد بها، لضعف مذاهبهم وتعلقهم على الشواذ واعتبارهم منها اصولاً يقاس عليها. ولهذا واشباهه اظطروا إلى الوضع فيما لا يصيبون له شاهداً إذا كانت العرب على خلافهم، وتجد في شواهدهم من الشعر ما لا يعرف قائله، بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الاخر. ومن اجل هذا كان البصريون يغتمزون على الكوفيين. فيقولون نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب واكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن اكلة الشواريز والكواميخ. على ان البصريين، لم يكونوا ملائكة بالنسبة إلى افتعال الشواهد، فقد أدلوا فيه بدلوهم كذلك، وإن قيل إنهم كانوا أقل فعلاً في ذلك من الكوفيين. ذكر ان "سيبويه" سأل "اللاحقي"، فوضعت له هذا البيت: حذر أموراً لا تضير، وآمن  ما ليس منجيه من الاعداء

ومن ذلك ما رواه "الزجاجي" في "مجالس العلماء"، من نزاع وقع بين "الطبري" وبين "ابي عثمان" في السكين: مذكر أم مؤنث، ومن استشهاد "ابو عثمان" بشعر رواه الفراء، هو: فعيث في السنام غداة قر  بسكين موثقة النصـاب

وجوابه: "لمن هذا ومن صاحبه? وما أراه إلا أخرج من الكم، واين صاحب هذا عن أبي ذؤيب حيث يقول: فذلك سكين على الحلق حاذق". 

ومن ذلك ما ذكره "خلف الاحمر" على ألسنة القدماء في ورود لفظة "عشار" في كلام العرب، إذ روى هذه الابيات: قل لعمرو يا ابن هند  لو رأيت اليوم شنـا

لرأت عيناك منهـم  كل ما كنت تمنـى

إذ أتتنا فيلق شهـبـا  من هنـا وهـنـا

وأتت دوسر والملحاء  سيراً مطـمـئنـاً

ومشى القـوم إلـى  القوم أحادى ومثنى

وثـلاثـاً وربـاعـاً  وخماساً فأطعـنـا

وسداساً وسـبـاعـاً  وثماناً فأجتـلـدنـا

وتساعا وعـشـاراً  فأصبنا وأصـبـنـا

لا ترى إلا كـمـياً  قاتلاً منهم ومـنـا

"ودلائل الوضع في هذه الابيات ظاهرة. وكان خلف الاحمر متهماً بالوضع".

ويدخل في باب نحل الشعر عامل آخر، هو الاستشهاد بالشعر لتأييد الخلافات القائمة بين المذاهب في اثبات رأي، أو في تفسير آية، تفسيراً يؤيد رأي ذلك المذهب. فقد زعم أن المعتزلة، قالت في تفسير الآية: "وسع كرسيه السموات والارض"، أي علمه، وانهم جاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف وهو قول الشاعر: ولا يكرسي علم الله مخلوق 

وهو قول وإن روي عنهم وقيل، لا ادري، إذا كان قد صدر منهم، أو انه صنع عليهم، وقد ورد في خبر أن "عبد الله بن عباس"، كان يقول، الكرسي: العلم. وانه فسر الآية بهذا المعنى. على كل فقد فسر المفسرون لفظة "الكرسي" تفاسير مختلفة، وذلك تحاشياً من الوقوع في التشبيه، من كونه تعالى يجلس على كرسي شبه كراسينا، ولذلك مالوا إلى التأويل. وذكر في رواية أخرى، أن "ابن عباس" كان يرى أن الكرسي موضع القدمين، "ومن روي عنه في الكرسي أنه العلم، فقد أبطل".

ونظراً إلى ما كان للمذهبية من أثر في الناس في ذلك العهد، فلا أستبعد احتمال الوضع على السنة المذاهب، لذا يجب الحذر من الإسراع في التصديق بصحة الشواهد المقالة على لسان مذهب، ونقدها نقداً علمياً دقيقاً، بالتفتيش عنها في كتب أهل ذلك المذهب، فقد يجوز ان تكون قد وضعت عليهم وضعاً، ومثل هذا الوضع شئ معروف.

ومن أبواب نحل الشعر ما قيل على لسان آدم فمن دونه من الأنبياء من شعر. فقد زعموا مثلاً ان "قابيل" حين قتل اخاه "هابيل" رثاه أبوه "آدم"، تغيرت البلاد ومن عليهـا  فوجه الأرض مغبر قبيح 

تغير كل ذي طعم ولـون  وقل بشاشة الوجه المليح

فأجيب آدم: أبا هابيل قد قتلا جمـيعـاً  وصار الحي كالميت الذبيح

وجاء بشرة قد كان منـهـا  على خوف فجاء بها يصيح 

ثم ما قيل على لسان الأمم البائدة، والشعوب الهالكة مثل عاد وثمود وقوم تبع، وطسم وجديس، وزرقاء اليمامة، من اشعار زعم انهم قالوها، ، وهي من نظم القصاصين وأصحاب السمر والحكايات، وعشاق الاساطير والخرافات، لما وجدوا ميلاً عند الناس إلى الاستماع لمثل هذه الاشعار. فكانوا" يأتون بمثل تلك الاشعار على وهنها وتداعيها ويعزونها إلى القدماء، ثم يزعمون انهم اخذوها من الصحف، ويروونها للأمم البائدة وغيرهم". من ذلك ما نسبوه من شعر إلى "معاوية بن بكر" وكان في أيام "عاد"، مقيماً بظاهر مكة خارجاً من الحرم، زعموا انه لما استثقل طول مكث وفد "عاد" وفيه "لقمان بن عاد" عليه، وألهمه إلى قينته لتغنيا به أمام الوفد، وهو: ألا يا قيل ويحك قم فهينم  لعل الله يسقينا غمامـا

فيسقي أرض عادٍ، إن عاداً=قد أمسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس نرجو  به الشيخ الكبير ولا الغلامـا

وقد كانت نساؤهـم بـخـير  فقد أمست نساؤهم عـيامـا

وإن الوحش تأتيهم جـهـاراً  ولا تخشى لعادي سـهـامـا

وأنتم ها هنا فيما اشتـهـيتـم  نهاركم وليلكم الـتـمـامـا

فقبح وفدكـم مـن وف قـوم  ولا لقوا التحية والسـلامـا

فأجابه "جلهمة بن الخيبري": أبا سعد فإنك من قـبـيل  ذوي كرم وأمك من ثمود 

فإنا لن نطيعك ما بقـينـا  ولسنا فاعلين لمـا تـريد

أتأمرنا لنتـرك آل رفـد  وزمل وآل صد والعبود

ونترك دين آبـاء كـرامٍ  ذوي رأي ونتبع دين هود 

ومن ذلك ما نسبوه من شعر إلى "مرثد بن سعد بن عفير" زعموا أنه قال حين سمع خبر هلاك عاد، إذ قال: عصت عاد رسولهم فأمسوا  عطاشاً ما تبلهم السـمـاء

وسير وفدهم شهراً ليسقـوا  فأردفهم من العطش العماء

بكفرهم بربـهـم جـهـاراً  على آثار عادهم العـفـاء

ألا نزع الإله حـلـوم عـاد  فإن قلوبهم قـفـر هـواء

من الخبر المبـين أن يعـوه  وما تغني النصيحة والشفاء

فنفسي وابنتـاي وأم ولـدي  لنفس نبـينـا هـود فـداء

أتانا والقلوب مـصـمـدات  على ظلم، وقد ذهب الضياء 

لنا صنم يقال لـه صـمـود  يقابله صـداء والـهـبـاء

فأبصره الذين لـه انـابـوا  وأدرك من يكذبه الشـقـاء

فإني سوف ألحق آل هـود  واخوته إذا جن الـمـسـاء

فلما هلكت عاد، فلم يبق منهم ألا "الخلجان"، قال: لم يبق إلا الخلجان نفسـه  يا لك من يوم دهاني أمسه 

بثابت الوطء شديد وطسه  لو لم يجيئني جئته اجسه 

ورووا شعراً لأحد شعراء ثمود اسمه "مهوس بن عنمة بن الدميل" هو قوله: وكانت عصبة من آل عمرو  إلى دين النبي دعوا شهابـا

عزيز ثمود كلهم جمـيعـاً  فهم بأن نجيب ولو أجابـا

لأصبح صالح فينا عـزيزاً  وما عدلوا بصاحبهم ذؤابـا

ولكن الغواة من آل حجـر  تولوا بعد رشدهم ذنـابـا

ويروي أهل الاخبار انه قد كان لأهل الجاهلية شعر كثير قيل في عاد وثمود وأمورهم، ياتون به دليلاً على شهرة امرهم عند العرب في الجاهلية والاسلام. من ذلك ما أورده على لسان "أفنون" التغلبي، من قوله: لو أنني كنت من عاد ومن إرم  غذي سخل ولقمانا وذا جدان

ومن هذا القبيل ما نسب إلى "عمرو بن الحارث بن مضاض "الجرهمي، والى "الحارث بن مضاض"، من شعر. وهو عند أهل الاخبار أحد المعمرين القدماء، زعموا انه قال شعراً لما أجلت "خزاعة" جرهماً عن الحرم، هو: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا  انيس ولم يسمر بمـكة سـامـر

بلى نحن كنا أهلـهـا فـأبـادنـا  صروف الليالي والجدود العواثر

وزعموا انه مد في عمره إلى ان ادرك الإسلام.

ونجد في شعر"النمر بن تولب" ذكر "لقمان". ونجد في أشعار شعراء اخرين إشارات إلى هؤلاء وغيرهم ممن كان تذكرهم الاساطير وتروي أخبارهم الناس، على نحو ما نسمعه من العجائز عن قصص الماضين، وقد أشرت إلى اسماء بعض منهم في ثنايا هذا الكتاب.

وقد سبق ان ذكرت ان هذا النوع من الأساطير، لم يفت على بال بعض العلماء النقدة، وانهم أشاروا إلى انه من صنع جماعة من صناع الاساطير والقصص، فقد قال "ابن سلام": " وكان ممن هجن الشعر وافسده وحمل منه كل غثاء محمد بن اسحق بن يسار مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، وكان من علماء الناس بالسير والمغازي، قبل الناس عنه الاشعار وكان يعتذر منه ويقول: لا علم لي بالشعر، أنما أوتي فأحمله، ولم يكن له ذلك عذراً، فكتب في السيرة من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط، وأشعار النساء، فضلاً عن اشعار الرجال، ثم جاوز بعد ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم اشعاراً كثيرة، وليس بشعر انما هو كلام مؤلف معقود بقوافي، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر? ومن اداه منذ الوف من السنين? والله تعالى يقول: فقطع دابر القوم الذين ظلموا، أي لا بقية لهم. وقال ايضاً: وانه أهلك عاداً الأولى وثمود فما ابقى. وقال في عاد: فهل ترى لهم من باقية. وقال: وقررنا بين ذلك كثيراً".

ولكن اوسع وأظهر أبواب نحل الشعر، هو ما وضعه رواة الشعر على ألسنة الشعراء الجاهليين، وهو ما دعاه "الرافعي": ب"الإتساع في الرواية".

ونقصد به ما صنعه الرواة من وضعهم قطعاً وقصائد على ألسنة الشعراء الجاهليين لم يقولوها، ومن اضافتهم أشعاراً على قصغائد الجاهليين، أو ادخال شعر شاعر في شعر غيره: هوى وتعنتاً. فهذا باب هو اخطر ابواب نحل الشعر وأوسعها واهمها، ويغطي معظم الشعر المنحول. صنعوه، لرواج سوق الشعر الجاهلي في تلك الايام، وللطلب الكثير الذي كان إذ ذاك عليه. وللربح الذي كان يجنيه حامله من روايته، مما حمل الرواة على وضع الشعر بصوغه على قوالب الشعر الجاهلي وعلى مضامينه وطرقه في التنقل في القصيدة، وقد أجاد فيه اساتذة الصنعة من أمثال "حماد" الراوية و"خلف"الاحمر، وليس في الرواة جميعاً من يدانيهما في الصنعة وأحكامها، فهما طبقة في التأريخ كله.

ومن امثلة المصنوع أبياتاً مطلعها: قل: لعمرو: يا ابا هند  لو رأيت القوم شنـا

أنشدها خلف الاحمر، وهي مصنوعة.

ومن أمثلة التطويل في الشعر، ما فعلوه بأبيات الطيرة للحارث بن حلزة، وهي اربعة ابيات، ولكنهم جعلوها قصيدة طويلة. والأبيات هي: يا أيها المزمع ثم انثـنـى  لا يشك الحادي ولا الشاحج 

ولا قعيد أعضب قـرنـه  هاج له من أمره خـالـج

بينا الفتى يسعى ويسعى له  تاح له من أمره خـالـج

يترك ما رقح من عـيشـه  يعيش منه همـج هـائج

وروي ان قول العشى:   

كتـمـيل الـنـشـوان ير  فل في البقيرة وفي الإزارة 

هو من قصيدة مصنوعة. وروي "أبو عبيدة" عن "ابن عمرو"، انه قال: "والله ما كذبت فيما رويته حرفاً قط، ولا زدت فيه شيئاً إلا بيتاً في شعر الاعشى، فإني زدته فقلت: وانكرتني وما كان الذي نـكـرت  من الحوادث إلا المشيب والصلعا 

وروي ان "حماداً كان يقول: ما من شاعر إلا وقد حققت في شعره أبياتاً فجازت عنه، إلا الأعشى، اعشى بكر، فإني لم ازده في شعره قط غير بيت. قيل له: وما البيت?فقال: وانكرتني وما كان الذي نكرت

فأنت أمام روايتين متناقضتين، رواية تنسب وضع البيت إلى "ابي عمرو بن العلاء"، ورواية تنسب وضع ذلك البيت إلى "حماد". وسبب التناقض العصبية ولا شك.

ويجب أن نضيف على الشعر المصنوع على ألسنة الجاهليين، الشعر الذي وضع على ألسنة الصعاليك واللصوص، فقد كان الناس يتسقطون أخبار هؤلاء ويتلذذون بسماع مغامراتهم وسطوهم، شأن الناس في كل وقت ومكان من الميل إلى التلذذ بسماع مثل هذه الاخبار، وهذا ما حمل صناع الأخبار والأساطير على وضع الشعر على ألسنة الصعاليك لتزين أخبارهم وترصيعها به، على طريقتهم في رواية ايام العرب واخبارهم، وفي شعر هذه الطبقة شعر كثير مصنوع.

وهناك شعر وضع للتسلية وللهو من ذلك شعر الفسق والمجون، من ذلك ما نسبه إلى "ابنة الخس" من قول، هو: سلوا نساء أشـجـع  أي الأيور أنـفـع

أألطويل النـعـنـع  أم القصير المـردع

أم الـذي لا يرفـع  أم الأسك الأصمـع

في كل شئ يطمـع  حتى القريص يصنع 

وابنة الخس، في زعم أهل الاخبار، جاهلية قديمة من إياد، أدركت القلمس، أحد حكام العرب، "ولها اسجاع كثيرة وشعر قليل. وكانت تحاجي الرجال" إلى أن حاجها رجل، فقال لها قولا بذيئا أخجلها، فتركت المحاجاة. وأورد الشريف "المرضى" لها اجوبة عن اسئلة معضلة محيرة، لتحزر جوابها، وذكر أجوبتها، رواية عن "ابن الاعرابي".

والشعر الذي نسبه "ابو محمد ثابت بن ابي ثابت" اليها، هو من الشعر المصنوع بالطبع، وضع على لسان " ابنة الخس"، وقد نص " تاج عروس " على ان قائله " جارية كانت جعلة"، وهو من وضع المجان، الذين كانوا يتلذذون بسماع هذا النوع من المجون.

وكان " ابن ابي كريمة:، يصنع الشعر وينحله بعض شعراء البادية، كما صنع في قصيدة له في وصف الفأر، نحلها "يزيد بن ناجية" السعدي، "وكان لقي من الفأر جهدا فدعا عليهن بالسنانير"، وكان يصطنع شعر الفكاهة، ويحاكي فيه "الحكم بن عدل" الاسدي. وهناك كثير من اضرابه، ممن وضع الشعر للتسلية وللتفكه على ألسنة الاعراب والشعراء الجاهليين.

وقد وضع "خلف" الاحمر قصائد عدة على فحول الشعراء، وذكروا منها قصيدة الشنفري المشهورة يلاميو العرب. وروي عن الاصمعي قوله: سمعت خلفا يقول: انا وضعت على النابغة هذه القصيدة التي فيها: خيل صيام وخيل غـير صـائمة  تحت العجاج واخرى تعلك اللجما 

و مما يدخل في هذا الباب اننا نجد بيتاً أو أبياتاً تنسب في احد الموارد لشاعر، بيينما نرى ديوانه خالياً منه أو منها، من ذلك ما رواه "المعري"، من أنه لما كان ببغداد، شاهد بعض الوراقين يسأل عن قافية "عدي بن زيد" التي أولها: بكر العاذلات في غلس الصب  ح يعاتبه أما تـسـتـفـيق

و زعم الوراق ان بعض طلاب شعر هذا الشاعر سأل عن هذه القصيدة، و طلبت في نسخ من ديوان "عدي" فلم توجد. ثم سمع بعد ذلك رجلاً من أهل "ستراباذ" يقرأ هذه القافية في ديوان العبادي، و لم تكن في النسخة التي في دار العلم. و ذكر اشياء أخرى من هذا القبيل، تراها في كتاب أو في نسخة من نسخ ديوان الشاعر، بينما لا تراها في نسخ الديوان الاخرى، مما يدل على ان الدواوين لم تكن متفقة في النص، و انها رويت بروايات مختلفة، و أن في بعضها ما يزيد على البعض الاخر.

و نحل الشعر، و إن وقع وحدث، غير ان أمره لم يفت على بال العلماء المهرة الحاذقين، و دليل ذلك، ما نجده في كتبهم من الاشارات إلى المنحول و المصنوع من الشعر، و من نصهم عليه، و إن فات عليهم بعضه، و من نصهم على المنحول و من ملاحظاتهم تلك أخذ المستشرقون و المحدثون من العرب آراءهم في الشعر الجاهلي، أو ما أورده "الدكتور طه الحسين" من رأي فيه، ليس فيه شيء جديد، و جديده الوحيد، هو في التهويل بمقدار المغشوش من هذا الشعر، أما من حيث المبدأ، أي من حيث وجود شعر منحول فاسد، في الشعر الجاهلي، فالقدماء و المحدثون و المستشرقون متفقون في ذلك، و خلافهم الوحيد، هو في مقدار نسبة الفاسد من الشعر بالنسبة إلى الصحيح.

فما قيل عن نحل الشعر إذن هو قول قديم. روي عن الاصمعي أنه قال: "كل شيء في أيدينا من شعر أمرئ القيس، فهو من حماد الرواية إلا نتفاً سمعتها من الاعراب وأبي عمرو بن العلاء". و روي عن "حماد" الراوية قوله: "دخل علينا ذو الرمة، فلم نر أحسن و لا أفصح و لا أعلم بغريب منه. فغم ذلك كثيراً من أهل المدينة"، فأرادوا الكيد له بأمتحانه، فصنعوا شعراً على ألسنة بعض الجاهليين، وأنشدوه أياه، فعلم ذلك "ذو الرمة" بعلمه وبمعرفته للشعر الجاهلي، أنه شعر مصنوع، فقال لهم: "ما أحسب أن هذا من كلام العرب".

وقد زيد في شعر "امرئ القيس" كثيراً، وقد عدّه علماء الشعر من المقلّين، وجعل بعضهم الصحيح من شعره نيفاً وعشرين شعراً بين طويل وقطعة. وفي جملة ما نسب اليه القصيدة المسمطة، وهي: توهمت من هند مـعـالـم أطـلال  عفاهن طول الدهر في الزمن الخالي 

مرابعُ من هند خـلـت ومـصـايف  يصيح بمغناهـا صـدى وعـوازف

وغيرها هوج الرياح الـعـواصـف  وكـل مـسـفٍ ثـم آخــر رّداف

بأسحم من نوء السماكين هطال ونرى "ابن سلام" يقول: "ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه قلة مابقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد. والذي صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن، فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والنقدمة، وإن كان ما يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما على أفواه الرواة. ونرى ان غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير، غير ان الذي نالهما من ذلك أكثر. وكانا أقدم الفحول، فلعل ذلك لذلك. فلما قلّ كلامهما حُمل عليهما حمل كثير، ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حادثة". ولما تحدث عن "عبيد بن الأبرص" قال: "وعبيد بن الأبرص، قديم عظيم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب، لا أعرف له إلا قوله: أقفر من أهله ملحوب  فالقطبيات فالذنـوب

و لا أدري ما بعد ذلك". فهو مع علمه الواسع بالشعر، واستشهاد العلماء بكلامه وبآرائه في الشعر، لا يعرف لعبيد غير هذا الشعر، مع العلم بأنه قد توفي سنة "231 ه"، وفي أيامه كان الناس يموتون في طلب الشعر الجاهلي. ونجد "ابن قتيبة" المتوفي بعده "270 ه"، يذكر له شعراً مطلعه: يا عين فابكي بنـي  أسدٍ همُ أهل الندامة 

ثم قوله مخاطباً امرأ القيس: يا ذا المخوّفنا بقتـل  أبيه إذلالاً وحَـيٌنـا

أزعمت أنك قد قتلت  سراتنا كذباً ومينـا

ثم قوله: هلا سألت جـمـوع  كندة يوم ولّوا هاربينا 

وقد ذكر "ابن سلام" أن الرواة قد وضعوا على "عدي بن زيد" شعراً كثيراً، وعلل ذلك بقوله: "وعدي بن زيد، كان يسكن الحيرة ومراكز الريف، فلان لسانه، وسهل منطقه، فحمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد. واضطرب فيه خلف، وخلط فيه المفضل فأكثر. وله أربع قصائد غرر روائع مبرزات، وله بعدهن شعر حسن". ولابن قتيبة هذا الرأي فيه، حيث يقول: "وكان يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شيء كثير جداً، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة. وله أربع قصائد غرر". وذكر نقلاً عن "أبي عبيدة" عن "أبي عمرو بن العلاء" أن "العرب لا تروي شعره، لأن ألفاظه ليست بنجدية، وكان نصرانياً من عباد الحيرة، قد قرأالكتب".

وقد تعرض القدماء لموضوع الشعر المقال على ألسنة الأمم القديمة وملوكها، فرفض "ابن سلام " ذلك الشعر، بقوله: "وإنما قصدت القصائد وطُول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف، وذلك يدل على إسقاط عاد وثمود وحمير وتبع". إذن فما أضيف إلى هؤلاء والى أهل اليمن هو شعر منتحل.

ومن أصحاب البصر والنظر في الشعر: "خلف الأحمر". "وقد كان أبو عمرو بن العلاء وأصحابه لا يجرون مع خلف الأحمر في حلبة هذه الصناعة، أعني النقد، و لا يشقون له غباراً، لنفاذه فيها، وحذقه بها، وإجادته لها". وعلمه بالشعر، جعله من كبار الوضاعين له على ألسنة الجاهليين.

وبعد، فإننا لا نستطيع بالطبع التصديق بصحة الشعر المنسوب إلى آدم والجن والتبابعة وأهل العربية الجنوبية وغيرهم ممن لا يعقل قولهم الشعر العربي، وإن نص على صحة ذلك الشعر، وروراه العلماء. أما سبب رفضنا قبول الشعر المنسوب إلى أهل العربية الجنوبية من ملوك وأقيال ورؤساء، فلأنهم كانوا يتكلمون ويكتبون كما هو ثابت لدينا من نصوصهم بلغة تختلف عن لغة الشعر المألوفة، ولو تصورنا انهم كانوا ينظمون الشعر بلغة الشعر المألوفة، ويكتبون ويتكلمون بلغة أخرى، فإننا نكون قد قلنا برأي مخالف للمعقول وللمنطق، ونكون قد أوجدنا لهم لغة للشعر ولغة للنثر، وهو افتراض لا يمكن لأحد إثباته، ثم إن لغة التدوين تكون في العادة لغة الأدب عامة من شعر ومن نثر، لذا فإذا قلنا بوجود شعر جاهلي للعرب الجنوبيين، قلنا يجب أن يكون هذا الشعر بلغتهم، لا بلغة هذا الشعر الجاهلي الذي نتحدث عنه.

وبعد، فلعل قائلاً يقول: وما فائدة الشعر الجاهلي اذن، إذا كان هذا شأنه فيه المنحول والفاسد، وما يشك في أصله ? والجواب: ان العلماء، وان اختلفوا فيه، مجمعون ومتفقون على ان رواة هذا الشعر وحملته كانوا من أعلم الناس بالجاهلية: بأخبارها وبأيامها وبأنسابها، وبأنهم كانوا من أمرس الناس بالشعر الجاهلي وبطرقه ودروبه، فهم إن وضعوا ولفقوا، أو كيفوا، فإنهم لا يضعون عن جهل وعمى، بل عن علم وفهم بالجاهليين وبمذاهبهم في نظم الشعر والتفسير، و لا سيما ان العهد بينهم وبين الجاهلية لم يكن طويلاً، وان الأخذ عمن شهد الجاهلية أو أخذ منهم وسمع كان ممكناً يسيراً، ومن هنا كان ما رووه من شعر جاهلي مادة مهمة للمؤرخ مهما قيل في أمره.

ثم إننا حين تروي الشعر الجاهلي، فلا نرويه أو ننشده، أو نحفظه لأنه شعر مقدس، لا يجوز أن يمسه أحد بسوء، وانه تراث خالد، إذا تعرض له إنسان أو تحرش به، فإنما هو يتعرض لأثر تأريخي قديم من آثار هذه الأمة، وإنما نرويه على أنه من مرويات العلماء، وأنه مهما قيل فيه وفي أصله، فإنه يحاول أن يصوّر لنا أحوال زمن سبق الإسلام، وهو زمن مهم جداً بالنسبة لنا، لاتصاله بالاسلام، ولقيام الإسلام عليه، ولكونه فصولاً متقدمة مجهولة من كتاب ناقص، ضاعت فصوله الأولى، هو كتاب في تأريخ العرب منذ القدم إلى هذا اليوم، فإذا فقدنا الأصول، فلا بأس بالتسلي بما نسبه المتأخرون على الأقل إلى المتقدمين، مهما كان بعد هذا المنسوب عن الصحة والحق، ومهما كانت نسبة الباطل فيه كبيرة، وحتى إذا كانت النسبة مائة بالمائة، وهي نسبة نبالغ فيها بالطبع، لا أعتقد أن أحداً سيراها، مهما بلغ به الشك والحذر بالنسبة إلى أصالة الشعر الجاهلي، ومن هنا فإن النزاع الدائر حول صحة الشعر الجاهلي، والذي سيبقى مثاراً قائماً، حتى يظهر أثر جاهلي مكتوب، وعندئذ فقد يحسم شيئاً من مواضع الخلاف المؤلفة لهذا النزاع، يجب ألا يحملنا على الابتعاد عن هذا الشعر، باعتبار أنه لا يمثل الجاهلية تمثيلاً صحيخاً، وانه شعر مكذوب منحول، وإنما يجب أن يدفعنا - على العكس - إلى الاهتمام به، باعتبار أنه من أقدم الآثار التي وصلت الينا، المدوّنة في الا سلام. وأنها إن كانت منحولة، فان نحلها على ألسنة الجاهليين، نحل قديم، يعتبر تأريخياً من أقدم المنحولات الواصلة الينا في المدوّنات الاسلامية، وأنها تمثل صنعة وصناعة صنّاع، حاولوا تقليد الماضي، على ما وصل خبره اليهم، قصاغوه على تلك الصياغة، فهو أثر أصيل لأقدم مصنوعات ومحاكاة وتقليد لآثار قديمة لها صلة بتأريخ العرب القديم.

وأرى في الوقت نفسه ان من الضروري وجوب تقصي الأخبار عن الشعر المصنوع، وتتبع المراجع للوصول إلى أقدم مرجع ورد فيه كل شعر مصنوع، وتسجيل الأبيات والقطع والقصائد التي ترد لأول مرة في أقدم مورد من الموارد، والنص على أسم المورد، وعلى سنده إن كان مذكوراً، لنتمكن بهذه الدراسة من الوصول إلى اسم صانع الشعر، أو الزمن الذي ظهر فيه ذلك الشعر ان كان الاسم مجهولاً، كما نقوم بتسجيل الموارد التي يرد فيها شعر الشعراء، وما أختلف فيه بعضها عن بعض من حيث الألفاظ، أز ترتيب الأبيات، أو عددها، ثم أسماء من نسبت اليهم تلك الأشعار، فقد ينسب الشعر الواحد إلى جملة شعراء، وتسجيل أسماء من روى ذلك، واسم المصدر، وبذلك نكون قد قمنا بدراسة علمية قيّمة عن الشعر المصنوع وعن الشعر الأصيل الذي لم يشك في أصالته عالم من علماء الشعر، ثم نعرض النتائج للبحث بأساليب النقد الحديثة لاستخراج الزائف منه، ولاستبعاد صدور بعضه من الشعراء الجاهليين، نفعل ذلك حتى في حالة عدم ورود رواية لعالم قديم تشك في صحة شعر، لأن سكوت العلماء عن الشك في شعر، لا يكون حجة على صحة ذلك الشعر.

الفصل السادس والخمسون بعد المئة
أولية الشعر الجاهلي

لانملك نصوصاً جاهليى مدونة عن مبدأ الشعر عند العرب، وعن كيفية ظهوره وتطوره إلى بلوغه المرحلة التي وصلها عند ظهور الإسلام. ولم يعثر العلماء على شعر مدون بقلم جاهلي، ليكون لنا نبراساً يعيننا في تكوين صورة عن ذلك الشعر وعن هيكله ومادته التي تكوّن منها. وكل ما نعرفه عن هذا الشعر مستمد من موارد اسلامية، أخذت علمها به من أفواه الرواة، فلما جاء التدوين دوّن ما وعته الذاكرة مما أخذته عن المتقدمين بالرواية، فتثبت واستقر، بعد أن كان المروي عرضة للتغيير والتحريف كلما تنقل من لسان إلى لسان، ومن وقت إلى وقت.

وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع قدم الشعر العربي وتأريخه، فقال: "وأما الشعر فحديث الميلاد، صغير السن، أول من نهج سبيله، وسهل الطريق اليه، امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة. . . فإذا استظهرنا الشعر، وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام -خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام". وذهب "عمر بن شبّة" إلى أن "للشعر والشعراء أول لا يوقف عليه، وقد اختلف في ذلك العلماء، وادعت القبائل كل قبيلة لشاعرها أنه الأول. . فادعت اليمانية لامرئ القيس، وبنو أسد لعبيد بن الأبرص، وتغلب لمهلهل، وبكر لعمرو بن قميئة والمرقش الأكبر، وإياد لأبي دُاؤد. . . وزعم بعضهم أن الأفوه الأودي أقدم من هؤلاء، وانه أول من قصد القصيد، قال: وهؤلاء النفر المدعى لهم التقدم في الشعر متقاربون، لعل أقدمهم لا يسبق الهجرة بمائة سنة أو نحوها". وذهب "الأصمعي" إلى ان بين أول شاعر معروف، قال كلمة تبلغ ثلاثين بيتاً من الشعر، وهو "مهلهل"، وبين الإسلام أربعمائة سنة. " وكان امرئ القيس بعد هؤلاء بكثير".

وقال "الأصمعي" في رواية تنسب اليه، " ان أول من يروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتاً من الشعر مهلهل، ثم ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، ثم ضمرة، رجل من بني كنانة، والأضبط بن قريع. قال: وكان بين هؤلاء وبين الإسلام أربعمائة سنة، وكان امرؤ القيس بعد هؤلاء بكثير". "وزعم أبو عمرو بن العلاء: ان الشعر فتح بامرئ القيس وختم بذي الرمة".

وذكر انه "لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات التي يقولها الرجل في حاجته، وانما قصدت القصائد، وطوّل الشعر على عهد عبد المطلب، أو هاشم ابن عبد مناف".

وذكر "المرزباني"، أن "بكر بن وائل"، تزعم أن "عمر الضائع" "أول من قال الشعر وقصد القصيد، كان امرؤ القيس بن حجر استصحبه لما شخص إلى قيصر يستمده على بني أسد، فمات في سفره ذلك فسمته بكر عمراً الضائع". فعمرو الضائع، هو أول من قال الشعر وقصد القصيد على رأي بكر بن وائل على رواية "المرزباني".

وقد أورد "ابن اسحاق" شعراً نسبه إلى "عمرو بن الحارث بن مضاض" الجرهمي، زعم أنه قاله لما خرج بقومه من مكة إلى اليمن، أوله: وقائلة والدمع سـكـب مـبـادر  وقد شرقت بالدمع منها المحاجر

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا  أنيس ولم يسمر بمـكة سـامـر

فقلت لها والقلب مني كأنما  يلجلجه بين الجناحين طائر 

إلى آخر القصيدة التي يتوجع فيها لمفاقته مع قومه مكة، ونسب له أبياتاً أخرى هي: يا أيها الناس سيروا ان قصركم  أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا 

حثوا المطايا وأرخوا من أزمتها  قبل الممات وقضوا ما تقضونا

كنا أناساً كما كنتـم فـغـيرنـا  دهر فأنتم كما كنّا تكـونـونـا

وقد ذكر "ابن هشام" ان "هذا ما صح له منها" وان بعض أهل العلم بالشعر يقول إن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب.

ودون "السهيلي" صاحب "الروض الأنف" شعراً أخذه من كتاب "أبي بحر سفيان العاصي" زعم أنه وجد في بئر باليمامة، وهي بئر طسم وجديس، في قرية يقال لها "معنق" بينها وبين الحجر ميل، وكان مكتوباً على ثلاثة أحجار، كتبها قوم من بقايا عاد، غزاهم تبع، كتب على الحجر الأول: يا أيها المـلـك الـذي  بالملك ساعده زمـانـه

ما أنت أول مـن عـلا  وعلا شؤون الناس شانه 

أقصر عليك مراقـبـاً  فالدهر مخذول أمانـه

كم من أشم معـصـبٍ  بالتاج مرهوب مكانـه

قد كان ساعده الـزمـا  ن وكان ذا خفضٍ جنانه 

تجري الجداول حـولـه  للجند مترعة جفـانـه

وقد فاجـأتـه مـنـية  لم ينجه منها اكتنـانـه

وتـفـرقـت أجـنـاده  عنه وناح بـه قـيانـه

والدهر من يعلـق بـه  يطحنه مفترشاً جرانـه

والناس شتى في الهوى  كالمرء مختلف بنانـه

والصدق أفضل شـيمة  والمرء يقتله لسـانـه

والصمت أسعد للفتى=ولقد يشرفه بيانه وكتب على الحجر الثاني: كل عـيش تـعـلـه  ليس للدهـر خـلـه

يوم بؤس ونـعـمـى  واجتـمـاع وقـلـه

حبنا العيش والتـكـا  ثر جهـل وضـلـه

بينما المـرء نـاعـم  في قصور مظـلـه

في ظـلال ونـعـمة  ساحبـاً ذيل خـلـه

لا يرى الشمس ملغضا  رة إذ زال زلـــه

لم يقلـهـا وبـدلـت  عزة الـمـرء ذلـه

آفة العـيش والـنـع  يم كـرور الأهـلـه

وصـل يوم بـلــيلة  واعتراض بـعـلـه

والمـنـايا جـواثـم  كالقصور المـدلـه

بالذي تكـره الـنـف  وس عليها مطـلـه

ووجد في الحجر الثالث مكتوباً: يا أيها الناس سيروا ان قصركم  أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا 

خثوا المطيّ وأرخوا من أزمتها  قبل الممات وقضوا ما تقضونا

كنا أناساً كما كنتـم فـغـيرنـا  دهر فأنتم كما كنّا تكـونـونـا

وقد أضاف "الأزرقي" زيادات على هذه الأبيات الأخيرة.

والأبيات التي زعم أنها وجدت مدوّنة على الحجرالثالث، هي نفس الأبيات التي نسبها "ابن اسحاق" إلى "عمرو بن الحارث بن مضاض" الجرهمي كما رأيت. ويظهر أن واضع هذه الأبيات قد استعان بالأبيات التي وجدت في سيرة "ابت هشام"، أو أنه أخذها من سيرة: ابن اسحاق". ويلاحظ أنها في الحث على الزهد والترغيب في الآخرة. ولو لم يكن هذا الشعر من النوع المصنوع، لكان من أقدم ما وصل الينا من الشعر الجاهلي و لا شك.

و"العلماء من العرب الذين قالوا بمدة مائة وخمسين سنة تقريباً للشعر الجاهلي، لم يبعدوا عن الصواب إذا فرضنا أنهم إنما أرادوا بذلك ما وصل الينا من الأشعار القديمة"، بمعنى أن أقدم ما وصل إلى علمنا من ذلك الشعر بصورة لا يرتاب بصحتها، لا يمكن أن يرتقي عهده أكثر من قرن أو قرن ونصف عن الهجرة على أكثر تقدير، وأن أقدم اسم شاعر جاهلي وصل إلى سمعنا لا يرتقي عهده عن هذا التقدير. أما إذا كان قصدهم أن نظم القصيد كان قد بدأ في هذا الوقت، وأن الشعر بالمعنى الاصطلاحي المفهوم منه لم يظهر عند العرب، إلا قبل قرن أو قرنين عن الإسلام، فذلك خطل في الرأي، وفساد في الحكم. فالشعر أقدم من هذا العهد بكثير، وقد أشار المؤرخ "سوزيموس" Zosimus" "إلى وجود الشعر عند العرب، وهو من رجال القرن الخامس للميلاد، إلى تغني العرب بأشعارهم، وترنيمهم في غزواتهم بها، وفي إشارته إلى الشعر عند العرب دلالة على قدم وجوده عندهم، واشتهاره شهرة بلغت مسامع الأعاجم، فذكره في تأريخه. وفي سيرة القديس "نيلوس""Nilus" المتوفى حوالي السنة "430" بعد الميلاد، أن أعراب طور سيناء كانوا يغنون أغاني وهم يستقون من البئر. وهي أشعار ترنم بإيقاء، تشبه أناشيد العبرانيين عند استقائهم الماء من الآبار. "حينئذ ترنم اسرائيل بهذا النشيد: اصعدي أيتها البئر أجيبوا لها، بئر حفرها رؤساء، حفرها شرفاء الشعب بصولجان بعصيتهم"، والأشعار المروية في كتب التواريخ والأدب عن حفر آبار مكة وغيرها من هذا القبيل، فقد روي أن "عبد المطلب" لما حفر بئر "زمزم"، قالت "خالدة بيت هاشم ": نحن وهبنا لعدي سجلـه  في تربة ذات عذاة سهله 

تروي الحجيج=زعلة زعله وأن "عبد شمس" قال: خفرت خماّ وحفرت رما  حتى أرى المجد لنا قد تما 

وان "سبعة" بنت "عبد شمس" قالت في الطوى: إن الطوى إذا شربتم ماءهـا  صوب الغمام عذوبة وصفاء 

وان "الحويرث بن أسد"، قال في "شفية": ماء شفية كماء المـزن  وليس ماؤها بطرق أجن 

وان "أميمة بنت عميلة بن السباق بن عبد الدار " قالت في حفر بئر "أم أحراد": نحن حفرنا البحر أم أحراد  ليست كبذر النذر والجماد

فأجابتها "صفية بنت عبد المطلب ": نحن حفـرنـا بـذر  تروى الحجيج الأكبر 

من مقبـل ومـدبـر  وأم أحـراد بـشـر

فيها الجـراد والـذر  وقـذر لا يذكــر

ولما حفر بنو جمح "السنبلة"، وهي بئر "خلف بن وهب" الجمحي، قال قائلهم: نحن حفرنا للحجيج سنـبـلـه  صوب سحاب ذو الجلال أنزله 

وحفر بنو سهم الغمر، وهي بئر العاصي بن وائل، قال ابن الربعي أو غيره: نحن حفرنا الغمر للحجيج  تثج ماء أيمـا ثـجـيج

وحفرت بنو عدي "الحفير" فقال شاعرهم: نحن حفرنا بئرنا الحفيرا  بحراً يجيش ماؤه غزبرا 

وورد ان "قصياً" لما احتفر "العجول"، قال شاعرهم: نروي على العجول ثم ننطلق  إن قصيّاً قد وفى وقد صدق

وان قصياً لما احتفر"سجلة"، قال: أنا قصيّ وحفرت سـجـلة  تروي الحجيج زغلة فزغلة 

وقيل بل حفرها "هاشم"، ووهبها "أسد بن هاشم" لعدي بن نوفا، فقالت: خلدة بنت هاشم: نحن وهبنا لعـدي سـجـلة  تروي الحجيج زغلة فزغلة 

ونجد في كتب السيرشعراً قيل في حفر بئر زمزم، وفي آبار أخرى، مما يدل على أن العرب كانوا قبل هذا العهد، إذا حفروا بئراً، قالوا شعراً فيها، وهو شعر يمكن أن نسميه شعر الآبار، وهو يعود و لا شك إلى عرف قديم، قد يتقدم على الميلاد بكثير، وهو يجب أن يكون من أقدم ما قيل من الشعر، لما للبئر من أهمية في حياة العرب.

ولم يقتصر التغني بالشعر على حفر الآبار وحدها، وإنما تغنى به عند بنائهم بناء أو حفرهم خندقاً، أو أقامتهم سوراً، أو قيامهم بزرع أو حصاد، وفي أعمال أخرى يناط بها إلى جماعة في الغالب، وكذلك في الغارات وفي الحروب. ولما شرع المسلمون يبنون مسجد الرسول، قال قائل منهم: لئن قعدنا والنبي يعمـل  لذاك منّا العمل المضلل 

فارتجز المسلمون وهم يبنون، يقولون:   

لا عـيش إلا عـيش الآخــرة  اللهم فارحم الأنصار والمهاجرة 

وقال "ابن هشام": هذا كلام وليس برجز، وسبب ذلك كون قائله هو الرسول.

وقيل إنه قال: اللهم لا عيشَ إلا عيش الآخرة  فاغفر للأنصار والمهاجـرة

وجعل يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر  هذا أبرّ، ربنا، وأطهـر

ويروي أهل الأخبار أن "المهلهل"، كان يتغنى في شعره حين قال: طفلة ما أبنةُ المحلل بيضا  ءُ لعوبٌ لذيذة في العناقَ

ورووا أن من الشعراء الجاهليين من كان يتغنى بشعره، وان حسان بن ثابت أشار إلى التغني بالشعر بقوله: تَغَنَّ بالشعر إما كنتَ قـائلـه  إن الغناء لهذا الشعر مضمارُ 

وقد قصد بذلك، ترنيم الشعر وإنشاده على نغم مؤثر، وهو الغناء. وما زال الشعراء، يترنمون بشعرهم، وينشدونه بأسلوب خاص يميزه عن أسلوب إلقاء النثر.

ونجد في أخبار غزوة أحد، أن هنداً بنت عتبة، زوجة أبي سفيان، ونسوة من قريش كنّ يضربن على الدفوف ويتغنين بالشعر، حيث يقولون: نحن بناتُ طارقٌ  إن تُقٌبلوا نعانق

ونبسطُ النمـارق  أو تدبروا نفارق 

فراق غير وامق وتقول: ويهاً بني عبد الدار  ويَهاً حماة الأديار

ضرباً بكلّ بتار و لا بد وأن تكون في الأهازيج وفي أشعار الحج، أنغام يرنم على وقعها الشعر، الذي هو شعر الغناء. فإننا نجد في النتف الباقية من الجمل التي كان يقولها الحجاج أثناء حجهم، آثار شعر قد كان مقروناً بالغناء.

ونظراً لوجود تماس مباشر بين هذا الشعر وبين الحياة العامة، فإن في استطاعتنا القول، انه قد يكون من أقدم أنواع الشعر عند العرب، وهو شعر لم ينبع من ألسنة الشعراء المحترفين، وانما خرج على كل لسان، وساهم فيه كل شخص: رجل أو امرأة، مثقف أو جاهل، حكيم أو سوفي. وهو بعد نابع من صميم الحياة، ومن باطن القلب، للترفيه عن النفس، ولتخفيف التعب، و لا زال الناس يتغنون عند وقوع مثل هذه الأمور لهم، وهو غناء لم يحظ ويا للأسف بالرعاية والعناية، لذلك لا نجد له ذكراً في الكتب إلا بالمناسبات.

ويرى العلماء المشتغلون بموضوع الشعر من الغربيين، ان بين الشعر والسحر صلة كبيرة، بل رأى بعض منهم ان الغرض الذي قصد اليه من الشعر في الأصل هو السحر، ودليل ذلك ان الغناء عند الشعوب البدائية، ليس متسقاً مع نغم العمل وايقاع اليد العاملة، فنجد الغناء عند البناء أو الجر أو الحفر، أو الزرع لا يتسق مع نوع حركة العمل، وانما كان يسليّ العمال ويسعفهم بقوى سحرية، وهو الغرض من جميع فن القول عند البدائيين، أي تشجيع العمل بطريق سحري.

وقد ذهب "بروكلمن" و "كولدتزيهر" إلى ان هذا الأثر السحري لا يظهر في الشعر العربي القديم إلا في شعر الهجاء، "فمن قبل أن ينحدر الهجاء إلى شعر السخرية والإستهزاء، كان في يد الشاعر سحراً يقصد به تعطيل قوى الخصم بتأثير سحري. ومن ثم كان الشاعر، إذا نهيأ لإطلاق مثل ذلك اللعن، يلبس زياً خاصاً شبيهاً بزي الكاهن. ومن هنا أيضاً تسميته بالشاعر، أي العالم، لا بمعنى انه كان عالماً بخصائص فن أوصناعة معينة، بل بمعنى انه كان شاعراً بقوة شعره السحرية، كما ان قصيدته كانت هي القالب المادي لذلك الشعر".

وكانت غاية الأغاني القصيرة، التي يرددها البدائي في المواقف الكبرى للحياة الانسانية، أن تحدث آثاراً سحرية، وكذلك كانت غاية الرثاء الأصلية أيضاً هي السحر، "فقد كان الغرض من المرثية أن تطفئ غضب المقتول وتنهاه أن يرجع إلى الحياة، فيلحق الأضرار بالأحياء الباقين، ولكن هذا المعنى تلاشى تقريباً في الجزيرة العربية أمام الشعور الانساني بالحزن الممض. على ان إظهار الحزن لم يكن يناسب رجال القبيلة كما كان لائقاً بنسائها، وخاصة بالأخوات، ومن ثم بقي تعهد الرثاء الفني من مقاصدهن حتى عصر التسجيل التأريخي".

وقد لعبت الأغاني دوراً كبيراً في الصيد والحرب، فقد رافقتهما منذ أوائل انشغال الإنسان بهما. ولم يكن الصيد متعة وتسلية ورياضة عند العرب حسب، بل كان لسدّ حاجة وللتغلب على شغف العيش أيضاَ، ونجد في الشعر الجاهلي شعراً جعل الصيد، نوعاً من الرياضة والتسلية، واظهار الرجولة في التغلب على الوحش الكاسر، والحيوان المتوحش، وأكثر أصحابه من المترفين والمتمكنيين، من أصحاب الخيل السريعة، مثل الملوك وسادات القبائل، والشعراء الذين يرافقونهم في رخلات صيدهم، أو يقومون هم أنفسهم برياضة الصيد.

ويلعب الغزو دوراً خطيراً في حياة الجاهليين، فقد كان الغزو في الواقع نوعاً من أنواع الكفاح في سبيل الحياة، عليه معاشهم، وبواسطته يحافظون على حياتهم وأموالهم، وقد أنتج ضرباً من ضروب الشجاعة والمغامرة، يتجلى في الشعر الحماسي، الذي يقال قبل القتال وفي أثناء احتدامه. ونكاد لا نقرأ خبر يوم من أيام العرب أو غزو، أو قتال إلا ونجد للشعر فيه دوراً ومكاناً في هذه الأحداث. يستوي في ذلك شعر الجاهلية والشعر الذي قيل في الأحداث التي وقعت في صدر الإسلام.

ونجد للنسيب، والغزل مكانة في الشعر الجاهلي، وقد نجد فيه وصفاً للجمال الحسي لأعضاء الجسد. وقد آخذ العلماء امرأ القيس والأعشى على مجاهرتهما بالفحش وبالزنا في شعرهما. والمجاهرة بالأتصال الجنسي بصورة عارية مكشوفة من الأمور التي لا ترد بكثرة في الشعر الجاهلي.

و لا بد وأن يكون الشعر قد مر في مراحل، لعل أقدمها مرحلة السجع، أي النثر المقفى المجرد من الوزن، الذي تخصص فيه الكهان عند ظهور الإسلام، وهو والد "الرجز"، أبسط أبواب الشعر، ومن الرجز نشأ بناء بحرو العروض، التي يظهر أثر الموسيقى على صياغتها على رأي بعض المستشرقين، وهو أثر يدل على ما كان للغناء من صلة بالشعر. ولعل هذه الصلة هي التي حملت العلماء على القول بأن بحور الشعر نشأت في الأصل من سير الإبل، من ترنيم الشاعر شعره على ايقاع سير الإبل. غير ان البحث عن هذا الموضوع وعن موضوع كيفية نشوء بحور العروض وصلتها بعضها ببعض لا تزال من الدراسات العويصة المشكلة الشائكة التي لا يمكن الاتفاق عليها، لعدم وجود أسس ثابتة يرتكز عليها الجدل القائم بين الباحثين في كيفية تطور الشعر الجاهلي. أما ان هذه البحور، قد نشأت من سير الإبل، فكلام لا يقوم على علم، وهو من باب حدس الحداس، فلدى الشعوب الأخرى شعر، له ترانيم وبحور، ومع ذلك، فإنها لم تكن تركب الإبل، و لا تعرف ايقاع أرجلها عند المشي.

وقد قام المستشرقون بدراسة البحور التي نظم الشعراء الجاهليون بها شعرهم، فوجدوا أن البحر الطويل يأتي في المرتبة الأولى من البحور، يليه الكامل، فالوافر، فالبسيط. أما المتقارب فيوجد عند امرئ القيس، كما يوجد عنده المنسرح قليلاً. واستعمل "طرفة" الرمل في قصيدة يبلغ طولها "74" بيتاً، ترتيبها الخامس في ديوانه، كما استعمل السريع في قصيدتين، واستعمل كل من امرئ القيس وطرفة المديد في قصيدة واحدة، وأما الخفيف، فقد وجد في شعر المرقشين، وعبيد بن الأبرص، وعامر بن الطفيل، والأعشى، و لا يوجد الهزج إلا في قطعتين منحولتين، واحدة لطرفة، وأخرى لامرئ القيس.

وقد ذهب "غرونباوم" إلى أننا نجد تفنناً في شعر شعراء العراق وفي شعر من احتك بالحيرة من شعراء أكثر مما نجده في شعر أي مكان آخر. وذكر أن شعر "أبي دؤاد" الإيادي قد جاء على اثني عشر بحراً، ثم يرى أن المدرسة العراقية قد أكثرت من بحر الرمل، و لا يستعمل هذا البحر في الشعر القديم إلا أبو دؤاد في ثلاث قصائد، وطرفة في ثلاث قصائد، وعدي في سبع قصائد، والمثقب في قصيدة واحدة، والأعشى في قصيدتين. واستعمله امرؤ القيس في قصيدة واحدة، ورأى في ذلك دلالة على تأثر امرئ القيس بأبي دؤاد، وتأييداً للرواية التي ترى أنه كان راوية لأبي دؤاد.

ويجئ امرؤ القيس وعدي والأعشى بعد أبي دؤاد في تنويع البحور التي نظموا بها، فقد نظم كل واحد منهم في عشرة أوزان. وتدل الدراسات التي قام بها "فرايتاك" على قلة ورود النظم في بخري الرمل والخفيف بالنسبة إلى البحور الأخرى. ويظن ان الشعر الوارد في كتاب: "البخلاء" للجاحط، وهو: واعلمن علمـاً يقـينـاً انـه  ليس يرجى لك من ليس معك 

المنسوب لعبيد بن الأبرص، هو من الموضوعات.

ويرى "غرونباوم" ان من خصائص المدرسة العراقية نزوعها إلى بحر الخفيف، وعند أبي دؤاد الايادي خمس عشرة قصيدة بهذا الوزن، وعند عدي سبع، وعند الأعشى خمس، " ولم يستعمل هذا البحر عند سائر الشعراء المعاصرين إلا على نحو عارض". فورد عند عمرو بم قميئة، وعند المرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وعامر بن الطفيل، والحارث بن حلزة اليشكري.

ويظهر مما أورده المفسرون وأهل السير من قول "الوليد بن المغيرة" في الرسول وفي القرآن: "ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله: رجزه وهزجه، وقريضه ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر"، "فجعل الرجز والهزج من أوزان الشعر، وقرن بهما أسماء غير محددة، ويبدو أن تحديد هذه المعاني كلها عند العرب كان مختلفاً عن اصطلاحات العروضيين، وإلا فإن القبض في العروض من عيوب الزحاف، وهو حذف الحرف الخامس الساكن". وورد في رواية عن "أبي ذر": "لقد وضعت قوله على اقراء الشعر، فلا يلتئم على لسان"، وقد اختلفوا في المراد من الإقراء، وفي هذين الخبرين وأمثالهما دلالة على أنه قد كان لأهل الجاهلية قواعد ثابتة بالنسبة للشعر، وأن الشعر كان يعتمد عندهم عليها. وأن علماء العروض: "الخليل بن أحمد " و "الأخفش" لم يتمكنا من ضبط كل بحور الشعر التي كانت عند الجاهليين، بدليل أننا نجد أبياتاً خارجة عن العروض الذي وضعاه، ويظهر أن هذا الخروج يمثل مرحلة من مراحل الشعر، لم نقف على كنهها بعد. وقد وجد "العيني" أن في الأصمعية المرقمة ب"72" تشيعاً، قال عنه "غرونباوم": "ومثل هذا لا يعدّ خطأ، بل هومظهر من مظاهر التطور الفني في هذا الوزن، مظهراً استنكر أو نسي مع الزمن، حين وضع علم العروض، بعد حوالي قرنين من وفاة أبي دؤاد". وقد ذهب "غرونباوم" إلى أن "الخليل"، أقر "ستة عشر وزناً، واطرح بعض الأوزان الهزيلة التي كان القدماء قد استنبطوها"، والواقع أننا لا نستطيع الزعم، بأن الخليل قد أحاط علماً بكل أنواع العروض العربي الجاهلي.

ومن يفحص الشعر الجاهلي، يجد ان في بعضه اضطراباً وخروجاً وشذوذاً على قواعد "العروض"، وقد وجد هذا الشذوذ في شعر شعراء يعدون من الفحول، مثل "امرئ القيس"، في القصيدة التي مطلعها: عيناك دمعهما سِجالُ  كأن شأنيهما أوشالُ

ومثل عبيد بن الأبرص في قوله: أقفر من أهله ملحوبُ  فالقطبيات فالذنـوب

فقلما يخلو بيت من هذه القصيدة من حذف في بعض التفاعيل، أو زيادة، كما في الشطر الأول من هذا المطلع.

ومثل ما نسب إلى المرقش الأكبر، وعدي بن زيد العبادي، وغيرهم، من خروج على الوزن في بعض الشطور، وإخلال في الوزن، حتى زعم بعض العلماء، ان في نونية "سلمى بن ربيعة" خروجاً عن العروض: عروض الخليل. وقد أشرت في مكان آخر إلى وقوع الإقواء والإكفاء والزحاف في شعر بعض الشعراء، مثل امرئ القيس، والنابغة، وبشر بن أبي خازم، وهي أمور تلفت النظر، لا ندري أكانت قد وقعت من الشعراء حقاً، أم من الرواية والرواة، أم انها لم تكن عيباً بالنسبة لعروض الجاهليين، وانما عدت من العيوب بالنسبة إلى العروض الذي ضبط في الإسلام، أو انه وقع بسبب تعديل أو تبديل أدخله العلماء على الأصل، ليلائم قواعد العربية، فوقع من ثم ما قيل له عيباً. وانني لا استبعد وقوع السهو في نظم الشعر من شاعر مهما كان فحلاً، فقد روي ان بعض الفخول من شعراء العصر الأموي كالكميت والفرزدق والأخطل، قد وقعوا في أخطاء، وان رواتهم كانوا يجرون تنقيحاً وتغييراً على أشعارهم، ليقوّموا بذلك ما انحرف في شعرهم وما فيه من السناد، ولكن وقوع ما نشير اليه يدل على أن ما نعده اليوم عيباً أو خروجاً على القواعد والعروض، لم يكن ينظر اليه هذه النظرة عند الجاهليين وفي صدر الإسلام، وإلا دل ذلك على جهل أولئك الشعراء بقواعد اللغة وعلم الشعر، وحاشا وقوع ذلك منهم، وشعرهم نفسه كان في جملة المواد الأساسية التي استعان بها علماء القواعد والعروض في بناء النحو والعروض.

وقد قصر علماء الشعر فحولة الشعر في الجاهلية على الشعراء المعروفين بالنظم بالبحور المشهورة، فيما عدا الرجز، أما قالة الرجز، فهم طبقة خاصة، عرفت عندهم بالرجّاز. ويظهر من القول المنسوب إلى "الوليد بن المغيرة"، "لقد عرفنا الشعر كله: رجزه، وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه"، أن الشعر في نظم أهل مكة: رجز، أو هزج، أو قريض، أو مقبوض، أو مبسوط، وأن من يقول الرجز، فهو راجز ورجّاز، ولم يكن الرجز كما يقول علماء الشعر طويل النفس، وإنما كان أبياتاً، وقد بقي هذا حاله حتى أيام الأمويين، فطول ولقي عناية خاصة عند كثير من الشعراء، فأخذوا يذهبون به مذهب القصيد، فقصدوه، بأن جعلوه قصائد، وعمدوا إلى تخفيف ما تتركه بساطة العروض وسهولته في النفس من ملل، بأن لجأوا إلى استعمال العبارات البعيدة المأخذ، والأفاظ الغريبة، والاختراعات اللطيفة، حتى تمكنوا من إدخاله إلى قصور الخلفاء الأمويين، ومن نيل الجوائز والألطاف منهم.

وبعود الفضل في رفع مستوى الرجز في الإسلام، إلى رجلين من "بني عجل"، هما: "الأغلب بن عمرو" العجلي، "21 ه"، و "أبو النجم الفضل بن قدامة" العجلي، والى رجال من "تميم"، على رأسهم: "العجاج" "97 ه" وابنه "رؤبة" المتوفي سنة "145 ه" وقيل "147 ه"، و "عقبة" ابن "رؤبة" هذا، و "أبو المرقال الزفيان"، و "دكين بن رجاء" الفقيمي، و "محمد ابن ذؤيب" الفقيمي العماني.

و لا نملك شعراً يمكن أن يقال عنه أنه أقدم ما وصل الينا من مراحل الشعر الجاهلي. حتى هذا الرجز، الذي ينظر اليه المستشرقون على أنه أول مرحلةمن مراحل الشعر الجاهلي، لبساطته ولسهولته، ولكونه وسطاً بين السحع والشعر، لا نملك نماذج منه، يمكن أن نطمئن إلى أنها كانت من الشعر القديم، الذي يصلح للاستشهاد به على انه من قديم الشعر، إذ لم يحفل علماء الشعر بالرجز لاعتبارهم اياه دون الشعر، فلم يدونوا منع شيئاً يذكر، ولذلك نجد نسبته بالنسبة إلى كمية الشعر الآخر" التقليدي" نسبة ضئيلة جداً، وهذا ما جعل علمنا بالرجز الجاهلي قليلاً جداً.

ولسهولة الرجز، ولقابليته على الخروج على كل لسان، أرى انه كان أكثر نظماً من الشعر المألوف، ودليل ذلك اننا لو درسنا أخبار الأيام وأخبار الغزو والمعارك نجد للرجز فيها مكانة كبيرة، فالمحارب الذي يقارع خصمه ويتجالد معه يرتجز رجزاً في الغالب لسهولته على اللسان ولمناسبته لمقارعة السيوف، وللوقت القصير الذي يكون عنده ليقضي فيه المحارب على من يحاربه، ثم ان في استطاعة غير الشعراء الارتجال، وليس في استطاعتهم نظم الشعر، لذلك كان الرجز اكثر كمية من الشعر، ولكن كثرنه هذه وسهولته، قصرتا في عمره، وربما صارتا من العوامل التي جعلت الناس لاتقدم على حفظه.

ولما كان الشعر تعبيرا عن عواطف جياشةوعن حس مرهف، وعن نفس حساسة تريد التعبير عن نفسها بأي أسلوب كان، فان في استطاعتنا القول انه لازم البشرية منذ عرفت نفسها، وأخذت تعبر عن احساسها بأية طريقة كانت: بطريقة بدائية أو متطورة. فبدأ الشعر كما بدأ الإنسان نفسه، بداية بسيطة ساذجة بدائية، ثم تطور بتطور مدارك الإنسان، وتعددت طرقه وبحوره، بتطور العقل والمدارك وبأرتفاع مستوى الحياة، فكان لذة يلتذذبها المسافر، وهو يقطع الطرق الصعبة، والصحاري الموحشة، يعبر عنها بغناء ذي نغم، وبألفاظ تناسب ذلك الغناء، كما كان يعبر عنها في التشوق والتحبب إلى الآلهة والقوى الطبيعية التي كان يرى انها تؤثر في حياته، وفي مناسبات التقرب إلى الملوك والحكام، لينال منهم لقمة عيش، وشيئا من المال كما عبر عنها في الافراح وفي الاتراح، وفي الفخر والمدح والذم، وهو الهجاء، وفي الظروف التي تؤثر عليه، فتجعله يفرح من رؤيتها ويرتاح، مثل المناظر الطبيعية الجميلة، والأصوات الجميلة وجمال الإنسان.

والشعر الجاهلي الصحيح، هو حاصل تطور طويل مستمر، لايمكن تحديد اوله، اذ بدأ الشعر منذ بدأ الإنسان يشعر بالفرح وبالسرور وبالتعبير عن عواطفه. وقد فقد القديم منه بسبب عدم تدوينه في حينه، وبسبب صعوبة بقائه في الذاكرة إلى أمد طويل، ولم يصل منه الينا الا هذا القليل الذي قيل في عهد لايرتقي كثيرا عن الإسلام، وهذا القليل الباقي، هو الصفحات القليلة الاخيرة من كتاب لانستطيع أبدا تقدير حجمه، هو كتاب الشعر الجاهلي الذي ختم بتغلب الإسلام على الشرك، وبموت الجاهلية وظهور دين الله.

أما قول القائلين انه لم يكن لأوائل العرب من الشعر الاالابيات يقولها الرجل في حاجته، وانما قصدت القصائد في عهد مهلهل، أوهاشم، أوعبد المطلب، فرأي لايقوم على دليل، وليس له سناد تأريخي، وانما هو مجرد رواية رواها رواة الشعر في الإسلام. اذ لايعقل أن تكون قريحة الجاهلين الذين عاشوا قبل الإسلام بقرنين أو بقرن ونصف قرن، قريحة محبوسة محصةرة، حددت بحدود لم تتعدها ولم تتخطها، فإذا هاجت وماجت بالأحاسيس وبالشعور المرهف، صاغت حسها هذا ببيت أو ببيتين أو ثلاثة، ثم توقفت عند هذا الحد لا تتجاوزه أبداً. واذا كان الشعر طبع في الإنسان كما يقولون ونقول، وهو نوع من أنواع التعبير عن الخاطر، وجب تصور أن صياغته في قوالب من أبيات شعر، إنما تكون صياغة منسجمة مع طول وعرض الخاطر صغيراً، ضئيلاً، صيغ ببيت أو بأبيات، وإذا كان طويلاً مبعوثاً عن حس ملتهب جياش، صيغ بأبيات تزيد عن تلك يتناسب عددها مع حجم ذلك الخاطر. فمن هنا لا نستطيع أن نقول إن شعر قدماء الجاهليين كان أبياتاً لا تزيد على ثلاثة، وإنهم لم يكونوا يملكون القدرة على نظم ما يزيد على ذلك، إلى أن جاء "عدي بن ربيعة" التغلبي، الملقب بالمهلهل، فوسع الشعر وزاد الأبيات وقصد القصائد. فقول مثل هذا وإن قال به علماء هم أعلم منّا بفنون الشعر وبدروبه، قول لا يمكت الأخذ به لما ذكرته. أفلم يكن للذين سبقوا المهلهل من العرب لسان مثل لسانه وحس مثل حسه ? إذا كان لهم مثل ما كان له، فيفترض أن يكون تعبيرهم عن عواطفهم، مثل تعبيره عنها سواء بسواء، قد يكون قليلاً وقد يكون كثيراً من غير تغيير أو تحديد و لا تقنين، لأن التحديد بتوقف على طول وقصر الحس الذيّ يستولي على الشاعر فيصوغه شعراً.

أما إذا قصدوا من قولهم المذكور معنى ان المهلهل كان أول شاعر وصل شعره الينا أبياتاً زاد عددها على عدد ما وصل الينا من شعر أي شاعر تقدم عليه، وانه أول من رويت له كلمة بلغت ثلاثين بيتاً، فذلك أمر آخر لا صلة له بدعواهم ان الشعر كان قبل المهلهل رجزاً وقطعاً، فقصده مهلهل، ثم أمؤ القيس من بعده. وظل الرجز على قصره بمقدار ما تمتح الدلاء، أو يتنفس المنشد في الحداء حتى كان الأغلب العجلي، وهو على عهد النبي، فطوّله شيئاً يسيراً وجعله كالقصيد.

وهذا معناه عندي ان شعر "المهلهل"، هو أول شعر طويل وصل إلى علماء الأخبار من شعر قدماء الشعراء الجاهليين، وأما شعر من سبقه، فقد فُقد وضاع معظمه، ولم تبق منه إلا بقية، هي بيت أو أبيات دون مرتبة القصيدة، لعدم تمكن الذاكرة من حفظ أكثر من ذلك لتقادم العهد.

والشعراء الجاهليون كثيرون، "لأنه قلّ أحد له أدنى مسكة من أدب، وله أدنى حظ من طبع، إلا وقد نال من الشعر شيئاً، ولاحتجنا أن نذكر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلة التابعين، وقوماً كثيراً من حملة العلم"، ويكاد يكون قول الشعر سجية في نفوس الجاهليين، ولهذا كثر عددهم، فصعبت الإحاطة بهم، واكتفى علماء الشعر بذكر النابهين البارزين منهم، "الذين يعرفهم جلّ أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب وفي النحو، وفي كتاب الله، وحديث رسول الله". قال " ابن قتيبة": "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط، أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم، واستفرغ جهده في البحث والسؤال. و لا أحسب أحداً من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعرُ إلا عرفه، و لا قصيدة إلا رواها". وقال "أبو عمرو بن العلاء": "ما انتهى اليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير".

تنقل الشعر وانتشاره بين القبائل

ذكر "أبو عبد الله محمد بن سلام" الجمحي، وغيره من المؤلفين ان الشعر كان في الجاهلية في ربيعة، ثم تحوّل في قيس، ثم استقر في "تميم". ومعنى هذا على لغة أهل الأنساب وعلماءؤ الشعر، ان الشعر بدأ في ربيعة، ثم انتقل منها إلى "مضر"، فقيس من مضر، و "تميم" من مضر كذلك، وان مضر نافست ربيعة في الشعر، وصار الحيّان الشقيقان: ربيعة ومضر، أصحاب الشعر وموجوده، أما "اليمن"، فإنهم قد ساهموا فيه أيضاً، حسب زعم أهل الأخبار والأنساب، لكنهم لم يبلغوا فيه مبلغ ربيعة ومضر.

ويزعم أهل الأخبار، ان من شعراء ربيعة:"المهلهل"، والمرقشان، وسعد بن مالك، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس، والأعشى، والمسيب بن علس. وان من شعراء "قيس" النابغتان، وزهير بن أبي سلمى، وابنه كعب، ولبيد، والحطيئة، والشماخ، وأخوه مزرد. وان من شعراء "تميم" "أوس بن حجر" شاعر مضر في الجاهلية، ولم يتقدمه أحد منهم، حتى نشأ "النابغة"، و "زهير" فأخكلاه، وبقي شارع "تميم" في الجاهلية غير مدافع.

ولا يمثل هذا التنقل الزعوم ترتيباً زمنياً، بمعنى ان الشعر بدأ بربيعة أولاً، ثم انتقل منها إلى قيس، ثم انتقل بعدها إلى تميم، إذ يتعارض ذلك مع ما يرويه أهل الأخبار وعلماء الشعر من تعاصر أكثر الشعراء، ومن نبوغ معظمهم في وقت واحد، وانما هو قول من أقوال أهل الأخبار المألوفة، أصله رأي رجل واحد، حمل عنه بالنص بذكر اسمه أحياناً، وبدون ذكره أحياناً أخرى، فلما تواتر في الكتب، صار في حكم الإجماع، يقال دون نقد و لا مناقشة إلى هذا اليوم.

وما ذكرته عن تنقل الشعر يمثل رأي الرواة العدنانيين، أما اليمانية، فترى "تقدمة الشعر لليمن: في الجاهلية بامرئ القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت". "وقال آخرون: بل رجع الشعر إلى ربيعة فختم بها كما بدئ بها". وهو رأي لليمانية، فقد صعب على القحطانية المناهضة للعدنانية، الاعتراف بالتفوق عليها حتى في الشعر، فزعمت أن الشعر بدأ بها، وأنه كان من مكارمها القديمة، وكل مكرمة إنما بدأت بقحطان، وما عدنان إلا مستعربة أخذت عربيتها من "يعرب قحطان"، وهي دون القحطانية في كل شئ.

وحكم مثل هذا لا يمكن إصداره بالطبع إلا بسند علمي، وليس في يد أحد حتى يومنا هذا سند جاهلي، يؤيد رأي هذا أو ذاك، وقد لا يأتي يوم يمكن اعطاء رأي علمي فيه. أما ما ذكرته، فهو نقل لآراء أهل الأخبار، ورأينا في آرائهم في هذه الأمور معروف، فنحن لا نأخذ آرائهم مأخذ الجدّ، و لا نثق بها، وكلها في نظرنا حاصل عصبية، وقد لعبت العاطفة القبلية دوراً خطيراً في ظهورها، ونحن لا نستطيع تقديم ربيعة على مضر في الشعر، و لا تقديم مضر على ربيعة فيه، لعدم وجود دليل لدينا نتخذه سنداً ومستمسكاً في أيدينا لإثبات أي رأي من هذين الرأيين. أما أن يكون قد بدأ باليمن، فالمسند، يعارضه ويناقضه، إلا إذا اعتبرنا اليمن، القبائل الساكنة في الشمال، أي خارج العربية الجنوبية، والتي يرجع النسّابون نسبها عادة إلى اليمن، وهي قبائل كانت تتكلم بلهجات عربية شمالية، فذلك أمر آخر، وأمرها عندنا حينئذ مثل أمر ربيعة ومضر، للسبب المتقدم، وهو عدم وجود أدلة لدينا تعيننا في الحكم بتقديم فريق على فريق، واعطائه الأولوية في قول الشعر.

والشعر في نظرنا موهبة انسانية عامة، لم تختص بقوم دون قوم، و لا بأمة دون أمة، وهي على هذه السجية بين العرب، لم تختص بربيعة، حتى نقول ان الشعر بدأ بها، و لا بمضر حتى نقول أنه ظهر أول ما ظهر عندها و لا باليمن، حتى نقول انه بدأ بها وختم بها. وانما هو نتاج قرائح كل موهوب وذي حس شاعري من كل القبائل والعشائر. والشعر كما قلت مراراً شعور وتعبير عن عواطف تخالج النفس، فكل انسان يكون عنده حس مرهف، واستعداد طبيعي، وذوق موسيقي، يمكن أن يكون شاعراً من أي حي كان، ولهذا كان الشعراء من قيائل مختلفة، واذا تقدمت قبيلة على أخرى في كثرة عدد شعرائها، فليس مرّد ذلك ان تلك القبيلة كانت ذات خس مرهف، واستعداد فطري لقول الشعر، وان بقية القبائل كانت قبائل غبية بليدة الخس والعواطف، فلم ينبغ بينها مثل ذلك العدد من الشعراء، فقد تكون هنالك أسباب أخرى نجهلها في هذا اليوم، جعلتنا نتصور انها كانت متخلفة في الشعر، كأن تكون منازل تلك القبائل بعيدة منعزلة، لم يتصل بها أحد من جمّاع الشعر ورواته. وهم بين كوفي وبصري، فلم يصل شعرها اليهم، فانقطع نتيجة لذلك عنّا، أو ان تلك القبائل كانت قبائل صغيرة، لم يكن لها شأن يذكر، فانحصر شعرها في حدودها ولم يخرج عنها، فخمل ذكره، ولم ينتشر خبره بين القبائل الأخرى، فلما ظهر الإسلام كان قد خفى ومات.

ودليلنا اننا إذا دققنا في هذا الشعر الجاهلي الواصل الينا في الكتب، نجد انه شعر قبائل كبيرة، لعبت في الغالب دوراً خطيراً في مجتمع ذلك اليوم، مثل: كندة وبكر، وأسد، وتميم، وتغلب، ثم هو شعر شعراء كان لهم اتصال وثيق بالعراق في الدرجة الأولى، أي بملوك الحيرة، الذين كان نفوذهم يشمل أرضين واسعة، مثل البحرين ونجد واليمامة في بعض الأحيان، فكان لقبائل هذه الأرضين اتصال بحكام الخيرة، ولها مواقف معهم: حسنة أحياناً وسيئة أحياناً أخرى، وفي مثل هذه المواقف، يكون للشعراء دور خطير فيها، فهم بين مادح، أو ذام قادح، أو رسول قوم جاء إلى الملوك في وفادة لفك أسير، أو لاصلاح ذات بين، أو جاء لنيل عطاء، ونخن لا نكاد نجد شاعراً من الفحول أو من الشعراء المشهورين، الا وله صلة بملك أو أكثر من هؤلاء الملوك، حتى لايكاد يفلت منهم شاعر. أما ملوك الغساسنة، فلهم بعد أولئك الملوك صلة بالشعراء، بل هم دونهم اتصالاً بالشعراء ومرجع ذلك في نظري ان حكم الغساسنة لم يتجاوز بادية الشام وحدود مملكة البيزنطيين، فلم يكن لهم لذلك اتصال بقبائل البادية البعيدة عن منطقة نفوذهم، ولا بقبائل الحجاز ونجد واليمامة والبحرين، فتقلص مجال اتصالهم بالشعراء، ولم يصل اليهم الا الشعراء من أصحاب الحاجات، الذين كانو يطوفون البلاد، ويقصدون الموسرين الكرماء أينما كانوا لنيل صلاتهم ثمناً لمدحهم لهم، والا الشعراء الذين غضب ملوك الحيرة عليهم، أو لم ينالوا منهم تحقيق مطمع وحل مشكل، أو فك أسير، فجاءوا لذلك إلى الغساسنة خصومهم نكاية بهم، والا بالشعراء الذين أغار قومهم على أرض الغساسنة، فوقع نفر منهم في أسرهم، فأرسلهم أهلهم وسطاء ورسلاًعنهم، للتوسل اليهم بفك أسرهم.

ونحن لو ثبّتنا أسماء مواطن شعراء الجاهلية على صورة جزيرة العرب نرى أنها كانت في الحجاز ونجد واليمامة، والبحرين والعراق. أما بلاد الشام فقد كانت فقيرة جداً بهم، بل لا نكاد نجد فيها شاعراً لامع الاسم، ترك أثراً في الشعر. ويّلفت هذا الجدب في الشعر النظر اليه حقاً، فقد عاشت ببلاد الشام قبائل كبيرة كان لها شأن كبير في تلك البلاد قبل الإسلام وفي الإسلام، مثل غسان، وبهراء، وكلب، وقضاعة، وتنوخ، وتغلب، وقبائل أخرى لعبت دوراً خطيراً في الحروب مع عرب الحيرة، وفي مساعدة الروم، كما لعبت دوراً خطيراً في الفتوحات الاسلامية، فقد ساعدت الروم أولاً، ثم انضمت إلى المسلمين في قتالهم مع البيزنطيين، وقبائل هذا شأنها لا يعقل الا يكون لها شعر وألاّ ينبع من بينها شعراء لكثرة عددها ولمنافستها لعرب العراق، ولكون لسانها هذا اللسان العربي الشمالي. فهل كان عند تلك القبائل شعراء، لم يصل اسمهم إلى علماء الشعر، فلم يذكروهم لجهلهم بهم في عداد شعراء الجاهلية ? فصرنا لذلك لا نعرف من أمرهم شيئاً! أو أنها كانت مجدية حقاً لأنها كانت بمنأى عن الشعر والشعراء، لتحضرها وتأثرها بالنصرانية وبثقافة بني ارم، فلم توائم تربتها الشعر، لذلك أجدبت فيه، ولم ينبت فيها شاعر لامع الاسم ! يقول علماء اللغة: "والذين عنهم نقلت العربية وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فان هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الاعراب والتصريف، ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.

وبالجملة، فانه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم ؛ فانه لم يؤخذ من لحم ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان، واياد، لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من تغلب. فالقبائل المذكورة، وان كانت من القبائل العربية الكبيرة المرموقة، إلا أن اقامتها ببلاد الشام اقامة طويلة ومجاورتها أهل الشام، وتأثرها بلسانهم، واعتناقها النصرانية، وأخذها ديانتها بالسريانية التي سماها أهل الأخبار خطأ العبرانية، وتحضرها وقرارها والتهائها بالزرع والرعي، صيرت كل هذه الأمور وأمثالها لسانها عربياً مشوباً برطانة، ولهذا ?عرفت ب "العرب المستعربة" وب "مستعربة الشام"، عند المسلمين، حتى صارت تلك الرطانة سبباً لاعراض علماء اللغة عن الاحتجاج بلغتها في شواهد القرآن والشعر على نحو ما رأيت.

وقد يكون لتلك القبائل شعر، غير ان علماء اللغة قاطعوه للسبب المذكور، ولكني لا أستطيع الجزم بذلك، لعدم ورود اشارة إلى هذه الناحية في كتب أولئك العلماء ولا في كتب أهل الأخبار.

ثم اني لاحظت ان أخبار فتوح الشام لا تذكر شيئاً من شعر القبائل المستعربة التي حاربت مع الروم المسلمين، أو التي حاربت مع المسلمين الروم، وحيث اننا نعرف ان من عادة العرب الاستعانة بالشعر والرجز أثناء غزوها وقتالها، لذلك تلفت هذه الملاحظة الأنظار، وتحمل المرء على البحث في سبب وجود هذا الفقر في شعر القتال في فتوح الشام، بينما نجد شعراً غزيراً وافراً أنتجته قرائح المقاتلين في حروب العراق نظمه المحاربون المسلمون، ومحاربو القبائل العراقية الوثنية والمتنصرة التي حاربت مع الفرس، أو التي حاربت مع المسلمين أو تلك التي انضمت إلى المسلمين فيما بعد.

وبسبب هذا الفقر في نظري، ان قبائل بلاد الشام، كانت قد تأثرت بلغة وبثقافة أهل الشام، وبالنصرانية المتأثرة بالسريانية وبالرومية وقد غلبت عليها نزعة الاستقرار، فاستقرت في حواضر حضرية كبيرة مثل دمشق وحمص وحلب، وقنسرين، وغيرها، وهي حواضر معظم سكانها من السوريين والروم، لا من العرب، وكانت نصرانية، صلواتها بالسريانية، وثقافتها سريانية يونانية فتأثرت بثقافة من عاشت بينهم، وانصرفت إلى الزراعة ورعي الماشية، وشابت لهجتها رطانة ارمية، ولم تحفل بالشعر احتفال بقية العرب به. لذلك لم يظهر من بينها شاعر فحل.

أما عرب العراق، فقد كانوا عرباً وأعراباً، عربهم في قرى عربية، حكامها من العرب ورجال دينها نصارى، ولكنهم نصارى عرب أو مستعربة، علموا العربية في كنائسهم، ونشروا الخط العربي في خارج العراق، وتفقهوا في علوم العربية، وفي جملة هذه العربية الشعر. وأما أعرابهم، فقد كان قوم منهم نصارى والباقون على الشرك وعلى سمة الأعراب منذ وجدوا من الميل إلى الاستقلال وعدم الخضوع لحكم أحد، ومن الاعتزاز بالنفس والتعبير عن الأحاسيس المرهفة بقول الشعر، وأما حكامهم، وهم ملوك الحيرة، فكانوا على سنة كبار سادات القبائل من استقبال الشعراء والاستماع إلى انشادهم، وتلبية طلباتهم، وكان من صالحهم اصطناع الشعراء لامتداد ملكهم إلى نجد واليمامة أحيانا" والى البحرين وهي من أهم مواطن الشعر في الجاهلية، والشعراء أبواق الدعاية في ذلك العهد، وقدكان ملوك الحيرة شعراء، ينظمون الشعر، ولهم اطلاع ووقوف على شعر الشعراء، وكان من اتصل بهم من سادة الحيرة شعراء كذلك، لهم شعر مدوّن في كتب الأدب، وفيه ما قالوه في فتوح المسلمين للعراق، فمن هنا ظهر الشعر في العراق، على حين خمل في بلاد الشام.

ولم تكن القبائل سواء في الشعر وفي عدد شعرائها، وهذا شيء طبيعي، لا يختلف فيه اثنان. وقد لاحظ ذلك علماء الشعر، فأشاروا إلى أسماء قبائل أنجبت في الشعر وأخصبت في الشعراء، وكان "الجاحظ" الكاتب الذكي ممن لاحظ ذلك، فقال: "وبنو حنيفة مع كثرة عددهم، وشدة بأسهم، وكثرة وقائعهم، وحسد العرب لهم على دارهم وتخومهم وسط أعدائهم، حتى كأنهم وحدهم يعدلون بكراً كلها، ومع ذلك لم نر قبيلة قط أقل شعراً منهم. وفي اخوتهم عجل قصيد ورجز، وشعراء رجازون. وليس ذلك لمكان الخصب وانهم أهل مدر، وأكالو تمر، لأن الأوس والخزرج كذلك، وهم في الشعر كما قد علمت. وكذلك عبد القيس النازلة قرى البحرين، فقد تعرف ان طعامهم أطيب من طعام أهل اليمامة.

وثقيف أهل دار ناهيك بها خصباً وطيباً، وهم وان كان شعرهم أقلّ، فان ذلك القليل يدل على طبع في الشعر عجيب، وليس ذلك من قبل رداءة الغذاء، ولا من قلة الخصب الشاغل والغنى عن الناس، وانما ذلك عن قدر ما قسم اللّه لهم من الحظوظ والغرائز، والبلاد والاعراق مكانها.

وبنو الحارث بن كعب قبيل شريف، يجرون مجاري ملوك اليمن، ومجاري سادات أعراب أهل نجد، ولم يكن لهم في الجاهلية كبير حظ في الشعر. ولهم في الإسلام شعراء مغلقون.

وبنو بدركانوا مفحمين، وكان ما أطلق اللّه به ألسنة العرب خيراً لهم من تصيير الشعر في انفسهم. وقد يحظى بالشعر ناس ويخرج آخرون، وان كانوا مثلهم أوفوقهم. ولم تمدح قبيلة في الجاهلية، من قريش، كما مُدحت مخزوم، ولم يتهيأ من الشاهد والمثل لمادحٍٍفي أحد من العرب، ما تهيأ لبني بدر.

وقد كان في ولد زرارة لصلبه، شعر لقيط وحاجب وغيرهما من ولده. ولم يكن لحذيفة ولالحصن، ولاعيينة بن حصن، ولالحمل بن بدر شعر مذكور.

وقال "يونس بن حبيب" الضبي، "ليس في بني أسد إلا خطيب أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس، وليس في هذيل إلا شاعر أو رام أو شديد العدو". وذكر"الجاحظ" أن "عبد القيس" بعد محاربة "اياد" تفرقوا فرقتين، ففرقة وقعت بعمان وشق عمان، وفيهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين، وهم من اشعر قبيلة في العرب. ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي عدن الفصاحة، ولابن سلام رأي في هذا الموضوع إذ يقول: "وبالطائف شعر وليس بالكثير، وإنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الاحياء، والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم نائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عمان".

وجاء ان افصح الشعراء ألسناً وأعربهم أهل السروات، وهن ثلاث الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن، فأولها هذيل، وهي تلك السهل من تهامة ثم جبلة السراة الوسطى، وقد شركتهم ثقيف في ناحية منها، ثم سراة الازد، أزد شنوءة، وهم بنو الحارث بن كعب بن الحارث بن نضر بن الازد. وذكر ان قبيلة "هذيل" هي في طليعة القبائل عدداً في الشعراء، فقد روي العلماء لأربعين شاعراً منهم في الجاهلية والاسلام، وهو عدد قياسي بالنسبة إلى عدد الشعراء الذين أنجبتهم القبائل الاخرى، وقيل عنها إنخا اعرقت في الشعر. وروي أن سائلاً سأل"حسان بن ثابت": "من أشعر العرب?فقال:أراحلاً أم حياً? قيل:بل حياً، قال:اشعر الناس حياً هذيل". وكان الشافعي يحفظ عشرة الاف بيت من شعر هذيل بأعرابها وغزيبها ومعانيها". وقد عدت "هذيل" أشعر القبائل في رأي بعض العلماء.

وذكر الاخباريون ان العرب كانت تقر لقريش بالتقدم في كل شيئ إلا في الشعر، فإنها كانت لا تقر لها به، حتى كان عمر بن أبي ربيعة، فأقرت له الشعراء بالشعر ايضاً ولم تنازعها. وقالوا: إن قريشاً كانت اقل العرب شعراً في الجاهلية، فأضطرها ذلك ان تكون أكثر العرب انتحالاً للشعر في الإسلام.

وروي عن "معاوية" انه كان يقول: فضل المزنيون الشعراء في الجاهلية والاسلام. وكان يقول: أشعر اهل الجاهلية زهير بن أبي سلمى واشعر الإسلام ابنه كعب، و"معن بن أوس" و "معن"شاعر مجيد من مخضرمي الجاهلية والاسلام.

فبعض العرب مخصبين في الشعر، وبعضهم أقل خصباً، وقد رجع "الجاحظ" سبب ذلك إلى الموهبة والطبع، فكما ان النبوع يتفاوت بين انسان وانسان، كذلك يتفاوت الشعر بين قبيلة وقبيلة، ورجع "ابن سلام" ذلك إلى عامل البداوة، والحضارة، فلأعراب متشاجرون مكثرون من الغزوات يغزو بعضهم بعضاً، والشعر يكثر بالحروب التي تكون بين الاحياء، أما الحضر، فأنهم لا يميلون إلى الحروب والمعارك، ولذلك يقل شعرهم على رأيه. ولهذا السبب قل شعر قريش، لأنه لم يكن بينهم نائرة ولم يحاربوا. فالحرب تهيج العواطف، وتحمل الناس على التحمس لها والدفاع عن انفسهم وتكديس كل القوى للتغلب على العدو، والشعر من أهم وسائل تسعير نار الحرب.

وقد اشار اهل الأخبار إلى بيوت ذكروا إلى بيوت ذكروا انها اشتهرت بقول الشعر، وبظهور المعرقين فيها، وضربوا أمثلة عليها بيت "أبي سلمى". فقد كان شاعراً واسمه ربيعة، وابنه زهير بن ابي سلمى، وله خؤولة في الشعر، خاله بشامة بن الغدير، وكان كعب وبجير ابنا زهير شاعرين، وجماعة من ابنائهما.

وضربوا المثل ببيت "حسان بن ثابت"، فقد كان أبوه وجده وأبو جده شعراء، وابنه عبد الرحمن شاعر، وسعيد بن عبد الرحمن شاعر.

ومن البيوتات التي عرفت بالشعر، بيت "نهشل بن حري بن ضمرة بن جابر بن قطن"، ستة ليس يتوالي في بني تميم مثلهم شعراً، وكذلك بيت "النعمان بن بشير"، وكانت أنه "عمرة بنت رواحة" شاعرة، وخاله "عبد الله ابن رواحة" أحد شعراء الرسول.

ومن بيوتات الشعر المعرقة في الجاهلية والاسلام، "آل الحارثي"، منهم "عبد يغوث بن الحارث بن وقاص" الحارثي. وكان شاعراً من شعراء الجاهلية، فارساً سيد قومه من "بني الحارث بن كعب"، وهو الذي كان قائدهم يوم"الكلاب" الثاني فأسرته "تيم"وقتلته. ومنهم "اللجلاج" الحارثي، وهو طفيل بن زيد بن عبد يغوث، وأخوه "مسهر"فارس شاعر، وهو الذي طعن " العامر ابن الطفيل" في عينه يوم "فيف الريح". ومنهم ممن أدرك الإسلام "جعفر بن عُلبة بن ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث" وكان شاعراً صعلوكاً، أخذ في دمٍ فحبس في المدينة ثم قتل صبراً. وقد تعرض "جرجي زيدان" لموضوع تنقل الشعر في الأقاليم، فقال: "واذا أحصيت شعراء الجاهلية الذين بلغنا خبرهم بالنظر إلى المواطن، رأيت نحو خمسيهم من نجد، والخمس الثالث من الحجاز ن والرابع من اليمن والباقي من العراق، وفئة قليلة من البحرين و اليمامة وتهامة"، وذلك على أعتبار ان القبائل: "كندة"، و " أسد"، و "مزينة"، و "عبس"، و "سلم" نو "عامر"، و "طيء"، و "جشم"، و"ضبيعة"، و "سعد"، و " ضبة"، و "جعدة"، و "باهلة"، و "تميم"، و "عكل"، و "بكر"، و "مرة"، و "نبهان"، ومن قبائل نجد ن و ان " ذبيانط، و "هذيل"، و "الاوس"، و "الأزد" من الحجاز، وان طيشكرط، و "تغلب"، و "العباد"، و "تميم"، و "بكر"، و "إياد"، من العراق، و ان "بكراً"، و "ضبعاً"، من البحرين، وان "بني ثعلبة" من اليمامة، و ان "فهماً"، و "مزينة" من تهامة. وهو تقييم لا يمكن الأخذ به في هذا اليوم، وفيه اخطاء، وقد بني على روايات لأهل الأخبار، تعارضها روايات أخرى لهم، لم يقابلها أو يطابق بعضها ببعض، فوقع لذلك في أوهام.

ونلاحظ أنه سار على رواية أهل الأخبار في تنقل الشعر في القبائل، فجعل "ربيعة" أول من نبغ في الشعر، ثم حوله إلى قيس فتميم. ثم ظهر الشعر بعد ذلك على رأيه في بطون مدركة من مضر، وهي: هذيل، وقريش، و أسد، و كنانة، و الدئل و غيرهم. وكلهم من اهل البادية، أما أهل المدن، فقلما نبغ بينهم شاعر فحل، وأشعرهم "حسان بن ثابت".

ومن أهم قبائل ربيعة و بطونها: بكر، وتغلب، وعبد القيس، والنمر بن قاسط، ويشكر، وعجل، و "جشم"، وحنيفة، و قيس بن ثعلبة، وضبيعة، و شيبان، وذهل، وسدوس. ومن أشهر شعراء هذه المجموعة المرقشان الأكبر والأصغر، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، و المتلمس، خال طرفة، و الاعشى، و المسيب بن علس و آخرون. و قد جعل "زيدان" عددهم "21" شاعراً.

وقد نزل بنو قيس بن ثعلبة وبنو حنيفة اليمامة. ومن بطون قيس بن ثعلبة: سعد بن ضبيعة، رهط الأعشى، ومن ديارهم "منفوحة". وكانوا بين الحياة الحضرية والحياة الأعرابية، يرعون الابل والغنم، الا أنهم أصحاب نخيل. أما حنيفة، فكانت تزرع وترعى، وقريتهم الكبرى "حجر"، وكانوا يزررعون الحبوب، ويمونون الأعراب ومكة بها. وكانت النصرانية قد وجدت سبيلها بينهم، وقد افتخر "الأعشى" بقومه على "اياد"، لأنهم أصحاب مال، أما "اياد"، فأصحاب زرع ينتظرون حصاد حبهم، وذلك في هجائه لهم بقوله: لسنا كمن جعلت اياد دارها تكريت تنظر حبّها أن يحصدا جعل الاله طعامنا في مالنا رزقا" تضمنه لنا أن ينفدا مثل الهضاب جزارة لسوفنا فاذا تراع فانها لن تطردا ضمنت لنا أعجازهن قدورنا وضروعهن لنا الصريح الأجردا وقيس قبيلة كبيرة من بطونها: عبس، وذبيان، وغطفان، وعدوان، وهوزان، وسليم، وثقيف، وعامر بن صعصعة، ونمير، وجعدة، وقشير، وعقيل. وكانت هذه القبائل في نجد وأعالي الحجاز، وقد نبع فيها جماعة من فحول الشعراء، منهم النابغتان، وزهير بن أبي سلمى، وكعب بن زهير ابنه، ولبيد، والحطيئة، والشماخ، وأخوه "مزرد"، وخداش بن زهير، وعنترة العبسي وغيرهم. وعندهم ان أشعر قيس الملقبون من بني عامر والمنسوبون إلى أمهاتهم من غطفان. وقد جعل "زيدان" عدد شعراء قيس "30" شاعراً. وقال: "إذا اعتبرت عدد شعراء الجاهلية بالنظر إلى القبائل، كانت قيس أكثرها شعراء، تليها اليمن فربيعة، فمضر فقريش فقضاعة فاياد".

وأما "تميم"، فقبائل كثيرة من مضر، أشهرها: مازن، ومالك، وسعد، ودارم، وبهدلة، ويربوع، وكعب، ومجاشع، وزرارة. وكانت منازلها في القديم تهامة، ثم نزحت إلى مواضع اخرى من جزيرة العرب، فسكن بعض منها في اليمامة، وبعض فب العربية الشرقية، وقسم بنجد، ونزح قوم منهم إلى العراق، وأقاموا في البادية. وقد لعبت تميم شأن القبائل الكبيرة دوراً خطيراً في أحداث الجاهلية القريبة من الإسلام. ومن شعرائها: أوس بن حجر. وجعل "زيدان" عدد شعرائها "12" شاعراً. ولكنك لو سجلت أسماء الشعراء الذين وردت أسماؤهم في كتب الأدب والتأريخ، لوجدت ان عدد شعراء تميم يزيد على العدد المذكور بكثير من القبائل المخصبة بالنثر وبالنظم. ولكلامها رأي ومقام عند علماء اللغة.

ومن مضر أيضاً: هذيل، وأسد، وكنانة، وقريش، والدئل. وهذيل من القبائل الساكنة في هضاب وجبال غير بعيدة عن مكة، وقد عدّ لسانها من الألسنة العربية الجيدة، واشتهرت بكثرة شعرها وبجودته، وقد جمع في دواوين، وعني العلماء بجمعه وبشرحه، وبقيت منه بقية طبعت.

وأما القبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى اليمن، فهي: كندة، وطيء، والأشعر، وجذام، والأزد، ولخم، ومذحج، وخزاعة، وهمدان، وغسان والأوس والخزرج. ولبعض منها شعر وشعراء وردت أسماؤهم في ثنايا هذا الكتاب.

وأما ميزات لغاتهم وخصائص نحوهم وصرفهم، فلا نعرف عنها غير قليل. لعدم تطرق علماء اللغة إلى هذه المميزات، خلا ما ذكروه من أمور اختلفت فيها "طيء" عن غيرها في مثل "ذي" الطائفية، وغيرها ما ذكروه من تفردهم في تفسير معاني بعض الألفاض، مثل "التخوف" بمعنى التنقّص في لغة أزد شنوءة.

ولدراسة شعر هذه القبائل، دراسة لغوية مقارنة، أهمية كبيرة بالنسبة للباحث في لغة العرب، اذ يستطيع بها من الوقوف على مزاياها ومفارقاتها بالنسبة إلى العربيةالمعهودة، ومن الوقوف على الروابط اللغوية التي تجمع بين هذه اللغات التي يرجع أهل الأنساب والأخبار أصل المتكلمين بهاالى اليمن.

وأما مجموعة قضاعة، فجهينة، وضجعم، وتنوخ، وكلب، وهي مجموعة لم تنجب عدداً كبيراً من الشعراء، ولم يحفل علماء اللغة بلغتها، اذ لا نجد للهجتها ذكراً خطيراً في كتب اللغة، فلم يشيروا اليها في جملة القبائل التي ركنوا إلى الأخذ بلسانها للاستشهاد به في شواهد اللغة والنحو والصرف. ويظهر ان احتكاكها بالنبط وبالآراميين وأمثالهم، قد عرض لسانها إلى الأخذ من ألسنتهم والى التأثر بهم، حتى بان ذلك عليه، وهذا ما حمل علماء اللغة على عدم الاستشهاد به في جملة الشواهد. وأنا لا أستبعد احتمال وجود خصائص به، ميّزته عن العربية القرآنية، بدليل ان أعراب الصفا "الصفاة"، وهم من أعراب بلاد الشام، كانوا يتكلمون ويكتبون بعربية مباينة لعربيتنا، وقد تكلمت عن عربيتهم في الجزء السابع من كتابي القديم: تأريخ العرب قبل الإسلام، وأرض الصفا هي من مواطن تلك المجموعة.

وذهب "جرجي زيدان"، كما سبق أن قلت، إلى أن غفيساً أكثر القبائل عدداً في شعرائها، تليها اليمن، فربيعة، فمضر، فقريش، فإياد. وقدر عدد شعراء الجاهلية الذين وصلتنا أخبارهم ب"125" شاعراً في قيس، وثلاثة وعشرين في اليمن، وواحداً وعشرين شاعراً في ربيعة، وستة عشر شاعراً في مصر، واثني عشر شاعراً في تميم، وعشرة شعراء في قريش، وأربعة شعراء في قضاعة، وشاعرين في إياد، وشاعر واحد من أصل غير عربي، أي مولى.

وقد سمى "أبو الفرج" لمضر سبعة وستين شاعراً، ولليمن أربعين، ولربيعة ثلاثة عشر: وسمّى شعراء آخرين، منهم من يتصل بجديس، ومنهم من يتصل بجرهم.

نرى مما تقدم أن الشعراء كانوا من مضر، ومن ربيعة، وهما من عدنان، كما كانوا في القبائل القحطانية. ويذكر أهل الأخبار أن حظ القبائل المضرية من الشعر، كان أحسن حالاً من حظ ربيعة وقحطان، وأن حظ قبائل كل مجموعة من هذه المجاميع الثلاث كان متفاوتاً، فبينها المكثر، وبينها المقل. و لا نستطيع إرجاع سبب تفوق القبائل المضرية على قبائل ربيعة أو قحطان إلى اللغة، لأننا لا نملك حتى الآن صورة واضحة علمية عن أصل اللغة العربية التي نظم بها الشعر والتي نزل بها القرآن، حتى نستطيع البت بموجبها في موضوع هذا التفوق. وإذا جارينا أهل الأنساب في تقسيمهم العرب إلى عدنانيين وقحطانيين، جاز لنا حينئذ القول، بأن شعر القبائل القحطانية قد قلّ عن شعر عدنان من مضر وربيعة، بسبب استعراب هذه القبائل، أي أخذها لغة العدنانيين لغة لها، وتركها لغتها الأصلية لغة أهل اليمن، بسبب اتصالها بالقبائل العدنانية، فمن ثم قلَّ شعرها بسبب هذا الاستعراب. ولكن ماذا يكون جوابنا عن تخلف ربيعة في الشعر عن مضر، وربيعة أخت مضر، في عرف النسابين، ولغتها مثل لغة مضر ? والذي أراه، ان البت في مثل هذه المشكلات، هو أمر لا يمكن أن يكون علمياً في الوقت الحاضر، فقد رأيت ان الأنساب حاصل تكتلات سياسية، وتجمعات قبلية، وانها لم تكن حاصل نسب بالمعنى المفهوم من لفظة "نسب"، بلهجات متباينة، حصرناها في مجموعات استنبطناها من الكتابات الجاهلية، ولكننا لا نستطيع أن نقول انها تشمل كل لهجات العرب، فقد عثر حديثاً على كتابات جديدة لم تدرس بعد دراسة علمية كافية حتى نقول رأينا فيها، وقد يعثر في المستقبل على كتابات أخرى، قد تزيد في عدد ما نعرفه من المجموعات اللغوية العربية الجاهلية. وفي ظروف كهذه يكون من الصعب علينا الموافقة على ما يذهب اليه أهل الأخبار وما يذهب اليه التابعون لهم من المحدثين من تنقل الشعر في القبائل ومن توزع الشعراء بين مضر وربيعة وقحطان. والرأي عندي ان من الواجب علينا في الوقت الحاضر لزوم اجراء مسح علمي دقيق للهجات العرب في جزيرة العرب، بالبحث في كل مكان عن الكتابات الجاهلية وعن كتابات صدر الإسلام، وبدراسة كل ما كتبه علماء اللغة عن اللغات العربية في الكتب المعروفة وفي الكتب التي قد تكون مؤلفة بلهجات أهل العربية الجنوبية أو غيرها في الإسلام، وبدراسة اللهجات الباقية، و لا سيما اللهجات المنعزلة المتميزة بمميزات خاصة، واستنباط مزاياها وعلاقاتها باللهجات القديمة، ثم غربلة كل هذه الدراسات لاستخلاص المجاميع اللغوية منها، وتحديد المواضع التي كانت تتكلم بهذه المجموعات، وبذلك نستطيع تكوين رأي عن لغة الشعر، وعن القبائل التي كانت تتكلم بها، وصارت لهجتها لهجة الشعر عند ظهور الإسلام.

وأغلب شعراء الجاهلية من أهل الوبر، أما شعراء أهل المدر فأقل منهم عدداً. ولم يظهر بين شعراء أهل المدر شاعر رفعه علماء الشعر وعشاق الشعر الجاهلي إلى مرتبة الشعراء الفحول من رجال الطبقة الأولى من طبقات الشعراء الجاهليين. وهم يقدمون شعراء البادية على شعراء الأرياف، و لا سيما شعراء الريف المتصل بالنبط والأعاجم. ولهذه النظرة التي تحمل طابع الغمز في صحة ألسنة عرب الأرياف، تحفظ أكثر علماء العربية في موضوع جواز الاستشهاد بشعر شعراء الحيرة مثلاُ، لاتصال أهلها بالنبط ولاختلاطهم بالأعاجم.

الفصل السابع والخمسون بعد المئة
أوائل الشعراء

يقول علماء الشعر: "لم يكن لأوائل الشعراء إلا الأبيات القليلة يقولها الرجل عند حدوث الحاجة". ثم تزايد عدد الأبيات وتنوعت طرق الشعراء في نظم الشعر، بتقدم الزمان، وبازدياد الخبرة والمران، وبتقدم الفكر، فظهرت القصائد المقصدة الطويلة، التي توّجت بالمعلقات. "قال الأصمعي: أول من يروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتاً من الشعر مهلهل، ثم ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، ثم ضمرة، رجل من بني كنانة، والأضبط بن قريع". فهؤلاء هم أوائل الشعراء الجاهليين في نظر "الأصمعي"، ممن نظم كلمة بلغ عدد أبياتها ثلاثين بيتاً فما بعدها. "وقال ابن خالويه في كتاب ليس: أول من قال الشعر ابن خدام".

وذكر بعض العلماء ان القصائد انما قصدت، والشعر انما طول في عهد "عبد المطلب" أو " هاشم بن عبد مناف"، وذلك يدل على إسقاط عاد وثمود وحمير وتبع. ولم يذكروا اسم أول من قصد القصائد وطوّل الشعر، ولكن رأي معظم علماء الشعر ان "المهلهل، هو أول من قصد القصائد وأول من قال كلمة تبلغ ثلاثين بيتاً من الشعر. وزعم بعضهم ان الأفوه الأودي " أقدم من المهلهل، وهو أول من قصد القصيد. واذا ذهبنا مذهب من يقول إن القصائد انما ظهرت في أيام "عبد المطلب" أو "هاشم"، فيكون ذلك قبل الهجرة بمائة سنة على الأكثر.

وزعمت بكر بن وائل ان أول من قال الشعر وقصد القصيد، هو "عمرو بن قميئة"، وكان في عصر "مهلهل بن ربيعة"، وعُمر حتى جاوز التسعين. وكان "امرؤ القيس"، قد استصحبه لما شخص إلى قيصر، فمات في سفره ذلك.

وذكر "ابن قتيبة" ان من قديم الشعر قول "دُويد بن نهد القضاعي ": اليوم يبني لـدويد بـيتـه  لو كان للدهر بليّ أبليته

أو كان قرني واحداً كفيته  يارب نهبٍ صالح حويته

وذكر من بعده اسم: "أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان"، ثم الحارث ابن كعب.

ولم يكن المذكورون أول من قصد القصيد، وتفنن في أبواب الشعر، وإنما هم أقدم من وصل اسمه إلى مسامع علماء الشعر، فصاروا من ثم أقدم شعراء الجاهلية. وقد نسب إلى "زهير بن أبي سلمى" قوله: ما أرانا نقول إلا مُـعـارا  أو معاداً من قولنا مكرورا 

وإذا صح ان هذا البيت هو من شعره حقاً، دلّ على اعتقاد الشاعر ومن كان في أيامه بقدم الشعر، وبتقدمه وبتطوره، وبتفنن الشعراء الذين عاشوا قبله، في طرق الشعر وذهابهم فيه كل مذهب، حتى صار من جاء بعدهم من الشعراء عالة عليهم فلا يقول إلا معاراً، أو معاداً من الشعر مكروراً. والى هذا المعنى. ذهب "عنترة" في قوله: هل غادر الشعراء من متردم  أم هل عرفت الدارَ بعد توهم 

فقد سبق الشعراء "عنترة" في قول الشعر، وفي الإبداع والتفنن به، حتى لم يتركوا له شيئاً جديداً ليقوله.

ونجد الشاعر "لبيد"، يشيرفي شعره إلى الشعراء الذين تقدموا عليه، ويقول عنهم انهم سلكوا طريق مرقش ومهلهل، حيث يقول: والشاعرون الناطقون أراهـم  سلكوا طريق مرقش ومهلهل 

ولقد تعرض "الفرزدق" في قصيد له إلى من تقدم عليه من الشعراء، فقال: وهب القصائدَ لي النوابغُ إذ مضوا  وأبو يزيد وذو القروح وجـرولُ

والفحل علقمةُ الذي كـانـت لـه  حلل الملوك كلامـه لا ينـحـل

وأخو بني قيسٍ وهن قَـتَـلٌـنَـه  ومهلهل الشـعـراء ذاك الأول

والأعشيان كلاهمـا ومـرقـش  وأخو قضاعة قـول يُتَـمـثَّـل

وأخو بني أسدٍ عبـيدُ إذ مـضـى  وأبـو دُؤادٍ قـولـه يتـنـخـل

وابنا أبي سُلٌمى زهـير وابـنـه  وابن الفريعة حين جد المـقـول

والجعفريّث وكان بشر قـبـلـه  لي من قصائده الكتابُ المجمـل

ولقد ورثتُ لآل أوسٍ منطقاً=كالسّمّ خالط جانبيه الحنظلُ والحارثي أخو الحماس ورثـتـه  صَدٌعاً كما صدع الصّفاة المعول 

فهؤلاء هم من أقدم الشعراء العرب الذين وصل خبرهم الينا على وفق هذه الأخبار والروايات. وهم ونفر آخر من أمثالهم قد عاشوا في أيام لا نستطيع أن نبتعد بها عن الإسلام بأكثر من قرن أو قرن ونصف قرن. وقد عسر على الذاكرة حفظ شيء عن أخبارهم وأيامهم، فلم تذكر عنهم غير أسمائهم وغير شيء يسير جداً عنهم، وخلا أبيات، لا ندري أهي من نظمهم حقاً، أم هي من نظم من تحدث عنهم ! وعلى موجب روايات أهل الأخبار تكون تلك الأبيات أقدم ما عندنا من شعر عربي.

وقد ولع بعض المحدثين على وضع سنين لتثبيت سنين مواليد ووفيات الشعراء، واكتفى بعضهم بوضع سنين لوفياتهم، وفعلهم هذا لا يستند إلى أساس علمي، لأننا لا نملك أدلة مقبولة صحيحة، تخولنا حتى وضع مثل هذه الأرقام، ثم إن في الكثير من هذا المروي عن حياة الشعراء ما هو غير صحيح، ولهذا فليس من المعقول أبداً، وضع سنين لتحديد مواليد ووفيات أولئك الشعراء، والشيء الوحيد الذي نستطيع فعله هذا اليوم هو أن نشير إلى زمان من عاصروهم من الملوك كملوك الحيرة والغساسنة، فنحن على شيء من العلم بأوقات حكمهم، وأن نربط بين أيامهم وبين الحوادث الجسام التي أدركوها أو ساهموا فيها.

ونحن لا نستطيع ترتيب الشعراء ترتيباً زمنياً يستند على سنوات الوفيات، فنقدم شاعراً على شاعر آخر استناداً إلى سنة الوفاة، لأنا لا نملك نصوصاً فيها سني الوفاة. ثم إن حياة أقدم شاعر جاهلي لا يمكن أن تتجاوز المائة والخمسين سنة عن الإسلام على أكثر تقدير، وان أكثرهم قد كانوا متعاصرين، وان بين حياة الشاعر القديم منهم، وبين الشاعر المتأخر، فترات غير طويلة، تتطاول على العشرة سنين أو العشرين، وهي أزمنة لا تعدّ شيئاً بالنسبة إلى تأريخ هذا الشعر القصير الأجل.

ويجب ألا تخدعنا بعض العبارات التي نقرأها في كتب الأدب مثل قولهم: "وهو شاعر جاهلي قديم"، أو " هو شاعر قديم"، أو "هما قديمان"، أو "وهو جاهلي قديم"، وأمثال ذلك من تعابير تشير إلى قدم الشاعر أو الشعراء، فنأخذها على الصحة، ونقول بقدم الشاعر، أو الشاعرين أ أو الشعراء، فإن أكثر من ذكر أهل الأخبار أنهم من الشعراء القدماء، هم من الذين كانوا في أيام حكم الملك "عمرو بن هند"، وقد كان حكم هذا الملك فيما بين السنة "554" والسنة "569" للميلاد. وإذا ما تذكرنا أن ميلاد الرسول كان في سنة "570" أو "571" للميلاد، عرفنا إذن أي قدم هو هذا القدم الذي توهموه، خذ مثلاً ما قاله "ابن قتيبة" مثلاً عن "زهير بن جناب" سيد "كلب" وهو في نظره من الشعراء المعمرين، تراه يقول: "وهو جاهلي قديم. ولما قدمت الحبشة تريد هدم البيت خرج زهير فلقي ملكهم، فأكرمه ووجهه إلى ناحية العراق يدعوهم إلى الدخول في طاعته. . . ". ولو جاريناه وأخذنا بصحة الخبر المزعوم، نكون قد جعلناه حياً في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، فقدوم الحبشة تريد هدم البيت، كان في عام الفيل، أي سنة "570" أو "571" للميلاد، أي العام الذي ولد فيه الرسول، فهل يعد "زهير بن جناب" اذن "جاهلي قديم" ? وقد أدرك على حد قول "ابن قتيبة" ميلاد الرسول ? ثم خذ ما قاله عن "ابني خذاق"، تراه يقول: "وهما قديمان، كانا في زمن عمرو بن هند"، ثم خذ ما قاله عن "سلامة بن جندل"، إذ قال عنه: "جاهلي قديم"، وجعل أيامه في عهد "عمرو بن هند"، وقد عرفنا أيام خكم "عمرو بن هند".

ثم خذ ما قاله عن "عبيد بن الأبرص"، تراه يقول: "وكان عبيد شاعراً جاهلياً قديماً من المعمرين، وشهد مقتل حجر أبي امرئ القيس"، أو خذ ما ذكره عن "عمرو بن قميئة"، حيث يقول: "وهو قديم جاهلي، كان مع حجر أبي امرئ القيس": بل خذ ما ذكره عن "امرئ القيس ابن حارثة بن الحمام بن معاوية" المعروف ب"ابن حمام" أو "ابن حزام"، أو "ابن خذام"، الذي يقول عنه الشعراء انه أول من بكى الديار عند العرب، وانه عاش قبل امرئ القيس، ترى أهل الأخبار يذكرون انه كان معاصراً للشاعر "المهلهل"، خال "امرئ القيس" الكندي، واذا علمنا ان حكم ملوك كندة للحيرة، كان ما بين السنة "525" والسنة "528" للميلاد، وان وفاة "الحارث " والد "امرئ القيس" الشاعر الكندي، أي جد الشاعر، قد كانت في سنة "528" للميلاد، وان قتل "حجر" قد وقع بعده، استطعنا الحكم بأن أولئك الشعراء المذكورين قد عاشوا في النصف الأول من القرن السادس للميلاد، وان حياة أقدم واحد منهم، لا يمكن أن تتجاوز قرناً واحداً قبل الإسلام، مهما بالغنا في التقدير.

وأما ما زعمه أهل الأخبار عن بعض أولئك الشعراء، من انهم كانوا من المعمرين، وان منهم من عمّر أكثر من ثلثمائة سنة، وان المعمر في نظرهم لا يعدّ معمراً إلا إذا زاد عمره على المائة والعشرين عاماً، فأترك أمر تصديقه إلى القارئ، إن شاء أخذ به، متمنياً له أيضاً عمر المعمرين وزيادة، وإن شاء رفضه، أما أنا، فلست من حزب الذين يعتقدون برأي أهل الأخبار في العمر وفي المعمرين، و لا أريد أبداً أن أكون من أولئك المعمرين.

وقد قسم "محمد بن سلام" الجمحي المتوفي سنة "232" الشعراء إلى طبقات، ضمت كل طبقة جماعة من الشعراء، رأى أن بينها تشابهاً وتقارباً فجمعهم لذلك في طبقة واحدة، أما "ابن قتيبة" فقد بدأ بأوائل الشعراء، وهم: "دويد بن نهد " القضاعي، ثم "أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان"، ثم "الحارث ابن كعب"، وقد تحدث عنهم حديثاً قصيراً جداً، ثم تكلم عن بقية الشعراء، وعلى رأسهم "امرؤ القيس" فزهير بن أبي سلمى، ولم يسر في كتابه على طريقة "ابن سلام" في عرضه الشعراء على طبقات، كما لم يسر على الترتيب الأبجدي لأسماء الشعراء أو على شهرتهم أو كناهم، كما سار غيره في مؤلفاتهم عن الشعراء.

وقد سار "جرجي زيدان" على مبدأ تقسيم الشعراء على وفق الأغراض التي نظموا شعرهم بها والتي غلبت طبائعهم عليها. فجعلهم: أصخاب المعلقات، وعددهم "10"، والشعراء الأمراء، وجمعهم في "14" رجلاً، والشعراء الفرسان، ومجموعهم "28"، والشعراء الحكماء، وحاصلهم "4"، والشعراء العشاق وعددهم "8"، والشعراء الصعاليك وهم "7"، والمغنون، وهم "1"، والنساء الشواعر، وعددهن "4"، والهجاءون، وعددهم "4"، والوصافون للخيل، وعددهم "4"، والموالي، وعددهم "1"، وسائر الشعراء ومجموعهم "26"، ومجموع الجميع "121" شاعراً.

وقسّم "كارلو نالينو" الشعراء الجاهليين إلى أربعة أصناف: النصف الأول ما نسجه أهل البادية أو من تقرب منهم سواء كانوا وثنيين أم يهود من شعر، الثاني: أشعار الوثنيين الذين قصدوا ملوك الحيرة وبني غسان وجالسوهم، الثالث: أشعار النصارى بالحيرة أو في مملكة بني غسان، الرابع: أشعار أهل الحضر الوثنيين في مدن الحجاز. وقد أدخل في الصنف الأول:تأبط شراً والشنفري وأمثالهم، لأنهم رجال بادية عوائدهم أقرب للهمجية المحضة منها لأحوال أهل بلد ذات نظام اجتماعي، فسُمّوا "أولئك الرجال" الصعاليك، وأدخل في هذا الصنف أيضاً أصحاب المعلقات، وحاتم الطائي، وعروة بن الورد، والأفوه الأودي، ودريد ابن الصمة. وأدخل في الصنف الثاني "زهير بن جناب" الكلبي، وطرفة بن العبد، وهو من أصحاب المعلقات، وأوس بن حجر، وبقية من كان لهم اتصال بملوك الحيرة والغساسنة، وأدخل في الصنف الثالث: أبو دُؤاد الإيادي، وعدي بن زيد العبادي، وأدخل في الصنف الرابع قيس بن الخطيم، وأمية بن أبي الصلت.

واقدم من ذكرهم علماء الشعر من شعراء أهل الجاهلية: دويد بن نهد القضاعي، وأعصر بن سعد بن قيس بن عيلان، والحارث بن كعب، والعنبر ابن عمرو بن تميم، والمستوغر بن ربيعة بن كعب بن نهد، وزهير بن جناب الكلبي، وجذيمة الأبرش، ولجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وابن حذام، والأفوه الأودي، وذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، وضمرة، رجل من كنانة، والأضبط بن قريع. وقيل: "أول من قال الشعر ابن حذام".

ولهؤلاء البيت والبيتان والأبيات، ولم ترد لهم قصائد، لأن أول من قصد القصائد، ووضع القصيد هو المهلهل، على ما يزعمه أهل الأخبار.

وقد قدم "ابن قتيبة" "دويدَ بن نهد" القضاعي على سائر الشعراء، وقال: "لم يكن لأوائل الشعراء إلا الأبيات القليلة يقولها الرجل عند حدوث الحاجة. فمن قديم الشعر قول دويد بن نهد القضاعي: اليوم يبنى لـدويد بـيتـه  لو كان للدهر بَلى أبليته

أو كان قرني واحداً كفيته  يا رب نهب صالحٍ حويته 

ورب عبل خشن لويته" وقال بعد ذلك: "وقال الآخر: ألقى عليّ الدهر رجلاً ويدا  والدهر ما أصلح يوماً أفسدا 

يصلحه اليوم ويفسده غدا" وهو رجز نسبه "ابن سلام" وغيره لدويد نفسه.

وزعم أهل الأخبار انه لما حضرته الوفاة، جمع آله، وقال يوصيهم: "أوصيكم بالناس شراً، لا ترحموا لهم عبرة، و لا تقيلوهم عثرة، قصّروا الأعنة وطوّلوا الأسنة، واطعنوا شزراً، وأضربوا هبراً. . " إلى آخر وصيته، ثم قال: اليوم يبنى لـدويد بـيتـه  يا رب نخب صالح حويته 

وربّ قرنٍ بطل أرديتـه  وربّ غيل حسن لويتـه

ومعصم مخضب ثنـيتـه  لو كان للدهر بلى أبليتـه

أو كان قرني واحداً كفيته وهو كلام يشعرك أنه نص لوصية الشاعر، ضبط ضبطاً، يشعرك أن ضابطه كان حاضراً إذ ذاك، وأنه سجله سجل المسجل للصوت، حتى وصل الينا أصيلاً كاملاً لا تغيير فيه و لا تحوير. أما رأيي فيه، فهو أنه من هذه النصوص الكثيرة التي وضعها أهل الأخبار على ألسنة المتقدمين عليهم، والتي لا يمكن أن يركن اليها، و لا أن يؤخذ بها، ومن في استطاعته اثبات أنه نص أصيل، وليس لديه دليل قطعي يثبت تلك الإصالة.

ومن قدماء الشعراء: "أعصر بن سعد بن قيس عيلان"، وهو "منبه بن سعد" أبو باهلة وغني والطفاوة. وهة القائل: قالت عميرة ما لرأسك بعد ما  نفذ الزمان أتى بلون منكـر

أعمير إن أباك شيَّب رأسـه  كر الغداة واختلاف الأعصر 

وذكر "ابن قتيبة" بعد "أعصر" اسم "الحارث بن كعب" وقال عنه:"وكان قديماً"، وروى له هذه الأبيات: أكلت شبـابـي فـأفـنـيتـه  وأفنيت بعد شهورا شـهـورا

ثلاثة أهلين صـاحـبـتُـهُـم  فبانوا وأصبحت شيخاً كبـيرا

قليل الطعام عـسـير الـقـيا  مِ قد ترك القيد خّطوي قصيرا 

أبيت أراعي نجوم الـسـمـاء  أقلب أمري بطونا ظـهـورا

والحارث بن كعب، هو "الحارث بن كعب بن عمرو بن وعلة بن خالد ابن مالك بن أدد" المذحجي، وهو من المعمرين، وقد نسبوا له وصية زعموا أنه لما حضرته الوفاة، جمع ولده، فخطبهم يوصيهم، وكان مما جاء فيها أنه على دين شُعيب "النبي" وما عليه من العرب غيري، وغير "أسد بن خزيمة" و "تميم بن مرة"، ثم أوصاهم بوصيته، على الطريقة المألوفة التي نراها في الوصايا التي تنسب في العادة إلى المعمرين، ثم ختمها بإنشاده الأبيات المذكورة.

"والمستوغر بن ربيعة بن كعب بن نهد"، من قدماء المعمرين، بقي بقاء طويلاً حتى قال: ولقد سئمت من الحياة وطولها  وازددتُ من عدد السنين مئينا

مائة أتت من بعدها مائتان لـي  وازددت من عدد الشهور سنينا 

وذكر "ابن دريد" ان "المستوغر" عاش ثلثماية وعشرين سنة، ولقّب "المستوغر" لقوله: ينش الماء في الرّبلاتِ منـهـا  نشيش الرضف في اللبن الوغير 

وذكر انه أدرك الإسلام، أو كاد يدرك أوله. ونسبوا له قوله: إذا ما المرءُ صمَّ فلـم يكـلّـم  وأودى سـمـعـه إلا نـدايا

ولاعب بالعشيّ بنـي بـنـيه  كفعل الهرّ يحترشُ العَظـايا

يلاعبهـم وودّوا لـو سـقـوه  من الذيفان مـتـرعةً مـلايا

فلا ذاق النعـيمَ و لا شـرابـاً  و لا يشفى من المرض الشفايا 

وزعم "ان المستوغر مرّ مرة بعكاظ يقود ابن ابنه خرفاً، فقال له رجل: يا عبد الله أحسن اليه، فطالما أحسنَ اليك! قال: أو تدري من هو ? قال: نعم هو أبوك أو جدك، قال: هو والله ابن ابني ! قال الرجل: لم أرَ كاليوم في الكذب و لا مستوغر بن ربيعة !! قال: فأنا المستوغر بن ربيعة". "قال أبو عمرو بن العلاء: عاش المستوغر ثلاثَ مائة وعشرين سنة".

وقد ذكره "ابن حجر" في الصحابة، وقال عنه: "المستوعز، بعين مهملة ثم زاي، ابن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم السعدي، أبو بيهس، واسمه عمرو، والمستوعز لقب". وكان من فرسان العرب في الجاهلية، وقال "المرزباني" انه عاش في أيام معاوية، ويقال مات في صدر الإسلام. والأغلب ان وفاته كانت قبل الإسلام، وانه لا يمكن لذلك عدّه من الصحابة.

والأفوه الأودي، هو "صلاءة بن عمرو بن مالك " من "مذحج"، ومذحج من اليمن، فهو من اليمانيين، وكان من سادات قومه وقائدهم في حروبهم، وكانوا يصدرون عن رأيه، والعرب تعده من حكمائها، بما اشتمل عليه شعره من الحكمة. وقد اشتهر بقصيدته: فينا معاشر لم يبنوا لـقـومـهـم  وان بني قومُهم ما أفسدوا عـادوا

لا يَرٌشُدُن ولن يرعوا لمرشـدهـم  فالجهل منهم معاً والغيّ مـيعـاد

أضحوا كقيل بن عمرو في عشيرته  إذ أهلكت بالذي سدّى لهـا عـاد

أو بعده كقـدارٍ حـين تـابـعـه  على الغواية أقوامُ فـقـد بـادوا

والبيت لا يبُتنـى إلا لـه عـمـدُ  ولا عمـاد إذا لـم تـرس أوتـادُ

ف'ن تجـمـع أوتـادُ وأعـمـدة  وساكن بلغوا الأمر الـذي كـادوا

وإن تجمـع أقـوام ذوو حـسـب  اصطاد أمرهم بالرشد مصـطـادُ

لا يصلح الناسُ فوضى لا سراة لهم  و لا سراة إذا جُهالـهـم سـادوا

تبقى الأمور بأهل الرأي ما صلحت  فإن تولت فبالأشـرار تـنـقـاد

إذا تولى سراة الـقـوم أمـرهـم  نما على ذاك أمرُ القوم فـازدادوا

امارة الغيّ أن يُلقى الجميع لـذي  الإبرام للأمر والأذنـابُ أكـتـادُ

حان الرحيل إلى قومٍ وان بـعـدوا  فيهم صلاحُ لـمـرتـادٍ وارشـادُ

فسوف أجعل بُعد الأرض دونكـمُ  وإن دنت رحمُ مـنـكـم ومـيلاد

إن النجاء إذا ما كنت ذا نفر  من أجّةِ الغيّ إبعادُ فابعـادُ

فالخير تزداد منه ما لقيت به  والشرّ يكفيك منه قلما زادُ

وقد رويت بعض الأبيات بصور مختلفة. فلابن دريد، قراءة، ولأبي بكر ابن الأنباري قراءة. وقد نص "القالي" على القرائتين ومن أبياتها: كيف الرشاد إذا ما كنت في نفرٍ  لهم عن الرشد أغلال وأقـياد

أعطوا غواتهم جهلاً مقادتـهـم  فكلهم في حبال الغيّ منـقـاد

وله قصيدة تعدّ من جيد شعره، أولها: إن ترى رأسـي فـيه نـزعُ  وشوايَ خـلّة فـيهـا دُوار

انما نـعـمة قـومٍ مـتـعة  وحياة المرء ثوب مستعـار

ولـيالـيه إلالُ لـلـقــوى  ومدى قد تجتليهـا وشِـفـار

وصروف الدهر في اطباقـه  خلفةُ فيها ارتفاع وانـحـدار

بينما الناس على عـلـيائهـا  إذ هوَوَا في هُوّةٍ منها فغاروا 

حَتَمَ الدهـرُ عـلـينـا أنـه  ظلفُ ما نال منـا وجـبـار

وهو القائل: والمرءُ ما يُصلـح لـه لـيلةُ  بالسعدٍ تُفٌسِدُهُ ليالي النـخـوس

والخيرُ لا يأتي ابـتـغـاءً بـه  والشرّ لا يفنيه ضَرح الشموس 

وله ديوان مطبوع.

وذكر ان النبي نهى عن إنشاد قصيدة الأفوه: إن ترى رأسي فيه نزع  وشواي خلة فيها دوار

وذلك لورود ذم فيها لبني هاجر مثل قوله: يا بني هاجر، سـاءت خـطة  أن تروموا النِصف منا ونجار 

ان يجل مُهري منكـم جـولة  فعليه الكر فيكم والـغـوار

نحــن أود، ولأودٍ ســـنة  شرفُ ليس لنا عنها قصـار

سنة أورثـنـاهـا مـذحـجُ  قبل أن ينسب للنـاس نـزار

وهي قصيدة يمانية، فيها تعصب ليمن، وتهجم على "نزار" أبناء هاجر، أي العدنانيين، ولهذا ذكر الرواة ان النبي نهى عن روايتها، وهي من موضوعات الصراع القحطاني النزاري المعروف، أرادت النزارية طمسها، فروت ان النبي نهى عن روايتها، والنهي والقصيدة -في نظري -من المصنوعات التي ظهرت بعد وفاة النبي، وأسلوب نظم القصيدة يتجسس على أصالتها، يتحدث انه من النظم الإسلامي.

وأورد "المعري" له هذا البيت: كشهاب القذف يرميكم بـه  فارسُ، في كفّه للحرب نار 

وهو بيت من "رائيته" التي يعدّونها من أجود الشعر العربي.

وهي قصيدة يقول عنها "الجاحظ": "وما وجدنا أحداً من الرواة يشك في أن القصيدة مصنوعة". ونظراً لإشارة "الجاحظ" اليها، فإن صنعها يجب أن يكون قبل أيامه، في الإسلام على أثر ظهور العصبية النزارية في أيام الأمويين، فوضعها أحدهم على لسان الأفوه في التعلايض بالنزاريين.

ونسب "الجاحظ" له قوله: أضخت قُرينةُ قد تغير بشرها  وتجهمّت بتحية القوم العـدا

ألوت بإصبعها وقالت إنـمـا  يكفيك مما لا ترى ما قد ترى 

كما نسب له قوله: تهنا لثعلبة بن قيس جـفـنة  يأوى اليها في الشتاء الجوع

ومذانب لا تستعـار وخـيمة  سوداء عيب نسيجها لا يُرفع 

وكأنما فيها المذانب حـلـقة  وذم الدلاء على دلوج تنزع

وقد نسبت اليه أبيات ورد فيها ذكر "التبابعة والمثامنة وأولاد نوح: سام وحام ويافث"، وهي: فلو دام الحلـود إذن جـدودي  وأسلافي بنو قحطـان دامـوا

ودام لهم تبابعهـم مـلـوكـاً  ولم تمت المثامـنة الـكـرام

وعاش الملك ذو الأذعار عمرو  وعمرو حوله اللجبُ اللـهـام

وخلّد ذو المنـار ومـا تـردّى  أبوه الرائش الملك الهـمـام

ملـوك أدّت الـدنـيا الـيهـا  أتاوتهـا ودان لـهـا الأنـام

ولمّا يعصـهـا سـام وحـام  ويافث حيث ما حـلـت ولامُ

ونسبت اليه أبيات في مدح "مذحج"، وفي الاشادة بكرمها، أولها: نعطم النار إذ النـار الـتـي  شبّها عنس خبت أو صعصعة 

والشعر المتقدم من الشعر المصنوع و لاشك، وضعه قوم من المتعصبين للقحطانية على النزاريين، أي العدنانيين.

ومن الشعراء القدماء: "زهير بن جناب" الكلبي، سيد بني كلب وقائدهم، وكان شجاعاً مظفراً ميمون النقيبة في غزواته. ذكر انه لما قدمت الحبشة تريد هدم البيت خرج "زهير" فلقي ملكهم، فأكرمه ووجهه إلى ناحية العراق يدعوهم إلى الدخول في طاعته، فلما صار في أرض "بكر بن وائل" لقيه رجل منهم فطعنه، لكنه نجا وفر هارباً، وعمر طويلاً. وقد مات منتحراً. شرب الخمر صرفاً حتى قتلته، وفي الشعر المنسوب اليه ما يشك بصحة نسبته اليه. وقد ذكر انه كان في أيام "داوود بن هُبالة"، الذي كان أول ملك للعرب في بلاد الشام، فغلبه ملك الروم على ملكه، فصالحه داوود على أن يقره في منازعته ويدعه فيكون تحت يده، ففعل. فكان يغير بمن معه، ثم تنصر وكره الدماء وبنى ديراً، سميّ "دير اللثق"، وأنزله الرهبان. ثم ان ملك الروم طلب منه أن يغزو بمن معه من العرب، ففعل وكان معه في جيشه زهير بن جناب. فقتل زهير بن جناب "هدّاج بن مالك" سيد عبد القيس، فتواعد رجلان من قضاعة على قتل "داوود"، وكان إذا سار ليلاً، سار وأمامه شمعة، فقتلاه.

"قال أبو حاتم: عاش زهير بن جناب مائتي سنة وعشرين سنة، وأوقع مائتي وقعة، وكان سيداً مطاعاً شريفاً في قومه، ويقال: كانتا فيه عشر خصال لم يجتمعن في غيره من أهل زمانه، كان سيد قومه، وشريفهم، وخطيبهم وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم -والطب في ذلك الزمان شرف - وحازى قومه - والحُزاة الكهان - وكان فارس قومه، وله البيت فيهم، والعدد منهم".

ونسبوا له وصية، ذكروا أنه أوصى بها بنيه حين حضرته الوفاة، وذلك على طريقتهم عند تحدثهم عن المعمرين.

وقد أورد أهل الأخبار له شعراً، في العمر وفي النساء وفي مخاطبة أولاده. وقد نسبوا له هذا الشعر: لقد عمرت حتى لا أبـالـي  أحتفي في صباحي أو مسائي 

وحق لمن أتت مائتان عامـاً  عليه أن يملّ مـن الـثـواء

شهدتُ الموقدين على خزازي  وبالسلاّن جمعـاً ذا زُهـاء

ونادمت الملوك من آل عمرو  وبعدهم بني ماء الـسـمـاء

ومن جيد شعره قوله: ارفع ضعيفك لا يَحُر بك ضعفه  يوماً فتدركه عواقبُ ما جنـى

يجزيك أو يُثني عليك، وإن مـن  أثنى عليك بما فعلتَ كمن جزى 

وهو شعر نسبه "ابن قتيبة" اليه، غير أن من العلماء من نسبه لورقة بن نوفل، ومنهم من نسبه لغريض اليهودي، وقيل لابنه "سعية"، ومنهم من نسبه لشعراء آخرين.

أما المهلهل، فهو امرؤ القيس بن ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير بن جشم، وانما سُمي مهلهلاً لبيت قاله لزهير بن جناب الكلبي: لمّا توعر في الكراع هجينهم  هلهلتُ أثأر جابراً أو صنبلا 

وقيل ان اسمه كان عدياً، وقد ذكره "امرؤ القيس" في شعره. ولقّب مهلهلاً لطيب شعره ورقّته، أو لأنه أول من أرق المراثي، أو لأنه أول من قصّد القصائد، وقال الغزل، فقيل: هلهل الشعر أي أرقه. وفيه يقول الفرزدق: ومهلهل الشعراء ذاك الأول 

وزعم انه كان به خنث. وهو أخو" كليب بن وائل" الذي هاجت بمقتله حرب بكر وتغلب. وهو جدّ "عمرو بن كلثوم"، أبو أمه "ليلى"، وخال امرئ القيس الشاعر.

وقد تطرق "المعري" في "رسالة الغفران" إلى سبب اشتهار "المهلهل" بهذا النعت، فجعل أحد الأشخاص يسأله: "أخبرني لم سميت مهلهلاً ? فقد قيل، : إنك سميت بذلك، لأنك أول من هلهل الشعر، أي رققه".

فيقول: إن الكذب لكثير. وإنما كان لي أخ يقال له امرؤ القيس، فأغار علينا زهير بن جناب الكلبي، فتبعه أخي في زرافة من قومه، فقال في ذلك: لمّا توقل في الكراع هجينهم  هلهلت أثأر مالكاً أو صنبلا 

وكأنه باز عَلتـهُ كـبـرة  يهدي بشكته الرعيل الأولاً

وقد أورد "المعري" له بيتاً، هو أول بيت من قصيدة تنسب اليه، هو: أليتنا بـذي حُـسـم انـيري  إذا أنت انقضيت فلا تحوري 

فإن يك بالذنائب طـال لـيل  فقد أبكى من الليل القصـير

وأورد له بيتاً آخر هو: أرعَدوا ساعة الهيِاج وأبرق  نا كما توعد الفحول الفحولا 

وذكر أن "الأصمعي" كان ينكره ويقول: إنه مولد. وكان أبو زيد يستشهد به ويثبته.

"وزعم الرواة ان الشعر كله انما كان رجزاً وقطعاً، وانه انما قُصّد على عهد هاشم بن عبد مناف، وكان أول من قصّده مهلهل وامرؤ القيس، وبينهما وبين مجيء الإسلام مائة ونيف وخمسون سنة. ذكر ذلك الجمحي وغيره". وقيل انه كان أول شاعر بلغت قصائده ثلاثون بيتاً من الشعر، فاحتذى من جاء بعده حذوه. وان أول قصيدة قالها كانت في قتل أخيه كليب. وانه كان أول من كذب في شعره، بقوله: فلولا الريحُ أسمعَ من بُحٌجر  صليلَ البيض تقرع بالذكور 

ويذكرون ان هذا البيت هو من أول كذب العرب، وكانت العرب قبل ذلك لا تكذب في أشعارها، وكان بين الموضع الذي كانت فيه هذه الواقعة وهي بالجزيرة وبين حجر وهي قصبة اليمامة بعيدة، فأخرجه هذا الشاعر بقوة منته ونفاذ فطنته إلى معنى آخر مستظرف في بابه. وقد اتهمه البعض بأنه كان يتكثر ويدعي قوله بأكثر من فعله.

وزعم أنه احد البغاة، لقوله: قل لبني حـصـنٍ يردّونـه  أو يصبروا للصيلم الخَنٌفَقيق

من شاء دلى النفسَ في هـوة  ضنكٍ، ولكن من له بالمضيق 

أمرهم ان يردّوا كليباً وقد قتل، وأعلمهم انه لا يرضى بشيء غير ذلك.

وهو أحد أصحاب المنتقيات السبع، المدونة في كتاب: "جمهرة أشعار العرب".

وقد ذكره "لبيد" في شعره، فجعله و "مرقشاً" من الشعراء الذين مهدوا السبيل لمن جاء بعدهم في نظم الشعر، فالشاعرون الناطقون الذين جاؤا بعدهما إنما سلكوا دروبهما في نظم الشعر: والشاعرون الناطقون أراهم  سلكوا سبيل مرقش ومهلهل 

وكان مهلهل القائم بالحرب ورئيس تغلب، فلما كان يوم قضة، وهو آخر أيامهم، وكان على تغلب، أسر "الحارث بن عبّاد" نهلهلاً وهو لا يعرفه، فقال له الحارث: تدلني على عدي بن ربيعة المهلخل وآنت آمن ? فقال له "المهلهل": ان دللتك على عدي فأنا آمن ولي دمي ? قال: الحارث: نعم، قال: فأنا عدي! فجز ناصيته وخلاّه، وقال: ام أعرف. وفي ذلك يقول الحارث بن عباد: لهفَ نـفـسـي عـلـى عـديّ  ولم أعرف عدياً إذ أمكنتني اليدان 

طُلَّ من طُلَّ في الحـروب ولـم  يطلل قتيل أبـأتـه ابـن أبـان

ثم خرج "مهلهل" فلحق باليمن، فنزل في "جنب"، فخطب اليه رجل منهم ابنته، فقال:إني طريد غريب فيكم، ومتى أنكحتكم قال الناس اعتسروه، فأكرهوه حتى زوّجها، وكان المهر أدماً، فقال: أنكحَهَا فَقٌدُها الاراقمَ فـي  جَنٌبٍ، وكان الحباء من أدم 

لو بأبانين جاء يخطبهـا  رمُلّ ما أنف خاطبٍ بدمِ 

ثم انحدر، فلقيه "عوف بن مالك بن ضبيعة"، وهو أبو أسماء صاحبة المرقش الأكبر، فأسره فمات في أساره. وللأخباريين قصص عن كيفية موته.

ونسبوا له قصيدة رثى بها أخاه كليباً، بقوله: أليتنا بـذي حُـسُـمٍ أنـيري  إذا أنتِ انقضيتِ فلا تحوري 

وفيها: على أن ليس عدلاً من كلـيب  إذا طرد اليتيم عن الجـزور

على أن ليس عدلاً من كلـيب  إذا ما ضيم جيران المجـير

على أن ليس عدلاً من كلـيب  إذا رجف العِضاه من الدبور

على أن ليس عدلاً من كلـيب  إذا خرجت مخبأة الـخـدور

على أن ليس عدلاً من كلـيب  إذا ما أعلنت نجوى الأمـور

على أن ليس عدلاً من كلـيب  إذا خيف المخوف من الثغور 

على أن ليس عدلاً من كلـيب  غداة تلاتل الأمر الكـبـير

على أن ليس عدلاً من كلـيب  إذا ما خامَ جار المستـجـير

وأورد المرتضي "مرثية" لليلى الأخيلية رثت فيها: ثوبة بن الحمير، لها أسلوب خاص في الرثاء، حيث ترد جملة: "لنعم الفتى" و "نعم الفتى" في أوائل أربعة أبيات من القصيدة، تلتها "لعمري لأنت المرء أبكي لفقده" أربع مرات مكونة الأنصاف الأولى من الأبيات، ثم "أبى لك ذم الناس ياثوب كلما" مرتين، ثم: "فلا يبعدنك الله يا ثوب انما"، ثم "و لا يبعدنك الله يا ثوب انها" مرة، ثم: "ولا بعدنك الله يا ثوب والتقت". فخرجت من تكرار إلى تكرار لاختلاف المعاني.

وروى قصيدة أخرى لابنة عم للنعمان بن بشير رثت فيها زوجها، أنصاف أبياتها الأولى: "وحدثني أصحابه ان مالكاً"، أمالا القافية فهي على اللام.

ومن معاصري "مهلهل" الشاعر "امرؤ القيس بن حمام بن عبيدة بن هبل" ابن أخي "زهير بن جناب بن هبل"، وزعم بعضهم أنه الذي عنى "امرؤ القيس" بقوله:نبكي الديار كما بكى ابن حذام. وكان مهلهل تبعه "يوم الكلاب" ففاته ابن حمام بعد أن تناوله "مهلهل" بالرمح. وكان "ابن حمام" أغار على "بني تغلب" مع زهير بن جناب فقتل جابراً وصنبلاً. وفيهما يقول مهلهل: لمّا توعر في الكلاب هجينهم  هلهلتُ أثأر جابراً أو صنبلا

و "امرؤ القيس بن حارثة بن الحُمام بن معاوية"، أو "امرؤ القيس بن حارثة بن خذام بن معاوية" على رواية أخرى، أو "ابن خذام"، أو "ابن حذام"، هو شاعر سبق "امرأ القيس" الكندي في البكاء على الديار وتذكر الأطلال، استنتجوا ذلك من شعر ينسب لامرئ القيس، هو: يا صاحبيَّ قفا النواعجَ سـاعة  نبكي الديارَ كما بكى ابن حمام 

أو "ابن خذام" في رواية "أبي عبيدة".

ومن بيت آخر هو: عوجاً على الطلل المحيلُ، لعلّنا  نبكي الديار كما بكى ابن خذام

وابن "خذام"، و "ابن حمام"، و "ابن حزام" و "ابن حذام"، اسم الشاعر، وهو اسم واحد، تحرف بالرواية وبالنسخ، فصار على هذه الصور.

ومن شعراء ربيعة "سعد بن مالك"، الذي يقول: يا بؤس للحـرب الـتـي  وضعت أراهط فاستراحوا 

قال هذا البيت في قصيدة يعرض فيها ب"الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة" من حكام "ربيعة" وفرسانها المعدودين، وكان اعتزل حرب "بني وائل" وتنحى بأهله وولده وولد أخوته وأقابه، وحل وتر قوسه، ونزع سنان رمحه، ولم يساهم في الحرب التي هاجت بين بكر وتغلب ابني وائل، وهي حرب البسوس.

وسعد، هو "سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر وائل". وكان أحد سادات بكر بن وائل وفرسانها في الجاهلية. وكان شاعراً، وله أشعار جياد في كتاب بني قيس ثعلبة.

وفي رواية تنسب إلى "دغفل" النسّابة انه كان جد "طرفة بن العبد". وطرفة، هو: "عمرو بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس ابن ثعلبة"، واذا أخذنا بهذا النسب نرى ان "سعد بن مالك"، هو جد "العبد" والد "طرفة". واذا أخذنا برواية من جعل نسب الشاعر "عمرو بن قميئة" على هذه الصورة: "عمرو بن قميئة بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس ابن ثعلبة"، فيجب عدّه ابناً من أبناء "سعد بن مالك"، أما إذا اعتبرنا نسبه على هذه الصورة: "عمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد بن مالك"، فنكون بذلك قد جعلناه حقيداً له، ويكون "ذريحاً" ابناً من أبناء هذا الشاعر.

ويظهر من نسب المرقش الأكبر، وهو "ربيعة بن سعد بن مالك"، ويقال: "بل هو عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"، أنه كان ابناً، لسعد بن مالك، الشاعر الذي نتحدث عنه، وإذا ذهبنا مذهب من يقول ان المرقش الأصغر كان أخاً للمرقش الأكبر، فيكون بذلك ابناً من أبناء "سعد ابن مالك"، وأما إذا أخذنا برواية من يذكر أنه كان ابن أخي المرقش الأكبر، وانه "عمرو بن حرملة"، أو "ربيعة بن سفيان" فيكون ابن ابن "سعد بن مالك"، أي حفيده، ويكون المرقش الأكبر عمه إذن، ويكون بيت "سعد ابن مالك" من البيوت التي عرفت بالشعر.

وروي أن الشاعر "خزز بن لوذان" السدوسي، كان قبل امرئ القيس. وقد نسب بعض أهل الأخبار له قوله: يا ليت زوجك قد غدا  متقلداً سيفاً ورمحـاً

ونسب هذا الشعر لغيره من الشعراء.

ونسب له قوله: كذب العتيق وماء شـن بـارد  إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي

لا تذكري مهري وما أطعمته  فيكون لونك مثل لون الأجرب 

وكانت له فرس اسمها ابن النعامة، ورد ذكرها في هذا الشعر.

ويجب أن نضيف إلى الشعراء المتقدمين شاعراً يظهر من روايات أهل الأخبار، انه لم يكن من فحول الشعراء، ولا من أوساطهم وانما كان "شويعراً"، ولذلك عرف ب"الشويعر". ويذكر أهل الأخبار انه كان أحد من سمي "محمداً" في الجاهلية، وهم سبعة، واسمه الكامل: "محمد بن حمران بن أبي حمران". وهو قديم. كان "امرؤ القيس" أرسل اليه في فرس يبتاعها منه، فأبى فقال فيه: أبلغا عني الشويعر اني  عمد عين قلدتهن حربما 

وحربم، هو جد الشويعر. فقال الشويعر مخاطباً امرؤ القيس: أتتني أمور فـكـذبـتـهـا  وقد نميت لي عاماً فعـامـا

بأن امرىء القيس أمسى كئيبا  على آلة ما يذوق الطعامـا

لعمر أبـيك الـذي لا يهـان  لقد كان عرضك مني حراما 

وقالوا:هجوت، ولم أهـجـه  وهل يجدن هاج فيك مراما

وذكر الشاعر "ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم"، بعد مهلهل في تقصيد القصائد، وهو "عمرو بن تميم"، وهو من تميم، قيل انه كان شاعراً قديماً، وهو الذي يقول: ياكعب ان أباك منحمـق  ان لم تكن بك مرة كعب 

وهي أبيات قديمة يقول فيها: جانيك من يجني علـيك وقـد  تعدي الصحاح مبارك الجرب 

والأضبط بن قريع، هو "الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم"، فهو من "بني تميم". وقد عدّ في المعمرين. وقد أورد "الجاحظ" له شعراً منه: لكلّ همّ من الهـمـوم سـعة  والمسي والصبح لا فلاح معه 

فصل حبال البعيد ان وصل ال  حبل وأقص القريب ان قطعه

وخذ من الدهر ما أتـاك بـه  من قرّ عيناً بعيشه نـفـعـه

لا تحقرن الفقـير عـلّـك أن  تركع يوماً والدهر قد رفعـه

قد يجمع المال غـير آكـلـه  ويأكل المال غير من جمعـه

وقد روي الشعر على هذا النحو: يا قـوم مـــن عـــاذري مـــن الـــخـــدعة  والـمـسـي والـصـبـح لا فـــلاح مـــعـــه

فصل حبال البعيد ان وصل الحبل، واقص القريب ان قطعه 

واقنع من العيش ما أتاك به  من قـر عـينـاً بـعــيشـــه نـــفـــعـــه

قد يجـمــع الـــمـــال غـــير آكـــلـــه  ويأكـل الـمـال غـير مـــن جـــمـــعـــه

لاتــهـــن الـــفـــقـــير عـــلّـــك أن  تخـشـع يومـاً والـدهـــر قـــد رفـــعـــه

وقد أورد هذا الشعر القالي في أماليه عن "ابن دريد" عن "ابن الأنباري" عن ثعلب. وقد قال ثعلب:انه قيل قبل الإسلام بدهر طويل. ورواه أيضاً "ابن الأعرابي"، والجاحظ، وصاحب الحماسة البصرية، والشريف في حماسته، وابن قتيبة في كتاب الشعراء وصاحب الأغاني وغيرهم، بتقديم بعضها على بعض وطرح أبيات منها.

وقال "السيوطي": "عزاه ابن الأعرابي في نوادره للأضبط بن قريع من أبيات هي: لكلّضيق من الأمور سـعـه  والمسي والصبح لا بقاء معه

لا تهين الفـقـير عـلّـك أن  تركع يوماً والدهرقد رفعـه

وصل حبال البعيد وصـل ال  حبل واقص القريب ان قطعه 

واقبل من الدهر ما أتاك بـه  من قرّ عيناً بعيشه نـفـعـه

قد يجمع المال غـير آكـلـه  ويأكل المال غير من جمعـه

ما بال من غيه مصـيبـك لا  تملك شيئاً من أمره فـدعـه

حتى إذا انجلـت عـمـايتـه  أقبل يلحي وغيه فجـمـعـه

أذود عن نفسه ويخـدعـنـي  ياقوم من عاذري من الخدعه

قيل ان هذه الأبيات قيلت قبل الإسلام بدهر طويل. وقال في الحماسة البصرية هي للأضبط بن قريع السعدي من شعراء الدولة الأموية".

وزعم ان هذا الشعر قيل قبل الإسلام بخمسمائة عام. "فقد نقل الشيخ خالد في التصريح ان هذا الشعر قيل قبل الإسلام بخمسمائة عام. وكان سبب هذا الشعر على ما في الأغاني عن أبي محلم:ان أم الأضبط كانت عجيبة "عجبة" بنت دارم بن مالك بن حنظلة، وخالته:الطموح بنت دارم، فحارب بنو الطموح قوماً من بني سعد، فجعل الأضبط يدس اليهم الخيل والسلاح ولا يصرح بنصرهم خوفاً من أن يتحزب قومه حزبين معه وعليه. وكان يشير عليهم بالرأي، فاذا أبرمه نقضوه وخالفوا عليه، وأروه مع ذلك انهم على رأيه فقال في ذلك هذه الأبيات. وهو الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم وقريع، بضم القاف وفتح الراء، هو أبو جعفر، الملقب بأنف الناقة"، "وهو جاهلي قديم".

وكان من فرسان العرب، "وكان أغار على بني الحارث بن كعب، فقتل منهم وأسر وجدع وخصى، ثم بنى أطمأ، وبنت الملوك حول ذلك الأطم مدينة صنعاء، فهي اليوم قصبتها". وهو شاعر قديم، يزعم بنو تميم انه أول من رأس فيهم.

وروي أنه هو صاحب المثل: "بكل واد بنو سعد". وهو شبيه بالمثل:"بكل واد أثر من ثعلبة". وكان الأضبط قد تأثر من قومه بني سعد، فتحول عنهم إلى آخرين، فلما رأى ظلمهم وعسفهم قال: "بكل واد بنو سعد"، أو أنه قال: "أينما أوجه ألق سعداً".

والمعمر في نظر العرب، هو من عاش فوق المائة. "ولا تعد العرب معمراً الا من عاش مائة وعشرين سنة فصاعداً". والعادة عندهم، أنهم إذا وصلوا إلى نهاية حياة المعمر، ينصبون له مجلس توديع، يجمعون فيه ولده وآله وأقاربه وسادات قبيلته أحياناً، ليوصيهم بما حصل عليه من حكم الأيام وتجاربها، ثم قد يختمونها بشعر. وهي متشابهة في المعاني، لأنها في موضوع نصح وحكم، أما أسلوبها فهو السجع، الأسلوب المتبع عند الكهان والخطباء، وهو وسط بين الكلام المرسل وبين الشعر.

و "أوس بن حجر معبد بن حزن بن خلف بن نمير بن أسيد بن عمرو" التميمي من شعراء تميم كذلك، وقد جعله بعضهم من الطبقة الثالثة وقرنه بالحطيئة ونابغة بني جعدة. ذكر انه كان شاعر بني تميم في الجاهلية غير مدافع، وكان فحل العرب فلما نشأ النابغة طأطأ رأسه.

وله ديوان مشروح. وورد عن "أبي عمرو بن العلاء" قوله: "كان أوس فحل مضر حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه". وقال عنه أبو ذؤيب. "وكان أوس عاقلاً في شعره كثير الوصف لمكارم الأخلاق، وهو من أوصفهم للحمروالسلاح ولا سيما للقوس، وسبق إلى دقيق المعاني والى أمثال كثيرة". وكان شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع. وكان غزلاً مغرماً بالنساء، وكان قد بلغ الغاية في الصيد والقنص، يقضي الليل مع الوحش ليصطاد شيئاُ منها، وفي ذلك يقول: قصي مبيت الليل للصيد مطعم  لأسهمه غار وبار وراصف

ويظهر من الشعر المنسوب اليه، أنه كان على اتصال بالحضر وبالنصارى، وقد جاء في شعره بمعان وبتعابير وألفاظ لم يستعملها غيره من الشعراء الجاهليين.

فقد ذكر )الهر( والديك والخنزير في شعره، مثل قوله: كأن هراً جنيباً عند غرفتهـا  والتف ديك برجليها وخنزير 

وجمع ثلاثة ألفاظ أعجمية في بيت واحد، فقال: وقارفت وهي لم تجرب وباع لها  من الفصافص بالمنى سفسـير

وله أشعار جيدة. "قال الأصمعي: ولم أسمع قط ابتداء مرثية بأحسن من ابتداء مرثيتة: أيتها النفس اجملي جزعاً  ان الذي تحذرين قد وقعاً 

وله شعر في مدح "أبي دليجة"، وهو "فضالة بن كلدة". وكان قد جبر كسراً ألم به لما صرعته ناقته، فآواه وداواه حتى برأ، فتذكر منته عليه. ومن شعره في مدح "فضالة بن كلدة": أريب أديب أخو مأزق  نقاباً يخبر بالـغـائب

ولأس شعر في "حليمة بنت فضالة بن كلدة" التي مرضته وعاونته مع والدها حتى شفي وبرأ. وهو من باب الشكر والحمد.

وورد البيت على هذه الصورة: نجيح، مليح، أخو، مأقط  نقاب يحدث بالغـائب

ولما توفي "فضالة" رثاه "أوس بن حجر" في قصيدة جعلها أبو الفرج الأصبهاني": "من فاضل مراثيه اياه ونادرها". ومما جاء فيها: الألمعي الذي يظن لك الظّ  ن كأن قد رأى وقد سمعا

وهذا البيت من نفس القصيدة التي قال "الأصمعي" عنها: "لم أسمع قط ابتداء مرثية أحسن من ابتداء مرثيته: أيتها النفس اجملي جزعاً  إنّ الذي تحذرين قد وقعاً 

ومن شعر أوس بن حجر، قوله: فانقض كالدّرّي يتبعه  نقعُ يثور تخاله طنبـا

يخفى وأحياناً يلوح كما  رفع المشير بكفه لهبا 

وقد علق الجاحظ عليه بقوله: "وهذا الشعر ليس يرويه الأوس إلا من لا يفصل بين شعر أوس بن حجر، وشريح بن أوس". وشريح بن أوس، هو ابن هذا الشاعر، وقد ذكر الجاحظ له بيتاً يهجو فيه أبا المهوش الأسدي، وهو من الشعراء المخضرمين، وهذا البيت هو: وعيّرتنا تمر الـعـراق وبـره  وزادُك أير الكلب شيطح الجمر 

وقد ذكر "المعري" قصيدة حائية، ذكر أنها تروي لعبيد مرة، ولأوس أخرى. وتختلف في رواية المعري في الترتيب عما جاء في الديوان. ومما جاء فيها: قاتلها الله، تلحاني وقد عـلـمـت  اني لنفسي إفسادي وإصـلاحـي

أن أشرب الخمر أو أرزأ لها ثمناً  فلا محالة يوماً انـنـي صـاح

و لا محالة من قبر بـمـحـنـية  أو في مليع كظهر الترس وضاح 

وجاء فيها ذكر "يهودي"، إذ يقول: قد نِمتَ عني، وبات البرقُ يسهرني  كما استضاء يهوديُ بمـصـبـاح

وقد خلط الرواة بين شعر "أوس" و "عبيد بن الأبرص"، ولكنهم نبهوا على ذلك وأشاروا اليه.

,اوس بن حجر من معاصري الملك "عمرو بن هند"، وهو تميمي، قتل أبوه يوم "الحجاز" المصادف لسنة "554 م"، وكان مولده بالبحرين، وقد طاف بشعره نجداً والعرق، فمدح ملوك الحيرة ونادمهم، ونال شعره شهرة في الصيد والسلاح، وله وصف للصحارى والسهول المقفرة، ولمنابع المياه المتدفقة من الكهوف التي يكثر حولها ريش النعام، ولمسالك البادية، والنجاد والروابي والجبال، وللرياض، كما اشتهر بوصفه للحمير: قال "ابن الأعرابي: لم يصف أحد قط الخيل، إلا احتاج إلى أبي دؤاد. و لا وصف الحمر إلا احتاج إلى أوس بن حجر، و لا وصف أحد نعامة إلا احتاج إلى علقمة بن عبدة". ولأوس شعر وصف فيه ثوراً وحشياً بقوله: فانصاع كالدُريّ يتبعه  نقع يثور، تخاله طنبا 

ومن أمثاله السائرة قوله: فإنكما يا ابنيٌ جـنـاب وجـدتـمـا  كمن دبَّ يستخفي وفي الحلق جلجل 

وقوله: ولست بخابئ لغدٍ طعاماً  حذار غد لكلّ غد طعام 

وقد أشار "أوس بن حجر" في شعره إلى "المنخل" اليشكري، الذي اتهم بالمتجردة، فزعم أن النعمان قتله أو حبسه، ثم غمض خبره، فلم يعرف أمره، وضرب المثل به، فقيل: "حتى يؤوب المنخل". يقال إن أوساً قال: فجئت ببيعي مولـياً لا أزيده  عليه بها، حتى يؤوب المنخل 

وإذا صح أن هذا الشعر، هو من شعر "أوس" حقاً، وأن "المنخل" هو "المنخل" اليشكري الشاعر لا غيره، فيجب أن يكون أوس قد عاش بعده، وأن يكون من المتأخرين عنه.

واذا كان أوس بن حجر من شعراء مضر، ومن الوصافين، فقد كان: "علقمة بن عبده" المشهور بالفحل من شعراء مضر كذلك، وهو مثل "أوس" من تميم، وقد اشتهر بوصف النعام. وكان ينادم "الحارث" الأصغر الغساني، والنعمان أبا قابوس اللخمي، وكان له أخ اسمه "شأس"، أسره "الحارث بن أبي شمر" الغساني المذكور مع سبعين رجلاً من تميم، فأتاه علقمة ومدحه بقصيدة أولها: طحابك قلب في الحسان طروب  بُعيد الشباب عصر حان مشـيب

إلى الحارث الوهاب أعملتُ ناقتي  لكلكلها والقُـصٌـريَيَن وجـيب

فلما بلغ هذا البيت: وفي كل حي قد خبطتَ بنعمة  فحق لشأسٍ من نداك ذَنـوب

فقال الحارث: نعم وأذنبة. وفك أسره ومن أسر معه من "بني تميم". ويقال ان شأساً هو ابن أخي علقمة.

قيل انه إنما لقب ب"الفحل"، لأنه احتكم مع امرئ القيس، إلى امرأته "أم جندب" لتحكم بينهما في أيهما أشعر، فقالت: قولا شعراً تصفان فيه الخيل على روي واحد، وقافية واحدة، فلما قالا وانتهيا، حكمت لعلقمة بأنه أشعر من زوجها "امرئ القيس " فغضب عليها وطلقها، فخلف عليها علقمة، فسمي بذلك: "الفحل". وهي اسطورة. وقيل انه لقب بالفحل تمييزاً له عن "علقمة بن سهل" من رهطه، وكان يعرف بالخصي، ففرقوا بينهما بهذا الاسم. و "علقمة" الخصي ممن أدرك الإسلام. وكان يكنى "أبا الوضاح"، وقد أسلم، وكان شاعراً. وهو القائل: يقول رجال من صديق وصاحب  أراك أبا الوضاح أصبحت ثاويا

فلا يعدم البانون بيتـاً يكـنـهـم  و لا يعدم الميراث مني المواليا

وخفت عيون الباكيات واقبـلـوا  إلى بالهم قد بنت عنه بمـالـيا

حراصاً على ما كنت أجمع قبلهم  هنيئاً لهم جمعي وما كنت آلـيا

ومن شعره في النساء: فإن تسألوني بالنساء فـإنـنـي  بصير بأدواء النساء طـبـيبُ

إذا شاب رأس المرء أو قل ماله  فليس له في ذهـن نـصـيب

يردن ثراء المالِ حيث علمنـه  وشرخ الشباب عندهن عجـيب

ومما ينسب اليه قوله: وكل حصنٍ وإن دامت سلامته  على دعائمه لا بد مـهـدوم

ومن تعرض للغربان يزجرها  على سلامته لابد مـشـؤوم

ومعظم الغُنم يوم الغُنم مطعمه  أنى توجه والمحروم محـروم

وكل قوم وإن عزوا وإن كثروا  عريفهم بأثافي الشر مرجـوم

وقد اشتهر "علقمة" بثلاث قصائد قال فيهن "ابن سلام": "ولابن عبدة ثلاث روائع جياد لا يفوقهن شعر"، منها قصيدته الميمية التي مطلعها: هل ما علمت وما استودعت مكتوم 

ومن الشعر المنسوب اليه قوله: ويلـم أيام الـشـبـاب مـعـيشة  مع الكثر يعطاه الفتى المتلف الندى 

وقد نسبه بعضهم لابنه: خالد بن علقمة بن عبدة، ونسبه غيرهم لشعراء آخرين.

وقد ذكر "ابن حجر" في كتابه "الإصابة" اسم رجل دعاه "علي بن علقمة بن عبدة" التميمي، قال عنه انه ولد "علقمة" الشاعر المشهور الذي يعرف بعلقمة الفحل. وكان من شعراء الجاهلية من أقران امرئ القيس، ولعليّ هذه ولد اسمه "عبد الرحمن" ذكره المرزباني في معجم الشعراء، فيلزم من ذلك أن يكون أبوه من أهل هذا القسم، لأن عبد الرحمن لم يدرك النبي، وعبد الرحمن هو القائل: وشامت بي لا يخفي عداوتـه  إذا حمامي ساقته المـقـادير

فلا يغّرنٌك جرّ الثوب معتجراً  إني امرؤ لي عند الجدّ تشمير 

وعدّ "العنبر بن عمرو بن تميم" من قدماء الشعراء. وجعل "ابن سلام " قوله: قد رابني من دلوي اضطرابها  والنأي في بهراء واغترابهـا

أن لا تجئ ملأى يجئ قرابها من قديم الشعر الصحيح.

وكان سعد ومالك ابنا زيد مناة بن تميم، ممن قالوا الشعر، وكذلك "حجر ابن معاوية" آكل المرّار. وقد أورد "الجاحظ" بيتين من الشعر لسعد بن ربيعة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم، ثم قال: "وهذا من قديم الشعر"، وذكر في موضع آخر انه "من قديم الشعر وصحيحه".

ومن شعراء تميم: "عبد القيس بن خفاف" "عبد قيس" البرجمي التميمي وكان معاصراً لحاتم الطائي، فأتاه ذات يوم في دماء حملها عن قومه وعجز عنها، فأعطاه حاتم مرباعاً له من غارة على بني تميم.

ويقال انه قال شعراً على لسان النابغة في هجاء النعمان بن المنذر أبي قابوس ملك الحيرة، ليكيد به إلى النابغة، حسداً له، وقد فعل فعله في هذا الدس شاعر آخر هو "مرة بن ربيعة": السعدي.

وينسب له قوله: فالله فاتقِهِ وأوف بنذره  وإذا حلفت مارياً فتحلل 

واعلم بأن الضيفَ مكرم أهلـه  بمبيت ليلـتـه وإن لـم يسـأل

والضيف اكرمه فإن مـبـيتـه  حقُ و لا تك لعـنة لـلـنـزل

وصل المواصلَ ما صفا لك وده  واحزز حبال الخائن المتـبـدل

واترك محل السوء لا تحلل بـه  وإذ نبا بك منـزل فـتـحـوّل

دار الهوان لـمـن رآهـا داره  أفراحلُ عنها كمن لم يرحـل?

وإذا هممت بأمر شـرّ فـاتـئد  وإذا هممت بأمر خير فاعجـل

وإذا أتتك من العـدو قـوارص  فاقرص هناك و لا تقل لم أفعل 

ومن شعراء تميم: "عوف بن عطيّة بن الخرع" التميمي. وكان سيد قومه يوم "رحرحان". ذكر "البغدادي" أنه كان له ديوان صغير موجود عنده.

و"سلامة بن جندل" من شعراء تيم، ويظهر من قصيدة رثا بها "النعمان أبي قابوس" انه عاش بعده. قال عنه "ابن قتيبة": هو شاعر جاهلي قديم من فرسان تميم المعدودين. وأخوه "أحمر بن جندل" من الشعراء والفرسان. وكان "عمرو بن كلثوم" أغار على حي من بني سعد بن زيد مناة، فأصاب منهم، وكان فيمن أصاب "أحمر بن جندل". ويدل شعره في رثاء "النعمان" انه مات في عهد قريب من الإسلام. وله ديوان صغير مطبوع، أكثره في الحماسة والفخر، مع شيء جميل من الوصف والتشبيه.

ومن قوله في الشيب: ولّى الشبابُ وهذا الشيب يطلبه  لو كان يدركه ركض اليعاقيب 

ومن شعره قوله: ليس بأسفي و لا أقنى ولا سفـل  يعطي دواء قفيّ السكن مربوب 

وكان أحد من يصف الخيل، فيحسن، وأجود شعره قصيدته التي أولها: أودى الشبابُ حميداً ذو التعاجيب  ولىّ وذلك شأو غير مطلـوب

وقد زعم "آلورد" أنه أسلم، "لأنه ذكر اسم الله: الرحمن. وهذا بعيد الاحتمال. كما ظنه لويس شيخو من أنه كان نصرانياً". وقد طبع "شيخو" ديوانه في بيروت سنة "1910".

و"طريف بن تميم" العنبري، من الشعراء الفرسان، وكانت الفرسان لا تشهد عكاظ إلا مبرقعة مخافة الثؤرة، وكان طريف لا يتبرقع كما يتبرقعون، وكان قد أغار في "بني العنبر" "عائذة" حلفاء لبني "أبي ربيعة بن ذهل"، فرماه "حمصيصه بن شراحيل" الشيباني، فقتله. وهو القائل: أو كلما وردت عكاظَ قبيلةُ  بعثوا إليّ عريفهم يتوسم

مفتخراً بشجاعته على أعدائه وعلى الذين كانوا يتعقبون خطاه لقتله، اخذاً بالثأر منه.

و"الأسود بن يعفر بن عبد القيس بن نهشل" النهشلي، من الشعراؤ المتقدمين في الجاهلية. وهو تميمي دارمي، وقد عدّت قصيدته التي أولها: نام الخليُ وما أحس رقادي  والهم محتضر لديّ وسادي 

من أجود الشعر ومن مختار أشعار العرب. وقد عدّه "ابن سلام" في الطبقة الثانية من طبقات الشعراء. وقد عرف ب"ذي الآثار"، لما كان يتركه هجاؤه من أثر في المهجوين. وقد وردت في قصيدته المذكورة شواهد نحوية وردت في كتب الشواهد، وتعد القصيدة من مختار أشعار العرب وحكمها المأثورة. وكان ينادم "النعمان بن المنذر"، وابنه الجرّاح وأخوه حطائط شاعران، وكان يكنى بابنه، فعرف ب "أبي الجرّاح".

ومن شعره قوله: ومن الحوادث لا أبالك اننـي  ضُرِبَتٌ عليّ الأرضُ بالأسداد 

لا أهتدي فيها لمدفع تـلـعةٍ  بين العذيب وبين أرض مرادِ

وفيها يقول: ماذا أ}مل بـعـد آل مـحـرق  تركوا منازلهـم، وبـعـد إياد

أهل الخورنق والسدير وبـارق  والقصر ذي الشرفات من سنداد 

نزلوا بأنقمة يسـيل عـلـيهـم  ماء الفرات يجيء من أطـواد

أرض تخيرها لطيب مقيلـهـا  كعب بن مـامة وابـن أم دواد

جرت الرياح على محلّ ديارهم  فكأنما كانوا عـلـى مـيعـاد

فإذا النعيم وكلّ ما يلهـي بـه  يوماً يصير إلى بلى ونـفـاد

وهو جيد العبارة، ليس بالمكثر، ينزع في شعره إلى الحكمة. يكثر التنقل في العرب، يجاورهم فيذم ويحمد.

ومن شعر "حطائط" قوله: أريني جواداً مات هزلاً لعلنـي  أرى ما ترين أو بخيلاً مخـلـدا

ذريني أكن للمال ربّا و لا يكـن  لي المال ربّا تحمدي غبه غـدا

ذريني يكن مالي لعرضي وقاية  ففي المال عرضي قبل أن يتبددا 

والشاعر "عمرو بن قميئة بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"، وقيل: "عمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد بن مالك"، ويكنى "أبا كعب"، هو من "بني سعد بن مالك"، رهط "طرفة بن العبد" وهو من "بني قيس ابن ثعلبة". وكان في عصر "مهلهل بن ربيعة". وقد نعت بأنه قديم جاهلي. وتزعم "بكر"، انه أول من قال الشعر وقصّد القصيد، وذكر انه كان أول من بكى على شبابه. وكان مع "حجر" أبي "امرئ القيس"، فلما خرج "امرؤ القيس" إلى بلاد الروم يستمد قيصر على بني أسد، استصحبه، فمات في سفره ذلك، فسمته "بكرُ" "عمراً الضائع". واياه عني امرؤ القيس بقوله: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه  وأيقن أنا لاحقـان بـقـيصـرا

فقلت له: لاتبك عـينـك انـمـا  نحاول ملكاً أو نموت فتـعـذرا

وهو ابن أخي المرقش الأكبر، وخال المرقش الأصغر، وجدّ طرفة لأمه. وذكر انه عمّر حتى جاوز التسعين، وقال: كأني وقد جاوزت تسعين حجة  خلعت بها عني عذار لجـام

وذكر "الجاحظ" أنه هو القائل: شرّكم حاضر وخـيركـم د  رّ خروس من الأرانب بكر 

وذكر قبله أبياتاً هي: ليس طُعمي طُعمَ الأنامل إذ  قلَّص درّ اللقاح في الصنبر 

ورأيت الإماء كالجعثن البـا  لي عكوفاً على قُرارة قدر

ورأيت الدخان كالـودع الأه  جن ينباع من وراء الستـر

وذكر "ابن قتيبة"، أن "عمرو بن قميئة"، كان من خدم "حجر" والد "امرئ القيس"، وأنه بكى لما سار معه إلى بلاد الروم، وقال له: "غررت بنا". و لا يعقل أن يكون "عمرو" من خدم "حجر"، فهو وإن نشأ يتيماً في كفالة عمه "مرثد بن سعد"، كما تذكر بعض الروايات، إلا أن أسرته لم تكن من طبقة وضيعة، حتى يصير "عمرو" من خدم "حجر" بل روي أنه كان عاملاً لحجر.

وورد انه في شعراء ربيعة الذين ابتدأ الشعر بهم قبل أن يتحول في قيس، كالمرقشين وطرفة بن العبد والحارث بن حلزة. و "عمرو" هو القائل يبكي شبابه: لا تغبط المـرءَ أن يقـال لـه  أمسى فلان لعمره حـكـمـا

إن يُمٌس في خفض عيشه فلقـد  أخنى على الوجه طول ما سلما 

قد كنتُ في ميعةٍ أسـرّ بـهـا  أمنع ضيمي وأهبط العصمـا

يا لهف نفسي على الشباب ولـم  أفقد به إذ فـقـدتـه أمـمـا

وأورد الجاحظ من شعره قوله: وأهون كفٍ لا تضيرك ضيرةً  يدُ بين أيدٍ في إناء طـعـام

يدُ من قريبٍ أو غريبٍ بقفرةٍ  أتتك بها غبراء ذاتُ قـتـام

وقد استشهد ببيت من شعر نسب اليه، هو: ولما رأت ساتيدَ ما استعبرت  للهِ در اليوم مـن لامـهـا

والشعر هو: قد سألتني بنت عمرو عـن  الأرض التي تنكر أعلامها 

لما رأت ساتيد ما استعبرت  للهِ در اليوم من لامـهـا

تذكرت أرضاً بها أهلـهـا  أخوالها فيها وأعمامـهـا

وأما قصة رحيله مع "امرئ القيس" إلى قيصر، ووفاته، وهو في سفره معه، فجزء من أسطورة سفر "امرئ القيس " إلى الروم.

وكان "عبيد بن الأبرص" شاعر "بني أسد" من المعاصرين لامرئ القيس، وله شعر يخاطبه فيه، لما أظهره من تهديد ووعيد لبني أسد، ويرد فيه عليه، وقد انجبت "بنو أسد" جملة شعراء. وذكر أنه كان لدة ل"عبد المطلب" جدّ النبي، وأنه مات قبل "عبد المطلب" بعشرين سنة. قتله "المنذر" أبو "النعمان بن المنذر"، وإذا أخذنا بهذه الرواية واعتبرناها صحيحة، ورجعنا إلى اريخ وفاة "عبد المطلب" التي كانت بعد الفيل بثماني سنين، وإذا جارينا المستشرقين واعتبرنا أن عام الفيل، يقابل السنة "570" للميلاد، تكون وفاة "عبد المطلب" في حوالي السنة "578" للميلاد، فيكون قتل "عبيد بن الأبرص" في حوالي السنة "558" للميلاد على هذا التقدير. ولكن الذي نعرفه من روايات أهل الأخبار أن "عبيد" هذا قد قتله "المنذر بن مرئ القيس" المعروف بالمنذر ابن ماء السماء، الذي تولى الملك في حوالي السنة "508" للميلاد وقتل سنة "554" للميلاد. فيجب أن يكون مقتل "عبيد" قبل السنة "554" للميلاد لابعدها، على حسب تقدير الرواية السابقة.

وهو "عبيد بن الأبرص بن عوف بن جشم" من "بني ثعلبة بن دودان" من "بني أسد". قال عنه "ابن قتيبة": "وكان عبيد شاعراً جاهلياً قديماً من المعمرين، وشهد مقتل حجر أبي امرئ القيس. وهو القائل لامرئ القيس: يا ذا المخوّفنا بقتـل  أبيه إذلالاً وحـيَنـا

أزعمت أنك قد قتلتَ  سراتنا كذباً ومينـا"

ويجب أن يكون مقتل "حجر" بعد السنة "528" للميلاد. وهي السنة التي توفي فيها "الحارث" والد "حجر" على غالب الروايات. و لا نعرف متى قتل "حجر" على وجه صحيح، غير أننا نستطيع أن نقول إن حكمه لم يدم طويلاً على "بني أسد" الذين انتهزوا فرصة وفاة "الحارث" وعودة الحكم إلى ملوك الحيرة، أيام "المنذر بن ماء السماء" الذي أخذ يتعقب آل الحارث، ليقتلهم، فثاروا على "حجر" وقتلوه.

وذكر ان "المنذر بن ماء السماء" هو الذي قتل عبيداً، قتله يوم بؤسه. وكان يقتل فيه أول من يطلع عليه. فلما رآه المنذر، قال له: هلاّ كان هذا لغيرك يا عبيد! أنشدني، فربما أعجبني شعرك ! فقال له عبيد: حال الجريض دون القريض. قال: أنشدني: أقفر من أهله ملحوب، فأنشده عبيد: أقفر من أهله عبـيد  فاليوم لايبدي ولا يعيد 

فسأله أي قتلةٍ يختار ? قال عبيد: أسقني من الراح حتى أثمل، ثم افصدني الأكحل، ففعل ذلك به، ولطخ بدمه الغريين. والغريان طربالان كان يلطخهما بدماء القتلى يوم بؤسه. وكان بناهما على نديمين له، وهما: خالد بن نضلة الفقعسي، وعمرو بن مسعود.

وذكر الرواة ان الملك قال لعبيد: أي قتلة يختار ? أنشأ يقول: وخيرنـي ذا الـبـؤس يوم بـؤسـه  خصالاً أرى في كلها الموت قد برق 

كما خيرت عاد من الـدهـر مـرة  سحائب ما فيها لـذي خـيرة أنـق

سحائب ريح لـم تـوكـل بـبـلـدة  فتتركها إلا كـمـا لـيلة طـلـق

وقد ذكر "ابن قتيبة" أن "قصيدته التي يقول فيها: أقفر من أهله ملحةب، وهي إحدى السبع"، هي من أجود شعره.

ومن أمثاله السائرة قوله: من يسأل الناس يحرموه  وسائل اللـه لا يخـيب

وكل ذي غـيبة يؤوب  وغائب الموت لايؤوب

وقوله: الخير يبقى وإن طال الزمانُ به  والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد 

وقوله: الخير لا يأتي على عجلٍ  والشرّ يسبق سيله مطره 

ويعد "عبيد" في جملة المعمرين، فقد جعل "ابن قتيبة" عمره أكثر من ثلثمائة سنة، وجعل "السجستاني" عمره مائتي سنة وعشرين، ويقال بل ثلثمائة سنة. ولتأييد رأيهم في أنه عاش هذا العمر حقاً، أوجدوا شعراً زعموا أنه قاله، هو: ولتأتينٌ بعـدي قـرون جـمة  ترعى محـارم أيكة ولـدودا

فالشمس طالعة وليل كاسـف  والنجم يجري انحسار سعودا

حتى يقال لمن تعرق دهـره  يا ذا الزمانة هل رأيت عبيدا

مائتي زمان كامل وبـضـعة  عشرين عشت معمراً محمودا 

أدركت أول ملك نصر ناشـئاً  وبنـاء شـداد وكـان أبـيدا

وطلبت ذا القرنين حتى فاتني  ركضاً وكدت بأن أرى داوودا 

ما تبتغيٌ من بعد هذا عيشة  إلا الخلود ولن تنال خلودا

ولَيفنين هذا وذاك كلاهمـا  إلا الإله ووجهه المعبودا

وهو شعر يجعل عمر "عبيد" أكثر من ألف عام، لا مائتي سنة وعشرين ويجعله فيمن ولد قبل الميلاد بزمان. وقد شاء صانعه أن يجعل شاعره من المؤمنين بالله الموحدين، على نحو ما ترى في البيت الأخير من الشعر المزعوم.

ويجب أن نضيف إلى الشعراء المذكورين الشاعر المعروف ب"مرة بن الرواع الأسدي"، أحد بني "حيي بن مالك". وهو شاعر قديم يقول أهل الأخبار انه كان في عصر "امرئ القيس"، وان "امرئ القيس" كان يعلّم قيانه أشعار "ابن الرواع" وهو القائل: أشاقك من فكيهـتـك ادّلاجُ  وبُتّض الحبل وانقطع الخلاجُ 

من قصيدة طويلة. وقوله: إن الخليط أجدوا البين وادّلجوا  وهمٌ كذلك في آثارهم لحـجُ

و"المنقذ بن الطمّاح" الأسدي، شاعر جاهلي من الفرسان المعدودين. وقد أغار على إبل المنذر بن ماء السماء. وقد عرف ب"الجميح"، وينسب اليه قوله: يأبى الذكاء ويأبى أن شـيخـكـم  لن يعطي الآن من ضربٍ وتأديب 

و"عبد يغوث بن صلاءة، وقيل ابن الحارث بن وقاص بن صلاءة بن المعقل " واسمه "ربيعة بن كعب" من شعراء الجاهلية فارس، سيد قومه من "بني الحارث بن كعب" من اليمن. وكان قائدهم في يوم الكلاب الثاني إلى بني تميم وفي ذلك اليوم أسر فقتله. وله قصيدة قالها وهو في أسره أولها: ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا  فما لكما في اللومِ خير ولا ليا 

ذكر ان الذي أسره غلام أهوج من " بني عمرو بن عبد شمس"، فانطلق به اهله، فقالت له أم الغلام: من أنت ? قال: أنا سيد القوم ! فضحكت وقالت: قبحك الله من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج، والى هذا أشار بقوله: وتضحك مني شيخة عبشمـية  كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانيا 

وذكر أنه خاطب الشيخة بقوله: أيتها الحرة، هل لكِ إلى خير? قالت: وما ذاك ? قال: أعطي ابنك مائة من الإبل وينطلق بي إلى الأهتم، فإني أخاف أن تنتزعني سعد والرباب منه، فضمن لها مائة من الإبل، وأرسل إلى "بني الحارث" فوجههوا بها اليه فقبضها العبشمي، وانطلق به إلى الأهتم، فقال عبد يغوث: أأهتـم يا خـير الـبـريّة والـداً  ورهطاً إذا ما الناس عدّوا المساعيا 

فمشت سعد والرباب إلى الأهتم فيه، فقالت الرباب: قتل فارسنا، وهو النعمان بن جساس، ولم يقتل لكم فارس، فدفعه اليهم، فأخذه "عصمة بن أبير" التميمي، فانطلق به إلى منزله، فقال عبد يغوث: يابني تيم، اقتلوني قتلة كريمة. فقال عصمة: وما تلك القتلة ? قال: اسقوني الخمر ودعوني أنوح على نفسي، فجاءه عصمة بالشراب، فسقاه، ثم قطع عرقه الأكحل، وتركه ينزف، ومضى وجعل معه رجلين، فقالا لعبد يغوث: جمعت أهل اليمن، ثم جئت لتصطلحنا، كيف رأيت صنع الله بك فقال هذه القصيدة: ألا تلوماني كفى اللوم ما بـيا  فما لكما في اللوم خير ولا ليا 

ومما جاء في هذه القصيدة قوله: أقول وقد شدوّا لساني بنسعة  أمعشر تيمٍ أطلقوا عن لسانيا 

وقد ذهب العلماء مذهبين في تفسيره، منهم من قال: انه أراد افعلوا بي خيراً لينطلق لساني بشكركم، وانكم ما لم تفعلوا فلساني مشدود لا أقدر على مدحكم، لأن اللسان لايشد بنسعة، ومنهم من قال: انهم شدوّه بنسعة حقيقية، بأنهم ربطوه بنسعة مخافة أن يهجوهم وكانوا سمعوه ينشد شعراً، فقال: اطلقوا لي عن لساني أذمّ أصحابي وأنوح على نفسي، فقالوا: انك شاعر، ونحذر أن تهجونا، فعاهدهم على أن لا يهجوهم، فأطلقوا له عن لسانه. "قال الجاحظ: وبلغ خوفهم من الهجاء أن يبقى ذكرهم في الأعقاب، ويسبّ به الأحياء والأموات، انهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدوّا لسانه بنسعة كما صنعوا بعبد يغوث".

وكان "عبد يغوث" شاعراً من شعراء الجاهلية، من أهل بيت شعر معروف في الجاهلية والإسلام، منهم "اللجلاج الحارثي"، وهو طفيل بن زيد بن عبد يغوث، وأخوه: مسهر، فارس شاعر، وهو الذي طعن "عامر بن الطفيل" في عينه يوم "فيف الريح"، ومنهم من أدرك الإسلام: "جعفر بن علبة بن ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث"، وكان شاعراً صعلوكاً، أخذ في دم فحبس بالمدينة، ثم قتل صبراً.

"قال الجاحظ في البيان والتبيين: وليس في الأرض أعجب من طرفة بن العبد، وعبد يغوث، فإن قسنا جودة أشعاهما في وقت إحاطة الموت بهما، فلم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية".

ومن الشعراء المعمرين "ذو الاصبع العدواني"، واسمه "حرثان بن محرث ابن الحارث" أو "حرثان بن الحارث بن عمرو بن عبادة بن يشكر " اليشكري العدواني، لقب بذي الإصبع لأن حية نهشته على اصبعه فشلّت، فسمي بذلك. زعم أنه عاش مائة وسبعين سنة، واستقل هذا العدد "أبو حاتم"، فجعله ثلاثمائة سنة، وهو عمر لابأس به ! وكان أحد حكّام العرب، وله قصة مع بناته الأربع، في موضوع الزواج، وصفات الزوج، ورغبة المرأة في الازدواج، رووا ان "عبد الملك بن مروان" كان يحفظ شعره، وانه سأل رجلاً من "عدوان" عن شعره وأخباره، فلم يعرف من أمره شئياً، فحط من عطائه ثلاثمائة، زادها في عطاء رجل آخر، كان يعرف شعره. ومن شعره المزعوم في وصف حاله: أصبحت شيخاً أرى الشخصين أربعة  والشخص شخصين لما مسني الكبر 

لا أسمع الصوت حتى أستـدير لـه  ليلاً وإن هو ناغاني به الـقـمـر

ومن شعر "ذي الاصبع" قوله: جلبنا الخيل من بقران قبـا  تجوب الأرض فجاً بعد فج 

وقوله يذكر عدة من ديارهم: إن داري بمرهب فبصعر  فمعور فوخذة فالمـرار

ولنا مـنـزل بـرقـبة لا  يسمع فيه تهاذي الأخبـار

منزل أحرز الحوضن فيه  كل قرمٍ متـوج جـبّـار

ثم بالفرع قد نزلنا قـبـيلاً  دارَ صدق قليلة الأقـذار

ذات حرز وعزة ونـجـاةٍ  وامتناع من جحفل جرّار

ماؤنا الفيض لا يُعذّبنا القيظ  ولا النزع بالرشاءِ المغار

ومن شعره قوله: لي ابن عمّ على ما كان من خلـقٍ  مخالفُ لي أقٌـلـيه ويَقـلـينـي

أزرى بنا أننا شالت نعـامـتـنـا  فخالني دونه بل خلـتـه دونـي

إنكَ الا تدع شتمي ومنقـصـتـي  أضربك حيث تقول الهامة اسقوني 

إني لعمرك ما بيتي بـذي غـلـقٍ  على الصديقِ ولا خيري بممنـون

و لا لساني على الأدنى بمنبـسـط  بالفاحشات، و لا فتكي بمـأمـون

عني اليكَ فمـا أمـي بـراعـية  ترعى المخاض ولا رأيي بمغبون

لا يخرج الكرهُ مني غير مـأبـيةٍ  ولا ألينُ لمن لا يبتـغـي لـينـي

وله قوله: عذير الحيّ من عـدوا  ن كانوا حية الأرض

علا بعضهم بعـضـاً  فلم يُرعو على بعض

ومنهم كانت الـسـادا  ت والموفون بالقرض 

ومنهم خكمُ يقـضـي  فلا ينقض ما يقضي

إذا ما وَلدوا أشـبـوا  بسر الحسب المحض

ومن شعراء "بني يشكر": "المنخل بن عُبيد بن عامر"، "وهو قديم جاهلي، وكان يشبب بهند أخت عمرو بن هند". وذكر انه اتهم ب"المتجردة" "امرأة النعمان بن المنذر"، وهو الذي وشى إلى "النعمان" بالنابغة، لما وصف المتجردة، وكان أيضاً يتهم بامرأة "عمرو بن هند". وكان جميلاً، وقد يكون جماله هذا هو الذي أولد هذا القصص المقال حوله من اتصاله بأخت "عمرو ابن هند"، وبزوجته، وبزوجة النعمان. ويذكر "ابن قتيبة" ان "عمرو بن هند" قتله، وانه قال قبيل قتله: طل وسط العبد قتلي بلا جر  مٍ، وقومي ينتجون السخـالا

لا رعيتم بطناً خصيباً، ولا زر  تُمٌ عدواً، و لا روأتم قـبـالا

وهذا الخبر، يناقض الأخبار التي تذكر انه كان يتهم بالمتجردة، وانه وشى بالنابغة عند النعمان، وان "النعمان" خرج يتصيد، فعمدت إلى قيدٍ فجعلت رجلها في احدى حلقتيه، ورجل المنخل في الأخرى شغفاً به، وجاء النعمان فألفاهما على حالهما، فأمر بالمنخل فقتل، فضربت به العرب المثل، فقال أوس ابن حجر: فجئت ربيعي مُولياً لا أزيده  عليه بها حتى يؤوب المنخل 

وقد أشار ذو الرمة إلى المنخل بقوله: تقارب حتى يطمع النأي في الهوى  وليست بأدنى من إياب المنـخـل

وقد ورد اسمه على هذه الصورة في "تاج العروس": "والمنخل بن خليل اليشكري، كمعظم: شاعر. ومنه لا أفعله حتى يؤوب المنخل. مثل للتأييد، يضرب في الغائب الذي لا يرجى إيابه، كما يقال: حتى يؤوب القارظ العمزي، واسمه عامر بن رهم بن هميم. وقال الأصمعي: المنخل رجل أرسل في حاجة، فلم يرجع، فصار مثلاً في كل ما لا يرجى".

وقد اشتهر بقصيدته: ولقد دخلتُ علـى الـفـتـا  ة الخدر في اليوم المطـير

الكاعب الـحـسـنـاء تـر  فل في الدمقس وفي الحري 

فدفعهـتـا فـتـدافـعـت  مشي القطاة إلى الـغـدير

وعطفتها فـتـعـطـفـت  كتعطف الظبي الـغـرير

فترت وقالت: يا مـنـخـل  ما بجسمـك مـن فـتـور

ومن المعمرين "معدي كرب" الحميري من آل "ذي رُعين"، رووا له شعراً منه: أراني كلما أفنيت يومـاً  أتاني بعـده يومُ جـديدُ

يعود بياضه في كل فجرٍ  ويأبى لي شبابي ما يعودُ 

و"بشر بن أبي خازم" شاعر جاهلي قديم، من بني أسد، شهد حرب أسد وطيء، وشهد هو وابنه نوفل بن بشر الحلف بينهما. وكان في أول أمره يهجو "أوس بن حارثة بن لأم" الطائي، فأسرته بنو نبهان من طيء، فركب "أوس" اليهم فاستوهبه منهم، وكان قد نذر ليحرقنه إن قدر عليه، فوهبوه له، ثم شفعت له أم أوس، ففك أسره، فجعل بشر مكان كل قصيدة هجاء قصيدة مدح، لأن الهجاء لا يمحى عند العرب إلا بمدح، يمحو أثره، في قصة يروونها عن كيفية وقوعه في الأسر.

وروي انه لما طعن، طعنه غلام من "بني وائلة" بسهم فأثخنه، وأخذ يجود بنفسه، قال قصيدة يخاطب بها ابنته عميرة: أسائلة عميرة عـن أبـيهـا  خلال الجيش تعترف الركابا 

وهي قصيدة روى بعض أبياتها الشريف المرتضي في أماليه. وكان بشر قد أغار في منقب من قومه على "الأبناء" من بني صعصعة بن معاوية، وكل "بني صعصعة" إلا "عامر بن صعصعة" يدعون الأبناء، وهم وائلة، ومازن، وسلول، فلما جالت الخيل مرّ "بشر" بغلام من "بني وائلة" فقال له "بشر" استأسره، فقال له الوائلي: لتذهبن أو لأرشقنك بسهمٍ من كنانتي، فأبى بشر إلا أسره، فرماه بسهم، فاعتنق بشر فرسه وأخذ الغلام فأوثقه، فلما كان في الليل أطلقه بشر من وثاقه وخلّى سبيله، وقال:اعلم قومك انك قتلت بشراً، وهو قوله: وان الوائلي أصاب قلبي  بسهم لم يكن نكساً لغابا

ومن هذه القصيدة قوله: تسائل عن أبيها كل راكـبٍ  ولم تلعم بأن السهم صابـا

فرجي الخير وانتظري إيابي  إذا ما القارضُ العنزي آبا

والقارظان من عنزة، يقال إنهما خرجا في طلب القراظ يجتنيانه، فلم يرجعا فضرب بهما المثل فقالوا: "لا آتيك أو يؤوب القرظان"، يضرب في انقطاع الغيبة. وفي هذا المثل قال أبو ذؤيب: وحتى يؤوب القارظان كلاهما  وينشر في القتلى كليب ووائل 

وقد رُمي "بشر" بالإقواء في شعره، وقد نشر ديوانه. ومن أمثاله السائرة قوله: ألم ترَ أنّ طول العهد يُسلى  وينسى مثلما نسيت جـذام

وقوله: يكن لك في قومي يد يشكرونـهـا  وأيدي الندى في الصالحين فروض 

وذكر أنه أوصى ابنته بأن تذري الدمع عليه، وأن تبكي عليه البكاء الذي يستحقه، وكان من عادة أهل الجاهلية، التأكيد بلزوم البكاء والنوح على الميت، ويؤكدون الوصية بفعله، وفي هذا المعنى قول طرفة بن العبد: فإن مت فانعيني بما أنا أهله  وشفيّ عليّ الجيب يا أم معبد 

و"عمرو بن حممة بن رافع بن حارث" الدوسي، أحد حكام العرب من الأزد، شاعر قديم، ذكروا أنه عاش ثلاثمائة وتسعين سنة: وذكروا له شعراً، قالوا إنه قال فيه انه جاوز الثلاثمائة من العمر، وانه قد كبر، و لابد وأن يأتيه يوم يموت فيه. وفي رواية أنه وفد على النبي، وهي خطأ لأنه مات في الجاهلية. وله ولد اسمه"جندب" أسلم، قتل يوم "أجنادين". وذكر أنه الذي كان يقال له: ذو الحكم، وضربت به العرب المثل في قرع العصا، لأنه بعد أن كبر صار يذهل فاتخوا له من يوقظه فيقرع العصا، فيرجع اليه فهمه. واليه أشار الحارث بن وعلة بقوله: إن العصا قرعت لذي الحكم 

ومن شعره الذي قاله في كبره: أخبر أخبار القرون التي مضت  ولابد يوماً أن أطار لمصرعي

وقد أنجبت "دوس" جملة شعراء، منهم: "وهب بن عبد الله بن دوس ابن أبي خالد بن زهير " الشاعر في أول الإسلام، و "جندب بن طريف" الشاعر الذي يقال له ابن الغامدية، ومنهم: "أبو غُنيش" الشاعر، جاهلي من بني مبدول "مندول?".

وقد اختلف في "جران العود" النميري، فذهب "كرنكو" إلى أنه من شعراء العصر الأموي، وانه من معاصري عبد الملك بن مروان. وقد نص "البغدادي " على انه شاعر جاهلي من "بني ضنة بن نمير بن عامر بن صعصعة". واسمه: "عامر بن الحرث بن كلفة"، وقيل "كلدة"، وانما سمي "جران العود" لقوله يخاطب امرأتيه: عمدت لعود فالتحـيت جـرانـه  وللكَيس أمضى في الأمور وأنجح 

خذا حذراً يا ضرتـيّ فـإنـنـي  رأيت جران العود قد كان يصلح

وجران العود أحد من وصف القوّادة في شعره. وقد روى "السكري" ديوان هذا الشاعر، وقد تحدث في ديوانه عن "حمامة نوح"، وورد فيه شعر للرحال، وكان خدن جران، ونزوج كل منهما امرأتين، فلقيا منهما مكروهاً. وقد طبع الديوان مع شرح عليه.

ومن الشعر المنسوب اليه هذا الشعر: حملن جران العود حتى وضعنه  بعلياء في أرجائها الجن تعزف 

وذكر "المعري" انه ينسب أيضاً "لسحيم".

ونجد في شعر ينسب اليه اشارة إلى الكتابة والى الوشوم، تكون بأيدي الروم، إذ يقول: تُركٌنَ برجلة الروحاء حتـى  تنكرت الديارُ على البصير

كوحي في الحجارة أو وشومٍ  بأيدي الروم باقية الـنـئور

وذكر "الجاحظ" له قوله: وكان فؤادي قد صحا ثم هاجـه  حمائم ورق بالمـدائن هُـتـف

كأن الهديل الظالع الرجل وسطها  من البغي شريب يغرد متـرف

وله شعر في وصف "الذئب"، وفي أصوات الطيور والحمام وبقية الحيوانات، وفي الطيرة، إذ يقول: جرى يوم رحنا بالجمال نزفهـا  عقابُ وشحاج من البين يبرح

فأما العقاب فهي منها عقـوبة  وأما الغراب فالغريب المطوّح 

وقد أورد "الجاحظ" له أشعاراً نثرها في كتابه "الحيوان".

وقد وصف نفسه وعشيقته بقوله: فأصبح من حيث الـتـقـينـا غـدية  سِوار وخلخال ومرط ومُـطـرف

ومنقطعاتُ من عقـود تـركـنـهـا  كجمر الغضا في بعض ما تتخطرف 

ونجد شعره شعراً حضرياً، فيه ذكر البقل، كما في هذين البيتين: فنلنا سقاطاً من حـديث كـأنـه  جَني النحل أو أبكار كرم يقطف 

حديثاً لو أن البقل يُولي بمثله=زها البقل واخضرّ العضاه المصنف ومن شعراء الجاهلية: "الحادرة" الذبياني، وهو "قطبة بن أوس بن محصن ابن جرول" من "بني ثعلبة بن سعد" الغطفاني، وهو شاعر جاهلي مجيد مقل، كان يهاجي "زيان بن سيار" الفزاري، وقد بقيت أشعاره القليلة برواية "أبي عبد الله" اليزيدي، المتوفي سنة "310 ه". وكانت له صاحبة اسمها "سمية" تغزل بها في شعره: بكرت سميّى غدوة فتمتـعِ  وغدت غدوَّ مفارق لم يربع 

ومن شعراء الجاهلية: "سويد بن عامر" المصطلقي. ينسب له قوله: لا تأمنن وإن أمسيت في حـرمٍ  إن المنايا بكفَّي كـل انـسـان

واسلك طريقاً تمشي غير مختشع  حتى تنيَّنَ ما يمني لك المانـي

فكل ذي صاحب يوماً يفـارقـه  وكل زادٍ وإن أبـقـيتـه فـان

والخير والشرمقرونان في قرن  بكل ذلـك يأتـيك الـجـديدان

ونسب البيت الأول والثاني والرابع إلى أبي قلادة الهذلي، من قصيدة أولها: يا دارُ أعرفها وحشاً منازلها  بين القوائم من رهط فألبان

مع اختلاف في روايتها وترتيبها.

ومن شعراء خزاعة: "مطرود بن كعب" الخزاعي، له شعر في رثاء عبد المطلب بن عبد مناف، أوله: يا أيها الرجل المحول رحـلـه  ألا نزلت بآل عبـد مـنـافِ

هبلتك أمك لو نزلت علـيهـم  ضمنوك من جوع ومن اقرافِ 

الآخذون العهد من آفـاقـهـا  والراحلون لـرحـلة الإيلاف

والمطعمون إذا الرياحُ تناوحت  ورجال مكة مسنتون عجـاف

والمفضلون إذا المحول ترادفت  والقائلون هَلُـمَّ لـلأضـياف

والخالطون غنيهم بفـقـيرهـم  حتى يكون فقيرهم كالكافـي

كانت قريش بيضةً فتفلـقـت  فالمُحُّ خالصة لعبـد مـنـاف

ومن شعراء هذيل "أبو كبير". وهو "عامر بن الحليس"، وقيل "ابن جمرة". وهو جاهلي، تزوج أمّ"تأبط شراً"، ثم تركها في قصة يرويها أهل الأخبار. قال "ابن قتيبة": "وله أربع قصائد، أولها كلها شيء واحد، و لا نعرف أحداً من الشعراء فعل ذلك. احداهن: أزهير هل عن شيبة من مَعٌدل  أم لا سبيل إلى الشباب الأول

والثانية: أزهير هل عن شيبة من مقصر  أم لا سبيل إلى الشباب المدبـر

والثالثة: أزهير هل عن شيبة من مصرف  أم لا خلود لباذل مـتـكـلـفِ

والرابعة: أزهير هل عن شيبة من معكِ  أم لا خلود لباذل مـتـكـرم

وتنسب له قصيدة فيها: ولقد سريتُ على الظلام بمغشم  جلدٍ من الفتيان غير مُهـبّـل

ممن حملن به وهنَّ عـواقـع  حُبُك النطاق، فعاش غير مثقل 

ونسبها بعض العلماء إلى "تأبط شراً"، وتتناول قصة حب، وقعت بين صاحب القصيدة وامرأة، كان لها ابن ذكي، هددها بقتلها إن بقيت تواصل الرجل، فأشارت على الشاعر بقتله، لأنها تحبه، و لا تريد مفارقته، وفضلت قتله على فراق الشاعر، في قصة جميلة من قصص الحب. فالقصيدة إذن من الشعر القصصي الذي يتعلق بالحب والغرام.

وقد نسبها بعضهم إلى "أبي كبير"، وجعل الغلام "تأبط شراً" في قصة طريفة من قصص الحب.

وقد روي أنه أدرك الإسلام، ثم أتى النبي، "فقال له أحل لي الزنا. فقال: أتحب أن يؤتى اليك مثل ذلك ? قال: لا. قال: فارض لأخيك ما ترضى لنفسك. قال: فادع الله لي أن يذهب عني". والأصح أنه جاهلي لم يدرك الإسلام.

ولهذيل شعر جيد وشعراء مجيدين. وتعد من القبائل المخصبة في الشعر، ومن شعرائها: "المتنخل": "مالك بن عمرو بن عُثم بن سويد بن حنش بن خناعة " "مالك بن عويمر" من "لحيان". اشتهر بقصيدته التي يقول فيها: يا ليت شعري وهمّ المرء ينصبـه  والمرء ليس له في العيش تحريز

هل أجزيَنّكما يوماً بقرضـكـمـا  والقرض بالقرض مجزي ومجلوز 

"قال الأصمعي: ما قيلت قصيدة على الزاي أجود من قصيدة الشمّاخ في صفة القوس، ولو طالت قصيدة المتنخل كانت أجود". وهو من الجاهليين. ومن شعره: لا ينسىء الله منّا معشراً شهدوا  يوم الأميلح لاعاشوا ولا مرحوا 

عقوا بسهم فلن يشعر له أحـد  ثم استفاؤا وقالوا:حبذا الوضـح

التعقية: الاعتذار. وأصل هذا أن بقتل الرجل رجلاً من قبيلته، فيطلب القاتل بدمه، فتجتمع جماعة من الرؤساء إلى أولياء المقتول بدية مكملة ويسألونهم العفو وقبول الدية، فإن كان أولياؤه ذوي قوى أبوا ذلك، وإلا قالوا لهم: بيننا وبين خالقنا علامة للأمر والنهي، فيقول الآخرون: ما علامتكم ? فيقولون أن نأخذ سهماً فنرمي به نحو السماء، فإن رجع الينا مضرجاً بالدم، فقد نهينا عن أخذ الدية، وإن رجع كما صعد، فقد أمرنا بأخذها، وحينئذ مسحوا لحاهم وصالحوا على الدية، وكان مسح اللحية علامة للصلح. قال الأشعر الجعفي: عقوا بسهم ثم قالوا: سـاهـمـوا  ياليتني في القوم إذ مسحوا اللحى 

وأورد "المرتضى" له شعراً في رثاء أبيه أو أخيه أوله: لعمرك ما إنٌ أبو مالكٍ  بوانٍ ولا بضعيف قواه 

ومنه:   

أبو مالكٍ قاصٍرُ فقـرهُ  على نفسه ومشيع غناه 

ومن شعره في الضيف: و لا واللهِ نادى الحيّ ضيفي  هجوءاً بالمساءة والعـلاط

سأبدؤهم بمشمعة وأثـنـي  بجهدي من طعامٍ أو بساطِ

ومن شعراء "هذيل": "خويل بن مطحل" الهذلي، أحد "بني سهم ابن معاوية"، وكان سيد هذيل في زمانه، وابنه من بعده، "معقل بن خويلد". وكان شاعراً معدوداً في شعراء هذيل، ووفد إلى أرض الحبشة، فكلم ملكهم في من عنده من أسرى العرب، فأطلقهم له. وهو القائل: لَعمرك لليأس غيرُ المـريث  خيرُ من الطمـع الـكـاذبِ

وللريث تحفزه بـالـنـجـا  حِ خيرُ من الأمل الـخـائبِ

يرى الحاضر الشاهدُ المطمئن  من الأمر ما لا يرى الغائبِ

وورد في "الإصابة" اسم "معقل بن خويلد بن وائلة بن عمرو بن عبد ياليل" الهذلي، وكان شاعراً، وكان أبوه رفيق "عبد المطلب" إلى أبرهة، وكان بين أبي سفيان وبين معقل بن خويلد، خلاف في سلب رجل من قريش. فقال النبي: "يا معقل بن خويلد اتق معارضة قريش". وذكره "المرزباني" في الشعراء المخضرمين.

ومن بقية شعراء الجاهلية "ذو الخرق" الطهوي، وهةو "دينار بن هلال". ويقال إن اسمه "قرط"، وإنما سمي بذي الخرق لقوله: جاءت عِجافاً عليها الريش والخرق 

وهو من الشعراء الفرسان.

و"سراج بن قرة" "سراج بن قوّة" العامري، أحد بني الصموت بن عبد الله بن كلاب من الشعراء الجاهليين. ذكر "المرزباني " في معجم الشعراء له شعراً قاله في يوم من أيام الجاهلية، وقد نسب على هذه الصورة: "سراج ابن قرة "قوّة" بن ربعي بن زرعة بن الكاهن بن عمرو بن عوف بن أبي ربيعى ابن الصوت بن عبد الله بن كلاب". وقد زعم أن له وفادة على النبي، ولا يوجد دليل يؤيده.

و"السندري بن يزيد الكلابي" شاعر كان مع علقمة بن علاثة، وكان "لبيد" الشاعر مع "عامر بن الطفيل"، فدعى لبيداً إلى مهاجاته فأبى.

ومن شعراء تغلب في الجاهلية "المهلهل" و "عمرو بن كلثوم" التغلبي، و "أفنون " التغلبي، واسمه "ظالم"، وقيل: "صريم بن معشر بن ذهل بن تيم بن عمرو بن مالك" التغلبي. يقال انه مات بموضع يقال له "إلاهة" بطريق الشام، بلدغة حية، وان كاهناً كان قد قال له: انك تموت بمكان يقال له إلاهة، فمات به.

ومما ينسب له من الشعرهذا البيت: مَنيتنا الوُدّ يا مضنون مضنونا  أزمانَنا إن للشباب أفنـونـا

وله مقطوعة أولها: أبلغ حُبيباً وخللّ في سـراتـهـم  ان الفؤاد انطوى منهم على حزن

قد كنت أسبق من جاورا على مهلٍ  من ولد آدم مالم يخلعـوا رسـي

فالوا عليّ ولم أملك فـيالـتـهـم  حتى انتحيت على الأرساغ والثنن

لو أنني كنت من عـادٍ ومـن إرمٍ  ربيت فيهم ولقمان ومـن جـدن

ذكروا أنه انما عرف بأفنون لقوله من قطعة: منيتنا الودّ يا مضنون مضنونا  أيامنا إن للشبان أفـنـونـا

وأنه لما قال له الكاهن تموت بمكان يقال له إلاهة، مكث ما شاء الله ثم سار إلى الشام في تجارة، ثم رجع في ركبٍ من "بني تغلب" فضلوا الطريق، ثم نزلوا "إلاهة"، قارة بالسماوة، فلما أتوها نزل أصحابه، وقالوا: انزل. فقال: والله لا أنزل! فجعلت ناقته ترتعي عرفجاً فلدغتها أفعى في مشفرها، فاحتكت بساقه والحية بمشفرها فلدغته في ساقه، فقال لأخ معه احفر لي قبراً فاتي ميت، ثم رفع صوته بأبيات منها: لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي  إذا هو لم يجعل له اللـه واقـيا

كفى حزناً أن يرحل الحيّ غدوة  وأصبح في أعلـى إلاهة ثـاويا

ومات من ساعته، فقبره هناك، وهو القائل: لعمرك ما عمرو بن هند إذا دعا  لتخدم أمي امـه بـمـوفـق

ومن شعراء تغلب: "الأخنس بن شهاب" التغلبي، فارس العصا. وينسب له قوله: يظلّ بها ربد النعام كأنـهـا  اماءُ تزجي بالعشيّ حواطب 

وقد قال "الأخنس" في أول القصيدة: لابنة حطّان بن عـوف مـنـازل  كما رقّش العنوان في الرق كاتب 

وذكر "الأعلم الشفتمري" قبله:   

فمن يك أمسى في بلادٍ مقـامـه  يسائل أطلالاً بها مـا تـجـاوب

فلابنة حطان بن عوف مـنـازل  كما رقش العنوان في الرق كاتب 

وفي جملة أبياتها: فوارسها من تغلب ابنة وائل  حماة كماة ليس فيها أشائب

وعدّتها ما بين ثلاث وعشرين إلى ثلاثين بيتاً، خسب اختلاف الروايات.

و"البرج بن الجلاء بن الطائي" من شعراء طيء، وكان خليلاً للحصين ابن الحمام ونديمه على الشراب. ذكر أنه وقع على أخت له وهو سكران فافتضها فلما أفاق ندم واستكتم ذلك قومه، ثم أنه وقع بينه وبين الحصين فعيّره بذلك في أبيات، وجرت بينهما الحرب، فأسره "الحصين" ثم منّ عليه لتقدم صداقته، فلحق ببلاد الروم، وقيل بل شرب الخمر صرفاً حتى قتلته.

ومن شعراء "طيء" في الجاهلية: "عمرو بن عمّار " الطائي، وكان شاعراً خطيباً، فبلغ النعمان حسن حديثه فحمله على منادمته، وكان النعمان أحمر العينين والجلد والشعر، شديد العربدة، قتالاً للندماء، فنهاه "أبو قردودة" عن منادمته، لكنه لم ينته، فغضب عليع النعمان وقتله، فرثاه "أبو قردودة" بقوله: إني تهيت ابن عمّارٍ وقلـت لـه  لا تأمنن أحمر العينين والشعره

إن الملوك متى تنزل بساحتهـم  تطر بنارك من نيرانهم شـرره

يا جفنة كإزاء الحوض قد هدمت  ومنطقاً مثل وشي اليمنة الحبرة

وأبو "قردودة" الطائي، شاعر، رأى "سعد القردودة" أكل عند النعمان مسلوخاً بعظامه، فقال: بين النعامِ وبين الكلب منتبـه  وفي الذئاب له ظئر وأخوال 

وله قصيدة أولها: كُبيشة عِرسي تريد الطلاقا  وتسألني بعد وهنٍ فراقـا

و"دريد بن الصمة" من سادات "جشم"، ويكنى "أبا قرة"، وهو أحد الفرسان الشجعان المشهورين، وذوي الرأي في الجاهلية. وشهد معركة "حنين" مع "هوازن"، وهو شيخ كبير، فقتل مع من قتل من المشركين. وقيل انه قال في هذه المعركة: يا ليتني فيها جذع  أخبُّ فيها وأضع

أقود وطفاء الزمع  كأنها شاة صـدع

ومن جيد شعره قوله: أمرتهم أمري بمنعرج الـلـوى  فلم يستبينوا الرشدَ إلا ضحى الغد 

فلما عصوني كنت منهم وقد أرى  غوايتهم، وانني غير مهـتـدي

وهل أنا إلا من غزية إن غـوت  غويت وان ترشد غزية أرشـد

وله أشعار أخرى، ذكر "ابن قتيبة" بعضاً منها.

وأمه "ريحانة" بنت "معدي كرب"، أخت "عمرو بن معدي كرب". وله قصيدة في رثاء "معاوية" أخي الخنساء، مما جاء فيها: فإن الرزء يوم وقفت أدعو  فلم يسمع معاوية بن عمرو

رأيت مكانه فعطفت زوراً  وأي مكان زور يا ابن بكر

على ارمٍ وأحجـار ومـيرٍ  وأغصان من السلمات سمر 

وبنيان القبور أتى عـلـيهـا  طوال الدهر من سنة وشهر

ولو أسمعته لأتاك ركـضـاً  سريع السعي أو لأتاك يجري 

بشكة حـازمٍ لا عـيب فـيه  إذا لبس الكماةُ جلود نـمـر

فإما تمس في جدثٍ مقـيمـاً  بمسهكة من الأرواح قفـر

فعز عليّ هلكك يا ابن عمرو  ومالي عنك من عزم وصبر

وقد وصف بأنه شجاع شاعر فحل: "أول شعراء الفرسان، أطول الفرسان الشعراء غزواً وأكثرهم ظفراً وأيمنهم نقيبة عند العرب وأشعرهم". غزا نحو مائة غزوة وما أخفق في واحدة منها، وأدرك الإسلام ولم يسلم، وخرج مع قومه يوم حنين مظاهراً للمشركين و لا فضل فيه للحرب، وانما أخرجوه تيمناً به وليقتبسوا من رأيه، فقتل على شركه. وكان قد رأس قومه: "مالك بن عوف"، فلما سأله "دريد" عن خطته في الحرب، سفهع رأيه وأشار عليه بالرجوع فخالفه "مالك"، فلما التقوا بالمسلمين حلت الهزيمة بهم. وقتل "دريد".

وكان "دريد" فارس "غطفان"، وقُتل أخوه "عبد الله"، فَقَتل به به "ذُوّاب بن أسماء بن زيد بن قارب"، وقال: قتلت بعبد الـلـه خـير لـداتـه  ذواب بن أسماء بن زيد بن قارب 

و"عامر بن الطفيل" من "بني عامر بن صعصعة" من الشعراء الذين أدركوا الإسلام، وقد وفد على الرسول، وهو يريد الغدر به، ثم رجع كافراً فمات وهو في طريقه إلى دياره بالطاعون. ورد في رواية انه قال للرسول: "تجعل لي نصف ثمار المدينة، وتجعلني وليّ الأمر بم بعد وأسلم! ?". وهو الذي نافر "علقمة بن علاثة" إلى "هرم بن قطبة" الفزاريّ، حين أهتر عمه عامر بن مالك بن ملاعب الأسنة.

وكان فارس قيس، أعور عقيماً لا يولد له، ولم يعقب، مغروراً فخوراً بنفسه: ومن شعره قوله: فإني وإن كنتُ ابن فارس عامرٍ  وسيّدها المشهور في كل كوكب 

فما سوّدتني عامـر عـن وراثة  أبى الله أن أسمو بـأم و لا أب

ولكنني أحمي حماها، وأتـقـي  أذاها، وأرمي من رماها بمنكب 

وله شعر يفخر به بقومه قيس عيلان، يجعل الأرض قيس عيلان وحدهم، لهم السهول والحزوم، وقد نال مجدهم آفاق السموات، ولهم الصحو منها والغيوم.

وكان "عامر" شديداً قوياً، يرى لنفسه الزعامة بفضل قبيلته، وبقوة شخصيته، وتذكر الأخبار انه لما وفد مع "بني عامر"، كان غليظاً في كلامه، حتى ان الرسول امتعض منه، وكان يستهين أمر الرسول، ويقول: "لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، أفأتبع أنا عقب هذا الفتى من قريش ? " يقولها لما كانوا يلحون عليه في الدخول في الإسلام. ولما سأل الرسول أن يجعل له ميزة فيتفق معه على أن يكون هو سيد أهل الوبر، وان يكون الرسول سيد أهل المدر، وأبى الرسول ذلك عليه، خرج من يثرب غاضباً مهدداً، قائلاً للرسول: "لأملأنها عليك خيلاً جرداً، ورجالاً مرداً، ولأربطن بكل نخلة فرساً"، مما جعل الرسول يدعو الله أن يكفيه شره. وكان الرسول يقول: "والذي نفسي بيده لو أسلم فأسلمت بنو عامر لزاحموا قريشاً على منابرهم".

وبنو عامر بت صعصعة من القبائل القوية، وهي من "هوازن"، وقد كانت منازلها بنجد، وقد ساهمت في حروب عبس وذبيان، فساعدت عبس على ذبيان، ولعب عامر بن صعصعة دوراً مهماً فيها.

وقد طبع ديوانه، طبعه المستشرق "لايل" في سلسلة "جب" التذكارية سنة "1913" مع ديوان عبيد بن الأبرص.

ومن شعراء "بني بارق": "معقر بن حمار" البارقي، واسمه "سفيان بن أوس بن حمار"، سُمي معقراً بقوله: له ناهض في الوكر قد مهدت له  كما مهدت للبعل حسناء عاقـر

وقوم "معقر"، وهم "بارق" من اليمن في الأصل، ينتهي نسبهم بالأزد. وكانوا قد حالفوا "بني نمير بن عامر" لدم أصابوه منهم، وشهدوا يوم "جبلة". وهو يوم كانت فيه وقعة بين "بني ذبيان " و "بني عامر"، فظهرت "بنو عامر" على "بنو ذبيان". وكان "معقر" من فرسانها قومه ومن شعرائهم يوم "جبلة" وقد حدد ذلك اليوم بوقوعه قبل الإسلام بتسع وخمسين سنة، وبتسع عشرة سنة قبل المولد النبوي.

ومن شعره: الشعرُ لبُّ المرء يعرضهُ  والقول مثل مواقع النبل

منها المقصر عن رميته  ونوافذ يذهبن بالخصـل

ومن شعره المشهور: فألقت عصاها واستقرّ بها النوى  كما قرّ عيناً بالإياب المسافـر

ومن شعراء الجاهلية، شاعر لا نعرف من أمره شيئاً يذكر، اسمه: "عمرو ابن عبد الجن"، "عمرو بن عبد الحق"، وينسب له قوله: أما ودماء مائرات تخـالـهـا  على قنة العزى وبالنسر عندما

وما سبح الرهبان في كل ربيعة  أبيل الأبيلين المسيح بن مريما

لقد ذاق منا عامر يوم لعـلـع  حساماً إذا ما هز بالكف صمّما 

ومن شعراء "قيس" المجيدين في الجاهلية: "خداش بن زهير بن ربيعة ابن عمرو بن عامر بن صعصعة"، قال "أبو عمرو بن العلاء": "خداش ابن زهير أشعر في عَظٌم الشعر، يعني نَفَس الشعر، من لبيد، انما كان لبيد صاحب صفات". . وجدّه "عمرو بن عامر"، يقال له "فارس الضحياء"، والضحياء فرسه. وفيه يقول: أبي فارس الضحياء عمرو بن عامر  أبى الذمَ واختار الوفاءَ على الغدر

ومما يتمثل به من شعره قوله: ولن أكون كمن ألقى رِحـالـتـه  على الحمار وخلّى صهوة الفرس 

وقوله: فإن يكُ أوس حيّة مستـمـيتة  فذرني وأوساً، إن رقيته معي 

وذكر أنه كان من الصحابة، وأنه شهد حنيناً مع المشركين، ثم أسلم بعد ذلك. ويرى "المرزباني" أنه جاهلي لم يدرك الإسلام، وأغلب أهل الأخبار على هذا الرأي. وينسب اليه قوله: يا شدة ما شددنا غـير كـاذبة  على سخينة لولا الليل والحرم 

و"سخينة" قريش. وكانت تعير بإكثارها من أكل السخينة.

ومن شعره: فيا راكباً أما عرضت فبـلِّـغـنٌ  عقيلاً إذا لاقـيتـه وأبـا بـكـر

بأنكم من خير قـومٍ لـقـومـكـم  على أن قولاً في المجالس كالهجر 

دعوا جانباً إنا سنتـرك جـانـبـاً  لكم واسعاً بين اليمامة والظـهـر

و"الحصين بن الحمام" المريّ، شاعر جاهلي، وهو من "بني مرة"، يعد من أوفياء العرب. وهو أحد الشعراء المقلّين. "قال أبو عبيدة: واتفقوا على أن أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثة: المتلمس، والمسيب بن علس، وتلحصين ابن الحمام المري". وقد أدخله بعضهم في الشعراء الجاهليين الذين أدركوا الإسلام. وقد احتجوا بإسلامه بما نسب اليه من الشعر من قوله: أعوذ بربي من المخزيات  يوم ترى النفس أعمالهـا

وخف الموازين بالكافرين  وزلزلت الأرض زلزالها 

والأصح أنه جاهلي لم يدرك الإسلام.

وأما "المفضل بن معشر بن أسحم"، فهو من "نُكرة" من "لكيز"، فضلته قصيدته التي يقال لها "المنصفة"، وأولها: ألم تَرَ أن جيرتنا استقلوا  فنيتنا ونيتهـم فـريق

وقد ولع بعض العلماء في وضع تواريخ للشعراء المتقدمين ولغيرهم، تحدد سني ميلادهم وسني وفاتهم، وسني الحوادث التي وقعت في أيامهم والمذكورى في أشعارهم. وهو ولع لا يستند على أسس علمية. لأن أغلب الروايات الواردة عن هؤلاء الشعراء هي غير ثابتة، وقد تتناقض أحياناً، وقد يتبت بطلانها بعد تقدها نقداً علمياً، ثم إن فيها ما هو موضوع مصنوع ظاهر الصنعة، بيّن التكلف، ولهذا فأنا أحاول جهد إمكاني تجنيب نفسي من توريطها في وضع أرقام تمثل مواليد الشعراء الجاهليين أو سني وفاتهم، أو تواريخ الحوادث المذكورة في شعرهم، لعدم امكانية التثبيت من ذلك، بل اني أرى لزوم الابتعاد جهد الإمكان من وضع التواريخ لسني حكم الملوك ولسني وفاتهم لصعوبة اثبات ذلك، والاكتفاء جهد الإمكان بتقريب أيامهم الينا بصور تقريبية. ولهذا السبب لم أحفل في هذا الفصل بترتيب الشعراء ترتيباً زمنياً على وفق ما ذهب اليه المولعون بتدوين التواريخ بالسنين، إذ أرى صعوبة الأخذ بهذا الرأي في التواريخ.

الفصل الثامن والخمسون بعد المئة
المعلقات السبع

ومن الشعر الجاهلي قصائد عرفت بين الناس باسم "المعلقات السبع" وب"المعلقات" وب"المذهبات " وب"السموط"، لزعم الرواة أن العرب اختارتها من بين سائر الشعر الجاهلي، فكتبتها بماء الذهب على القباطي، ثم علقتها على الكعبة 'عجاباً بها واشادة بذكرها، وقد بقي بعضها إلى يوم الفتح، وذهب ببعضها حريق أصاب الكعبة قبل الإسلام.

والمعلقات السبع سبع قصائد طويلة اختيرت من الشعر الجاهلي، فعرفت لذلك بين الناس ب"السبع" وبالسبع الطوال، وبالسبع الطول، وبالقصائد المختارة، وبالسبعيات، وعرفت أيضاً باختيارات حماد، وبالسمط، وبالمذهبات. ويظهر ان لفظة "السبع"، هي من الألفاظ القديمة التي أطلقت على اختيارات "حماد"، فقد ذكر "محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب: ان أبا عبيدة قال: أصحابُ السبع التي تسمى السمط:امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطرفة. قال: وقال المفضل: من زعم أنّ في السبع التي تسمى السمط لأحد غير هؤلاء فقد أبطل". ولما تحدث "ابن قتيبة" عن معلقة "عمرو بن كلثوم"، قال: "وهي من جيد شعر العرب القديم، واحدى السبع". فالسبع، تسمية أخذت من حقيقة ان القصائد المذكورة المختارى كانت سبع قصائد.

وأما تسمية المعلقات ب"السبع الطوال" و "السبع الطوال"، فلكون هذه القصائد السبعة، هي من أطول ما ورد في الشعر الجاهلي من قصائد. زنجد هذه التسمية واردة على لسان "المفضل" حيث نسب إليه قوله: "هؤلاء أصحاب السبع الطوال". وقد أطلقها "ابن كيسان" المتوفي سنة "299 ه" "911"، "320ه" "932"، على شرحه لتلك القصائد حيث سمّاه ب"شرح السبع الطوال الجاهلية"، وأطلق "أبو جعفر أحمد بن محمد" النحّاس "338" هذا العنوان عليها، إذ ذكرها بقوله: "ان حماداً هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة"، وأطلقه على شرحه لها.

وعرفت أيضاً ب"القصائد السبع" وب"القصائد السبع الطوال" وب"القصائد". وب"القصائد التسع"، وب"القصائد التسع المشهورة"، وذلك بالنسبة لمن أضاف على القصائد المذكورة قصيدتين أخريين، وب"القصائد العشر"، وذلك بالنسبة لمن أضاف ثلاث قصائد عليها.

ويظهر أن مصطلح "السبع الطوال"، هو أنسب المصطلحات تعبيراً عن هذه القصائد، لأنها تمثل في الواقع أطول ما وصل الينا من الشعر الجاهلي. فإن عدد أبيات أقصر قصيدة من قصائدها هو "64" بيتاً، أما عدد أبيات أطول قصيدة منها، فهو "104"، ومعدل أبيات المعلقات "85" بيتاً.

وعرفت هذه القصائد ب"القصائد المختارة" لطبيعة كونها قصائد اختيرت من قصائد الشعر الجاهلي، وانتخبت منه انتخاباً. ونجد مجموعة أخرى عرفت ب"شعر الشعراء الست"، وهم امرؤ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة. وقد أشار "البغدادي" إلى كتاب دعاه: "مختار شعر الشعراء الست: امرؤ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة. وشرحها للأعلم الشمنتري".

ولم نجد في الكتب التي وصلت الينا، الاسم الصحيح الأول الذي أطلقه جامع هذه القصائد ومختارها عليها. وقد ورد في مقدمة شرح التبريزي "502 ه" على "القصائد العشر": "سألتني -أدام الله توفيقك-أن ألخص لك شرح القصائد السبع، مع القصيدتين اللتين أضافهما اليها أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النخوي -قصيدة النابغة الذبياني الدالية، وقصيدة الأعشى اللامية- وقصيدة عبيد بن الأبرص تمام العشرة". فيظهر منها أن جملة "القصائد السبع"، كانت غالبة على تلك القصائد، من حقيقة كونها سبع قصائد في الأصل.

و لا نعلم اسم أول من أطلق مصطلح "المعلقات السبع" على هذه القصائد، وفي أي وقت أطلقه عليها. و لا يستطيع أحد إثبات ان "حماداً" الراوية هو الذي أطلقه على مقتنياته. وقد ذكر "بلاشير" ان "ابن قتيبة" لما تكلم عن قصيدة "عمرو بن كلثوم" التي تدخل في المعلقات قال عنها انها "احدى السبع المعلقات". وقد رجعت إلى النص فوجدته يقول: "وهي من جيد شعر العرب القديم، واحدى السبع"، ولما كنت لا أملك النسخة الافرنسية لكتاب "بلاشير"، لذلك لا أدري إذا كانت تلك النسخة قد استخدمت جملة "احدى السبع المعلقات"، كما وردت في الترجمة العربية، أم ان الترجمة العربية هي التي استعملتها تصرفاً، وانها لم ترد في النص الأصل. واني أستبعد احتمال أخذ "بلاشير" من نسخة أخرى استعملت جملة "احدى السبع المعلقات" بدلاً من "احدى السبع" الواردة في النص الذي اعتمدت عليه، المطبوع ببيروت سنة 1964 م.

والعلماء مختلفون في القصائد التي تعّد من المعلقات وفي عددها، ولكنهم متفقون على خمس منها، هي معلقات امرئ القيس، وطرفة، وزهير، ولبيد، وعمروبن كلثوم. أما بقيتها، فمنهم من يعد من بينها معلقة عنتّرة والحارث بن حلزة، ومنهم من يدخل فيها قصيدتي النابغة والأعشى. وقد اضاف بعض العلماء القصيدتين اللتين اختارهما المفضل الضبي، وهما قصيدتا النابغة والأعشى، إلى المعلقات السبع التي هي من اختيار حماد، فجعلها تسع معلقات. ويرى "نولدكه" ان لولاء حماد لبكر بن وائل علاقة بإدخال حماد قصيدة الحارث بن حلزة اليشكري في جملة المعلقات، وذلك ان حماداً كان مولى لبكر بن وائل، وكانت هذه القبيلة في عداء مع تغلب، ولما كانت قصيدة "عمرو بن كلثوم" التغلبي قد لقيت شهرة واسعة، لم يسع حماد أن يعدل عن اختيارها، فاختارها، واختار معها قصيدة الحارث إرضاء لمن انتمى اليهم بالولاء، مع قلة شهرتها بالنسبة إلى القصائد الأخرى.

ونجد في "الفهرست" اسم كتاب ذكر "ابن النديم" انه من مؤلفات "الأصمعي"، دعاه "كتاب القصائد الست". ولهذه التسميى أهمية كبيرة، لأنها تدل على أن "الأصمعي"، كان قد اختار من القصائد المعروفة ست قصائد، وضمها بين دفتي كتاب. ولم يشر "ابن النديم" إلى أسماء القصائد الست المختارة، ولكني لا أستبعد احتمال اسقاطه قصيدة واحدة من بين القصائد السبع التي اختارها "حماد"، فصار العدد ست قصائد. كما أشار "البغدادي" إلى كتاب دعاه: "مختار شعر الشعراء الست: امرئ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة"، والى شرحها للأعلم الشمنتري.

وأشار "السيوطي" أثناء حديثه في مقدمة لكتابه: "شرح شواهد المغني" إلى "شرح المعلقات السبع"، وما ضم اليها للتبريزي ولأبي جعفر النحاس، وشرح السبع العاليات للكميت، وشرح القصائد المختارة للتبريزي". وتلفت جملة:"شرح السبع العاليات للكميت " النظر، لأنها جاءت في أثناء تحدثه على المعلقات السبع وما ضمّ اليها للتبريزي ولأبي جعفر النحاس، مما يدل على أنه قصد بشرح السبع العاليات للكميت، قصائد سبعاً مختارة لها صلة بهذه المعلقات المختارة للتبريزي، التي هي المعلقات العشر، وأنه لم يقصد بالقصائد السبع "الهاشميات"، "هاشميات" الكميت وهي أيضاً سبع قصائد، من شعر هذا الشاعر، عرفت بالهاشميات. ولو كان قصدها بالذات لدعاها باسمها الذي عرفت به، وهو "الهاشميات"، وإنما قصد كتاباً آخر، اسمه: "شرح السبع العليات"، ولفظة "العاليات" نعت للقصائد السبع. ولم يتحدث السيوطي ويا للأسف عن هذا الشرح بأي شيء، فهل يكون الكميت المتوفي سنة "126ه"، أي قبل "حمّاد"، قد اختار سبع قصائد جاهلية وضمها في ديوان عرف ب"السبع العاليات " وقف عليها "حماد" أو صارت اليه، فأملاها فنسبت اليه، على عادة القدماء في ذلك الوقت، من أخذهم الكتب والروايات القديمة، ثم املاءها على تلامذتهم، فتنسب اليهم، فتكون المعلقات اذن من جمع الكميت، رواية حماد ! ويفهم من خبر مذكور في "خزانة الأدب" أن الخليفة "عبد الملك بن مروان" أمر فطرح شعر أربعة من أصحاب المعلقات، وأثبت مكانهم أربعة. ومعنى هذا الخبر هو وجود المعلقات قبل أيام عبد الملك. وفي الكتاب خبر آخر هو أن بعض أمراء بني أمية أمر من أختار له سبعة أشعار، فسماها المعلقات، وفي رواية أخرى: المعلقات الثواني. ولم يعين المورد الشخص الذي أمر باختيار تلك الأشعار، ولا الشخص الذي قام بالاختيار. ولعله قصد الوليد وحماداً، فإليهما يتصرف الذهن، لما للوليد من ولع بالشعر، ولما لحمّاد من علم به.

ولم يشر "البغدادي" صاحب "خزانة الأدب" إلى اسم المورد الذي استقى منه خبره عن طرح "عبد الملك" شعر أربعة من أصحاب المعلقات، واثباته أربعة مكانهم. كما أنه لم يشر إلى أسماء أصحاب المعلقات الذين طرحت معلقاتهم، و لا إلى أسماء الشعراء الأربعة الذين أثبتت قصائدهم مكان القصائد الأربع المطروحة. وروي أن "معاوية"، تذكر قصيدة "عمرو بن كلثوم"، وقصيدة "الحارث ابن حلزة" فقال " قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة، من مفاخر العرب، كانتا معلقتين بالكعبة دهراً".

والمعروف اليوم، ان حماداً الراوية، هو الذي جمع القصائد السبع المذكورة، وأذاعها بين الناس. وهو من حفظة الشعر ورواته وممن اشتهروا وعرفوا برواية الشعر القديم. وكان من المتكسبين بالشعر. وقد اتهم بالوضع وبالدس على الجاهليين وبالكذب عليهم: وهو نفس لم ينكر ذلك، ولم يبرئ نفسه من الدس على الجاهليين والوضع عليهم. ولكنه كان بإجماع أنصاره وخصومه من أفرس الناس بالشعر، ومن أعلمهم بالشعر الجاهلي وبطرقه ودروبه وأساليبه، ولعل علمه هذا بالشعر، ورغبته في التفوق والتصدر على أقرانه المتعيشين مثله على رواية الشعر، كانا في رأس الأسباب التي حملته على الوضع والدس والافتعال.

ووضع "المفضل" الضبي قصيدتي النابغة والأعشى مكان قصيدتي عنترة والحارث بن حلزة اليشكري في الاختيارات الشهيرة للمعلقات. وضم "أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل" النحوي قصيدتي النابغة والأعشى على اختيارات "حماد" فصار العدد تسع معلقات، أضاف عليها بعض العلماء قصيدة "عبيد الأبرص" فصارت عشراً، وقد شرحها "التبريزي". وجعل بعضهم العدد ثمانية. ولكن المشهور المعروف بين علماء الشعر الجاهلي انها سبع قصائد: وهي في رأيهم أفضل ما قيل من الشعر في زمان الجاهلية.

ولأهل الأخبار قصص وحكايات عن سبب تسمية المعلقات بالمعلقات. فذكر "أحمد بن عبد ره" مثلاً أن العرب كلفت بقصائد خاصة من الشعر الجاهلي رفضلتها على غيرها، وعمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها في أستار الكعبة، فمنه يقال: مذهبة امرئ القيس ومذهبة زهير، والمذهبات سبع، ويقال لها المعلقات. وورد: يقال مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره. وقال "ابن رشيق": "وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك لأنها اختيرت من سائر الشعر فكتبت في القباطي بماء الذهب وعلقت على الكعبة، فلذلك يقال مذهبة فلان، إذا كانت أجود شعره، ذكر ذلك غير واحد من العلماء. وقيل: بل كان الملك إذا استجدت قصيدة الشاعر يقول: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته".

وذهب "السيوطي" هذا المذهب كذلك، إذ قال: "وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك انها اختيرت من سائر الشعر، فكتبت في القباطيّ بماء الذهب، وعلّقت على الكعبة، فلذلك يقال: مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره. ذكر ذلك غير واحد من العلماء. وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة يقول: علقوا لنا هذه لتكون في خزانته". وهو رأي أخذه من "ابن رشيق"، من كتابه "العمدة". وكتاب العمدة من الموارد التي استقى منها "السيوطي"، يشيراليه أحياناً، و لا يشير اليه أحياناً أخرى، كما هو الحال في هذه الجمل، التي هي عبارة "ابن رشيق" بحروفها كما جاء في العمدة. وقد توفي "ابن رشيق" سنة "456 ه".

وزعم بعض آخر أن العرب كانوا في جاهليتهم يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض، فلا يعبأ به و لا ينشده أحد، حتى يأتي مكة في موسم الحج فيعرضه على أندية قريش، فإن استحسنوه روي، وكان فخراً لقائله وعلق على ركن من أركان الكعبة حتى ينظر اليه، وإن لم يستحسنوه طرح وذهب فيما تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش". وذهب "ابن خلدون" إلى أن العرب كانوا يعلقون أشعارهم بأركان البيت كما فعل أصحاب المعلقات السبع، وإنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من له قدرة على ذلك بقومه وعصبيته ومكانه في مضر. وذكر أن "أول من علق شعره في الكعبة امرؤ لبقيس وبعده علقت الشعراء، وعدد من علق شعره سبعة. ثانيهم طرفة بن العبد. وثالثهم زهير بن أبي سلمى، رابعهم لبيد بن ربيعة، خامسهم عنترة، سادسهم الحارث بن حلزة، سابعهم عمرو بن كلثوم. هذا هو المشهور". وروي عن "معاوية" قوله: "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة من مفاخر العرب كانتا بالكعبة دهراً".

وعن "ابن الكلبي" انه قال: "أول شعر علق في الجاهلية شعر امرئ القيس علق على ركنٍ من أركان أيام الموسم حتى نظر اليه، ثم أحٌدِرَ فعلقت الشعراء ذلك بعده، وكان ذلك فخراً للعرب في الجاهلية، وعدّوا من علق شعره سبعة نفر، إلا ان عبد الملك طرح شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة".

و لا بد وأن يكون ظهور قصة التعليق قد حدث قبل أيام "ابن عبد ربه" المتوفي سنة "328 ه" لورودها في "العقد الفريد". "وابن عبد ربه" من معاصري "أبي جعفر أحمد بن محمد" النحاس، المتوفي بعده بعشر سنوات، أي سنة "338ه"، الذي ذكر القصة أيضاً، لكنه أنكر تعليق المعلقات، فعنده "أن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة". وذكر أنه قال في شرحه على المعلقات ما نصه: "واختلفوا في جمع القصائد السبع، وقيل إن العرب كانوا يجتمعون بعكاظ فيتناشدون الأشعار، فإذا استحسن الملك قصيدة قال: علقوا لتا هذه وأثبتوها في خزانتي"، وقال أبو جعفر: "وأما قول من قال إنها علقت بالكعبة فلا يعرفه أحد من الرواة"، " وهو يستند في رأيه هذا، إلى أن حماداً الراوية لما رأى زهد الناس فب الشعر، جمع لهم هذه القصائد السبع، وقال هذه هي المشهورات ! فسميت القصائد المشهورة".

وقد مشت اسطورة التعليق هذه بين الناس، حتى صارت رأياً اعتقد به كثير من المحدثين، إلى درجة أن منهم من صار يغضب ويثور إذا قرأ رأياً يخالف هذا الرأي، لاعتقاده أن في هذا الإنكار غضاً وتعريفاً بأخلد تراث من تراث العرب القديم، وأن فيه انتقاصاً من قدر الأدب العربي التليد.

وقد تعرض المستشرقون منذ أيام "بوكوك" لموضوع المعلقات، وقد رأى كثير منهم ان قصة التعليق قصة مصطنعة وان الموضوع مصنوع. ويرى "نولدكه" ان اختلاف رواة الشعر في ضبط أبيات تلك المعلقات، دليل في حد ذاته على عدم صحة التعليق، إذ لو كانت تلك القصائد معلقة ومشهورة وكانت مكتوبة لما وقع علماء الشعر في هذا الاختلاف. ثم يرى سبباً آخر يجمله على الشك في صحة ما يقال عن المعلقات. هو ان كل الذين كتبوا عن فتح مكة مثل الأزرقي وابن هشام والسهيلي وغيرهم وغيرهم، أشاروا إلى أن الرسول أمر بطمس الصور وكسر الأوثان والأصنام، ولم يشيروا أبداً إلى المعلقات، ولو كانت المعلقات موجودة كلاً أو بعضاً لما غض أهل الأخبار أنظارهم عنها، ولما سكتوا عن ذكرها، لأهميتها عند العرب.

ثم يرى "نولدكه" اه هذه القصائد لو كانت معلقة حقاً، وكانت على الشهرة التي يذكرها أهل الأخبار لما أغفل أمرها في القرآن الكريم وفي كتب الحديث وفي كتب الأدب مثل الأغاني وأمثاله، ولأشير اليها، ولهذا يرى ان ما يروى عن المعلقات هو من القصص الذي نشأ عن التسمية وعن اختيارات حماد لها، فلما أشاعها بين الناس، أوجد الرواة لها قصة التعليق.

وقد استدل "نولدكه" من عبارة: "وقال المفضل: القول عندنا ما قاله أبو عبيدة في ترتيب طبقاتهم: وهو ان أول طبقاتهم أصحاب السبع معلقات. وهم: امرؤ القيس وزهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد. قال المفضل: هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب بالسموط "ومن زعم غير ذلك، فقد خالف جمهور العلماء"، على ان الأدباء أوجدوا قصة تعليق المعلقات في الكعبة، نظراً إلى ما يقال من تفاخر الشعراء بعكاظ، وتحكيم المحكمين فيما بينهم، فرأى رواة الشعر أن يجعلوا المختار من الشعر، وهو القصائد السبع الطوال سيد الشعر الجاهلي، ولما كانت مكة ذات قدسية، وجدوا انها أصلح مكان لأن يربط بينه وبين هذا المختار من عيون الشعر، فأوجدوا حكاية التعليق.

وبين المستشرقين فريق ذهبوا مذهب "نولدكه" في رفض قصة التعليق، ورأوا أن القصة أسطورة لا أصل لها ولا فصل. وفريق أيد التعليق، وهم أقلية، وذهب مذهب المثبتين له من علماء الشعر الجاهلي. أما علماء العربية في أيامنا، فهم أيضاً بين مؤيد وبين مخالف، ولكل رأي.

وقد تعرض "الرافعي" لموضوع تعليق المعلقات، فذهب إلى أن قصة التعليق على الكعبة قصة مفتعلة، وأن "ابن الكلبي" هو الذي ذكر تعليقها على الكعبة، وأن مَنٌ عدا ابن الكلبي ممن هم أوثق في رواية الشعر وأخباره لم يذكروا من ذلك شيئاً، بل جملة كلامهم ترمي إلى أن القصائد لم تخرج عن سبيل ما يختار من الشعر، وأن المتأخرين هم الذين بنوا على خبر التعليق ما ذكرووه من أمر الكتابة بالذهب أو بمائه في الحرير أو في القباطي ؛ وأن العرب بقيت تسجد لها "150" سنة حتى ظهر الإسلام، تسجد لها كما يسجدون لأصنامهم. "وابن الكلبي" على رأيه "هو أول من افترى خبر كتابة القصائد السبع المعلقات وتعليقها على الكعبة".

وتعرض "الرافعي" أيضاً إلى رأي من ينكر أن هذه القصائد صحيحة النسبة إلى قائليها، مرجحاً أنها منحولة وضعها مثل حمّاد الراوية، أو خلف الأحمر، فرأى أنه رأي فائل، لأن الروايات قد تواردت على نسبتها، وتجد أشياء منها في الصدر الأول، غير أنه مما لاشك فيه أن تلك القصائد لا تخلو من الريادة وتعارض الألسنة، قل ذلك أو أكثر، أما أن تكون بجملتها مولدة فدون هذا البناء نقض التأريخ.

ولم أجد بين الموارد التي وصلت الينا من موارد مطبوعة أو مخطوطة مورداً واحداً ذكر ان الرسول حينما فتح مكة، وأمر بتحطيم ما كان بها من أصنام وأوثان وبطمس ما كان بها من صور، وجد معلقة واحدة أو جزءاً من معلقة أو أي شعر آخر وجد مكتوباً ومعلقاً على أركان الكعبة أو على أستارها، كما اني لم أجد في أخبار بناء الكعبة خبراً يشير إلى أنهم علقوا المعلقات على الكعبة حينما أشادوها وبنوها من جديد. ولو كانت تلك القصائد قد علقت، لما سكت الرواة عنها وأغفلوا أمرها أغفالاً تاماً. ثم إن أهل الأخبار الذين أشاروا إلى الحريق الذي أصاب الكعبة، والذي أدى إلى اعادة بنائها، لم يشيروا أبداً إلى احتراق المعلقات كلها أو جزء منها في هذا الحريق، ولو كانت موجودة ومعلقة على الكعبة كما زعموا، لما سكتوا عن ذكر هذا الحدث الهام. ثم اني لم أسمع ان أحداً من حملة الشعر الجاهلي من الصحابة أو التابعين، ولا غيرهم من رواة شعر الجاهلية وحفظته، وكلهم كانوا يتلذذون بروايته وبسماعه، أشار إلى وجود معلقات ومذهبات وقصائد سبع مختارة، ولو كان لهم علم بها لما أخفوا ذلك عمن جاء بعدهم أبداً. وتعليق المعلقات قصة، لاأستبعد أن تكون من صنع "حماد" جامعها، أو من عمل من جاء بعده، في تعليل سبب ذلك الاختيار.

وأما ما زعم من أن معاوية قال: "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة، كانت معلقتين بالكعبة دهراً"، فخبر لا يوثق به.

ومن "السمط" جاءت فكرة تعليق المعلقات. فالسمط: خيط النظم لأنه يعلق، وقيل قلادة أطول من المخنقة، والخيط ما دام فيه الخرز، وجمعه "سموط". فالسمط يعلق، وقد دعيت القصائد المذكورة ب"السمط"، وقالوا من ثم بتعليق تلك القصائد، وتعليقها على الكعبة أو على استارها هو خير مكان يناسب المقام الذي وضعوه لتلك المنظومات.

وتلفت جملة: "وقال المفضل: من زعم أن في السبع التي تسمى السمط لأحد غير هؤلاء، فقد أبطل" النظر حقاً. فقد استعمل لفظة "السمط"، فقط، وقصد بها المعلقات، وهذا الاستعمال يدل على نعت العلماء للقصائد المذكورة بأن كل قصيدة منها وكأنها خيط من الؤلؤ منظوم يتلو بعضه بعضاً، وأن تلك القصائد السبع قد اختيرت من بين قصائد الشعر الجاهلي، وأن من يزيد على ذلك العدد قصيدة، فقد أخطأ.

وقد روي أن العرب كانت تسمي القصائد الطويلة الجيدة المقلدات والمسمطات. و "مقلدات الشعر وقلائده البواقي على الدهر". "وسمط الشيء تسميطاً علقه بالسموط، وهي السيور"، ومن هذا المعنى أخذ اختراع تعليق المعلقات في رأي بعض الباحثين.

ويذكر علماء اللغة والشعر أن "المسمط" من الشعر، أبيات تجمعها قافية واحدة مخالفة لقوافي الأبيات. ويقال قصيدة مسمطة، شبهت أبياتها المقفاة بالسموط. وذكر بعضهم: الشعر المسمط الذي يكون في صدر البيت أبيات مشطورة أو منهوكة مقفاة وتجمعها قافية مخالفة لازمة القصيدة حتى تنقضي. وهو الذي يقال له عند المولدين: المخمس، والمسبع، والمثمن. وذكر بعض علماء الشعر ان لامرئ القيس قصيدتان سميطتان.

وأرى ان الذي أوحى إلى أهل الأخبار بفكرة المعلقات السبع هو ما جاء في القرآن الكريم: )ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم (، وما جاء في الحديث من قوله: "أوتيت السبع الطوال". وقد ذكر علماء التفسير ان "السبع الطول" من سور القرآن: سبع سور، وهي سوؤة البقرة وسورة آل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، واختلف في السابعة، فمنهم من قال السابعة الأنفال، ومنهم من جعل السابعة يونس، ومنهم من قال انها سورة "الفاتحة" وانها "السبع المثاني، لأنها تتألف من سبع آيات. فمن السبع المثاني التي قصد بها السور السبع الطوال المذكورة، والتي ذكر المفسرون انها خصت بهذه التسمية بسبب كونها أطول السور ولاحتوائها على أكثر الأحكام أخذ رواة الشعر في رأيي فكرتهم في المعلقات السبع، التي نعتوها أيضاً ب"الطوال" وب"السبع الطوال" وهو نعت جاء في الحديث وفي كتب التفسير للسبع المثاني، أي للسور المذكورة، إذ عبّر عنها ب"السبع الطوال"، وورد في الحديث: "أوتيت السبع الطوال".

ويلاحظ أن علماء الشعر مغرمون بعدد السبعة، وأن نظام انتقائهم للأشعار قائم على سبع. فالمعلقات سبع، ومنتقيات العرب والمذهبات التي للأوس والخزرج خاصة سبع كذلك، وعيون المراثي سبع، ومشوبات العرب وهي التي شابهن الكفر والإسلام سبع كذلك، والملحمات سبع أيضاً. ومجموع هذه الاختيارات تسع وأربعون. وهي حاصل هذه المجموعات السبع التي تتألف كل مجموعة منها من سبعة أشعار.

وهذا التقسيم السبعي لا بد أن يكون له أساس، فليس من المعقول أن يكون اعتباطياً وعلى غير أساس. والمعروف أن التقسيم السبعي، أو النظام السبعي، تقسيم قديم يعود إلى سنين طويلة قبل الميلاد، فالسماوات والأرضون سبع، والكواكب السيارة سبعة، والأنغام الموسيقية سبعة، وأيام الاسبوع سبعة. والعدد سبعة هو عدد مقدس عند بعض الشعوب القديمة.

وقد سبق لي ان تحدثت في مجلة المجمع العلمي العراقي عن المعلقات السبع، وذكرت الأسباب التي حملت العلماء على تسميتها بالمعلقات.

الفصل التاسع والخمسون بعد المئة
أصحاب المعلقات

أصحاب السبع الطوال، هم: امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد بن ربيعة، وعمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد، والحارث بن حلزة اليشكري. وهم الذين اختار "حماد" الراوية قصائدهم، فألف منها اختياراته. وقد رتبتهم حسب الترتيب المألوف الذي يرد في دواوين المعلقات، وإن كان هذا الترتيب يتعارض مع الترتيب الزمني. فلبيد مثلاً كان من الواجب علينا تأخيره، بجعله آخر الشعراء المذكورين، لأنه أدرك الإسلام، فهو من المخضرمين، وبعض منهم كان من اللازم تقديمه، ليأخذ مكانه المناسب له من الناحية الزمنية، بجعله في موضع من يؤخر لتأخره في الزمان.

وسأضيف على ما ذكرت الأعشى والنابغة وعبيد بن الأبرص، مجاراة لمن زاد على ذلك العدد شاعراً أو شاعرين أو ثلاثة، أو طرح منه شاعرين، ووضع في محلهما شاعريت آخرين. كما جرى الحديث عن ذلك حين تكلمت عن المعلقات. وسأبدأ لذلك بالكلام على أولهم، وهو بإجماع علماء اشعر: امرؤ القيس.

وامرؤ القيس، هو على رأس شعراء الجاهلية في الذكر والشهرة، وعلى رأس أصحاب "المعلقات السبع". وقد أوصله أهل الأخبار إلى "قيصر"، وجعلوا له معه حكايات ثم قبروه ب"أنقرة" إلى جانب قبر ابنة بعض الملوك الروم. وختموا حياته بخاتمة مؤلمة مفجعة، وقالوا إنه عرف ب"ذي القروح"، لأن ملك الروم كساه حلة مسمومة فقرحته، أو لقوله: وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة  لعل منايانا تحوَّلن أبـؤسـا

ويرى "بروكلمن" ان قصة موت "امرئ القيس"، بسبب الحلة المسمومة، أسطورة تشبه الأسطورة التي حصلت لهرقل البطل اليوناني الشهير.

ودعوه ب"الملك الضلِّيل"، و "الملك المضلل". وذكروا انه سعى وجدّ لإعادة ملك والده، ولكنه باء بالفشل، وكان آخر ما فعله في هذا الباب، أن ذهب إلى "القسطنطينية"لمقابلة "قيصر" لإقناعه بمساعدته في الحصول على حقه، وتقويته لينتقم من قتلة والده، وليعيد الحكم إلى كندة، فكان مصيره ان جاءه الموت وهو في طريقه، على نحو ما تقصه علينا قصص أهل الأخبار.

وما قصة موته من قروح أصيب بها من لبسة الحلة المسمومة، إلا أسطورة. ويرى "بروكلمن" احتمال ظهورها من سوء فهم الأبيات 12-14 من القصيدة "30" من ديوانه. ولعل هذه القصة هي التي أوجدت له اللقب الذي لقّب به، وهو "ذو القروح". وأنا لا أستبعد احتمال اصابته بدمامل أو بمرض جلدي آخر، قرحت جلده، ومات منها، فعرف ب"ذي القروح"، وأوجدت له قصة الحلة المسمومة على نحو ما أوجدته مخيلة أهل الأخبار.

ويذكر أهل الأخبار ان "امرأ القيس" لما احتضر بأنقرة، نظر إلى قبر فسأل عنه، فقالوا قبر امرأة غريبة، فقال: أجارتنا إن الخطوب تـنـوب  وإني مقيم ما أقام عـسـيب

أجارتنا إنّا غريبان هـهـنـا  وكل غريب للغريب نسـيب

فإن تصلينا فالمودة بـينـنـا  وان تهجرينا فالغريب غريب 

وورد في كتاب: مقاتل الفرسان -لأبي عبيدة، ان صخر بن عمرو الشريد أخل الخنساء، قال لما ادركه الموت: أجارتنا إن الخطوب تنـوب  علينا وكل المخطئين مُصيب 

أجارتنا لست الغداة بظاعـن  وإني مقيم ما أقام عسـيب

ومات فدفن بقرب عسيب. فلعلها تواردا".

وتذكر قصة، أن "امرأ القيس" دخل مع القيصر الحمام، فإذا قيصر أقلف، فقال: إني حلفت يميناً غير كـاذبة  أنّكَ أقلفُ إلا ما جنى القمرُ

إذا طعنت به مالت عِمامتـه  كما تجمع تحت الفلكة الوبر 

وتذكر القصة ان ابنة القيصر نظرت اليه فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه، وطَبِنَ "الطماح بن قيس" الأسدي لهما، وكان حجر قتل أباه، فوشى به إلى الملك، فخرج امرؤ القيس متسرعاً، فبعث اليه قيصر بحلة مسمومة، فتناثر لحمه وتفطر جسده. وكان يحمله "جابر بن جني" التغلبي، فلذلك قوله: فإما تريني في رحالة جـابـرٍ  على حرج كالقر تخفق أكفاني 

فيا ربّ مكروب كررت وراءه  وعانٍ فككت الغلّ عنه ففداني

إذا المرء لم يحزن عليه لسانـه  فليس على شيء سواه بحزّان

ولم ينس "ابن الكلبي" من ذكر آخر كلمة قالها شاعرنا حين حضرته الوفاة، فقال إنه قال: وطعنة مسحنفرة وجفنة متعنجرة  تبـقـى غـداً بـأنـقـــرة

فكان هذا آخر شيء تكلم به، ثم مات.

ورويت كلماته الأخيرة على هذه الصورة: ربّ خطبة مسحنفرة  وطعنةٍ مثعنجـره

وجعبة مـتـحـيرة  تدفن غداً بأنـقـره

كما روي شعره الذي قاله يخاطب قبراً لامرأة زعم انها من بنات ملوك الروم، على هذ النحو: أجارتنا إنّ المزارَ قـريب  وإني مقيم ما أقام عسـيب

أجارتنا إنّا غريبان ههـنـا  وكل غريب للغريب نسيب 

وهكذا نجد الرواة يختلفون فيما بينهم في رواية هذه الأشعار التي صنعت على لسان الشاعر، لتكون مادة مقومة للقصة. وكان آخر ما صنعوه لإتمام القصة، أن أوجدوا له قبراً بأنقرة، اتخذوه إلى جانب قبر منفرد منعزل، هو قبر إحدى بنات ملك من ملوك الروم، أوصاهم به "امرؤ القيس" نفسه لما رأى دنو أجله. فكانت الخاتمة مؤلمة، وكان الاختيار موفقاً جداً، فالقبر قبر امرأة، وكان صاحبنا متيماً بحب النساء، وكانت المرأة بنتاً لملك من ملوك الروم، فهي من طبقته، وتصلح أن تكون جارة له، وهو ابن ملك، وكان صديقاً حميماً لقيصر الروم، يدخل معه الحمام، ويراه عارياً تماماً، أقلف. فابنة ملك من ملوك الروم، تصلح لأن تكون له جارة وصاحبة لهذا القبر، وهكذا قبروا الاثنين في قبرين متجاورين.

وقد زعموا أن امرأ القيس كان "مئناثاً لا ذكر له، وغيوراً شديد الغيرة، فإذا ولدت له بنت وأدها، فلما رأى ذلك نساءُه غيبن أولادهن في احياء العرب، وبلغه ذلك فتتبعهن حتى قتلهن".

وزعموا أنه كان مع جماله ووسامته وحسنه "مُفرّكاَ لا تريده النساء إذا جرّبنه. وقال لامرأة تزوّجها: ما يكره النساء مني ? قالت: يكرهن منك أنك ثقيل الصدر، س خفيف العجز، سريع الاراقة، بطيء الإفاقة. وسأل أخرى عن مثل ذلك فقالت: يكرهن منك أنك إذا عَرِقٌتَ فُحتَ بريح كلب ! فقال: أنت صدقتني، إن أهلي أرضعوني بلبن كلبة. ولم تصبر عليه إلا امرأة من كندة يقال لها هند، وكان أكثر ولده منها".

وتزعم قصة أن قيصر وجه معه جيشاً، ليعاونه على استعادة ملكه، فوشى به رجل من "بني أسد" يقال له "الطماح"، فهمّ بقتله، وأرسل اليه في أثره بحلة مسمومة مع رجل، أدخله الحمام وكساه إياها بعد خروجه، فلما لبسها تنفط بدنه. وزعم "الجاحظ " أنه "راسل بنت قيصر وأراد أن يختدعها عن نفسها، وبلغ ذلك قيصر وأراد أن يقتله، فتذمم من ذلك، وأمر بقميص فغمس في السم، وقال لامرئ القيس: إلبس هذا القميص فإني أحببت أن أوثرك به على نفسي لحسنه وبهائه فعمل السم في جسمه وكثرت فيه القروح فمات منها، فسمي ذا القروح. وقد كان قيل لقيصر قبل ذلك إنه هجاه، فعندما يقول: ظلمت له نفسي بأن جئت راغبـاً  إليه وقد سيّرت فيه الـقـوافـيا

فإن أكُ مظلوماً فقدماً ظلمـتـه  وبالصاع يُجزى مثل ما قد جزانيا 

قال علماء الشعر: كان "امرؤ القيس" ممن يتعهر في شعره، وقد سبق الشعراء إلى أشياء ابتدعها، واستحسنتها العرب، واتبعته عليها الشعراء، من استيقافه صحبه في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ. وله تشبيهات مستجادة، واجادة في صفة الفرس، وفي الوصف. "واجتمع عند "عبد الملك" أشراف من الناس والشعراء، فسألهم عن أرق بيت قالته العرب، فاجتمعوا على بيت امرئ القيس: وما ذرفت عيناك إلا لتضربي  بسهميك في أعشار قلب مقتل 

وقال "أبو عبيدة معمر بن المثنى": "من فضله، انه أول من فتح الشعر واستوقف، وبكى في الدمن، ووصف ما فيها، ثم قال: دع ذا -رغبة عن المنسبة - فتبعوا أثره، وهو أول من شبّه الخيل بالعصا واللقوة والسباع والظباء والطير، فتبعه الشعراء على تشبيهها بهذه الأوصاف".

وقال أبو عبيدة: هو أول من قيد الأوابد، يعني في قوله في وصف الفرس "قيد الأوابد" فتبعه الناس على ذلك.

وقال غيره: هو أول من شبّه التغر في لونه بشوك السيّال فقال: منابته مثل السـدوس ولـونـه  كشوك السيّال وهو عذبُ يفيص 

فاتبعه الناس. وأول من قال: "فعادى عداء" فاتبعه الناس. وأول من شبّه الحمار "بمقلاء الوليد" وهو عود القُلة و "بكرّ الأندري"، والكر: الحبل. وشبّه الطلل "بوحي الزبور في العسيب". والفرس بتيس الحُلب".

وأورد له علماء الشعؤ أشياء ذكروا انه انفرد بها، ولم يتمكن أحد من مجاراته بها، وعابوا عليه أشياء، دافع عنها بعض العلماء، وردّوا العائبين عليها. ومما عابوه عليه تصريحه بالزنا والدبيب إلى حُرم النساء، وفجوره بالمتزوجات، والشعراء تتوقى ذلك في الشعر وإن فعلته. وقد فضله "لبيد بن ربيعة" على جميع الشعراء، إذ قال: "أشعر الناس ذو القروح، يعنى امرأ القيس".

وقد ذكر علماء الشعر أبيات شعر لامرئ القيس، قالوا ان غيره من الشعراء أخذوها أخذاً، مع تغيير بسيط وأدخلوها في شعرهم، أو أخذوا أكثر ألفاظها أو معانيها فأضافوها إلى شعرهم. من ذلك قول امرئ القيس: وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم  يقولون: لاتهلك أسى وتجمل

أخذه طرفة فقال: وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم  يقولون: لاتهلك أسى وتجلـد

ومثل قول امرئ القيس: فلأياً بلأيٍ ما حملنا غـلامَـنـا  على ظهر محبوك السراة محنّب 

أخذه زهير، فقال: فلأياً بلأيٍ ما حملنـا غـلامـنـا  على ظهر محبوك ظماءٍ مفاصله 

إلى غير ذلك من أمثلة ذكرها "ابن قتيبة" وغيره في مؤلفاتهم عن الشعر والشعراء. إن صحت دلت على ان الشعراء الجاهليين كانوا يحفظون شعر من تقدم عليهم، وشعر المعاصرين لهم، وانهم كانوا يتتبعونه ويستقصونه ليحفظوه، ولم يبالوا بعد ذلك إذا أخذوا شيئاً من شعر غيرهم. وهذا يدل أيضاً على ان الشعر الجاهلي كان محفوظاً في الصدور، يحفظه الشعراء وغيرهم من عشاق الشعر، إلى أن جاء الإسلام فدوّن بالقراطيس.

يقول علماء الشعر لم يتقدم امرؤ القيس الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا، أو لأنه كان أول من ابتدأ بالشعر ووضع جادته ومهد سبيله ووضحه لمن جاء بعده من الشعراء، لكنه سبق إلى أشياء طريفة فاستحسنها الشعراء واتبعوه فيها، لأنه كان أول من لطف المعاني، ومن استوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبَيٌض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام، فقيّد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه. وقد ثمن "الباقلاني" شعره بقوله: "وأنتَ لا تشك في جودة شعر امرئ القيس و لا ترتاب في براعته و لا تتوقف في فصاحته، وتعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أموراً اتُبع فيها من ذكر الديار والوقوف عليها إلى ما يتصل بذلك من البديع الذي أبدعه والتشبيه الذي أحدثه والتميح الذي يوجد في شعره والتصرف الكثير الذي تصادفه في قوله، والوجوه التي ينقسم اليها كلامه من صناعة وطبع وسلاسة وعلو ومتانة ورقة وأسباب تحمد وأمورٍ تؤثر وتمدح. وقد ترى الأدباء يوازنون بشعره فلاناً وفلاناً". ثم هو يؤاخذ الشاعر على عيوب ذكر أنها عوار في معلقته.

ووضع أهل الأخبار "امرئ القيس" في رأس زمرة عشاق العرب والزناة. وذكروا له عشقه ل"فاطمة بنت العُبيد بن ثعلبة " العذرية، وعشقه ل "أم الحارث " الكلبية، وعشقه ل"عنيزة"، وهي صاحبة يوم "دارة جلجل"، ورووا له قصة طريفى حدثت له مع صاحبة يوم "دارة جلجل"، تبين كيف مكر بابنة عمه "عنيزة"، فأجبرها على أن تتجرد من لباسها، لينظر اليها وهي تخرج من الغدير مقبلة ومدبرة، حتى يمتع نظره برؤية جسدها العاري، ثم كيف نحر ناقته، وشوى لحمها، وأخذ يطعم به البنات، وكيف توسل إلى ابنة عمه "عنيزة" لتحمله على غارب بعيرها بعد أن ذبح ناقته وشوى لحمها ليتخذ ذلك حجة له في مشاركة "عنيزة" بعيرها. ثم تروي القصة، كيف أنه صار يجنح اليها فيدخل رأسه في خدرها فيقبلها. ثم تنتهي القصة بذكر الشعر الذي قاله في هذه المناسبة. حيث يقول: ويوم عقرتُ للعـذارى مـطـيّتـي  فيا عجباً من رحلها المـتـحـمَّـل

يظلل العذارى يرتمين بلـحـمـهـا  وشحمٍ كهدّاب الدمقس المـفـتـل

ويوم دخلت الخدر خـدر عـنـيزة  فقالت:لك الويلات إنك مُرجٌـلـي

تقول وقد مال الغبيط بـنـا مـعـاً:  عقرت بعيري يا امرئ القيس فانزل 

فقلت لها: سيري وأرخي زمـامـه  و لا تبعدينا من جناك الـمـعـلّـل

وراوي هذه القصة هو "محمد بن سلام"، سمعها كما يقول من "أبي شفقل" راوية "الفرزدق" الشاعر الشهير، وقد ذكر هذا الراوي أنه لم يرَ رجلاً كان أروى لأحاديث امرئ القيس وأشعاره من الفرزدق، وذلك لأن "امرئ القيس" كان قد أقام في "بني دارم" رهط الفرزدق حيناً، حين رأى من أبيه جفوة، فمن ثَمّض أخذ "الفرزدق " علمه بأخبار "امرئ القيس" وأحاديثه وأشعاره.

ويكثر "امرؤ القيس" من ذكر أسماء المواضع التي نزل بها، وقد أفادنا بذلك في معرفة تلك المواضع. وفي جملة ما ذكره موضع "الخص"، وقد اشتهر بالخمر. وهو قرية من أسفل الفرات: كأن التّجار اصعـدوا بـسـبـيئة  من الخص حتى أنزلوها على يسر 

وقوله: لمن الديار عرفتها بسـحـام  فعمامتين فهضب ذي أقـدام

فصفا الأطيط فصاحتين فعاسم  تمشي النعاج بها مـع الآرام

وقد ذكر عشرة مواضع من أرض البحرين بقوله: غشيت ديار الخيّ بالبـكـرات  فعارمة فبـرقة الـعـيرات

فغول فحليت فنفي فمنـعـج  إلى عاقل فالجب ذي الأمرات 

وله أشعار أخرى كثر فيها ورود أسماء المواضع.

ويذكر ان قوماً من أهل اليمن أقبلوا يريدون النبي، فضلّوا، ووقعوا على غير ماء، فمكثوا ثلاثاً لا يقدرون على الماء، وأوشكوا على الهلاك، فأنشد أحدهم بيتين من شعر امرئ القيس، هما: لما رأت ان الشـريعة هـمّـهـا  وان البياض من فرئصها دامـي

تيممت العين التي عنـد ضـارجٍ  بفيء عليها الظل عرمضها طامي 

فقال أحدهم: ضارج عندكم، وأشار اليه فمشوا على الركب، فإذا ماء غدق، واذا عليه العَرمض، والظل يفيء عليه، فشربوا وحملوا واولا ذلك لهلكوا. ولما بلغوا النبي، أخبروه خبرهم، فقال: "ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة معه الواء الشعراء إلى النار". وروي عن "عمر" قوله في "امرئ القيس": "سابق الشعراء، خسف لهم عين الشعر". ونجد لهذا الشاعر ذكراً في كتب الحديث.

وذكر أن "امرأ القيس" أشار إلى "ابن مندلة" "ملك العرب" بقوله: فأقسمت لا أعطي مليكاً ظـلامة  و لا سوقة حتى يؤوب ابن مندلة 

وروي أن هذا البيت، هو لعمرو بن جوين.

وتذكر قصة رواها "أبو الحسين" النسابة، أن "حجراً" والد امرئ القيس نهى ابنه عن قول الشعر، فلما لم ينته عنه، أمر أحد غلمانه أن يقنله ويأتيه بعينيه، فانطلق به الغلام، فاستودعه جبلاً منيفاً، وعلم أن أباه سيندم على قتله. وعمد الغلام إلى جؤذر كان عنده فنحره وامتلخ عينيه، فأتى بهما حجراً، فانفجر حجر من الغضب والندم، حتى همّ بقتل الغلام، فأخبره الغلام، أنه لم يقتله، وانه لازال حياً، وانه كان يعلم أن والده سيندم على قتله. فأمره عندئذ بالذهاب اليه، والعودة به إلى بيته، فأتاه به. وكف امرؤ القيس من قول الشعؤر حتى قتل أبوه. وهي قصة نجد أمثالها في أساطير الأمم الأخرى. والى هذه القصة أشار "امرؤ القيس" بقوله: فلا تتركني يا ربيعُ لهـذه  وكنت أراني قبلها بك واثقاً 

وتذكر رواية أخرى ان أباه نهاه بعد عودته اليه من قول اشعر، ثم انه قال: ألا انعم صباحاً أيها الطلل البالي 

فبلغ ذلك أباه فطرده.

والمشهور بين علماء الشعر، ان امرأ القيس انما طرد، لأنه كان يقول الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك، فزجره أبوه ومنعه عن قوله، فلما لم ينته طرده. فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذ العرب من طيء وكلب وبكر ابن وائل، فإذا صادف غديراً أو روضة أو موضع صيد أقام، فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى الصيد فتصيّد ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنّته قيانه، و لا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره. فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بدمّون من أرض اليمن، فقال: ضيعني صغيراً وحمّلني دمه كبيراً، لا صحو اليوم و لا سكر غداً، اليوم خمر وغداً أمر! ثم شرب سبعاً، فلما صحا إلى أن لا يأكل لحماً، ولا يشرب خمراً، ولا يدّهن و لا يصيب امرأة، و لا يغسل رأسه حتى يدرك ثأره. وهكذا صيروا "امرأ القيس" من الصعاليك، وجعلوه في عدادهم، فاتكاً كثير الغزل والولوع بالنساء، يتنقل في أحياء العرب ويغير بهم، فيصف الأوثان، ويبكي على الدمن، ويذكر الرسوم والأطلال وغير ذلك.

ويرجع سند أكثر الروايات المتقدمة والتي بعدها إلى "ابن الكلبي"، ولابن الكلبي كتاب يتصل بامرئ القيس اسمه: "كتاب تسمية ما في شعر امرئ القيس من اسماء الرجال والنساء"، وله روايات مدوّنة في الأغاني وفي كتب أدب أخرى عن هذا الشاعر وعن ملوك كندة، ويظهر أنه قد اصطنع قصص امرئ القيس، وأضاف على القصص شعراً، ليكون له سنداً وتفسيراً، وقد يكون أخذ القصص من أفواه الأعراب والرواة الذين حرفوا تأريخ امرئ القيس ووالده وحوروه وحوّلوه على طريقتهم المألوفة إلى قصص وأساطير، تميل نفوسهم إلى الاستماع اليها، فنقلها عنهم كما سمعها. غير أن "ابن الكلبي"، كان كما نعلم من الوضاعين، وكان من العارفين بدروب الشعر، وكان أيضاً مثل والده ممن يضع الشعر على ألسنة الناس.

وتذكر قصة "امرئ القيس" أنه انتقم من "بني أسد" قتلة والده، فقرت عيناه بأخذه الثأر منهم. وقد نظم ذلك في شعره. وتذكر أنه خرج اليهم أول ما خرج مع بكر وتغلب، وهم الذين كانوا معه، فأدرك بني أسد ظهراً، فكثرت الجرحى والقتلى، وحجز الليل بينهم، وهربت بنو أسد، فلما أصبحت بكر وتغلب، أبوا أن يتبعوهم وقالوا له: قد أصبت ثأرك. قال: والله ما فعلت و لا أصبتُ من بني كاهل و لا من غيرهم من بني أسد أحداً ؛ قالوا: بلى، ولكنك رجل مشؤوم، وانصرفوا عنه، فمشى هارباً لوجهه، حتى أمده "مرثد الخير بن ذي جدن" الحميري، وتبعه شذاذ من العرب، واستأجر رجالاً من القبائل، ثم خرج فظفر بني أسد، وألح المنذر في طلب امرئ القيس ووجه اليه الجيوش، فتفرق من كان معه ونجا في عصبته. فكان ينزل على بعض العرب ويرحل حتى قدم على السموأل، ثم على قيصر، على نحو ما ذكرت.

وتذكر رواية ان "امرأ القيس" لما مر ببكر بن وائل طالباً منهم النصرة، سألهم عن شاعر محسن فيهم، فأتوه بعرو بن قميئة الضبعي، وقد أسن، فأعجب به "امرؤ القيس"، فأخذه معه، حتى ذهب إلى "الحارث بن أبي شمر" الغساني، طالباً منه النجدة، فقال له: اني لست لأقدر على المسير إلى العراق في هذا الوقت، ولكني أسير معك إلى الملك قيصر، فهو أقوى مني على ما سألت، وكانت للحارث وفادة على الملك، فأوفده معه. فالذي أخذ "امرأ القيس" إلى الروم هو "الحارث"، على هذه الرواية. والمعروف من الروايات الأخرى ان هذا الملك طالب "السموأل" بأسلحة "امرئ القيس" التي أودعها عنده، فلما أبى السموأل إلا اعطاءها إلى "آل امرئ القيس" الشرعيين وورثته، حاصره، وقتل ابنه، فضربت العرب بالسموأل المثل في الوفاء.

وكنية امرئ القيس"أبو يزيد"، ويقال: "أبو وهب"، ويقال: "أبو الحارث"، ويقال "أبو كبشة". وأما اسمه، فاختلف فيه، فقيل: "عدي"، وقيل"مليكة"، وقيل"حندج". وكان يقال له: "الملك الضليل"، و "الضليل"، و "ذو القروح".

ويذكر أهل الأخبار ان "امرأ القيس" كان مِعَنّا عرّيضاً ينازع كا من قال انه شاعر، فنازع "التوأم اليشكري"، "الحارث بن التوءم"، فقال له: "إن كنت شاعراً فملّط أنصاف ما أقول وأجزها". ونازع "عبيد بن الأبرص".

واذا أخذنا بآراء بعض المستشرقين عن سنة وفاة الشاعر "امرئ القيس" من أنها كانت بين السنة "530" والسنة "540" بعد الميلاد، فيكون عصر أقدم شعر جاهلي وصل الينا لا يزيد عمره على القرن السادس للميلاد، أو أواخر القرن الخامس للميلاد. وهذا التقدير معقول يتناسب مع الأخبار المروية عن هذا الشاعر.

روي أن رؤية بن العجاج قال: حدثني أبي عن أبيه قال: حدثتني عمتي. قالت: سألت امرأ القيس، ما معنى قولك: كّرك لأمين على نابل ? فقال: مررت بنابل وصاحبه يناوله الريش لُؤاماً وظُهاراً، فما رأيت أسرع منه و لا أحسن، فشبهت به. ولو أخذنا بهذه الرواية وصّدقناها، فلن نتمكن من الارتفاع بها من حيث الزمن إلى أكثر من هذا التقدير.

وذكر أن "امرأ القيس" لما هرب من "المنذر بن ماء السماء" صار إلى جبلي طئ:فتتزوج أم جندب. وصادف أن جاءه "علقمة بن عبدة التميمي"، فتذاكرا الشعر، فقال امرؤ القيس:أنا أشعر منك، وقال علقمة:بل أنا أشعر منك! فتحاكما إلى أم جندب، فأخذ كل واحد منها يقول شعراً وهي تسمع، وتعلق عليه، ففضلت أم جندب "علقمة" عليه، فغضب "امرؤ القيس" وطلقها، فخلف عليها علقمة، فسمي علقمة الفحل.

جاء في الكتاب "الشعر والشعراء": "وكان امرؤ القيس في زمان أنو شروان ملك العجم، لأني وجدت الباعث في طلب سلاحه الحارث بن أبي شمر الغساني.

وهو الحارث الأكبر. والحارث هو قاتل المنذر بن امرئ القيس الذي نصبه أنوشروان بالحيرة. ووجدت بين أول ولاية أنوشروان وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم، اربعين سنة، كأنه ولد لثلاث سنين خلت من ولاية هرمز بن كسرى، ومما يشهد لهذا، ان عمرو بن المسيح الطائي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة في وفود العرب وهو ابن مائة وخمسين سنة وأسلم. وعمرو يومئذ أرمى العرب. وهو الذي ذكره امرؤ القيس".

و"عمرو بن المُسبح" "المسيح?" الطائي، هو الذي عناه "امرؤ القيس" بقوله: رُبّ رامٍ من بني ثعل  مخرج كفيه من سُتَره 

وكان كما يزعم اهل الأخبار ارمى العرب يومئذ ومن فرسانهم المعوفين. ومن المعمرين. عمّر على ما بقولون مائة وخمسين سنة، وجعلوه ممن أدرك أيام الرسول، بل وعموا انه وفد عليه فاسلم ز وجعل بعض أهل الأخبار وفاته في خلافة "عثمان". وتوقف "ابن قتيبة" في "المعارف"، فقال: "لا يدري أقبض قبل النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعده"، "ولست أدري اقبض قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أم بعده".

وذكروا أنه هو القائل: لقد عمرت حتى شف عمـري  على عمرو بن علة وابن وهب 

ولا يعقل خبر بقاء "عمرو بن المسبح" الطائي "إلى ايام النبي، ولا سيما خبر من جعل موته في خلافة عثمان. ولعل شخصاً كان اسمه مثل هذا الإسم نفاشتبه امره على الرواة، فظنوه صاحب امرئ القيس. ولو كان هو صاحبه لما سكت عشاق الشعر والباحثون عن شعر صاحبه عنه، ولوجدنا له خبراً مع الرسول أو عمر عن حياة امرئ القيس.

وقد أشير إلى "البريد" في شعر "امرئ القيس"، إذ ذكر أنه نادم "قيصر" واركبه البريد: ونادمت قيصر في ملكه  فأوجهني وركبت البريدا

إذا ما ازدحمنا على سكة  سبقت الفُرانق سبقاً بعيداً 

وكانت البرد منظومة إلى كسرى، من أقصى بلاد اليمن إلى بابه، أيام وهرز، وأيام قتل مسروق عظيم الحبشة، كذلك كانت برد كسرى إلى الحبرة: إلى النعمان وآبائه، و كذلك كانت برده إلى البحرين:إلى امكعبر مرزبان الزارة، والى مشكاب، والى المنذر بن ساوي، وكذلك كانت برده إلى عمان، إلى الجلندي بن المستكبر، فكانت بادية العرب وحاضرتها مغمورتين ببرده، الا ما كان من ناحية الشام، فان تلك الناحية من مملكة خثعم و غسان إلى الروم، الا ايام غلبت فارس على الروم".

ويرجع الفضل في تخليد شعر"امريء القيس" إلى "حماد" الراوية، و إلى "ابي عمرو بن العلاء". وكان "ابو عمرو بن العلاء" يقول:"فتخ الشعر بامريء القيس وخنم بذي الرمة". والى "الفرزدق" الذي كان من اروى الناس لاحاديثه و اشعاره، و إلى "ابن الكلبي" الذي نجد عنه نقولا في كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، وتخص "انرأ القيس"، و قي كتاب الاغاني، وهو من اهم الاخباريين الراوين لاخبار كندة.

وذكر "الرياشي" ان كثيرا من الشعر الوارد في ديوان امريء القيس، وهو منحول عليه، وهو لجماعة من اصحابه، مثل عمرو بن قميثة. وقد نص بعضهم على انه لم يصح له الا نيف و عشرون شعرا بين طويل و قطعة. وقد عني علماء الشعر و الاخبار بجمع اشعاره في ديوان، فجمعه غير واخد منهم، وشرحه كثيرون، و طبع جملة طبعات، وترجم إلى مختلف اللغات.

وقد اختلف رواة الشعر في ضبط عدد ابيات معلقة امريء القيس، كما اختلفوا قي تقديم و تأخير الابيات، " وفي رواية بعض الالفاظ، بحيث لا تجتمع اثنتان منها على صورة واحدة". وذكر "البغدادي": ان قصيدة امريء القيس التي مطلعها: الا عم صباحا ليها الطلل البالي 

هي من عيون شعره، وعدتها ستة و خمسون بيتا، واكثرها وقعت شواهد في كتب المؤلفين، وفي كتب النحو و المعاني.

"وكان امرؤ القيس يروي شعر ابي دؤاد الايادي و يتوكأ عليه، وهو فحل قديم كان احد نعات الخيل المجيدين". " ثم هو كان يعرف ان امرأ القيس ابن حذام يبكي في شعره الطلول، فأخذ ذلك عنه كما اخذ صفة الخيل عن ابي دؤاد، وتراه يخاول ان يلخقه في اجادة نعتها و الشهرة بذلك ن حتى لا يخلو اكثر شعره من هذا الوصف".

وقد كان يعاصره من الشعراء المعروفين: علقمة بن عبدة، وعبيد بن الابرص، و الشنفري، وسلامة بن جندل، والمثقب العبدي، والبراق بن روحان، وتأبط شرا، والتوءم اليشكري.

وزعم ان "التوءم" اليشكري لقي "امرأ القيس" يوما فقال له: ان كنت شاعرا كما تقول فملط لي انصاف ما اقول فأجزها، فقال: نعم: فقال امرؤ القيس: أحار ترى بريقا هب و َهنْا 

فقال التوءم: كنار مجوس تستعر استعارا 

واستمر على ذلك. ولما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في ايامه من يطاوله، إلى ان ينازع الشعر احدا ابدا.

ونجد للباقلاني صاحب كتاب"اعجاز القرآن" آراء في بعض اشعار "امريء القيس"، حيث ينتقد بعض الابيات و يبين ما فيها من عيوب. كما نجد في كتب "النقد" آراء في شعرهن وهي بين مستحسن و مستهجن لبعض الابيات أو القصائد. "ومن الخصائص العروضيةفي شعره استعمال الضرب المقبوض في الطويل، وكثرة الاقواء في القافية، وكثرة التصريع في غير اول القصيدة".

وللقدماء ملاحظات عن شعر "امريء القيس"، وقد شك بعض منهم في كثير من شعره وذهبوا إلى انه من الموضوعات، وقد اشاروا اليه، ثم جاء المستشرقون، فركنوا إلى ما قاله القدماء عنه، وابدوا رأيهم فيه، و تحدث المحدثون من العرب عنه، وعلى رأسهم الدكتور طه حسين، حيث انكر شعره لحجج اوردها في كتابه في الادب الجاهلي.

وعاش في ايام "امريء القيس" شاعر آخر عرف ايضا بأمريء القيس، هو"امرؤ القيس بن حمام بن عبيدة بن هبل بن ابي زهير بن جناب بن هبل".

و "طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك"، من قيس بن ثعلبة، وهو ابن اخي"المرقش الاصغر"، وكان من المقربين إلى عمرو بن هند" ملكالحيرة ن ومن المنادمين لاخيه"ابو القابوس". وهو ابن اخت"جرير بن عبد المسيح" المعروف ب"المتلمس". وقد قال الشعر وهو صغير السن، ومات ابوه وهو صغير، واكل اعمامه ماله، وأبوا تقسيمه، قهجاهم، واشتهر بمعلقته التي عاتب بها ابن عمه "مالكا" لانه لم يُعِن اخاه"معبدا" في جمع شتات ابله. وقد قتل بالبحرين على ما يذكره اهل الاخبار في قصص متضارب، اختلف في سبكه الرواة.

واسم "طرفة" عمرو، وانما سمي طرفة لقوله: لا تعجلا بالبكاء اليوم مطرفا  ولا اميريكما بالدار اذ وقفا

وقيل ان كنيته "ابو عمرو". وقد فضل بعض علماء الشعر شعره على شعر سائر الشعراء الجاهليين.

وكان"طرفة" احدث الشعراء سنا و اقلهم عمرا، قتل وهو ابن عشرين سنة. فيقال له "ابن العشرين". وقيل بضع وعشرين سنة. وامه "وردة" من رهط ابيهن وفيها يقول لاخواله وقد ظلموها حقها، بأن يعطوها حقها: ما تنظرون بمال وردة فـيكـم  صَغًرَ البنون ورهط وردة غيَّب 

و يقال ان اول شعر قاله"طرفة" انه خرج مع عمه في سفر، فنصب فخا، فلما اراد الرحيل قال: يالك من قـبـرة بـمـعـمـر  خلا لكِ الجو فبيضي و اصفري 

ونقري ما شئت ان تـنـقـري  قد رفع الفخ فمـاذا تـحـذري

لا بد يوما ان تصادي فاصبري

وروي ان اخنه رثته بقولها: عددنا له ستا و عشـرين حـجة  فلما توفاها استوى سيدا ضخما

فُجعنا به لمـا رجـونـا ايابـه  على خير حال لا وليدا ولا قحما 

ورغم قلة ما نسب إلى "طرفة" من الشعر، فقد قدمه علماء الشعر على غيره من الشعراء بان جعلوا ترتيبه الثاني بعد امريء القيس، ولهذا ثنوا بمعلقته. ذكر "ابن قتيبة" انه اجود الشعراء فصيدة. وقد ذكر "ابن سلام" ان معظم شعر "طرفة" قد ضاع حتى لم يبق منه بأيدي المصححين لشعره الا بقدر عشر قصائدن مع انه كان من اقدم الفحول. وقد حمل عليه كثيرا من الشعر.

وكان في خسب من قومه ن جريئا على هجائهم و هجاء غيرهم. وكانت اخته عند"عبد عمرو بن بشر بن مرئد"، وكان "عبد عمرو" سيد اهل زمانه، فشكت اخت طرفة شيئا من امر زوجها اليه، فقال: ولاعيب فيه غير ان له غنـى  وان له كشحا، إذا قام اهضما

وان نساء الحي يعكفن حولـه  يقلن، عسيب من سرارة ملهما 

فبلغ عمرو بن هند الشعر، فابلغه إلى "عبد عمرو" وهو معه في صيد، فقال "عبد عمرو":ابيت اللعن، الذي قال فيك اشد مما قال فيّ، فقال: وقد بلغ من امره هذا? قال نعم. فأرسل إليه، وكتب له إلى عامله بالبحرين فقتله. في قصة منمقة مدونة في اكثر كتب الادب والاخبار. وقد تعرضت لها في مكان اخر من هذا الكتاب. ويقال ان الذي قتله"المُعلى بن حنش العبدي"، و الذي تولى قتله بيده"معاوية بن مرة الايفلي"، حيّ من طسم و جديس. و قيل "الربيع بن حوثرة" عامله على البحرين. وقيل ان قاتله:"عبد هند ابن جرد بن جري بن جروة بن عمير" التغلبي، عامل "عمرو بن هند" على البخرينز وان "عمرو بن هند"، كان قد جعل "طرفة" و "المتلمس" في صخابة "قابوس" اخيه، فكان "قابوس" يتصيد يومان ويشرب يوما، فكان إذا خرج إلى الصيد خرجا معه، فنصبا وركضا يومها، فاذا كان يوم لهوه وقفا على بابه يومها كله، فلما طال ذلك عليهما، هجا طرفة"عمرو بن هند" واخاه، فبلغ الهجاء الملكن فقرر قتلهماز وورد ان "عمرو بن هند"، كان قد رشح اخاه "قابوس بن المنذر" ليملك بعده، وانه جعل "طرفة" و " المتلمس" في صحابة "قابوس" وامرهما بلزومه، فكان قابوس شابا يعجبه اللهو، وكان يركب للصيد، فيركض يتصيد، وهما معه يركضان حتى يرجعا عشية وقد نعبا، فيكون قابوس من الغداة في الشرب قيقفان بباب سرادقه إلى العشي، فضجرا منه فهجواه وهجوا عمرا معه، فبلغ ذلك الهجاء عمراً ففعل بهما ما فعل.

ويقال ان "طرفة" كان ينادم يوما عمرو بن هند، فشرفت ذات يوم اخته، فرأى طرفة ظلها في الجام الذي في يده فقال: الا يا بأبي الظبي  الذي يبرق شنفاه

ولولا الملك القاعدُ  قد الثمنـي فـاه

فحقد ذلك عليهن وكان قال ايضا: وليت لنا مكان الملك عمرو  رغوثا حول قبتنـا تـدورُ

لعمرك ان قابوس بن هنـد  ليخلط ملكه نوك كـثـير

وقابوس هو اخو "عمرو بن هند". وكان فيه لين، و يسمى قينة العرس، فحقد "عمرو بن هند" عليه و استدعاه، وكتب له كتابا، وكتب بمثل ذلك "للملتمس"، وشك الملتمس" في امر الصحيفة، ومزقها ن ومضى طرفة إلى البحرين، فأخذه "الربيع بن حوثرة" فسقاه الخمر حتى اثمله، ثم فصد اكحله، فقبره بالبحرين. وكان لطرفة اخ يقال له "معبد بن العبد"، فطلب بديته، فاخذها من الحواثر.

ويرى "بروكلمن" أن "طرفة" لم ينادم أبا قابوس، وإنما نادم "عمرو ابن مامة" أخ الملك من أبيه، باليمامة. وكان قد التجأ إلى "مراد"من عداوة أخيه. فعاقب الملك "طرفة" بأخذ إبله التي تركها في "تبالة" من ديار "لخم"، فهجاه طرفة. وقد ذكر "المرتضى" رواية تذكر أن صاحب المتلمس وطرفة هو "النعمان بن المنذر"، وذلك أشبه بقول طرفة: أبا منذرٍ كانت غـروراً صـحـيفـتـي  ولم أعطكم في الطوع مالي و لا عرضي 

أبا منذر أفنيتَ فاسـتـبـق بـعـضـنـا  حنانيك بعض الشرّ أهون مـن بـعـض

وأبو منذر، هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح طرفة النعمان، فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان.

وذكر "ان عائشة سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر? فقالت: لا، إلا لبيت طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً  ويأتيك بالأخبار من لم تـزودِ

فجعل يقول: ويأتيك بالأخبار من لم تزود. فقال أبو بكر: ليس هكذا. فقال: اني لست بشاعر، ولا ينبغي لي".

وينسب إلى طرفة قوله: عفا من آل ليلى السه  ب، فالأملاح فالغمرُ 

فعرق فالرماح فـال  لّوى من أهله قفـر

وأبليُّ إلـى الـغـرّا  ءِ فالماوان فالحجـر

فأمواه الدنا فالـنـج  د فالصحراء فالنسر

فلاة ترتعيها الـعـي  ن فالظلمان فالعفـر

وينسب للخرنق أيضاً.

ويقدم علماء الشعر "طرفة" على غيره من الشعراء، بإجادته وصف الناقة في معلقته على نحو لم يسبق اليه. وقد جعله "لبيد" بعد "امرئ القيس" في الشعر، وقال عنه "أبو عبيدة: طرفة أجودهم واحدة، ولا يلحق بالبحور، يعني امرأ القيس وزهيراً والنابغة، ولكنه يوضع مع أصحابه: الحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم وسويد بن أبي كاهل".

وقد ذكر علماء الشعر أبياتاً جيدة لطرفة سبق بها غيره من الشعراء، فأخذها عنه الشعراء وضمنوها أو ضمنوا معناها شعرهم. وممن اقتبس منه: "لبيد" و "الطرماح" و "عدي بن زيد" العبادي، وعبد الله بن نهيك بن أساف الأنصاري وغيرهم.

وتعّد "معلقة" "طرفة" أطول المعلقات أبياتاً، فهي تتألف من )105" أبيات في شرح القصائد العشر للزوزني، وقد يزيد عليها بيتاً أو أكثر في بعض الروايات. وتنتهي المعلقة بذكر الموت، وبالنصح، وبأن الأيام معارة فما استطعت من معروفها فتزود بها، ثم ختمها بقوله: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه  فكلّ قرين بالمـقـارن يقـتـدي

وهي حكِم، لا تصدر في العادة إلا من شيخ شارف على الموت ومن حكيم عرك الأيام، ومن رجل خبير مجرب. والقصيدة نفسها من نفس رجل، يجب أن يكون قد خبر الحياة، ومارس الشعر زمناً، فهل تكون من نظم شاب هو ابن عشرين سنة، أو بضع وعشرين? وفي معلقة "طرفة" أبيات تشير إلى وقوفه على سفن الفرات ودجلة والبحر، إذ يقول فيها: كأن حدوج المالـكـية غـدوة  خلايا سَفين بالنواصف مـن ددِ

عدولية أو من سفين ابن يامـن  يجوزُ بها الملاح طوراً ويهتدي 

يشق حَباب الماء حيزومها بهـا  كما قسم الترب المفائل بـالـيد

ويقول فيها أيضاً: وأتلع نهاضُ إذا صعدت بـه  كسُكّان بوصي بدجلة مصعد 

وزهير بن أبي سلمى، من هذا الرعيل الذي عدت إحدى قصائده من المعلقات. وكان على ما يقال رواية لأوس بن حجر زوج أمه، وكان أوس راوية للطفيل الغنوي، وهو والد "كعب بن زهير" الشاعر الشهير الذي كساه الرسول بردة له، بعد أن كان قد أمر بقتله لما بلغه من هجائه له. فلما سمع "كعب" بذلك جاء إلى المدينة فأسلم، وطلب العفو، وقال قصيدته الشهيرة بحضرة الرسول فعفى عنه وأعطاه البردة. أما والده "زهير"، فقد توفي قبل المبعث، و لا صحة لما ذكره البعض من انه لقي الرسول. وقد كان يكنى ب"أبي بجير". وأتى "بجير" النبي وأسلم. وقد زعم انه رأى رؤيا في منامه، ان سبباً تدلى من السماء إلى الأرض وكان الناس يمسكونه، فأوله بنبي آخر الزمان، وان مدته لا تصل إلى زمن بعثه، وأوصى بنيه أن يؤمنوا به عند ظهوره. ثم توفي قبل المبعث بسنة.

وهو "زهير بن أبي سلمى"، واسم "أبي سُلمى" ربيعة بن رياح المزني، من مزينة بن أد بن طابخة، وكانت محلتهم في بلاد "غطفان"، فظن الناس أنه من غطفان. وقد ذهب "ابن قتيبة" إلى أنه من "غطفان" وردّ على من زعم أنه من مزينة. وهو أحد الشعراء الثلاثة الفحول، المتقدمين على سائر الشعراء بالاتفاق، وإنما الخلاف في تقديم أحدهم على الآخر، وهم امرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني. ويقال إنه لم يتصل الشعر في ولد أحد من الفحول في الجاهلية ما اتصل في ولد زهير. وكان والد "زهير" شاعراً، وأخته "سلمى" شاعرة، وأخته "الخنساء" شاعرة، وابناه كعب وبُجير شاعرين، وابن ابنه "المضرب بن كعب" شاعراً. وكان خال "زهير بن أبي سلمى": "أسعد بن الغدير" شاعراً، وقد عرف بأمه، وكان أخوه: "بشامة بن الغدير" شاعراً، كثير الشعر.

ويظهر من شعر ينسب اليه انه عاش أكثر من مائة سنة، إذ نراه يتأفف من هذه الحياة، ومن مشقاتها، حتى سئم منها، إذ يقول: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش  ثمانين حولاً، لا أبا لكٍ يسـأم

ويقول: بدا لي إن الله حـق فـزادنـي  إلى الحق، تقوى الله ما كان باديا 

بدا لي اني عشت تسعين حـجة  تباعاً وعشراً عشتها وثـمـانـيا

أو: ألم ترني عُمرت تسعين حجة  وعشراً تباعاً عشتها، وثمانيا

ويظهر ان بيت بدا لي ان الله حق فزادني، وما بعده من الشعر المنحول عليه. ولم يرد في رواية أبي العلاء، والأصمعي، والمفضل الضبي، والسكري.

وفي شعر زهير، زهد ووعظ وتهذيب، حملت بعض الباحثين على اعتباره نصرانياً، ويشك "بروكلمن" في ذلك، إذ يرى ان أثر النصرانية وإن كان واسع الانتشار في جزيرة العرب في ذلك الوقت، بيد انه لا توجد لدينا أدلة تحملنا على جعله نصرانياً. وقد ذكر علماء الشعر ان "زهيراً" كان يتأله ويتعفف في شعره. ويدل شعره على ايمانه بالبعث وذلك قوله: يؤخر فيودع في كتابٍ فيدخر  ليوم الحساب أو يجعل فينقم

ومن جيد شعره في تحديد اليمين قوله: فإن الحق مقطعه ثلاثُ  يمين أو نِفارأو جـلاء

وقد ثمن شعره وقدره العلماء. قال "الثعالبي" فيه: "انه أجمع الشعراء للكثير من المعاني في القليل من الأفاظ". وفي معلقته أبيات في نهاية الحسن والجودة، وقد جرت مجرى الأمثال الرائعة.

وورد أن "عمر بن الخطاب" كان لا يقدم عليه أحداً. وذكر أن "عمر" قال لابن عبّاس: أنشدني لأشعر شعرائكم. قلت: من هو يا أمير المؤمنين? قال: زهير. قيل بمَ كان ذلك? قال: كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتتبع حوشيه، و لا يمدح الرجل بما لا يكون في الرجال. قال: فأنشدته حتى برق الصبح. وورد أن عمر كان جالساً "مع قوم يتذاكرون أشعار العرب إذ أقبل ابن عبّاس، فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بالشعر، فلما جلس قال: يا ابن عبّاس، من أشعر العرب? قال: زهير بن أبي سلمى. قال فهل تنشد من قوله شيئاً نستدل به على ماقلت، قال: نعم، امتدح قوماً من غطفان يقال لهم بنو سنان فقال: لو كان يقعد فوق الشمس من أحد  قوم لأولّهم يومـاً إذا قـعـدوا

مُحَسَّدُون على ما كان من نعـم  لا ينزع الله عنهم مالَهُ حسـدوا

وورد في رواية أخرى، ان "عمر" قال لابن عباس: "أنشدني لشاعر الشعراء، الذي لم يعاظل بين القوافي، ولم يتبع وحشي الكلام، قال: من هو يا أمير المؤمنين? قال: زهير".

وكان زهير أستاذ الحطيئة. وسئل عنه "الحطيئة" فقال: ما رايت مثله في تكفّيه على اكتاف القوافي، وأخذه بأعنتها. حيث شاء، من اختلاف معانيها، امتداحاً وذماً. قيل له: ثم مَنُ? قال: ما أدري، إلا أن تراني مسلنطحاً واضعاً إحدى رجلي على الأخرى رافعاً عقيرتي أعوى في أثر القوافي.

"قال أبو عبيدة: يقول من فضّل زهيراً على جميع الشعراء: انه أمدح القوم وأشدهم أسرَ شعرٍ. قال وسمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: الفرزدق يشبه بزهير. وكان الأصمعي يقول: زهير والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا به مذهب المطبوعين. قال: وكان زهير يسمي كُبٌرَ قصائده الحوليات.

وكان جيد شعره في هرم بن سنان المرّي. وقال عمر رضي الله عنه لبعض ولد هرم: أنشدني بعض ما قال فيكم زهير، فأنشده، فقال: لقد كان يقول فيكم فيحسن، فقال: يا أمير المؤمنين إنا كنا نعطيه فنجزل! فقال عمر رضي الله عنه: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم". وقد عيب على. "زهير" لأخذه عطايا "هرم بن سنان"، إذ عد أهل الأخبار ذلك نوعاً من التكسب بالشعر، وهو مرذول عند العرب.

وقد قدمه "الأخطل" كذلك، وقال "ابن الأعرابي": "كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره، كان أبوه شاعر وخاله شاعر وأخته سلمى شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعران، وأخته الخنساء شاعرة". ومن قدّم زهيراً قال: "كان أحسنهم شعراً، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح، وأكثرهم أمثالاً في شعره". وقيل ان أمدح بيت قالته العرب، هو بيت زهير: تراه إذا ما جئته متـهـلـلاً  كأنك تعطيه الذي أنت سائله 

ولزهير قصيدة أولها: ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى  من الأمر أو يبدو لهم مـا بـدا لـيا

يقال إنه قالها لما طلب "كسرى" النعمان بن المنذر، ففرّ فأتى طيّاً، فسألهم أن يدخلوه جبلهم، فأبوا، فلقيه بنو رواحة من عبس، فقالوا له: أقم فينا، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فقال: ى طاقة لكم بكسرى، واثنى عليهم خيراً. وورد أن "الأصمعي" أنكر كون هذه القصيدة لزهير. ونسبها بعضهم "لصرمة بن أبي أنس الأنصاري"، وهي لا تشبه كلام زهير.

ولزهير شعر سبق به غيره، فأخذه الشعراء منه وضمنوه شعرهم. وقد ذكر العلماء أمثلة على ذلك. "ويروي أن لزهير سبع قصائد نظم كلاً منها في عام كامل، ومن ثمّ سميت: الحوليات".

ومن أولاد زهير بن أبي سلمى، كعب وبجير. وكان "بجير" قد أسلم قبل "كعب". فبلغ ذلك كعباً، فقال شعراً تعرض فيه بالرسول فهدر الرسول دمه، فكتب "بجير" اليه شعراً يخوّفه فيه ويدعوه إلى الإسلام، فجاء وأسلم.

و"لكعب" ولد يقال له "المضرب بن كعب". كان شاعراً، واسمه: "عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى"، لقّب بالمضرب، لأنه شبب بامرأة من بني أسد، فضرب، فسمي المضرب. روى له الشريف "المرتضى" شعراً.

وكانت لزهير بنت كانت شاعرة كذلك. ذكر ان بنت زهير دخلت على "عائشة"، وعندها بنت "هرم بن سنان"، فسألت بنت هرم: بنت زهير من أنت? قالت:أنا بنت زهير. قالت: أو مَا أعطى أبي أباك ما أغناكم? قالت: إن أباك أعطى أبي ما فنى، وإن أبي أعطى أباكِ ما بقي، وأنشدت بنت زهير: وإنك إن أعطيتني فمـن الـغـنـى  حمدت الذي أعطيت من ثمن الشكر 

وإن يفنَ ما تعطيه في اليوم أو غـدٍ  فإن الذي أعطيك يبقى على الدهر

والشاعر "لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب" العامري، ويكنى "أبا عقيل"، هو من أشراف قومه في الجاهلية والإسلام، وكان سخياً من أسرة معروفة. وكان في شبابه من فرسان زمانه، وقد شارك قبيلته في غاراتها على أعدائها، وذب عنها بسيفه وبقلمه. وهو من الشعراء المترفعين الذين ترفعوا عن مدح الناس لنيل جوائزهم وصلاتهم كما كان من الشعراء المتقدمين في الشعر.

وقد عرف والده ب"ربيعة المقترين"، أو "ربيع المقترين"، لسخائه. وقد ذكره "لبيد" ابنه في شعره بقوله: و لا من ربيع المقترين رزئتـه  بذي علق فاقني حياءك واصبري 

وتحدث عن كرمه، فقال: وأبي الذي كـان الأرا  مل في الشتاء له قطينا 

وقد قتل والده وهو صغير السن، فتكفل أعمامه بتربيته. ويرى "بروكلمن" احتمال مجيء "لبيد" إلى هذه الدنيا في حوالي سنة "560م". أما وفاته، فكانت سنة أربعين، وقيل احدى وأربعين، لما دخل معاوية الكوفة إذ صالح "الحسن ابن علي" ونزل "النخيلة"، وقيل إنه مات بالكوفة أيام "الوليد بن عقبة" في خلافة عثمان، وقد رجح "ابن عبد البر" هذه الرواية، وورد أنه توفي سنة نيف وستين.

وقد عُرفت أم "ربيعة بن مالك"، أي والد "لبيد" ب"أم البنين"، وهي بنت "عمرو بن عامر بن صعصعة"، وكانت تحت "مالك بن جعفر بن كلاب"، فولدت له منه "عامر بن مالك" مُلاعب الأسنة، و "طفيل بن مالك" فارس قُرزل، وهو أبو "عامر بن الطفيل"، و "ربيعة بن مالك" أبا لبيد، وهو ربيع المقترين، و "معاوية بن مالك" معوّد الحكّام "معوّد الحكماء"، وإنما سمي "معوّد الحكّام" "معوّد الحكماء" بقوله: أعوّد مثلها الحكّام بـعـدي  إذا ما ألحق في الأشياعِ نابا 

وقيل انه لما مات دفن في صحراء "بني جعفر بن كلاب" رهطه، وانه لما قدم الكوفة وأقام بها، رجع بنوه إلى البادية أعراباً. وروي في خبر انه مات بالكوفة أيام "الوليد بن عقبة" في خلافة "عثمان"، فبعث "الوليد" إلى منزله عشرين جزوراً فنحرت عنه. وقد رجح "ابن عبد البر"، هذه الرواية. وورد في رواية أخرى انه توفي في عهد "زياد" وفي خلافة معاوية.

وقد ذكر من ترجم حياته انه كان فارساً شجاعاً سخياً، وقد جعله "ابن قتيبة" في جملة المائة فارس الذين وجههم "الحارث بن أبي شمر" الغساني، وهو "الأعرج" إلى "المنذر بن ماء السماء" لقتله، فلما صاروا إلى معسكر "المنذر"، أظهروا انهم أتوه داخلين في طاعته، فلما تمكنوا منه قتلوه، فقتل أكثرهم، ونجا لبيد، حتى أتى ملك غسان فأخبره الخبر. فحمل الغسانيون على عسكر "المنذر" فهزموهم، وهو يوم "حليمة". وقد ذكر "ابن قتيبة" في كتابه "الشعر والشعراء" ان "الحارث" كان قد أمرًّ "الوليد" على المائة فارس، وذكر في كتابه "المعارف"، انه كان غلاماً إذ ذاك. وقد وقعت معركة "يوم حليمة" سنة "554 م"، فيجب أن يكون مولد "لبيد" قبل هذا العهد. ولو أخذنا برأي أهل الأخبار القائل انه عاش فوق المائة، وانه كان يوم توفي ابن مائة وثلاثين سنة، أو مائة وأربعين، أو مائة وسبع وخمسين أو مائة وستين، جاز لنا تصور اشتراك "لبيد" في ذلك اليوم، غلاماً أو شاباً. ولم يذكر "ابن قتيبة" كيف جاء "لبيد" إلى "الحارث"، وهو في هذا العمر، ولمَ اشترك مع من اشترك في اغتيال المنذر. ولكننا نجد "الميداني"، يسمي لبيداً الذي اشترك في اغتيال "المنذر" "لبيد بن عمرو"، أي شخصاً آخر، وهي رواية أدعى إلى القبول من رواية "ابن قتيبة".

وتقول قصة يرويها أهل الأخبار عن سبب نظم لبيد لأرجوزته الشهيرة، التي أولها: يا رب هيجا هيَ خير من دعه  إذٌ لا تزال هامتي مـقـزعة

أن "لبيداً" كان غلاماً آنذاك، وكان قد ذهب مع وفد "بني عامر" أبناء "أم البنين"، وعليه "أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب"، وقد وضعوه على رحالهم يحفظ أمتعتهم، ويغدو بإبلهم فيرعاها. وكان "النعمان" قد ضرب قبّة على "أبي براء" وأجرى عليه وعلى من كان معه النُّزل، وكان "الربيع بن زياد" العبسيّ ينادم النعمان ويتقدم على من سواه، وكان يدعى "الكامل"، وكان يعادي "بني جعفر"، فأوغر صدر "النعمان" عليهم، حتى صد عنهم ونزع القبة عن "أبي براء". فلما وقف "لبيد" على خبرهم، قال لهم: هل تقدرون أن تجمعوا بيني وبينه غداً حين يقعد الملك فأرجز به رجزاً ممضاً مؤلماً، لا يلتفت اليه النعمان بعده أبداً? قالوا وهل عندك ذلك? قال: نعم، قالوا: فإنا نبلوك بشتم هذه البقلة، فقال فيها قولاً أعجبهم. فلما أصبحوا قالوا: أنت والله صاحبه، فحلقوا له رأسه، وتركوا له ذؤلبتين، وألبسوه حلة، وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان فوجدوه يتغدى ومعه "الربيع" ليس معه غيره، والدار والمجالس مملوءة بالوفد. فلما فرغ من الغداء أذن للجعفرييّن فدخلوا عليه، والربيع إلى جانبه، فذكروا للنعمان حاجتهم، فاعترض الربيع في كلامهم، فقام لبيد: وقد دهن أحد شقي رأسه، وأرخى ازاره، وانتعل نعلاً واحدة، على عادة الشعراء في الجاهلية إذا أرادت الهجاء، ثم قال رجزه حتى إذا بلغ قوله: مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه  إن استه من برص مُلمعٌـه

وإنه يدخل فيها اصـبـعـه  يدخلها حتى يواري أشجعه

كأنه يطلب شيئاً ضيّعه نفر "النعمان" من "الربيع" ورمقه شزراً، وكره مجالسته لتأثير هذه الأبيات فيه، وأعاد القبة على "أبي براء".

وقد أيد "ابن رشيق" رواية من ذكر ان "لبيداً" كان غلاماً يوم قال قصيدته المذكورة بقوله: "والربيع بن زياد، كان من ندماء النعمان بن المنذر، وكان فحاشاً عياباً بذياً سبّاباً لا يسلم منه أحد ممن يفد على النعمان، فرمى بلبيد وهو غلام مراهق فنافسه". فجعل "لبيداً" غلاماً مراهقاً.

ويروي أهل الأخبار خبراً يؤيد الخبر المتقدم. يقول خبرهم: "نظر النابغة إلى لبيد بن ربيعة وهو صبي مع أعمامه على باب النعمان بن المنذر، فسأل عنه فنُسب له. فقال له: يا غلام، إن عينيك لعينا شاعر، أفتقرض من الشعر شيئاً? قال: نعم يا عم، قال: فأنشدني شيئاً مما قلته، فأنشده قوله: "ألم تربع على الدمن الخوالي" فقال له: يا غلام أنت أشعر بني عامر. زدني يا بنيّ، فأنشده: طلل لخولة بالرسيس قديم. فضرب بيديه إلى جبينه وقال: أذهب فأنت أشعر من قيس كلها: أو قال: هوازن كلها". ويقال: انه أنشده: عفت الديار محلها فمقامها، فقال له: أذهب فأنت أشعر العرب.

واذا أخذنا بالروايتين المذكورتين القائلتين ان "لبيداً" كان صبياً أو غلاماً في أيام حكم الملك النعمان، وجب علينا افتراض ان ميلاده لم يكن بعيداً عن سنة "580" أو "581" أو "582م"، السنة التي تولى فيها "النعمان" الملك، ومعنى هذا انه لم يعمر طويلاً، وهو خلاف ما يذكره أهل الأخبار، وان كل ما يمكن أن نتصوره عن عمره، انه كان في حوالي الثمانين حين داهمته منيته. وقد جعل "بروكلمن" مولده حوالي السنة "560 م"، وجعل وفاته سنة "40 ه" أي حوالي السنة "660 م"، ومعنى هذا انه كان من ابناء المائة حين جاء أجله.

وللبيد شعر في "النعمان بن المنذر"، وصف فيه مجلسه. فذكر انه كان قاعداً كعتيق الطير يُغضي ويُجل، والهبانيق قيام، بأيديهم الأباريق، تحسر الديباج عن أذرعهم، ينتظرون أمراً يصدره اليهم. وهو شعر مدون في ديوانه يعدّ من جيد شعره.

وله قصيدة في رثاء "النعمان"، تعرض فيها للموت ولزوال النعيم، ولعدم دوام الدنيا لأحد، ثم تحدث عن النعمان وعن النعمان وعن أعماله وتجارته ختمها بقوله: وأمسى كأحلام النيام نعيمهم  وأي نعيم خلتـه لا يزايل

ترد عليهم ليلة أهلكتـهـم  وعام وعام يتبع العام قابل

وقد ذكر فيها "الله" بقوله: أرى الناس لا يدرون ما قدرُ أمرهم  بلى: كل ذي لب إلى اللـه واسـلُ

ألا كل شيء ما خلا اللـه بـاطـل  وكـل نـعـيم لا مـحـالة زائل

وكلّ أناس سوف تدخل بـينـهـم  دويهية تصفرّ منـهـا الأنـامـل

وكلّ امرئ يوماً سيعلـم سـعـيه  إذا كُشّفت عند الإله المحـاصـل

وهي قصيدة أزيد من خمسين بيتاً. وأولها: ألا تسألان المرءَ مـاذا يحـاول  أنحبُ فيقضى أم ضلال وباطل 

وروي أن لبيداً أنشد النبي قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل 

فقال له صدقت؛ وكل نعيم لا محالة زائل فقال له: كذبتَ، نعيم الآخرة لا يزول. وروي أن ذلك كان مع "أبي بكر"، وروي في خبر آخر أنه كان مع "عثمان بن مظعون".

وللبيد شعر يرثي به أخاه لأمه "أربد"، وكان قد اصابته صاعقة فقتل. وكان"أربد" أكبر منه سناً. وأبوه "قيس بن جزء بن خالد بن جعفر" "أربد بن قيس بن مالك بن جعفر"، وكان يعطف على "لبيد" كثيراً وعلى ذوي رحمه، فارساً كريماً، فلما أصابته الصاعقة تألم "لبيد" مما ألم بأخيه كثيراً، فرثاه برجز وبقصيد. وقد وجدت في النسخة العربية لتأريخ الأدب العربي لبروكلمن هذا النص: "ولما استقام السلطان للنبي بالمدينة، سار لبيد يحمل رسالة اليه من عمه: أربد، فأعجبه دينه". وهو وهم، فأربد هو أخوه لا عمه. قال الطبري: "وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه". وكان من خبره انه قدم مع وفد "بني عامر بن صعصعة" على الرسول، وفيه "عامر بن الطفيل" وثلاثون من رؤوس القوم وشياطينهم، وفي رأس "عامر" الغدر بالرسول، بأن يشاغله في الحديث، فيعلو "أربد" النبي بالسيف، فلم يتجاسر "أربد" على ضربه، ورجع الوفد إلى بلاده. فلما كان "عامر" ببعض الطريق أصيب بالطاعون فمات، ومات "أربد" بعد ذلك بقليل بالصاعقة.

وذكر أن "عامر" لما مات نصبت "بنو عامر" نصاباً ميلاً في ميل حمِي على قبره، لا تنشر فيه راعية ولا يرعى ولا يسلكه راكب و لا ماش، وكان "جبار بن سلمى بن عامر بن مالك" غائباً، فلما قدم قال: ما هذه الأنصاب? قالوا نصبناها حمى على قبر "عامر"، فقال ضيقتم على أبي عليّ. إن أبا علي بان من الناس بثلاث. كان لا يعطش حتى يعطش الجمل، وكان لا يضِل حتى يضل النجم، وكان لا يجبن حتى يجبن السيل.

وفي اصابة "اربد" بالصاعقة يقول "لبيد" يبكيه: ما ان تعرى المنون من أحـد  لا والد مشـفـق و لا ولـد

أخشى على أربدَ الحتوف و لا  ارهبُ نوء السِّماك والأسـد

فجعّني الرعد والصـواعـق  بالفارس يوم الكريهة النجـد

وهي قصيدة دوّن أبياتها "أبن هشام".

وله قصيدة أخرى في رثاء "أربد" مطلعها: ألا ذهب المحافظ والمحامي  ومانع ضيمها يوم الخصام

وقد رواها "ابن هشام". وقصائد أخرى عديدة، تدل على شدة تأثره بوفاة "أربد".

وقد اختلفت الروايات في زمن إسلام "لبيد". قيل إنه أسلم سنة وفد قومه "بنو جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة" فأسلم. وقيل إن "لبيد بن ربيعة" و "علقمة بن علاثة" كانا من المؤلفة قلوبهم. وقيل إنه وفد على الرسول بعد وفاة أخيه "أربد" فأسلم.

وتجمع روايات أهل الأخبار وعلماء الشعر على إقبال "لبيد" على الإسلام من كل قلبه، وعلى تمسكه بدينه تمسكاً شديداً، و لا سيما حينما بدأ يشعر بتأثير وطأة الشيخوخة عليه وبقرب دنو أجله، ويظهر ان شيخوخته قد أبعدته عن المساهمة في الأحداث السياسية التي وقعت في أيامه، فابتعد عن السياسة وانزوى في بيته، وابتعد عن الخواض في الأحداث، ولهذا لانجد في شعره شيئاً، و لا فيما روي عنه من أخبار، انه تحزب لأحد أو خاصم أحداً.

وروي ان "لبيداً" ترك الشعر في الإسلام وانصرف عنه. فلما كتب "عمر" إلى عامله "المغيرة بن شعبة" على الكوفة يقول له: "استنشدٌ من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام"، أرسل إلى "الأغلب" الراجز العجلي، فقال له: انشدني? فقال: أرجزاً تريد أم قصـيدا  لقد طلبت هيناً موجودا 

ثم أرسل إلى لبيد، فقال: "انشدني ما قلته في الإسلام"، فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها وقال: "أبدلتي الله هذا في الإسلام مكان الشعر" فكتب المغيرة إلى عمر، فنقص من عطاء "الأغلب" خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد. وروي ان "عمر" كتب إلى عامله بالكوفة: سل لبيداً والأغلب العجلي ما أحدثا من الشعر في الإسلام? فقال لبيد: أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران. فزاد عمر في عطائه.

وروي الخبر المتقدم بشكل آخر. روي أن "عمر بن الخطاب" قال للبيد: أنشدني، فقرأ سورة البقرة، قال: ما كنت لأقول شعراً بعد اذ علمني الله سورتي البقرة وآل عمران. فزاد في عطائه خمس مائة، وكان ألفين. فلما كان في زمن "معاوية" قال له "معاوية": هذان الفودان فما بال العلاوة? وأراد أن يحطه إياه، فقال أموت الآن وتبقى لك العلاوة والفودان ! فرق له، وترك عطاءه على حاله، ومات بعد يسير. وورد في رواية أخرى أن "معاوية" كتب إلى"زياد" أن اجعل أعطيات الناس في ألفين، وكان عطاء "لبيد" ألفين وخمسمائة. فقال له "زياد": "أبا عقيل هذان الخراجان، فما بال هذه العلاوة? قال: ألحق الخراجين بالعلاوة، فإنك لا تلبث إلا قليلاً حتى يصير لك الخراجان والعلاوة! فأكملها "زياد" "ولم يكملها لغيره. فما أخذ لبيد عطاء آخر حتى مات.

وقيل إن لبيداً لم يقل في الإسلام إلا بيتاً واحداً، هو: ما عاتب الحرّ الكريم كنفسه  والمرءُ ينفعه القرين الصالح 

في رواية. وورد على هذه الصورة: ماعاتب المرء الكريم كنفـسـه  والمرءُ يصلحه الجليس الصالح 

في رواية أخرى.

وقيل هو هذا البيت: الحمد للهِ إذ لم يأتنـي أجـلـي  حتى كساني من الإسلام سربالا 

وذكر بعض العلماء أن البيت: الحمد لله إذٌ لم يأتنـي أجـلـي  حتى اكتسبت من الإسلام سربالا 

ليس للبيد، بل هو ل"قردة بن نفاثة".

ومن الشعر المستجاد المنسوب إلى لبيد، قصيدته: إن تقوى ربّنا خير نـفـل  وبإذن الله ريثي وعجـل

أحمد اللـه فـلا نـدّ لـه  بيديه الخير من شاء فعل

من هداه سبل الخير اهتدى  ناعم البالِ ومن شاء أضل

وقد زعم بعض العلماء أنها قيلت في الجاهلية، ولكنها لا يمكن أن تكون من شعر الجاهلية، لما فيها من آراء اسلامية، ثم انها قيلت بعد موت "اربد"، وكان لبيد مسلماً آنذاك على ما جاء في بعض الأخبار.

ومما جاء فيها: اعقلي إن كنت لمّا تعقـلـي  ولقد أفلح من كان عـقَـل

إن ترى رأسي أمسى واضحاً  سُلّط الشيب عليه فاشتعـل

وقوله: غير أن لا تكذبنها في التقى  وأخزُها بالبر لله الأجـل

وهي قصيدة تبلغ عدتها "85" بيتاً، بعض أبياتها لشعراء آخرين، وقد نسبها بعض العلماء اليه، فأدخلت في القصيدة.

ومما جاء فيها في حق "أربد" قوله: من حياة قد مللنا طولـهـا  وجديرُ طول عيش أن يمل

وأرى اربد قد فـارقـنـي  ومن الأرزاء رزءُ ذو جلل 

وقد عاب بعض العلماء عليه قوله:   

ومقامٍ ضـيق فـرجـتـه  بمقامي ولسـانـي وجـدل

لو يقوم الفـيل أو فـيّالـه  زال عن مثل مقامي وزحل 

"وقالوا: ليس للفيال من الخطابة والبيان، ولا من القوة، ما يجعله مثلاً لنفسه، وانما ذهب إلى ان الفيل أقوى البهائم، فظن ان فيّاله أقوى الناس! قال أبو محمد، وأنا أراه أراد بقوله: لو يقوم الفيل أو فياله مع فيّاله، فأقام" أو " مقام الواو".

وفي هذه القصيدة إشارة إلى صلاة اليهود، حيث يقول: يلمس الأحلاس في منزله  بيديه كاليهوديب المُصل

"قال أبو الحسن الطوسي: كأنه يهودي يصلي في جانب يسجد على جبينه. قال البغدادي: واليهودي يسجد على شق وجهه".

وقد تعرض "كارلو نالينو" لهذه القصيدة: فقال: "ومن المشهور ما في ديوانه من العبارات الدينية، بل الشبيهة بالعقائد الاسلامية"، ثم ذكر أبياتأص منه، ثم قال: "ولكن ليس كل ما ينسب اليه في ديوانه من هذا الباب صحيحاً، بل لا أختلاف في بعض الأشعار انها مصنوعة".

ونسب له قوله: من يبسط الله عليه اصبعاً  بالخير والشر بأيّ أولعا

يملأ له منه ذنوباً مترعا وقوله: وما الناس إلا كالديار وأهلها  بها يوم حلّوها، وغدواً بلاقع 

وقوله: تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهـمـا  وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر 

وفي هذه الأبيات إشارات إلى رأي لبيد في الدنيا وفي الموت، وهي آراء يقولها في العادة المعمرون، فإذا صح انها له، فلابد وأن تكون من شعره الذي قاله بعد تقدمه في السن.

ويظهر أن الكبر هو الذي حمل "لبيدأ" على ترك الشعر أو الاقلال منه، فالتقدم في السن يوقف القريحة ويجمد الذهن. فلما أرسل "الوليد بن عقبة" اليه شعراً، ومعه مائة بكرة، قال لبيد لابنته: اجيبيه فقد رأيتني وما أعيا بجواب شاعر, وفي هذا الجواب دلالة على توقف قريحته عن قول الشعر، وأنه لم يعد باستطاعته نظمه، وليس السبب هو الإسلام.

وكانت مناسبة إرسال "الوليد بن عقبة" الشعر والهدية اليه، أنه "لبيد" كان إلى في الجاهلية أى تهب الصبا إلا أطعم الناس حتى تسكن، وألزمه نفسه في لإسلامه. فهبت الصبا، ولم يكن عند "لبيد" ما يعنيه على الإطعام، فخطب "الوليد" الناس بالكوفة، وقال: إنّ أخاكم لبيداً إلى ألا تهب له الصبا إلا أطعم الناس حتى تسكن، وهذا اليوم من أيامه، فأعينوه، وأنا أول من أعانه. ونزل فبعث اليه بمائة بكرة وكتب اليه شعراً يمدحه فيه ويذكر له كرمه ونذره.

ويشك "بروكلمن" في صحة ما ورد من ترك "لبيد" الشعر بعد دخوله في الإسلام. ويرى أن كثيراً من شعره مطبوع بطابع إسلامي، ويبعد أن يكون مما صنع عليه، وإن زيد عليه بعض الزيادات.

ونجد في قصيدة "لبيد" الكبرى التي مطلعها: عفت الديار محّلها فمقامها  بمنى تأبدّ غولها فرجامها

أسماء مواضع كثيرة من نجد والحجاز.

ولعلماء الشعر آراء في شعر لبيد، من ذلك ما قالوه في قوله: ما عاتبَ المرءَ الكريمَ كنفسـه  والمرءُ يصلحه الجليسُ الصالح 

فقالوا: إنه شعر جيد المعنى والسبك، لكن ألفاظه قصرت عن معناه. فإنه قليلُ الماء والرونق.

وقد ذكروا له أشعاراً سبق بها غيره من الشعراء، أخذها غيره عنه، فأعادها علماء الشعر إلى أصلها. كما عابوا عليه بعض الأمور الصغيرة التي لا يمكن أن يفلت منها شاعر.

و"عنترة بن شداد العبسي"، هو "عنترة بن عمرو بن شداد بن قراد" العبسي. وشداد جدّه أبو أبيه في رواية لابن الكلبي، غلب على اسم أبيه فنسب اليه. وقال غيره: شداد عمه، وكان عنترة نشأ في حجره فنسب اليه دون أبيه. وكان يلقب ب"عنترة الفلحاء" لتشقق شفتيه.

وانما ادعاه أبوه بعدَ الكبر، وذلك انه كان لأمة سوداء يقال لها "زبيبة"، وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من أمة استعبده، وكان لعنترة اخوة من أمه عبيد. وكان سبب ادعاء أبي عنترة إياه ان بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من "بني عبس"، فأصابوا منهم، فتبعه العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم عمّا معهم، وعنترة فيهم، فقال له أبوه: أو عمه في رواية أخرى: كرّ يا عنترة! فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر انما يحسن الحِلابّ والصرّ. فقال: كر وأنت حر، فكرّ وقاتل يومئذ حتى استنقذ ما بأيدي عدوّهم من الغنيمة، فادعاه أبوه بعد ذلك، وألحق به نسبه.

وورد في رواية أن اخوته قالوا له: اذهب فارعَ الإبل والغنم واحلب وصر. فانطلق يرعى وباع منها ذوداً، واشترى بثمنه سيفاً ورمحاً وترساً ودرعاً ومغفراً، ودفنها في الرمل. وكان له مهر يسقيه ألبان الإبل. وان في الجاهلية من غلب سبا. وأنه جاء ذات يوم إلى الماء فلم يجد أحداً من الحي، فبهت وتحير حتى هتف به هاتف: أدرك الحي في موضع كذا، فعند إلى سلاحه فأخرجه والى مهره فأسرجه واتبع القوم الذين سبوا أهله فكرّ عليهم ففرق دمعهم وقتل منهم ثمانية نفر، فقالوا: ما تريد? فقال: أريد العجوز السوداء والشيخ الذي معها، يعني أمه وأباه، فردوهما عليه. فقال له عمه: يابني كرّ، فقال: العبد لا يكر، ولكن يحلب ويصر. فأعاد عليه القول ثلاثاً وهو يجيبه كذلك. قال له: إنك ابن أخي وقد زوجتّك ابنتي عبلة. فكرّ عليهم فأنقذه وابنته منهم. ثم قال: إنه لقبيح أن أرجع عنكم وجيراني في أيديكم: فأبوا، فكرّ عليهم حتى صرع منهم أربعين رجلاً قتلى وجرحى فردوّا عليه جيرانه. فأنشد: هل غادر الشعراء من متردم  أم هل عرفتَ الدار بعد توهم 

وروي انه كان من معاصري "امرئ القيس"، وانه اجتمع به، وان امرأة "شداد" أبي "عنترة" ذكرت لشداد ان عنترة أرادها عن نفسها، فأخذه أبوه فضربه التلف، فقامت المرأة فألقت نفسها عليه لما رأت ما به من الجراحات، وبكته. وكان اسمها: "سمية"، فقال عنترة: أمن سميّة دمع العين مـذروف  لو كان منك قبلَ اليوم معروف 

وذكر انه كان من أشد أهل زمانه وأجودهم بما ملكت يده، وكان لا يقول من الشعر إلا البيت والثلاثة، حتى سابّه رجل من عبس، فذكر سواد أمه واخوته، وعيّره بذلك، وبأنه لا يقول الشعر، فاغتاظ منه ورد عليه، وهاجت قريحته فنظمت له قصيدته: هل غادر الشعراء من متردم 

وهي أجود شعره، وكانوا يسمونها "المذهبة".

وله كأكثر الشعراء أبيات شعر، استحسنها علماء الشعر، وقالوا انه أجاد فيها وأحسن، وما سبق اليه ولم ينازع فيه في بعض ذلك الشعر.

وهو أحد أغربة العرب، وهم ثلاثة: عنترة، وأمه زبيبة، سوداء، وخفاف بن عمير الشريدي، من بني سُليم، وأمه نَدبٌة، واليها ينسب، وكانت سوداء، والسليك بن عمير السعدي، "السليك بن سلكة"، وأمه سلكة، واليها ينسب، وكانت سوداء. وذكر أنه كان يفخر بأخواله السود، رهط أمه، فدعاهم ب"حام" حيث يقول: إني لتعرف في الحروب مواطني  في آل عبسٍ مشهدي وفعـالـي

منهم أبي حقاً فـهـم لـي والـدُ  والأمُ من حامٍ، فهـم أخـوالـي

وإذا صح ان هذا الشعر هو لعنترة، دلّ على وقوف الجاهليين على اسم "حام"، الوارد في التوراة، على أنه جدّ السودان. و لا بد أن تكون التسمية قد وردت إلى الجاهلين عن طريق أهل الكتاب.

وذكر أنه كان قد أغار على "بني نبهان" فرماه "وزر بن جابر بن سدوس ابن أصمع" النبهاني، فقطع مطاه، فتحامل بالرميّة حتى أتى أهله فمات.

ويعد "عمرو بن كلثوم" التغلبي من كبار شعراء الجاهلية، وكان معاصراً للملك "عمرو بن هند" "554-568 م"، وهو قاتله في خبر سبق أن تحدثت عنه. وهو من الشعراء الذين مالوا إلى الحِكَمٌ في نظم الشعر. وقد عرف ب"أبي الأسود". ويقال إن أخاه "مرة بن كلثوم" التغلبي، هو قاتل المنذر بن النعمان بن المنذر. وكان "عمرو بن كلثوم" سيد قومه، سادهم وهو ابن خمس عشرة، ومات وله مائة وخمسون سنة. وكان خطيباً حكيماً وشاعراً، أوصى بنيه عند موته بوصية بليغة حسنة، ضبط نصها الرواة فيما بعد، وكأنهم كتبوها بخط يدهم.

وقصيدته الشهيرة التي هي إحدى السبع، هي من جيد شعر العرب القديم، ولشغف تغلب بها وكثرة روايتهم لها قال بعض الشعراء: ألهي بني تغلب عن كل مكرمة  قصيدة قالها عمرو بن كلثـوم

يفاخرون بها مذ كان أولـهـم  يا للرجال لفخرٍ غير مسـؤوم

وفي قتل "عمرو بن كلثوم" "عمرو بن هند" يقول أحد شعراء تغلب، وهو "افنون بن صريم" التغلبي: لعمرك! ما عمرو بن هند وقد دعا  لتخدم ليلـى أمـه بـمـوفّـق

فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتـاً  وأمسك من ندمانه بالمـخـنّـق

ويذكر في سبب نظم "عمرو بن كلثوم" قصيدته الشهيرة، أن قبيلة "تغلب" كانت من أشد الناس في الجاهلية، وكانت بينهم وبين "بكر" حزازات وعداوة، ويقال: جاء ناس من بني تغلب إلى بكر بن وائل يستسقونهم فطردتهم بكر للحقد الذي كان بينهم فرجعوا، فمات سبعون رجلاً عطشاً. فاجتمعت "تغلب" لحرب "بكر"، زاستعدت لهم "بكر" حتى إذا التقوا، خافوا أن تعود الحرب بينهم كما كانت، فدعا بعضهم بعضاً إلى الصلح، فتحاكموا في ذلك إلى "عمرو ابن هند". فجاءت تغلب يقودها "عمرو بن كلثوم" زجاءت بكر، ومعها "الحارث بن حلزة اليشكري"، فألقى قصيدته: آذنتنا ببينهـا أسـمـاء  رُبّ ثاوٍ يُملّ منه الثواء 

وتأثر "عمرو بن هند" بها، فحكم لبكر، وأنشد "عمرو" قصيدته: ألا هبي بصحنك فاصبحينا  ولا تبقي خمور الأندرينا

وفي جملة أبياتها: ألا لا يَجهلنٌ أحدُ علـينـا  فنجهل فوق جهل الجاهلينا 

ويذكر بعض الرواة أن "عمرو بن كلثوم" ارتجل قصيدته الشهيرة ارتجالاً، وأنها كانت تبلغ ألف بيت أو تزيد. وان ما وصل الينا منها هو بعضها. وتبلغ "96"بيتاً في كتاب "شرح القصائد العشر" للتبريزي. يظهر من دراستها وامعان النظر فيها أنها لم تنظم دفعة واحدة، وإنها لم تكن بهذا الطول يوم ألقاها الشاعر، بل زيدت فيما بعد حسب المناسبات، لأن فيها أبياتاً تمس أموراً وقعت فيما بعد، في ظروف متأخرة. .

ويروى ان "عمرو بن كلثوم"، جاء سوق عكاظ، فألقى معلقته هناك. وروي ان "معاوية بن أبي سفيان" قال "ان قصيدة عمرو بن كلثوم وقصيدة الحارث بن حلزة، من مفاخر العرب، وكانت معلقتين بالكعبة دهراً".

ويلاحظ ان في معلقة "عمرو بن كلثوم" أبياتاً خرجت على رويّ القافية، مثل قوله: تركنا الخيل عاكفة عليه  مقلدة أعنتها صفونـا

وقوله: ندافع عنهم الأعداء قدماً  ونحمل عنهم ما حمَّلونا 

وقوله: نحُزُّ رؤوسهم في غير برٍّ  فما يدرون ماذا يتقونـا

وقوله: إذا ما عَيَّ بالإسناف حـيُّ  من الهولِ المشبه أن يكونا 

وقوله: برأسٍ من بني جشم بن بكر  ندق به السهولة والحزونا

وقوله: إذا عضَّ الثقاف بها اشمأزت  وولتهم عَشَـوزنةً زبـونـا

وقوله: علينا كـلّ سـابـغة دلاص  ترى فوق النجاد لها غضونا 

إذا وضعت عن الأبطال يوماً  رأيتَ لها جلود القوم جُونـا

وقوله: وأنا المانعون لمـا يلـينـا  إذا ما البيض زايلت الجفونا 

ومواضع أخرى من هذا القبيل. وكان من اللازم مسايرة القافية التي هي "الأندرينا".

ولعمرو أشعار، فيها هجاء للنعمان بن المنذر. فقد ذكر أن النعمان توعد "عمرو بن كلثوم"، فبلغه ذلك، فدعا كاتباً من العرب، فكتب اليه: ألا أبلغ النعمان عَني رِسـالةً  فمدحُكَ حوليُّ وذَمُّك قـارح

متى تلقني في تَغٌلِبَ ابنة وائل  وأشياعها تَرٌقى اليك المسالح

وهجاه في شعر آخر، ذكر فيه أمه، وعيره بها، وعيَّ{ه في شعر آخر بأن خاله صائغ يصوغ القروط والشنوف بيثرب، ورماه فيه باللؤم.

وتنسب لعمرو أبيات نظمها في البذل والسخاء وفي اعطاء المال، أولها: لا تلومني فإني مـتـلـف  كلّ ما تحوي يميني وشمالي 

لست إن أطرفت مالاً فرحاً  وإذا أتلفته لسـت أبـالـي

ولعمرو بن كلثوم ديوان صغير، نشر في مجلة المشرق. وقد ترجمت معلقته إلى الألمانية. وفي معلقة "عمرو" أشعار مضطربة وتكرار، وعدم تجانس في وحدة الموضوع. وقد يكون ذلك بسبب تلاعب الأيدي في القصيدة. واذا عثر على نصها القديم، الذي زعم انه كان ألف بيت أو يزيد، فإنها ستكون أطول قصيدة في تأريخ الشعر العربي نسبها علماء الشعر إلى أحد من الجاهليين. وذكر ان "عمرو بن كلثوم"، أغار على "بني حنيفة" باليمامة، فأسره "يزيد بن عمرو الحنفي"، ثم سقاه الخمر في قصر ب"حجر" اليمامة، حتى مات. وذكر ان "يزيد" أراد المثلة به، بربطه بجمل، ثم ضرب الجمل، ليركض به، فصاح: "يا آلَ ربيعة! أمثلة".

وتذكر رواية ان نهاية "عمرو بن كلثوم" كانت انتحاراً بشرب الخمر، وذلك ان الملوك كانت تبعث اليه بحبائه وهو في منزله من غير أن يفد اليها. فلما ساد ابنه "الأسود بن عمرو" بعث اليه بعض الملوك بحبائه كما بعث إلى أبيه. فغضب "عمرو بن كلثوم" وقال: "ساواني بولي"، فحلف لا يذوق دسماً حتى يموت. وجعل يشرب الخمر صرفاً على غير طعام. فلم يزل يشرب حتى مات.

و"الحارث بن حلزة" اليشكري، هو من "بني يشكر"، من بكر بن وائل. وكان أبرص. وقد اشتهر بقصيدته التي هي احدى المعلقات، كما اشتهر بمثلها "عمرو بن كلثوم" و "طرفة بن العبد". يذكر أنه ارتجلها بين يدي "عمرو بن هند" ارتجالاً، في شيء كان بين بكر وتغلب بعد الصلح، وكان ينشده من وراء السجف، للبرص الذي كان به. وكان من عادة الملك أن يسمع الأبرص من وراء سبعة ستور، وينضح أثره بالماء إذا انصرف عنه. فلما سمعت أم "عمرو بن هند" قصيدته، قالت: "تاللهِ ما رأيت كاليوم قد رجلاً يقول مثل هذا القول يكَّم من وراء سبعة ستور"، فقال الملك: "ارفعوا ستراً وأدنوا الحارث"، وكان كلما استحسن شيئاً منها أمر برفع ستر، حتى رفعت الستور السبعة. واقعده الملك قريباً منه استحساناً لها وتقديراً له. وكان الحارث متوكئاً على عنزة فارتزت-كما يقول أهل الأخبار-في جسده وهو لايشعر. وقد زعم أنه قال قصيدته وهو ابم مائة وخمس وثلاثين.

والقصيدة من قصائد الفخر والتبجح بالمفاخر والمآثر، وقد عرض فيها بقبيلة "تغلب"، وعرض ب"عمرو بن هند" كذلك. وقد ضرب به المثل بالفخر فقيل: "أفخر من الحارث بن حلزة". ويرى "نولدكه"ان سبب اختيار "حماد" الراوية لهذه القصيدة وضمها إلى القصائد الأخرى المختارة، هو ان حماداً كان مولى لقبيلة "بكر بن وائل"، وكانت هذه القبيلة في عداء مع قبيلة "تغلب"، ولما كان "حماد" قد اختار قصيدة "عمرو بن كلثوم" التغلبي لشهرتها، لم يسع حماداً أن يعدل عن اختيارها، ولكنه اضطر على اختيار قصيدة أخرى إلى جانبها تشيد بمدح "بكر بن وائل" سادته، فاختار قصيدة "الحارث ابن حلزة" الذي لم يبلغ في الشهرة شهرة الشعراء الآخرين.

ويزعم أهل الأخبار انه ارتجلها ارتجالاً أمام الملك، بينما يذكرون انه كان قد قال لقومه قبل ارتجاله لها أمام الملك: "اني قد قلت قصيدة، فمن قام بها ظفر بحجته وفلج على خصمه فروّاها ناساً منهم. فلما قاموا بين يديه لم يرضهم فحين علم انه لا يقوم بها أحد مقامه"، احتملها وأنشدها أمام الملك. وقد قالها لتكون حجة لقومه في نزاعهم السياسي مع قبيلة تغلب، ودفاعاً عنهم أمام الملك.

ويرى "بروكلمن" أن شعر "الحارث" أقل إصالة من شعر "عمرو بن كلثوم".

وهو قريب من شعر "زهير" في ميله إلى مذهب التعليم والتهذيب. وقد قدم "أبو عبيدة" شعره وجعله أحد ثلاثة نفر اشتهروا بجودة قصائدهم، إذ قال: "أجود الشعراء قصيدةً واحدة جيدة طويلة ثلاثة نفر:عمرو بن كلثوم، والحارث ابن حلزة، وطرفة بن العبد".

وللحارث بن حلزة شعر يذكر فيه "ابن مارية"، وهو "أبو حسان" "قيس بن شرحبيل بن مرة بن همام"، وكان ممن سعى في الصلح بين بكر وتغلب. وفي جملة ما قاله فيه: والى ابن مارية الجواد وهل  شروى أبي حسان في الأنس 

وفي قصيدة "الحارث بن حلزة" أسماء مواضع من محالهم ومحال حلاهم وهي قصيدته التي تبدأ ب: آذنتنا ببينهـا أسـمـاء  رب ثاوٍ يمل نته الثواء 

وللحارث بن حلزة ديوان صغير وأشعار منثورة في كتب الأدب والأخبار.

و "الأعشى" "ميمون بن قيس بن جندل" من "سعد بن ضبيعة بن قيس ابن ثعلبة"، ويكنى أبا بصير. وهو ممن عاش في الجاهلية وادرك الإسلام. ذكر "ابن قتيبة" انه "كان أعمى". وهو وهم، وانما عمي في أواخر أيامه، كما يفهم ذلك من شعره، بعد ان لعب به الكبر، وتحكمت به الشيخوخة، وصار عاجزاً، يقوده قائد، ويوجهه أنى يشاء، تسيره عصاه، وهو يخاف العثار. وقد وصف شيخوخته هذه وصفاً مؤلماً، صادراً من قلب متفطر حزين يبكي أيامه الأولى، أيام اللذة والمتعة، أيام اللهو والخمرة والنساء، أيام مضت، حلت محلها أيام سود، لا يفرق فيها الابيض من الاسود ولا الليل والنهار، ثم هو وحده، لا خمر ولا امرأة ولا لحم دسم، عافته المرأة، لذهاب ماله وشبابه، وتركه الزنا على الرغم منه، ولم يعد يرى في هذه الأيام إلا الهم والحزن والألم.

وأم الأعشى بنت "عَلس" أخت المسيب بن علس من بني "جُماعة"، ثم من بني "ضبيعة بن ربيعة بن نزار"، ولد بقرية باليمامه يقال لها "منفوحة"، وفيها داره وبها قبره. ويقال إنه كان نصرانياً، وهو أول من سأل بشعره. ويسمى "صناجة العرب". لأنه أول من ذكر الصنج في شعره فقال: ومستجيب لصوت الصنج تسمعه  إذا ترجع فيه القينة الفـضُـل

وذكر أنه إنما عرف بصناجة العرب لكثرة ما تغنت العرب بشعره، أو لجودة شعره، أو لأن العرب كانت تتغنى بشعره على صوت الصنج، إلى غير ذلك من شروح وتفاسير.

وقد نشأ "الأعشى" رواية لشعر خاله "المسيب بن علس"، وهو من شعراء الجاهلية المقلين. ثم نبغ هو في الشعر، فعلا اسمه على أسم خاله، حتى حلق في سماء، ولا سيما في وصف الخمر، حيث حظي الخمر عنده بموقع ممتاز في شعره، فأجاد في وصفه وفي أثره في النفس. وتفنن في وصف الخمر، حتى سبق بوصفه هذا سائر شعراء الجاهلية، ولم يلحق به في هذه الناحية من الشعر أحد. وقد عدّه بعض علماء الشعر رابع الشعراء الأربعة، فهو يأتي بعد امرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والنابغة الذبياني. وقد اجاد أيضاً في وصف القيان.

قيل:كان الأعشى يفد على ملوك فارس، ولذلك كثرت الفارسية في شعره، وزُعم ان "كسرى" سمعه يوماً يُنشِدُ، فقال: من هذا ? فقالوا: آسروذ كويذ تازي، أي مغني العرب، فأنشد: أرقت وما هذا السهاد المـؤرقُ  وما بي من سقمٍ وما بيَ معشق 

فقال كسرى:فسروا لنا ما قال ! فقالوا:ذكر انه سهر من غير سقم ولاعشق ! فقال كسرى: إن كان سهر من غير سقم ولا عشق فهو لص !! إلى غير ذلك من قصص مصنوع.

وكان يفد أيضاً على ملوك الحيرة، ويمدح الأسود بن المنذر، أخا النعمان، وقال له "النعمان بن المنذر": لعلك تستعين على شعرك هذا? فقال له الأعشى: احبسني في بيت حتى أقول، فحبسه في بيت، فقال قصيدته التي أولها: أأزمعتَ من آل ليلى ابتـكـارا  وشطت على ذي هوى أن تزارا 

وفيها يقول: وقيدني الشعر في بيتـه  كما قيد الآسرات الحمار 

وورد في شعر الأعشى قوله: وكنت امرأً زمناً بالعراق  عفيف المُناخ طويل التغن 

وإذا كان ما نسب إلى الأعشى من قوله: لسنا كمن جعـلـت إيادُ دارهـا  تكريت تنظر حبّها أن يحصـدا

جعل الإله طعامنا في مـالـنـا  رزقاً تضمنه لنـا لـن ينـفـدا

مثل الهضاب جزارة لسيوفـنـا  فإذا تُراع فإنها لـن تـطـردا

ضمنت لنا أعجازهن قُـدورنـا  وضروعهن لنا الصريح الأجردا 

صحيحاً، فإنه يشيرالى أرض يقال لها "تكريت". وقد ذكر بعض علماء اللغة أن "تكريت" بنواحي الموصل، سميت بتكريت بنت وائل، أخت "قاسط". ويظهر أن الساسانيين قد أبعدوا بعض بطون "إياد" إلى هذه الديار، فأجبروهم على الإقامة بها، وأما النسب المذكور، فقد وضع فيما بعد. ويظهر من هذا الشعر ان تلك البطون قد تعلمت الزراعة، فزرعت الحب، والزراعة مزدراة في نظر العرب، ولهذا تبجّح الشاعر عليها وافتخر، بكون قومه أصحاب إبل ضخمة، يعقرونها لمن ينزل بساحتهم من ضيوف، أما إياد فهم أصحاب زراعة وحصاد.

وكان الأعشى ينادم "هوذة بن علي" الحنفي، صاحب اليمامة، وكان نصرانياً على ما يقال. وذكر ان "الأعشى" كان نصرانياً كذلك، وكان يزور "الحيرة" كما كان يزور أسقف "نجران". وله راوية يروي شعره اسمه "يحيى ابن متي" من عبّاد الحيرة، وقد أشار في شعره إلى أمور توراتية مثل حمامة نوح وأخبار سليمان. لا ندري إذا كان قد أخذها من التوراة، أو انه سمعها من رجال الدين أو من قصص نصارى الحيرة.

وله أشعار كثيرة في مدح "هوذة" "هوذة بن علي بن ثمامة" الحنفي، منها قصيدته التي مطلعها: أحيتـك تـيّا أم تـركـت بـدائكـا  وكانت قتولاً للرجـال كـذلـكـا

وأقصرت عن ذكرى البطالة والصبا  وكان سفيهاً ضلة من ضـلالـكـا

إلى أن قال: إلى هودة الوهاب أهديت مدحتي  أرجّي نوالاً فاضلاً من عطائكا

تجانف عن جوّ اليمامة ناقـتـي  وما عمدت من أهلها لسوائكـا

وهذه القصيدة تشبه أشعار المحدثين والمولدين في الرقة والانسجام.

ومن شعره في مدح "هوذة" قوله: له أكاليل بالـياقـوت زيّنـهـا  صواغها لا ترى عيباً ولا طبعا 

وقوله: وكلُّ زوجٍ من الديباج يلبسها  أبو قدامة مجبوراً بذاك معا

وكان يزور اليمن، ويقف بأبواب أقيالها، لينال منهم هداياهم. وفي خبر يرجع سنده إلى "الأعشى"، أنه قال: "أتيت سلامة ذا فايش "فائش" فأطلت المقامَ ببابه حتى وصلت اليه، فأنشدته: إن محـلاً وإن مـرتـحـلاً  وإن في شعر من مضى مثلا 

استأثر الله بـالـوفـاء وبـال  عدل وولى الملامة الرجـلا

الشعر قـلـدتـه سـلامة ذا  فائش والشيء حيث ما جُعلا

قال: صدقت، الشيء حيث ما جعل، وأمر لي بمائة من الإبل وكساني حللاً وأعطاني كِرشاً مدبوغة مملوءة عنبراً، فبعتها في الحيرة بثلاثمائة ناقة حمراء". والشعر المذكور هو من قصيدة رقمت برقم "35" في ديوانه وتقع في "24" بيتاً، وفي ترتيب بعض أبياتها أختلاف. وقد شكك "ابن قتيبة" في صحة نسبتها إلى الأعشى، كما شك غيره في صحة نسبتها اليه، لأسباب ذكروها. وقد نسبها "الهمداني" إلى الأعشى.

ونسب "الهمداني" إلى الأعشى قصيدة أخرى في مدح "سلامة" أولها: رأيت سـلامة ذا فــائش  إذا زاره الضيف حيّا وبش 

وقال لهم مرحباً مرحـبـاً  وأهلاً وسهلاً بهم وابتهش

وتنسب إلى الأعشى قصيدة أخرى في مدح "سلامة ذا فائش"، وهو: "سلامة ذو فائش" ابن يزيد بن مرة بن عريب بن مرثد بن حُريم الحميري، وقد ذكر "الهمداني" أن "ذا فائش" هذا، هو "ذو فائش الأصغر"، واسمه "سلامة بن بهير" القيل. وأورد أبياتاً في مدحه أولها: تؤم سـلامة ذا فـــائش  هو اليوم حمّ لميعـادهـا

وكم دون بيتك من صفصف  ودكداك رمل وأعقـادهـا

وهي أبيات من القصيدة المرقمة برقم "8" في ديوان الأعشى، وتقع في "56"بيتاً.

ودوّن "الهمداني" أبيات شعر زعم أنها في مدح "ذي فائش"، الذي هو "سلامة بن يهبر" القيل، ذكر أن "ابراهيم بن المحابي"، أنشدها إياه، أولها: وذو فائش قد زرته في ممنع  من النيق فيه للوعول موارد 

وذكر "الهمداني" أبياتاً من الشعر في مدح "زرعة بن عمرو" "زرع بن عمرو". وكان "زرعة بن عمرو" يتولى وآباؤه للتبابع أعمال "المعافر" و "مأرب" وحضرموت، وكان قد حارب "مذحجاً"، وفيه يقول "الأعشى" وقد وفد على بعض أولاده ومدحهم، قصيدة أولها: تسنّم في العلا زرع بن عمرو  وشيّد ما بنى عمـرو وزادا

ودوّن "الهمداني" أبيات شعر في مدح "حجر بن زرعة" ذكر أنها للأعشى، وقال إنه كثيراً ما يفد إلى المعافر، ثم قال: وقيل إنها للمسيب بن علس. وأولها: حللتُ على حجر بن زرعة بعدما  برى الجسم مني مشققات العواذل 

ونسب "الهمداني" أبيات شعر في مدح "فهد بن النعمان"، وكان قيلاً بالمعافر. وقد وفد عليه. وأول هذه الأبيات: ونادمت فهداً بالمعافر حقبة  وفهد سماح لم تشبه المواعد 

ونسب الرواة إلى "الأعشى" قصيدة في مدح "مسروق بن وائل" الحضرمي. وهو ممن وفد إلى "النبي" في وفد حضرموت فأكرمه. وهي قصيدة رقمت برقم "70" في ديوانه.

وفي "يزيد بن صهر بن أبي ثابت" الشيباني، من سادة بني شيبان وذوي الرأي فيهم، يقول الأعشى: ودع هريرة إن الركب مرتحل  وهل تطيق وداعاً أيها الرجل

وهي لاميته الشهيرة التي تعد من المعلقات. ومما جاء فيها في وصف مجلس الشرب والخمر: نازَعٌتُهُمٌ قضب الريحان مرتفقـاً  وقهوة مزة روواقها خـضـل

لا يستفيقون منها إلا وهي راهنة  إلا بهاتِ، وإن علّوا وإن نهلـوا

يسعى بها ذو زجاجات لها نطف  مقلص أسفل السربال، مُعٌتمـل

ومستجيب لصوت الصنج يسمعه  إذا ترجع فيه القينة الفُـضُـل

وكان يبغي من أسفاره هذه جمع المال للاستمتاع بلذة الحياة، ولذة الحياة عنده: الخمر والطعام والنساء، وقد جمعها بقوله: إن الأحامرة الثلاثة أهلـكـت  مالي وكنتُ بهن قدماً مُولعـا

الخمر والحم السمين مع الطلى  بالزعفران و لا أزال مُردّعا

وهو من الشعراء الذين تعهروا في شعرهم، على شاكلة "امرئ القيس". وقد أبدع في وصف صاحبته "قُتيلة". وهو لا يخشى من التصريح بأنه انما يحب النساء، لأجل الاستمتاع بهن. فليست المرأة إلا أداة اللذة في هذه الحياة. فهو يبحث عنها، و لا يبالي من أي نوع كانت، جارية أم حرة، عاهرة أم متزوجة، وهو على شاكلة "امرئ القيس" يطيب له أن يصور صاحبته متزوجة، تخون زوجها، وتقدم له الحب واللذة، لأن في الأتصال بالمتزوجة مجازفة من الرجل ومن المرأة، والمجازفة من سيماء العشاق الفرسان الشجعان.

وقد تمكن الأعشى باتصاله بملوك الحيرة والغساسنة، وبقيس بن معد يكرب، وسلامة ذي فائش، وبسادة نجران، ويهوذة، وبأمثالهم من حكام وسادة-من الحصول على مال طيب، ومن التمتع بمشاهدة مجالس أولئك السادة، ومن الشراب بصحاف الذهب والفضة، ومن أكل أكلات الحضلا، التي لا يعرفها إلا أصحاب المال والترف، ومن الاستمتاع بسماع الغناء العربي والأعجمي، ومن التأثر بالحياة الرفيعة التي يحياها أعل الحضر. فأثرت تلك الحياة فيه. وصار يقبل عليها ويبحث عنها في كل مكان. وما الحياة تلك إلا اللهو بالخمر والنساء والطعام الطيب، حتى كان يتلف ماله في سبيلها، إن عسر الحصول عليها بغير ثمن.

وهو في شعره صريح يعلن حبّه لجمع المال، لا يخشى من التصريح به أحداً، ولعله كان يريد الإعلان عن ذلك، ليرزقه الناس مما عندهم، ويزيدوا في ماله. نراه يقول: وطوّفت للمـال آفـاقـهـا  عمان وحمص فأوريشَـلَـمٌ

أتيت النجـاشـي فـي داره  وأرض النبيط وأرض العجم 

فنجران فالسرو من حمـير  فأي مـرام لـه لــم أرم

ومن بعد ذاك إلى حضرموت=فأوفيت هممّي وحيناً أهم ثم هو يعدد المواضع التي زارها فيقول: ألم ترني جولتُ ما بين مـأربٍ  إلى عدن فالشأم والشأم عانـد

وذا فائش قد زرت في متمّنـع  من النيق فيه للوعول مـوارد

ببعدان أو ريمان أو رأس سَلٌيَةٍ  شفاء لمن يشكو السمائم بـارد

وبالقصر من أرياب لوٌ بتَّ ليلة  لجاءك مثلوج من الماء جامـد

ونادمتُ فهداً بالمعافر حـقـبة  وفهد سماحُ لم تشبه المواعـد

وقيساً بأعلى حضرموت انتجعته  فنعم أبو الأضياف والليل راكد

ويظهر من الشعر المتقدم انه طاف بلاداً كثيرة، فيها أرض العجم، وأرض النبط، وبلغ حمص و "أورشليم"، أي القدس، وعمان، وزار جزيرة العرب حتى وصل حضرموت واليمن، وعبر إلى "النجاشي" في داره. وهي أسفار بعيدة متعبة بالنسبة لذلك الوقت، وربما كان هذا الشعر مما أقحم عليه.

وله أشعار كثيرة في مدح "قيس بن معد يكرب"، الذي كان يرزقه ويغدق عليه المال، وهو لا يجد غضاضة من التصريح في مدحه له أنه لا يحرمه من نداه الجزيل. ولهذا عدّه علماء الشعر أول من سأل بشعره، وابتذل نفسه في السؤال، وأسرف في الترحال من أجل جمع المال. ومن شعره في "قيس" وفي الاستجداء منه، قوله:   

ونبئت قيسـاً ولـم أبـلـه  كما زعموا خير أهل اليمن 

فجئتك مرتادَ ما خـبّـروا  ولولا الذي خبروا لم تَـرَن

فلا تحرمني نداك الجـزيل  فإني امرؤ قبلكم لم أهـن

وهي قصيدة نونية، موجودة في ديوانه.

وللأعشى قصيدة في مدح "أبي الأشعث بن قيس" الكندي. والأشعث اسمه"معد يكرب" كان أبداً أشعث الرأس فسمي الأشعث، وهو من الصحابة، وفد على النبي سنة عشر وأسلم، وكان شريفاً مطاعاً جواداً شجاعاً، وهو أول من مشت الرجال في خدمته وهو راكب، وكان من أصحاب "علي" في وقعة صفين. ومن شعر الأعشى في مدح "أبي الأشعث"، وهو "قيس بن معد يكرب" قوله: من ديار هضٌب كهضب القلـيب  فاض ماء الشؤون فيض الغروب 

أخلفتني بـهـا قـتـيلة مـيعـا  دي وكان للوعـد غـير كـذوب

وكان الأعشى، إذا زار اليمن تخزف ب"أثافت"، وكان له بها معصر للخمر يعصر فيه ما أجزل له أهل "أثافت" من اعنابهم. وقد ذكرها "الأعشى" في شعره، إذ قال: أحبُّ أثافِتَ وقت القطاف  ووقت عُصارة أعنابهـا

وكانت تسمى "درني" في الجاهلية. وإياها التي ذكرها الأعشى بقوله: أقول للشرب في درني وقد ثملوا  شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل 

وذكر غير "الهمداني" أن "درني" المذكورة في شعر الأعشى، هي ناحية من شق اليمامة. قال الأعشى: حلّ أهلي ما بين درني فبادو  لي وحلّت علوية بالسخـال

فهي ليست ب"أثافت"، كما ذكر ذلك "الهمداني". ونجد الهمداني يذكر "درنا" في مواضع اليمامة. ولما كان "الهمداني" من العلماء بمواضع جزيرة العرب، فلا أعتقد أنه وهم حين ذكر قول "الرئيس الكباري"، أن "درني" هي "أثافت"، فلعل"درني" غير"درنا" اليمامة.

وقد هجا "الأعشى" "علقمة بن علاثة" من سادات "بني عامر" وأشرافهم. وكان سبب ذلك، انه مدح "الأسود" العنسي، فأعطاه خمسمائة مثقال ذهباً وخمسمائة حللاً وعنبراً، فخرج، فلما مر ببلاد "بني عامر"، وهم قوم "علقمة" و "عامر بن الطفيل"، خافهم على ما معه، فأتى "علقمة ابن علاثة"، فقال له: أجرني! قال قد أجرتك من الجن والأنس. قال الأعشى ومن الموت. قال: لا. فأتى "عامر بن الطفيل"، فقال له: أجرني! قال: قد أجرتك من الجن والأنس. قال الأعشى: ومن الموت! قال عامر: ومن الموت أيضاً. قال: وكيف تجيرني من الموت? قال: إن مت في جواري بعثت إلى أهلك الدية. قال: الآن علمت انك قد أجرتني. فحرضه عامر على تنفيره على علقمة، فغلّبه عليه بقصائد. فلما سمع علقمة نذر ليقتلنه إن ظفر به. فقال الأعشى قصيدة مطلعها: شاقك من قيلة أطلالهـا  بالشط فالجزع إلى حاجز 

ولما نذر "علقمة" دم الأعشى جعل له على كل طريق رصداً. فاتفق ان الأعشى خرج يريد وجهاً ومعه دليل فأخطأ به الطريق، فألقاه على ديار بني عامر ابن صعصعة، فأخذه رهط "علقمة" فأتوه به. فقال له علقمة: الحمد لله الذي مكنني منك، فقال الأعشى: أعلقم قد صيرتني الأمـورُ  أليكَ، وما أنت لي مُنقـصُ

فهب لي ذنوبي فدتك النفوس  ولا زلت تنمي و لا تنقصُ

في أبيات، فعفا عنه، فقال الأعشى ينقض ما قال أولاً: علقم يا خير بني عـامـر  للضيف والصاحب والزائر 

والضاحك السن على همه  والغافر العثرة للعـاثـرِ

وكان "عامر بن الطفيل" لما نافر "علقمة" خرج مع لبيد الشاعر والأعشى. فحكمّا "أبا سفيا، "، فأبى أن يحكم بينهما، فأتيا "عيينة بن حصن" فأبى، فأتيا "غيلان بن سلمة" الثقفي، فرّدهما إلى "حرملة بن الأشعر" المريّ، فردهما إلى"هرم بن قطبة" الفزاري، فحكم بتساويهما في الشرف والمنزلة، ولم يفضل فانصرفا على ذلك.

ويقال إن النبي قال لحسّان: يا حسان أنشدنا من شعر الجاهلية ما عفا الله لنا فيه? فأنشده حسان قصيدة الأعشى في علقمة بن علاثة: علقم ما أنت إلى عامر  الناقض الأوتار والواتر 

فنهى النبي حسان من تلاوتها. وذكر أن النبي رخص في الأشعار كلها إلا هاتين الكلمتين: كلمة أمية بن أبي الصلت في أهل بدر، وكلمة الأعشى في علقمة بن علاثة.

وقد اختلفت الروايات في "علقمة"، فرواية تذكر أنه أسلم وصحب الرسول، ورواية تذكر أنه لم يسلم، وأنه كان عند "قيصر"، وأنه أثنى أمامه على الرسول حين كان عنده، بينما تناول أبو سفيان منه، ورواية تذكر أنه أسلم ثم أرتد ولحق بالشام، ثم عاد إلى الإسلام، ورواية تذكر أن "عمر" استعمله على "حوران"، فملت بها. وقد رثاه "الحطيئة" بقصيدة، وكان قد ذهب اليه لنيل نواه، فوجده قد مات، وقد أوصى له بجائزة في حياته، فأعطاه ابنه مائة ناقة يتبعها أولادها.

ولما كان الأعشى تاجراً من تجار الشعر، اتخذ الشعر متجراً يتاجر به، فيمدح من يعطيه، ويهجو من لا يحسن اليه ويصله، لذلك صار شعره في الرجال الذين أتصل بهم، بين مدح وبين هجاء.

وقد أفادنا "الأعشى" فائدة كبيرة في ذكره أسماء المواضع التي مر بها في شعره. وقد اقتبس "الهمداني" بعض شعره المتعلق بهذا الموضوع. كما اورد شعراً لغيره يتعلق بالمواضع، انفرد به في بعض الأحيان، ومما ذكره من شعر الأعشى في بعض مواضع اليمامة، قوله: قالوا: نُمارُ فبطن الخال جادَهما  فالعسجدية فالأبلاء فالرجـل

فالسّفج يجري فخنزير فَبُرقٌتـه  حتى تتابع فيه الوتر والحُبـل

ونجد في شعر الأعشى قصصاً من قصص أهل الجاهلية، من ذلك ما رواه عن سد "مأرب" في قصيدته التي يقول فيها: ففي ذلك للمؤتسي أسـوة  ومأرب قفّى عليها العرِمٌ 

رخام بنته لهـم حـمـير  إذا جاءه ماؤهم لـم يرم

فأروى الزروع وأعنابها  على سعة ماؤهم لم يرم

وهي أبيات نظمت على طريقة ذلك الوقت في ذكر نكبات الماضي، وما حل بالقبائل والمدن والقرى من مصير سيء، لاتخاذها درساً وعبرة للأحياء. وهي لذلك تكون ذات صبغة أدبية أخلاقية، لايهتم فيها للتأريخ ولواقع الأحداث، وانما للقص وللتأثير في العواطف والقلوب.

ومنها قصيدته التي ذكر فيها من أهلكه الدهر من الجبابرة ومطلعها: ألم تروا إرمـاً وعـادا  أفناهم الليل والنهـار

وقبلهم غالت المـنـايا  طسماً فلم يُنجها الحذار 

وحلّ بالحيّ من جديس  يوم من الشرّ مستطار

وأهل جوّ أتت عليهـم  فأفسدت عيشهم فباروا

فصبحتهم من الدواهي  نائحة عقبها الـدمـار

وقد روى أهل الأخبار قصص هؤلاء الأقوام الذين ذكرهم الأعشى في شعره، وقد رصعوها على عادتهم بالشعر، نسبوه إلى أبطال ذلك القصص.

وأشار "أبو العلاء" المعري إلى شعر نسب للأعشى أوله: أمِـن قَـتٌـلَةَ بــالأنـــقـــا  ءِ دار غـير مـحـلـــولـــه

كأن لـم تـصـحـب الـحـــيّ  بهـا بـيضـاء عـطـبـولـــه

أنـاةُ ينـزل الــقـــوســـي  منـهـا مـنـظـر هــولـــه

ومـا صـهـبـاء مـن عـــانةَ  في الـذراع مـحـمـــولـــه

تولى كرمها اصهب يسقيه ويغدو له 

ثوت في الخرس أعواماً  وجـاءت وهـي مـقـتـولـــه

بمـاء الـمــزنة الـــغـــرّا  ء راحـت وهـي مـشـمـولـه

بأشـهـى مـنـك لـلـظـمـــآ  ن لـو أنـك مــبـــذولـــه

فنفى على لسان الأعشى أن يكون من شعره، أو أن يكون قد صدر عنه.

وقد ورد في بعض الأخبار أن الأعشى كان نصرانياً. ويرى "بروكلمن" أن من الجائز أن يكون نصرانياً، غير أن نصرانيته لم تكن مؤثرة عليه، وهو إذا كان قد تحدث عن الله وعن البعث، وعن الحساب ويوم الدين، فقد تحدث غيره عن هذه الأمور أيضاً، ولم يكن من النصارى. ونحن لا نكاد نجد في شعره ما يؤيد كونه نصرانياً صحيحاً قويم الدين، له علم بأحكام شريعته ونواهيها، ولعلّ نصرانيته الوحيدة البادية عليه، هي في حلفه برهان دير هند، وإشارته إلى عيد الفصح والى طوفان نوح، وزيارته "بني الحارث بن كعب" سادة نجران، وهم نصارى، وتشبيهه "قيس بن معد يكرب" بالرهبان في عدله وتقواه. وقوله: وإني ورب الساجـدين عـشـية  وما صك ناقوسَ النصارى أبيلها 

وقوله: ربيّ كريم لا يكدر نعـمة  وإذا يناشَد بالمهارق أنشدا 

ولكننا نجده يقسم بالكعبة إذ يقول: إني لعمر الذي خطت مناسمها  تَخٌدى وسيق اليه الباقر الغيل

ويقول:   

وإني وثوبي راهب اللّج والـتـي  بناها قصيّ والمضاض بن جرهم 

ويقول: وما جعل الرحمن بيتك في العلا  بأجياد غربي الفِناء المـحـرّم

وورد ان الأعشى كان يقول بالقدر. ورد في كتاب "الأغاني": "قال لي يحيى بن متي راوية الأعشى، وكان نصرانياً عبادياً، وكان معمراً، قال: كان الأعشى قدرياً، وكان لبيد مثبتاً، قال لبيد: من هداه سبُل الخير اهتدى  ناعم البال ومن شاء أضل

وقال الأعشى: استأثر الله بالوفاء وبالعدل  وولى الملامة الرجـلا

قلت: فمن أين أخذ الأعشى مذهبه? قال: من قبل العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك". وقد جعله "المرتضى" في عداد من كان على مذهب أهل العدل من شعراء الطبقة الأولى لقوله البيت المذكور.

وقد نسب الأعشى هلاك الإنسان وموته إلى فعل الدهر، إذ يقول: فاستأثر الدهرُ الغداة بهـم  والدهر يرميني و لا أرمي 

يا دهر قد اكثرت فجعتنـا  بسراتنا ووقرت في العظم

ومن شعره قوله: وأرى الغواني لا يواصلن امرأً  فقد الشبابَ وقد يصلن الأمردا 

وهو شعر يظهر أنه قاله بعد أن عبث به الكبر، وفقد الشباب، فقاله على عادة الشعراء في ذمهم المرأة حين بلوغهم هذه المرحلة من العمر.

وروي أنه مرّ بأبي سفيان بن حرب فسأله عن وجهه الذي قدم منه فعرّفه، ثم سأله: أين يقصد? فقال: أريد محمداً. فقال: إنه يحرم عليك الزنا والخمر والقمار. فقال له: أما الزنى فقد تركني ولم أتركه، وأما الخمر فقد قضيت منه وطراً، وأما القمار فلعلّي أن أصيب منه خلفاً. قال: فهل لك إلى خير? قال: وما هو? قال: بيننا وبينه هدنة فترجع عامك هذا وتأخذ مائة ناقة حمراء، فإن ظهر أتيته، وإن ظهرنا كنت قد أصبت عوضاً من رحلتك. قال: لا أبالي. فانطلق به أبو سفيان إلى منزله وجمع له أصحابه وقال: يا معشر قريش، هذا أعشى بني قيس بن ثعلبة، وقد عرفتم شعره، ولئن وصل إلى محمد ليضربن عليكم العرب بشعره، فجمعوا له مائة ناقة وانصرف، فلما كان بناحية اليمامة ألقاه بعيره فوقصه فمات.

ويذكر علماء الشعر، ان الأعشى كان قد هيأ قصيدة لينشدها أمام النبي، في صلح الحديبية، فلما صرفه "أبو سفيان" عن الذهاب إلى يثرب لم يقرأها. ومطلع القصيدة: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا  وبتَّ كما بات السليم مسهدا

وهي قصيدة نحلت عليه، و لا يمكن أن تكون من شعر هذا الشاعر الذي لم يتعود على التعمق في جزئيات أمور الدين. ثم ان القسم الخاص بمدح النبي من هذه القصيدة وبأحكام الإسلام ضعيف الحبك، لا يتناسب مع المطلع ولا مع شعر الأعشى الآخر، ولهذا ذهب أكثر المعاصرين إلى انها من الشعر المصنوع. وفيها أمور من المحرمات لا يمكن أن يكون الأعشى قد وقف عليها.

ومما جاء في هذه القصيدة: ألا أيهذا السائلي أين يمـمـتٌ  فإن لها في أهل يثرب موعدا 

فآليت لا أرثي لهـا مـن كـلالةٍ  ولا من حفي، حتى تلاقي محمدا

متى ما تُناخي عند باب ابن هاشـم  تراحي، وتلقي من فواضلـه يدا

أجدَّكَ لم تسمع وصَاةَ مـحـمـد  نبي الإله حين أوصى وأشـهـدا

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقـى  وأبصرت بعد الموت من قد تزودا 

ندمت على أن لا تكون كمـثـلـه  وأنك لم ترصد لما كان أرصـدا

فإياك والميتات لا تقربنها=ولا تأخذن سهماً حديداً لتقصدا ولا تقربنَّ جارة إن سـرّهـا  عليك حرام فانكحن أو تأبـدا

نبي يرى ما لايرون، وذكـرُهُ  أغار لعمري في البلاد وأنجدا 

وأنت إذا قرأت هذه الأبيات والأبيات الأخرى التي لم أذكرها، فستخرج جازماً انها من الشعر المصنوع المنحول على الأعشى, ففيها نهي عن أكل الميتة، وعن عبادة الأوثان، والحث على الصلاة، وعلى ايصال السائل المحروم، وغير ذلك من آراء اسلامية، تجد جذورها في القرآن.

وذكر أن الأعشى سمّى قصيدته المحكمة حكيمة، أي ذات حكمة. فقال: وغريبة تأتي الملوك حكيمة  قد قلتها ليقال من ذا قالها

وقال بعض علماء الشعر: الأعشى أغزل الناس في بيت، وأخنث الناس في بيت، وأشجع الناس في بيت، فأغزل بيت قوله: غرّاء فرعاء مصقول عـوارضـهـا  تمشي الهويني كما يمشي الوجي الوحل 

وأخنث بيت قوله: قالت هريرة لما جئتُ زائرهـا  ويلي عليك وويلي منك يا رجل 

وأشجع بيت قوله: قالوا الطرّاد فقلنا تلك عادتنا  أو ينزلون فإنا معشر نزل

ومن جيد شعره قوله: عهدي بها في الحيّ قد دُرّعت  صفراء مثل المُهرة الضامرِ

لو أسندت ميتاً إلى نحـرهـا  عاش ولم يُنقل إلـى قـابـر

حتى يقول الناس مـمـا رأوا  يا عجباً للمـيت الـنـاشـر

وكان الأعشى سليط اللسان، إذا هجا أقذع، شديداً في هجائه، لذلك كان الناس يخشون جانبه، ويرهبون لسانه، وكان مدّاحاً، يمدح فينال عطاء الممدوحين. وله أسلوب خاص في نظم الشعر، وفي العرض والسبك، وموسيقى النظم، وفي شعره طلاوة، وفي أبياته حلاوة. وقد أبدع في أمور، منها وصف الخمر، ووصف الحمر الوحشية، ولا نجد في شعره مكانة للأطلال والديار، وهو يطيل في النسيب.

ومن أمثلة ما يروونه عن أثر شعره في الناس، ان رجلاً بائساً مسكيناً اسمه "المحلّق"، كان والد ثمان بنات، و لايملك شيئاً سوى ناقة، سمعت زوجته بذكر الأعشى وبمروره منهم في طريقه إلى سوق "عكاظ"، فأشارت على زوجها أن يركظ إلى الأعشى ليستضيفه، لعله يمدحه، فيزوج بناته وينال شرف مديحه بين الناس. ففعل، وذبح ناقته الوحيدة وأكرمه مع بناته غاية الإكرام، فلما علم الاعشى بسوء حاله، أعدّ له قصيدة، ألقاها في عكاظ، مطلعها: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة  إلى ضوء نار في يفاع تحرق 

فلما رأى الناس "المحلق"، وقد حيّاه الإعشى، أقبل الناس يخطبون منه بناته، فما قام من مقعده حتى خطبت بناته جميعاً.

ولعلّ خفة عروض شعر الإعشى ومرونته، وما في شعره من ترنيم ورنين، وما فيه من سهولة، تدل على براعة في الشعر، هي التي حملت بعض علماء الشعر على تقديمه على غيره، أو على رفع مكانته بوضعه في طبقة الشعراء الفحول من الطبقة الاْولى، غير أن من العلماء من انتقد شعره، وانتقد اكثاره من ادخال الاْلفاظ الاْعجمية في نظمه.

وكان للاْعشى راوية اسمه "عبيد"، كان يصحبه ويروي شعره، وكان عالماً بالإبل. ومنه أخذ الرواة أخبار الأعشى وشعره. وكان "سماك" أحد الرواة المتصلين به، وعنه أخذ "حماد" الراوية أخباره عن الأعشى. وعنه أيضاً أخذ "شعبة بن الحجاج" أخباره عن "الأعشى". وعن"شعبة" روى "مؤرج بن عمرو السدوسي" "أبو فيد" أحد علماء البصرة المتوفي سنة "195 ه". وعنه أخذ "الرياشي" أخباره عن "الأعشى". و "الرياشي" هو "أبو الفضل" العباس بن الفرج مولى سليمان بن عليّ الهاشمي. وكان عالماً باللغة والشعر كثير الراوية عن "الأصمعي". وقد توفي الرياشي سنة "257 ه".

وقد شك علماء الشعر في صحة نسبة بعض الشعر إلى "الأعشى". فقد روى "أبو عبيدة" ان "أبا عمرو بن العلاء" زاد بيتاً على قصيدة: بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا  واحتلت الغمر فالجدين فالفرعا 

وهو البيت الثاني من هذه القصيدة. وروى غيره ان "حماد" الراوية، هو الذي دس ذلك البيت، ولم يطمئن "المرزباني" من هذه القصيدة، ثم هي "من الأشعار الغثة الألفاظ، الباردة المعاني، المتكلفة النسج، القلقة القوافي، المضادة للأشعار المختارة"، ما خلا ستة أبيات.

ولم يرض "المرزباني" عن قصيدة الأعشى الثانية المدونة في ديوانه، ومطلعها: لعمرك ما طولَ هذا الزمان  على المرء إلا عناءُ معـنّ

وفي شعره قصائد تعد من المصنوعات.

ويذكر أن الأعشى كان يهاجي شاعراً عرف ب"جُهُنّام"، وهو لقب "عمرو بن قطن" من بني سعد بن قيس بن ثعلبة، وذكر أنه هو القائل: أبوك قتيل الجوع قيس بن جندلٍ  وخالك عبدُ من خماعة راضع

قاله يهجو به الأعشى. إذ زعم أن والده دخل غاراً، فوقعت عليه صخرة، سدت فم الغار، فمات فيه من الجوع.

وفي حقه قال الأعشى: دعوت خليلي مسحلاً ودعوا له  جُهُنّام جدعاً للهجين المذمـم

وذكر ان "جهنام" تابعة للأعشى، أي شيطانه، كما يقال لكل شاعر شيطان.

والنابغة، هو "زياد بن معاوية بن ضباب" الذبياني، أبو أمامة وقيل "أبو ثمامة" و "أبو عقرب"، أحد شعراء الجاهلية المشهورين، ومن أعيان فحولهم المذكورين. عدّه بعض العلماء من الطبقة الأولى بعد "امرئ القيس".

وذكر أن الخليفة "عمر" قال: أشعر العرب النابغة. وأنه قال: "النابغة أشعر شعرائكم، وأعلم الناس بالشعر" أو أنه قال: "هذا أشعر شعرائكم"، وذلك لوفد كان قد قدم عليه، كان في جملة ما تحدث عنه موضوع الشعر، وموضوع أفضل شاعر جاهلي. وقد فضله "ابن عباس" على غيره أيضاً في رواية تنسب اليه. وذكر أن الشاعر "حسان بن ثابت" سئل من أشعر الناس? فقال: أبو أمامة، يعني النابغة الذبياني. وأن "أبا عمرو بن العلاء"، قال: "كان أوس بن حجر فحل العرب، فلما أنشأ النابغة طأطأ منه. وأنه قال أيضاً، وكان بعضهم قد ذكر النابغى وزهير: ما كان زهير يصلح أن يكون أخيذاً للنابغة، يعني راوياً عنه. وقال بعضهم: "كان النابغة أحسنهم ديباجة شعر وأكثرهم زونق كلام، وأجزلهم بيتاً، كان شعره كلاماً ليس فيه تكلف، ونبغ في الشعر بعدما احتنك، وهلك قبل أن يُهتر". "وقال أبو عبيدة: يقول من فضل النابغة على جميع الشعراء: هو أوضحهم كلاماً، وأقلهم سقطاً وحشواً، وأجودهم مقاطع، وأحسنهم مطالعَ، ولشعره ديباجة، ان شئت قلت: ليس بشعر كؤلف، من تأنثه ولينه، وان شئت قلت: صخرة لو رديت بها الجبال لأزالتها".

وذكر ان "النعمان" غني بشيء من دالية النابغة، فقال: هذا شعر علوي، أي عالي الطبقة أو من عليا نجد. وقيل عن شعره:" ينسب إذا عِشق ويثلِب إذا حنِق ويمدح إذا رغِب، ويعتذر إذا رهب". وقد قال الأصمعي فيه وفي غيره من الشعراء المشاهير: "كفاك من الشعراء أربعة: زهير إذا طرب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا غضب، وعنترة إذا كلب".

قيل انما سمي النابغة بقوله: فقد نبغت لنا منهم شؤون، وانه كان شريفاً فغض منه الشعر. وكان مع النعمان بن المنذر ومع أبيه وجدّه، وكانوا له مكرمين.

وروي ان أول ما تكلم به النابغة من الشعر، انه حضر مع عمه عند رجل، وكان عمه يشاهد به الناس ويخاف أن يكون عيباً، فوضع الرجل كأساً في يده وقال: تطيب كؤوسنا لولا قذاهـا  ويحتمل الجليس على أذاها 

فقال النابغة: وحمي لذلك: قذاها أن صاحبها بخـيل  يحاسب نفسه بكم اشتراها 

وقد أخذ عليه علماء الشعر تكسبه بشعره، فقد ذكروا ان العرب كانت لا تتكسب بالشعر، وانما يصنع أحدهم ما يصنع فكاهة أو مكافأة عن يد لا يستطيع على أداء حقها إلا بالشكر إعظاماً لها، حتى نشأ النابغة، فمدح الملوك وقبل الصلة على الشعر وخضع للنعمان بن المنذر، وكان قادراً على الامتناع منه بمن حوله من عشيرته أو من سار اليه من ملوك غسان، فسقطت منزلته، وتكسب مالاً جسيماً، حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة وأوانيه من عطاء الملوك. وفي هذا القول الذي لا يخلو من مبالغة، دلالة على ان النابغة قد كان موسراً نوعاً ما حسن الحال، وان قسماً من ثرائه قد جاء اليه من مدحه للملوك.

وقد رمي بالإقواء، فقيل انه كان يقوي في شعره، فعيب ذلك عليه، وأسمعوه في غناء: أمن آل مية رائح أو مغتـد  عجلان ذا زاد وغير مزوّد

زعم البوارح أن رحلتنا غدا  وبذاك خبّرنا الغداف الأسودِ 

ففطن فلم يعد. وذكر ان ذلك كان بيثرب. فقد كان قد دخلها فغنى بشعره، ففطن فلم يعد للإقواء.

وقد أخذ العلماء عليه بعض مآخذ، ذكرها "ابن قتيبة" في كتابه:"الشعر والشعراء"، وأخذوا عليه "الاكفاء" في بعض أشعاره.

ونفى "المعري" في رسالة الغفران أن تكون الكلمة التي أولها: ألمِا على الممطورة المتـأبـده  أقامت بها في المربع المتجرده 

مضمخة بالمسكِ مخضوبة الشوى  بدرٍ وياقوت لهـا مـتـقـلـده

من شعر النابغة، إذ يقول على لسانه: "ما أذكر أني سلكت هذا القري قط"، ثم ينسبها إلى رجل من بني ثعلبة بن عكابة.

والنابغة مثل غيره من أهل زمانه، كان يعتقد بالجن، فأشار في شعره إلى "جنة البقار". ونجد في شعر "زهير" إشارة إلى "جنة عبقرية"، و "جنة عبقر" مشهورة في أساطير الجاهليين. وذكر "لبيد" "جن البديّ". وهو ممن ذكر بعض القصص والأساطير في شعره، فقد ذُكر "النعمان بن المنذر"، بقصة زرقاء اليمامة، وهي قصة يظهر أنها كانت شهيرة وشائعة بين الجاهلين، ضربها مثلاً له، وذكر قصة الحية، وهي اسطورة في ذم الغدر والخيانة، ضربت مثلاً، لكل من يغدر، ومثل هذه الأساطير معروفة عند الأمم الأخرى، و لاسيما قصص الإنسان مع الجن، والحية من فصائل الجن في نظر أكثر الجاهليين. وكانت العرب تضرب أمثالاً على ألسنة الهوام.

ويظهر من الشعر المنسوب إلى النابغة انه كان لا يتبذل في مجون، و لا يسرف في هجاء، و لا يتدنى في سفاهة، وقد نسب بعض المستشرقين هذا الخلق الرفيع الذي نراه فيه إلى تنصره، مستدلين على رأيهم هذا بما ورد في شعره من أمور نصرانية، غير اننا لا نستطيع إثبات ذلك، كما اني لا أستطيع نفيها عنه مستشهداً بالبيت: فلا لعمر الذي قد زرته حجـجـاً  وما هريق على الأنصاب من جسد 

فالقسم عند الجاهليين لا يشير دائماً إلى عقيدة صاحب القسم، فقد نسب إلى "عدي بن زيد" العبادي القسم بمكة، ولم يكن من عبّاد الأصنام، ثم إن من المحتمل أن يكون من الشعر المصنوع، واني أرى ان ما نسب إلى "عدي" من هذا القسم موضوع عليه. فهو رجل نصراني، وكان الملك وثنياً، ثم صار نصرانياً، ولم يكن عبّاد الأصنام من عرب الحيرة يحجون إلى مكى حتى يقسم "عدي" بها مجاراة للوثنيين، ولذلك أرى ان هذا الشعر مصنوع عليه، صنع لإظهار ان الحج إلى مكة كان عاماً عند جميع العرب، حتى عرب العراق وبلاد الشام، وقد رأينا أن أهل الأخبار صيروا ملوك اليمن من أشد الناس تعلقاً بالكعبة، جعلوهم يحجون اليها، مع ان المسند يسخر من هذه الخزعبلات، كما اننا لا نسمع بحج أحد من عرب العراق أو بلاد الشام إلى مكة، ولو كانوا يحجون اليها لما سكت أهل الأخبار عن ذلك.

ونال النابغة الذبياني رزقاً كثيراً من النعمان بن المنذر. أعطاه مرة مئة ناقة من الإبل السود برعاتها، لإنشاده قصيدته التي يقول فيها: فإنك شمس والملوك كواكـب  إذا طلعت لم يبد منهن كوكب 

والإبل السود، هي أغلى وأثمن الإبل عند العرب. وكاد ملوك الحيرة يحتكرون هذه الجمال، ولا يسمحون لافتحال أحدٍ فحلاً أسود. ولهذا كان هذا الحباء الذي أغدقه النعمان على النابغة حباءً ثميناً وعطاءً كبيراً، وكان "النعمان" قد أعطى "النابغة" إبلاً وريشها، أي بما يصلحها من الآلة والثياب.

وروي عن الشاعر"حسان بن ثابت"، أنه رحل إلى "النعمان"، فلقي رجلاً فقال: أين تريد? فقلت: هذا الملك، قال: فإنك إذا جئته متروك شهراً، ثم يسأل عنك رأس الشهر، ثم أنت متروك شهراً آخر، ثم عسى أن يأذن لك، فإن أنت خلوت به وأعجبته فأنت مصيب منه، وان رأيت "أبا أمامة" النابغة فاظعن، فإنه لا شيء لك. قال: فقدمت عليه، ففعل بي ما قال، ثم خلوت به وأصبت منه مالاً كثيراً ونادمته، فبينا أنا معه في قبّة إذ جاء رجل يرجز حول القبة: أنمت أم تسمع ربّ الـقـبة  يا أوهب الناس لعنسٍ صُلٌبة 

ضراّبة بالمـشـفـر الأذبّة  ذات هباب في يدها جُلـبة

فقال النعمان: أبو أمامة! فأذنوا له، فدخل فحيّاه وشرب معه، ووردت النعم السود، ولم يكن لأحد من العرب بعير أسود يُعَلٌم مكانه، و لا يفتحل أحد فحلاً أسود، فاستأذنه أن ينشده، فأنشده كلمته التي يقول فيها: فإنك شمس والملوك كواكـب  إذا طلعت لم يُبد منهن كوكب  

فدفع اليه مائة ناقة من الإبل السود، فيها رعاؤها، فما حسدت أحداً حسدي النابغة، لما رأيت من جزيل عطيته، وسمعت من فضل شعره.

وذكر انه نادم المنذر الثالث والمنذر الرابع من ملوك الحيرة، وكان من المقربين جداً من النعمان بن المنذر، المعروف بأبي قابوس. ثم وقعت نفرة بينهما، أدت إلى هروب "النابغة" من "النعمان"، وذهابه إلى "عمرو بن الحارث" ملك غسان والى ابنه "النعمان بن عمرو". وسبب هروبه من ملك الحيرة على ما يزعمه أهل الأخبار، ان "النابغة" تجاسر فوصف "المتجردة" امرأة النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وتغزل بها، مما أثار غضب النعمان عليه، فخاف على نفسه، وفر إلى أعداء النعمان ملوك غسان. ويظهر ان النابغة، كان يتصل بالغساسنة ويراجعهم، وهم أعداء ملوك الحيرة، أو ان جماعة من حساد النابغة وأعدائه دسوا ذلك الوصف عليه، ونسبوه له، ورووه وأوصلوه إلى النعمان، وهو رجل عصبي المزاج، سريع التأثر والأخذ بأقوال الناس، فأراد الفتك به، فهرب النابغة إلى مكان يكون بمأمن فيه، وينال فيه التقدير، فوقع اختياره على أرض الغساسنة، وعاش في كنف عمرو بن الحارث، وفي ظل ابنه "النعمان". فلما مات "النعمان بن عمرو بن الحارث"، أخذ ينظم الشعر في مدح "النعمان بن المنذر"، وفي الاعتذار منه، وفي التنصل مما أتهمه به حساده، حتى عفى الملك عنه، فعاد إلى الحيرة، ولما مات "النعمان" في محبسه، رجع النابغة إلى قبيلته، وعاش بينها حتى مات هناك.

ولأهل الأخبار قصص في سبب وقوع هذه النفرة، فقال قوم: إنه هجاه فقال: ملك يلاعبُ أمه وقطـينـه  رخو المفاصل أيره كالمرود 

وهجاه أيضاً فقال قصيدة فيها: قبح اللـه ثـم ثـنـى بـلـعـنٍ  وارث الصائغ الجبان الجهـولا

من يضر الأدنى ويعجز عن ضر  الأقاصي ومن يخون الخـلـيلا

يجمع الجيش ذا الألوف ويغـزو  ثم لا يرزأ الـعـدوَّ فـتــيلا

ويقال إن هذا الشعر والذي قبله لم يقله النابغة، وإنما قاله على لسانه قوم حسدوه، منهم "عبد قيس بن خفاف" التميمي، ومنهم "مرة بن ربيعة بن قرثع" السعدي، "مرة بن ربيعة بن قريع" وهو الذي سعى إلى النعمان بالوشاية بالنابغة.

ويقال ان النعمان قال للنابغة وعنده المتجردة امرأته: صفها لي في شعرك يا أبا أمامة! فقال قصيدة ذكر فيها بطنها وعكنها ومتنها وروادفها وفرجها، وكان للنعمان نديم هو "المنخل" اليشكري، يتهم بالمتجردة ويظن بولد النعمان منها أنهم منه، وكان "المنخل" جميلاً، وكان النعمان قصيراً دميماً أبرش، فلما سمع المنخل هذا الشعر قال للنعمان: ما يستطيع أن يقول مثل هذا الشعر إلا من قد جرب! فوقر ذلك في نفسه، وبلغ النابغة ذلك فخافه فهرب إلى غسان، فصار فيهم، وانقطع إلى "عمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر الغساني"، والى أخيه النعمان بن الحارث، فأقام النابغة فيهم فامتدحهم، فغمّ ذلك النعمان، وبلغه أن الذي قذف به عنده باطل، فبعث اليه: إنك صرت إلى قومٍ قتلوا جدي فأقمت فيهم تمدحهم، ولو كنت صرت إلى قومك لقد كان لك فيهم ممتنع وحصن، إن كنا أردنا بك ما ظننت، وسأله أن يعود اليه، فقال شعره الذي يعتذر فيه. وقدم عليه مع "زبّان بن سيّار"، و "منظور بن سيار" الفزاريين، وكان بينهما وبين النعمان دخلل، فضرب لهما قبة، و لا يشعر أن النابغة معهما. ودس النابغة أبياتاً من قصيدته: يا دار ميّة بالعلياء فالسند 

فلما سمع النعمان الشعر، أقسم بالله انه لشعر النابغة، وسأل عنه فأخبر انه مع الفزاريين، وكلّماه فيه فأمنه. ويرى "بروكلمن" ان "النابغة" كان قد واصل بني غسان، فظن "النعمان" به الغدر، وعدم الوفاء له، وهرب النابغة منه، فوجد ملجأ في بلاط عمرو بن الحارث، رجع النابغة إلى الحيرة، ونال عفو أبي قابوس وحظوته من جديد، ولكنه لم يتمتع طويلاً بذلك، لموت أبي قابوس في سجن كسرى، فرجع إلى قبيلته "بني ذبيان"، حيث توفي بينها.

وقد مدح "النابغة" "عمرو بن الحارث" الغساني، والغساسنة بشعر حسن، يعّد من الشعر الحسن المتفوق في المديح، من جملة ما ورد فيه: مجلتهـم ذات الإلَـه ودينـهـم  قويم فما يرجون غير العواقـب

رقاق النعال طيب حجزاتـهـم  يحيّون بالريحان يوم السباسـب

تحييّهمُ بيض الـولائد بـينـهـم  واكسية الإضريح فوق المشاجب 

يصونون أجساداً قديماً نعيمـهـا  بخالصة الأردان خضر المناكب

و لا يحسبون الخير لا شرّ بعـده  و لا يحسبون الشر ضربة لازب 

حبوتُ بها غسان إذ كنت لاحقـاً  بقومي وإذا أعيت عليّ المذاهب

وهو مدح يختلف عن مدح شعراء البادية، فيه رقة وجمال، وفيه إبداع في وصف الغساسنة وهاداتهم في الاحتفال بأعيادهم النصرانية.

وتروى للنابغة خطبة، ذكر انه خاطب بها "الحارث" الغساني، ليفك له أسرى قبيلته.

ويروي ان العرب سألت النابغة أن يضرب قبة بعكاظ فيقضي بين الناس في أشعاهم لبصره بمعاني الشعر، فضرب قبة حمراء من أدم وأتته وفود الشعراء من كل أوب، فكان يستجيد الجيد من أشعارهم، ويرذل، فيكون قوله مسموعاً فيهم جميعاُ ومأخوذاً به. فكان فيمن دخل عليه "الأعشى" وحسان بن ثابت والخنساء، فأنشده الأعشى، ثم أنشده حسان، ثم أنشدته الخنساء، فقال النابغة مخاطباً "حسان": "لولا ان أبا بصير، يعني الأعشى، أنشدني لقلت انك أشعر الجن والأنس، فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومن أبيك ومنها!"، وهي قصة تروي بشرح أوفى، قرن بالأسباب التي دعت بالنابغة إلى تفضيل شعر الأعشى على شعر حسان. وهي قصة طعن في صحتها بعض علماء الشعر.

وللنابغة شعر في هجاء "زرعة بن عمرو" الكلابي، وكان لقي النابغة بعكاظ وأشار عليه أن يشير على قومه أن يغدروا ب"بني أسد"، وينقضوا حلفهم، فأبى عليه النابغة، فتوعده، فقال النابغة: نبتت زرعة والسفاهة كاسمها  يهدي إليّ غرائب الأشعـار

فحلفت يا زرع بن عمرو انني  مما يشق على العدو ضراري 

وله شعر يهجو به "عامر بن الطفيل" حيث يقول: فإن يك عامر قد قال جهـلاً  فإن مطيّة الجهل الشبـاب

فإنك سوف تحكم أو تناهـى  إذا ما شبتَ أو شاب الغراب 

يقول: هو معذور فإنه شاب، ثم قال: سوف تحكم إذا شخت، أو لعلك لا تحكم أبداً، حتى يشيب الغراب، وذلك لا يكون أبداً، وتحكم، أي تصير حكيماً. ويلاحظ أن هجاء النابغة هو هجاء مؤدب لا جهالة فيه و لا سفاهة، عف يؤثر في المهجو أكثر من أثر الهجاء الفاحش المليء بالسفاهة والسباب.

وقد نُعت شعراء آخرون بلفظة "النابغة"، غير النابغة الذبياني. منهم: النابغة الجعدي: قيس بن عبد الله الصابي، والنابغة الحارثي زيد بن ابان، والنابغة الشيباني: حمل بن سعدانة، والنابغة الذهلي: المخارق بن عبد الله، والنابغة ابن لؤي بن مطيع الغنوي، والنابغة العدواني، والنابغة ابن قتال بن يربوع الذبياني، والنابغة التغلبي الحارث بن عدوان.

وتبدأ معلقة "النابغة" بقوله: يا دار مَيَّة بالعلياء فالـسـنـدِ  أقوت، وطال عليها سالِفُ الأبد 

ولما تحدث "البغدادي" عن الشاهد التاسع والثمانين بعد المائة، وهو: كأنه خارجاً من جنب صفحته  سفود شرب نسوه عند مفتأد

قال: "وهذا البيت من قصيدة للنابغة الذبياني، يمدح بها النعمان بن المنذر، ويعتذر اليه فيها مما بلغه عنه". ثم قال: "وهذه القصيدة أضافها أبو جعفر أحمد بن محمد بن اسماعيل النحوي إلى المعلقات السبع لجودتها وقد أورد الشارح المحقق في شرحه عدة أبيات منها، وقبل هذا البيت: كان رحلي وقد زال النهـار بـنـا  بذي الجليل على مستـأنـس وحـد

من وحش وجرة موشّي اكـارعـه  طاوى المصير كسيف الصيقل الفرد 

وهي قصيدة نعتها "البغدادي" بأنها طويلة، ويبلغ عدد أبياتها في المعلقات "50" بيتاً. وقد ورد فيها اسم النبي "سليمان"، ذكر انه انما ذكره فيها، لأنه كان له الملك مع النبوة، يريد انه لا يشبهه أحد ممن أوتي الملك إلا سليمان النبي. وتعّد من أحسن شعر النابغة، "ولهذا ألحقوها بالقصائد المعلقات".

ومن شعر النابغة قوله: فلا زال قبر بين تبني وجاسم  عليه من الوسمي طل ووابل 

فبينت حوذاناً وعوفاً منـوراً  سأتبعه من خير ما قال قائل

وذلك على مذهب العرب المعروف في ذلك، لأنهم كانوا يستسقون السحائب لقبور من فقدوه من أعزائهم، ويستنبتون لمواقع حفرهم الزهر والرياض. ويجرونه مجرى الاسترحام، ونسب "ابن الأعرابي" إلى "علي" قوله: "إن العرب انما تستسقي القبور لأنها إذا سقيت وعمّ الفطر أعشب المكان، فحضره القوم للرعي، وترحموا على الموتى".

وكان النابغة صديقاً لزهير بن أبي سلمى، "روى هشام بن المنذر قال: قال زهير بن أبي سُلمى المزني بيتاً ثم أكدى، ومر به النابغة الذبياني فقال له: أجز، قال: ماذا? قال: تزال الأرضُ إمـا مـتَ خــفـــاُ  وتـحـيا مـا حـييت بـهـا ثـقـيلا

نزلت بمستقر العز منها . . . . . . . . 

فماذا قال? فأكدى والله النابغة أيضاً، وأقبل كعب بن زهير وهو غلام، فقال له أبوه: أجز يا بني، فقال: ماذا? فأنشده البيت الأول، ومن الثاني قوله: بمستقر العز منها، فقال كعب: فتمنع جانبيها أن تزولا 

فقال زهير: أنت والله ابني".

و"عبيد بن الأبرص بن عوف بن جشم بن عامر بن زهير بن مالك بن الحارث" الأسدي، شاعر مفلق من فحول شعراء الجاهلية. وكان معاصراً لامرئ القيس، إذ يروي أهل الأخبار له قصيدة يخاطب بها امرأ القيس بن حجر، أولها: يا ذا المخوفنا بقـت  ل أبيه إذلالاً وحينا

أزعمت أنك قد قتل  ت سراتنا كذباً ومينا 

أو أنه قال: يا ذا المخوفنا بمقتل شيخـه  حُجرٍ تمنى صاحب الأحلام 

يخاطب به امرأ القيس الشاعر، الذي هدد "بني أسد" قتلة أبيه، فأجابه عنهم بأن جعل وعيده كاذباً وما تمناه من الإيقاع بهم، كأضغاث أحلام. فهو اذن من الرعيل القديم من الشعراء المعاصرين لامرئ القيس.

وذكر انه القائل: سائل بنا حجر بن أم قطام إذ  ظلت به السُمر الذوابل تلعب 

وقد قدمّه بعض علماء الشعر، فجعله من طبقة "امرئ القيس"، وجعله بعضهم من الطبقة الرابعة من فحول الجاهلية، وقرن به طرفة، وعلقمة بن عبدة، وعدي بن زيد. وأجود شعره قصيدته التي يقول فيها: "أقفر من أهله ملحوب". وهي احدى السبع. وجعلوه في عداد المعمرين، فجعل "ابن قتيبة" عمره يوم قتل أكثر من ثلاثمائة سنة. وجعل "السجستاني" عمره مائتي سنة وعشرين، ثم استدرك المقدار وقال: "ويقال بل ثلثمائة سنة". ولكي يثبتوا صحة دعواهم في انه عاش هذا العمر، رووا له شعراً زعموا انه قاله، هو: ولتأتين بعـدي قـرون جـمة  ترعى محـارم أيكة ولـدودا

فالشمس طالعة وليل كاسـف  والنجم يجري أنحساً وسعـودا

حتى يقال لمن تعرق دهـره  يا ذا الزمانة هل رأيت عبيدا

مائتي زمان كامل وبـضـعة  عشرين عشت معمراً محمودا 

أدركت أول ملك نَصرٍ ناشـئاً  وبنـاء شـدّاد وكـان أبـيدا

وطلبت ذا القرنين حتى فاتني  ركضاً وكدت بأن أرى داودا

ما تبتغي من بعد هذا عـيشة  ألا الخلود ولن تنال خـلـودا

ولفنين هذا وذاك كـلاهـمـا  إلا الإله ووجهه المعـبـودا

وزعم أنه هو القائل: فنيت وأفناني الزمان وأصبحت  لداني بنو نعش وزهر الفراقد

وأنه القائل: تذكرت أهل الخير والباع والـنـدى  وأهل عتاق الخيل والخمر والطيب

فأصبح مني كـل ذلـك قـد خـلا  وأي فتى في الناس ليس بمكـذوب

ترى المرء يصبو للحياة وطيبـهـا  وفي طول عيش المرء برح بتعذيب 

وهو شعر لو أخذنا بحكم من ذكروا فيه، إذن وجب أن يكون عمر "عبيد" قد جاوز الألف سنة بكثير، ويكون أهل الأخبار قد ظلموه، إذ جعلوا عمره أكثر من ثلثمائة سنة، وهو دون هذا العمر بكثير.

وزعم أن "المنذر بن امرئ القيس بن ماء السماء اللخمي" المعروف ب"ذي القرنين"، لقي "عبيد بن الأبرص" في يوم بؤسه، وكان يقتل أول من يرى في يوم بؤسه، فلما رآه قال له: هلاّ كان المذبوح غيرك يا عبيد! فقال: أتك بجائن رجلاه، وأرسله مثلاً، فقال له: أنشدني يا عبيد؛ فربما أعجبني شعرك! فقال: حال الجريض دون القريض، وبلغ الحزِام الطبيين. وأرسلهما مثلاً، وبقي يسأله وهو يجيب، فيصير جوابه مثلاً، حتى أمر بقتله، فقال: وخيّرني ذو البؤس في يوم بـؤسـه  خِصالاً أرى في كلها الموت قد برق 

كما خُيّرت عادُ من الـدهـر مَـرّة  سحائب ما فيها لـذي خـيِرة أنـق

سحائبَ ريح لو تـوكّـل بـبـلـدة  فتتركها إلاّ كمـا لـيلةِ الـطـلـق

وزعم أنه سأله أي قتلة تختار? قال عبيد: أسقني من الراح حتى أثمل، ثم أفصدني الأكحل، ففعل ذلك به، ولطخ بدمه الغريين.

وقد أخطا "ابن قتيبة"، إذ جعل قاتله "النعمان بن المنذر"، بينما هو "المنذر بن ماء السماء"، في الموارد الأخرى.

ولعبيد بن الأبرص شعر يتباهي فيه ببني أسد قومه، من ذلك قوله: فاذهب اليك فإني من بني أسـد  أهل القباب وأخل الجرد والنادي 

وبقباب الأدم تتفاخر العرب، وللقباب الحمر قالوا: مضر الحمراء، والجرد: الخيل القصيرة الشعر، وانما ذكر النادي لأن النادي من سيماء السيادة والرئاسة وضخامة القبيلة، حيث يجتمع ساداتها فيه.

وله قصيدة قالها متشكياً فيها من إعراض صاحبته عنه، إذ رأته وقد كبر وصار شيخاً، تغير لون شعره، وعلا الشيب مفرقيه، وقلّ ماله، منها هذه الأبيات: تلـك عـرسـي غـضـبـــى تـــريد زيالـــي  ألـــبـــين تـــــــريدُ أم لـــــــدلالِ

إن يكن طلبك الفراق فلا أحفلُ أن تعطفي صدور الجمال 

أو يكن طِبُّك الدلال فلو في  سالـف الـدهـر والـلـيالـي الــخـــوالـــي

كنـتِ بـيضـــاء كـــالـــمـــهـــاة وإذ آ  تيك نـــشـــوان مُـــرخـــياً أذيالـــــي

فاتـركـي مـطّ حـاجــبـــيك وعـــيشـــي  معـنـا بـالـــرجـــاء والـــتـــأمـــال

زعـمـت أنـــنـــي كـــبـــرتُ وأنـــي  قل مـالـي وضـن عـنــي الـــمـــوالـــي

وصحا باطلي وأصبحت شيخاً=لا يُؤاتي أمثالها أمثالي إن تريني تغيّر الرأس منـي  وعلا الشيب مفرقي وقذالي 

الفصل الستون بعد المئة
الشعراء الصعاليك

قال صاحب "اللسان":"الصعلوك: الفقير الذي لا مال له، زاد الأزهري: و لا اعتماد. وقد تصعلك الرجل إذا كان كذلك، قال حاتم طيْ: غنينا زماناً بالتصعلكِ والغـنـى  فكلاّ سقاناه، بكأسيهما الـدهـرُ

فما زادنا بغياً علـى ذي قـرابة  غنانا، و لا أزرى بأحسابنا الفقر

"والتصعلك: الفقر. وصعاليك العرب: ذؤبانها. وكان عروة بن الورد يسمى: عروة الصعاليك لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مما يغنمه"، وقيل: الصعلوك: الفقير، وهو أيضاً المتجرد للغارات". والصعاليك، قوم خرجوا على طاعة بيوتهم وعشائرهم وقبائلهم، لأسباب عديدة، منها عدم إدراك أهلهم أو قبيلتهم نفسياتهم، مما سبب إلى نفورهم منهم، وخروجهم على طاعة مجتمعهم، وهروبهم منه، والعيش عيشة الذؤبان، معتمدين على أنفسهم في الدفاع عن حياتهم، وعلى قوتهم في تحصيل ما يعتاشون به، بالإغارة على الطرق والمسالك، وبمهاجمة أحياء العرب المبعثرة، أفراداً أو طوائف. وهم أبداً في خوف من متعقب يتعقبهم، لاسترداد ما أخذ أو سلب، ومن متربص يتربص بهم الدوائر، ليأخذ منهم ما غنموه بالقوة من غيرهم أو ما قد يجده في أيديهم. ولهذا كانوا يتكتلون أحياناً، بانضمام بعضهم إلى بعض، مكونين جماعات، جمعت بينها وحدة الهدف، وغريزة حماية النفس، والمصلحة المشتركة، بعد أن حرمهم أهلهم ومجتمعهم من تقديم أية مساعدة أو حماية لهم، وسحب منهم حق الأخذ بالثأر والانتقام ممن قد يعتدي عليهم، بحق "العصبية"، وبعد أن جعل دمهم هدراً، وتبرأ منهم ومن كل جريرة يرتكبونها، فلا يطالب أهلهم بدمهم، و لا يطالبونهم بأي دم قد يسفحه الصعلوك.

و لا استبعد أن تكون للمغامرة ولاثبات الشخصية، دخل أيضاً في حدوث الصعلكة وفي تمرد الشباب على مجتمعهم، على غرار ما نجده اليوم من تمرد على مجتمعاتهم، لإثبات وجودهم وشخصيتهم في هذه المجتمعات، بطريقة العبث بالعرف والعادات وبعدم المبالاة لأوامر العائلة والمجتمع، مما يجعلهم يسيرون سيرة الصعاليك في ذلك الوقت، فلو نظرنا إلى حالة الصعاليك نجد أن منهم من كان من أسرة متمكنة أو لا بأس بأحوالها المالية، ومع ذلك عاش صعلوكاً، لما وجد فيها من مغامرات ومجازفات ومطاردة وهجوم ودفاع. فحب المغامرة، وإثبات الشخصية، من أسباب الصعلكة في الجاهلية كذلك.

والصعاليك بعد، حاقدون على مجتمعهم، متمردون عليه، للأسباب المذكورة، نبتت في أكثرهم عقد نفسية، تكونت عندهم من سوء معاملة المجتمع لهم، ومن سوء فعلهم وتصرفهم الخاطئ تجاه مجتمعهم، فهم حاقدون لا يبالون من شيء ولو كان ذلك سلباً ونهباً وقتل أبناء قبيلتهم وعشيرتهم، لأنهم خلعوا منها، وحرموا من حق الدم، فكان خلعها لهم سبب شقائهم وبؤس حياتهم، فأي حق بقي إذن يمنعهم من الحقد على القبيلة ومن مهاجمة العشيرة? ثم إنهم حاقدون على مجتمعهم، لأن منهم فقراء معدمين، لاشيء عندهم يعتاشون عليه، ولا ملابس لديهم تقيهم من الحر أو البرد أو المطر، وكل ما تقع أعينهم عليه، هو مفيد لهم نافع، ومن حقهم بحكم فقرهم انتزاعه من مالكه، وإن كان مالكه فقيراً معدماً مثلهم، لأن النفس مقدمة على الغير، وهم يعيبون الخامل منهم، الذي يعيش صعلوكاً ذليلاً قانعاً بما كتب عليه من الذل والتشرد، عائشاً على صدقات الناس، ويرون الخلاص من هذا الذل بالحصول على المال بالقنا وبالسيف، فمن استعمل سيفه نال ما يريد، لا يبالي فيمن سيقع السيف عليه، وإلا عدّ من "العيال". قال "السليك": فلا تصلي بصعلـوك نَـئوم  إذا أمسى يُعد من الـعـيال

ولكن كل صعلوك ضـروبٍ  نبصل السيفِ هاماتِ الرجال 

"ولذلك كان صعاليك العرب ولصوصهم وأرباب الغارة منهم يرون أن ما يحوونه من النعم بالغارة، وينالونه بالسرق والسلة، إنما ذلك مال منعت منه الحقوق، ودفع عنه بالبخل والعقوق، فأرسلهم الله اليه وسببه لهم رزقهم إياه، كما قال عروة الصعاليك: لعلّ انطلاقي في البلاد وعزمتي  وشديّ حيازيم المطيّة بالرحـل

سيدفعني يوماً إلى رب هجـمة  يدافع عنها بالعقوق وبالبخـل"

"وكما ان فيهم من يمتدح ببذل القرى ومعاناة الطوى، وتحمل الكلفة ومواساة ذوي الخلة، فكذلك فيهم البخيل الجامع، واللئيم الراضع، ومن يؤثر التفرد بناره والاستئثار بزاده دون ضيفه وجاره. وينشد لبعضهم: أعددت للأضياف كلباً ضارياً  عندي وفضل هراوة من أرز 

وقال الآخر: وإني لأجفو الضيف من غير بغضة  مخافة أن يغري بـنـا فـيعـود

وقال الأصمعي: مَرَّ ابن حمامة بالحطيئة، فقال: السلام عليك. قال: قلت ما لاينكر. قال: إني أردت الظل. قال: دونك، والجبل حتى يفيء عليك. قال: اني خرجت من عند أهلي بغير زادٍ. قال ما ضمنت لأهلك قراك. قال: اني ابن حمامة. قال: كن ابن نعامة. فمضى عنه آيساً.

قال: وخرج الحطيئة يوماً من خبائه وبيده عصا، فقال له رجل: ماهذه? قال: عجراء من سلم. قال: اني ضيف. قال: للضيف أعددتها".

والحطيئة من الملحفين في السؤال المستجدين الذين لا يخجلون من الاستجداء. فكان يلح في شعره بالطلب، ويحاول بكل الطرق جمع المال، حتى أهان نفسه، ولم يترك رجلاً معروفاً إلا ذهب اليه يسأله أن يعطيه مما عنده. فلما عيّن "عمر" "علقمة بن علاثة" على حوران، قصده "الحطيئة"، فوجده قد مات، فقال: وما كان بيني لو لقيتك سالماً  وبين الغنى إلا ليال قـلائل

فأعطاه ولده مائة ناقة مع أولادها.

وقد عاب "الأعشى" "علقمة بن علاثة"، بقوله: تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم  وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

وقد وجد الصعاليك في الأغنياء البخلاء، هدفاً صالحاً لهم. فهؤلاء أصحاب مال، وهم أصحاب جوع، و لا بد للجوعان من أن يعيش، فلم يجدوا في مباغتة الأغنياء أي حرج يمنعهم من السطو على أموالهم، لأنها زائدة عليهم، وهم في حاجة إليها، وبذلك يضمنون لأنفسهم ولاخوانهم الجياع الصعاليك أسباب الحياة، فالحاجة عندهم تبرر الواسطة، وإذا امتنع إنسان على صعلوك وأبى تسليم ما عنده اليه، فهو لا يبالي من قتله، فالقتل ليس بشيء في نظره، منظره مألوف، والفقر ذاته قتل للإنسان، بل أشد فتكاً به من القتل، والصعلوك نفسه لا يدريّ متى يقتل، فلا عجب إذا ما رأى القتل وكأنه شربة ماء.

وكان "أبو عبيدة"، لا يستأنس بسماع شعر الصعاليك، لأنهم فقراء، قال "أبو حاتم": "جئت أبا عبيدة يوماً، ومعي شعر عروة بن الورد، فقال: فارغ حمل شعر فقير ليقرأه على فقير"، فهو من المحبين للأغنياء، وما الذي يجنيه من الفقراء! وكان "أبو مالك عمرو بن كركرة" البصري، مثل "أبي عبيدة" في الابتعاد عن الفقراء، بل كان أشد منه تعصباً عليهم، "قال الجاحظ: كان أحد الطياب، يزعم أن الأغنياء عند الله أكرم من الفقراء. ويقول إن فرعون عند الله أكرم من موسى". و " ابن كركرة" أعرابي، وكان مرجع الأعراب الوافدين إلى البصرة، وقد تحدث عنه "الجاحظ" في كتبه.

وقد عرف الصعاليك ب"الذؤبان" وب"ذؤبان العرب"، "ذؤبان العرب لصوصهم وصعاليكهم وشطارهم الذين يتلصصون ويتصعلكون، لأنهم كالذئاب". وعرفوا باللصوص لأنهم كانوا يتلصصون. واللص السارق، في لغة طيء، وقيل لهم: "الشّطار". "والشاطر من أعيى أهله ومؤدبه خبثاً ومكراً، جمعه الشطار كرمان. وهو مأخوذ من شطر عنهم، إذا نزح مراغماً. وقد قيل انه مولد". وعرفوا ب"الخلعاء"، والخليع الشاطر، "وهو مجاز سمي به" لأنه خلعته عشيرته وتبرأوا منه، أو لأنه خلع رسنه. ويقال "خلع من الدين والحياء". "وكان في الجاهلية إذا قال قائل منادياً في الموسم: يا أيها الناس! هذا ابنب قد خلعته، وذلك إذا خاف منه خبثاً أو خيانة، أو من هو بسبيل منه، فيقولون: إنا قد خلعنا فلاناً، أي فإن جر لم أضمن، وإن جر اليه لم أطلب. يريد تبرأت منه. وكان لا يؤخذ بعد بجريرته وهو خليع". و "الخلعاء" جماعتهم. "واختلعوه إذا ذهبوا بماله". ولعل لهذا التفسير صلة بالصعلكة التي تعني الفقر، فالفقر والإملاق والجوع من أهم الملازمات التي لازمت ورافقت الصعاليك، وفي هذا المعنى أيضاً ما جاء في كتب اللغة: "وشفر المال تشفيراً: قلّ وذهب"، ولعل للفظة "الشنفري"، صلة بهذا المعنى، وقد تكون للفظة "الرجل" التي تعني البؤس والفقر، صلة بهذا المعنى كذلك. فقد عرف الصعاليك ب"الرجليين" وب"الرجيلاء"، وعرف الواحد منهم ب"الرجليّ"، وقد تكون للفظة "الخلع" صلة بالفقر والإملاق كذلك، بدليل ما ذكروه في تفسير "المعيل" من قولهم: "المعيل: الذي قصر ماله وعليه عيال". وقد عرف الصعاليك ب"الرجليين" لاستعمالهم أرجلهم في الإقدام والهروب، لأنهم فقراء لا يملكون غير أرجلهم تحملهم إلى المواضع التي يريدون سرقتها، إذ لا خيل لهم يركبونها لعجز أكثرهم عن شرائها، فلا يكون أمامهم غير الاعتماد على الرجل.

والجوع حليف ملازم للصعاليك، لم ينفر منهم، ولم يبتعد عنهم لذلك كثر الحديث عنه في شعرهم وفي أخبارهم. وقد كانوا يهربون منه، لكنهم لم يفلتوا منه. فقد كان ممسكاً بهم، ملازماً لهم، ما داموا صعالكة، فالجوع نفسه جزء من أجزاء الصعلكة. وفي شعر "عروة بن الورد" أن الجوع كان ينزل به، حتى يكاد يهلكه، أنزل به الهزال، وأراه الموت، لولا أنه كان يتهرب منه بالغارة، لينال منها البلغة، فالمنايا خير من الهزال المقيت المميت. وفي شعر للسليك بن السلكة، أن الجوع كان يغشاه في الصيف، حتى كان إذا قام تولاه اغماء شديد، يريه الدنيا ظلاماً من أثر الجوع.

وما دامت حياة الصعلكة جوع وفقر، وإملاق وهروب من متعقب، فالموت خير للصعلوك من حياة يعيشها فقيراً، لا أقارب له تعطف عليه، ولا أهل يشفقون عليه، ولا قوم يراجعونه ويتعهدونه بالحمايو، حياته موحشة قاسية، تفور بالأخطار والتهلكة والمغامرات، لا يدري متى يأتيه الموت ومن أين يأتيه، إذا نام، خاف من غادر قد يغدر به، ومن متعقب يتعقب أثره، ومن طالب ثأر يريد الأخذ منه، ومن حيوان صعلوك مثله، يريد أن يقضي على جوعه بافترسه، وهو معذور في ذلك لأنه جائع لا طعام له، ومن هنا هان الموت في نظر الصعلوك، فهو معه يتبعه مثل ظله وملازم له، وتولدت في نفسه فلسفة "الآجال": فلسفة ان لكل نفس أجل، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن الإنسان مهما عاش وعمر، فلا بد من أن يلاقي الموت ويستجيب له، لن ينجيه منه قصر "ريمان"، و لا حرس أبوابه المدججون بالسلاح، يمنعون الناس من دخوله، فالموت لا يعرف حرس القصور و لا يحول بينه وبين من يريد الوصول اليه حائل مهما كان. قال أبو الطمحان القيني: لو كنتُ في ريمان تحرس بابه  أراجيل أحبوش وأغضف آلف 

إذن لأتتني حيث كنت منيتـي  يخبّ بها هاد بأمـري قـائف

ولقرب الموت من الصعاليك، ولتعقب أصحاب الثأر دوماً لهم، لازموا سلاحهم، فكانوا لا ينامون إلا وسيفهم معهم. كما لازمهم الرقاد والسهر بالليل، خشية مباغتة غادر لهم، والليل رفيق الغدر. لذلك كان ليلهم قصيراً، ونومهم قليلاً، من شدة قلقهم ومن تحسبهم لتعقب طلاب الثأر لهم، ونجد في شعرهم اشارات إلى مظاهر القلق الذي كان يستولي عليهم، فيحول بينهم وبين النوم.

ونجد في شعر للشنفري توجع وتألم ومرارة، وإن صيغ بصورة الاستهتار بالموت وبالحياة، فهو إن جاءه الموت، فلن يبالي، ولمَ يبالي، وهو انسان خليع بائس، إن مات لا يجد من يبكي عليه أحد. فأي توجع أشد من هذا التوجع المصوغ في هذا البيت الساخر: إذا ما أتتني ميتتي لم أبـالـهـا  ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي 

ولكن الحياة على ما فيها من مرارة وشقاء، مطلوبة محبوبة، فربَّ لحظة فيها حبور تنسي كل ما كابده الإنسان من تعاسة وشقاء، والموت مكروه ممقوت، وإن تمنّاه المتمني، وما تمنيه له إلا لثورة طارئة في النفس ولضيق في الصدر، فإذا بان الموت لمتمنيه ضاق صدره، وتمنى لو مد في عمره. يدفعه الأمل إلى التفكير في احتمال تغير الأوضاع، وتحسن الحال، والحصول على الغنى والمال، بشرط أن يسعى ويضرب في الأرض وأن يكون صادق العزيمة، لا يخور أمام المصائب مهما كانت شديدة و لاينهار منها: فسرٌ في بلاد الله والتمس الغنى  تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا

وقد كان عماد الصعلوك في حياته، قوته الجسدية وسلاحه الذي يحارب به، وجماعته الذين يأوي اليهم، وكان يقاتل بضراوة، قتال المستميت، لأنه إن لم يدافع عن نفسه، هلك، إذ لا أمل له في وجود عصبية تدافع عنه، أو أهل يقومون بأفتدائه وتخليصه من أسر إن وقع فيه، وسبيله الوحيد لخلاصه عند قيامه بغارة: المباغتة والهرب بما قد يحصل عليه بسرعة، كي يأمن العاقبة، وعمل الحيلة في التخلص من المآزق، لكيلا يقع في ايدي متعقبه، فيكون بذلك هلاكه، وفي جملة ذلك الفرار، للنجاة بالنفس من موت محتم. وهو فرار يؤدي به إلى معاودة الغارة والتلصص، إذ مورد له في هذه الحياة يتعيش منه غير هذين الموردين. فحاله في هذا الفرار خال "ابي خراش" الهذلي حيث يقول: فإن تزعمي أني جبنت فـإنـنـي  لإر وأرمـي مـرة كـل ذلـك

أقاتل حتى لا أرى لي مـقـاتـلاُ  وأتجوا إذا ما خفت بعض المهالك 

ونظراً لفقر الصعاليك، وعدم وجود مالٍ لديهم يكفل لهم شراء فرس يركبونها في غاراتهم، اعتمد أكثرهم على أرجلهم في طلب رزقهم، وفي الحصول على معاشهم، وعلى خفة حركاتهم، وسرعتهم في الهروب من تعقب المتعقبين لهم في حالتي الفشل أو النجاح. وكان من بينهم من ضرب به المثل في زمانه في شدة العدو، وفي سرعة الركض، ورويت عنه الأقاصيص في ذلك. منهم "سليك بن المقانب بن السلكة"، وهو عدّاء بالغ. يقال: أعدى من السليك. وقد عرفوا لذلك ب"العدائين" لشدة عدوهم، جمع "عداء"، ومنهم أيضاً "الشنفي":"شاعر عداء. ومنه المثل"أعدى من الشنفري"، "وكان من العدائين. وفي المثل:أعدى من الشنفري". كماعرفوا ب"الرجليين"وب"الرجيلاء"، وهم "قوم كانوا يعدون. كذا في العباب. ونص الأزهري: يغزون على أرجلهم، الواحد رجلي محركه أيضاً ... وهم سليك المقانب، وهو ابن سلكة، والمنتشر بن وهب الباهلي، وأوفى بن مطر المازني"، "والرجلة بالفتح وبالكسر:شدة المشي، أو بالضم القوة علىالمشي، وفي المحكمكالرجلة بالضم المشي راجلاً". وقد صار العدو من أهم صفاتهم ومميزاتهم التي امتازوا بها عن غيرهم، حتى قيل إن الخيل لم تكن تلحق بهم. ونعتوا بأنهم كانوا أشد الناس عدواً، وانهم "لا يجارون عدواً"، و "ليلحقون". ومن العدائين:"تأبط شراً"، و "عمرو بن البراق"، و "أسيد بن جابر". وورد ان العرب كانت بالسليك المثل في العدو نتزعم انه والشنفري أعدى من رئى.

وضرب المثل بسرعة عدوهم، واتخذ القصاص من شدة عدو الصعاليك مادة أدخلوها في قصصهم، وبالغوا فيها لتناسب طابع القص واسلوبه، وقد وجد بعضه سبيلاً إلى كتب الأخبار والأدب والعجائب والنوادر. وتؤلف المبالغات في سرعتهم وعدوهم أهم عنصر في القصص الذي يتحدث عنهم، نجد فيها أن الصعلوك يسابق الخيل، فيسبقها، هذا "أبو خراش" الهذلي، يدخل مكة، فوجد"الوليد بن المغيرة" المخزومي، يهم بإرسال فرسين له إلى "الحلبة" فيقول له:ما تجعل لي إن سبقتهما? قال:إن فعلت فهما لك، فأرسلا وعدا بينهما فسبقهما فأخذهما". وهذا "تأبط شراً" يوصف بأنه "كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين، وكان إذا جاع لم تقم له قائمة، فكان ينظرالى الظباء، فينتقي على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه، فلا يفوته حتى يأخذه فيذبحه بسفه، ثم يشويه فيأكله". إلى غير ذلك من قصص وحكايات.

وقد فخر العداؤون بشدة عدوهم، وتباهوا بمقدرتهم على العدو السريع، حتى أنهم نشبوا سبب نجاتهم من الموت إلى عَدٌوهم هذا، لا إلى قتالهم وشجاعتهم، وبالغوا في شعرهم به، حتى ذكروا أنهم كانوا يسبقون الخيل والظباء بل الطير. هو نوع من "البطولة" في مفهوم الصعاليك، حتى أنهم -كما قلت-فضّلوه على الشجاعة، وإذا كانت الشجاعة ضرب من الإقدام وإظهار المقدرة والرجولية، فالركض فراراً، نوع من البطولة أيضاً، فيه مقدرة وشجاعة في ضبط الأعصاب وفي التصميم والإقدام على السلامة والنجاة بالنفس وبقاء الحياة وهكذا أوجدوا لفرارهم عذراً اعتذروا به، فهم إن اختاروا الفرار وفضلوه على المعاركة والقتال فإنما اختاروه لأن فيه أمل المعاودة إلى قتال جديد، ثم إنهم لا يرون سبباً يدعو الإنسان إلى أن يرمي نفسه في المهالك، وأن يكون طعاماً للوحوش الكاسرة. فليس الهرب جبن، وليس في الاقدام شجاعة، والعاقل من اتعظ فنجى نفسه من الموت، وفي النجاة شجاعة.

وقد كان لسرعة عدو الصعاليك العدائين فضل كبير عليهم في النجاة من المهالك المحتمة، هذا "تأبط شراً"، يذكر في شعر له انه وقع في فخ في موضع "العيكتين"، وكاد يهلك، لولا استعانته بالركض، ولا أحد أسرع منه، وبذلك نجا وخلص من الوقوع في داهية. فلا عجب اذن، إذا ما افتخروا بسرعة عدوهم، وجاهروا بما لأرجلهم من فضل ومنة عليهم. فلولا العدو لما خرج "أبو خراش" سالماً من موت كان قد أحاق به، ولكنه غلب الموت بشدة عدوه وهروبه منه، فعاد سالماً معافى إلى حليلته، فاستقبلته ابنته بقولها: "سلمتَ وما إن كدت بالأمس تسلم"، وأنقذ بذلك ابنه "خراش" من الوقوع في اليتم.

فلا عجب اذن، إن رأينا "الحاجز الأزدي"، يفدي رجليه بأمه وخالته، وهو فداء في نظرنا غريب، لكنه ليس بغريب، بالنسبة إلى انسان رجلاه رأسماله في هذه الحياة، بفضلهما سلم من المهالك، وحصل على قوته، ولولاهما لكان من الهالكين:   

فدى لكما رجليّ أمي وخالتي  بسعيكما بين الصفا والأثائب

وكان الصعاليك يغيرون فرساناً كذلك، كانوا يجيدون ركوب الخيا والإغارة عليها، وعدّ بعضهم من خيرة فرسان الجاهلية. ولعروة بن الورد فرس يسمى "قرمل"، وللسليك فرس يسمى "النحام"، وللشنفري فرس يسمى "اليحموم"، وقد عرفت هذه الأفراس بشدة عدوها.

والسلاح للصعلوك، هو الحماية الوحيدة التي يتقي بها أذى الناس، ويستعين بها في القضاء على خصمه، وهو السيف والقوس والرمح والدرع والمغفر، وكان لا يفارق سلاحه، لأنه لا يدري متى ينقض عليه عدوّ له فيقتله، فكان لا بد له من حمل سيفه معه، واعتناقه له حين نومه، وقد عد "عروة بن الورد"، و "عمرو بن براقة" السلاح رأسمالهما الذي يتكلون عليه في هذه الحياة.

ولصعوبة تصعلك الرجل بمفرده، يكتل الصعاليك كتلاً، وكوّنوا لهم فرقاً، تكوّنت من أشتات وأنماط من الرجال، فيهم الحرّ الثائر، وفيهم الضال الغاوي، وفيهم الأسود العبد، وفيهم القاتل الفاتك. وهم بالطبع من قبائل مختلفة ومن بطون متنافرة. فلا تجمعهم عصبية القبيلة، و لا نخوة العشيرة، ومع ذلك فبينهم رابطة قوية، ووحدة جمعت بينهم، هي وحدة الدفاع عن النفس، والذب عنها، والكفاح في سبيل المعيشة، بأي سبيل، وبأية طريقة وجدت ووقعت، حتى بالقتل. فمن وجد شخصاً ومعه مال، لا يجد الصعلوك والقاتل سبباً أخلاقياً يمنعه من قتله للحصول على ماله. فلما كان "عروة بن الورد" في أرض "بني القين" يتربص المارة، فمرت به إبل، فيها ظعينة ورجل يحرسها، خرج اليه "عروة" فرمى الرجل بسهم في ظهره، أرداه قتيلاً، وأستاق الإبل والظعينة. ولما خرج "الأخينس" الجهني فلقي "الحُصين" العمري، وكانا فاتكين، وسارا حتى لقيا رجلاً من كندة في تجارة أصابها من مسك وثياب وغير ذلك، طمعا به، فاغتره "الحصين" فضرب بطنه بالسيف فقتله، واقتسما ماله، ثم ركبا، وطمع "الأخينس" في مال "الحصين" فتربص به الفرص حتى أخذه على غرة فقتله واستولى على ما كان عنده، في حكاية تروى، وفيه يقول الأخينس على لسان "صخرة" أخت "الحصين": تساءل عن حصينٍ كل ركب  وعند جهينة الخبر اليقـين

فالفاتك لا يجد مانعاً أخلاقياً يمنعه من الفتك بأي شخص إن وجد عنده المال ووجد له فرصة مؤاتية، ثم هو لا يمتنع من الفتك حتى بزميله وصاحبه وشريكه في الإغارة والفتك، والتاجر لا يأمن من حراسه ومن مرافقيه حتى يصل مقرّه، لأن الفقر ى يعرف أخاً ولا صديقاً وشريكاً، قاتل الله الفقر ووقانا شرّه! ونجد "تأبط شراً"، يتبجح في شعر ينسب له، فيقول انه لا يبيت الدهر إلا على فتى أسلبه، أو على سرب أذعره. ونجد صاحب "لامية العرب"، إن صح أنها للشنفري، يصف غارة ملأت الرعب في قلب من وقعت عليهم، قام بها في ليلة باردة، عاد منها سالماً معافى بغنائم، وهو فرح بما تركه من قتل وسلب وألم في نفوس النساء والأطفال، إذ يقول: فأيمتُ نسوانا، وأيتمـت إلـدةً  وعدتُ كما أبدأتُ، والليل أليلُ 

ونجد "السليك" يخرج مع صعلوكين يريدون الغارة، فساروا حتى أتوا بيتاً متطرفاً، ووجد شيخاً غطى وجهه من البرد، وقد أخذته إغفاءة، ومعه إبله ترعى، فأسرع اليه وضربه بسيفه فقتله، ونهبوا إبله، وعادوا بها مسرعين فرحين، خشية شعور الحي بأمرهم وتعقبهم لهم. قتله دون أن يشعر بوخزة ضمير، لقتله انساناً نائماً طاعناً في السن يرعى إبله، وإن وجدناه يبرر فعلته هذه، بأنه لم ينل هذه الإبل إلا بعد أن صكه الجوع، واستولى عليه الفقر، فهو قد قام به مضطراً، والضرورات تبيح المحظورات.

ونرى "صخر الغيّ" المزني، يقول في شعر له، انه قتل رجلاً من "مزينة" وسلبه ماله، ليقوى به مال رجل فقير، لا يملك مالاً: في المزني الذي حششت به  مالَ ضريك تلاده النـكـد

وعلى الرغم من هذا العنف، ومن هذه القساوة العنيفة، التي تصل إلى الوحشية، نرى عند بعضهم، روحاً إنسانية، فيها العطف على الضعيف ومساعدة المحتاج وبذل المال والنجدة، والبر للأهل والأقارب بل وللغريب أيضاً. بل نجد هذه الروح أحياناً حتى عند القساة منهم، وسبب ذلك أن الصعالكة في ثورات نفسية، يعيشون عيشة قلقة مضطربة، فإذا كانوا في ثورة جامحة من جوع وحاجة وتألم بما حلّ بهم وبما هم فيه من سوء حال، هاجوا فكفروا بكا شيء، وثاروا على كل شيء وعلى كل أحد، وصاروا لا يبالون بعرف ولا سنة، يقتلون لأتفه الأسباب، لأنهم معرضون أنفسهم في كل لحظة للقتل. ثم إن القتل لا شيء بالنسبة إلى تلك الأيام، وان تعاظم في نظرنا. فهم في ذلك مثل الاْسود الجائعة، لا تعبأ بشيْ، وكل همّها الحصول على فريسة لتأكلها فتعيش عليها، فاذا وجد الصعلوك غنيمة، وعاد إلى مقره سالماً ارتخت أعصابه، وهدأت سورته، وتذكر نفسه وما يقاسيه من ألم وجوع، فيعود إنساناً آخر، باراً بأصحابه حنوناً عليهم، نادماً على حياة يعيشها جعلته يعيش مثل الوحوش الكاسرة، كريماً يعطي مما ناله بقوته وبسلاحه وبذكائه. هذا "عروة بن الورد" و "أبو خراش" الهذلي وغيرهما، نجد فيهم النقيضين، نجد فيهم القسوة بل الوحشية، ثم نجد فيهم العطف والشفقة والرحمة والاشفاق على الضعفاء، وما الجمع بين النقيضين إلا من واقع هذه الظروف النفسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والادارية التي كانوا يعيشون فيها.

وفي شعر ينسب إلى "أبي خراش" الهذلي، امتداح للكرم ولكرامة الإنسان في الحياة، وترفع عن المذلة وتباهٍ بإيثار الغير على نفسه، مع انه فقير صعلوك، فهو يقول: وإني أُثوي الجوعَ حتى يملـنـي  فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمي 

وأغتبق الماء القراح فأنـتـهـي  إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعـم

أراد شجاع البطن قد تعلمـينـه  وأوثر غيري من عيالك بالطعـم

مخـافة أن أحـيا بـرغـم وذلة  وللموتُ خيرُ من حياة على رغم

وقد عاش هؤلاء على المباغتة والغارات، فكانوا يتسترون في المواضع الوعرة، وفي مفارق الطرق وشعاب الجبال حتى إذا مر بهم مار، ووجدوا أن في إمكانهم الحصول على غنيمة، باغتوه، وأخذوا منه ما هو عنده. وقد يغيرون على الأحياء ليلاً، فيأخذون ما يجدنوه أمامهم، ثم يجرون بسرعة حتى لا يدركهم أحد، ليصلوا إلى مواضع آمنة بعيدة عن التعقيب، مثل الكهوف والمغاور والآكام، يأوون اليها ويعيشون بها عيشة الخائف المتشرد الهارب من مجتمعه، الحاقد عليه، لأن في قلبه حقداً عليه، لأنه لم يفهمه ولم يفهم سبب نقمته على مجتمعه. وأكثرهم من الشباب الذين خرجوا على طاعة أوليائهم أو على عُرف مجتمعهم، أو عوملوا معاملة أشعرتهم انها اذلتهم. وجرحت كرامتهم، فانفصلوا بذلك عن أهلهم وعشيرتهم أو فصلهم أهلهم عنهم، فلم يبق أمامهم من سبيل سوى التصعلك والتشرد.

وكان من هؤلاء مثل "عروة بن الورد" من جمع حوله الصعاليك، ولفّهم حوله، فكان يغزو بالقوي الجسر منهم، فإذا أصابوا مغنماً جاءوا به إلى أصحابهم الضعفاء ممن لا يتمكن أو لا يتجاسر على الغارة، فيصيبونهم مما أصابوا ويعينونهم بما غنموا، وحياة على مثل هذا الطراز، هي حياة شديدة قاسية و لا شك.

وقد كانت المرتفعات الصعبة المشرفة على المسالك والطرق الضيقة من أهم الأماكت المحببة إلى نفوس الصعاليك وقطاع الطرق، يحتمون بالمواضع المشرفة منها على الطرق لمراقبة المارة، من "مرقبة" تخفي معالمها لئلا يراها أو يفطن لوجودها سلاك الطرق، فاذا مروا بها انقضوا عليها منها، وكأنهم هبطوا عليهم من السماء. ونجد لها ذكراً في شعر الصعاليك واللصوص وقطاع الطرق. وقد اشتهر جبل هذيل بمرقباته، ورد: "والمرقبة جبل كان فيه رقباء هذيل".

ونجد في شعر "تأبط شراً" أنه كان يغير على "أهل المواشي" و "أهل الركيب" والحبّ، وعلى "أرباب المخاض"، فعند هؤلاء ما يطمع فيه الفقير الصعلوك من مال وحب يعتاش عليه، ومن نوق حوامل. ونرى "الأعلم" الهذلي، يذكر أنه يغزو المترف السمين، الذي يعيش بين الستائر والكنيف، بينما هو وأمثاله لا يملكون شيئاً، فاذا هاجموه، خاف وانهدّ كيانه. ولهذا صار الساكون في الأرضين الخصبة والتجار والسابلة من خيرة الأهداف التي كان يترصدها الصعالكة، لعلمهم بوجود شيء عند أصحابها، أكثر مما يجدونه عند الأعراف الضاربين في البوادي النائية المكشوفة.

ويطمع الصعاليك أيضاً بعضهم في بعض، فالحياة جوع وفقر، والفقر كافر لا يعرف عرف "المهنة" ولا مجاملات الصنف، ثم هم أبناء البادية، ومن طبع البادية، أن يغير أبناؤها بعضهم على بعض، للحصول على لقمة العيش، فكان الصعاليك تبعاً لهذه السنة يغير بعضهم على بعض، خاصة إذا كانوا صعاليك متعادية. فكان بين صعاليك هُذيل وصعاليك فَهم، عداء شديد، وحقد دفين، بسبب العداوة بين الحيين، عداوة مرجعها تجاور الحيين، واختلاف مصالحهما الحيوية، وطمع القبيلتين في "بجيلة"، و "بجيلة" في جوار "الطائف"، وهي غير بعيدة عن فهم، و لا تبعد منازلها بعداً كبيراً أيضاً عن ديار هذيل.

وكان بين "صخر الغي" الهذلي و "تأبط شراً" عداء شديد. وقد سمي "الهذلي" "تأبط شراً" ب"ابن ترني" ازدراء به. ونجد في الشعر الوارد في هجاء الشاعرين بعضهما لبعض لوناً طريفاً من ألوان هذا الصراع الذي كان يقع بين الصعاليك، وهو صراع أسبابه عديدة، صراع متولد من عصبية قبلية، أو من تنافس وتحاسد في الحرفة وعلى الرئاسة والزعامة والصيت والشهرة، أو في طمع كل واحد منهم في الآخر للاسيلاء على ما حصل عليه من مال ليتعيش به.

وقد انتشر الصعاليك في كل موضع من جزيرة العرب، ففي كل مكان منها جوع وفقر وصعلكة، حتى صاروا قوة مرعبة مخوفة، لشدة بأسهم في القتال، ولمعرفتهم بالمسالك وبمنافذ الطرق وبمداخلها وبأسرار البوادي وخفايا النجاد والجبال، فكانوا أن أتخذوا من الكهوف والمنحدرات والمسترات المشرفة على الأودية والطرق، مواضع صعباً، يمكن حصرهم به، انقضوا عليهم، فأخذوا منهم ما يكون عندهم من متاع هذه الدنيا، ثم هربوا بما غنموا إلى مخابئهم حيث لا يصل اليهم أحد، وإن وجدوا أن السابلة أقوى منهم وأشد بأساً، اتخذوا من الفرار وسيلة للسلامة والنجاة، فلا يلحقهم متعقب، ولا يطمع أحد في إصابتهم بمكروه، وهم على علم واسع وخبرة عالية بمجاهل البوادي وبخبايا الأرض، وهكذا يكونون في نأي عن التعقيب وفي منجاة من التعقب. ولما سدّت السبل في وجه "النعمان ابن المنذر" بعد أن غضب كسرى عليه، وأخذ يتنقل من مكان إلى مكان، لجأ إلى "هانيء بن قبيصة" الشيباني، فأجاره "وقال: لزمني ذمامك، وإني مانعك مما أمنع نفسي وأهلي وان ذلك مهلكي ومهلكك، وعندي رأي لست أشير به لأدفعك عما تريده من مجاورتي، ولكنه الصواب، فقال هاته، قال: إن كل أمر يجمل بالرجل أن يكون عليه، إلا أن يكون بعد الملك سوقة. والموت نازل بكل أحد، ولأن تموت كريماً خير من أن تتجرع الذل أو تبقي سوقة بعد الملك. امض إلى صاحبك واحمل عليه هدايا ومالاً والق نفسك بين يديه، فإما يصفح عنك فعدت ملكاً عزيزاً، واما أن يصيبك، فالموت خير من أن تتلعب بك صعاليك العرب ويتخطفك ذئابها"، وفي نصيحة هانيء، للنعمان، واشارته فيها إلى "صعاليك العرب" دلالة على انتشارهم في كل مكان. وأنهم صاروا خطراً على الأمن، يحسب له كل حساب.

ولما خلع "امرؤ القيس"، وصار ضلّيلاً خليعاً، "جمع جموعاً من حمير وغيرهم من ذؤبان العرب وصعاليكها"، وأخذ يغير بهم على أحياء العرب، وما كان "امرؤ القيس" ليجمع جمعهم ويحزبهم حزبه لو لم تكن في نفسه حاجة اليهم، فقد كانوا قوة، وقد صاروا رعباً يخيف الناس، كالذي كان في جبل "تهامة" من تكتل خليط من كنانة ومزينة والحكم والقارة والسودان، من تكتلهم وتحزبهم وأخذهم من كان يمر بالغارة والنهب والسلب، بقوا على ذلك أمداً ثائرين على مجتمعهم، حتى ظهر الإسلام، فكاتبهم الرسول، وأمنهم انهم ان آمنوا وأقاموا الصلاة، وصدقوا، "فعبدهم حر، ومولاهم محمد، ومن كان منهم من قبيلة لم يردّ اليها، وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه، فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس رد اليهم، و لا ظلم عليهم و لا عدوان". فهم قوم متمردون ثائرون لا يعطون أحداً طاعة، إلا طاعة أنفسهم والمترئس فيهم. ولعل هذا هو الذي حدا بأهل النسب والأخبار أن يقولوا: "والخلعاء: بطن من بني عامر بن صعصعة ...كانوا لا يعطون أحداً طاعة".

وهكذا وضع "الصعاليك" أنفسهم في خدمة من يريد استخدامهم لتحقيق أهدافه التي يريدها، مقابل ترضيتهم وإعاشتهم، كما يفعل الجنود المرتزقة هذا اليوم من خدمة الدول الأجنبية، بانضمامهم إلى الفرق الأجنبية، كما هو الحال في "فرنسا" مثلاً لاستخدامهم في القتال.

وقد جعلت حياة التشرد والغارات والهروب والفرار إلى مواضع بعيدة نائية وفي مجاهل البوادي، الصعاليك من أعلم الناس بدروب جزيرة العرب، وبالمواضع الصعبة منها بصورة خاصة. وقد وصف "السليك"، "البعيد الغارة" بأنه "أدل من قطاة"، ونعت الصعاليك جميعاً بأنهم "أهدى من القطا"، وافتخر الصعالكة أنفسهم بأنهم كانوا يعرفون عن خفايا البوادي والجبال ما لا يعرفه أحد غيرهم، وبذلك كانوا ينجون أنفسهم من تعقب المتعقبين لهم.

ونجد لشذاذ العرب، ذكراً في أخبار الغزو وفي أخبار الأخذ بالثأر، وفي أخبار من كان يريد الانتقام من أعدائه، فلما غزا "زيد الخيل" الطائي "بني عامر" ومن جاورهم من قبائل العرب من قيس، "جمع طيئاً وأخلاطاً لهم، وجموعاً من شذاذ العرب" ولما غزا "زهير بن جناب" الكلبي، بكراً وتغلب أخذ "من تجمع له من شذاذ العرب والقبائل" وغيرهم فغزا بهم. وقد كان هؤلاء "الشذاذ" على استعداد لوضع أنفسهم في خدمة من يريد استخدامهم في مقابل أجر، أو يتكفل بإعاشتهم وإرازاقهم، أو من يرزقهم غنيمة من غارة يساهمون فيها، فلما أراد "أبو جندب" الهذلي، الأخذ بثأر جارين له قتلهما "بنو لحيان"، قدم مكة، فأخذ جماعة من خلعاء بكر وخزاعة، وخرج بهم على بني لحيان، وكان قد "قدم مكة، فواعد كل خليع وفاتك في الحرم أن يأتوه يوم كذا وكذا، فيصيب بهم قومه"، ليثأر لأخيه.

وكانت مكة على ما يظهر من أخبار أهل الأخبار، مكاناً أوى اليه ذؤبان العرب وخلعاؤهم وصعاليكم، حتى كثر عددهم بها، لما وجدوه فيها من حماية ومعونة، وكان أحدهم إذا جاءها، نادى قريشاً نداء النخوة لتؤويه وتجيره، فيقوم أشرافها بحمايته وتقديم الجوار له. ومن هنا نجد الفتاك وأهل الغي والضلال يجوسون خلالها في أمن وسلام، لحرمة المدينة ولحرمة حقوق الجوار، ولعل المصالح الاقتصادية التي كانت تجنيها قريش من هذا الإيواء، كانت السبب الأول في جعل سراتها يقدومون العون والجوار لأولئك الذؤبان الفتاك الذين كانوا لا يتورعون من الإقدام على أي عمل مهما كان شأنه خطيراً، حتى إن كان فيه هلاكهم، أو جاء بالأذى على من أحسن اليهم وأجارهم، فهم قوم أصابهم طيش وركبهم التمرد والحقد على المجتمع، فهم لا يبالون بارتكاب أية موبقة ولو وقعت منهم في الحرم، فقد كان في وسع تجار قريش تأمين تجارتهم بالإحسان إلى هؤلاء الذين كان في استطاعتهم مهاجمة القوافل ونهب ما معها من أموال، كما كان بامكانهم استخدامهم حرّاساً يخرجون مع قوافلهم لحراستها من بقية الصعاليك إلى وصولها إلى الأماكن التي تريدها، كما كان في استطاعتهم الاستفادة من الفتاك في الفتك بمن يناصبهم العداء، وفي القضاء على كل من يريد التحرش بقرشي أو بأموال قريش أو حلفائهم. وبذلك تمكنوا من حماية تجارتهم من الصعاليك ومن الأعراب الذين قد تمر تجارة قريش بهم، وإن كانت قريش قد أمنت جانبهم أيضاً بعقد حبالها مع سادات القبائل بإلاف عرف ب"إيلاف قريش" في القرآن الكريم.

وكان "البراض"، وهو "رافع بن قيس" وهو من الفتاك، قد لجأ إلى مكة، فحالف "بني سهم" من قريش، فعدا على رجل من هذيل فقتله، فخلعه "العاص بن وائل" فأتى "حرب بن أمية" فحالفه، فعدا على رجل من خزاعة فقتله وهرب إلى اليمن، فخلعه "حرب"، فلما ضاقت به السبل ذهب إلى الحيرة، وطلب من النعمان أن يجير له "لطيمته"، فقال له "الرحال ابن عروة": "أنت تجيرها على أهل الشيح والقيصوم? وإنما أنت كلب خليع!" فأعطاه "النعمان" إلى "عروة"، فخرج "البراض" في أثره، فلما انتهى إلى "أوراة" قتله وانتهب اللطيمة، فكان بسببه حرب الفجار بين كنانة وقيس.

وبين الصعاليك قوم من "الغربان" "غربان العرب"، وأغربة العرب سودانهم. شبهوا بالأغربة في لونهم، وكلهم سرى اليهم السواد من أمهاتهم. تصعلكوا لازدارء قومهم لهم، ولانتقاص أهلهم شأنهم، وعدم اعتراف آبائهم ببنوتهم لهم، لأنهم أبناء إماء. أو لفقرهم، وظلم المجتمع لهم، وعدهم طبقة مملوكة، هم والحيوان المملوك سواء بسواء. ليس لأحدهم جسمه، ولا أهله ولا نسله، وكل ما يملكه أو يحصل عليه يكون ملك سيده، ومن خالف أمره منهم، جاز لسيده قتله، ولسيده حق الاستمتاع بمملوكته وبجواره من غير قيد ولا شرط. وهذا ما جعل بعض الرقيق يهرب من سيده، فراراً من ظلمه، لينضم إلى الصعاليك، أو ليكون عصابة تلجأ إلى الجبال والكهوف، تهاجم المارة، والأحيلء، لتحصل على ما تتعيش به. ولما طهر أمر الرسول، كتب لجماع كانوا في جبل تهامة قد غصبوا المارة، وهم خليط من كنانة ومزينة والحكم والقارة، ومن فرّ من ساداته من العبيد، كتاباً، فيه أنهم "إن أمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فعبدهم حرّ، ومولاهم محمد، ومن كان منهم من قبيلة لم يردّ اليها، وما كان فيهم من دمٍ أصابوه أو مالٍ أخذوه، فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس ردّ اليهم، و لا ظلم عليهم ولا عدوان".

وأغربة العرب، أو أغربة الصعاليك بتعبير أصدق، كثيرون، فقد كانت عادة اتصال العرب بالزنجيات منتشرة في الجاهلية، وقد أولدت طبقة من الهجناء امتازت بسرعة العدو وبالشجاعة، وبتحمل المشقات، وكلها من مولدات الظروف. ولكن أشهر أغربة الصعاليك: السليك بن السلكة، وتأبط شراً. وقد جعل "ابن قتيبة" أغربة العرب ثلاثة: عنترة، وخفاف بن عمير الشريدي، والسليك بن عمير السعدي، ولكن عددهم أكثر من ذلك بكثير، يدخل فيعم الصعاليك وغيرهم.

أما الباقون، فهم من شذاذ العرب، ومن الخلعاء المطرودين المنبوذين، الذين طردوا من أهلهم أو من عشيرتهم وقبيلتهم، وحرموا من "العصبية"، فلا أحد يسأل عنهم، ولا أحد يُسأل عن جرارئهم وأعمالهم، فدمهم هدر، ومسؤوليتهم على عاتقهم وحدهم. وهم من عشائر مختلفة، فلا ينتسبون إلى نسب واحد، ونسبهم الوحيد الذي يربط بينهم، هو الصعلكة، والتمرد على المجتمع والتشرد في البوادي والهضاب والجبال، ولهذا نجد الصعاليك من مختلف قبائل وعشائر جزيرة العرب، قد يتكتلون في مجموعات تضم صعاليك قبيلة واحدة، وقد يتكتلون في جماعات تتكون من صعاليك قبائل مختلفة. وتكون الألفة بين صعاليك القبيلة الواحدة أشد وأقوى من الألفة التي تكون بين صعاليك القبائل المختلفة، لما يكون للنسب والدم من أثر في نفوسهم، وإن كفروا بعرف القبيلة وخرجوا على طاعتها. ونجد في شعر شعرائهم إشادة بأخوة "الصنف" و "الحرفة" تحل محل اخوة العشيرة والقبيلة، إذا مات أحدهم أو قتل، حزنوا عليه، وإن مرض عالجوه، وان جاع قدموا له ما عندهم من طعام.

وقد يستجير الخليع بمجير، فيقبل جواره، إلى حين أو بغير أجل محدد، أو على شروط، ففي حديث خروج "امرئ القيس" مطالباً بدم أبيه، أنه لجأ إلى "عامر بن جوين" أحد الخلعاء الفتاك، وعامر يومئذ خليع، تبرأ قومه من جرائره وتنصل أهله منه، وفي حديث "البراض بن قيس" الكناني وكان خليعاً فاتكاً سكيراً، لا ينزل بقوم، إلا عمل منكراً فيهم -، أنه لجأ إلى بني "الديل"، فشرب وجرّ جريرة، استوجب خلعه فخلعوه، فأتى مكة، فنزل على حرب بن أمية، فحالفه وأحسن جواره، ثم شرب بمكة وأساء على عادته، حتى همّ حرب أن يخلعه، وفي حديث "أبي الطمحان" القيني، "الزبير بن عبد المطلب"، "وكان ينزل عليه الخلعاء"، ونزل "مطرود ابن كعب" الخزاعي، في جوار "عبد المطلب"، فحماه وأحسن اليه، وكان قد لجأ اليه لجناية كانت منه، ووجد "قيس بن الحدادية" من يؤويه، مع أنه كان صعلوكاً خليعاً، عجز هو وأهله عن دفع دية قتيل قتلوه، فخلعته قبيلته خزاعة، فنزل عند بطن من خزاعة، يقال لهم:"عدي بن عمرو بن خالد"، فأحسنوا اليه، كما نزل في بجيلة على "أسد بن كرز" فأحسن اليه والى قومه.

ولا ينسى بعض الصعاليك ذكر من أحسن اليهم فأكرمهم ورعاهم وحماهم. هذا "أبو الطمحان" القيني، يثني على من آووه وساعدوه حتى صيروه واحدا منهم، لا تتحرش به كلابهم، لأنها عرفت ثيابه، وتأكدت انه واحد منهم، فلا تهر عليه. وهذه "حاجز" الأزدي، يفخر بانتسابه إلى "بني مخزوم" من قريش، وهم قوم لا يخذلون أحداً إذا استنصر بهم، وجعل حلفه فيهم، إذا أصاب حليفهم مكروه، هرعوا اليه لنجدته، فهم أهل النجدة والكرم. وهذا "قيس بن الحدادية" يثني على "آل عمرو بن خالد" أحسن ثناء، ويدعو الله أن يجزيهم خيراً لما فعلوه من حميد الفعال لصعلوك خليع.

والصعاليك كثيرون، وقد خلدت أسماء جماعة منهم في كتب الأدب والأخبار، أشهرهم وأبرزهم: "عروة بن الورد"، و "الشنفري"، و "تأبط شراً"، و "السليك بن السلكة"، وآخرون.

وللصعاليك بعد قصص في الكتب، وقد بولغ في قصصهم لتؤثر في المسامع، ولتكون لذة للسامعين ومتعة يستمتعون بها أوائل الليل في أوقات سمرهم، وقد رصعت بشعر، على عادة العرب في رواية الأخبار. وفي بعض هذا القصص والشعر أثر الوضع المتعمد، الذي صنع ليمثل الحالة الاجتماعية في ذلك الوقت، حيث كان الأغنياء متخمين بالمال، بينما جيرانهم يموتون جوعاً، فكأن هذا القصص قد وضع ليتحدث عن ذلك الوضع. وقد عرف هذا القصص عند الغربيين كذلك، حيث كان الغنى وكان الفقر، فظهر الصعاليك، وهو قصصهم وبولغ فيه، وما "روبن هود" الانكليزي الذي آثر التصعلك وغزو الأغنياء، لإنفاق ما يحصل عليه على الفقراء لإعاشتهم، إلا صورة من صور غارة "عروة بن الورد" وأمثاله من الصعاليك، وقد دونت أخبارهم في قصص، وصيغ بعض منها على صورة أشرطة "سينمائية" عرضت ولا تزال تعرض في دور "السينما" وفي "التلفزيون"، لما فيها من بطولة ومروءة ومساعدة ضعفاء واستهتار في الحياة.

وأما "عروة بن الورد"، فهو من "عبس" وكان شاعراً فارساً وصعلوكاً مقدماً، عرف ب"عروة الصعاليك" "لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مما يغنمه". وهو شاعر بدوي قح، وكان أبوه ممن كان له ذكر في حرب داحس والغبراء، وقد مدحه "عنترة"، وكانت أمه من "نهد"، ولم تكن من أهل البيوتات. وكان لشعره أثر في قومه: حتى كانوا يرون أنه أشعر الشعراء.

وذكر أنه إنما لقب بعروة الصعاليك لقوله: لحي اللهُ صعلوكاً إذا جن ليلـه  مُصافي المشاش آلفاً كل مجزر 

يعدٌّ?ُ الغنى من دهره كل لـيلة  أصاب قراها من صديق ميسر

ينام عشاءُ ثم يصـبـح قـاعـداً  يحت الحصى عن جنبه المتعفر

ولله صعلوك صفيحة وجـهـه  كضوء شهاب القابس المتنـور

مطلّ على أعدائه يزجـرونـه  بساحتهم زجر المنيح المشهـر

ويظهر من شعر لعروة، انه كان نحيلاً، شاحب الوجه هزيلاً، فكانوا يعيرونه بذلك، وكان يجيبهم بقوله: إني امرؤُ عـافـى انـائي شـركة  وأنت امرؤُ عافـى إنـائك واحـد

أتهزأ مني ان سمـنـتَ وان تـرى  بجسمي شحوبَ الحق، والحق جاهد 

أفرق جسمي في جسـوم كـثـيرةٍ  وأحسوا قراحَ الماء، والماء بـارد

فهو نحيف نحيل شاحب الوجه، لأنه يشرك الآخرين معه في أكله وشربه، أما الهازئ به، فهو أناني، لايشرك أحداً معه في أكله، وانائه واحد، لا يأكل به أحد غيره، ولذلك سمن وثخن من التخمة، أما هو، وهو الوهاب فكان يقتر على نفسه، ويجوع، ليأكل غيره أكله، فأصابه من ثم هذا الهزال. فهو انسان، يقسم ما عنده وما يأتيه على نفسه وعلى غيره، وقد يقدم غيره على نفسه. ومن هنا "كان يقال: من قال إن حاتماً أسمح العرب، فقد ظلم عروة ابن الورد".

ويذكرون أنه أصاب في بعض غاراته امرأة من كنانة، فاتخذها لنفسه، فأولدها، فلقيه قومها، وقالوا: فادنا بصاحبتنا، فإنا نكره أن تكون سبية عندك. قال: على شريطة، قالوا: وما هي? قال! على أن نخيرها بعد الفداء، فإن اختارت أهلها أقامت فيهم، وإن اختارتني خرجت بها. وكان يرى أنها لاتختار عليه، فأجابوه إلى ذلك، وفادوا بها، فلما خيّروها اختارت قومها، وتركته فنظم في ذلك شعراً.

وذكر أن "معاوية" تذكر "عروة بن الورد"، فقال: "لو كان لعروة ابن الورد ولدُ لأحببت أن أتزوج منهم". وان "عبد الملك بن مروان" تذكره يوماً، فقال: "ما يسرني أن أحداً من العرب ممن ولدني لم يلدني إلا عروة بن الوردِ لقوله: واني امرؤ، عافى 'نائي شركةُ  وأنت امرؤُ عافى إنائك واحدُ

وهو بيت يمثل خلق هذا الشاعر ومروؤته التي أبت عليه إلا أن يشرك غيره من الضعفاء والمحتاجين فيما يحصل عليه ويناله من المتمكنين بالإكراه والقوة. إناؤه مليء لبناً، حتى يفيض ويكثر، فإن طرقه إنسان وجد اللبن أمامه، يشرب منه وهو شريكه فيه، شريكه في كل شيء قلّ أو كثر، وهو يفتخر بذلك ويتبجح بإشراكه غيره إنائه على من حرص على ماله، وبخل بما عنده، مثل "قيس بن زهير"، الذي استأثر بما عنده، فلم يعطِ لمحتاج شيئاً منه. فصار يسمن وغيره يجوع، على حين كان "عروة" يختار الجوع، ليأكل الجياع، لتعود اليهم القوة والحياة، ولا يبالي هو بنفسه إن جاع، وفي ذلك يقول: إني امرؤ عـافـى إنـائيَ شـركةُ  وأنت امؤُ عـافـى إنـائك واحـد

أتهزأ مني إن سمـنـت وأن تـرى  بوجهي شحوبَ الحق، والحق جاهد 

أقسم جسمي في جسـوم كـثـيرةٍ  وأحسو قراح الماء، والماء بـارد

وكان قد قال هذه الأبيات رداً على أبيات "قيس بن زهير" التي خاطب بها "عروة" بقوله: أذنب علينا شتم عروةَ خـالـه  بغرة أحساء ويوماً بـبـدبـد

رأيتك ألافاً بيوتَ مـعـاشـر  تزال يد في فضل قعب ومرفد 

وللأخفش حديث عن مروءة "عروة" وعن انسانيته فيقول: "عن ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: حدثني أبو فقعس، قال: كان عروة إذا أصابت الناس سنة شديدة تركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف؛ وكان عروة يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس، من عشيرته في الشدة، ثم يحفر لهم الأسراب، ويكنف عليهم الكنف، ويكسبهم، ومن قويّ منهم، إما مريض يبرأ من مرضه، أو ضعيف تثوب قوته، خرج به معه فأغار، وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيباً، حتى إذا أخصب الناس وألبنوا، وذهبت السنة، ألحق كل انسان بأهله، وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها، وربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى، فلذلك: عروة الصعاليك".

ومن هنا عدّ من أصحاب الكرم والسماحة والسخاء. حتى قيل إن عبد الملك قال: "من زعم أن حاتماً أسمح الناس، فقد ظلم عروة بن الورد". وقيل إنه بلغه عن رجل من بني "كنانة بن خزيمة"، أنه من أبخل الناس وأكثرهم مالاً، فبعث عليه عيوناُ، فأتوه بخبره فشدّ على إبله فاستاقها ثم قسمّها في قومه. فقال عند ذلك: ما بالثراء يسود كل مـسـوّدِ  مثرٍ، ولكن بالفـعـال يسـود

بل لا أكاثر صاحبي في يُسره  وأصد إذ في عيشه تصـريد

فإذا غنيتُ، فإن جاري نـيلـه  من نائلي، وميسّري معهـود

وإذا افتقرت، فلن أرى متخشعاً  لأخي غنى، معروفة مكـدود

فالسيد بفعاله، وأعماله لا بالمال. وهو يقول في شعر له، ان فراشه فراش الضيف، وأن بيته بيت للضيوف، يجالس الضيف ويحادثه، فالحديث جزء من القرى: فراشي فراش الضيف والبيت بيته  ولم يلهني عنه غزال مـقـنـع

أحدثه، إن الحديثَ من الـقـرى  وتعلم نفسي أنه سوف يهـجـع

وفي خبر آخر، ان سنين شديدة أصابت الناس، فأهلكتهم، وترك الناس الغزو لجدوبة الأرض، وكان عروة في تلك السنين غائباً، فرجع مخفقاً، قد ذهبت إبله وخيله، وجاء "الكنيف"، أي الحظيرة والمأوى، فوجد أصحابه وقد سقطوا من الإعياء والشدة، فندب منهم رهطاً، فنحر لهم بعيراً، وحملوا سلاحهم على بعير آخر، وقدّد لهم بعيراً، فوزعه بينهم. وخرج بهم غازياً يلتمس الرزق. وهو يقول لهم: ان أصبنا رغبة فذلك الذي نريد، وإن رجعنا خائبين، كنا معذورين. قد أدينا ما علينا، ولن نقعد عن الطلب. فهم يحثهم على الرزق والطلب، دون تفكير في نجاح أو فشل، فالحياة: نجاح وفشل، ومن فشل، عليه المواظبة حتى ينجح ويستعيد قواه، وذلك قوله: قلت لقومٍ في الكنيف: تروحوا  عشية بتنا عند ما وان رزح

إلى آخر الأبيات.

وهو يصف في أبيات حالة الفقير وما يلقى من ظلم، وحالة الغني وما يلقاه من إجلال. فيقول: دعيني للغنى أسعى فإنـي  رأيت الناسَ شرّهم الفقير

وأبعدهم وأهونهم علـيهـم  وإن أمسى له حسبُ وخير 

ويقصيه النـديُّ وتـزدريه  حليلته وينهره الصـغـير

ويلفى ذو الغنى وله جلال  يكاد فؤاد صاحبه يطـير

وله شعر يحث فيه الناس على السير في البلاد، التماساً للرزق، لأن من لم يطلب معاشاً لنفسه، وقعد في داره دون أن يعمل شكا الفقر، وصار كلاً على غيره، حتى على ذوي قرباه، فيقول: إذا المرءُ لم يطلب معاشاً لنفسـه  شكا الفقر، أو لام الصديق فأكثرا 

وصار على الأدنين كلاً، وأوشكت=صلات القربى له أن تنكرا وما طالب الحاجات، من كل جهةٍ  من الناسِ إلا من أجدّ وشـمّـرا

فسر في بلاد الله، والتمس الغنى  تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا

ومن شعره في المال والوراثة قوله: متى ما يجيء يوماً إلى المال وارثي  يجد جمعَ كفٍ غير ملأى ولا صفر 

يجد فرساً مثل القنـاة وصـارمـاً  حُساماً إذا ما هزّ لم يرض بالهبـر

ويقول في شعر آخر: أليس ورائي ان أدبّ على العصا  فيأمن أعدائي ويسأمني أهلـي

رهينة قعر البيتِ كـل عَـيِشّةٍ  يطيف بي الولدان أهوج كالرأل 

يعني: أليس ورائي إن سالمت الناس، وتركت مخاطر التصعلك، أن يلحقني الكبر فأهون ويضجر مني أهلي. فهو يعتذر بذلك عن التصعلك واتخاذه الصعلكة حرفة له.

وقد زعم ان "عبد الله بن جعفر بن أبي طالب"، "قال لمعلم ولده: لا تُروّهم قصيدة عروة التي يقول فيها: دعيني للغنى أسعى فإنـي  رأيت الناس شرهمُ الفقير 

ويقول: هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم".

وهو يرى ان الموت خير للفتى من حياته فقيراً. وان الأقارب إذا ضنوا عليه ولم يساعدوه، فعليه بالرحيل عنهم، والتماس الفجاج، فإنها عريضة، إذا ضاقت عليه السبل. وهو لا يترك اخوانه أبداً ما عاش، كما ان الإنسان لا يتمكن من ترك شرب الماء: إذا المرء لم يبعث سَواماً ولم يرح  عليه، ولم تعطف عليه أقـاربـه

فللموت خير للفتى مـن حـياتـه  فقيراً، ومن مولى تدب عقاربـه

وسائلةٍ: أين الـرحـيل? وسـائلٍ  ومن يسأل الصعلوك: أين مذاهبه

مذاهبه أن الفـجـاج عـريضةُ  إذا ضنّ عنه، بالفعالِ، أقـاربـه

فلا أترك الإخوان ما عشتُ للردى  كما أنه لا يترك الماءَ شـاربـه

وهو يحث على المخاطرة بالنفس، فإن القعود مع العيال قبيح، حثّ عليها في أبيات نسبت اليه، وقيل انها ليست له، بل هي للنمر بن تولب، هذا نصها: قالت تماضر، إذ رأت مالي خوى  وجفا الأقارب، فالفـؤادُ قـريح

مالي رأيتك في النديّ منكـسـاً  وصبا، كأنك في النديّ نـطـيح

خاطر بنفسك كي تصيب غنـيمة  ان القعود مع العـيال قـبـيح

المال فـيه مـهـابةُ وتـجـلةُ  والفقر فيه مـذلة وفـضـوح

والصعلوك الخامل، القعود الذي يعين نساء الحي، و لا يستعمل سيفه للحصول على رزقه، هو خليق أن يكون ممن يهان ويزدرى، والصعلوك العامل النشط، هو الرجل الذي يستحق الحياة، ويصلح أن يكون انموذجاً للرجال، صحيفة وجهه كضوء شهاب القابس المتنور، مطلاً على اعدائه، يهابونه و لا يستطيعون الاقتراب منه، ان لقي منيته لقيها حميداً، وان عاش واستغنى فنعمة كبرى، ينفق منها على من يحتاج اليه من الناس.

وتراه يقول في أبيات أخرى: إذا آذاك مالك، فامتهـنـتـه  لجاديه، وإن قرعَ المـراحُ

وإن أخنى عليك، فلم تجـده  فنبت الأرضِ والماء القراحُ 

فرغم العيش إلفُ فناء قـومٍ  وإن آسوك، والموت الرواح 

ومعناها: لا تبخل بمالك، و لا تحرص عليه، أعطِ منه السائل والمحروم والمحتاج، ز لا تخشَ الفقر، فإن أخنى عليك، وقلّ مالك، وتركك الأصحاب فلا تيأس ولا تخنع لأحد، و لا تجزع، ففي الأرض رزق لكل أحد، ومتسع لكل نفس، وإن كان نبات الأرض وماؤها، و لا تهن نفسك، وتذل كرامتك، فتعيش على موائد غيرك، من اللؤماء الحقراء، فأكلك منهم، هو آسوك وساعدوك، فمؤاساتهم كاذبة، عن مظاهر ونفاق.

وفي أبيات شعر، يذكر "عروة" "أصحاب الكنيف" والتواءهم عليه، وكيف تمردوا عليه، مع فضله عليهم، وإشراكه لهم في كل ما كان يكسبه ويغنمه، فيقول: ألا إنّ أصحاب الكنيف وجدتهـم  كما الناس لما أخصبوا وتموّلـوا

وإني لمـدفـوعُ إلـيّ ولاؤهـم  بماوان إذ نمشي، وإذ نتـمـلـل

وإذ ما يريح الحيَّ هرماء جـونةُ  ينوس عليها رحلُها ما يحـلـل

موقعة الصفقين، حدباء، شـارف  تقيد أحياناً، لـديهـم وتـرحـل

عليها من الولدانِ ما قـد رأيتـم  وتمشي بجنبيهـا أرامـل عـيل

وقلت لها يا أم بيضـاءُ، فـتـيةُ  طعامهمُ، من القدور، المعجـل

مضيغ من النيب المسان، ومُسخن  من الماء نعلوه بآخر مـن عـلُ

بديمومة ما إن تكاد تـرى بـهـا  من الظمأ، الكومَ الجلاد تـنـولُ

تنكر آياتُ الـبـلاد لـمـالـك  وأيقنَ أن لا شيء فيهـا يُقـوّلُ

وهي أبيات، تعبر عن مرارة نفسه، وعن ألمه مما لاقاه من أصحاب الكنيف، مع أفضاله عليهم، وتقديمه لهم على نفسه، وهو يواسي نفسه فيها، فيقول انهم ناس، ومن شأن الناس أنهم إذا اخصبوا وتموّلوا وتحسنت أحوالهم، تنكروا لمن كان صاحب الفضل عليهم، وتجاهلوا كل ما قام به من صنيع حسن نحوهم. أخرجتهم وأجسامهم هزال من شدة الجهد، لا يقدرون على المشي من شدة الضعف والجوع، وقمت بأمرهم، حتى إذا قووا، ودنوا من بلادهم وعشائرهم، وأقبلت أقسم فيهم ما غنمته من إبل، فأعطيتهم بالتساوي، وأخذت لنفسي نصيب أحدهم، تنكروا لي وصاروا كالأباعد، ليس لهم شكر، خاصموه وعارضوه. وكان من شأنهم: انه خرج مع صعاليكه يبحثون عن غنائم، حتى نزل أرض "بني القين"، فأقام مع أصحابه يوماً عند موضع ماء، بانتظار مجيء الرعاة لاسقاء إبلهم، ثم ورد عليهم فصيل، فقالوا: دعنا فلنأخذه، فلنأكل منه يوماً أو يومين، فقال: إنكم إذن تنفرون أهله، وان بعده إبلاً. فتركوه ثم ندموا على تركه، وجعلوا يلومون عروة على الجوع الذي جهدهم. ثم وردت إبل بعده بخمس، فيها ظعينة ورجل، والإبل مائة، فخرج "عروة" ورمى صاحبها في ظهره بسهم، فخرّ ميتاً، واستاق عروة الإبل والظعينة. وأتى بالإبل الكنيف فجعل يحلبها لهم، ثم حملهم حتى إذا دنوا من بلادهم وعشائرهم، أقبل يقسمها فيهم، وأخذ مثل نصيب أحدهم، واستخلص المرأة لنفسه، فقالوا: لا واللهِ لا نرضى حتى تجعل المرأة نصيباً فمن شاء أخذها من سهمه، فجعل عروة يهم أن يحمل عليهم فيقتلهم وينزع ما معهم، ثم يتذكر صنيعه بهم، وأنه إن فعل ذلك أفسد ما كان صنع، ففكر طويلاً ثم أجابهم إلى أن يردّ عليهم الإبل إلا راحلة يحمل عليها امرأته، فأبوا إلا أن يجعلوا الراحلة لهم، فانتدب رجل منهم فجعل الراحلة من نصيبه وأفقرها عروة، أي منحها إياه منيحة إذا استغنى عنها ردّها؛ فقال عروة يذكر أصحاب الكنيف والتواءهم عليه تلك الأبيات المتقدمة.

فهو في الأبيات المتقدمة يذكر أن الإنسان ذليل كسير ما دام فقيراً، يتقرب إلى القوي ويتبصبص له، ويتظاهر بحبه واخلاصه له، فإذا نال حاجته، أو اغتنى تبطر على من كان محتاجاً اليه، وتعاظم عليه، ونال منه.

وقد عرف "عروة" ب"أبي الصعاليك"، قيل ان الناس كانوا إذا أصابتهم السنة أتوه " فجلسوا أمام بيته حتى إذا بصروا به صرخوا وقالوا: يا أبا الصعاليك، أغثنا". فيخرج ليغزو بهم. وقد كان يعدّ صعاليكه "عياله"، وكان يرعاهم ويحدب عليهم حدب الوالد على عياله، ويخرج بالقوي منهم للغزو، بحثاً عن غنيمة ينالها لإشباع أتباعه الجياع الصعاليك، بمال غني جمع غناه بالعقوق وبالبخل، لأنه لا يرضى أن يرى أخواناً له يهلكون من الجوع، ثم لا يجد ما يقدمه لهم لسد رمقهم، وهو يطوف لذلك في البلاد باحثاً عن غني ينفق منه على المعوزين وذوي الحاجات. وشر الناس في هذه الدنيا الفقير، يباعده القريب لفقره، وتزدريه حليلته، و لا يحترمه أحد؛ بينما يعظم الغني ويحترم، لا لسبب إلا لماله ولغناه، ذنبه قليل في نظر الناس، لأنه غني، وللغني رب غفور: ذريني للغنى أسعى، فإنـي  رأيت الناس شرهم الفقيرُ

وأدناهم، وأهونهم علـيهـم  وإن أمسى له حسب وخير 

يباعده القريب، وتـزدريه  حليلته، ويقهره الصغـير

ويلقى ذو الغنى، وله جلال  يكادُ فـؤاد لاقـيه يطـير

قليل ذنبه، والـذنـب جـمُ  ولكن للغني ربُ غفـور

وفي قصيدته: لحا الله صعلوكاً إذا جن لـيلـه  مصافي المشاش آلفاً كل مجزر 

يعدّ الغني من دهره كـل لـيلة  أصاب قراها من صديق ميسر

ينام عشاءُ ثم يصـبـح طـاوياً  يحبُّ الحصى عن جنبه المتعفر

قليل التماس الزاد إلا لنفـسـه  إذا هو أمسى كالعريش المجوّر

يُعينُ نساء الحيّ ما يسِتـعـينَّـه  فيمسي طليحاً كالبعير المحسر

ولكن صعلوكاً صحيفة وجهـه  كضوء شهاب القابس المتنـور

مُطِلاً على أعدائه يزجـرونـه  بساحتهم زجر المنيح المُشهـر

فإنَ بَعُدوا لا يأمنون اقتـرابـه  تشوّف أهل الغائب المتنـظـر

فذلك إن يلق المنيّة يلـقـهـا  حميداً وان يستغن يوماً فأجدر 

معان سامية، تعبر عن نفسية انسانية، وعن عطف على الفقير والمحتاج والنساء "وصف فيها فضيلة الفقير الحر الباسل وذم الذي يستأجر شغله".

وفي شعر "عروة" اشارة إلى الموت، فهو يرى ان الحياة أجل، وان الإنسان غير خالد في هذه الدنيا، حياته قصيرة، ثم يكون أحاديث للناس. إذا جاء أجله خرجت منه هامة تعلو كل نشز: أحاديث تبقى، والفتى غيرُ خالدٍ  إذا هو أمسى هامة فوق صَيّرِ 

تجاوب أحجار الكناسِ، وتشتكي  إلى كل معروف رأته، ومنكرِ 

ثم تجاوب هذه الهامة أحجار الكناس، وتشتكي إلى كل معروف تراه ومنكر. أي تصوت في كل حالٍ إذا رأت من تعرف ومن تنكر.

ةالموت ملازم للانسان، وهو ثغر كل ثنيّة، ولا مفر منه: وأن المنـايا ثـغـر كـل ثـنـيّة  فهل ذاك، عما يبتغي القوم محصر 

وغبراء مخشى رداهـا مـخـوفةٍ  أخوها، بأسباب المنـايا مـغـرر

وقد نسبت له قصيدة مطلعها: لحا الله صعلوكاً منـاه وهـمـه  من الدهر أن يلقى لبوساً ومطمعا 

ينام الضحى حتى إذا الليل جـنـه  تبيت مسلوب الفـؤاد مـورّمـا

ولكنّ صعلوكـاً يسـاور هـمّـه  ويمضي على الهيجاء ليثاً مصمماً 

فذلك أن يلقى الكريهة يلـقـهـا  حميداً وان يستغن يوماً فربـمـا

وقد ذهب بعضهم إلى أن هذه القصيدة لحاتم الطائي، لأن قصيدة عروة رائية، وليست هذه، ولحاتم قصيدة على هذا الروي، وليس فيها هذه الأبيات، وفيها ما يشبهها، وهو: وليل بهيم قد تسربـلـت هـولـه  إذا الليل بالنكس الضعيف تجهمـا

ولن يكسب الصعلوك مالاً ولا غنى  إذا هو لم يركب من الأمر معظما 

يرى الخمص تعذيباً وان يلق شبعة  يبت قلبه من قلة الهمّ مبـهـمـا

ولكن صعلوكـاً يسـاور هـمـه  ويمضي على الأيام والدهر مقدما

يرى رمحه ونبـلـه ومـجـنـه  وذا شطب بين المهذة مـخـذمـا

واحناء سرج قاتـر ولـجـامـه  معدّاً لدى الهيجاء طرفاً مسومـا

فذلك ان يهلك فحسـنـى ثـنـاؤه  وان يحي لا يقعد ضعيفاً ملوّمـا

وفي كتاب "ذيل الأمالي والنوادر" للقالي، أبيات على هذا النمط غير معزوة لقائلها، أوردها على أثر تحدثه عن "الشيظم بن الحارث الغساني"، وكان قد قتل رجلاً من قومه، فخافهم، فلحق بالحيرة متنكراً، وكان من أهل بيت الملك، فكان يتكفف الناس نهاره ويأوي إلى خربة من خراب الحيرة، فبينما هو ذات يوم في تطوافه إذ سمع قائلاً يقول: لحا الله صعلوكـاً إذا نـال مَـذٌقة  توسّد إحدى ساعـديه فـهـومـا

مقيماً بدار الهون غير مُـنـاكـرٍ  إذا ضيم أغضى جفنه ثم برشمـا

يلوذ بأذراء المثـاريب طـامـعـاً  يرى المنع والتعبيس من حيث يمما 

يضن بنفسٍ كدر البؤس عيشـهـا  وجودُ بها لو صانها كان أحـزمـا

فذاك الذي إن عاش عـاش بـذلة  وإن مات لم يشهد له الناس مأتمـا

بأرضك فاعرك جلد جنبك انـنـي  رأيت غريب القوم لحماً مومضماً

فهي أبيات في المعاني المتقدمة، لم يعرف اسم صاحبها.

وهو يرجز امرأته سلمى لأنها تلومه على غاراته وغزواته، لما تخشاه عليه من الوقوع في المهالك، ومن ملاقاته حتفه. ويقول لها: إنه إنما يجازف ويخاطر في سبيلها، حتى يغنيها فلا تذل بعده أو تستجدي أحداً، ثم ان عليه حق الوفاء لأقاربه وللضعفاء ولإخوانه الصعاليك الذين يلوذون به، فعليه مساعدتهم، وهو لا يتمكن من تقديم المساعدات لهم، إلا بهذه الغارات.

وروي أن "عروة" كان يتردد على "بني النضير" فيستقرضهم إذا احتاج ويبيع منهم إذا غنم، فرأوا عنده "سلمى" فأعجبتهم، س فسألوه أن يبيعها منهم فأبى، فسقوه الخمر واحتالوا عليه حتى ابتاعوها منه وأشهدوا عليه، وفي ذلك يقول: سقوني الخمر ثم تكنفوني  عداة الله من كذب وزور 

وروي أيضاً أن قومها افتدوها منه وكان يظن أنها لا تختار عليه أحداً ولا تفارقه، فاختارت قومها فندم وكان له بنون منها، ثم تزوجها بعده رجل من بني النضير. وفيها يقول عروة: أرقت وصحبتي بمضيق عمق  لبرق في تهامة مستـطـير

وهي قصيدة أشار فيها إلى "سلمى"، ومفارقتها له، عند "بني النضير"، حيث يقول: وآخر معهد من أم وهـب  معرسنا فويق بني النضير 

وفي هذه القصيدة البيت المتقدم، الذي يشير إلى أنهم سقوه الخمر، واحتالوا عليه، حتى ابتاعوها منه.

وقد أشار "عروة" في شعر ينسب اليه إلى "التعشير"، وهو أن ينهق الإنسان عشر مرات إذا أراد دخول "خيبر" لكي لا تصيبه الحمى. فقال: وقالوا: أحبُ وانهق، لا تضيرك خيبـر  وذلـك مـن دين الـيهـود وُلــوع

لعمري، لئن عشرات، من خشية الردى  نهاقَ الحـمـير انـنـي لـجـزوع

وقد رفض عروة ذلك، وسخر من هذه الخرافة.

قال "الجاحظ": "وكانوا إذا دخل أحدهم قرية خاف من جنّ أهلها، ومن وباء الحاضرة، أشد الخوف، إلا أن يقف على باب القرية فيعشر كما يعشر الحمار في نهيقه، ويعلق عليه كعب أرنب. ولذلك قال قائلهم: و لا ينفع التعشير في جنب جرمة  و لا دعدع يغني ولا كعب أرنب

" وقد قال عروة بن الورد، في التعشير، حين دخل المدينة فقيل له: إن لم تعشر هلكت: لعمري لئن عشرتُ من خيفة الردى  نهاقُ الحمير انـنـي لـجـزوع"

ولعروة شعر في يوم "ساحوق"، وهو يوم لبني ذبيان على "بني عامر"، إذ يقول: ونحن صبحنا عامراً في ديارها  عُلالة أرماح وعضباً مُذكَّـرا

بكل رقيق الشفرتين مـهـنـدٍ  ولَدٌنٍ من الخَطي قد طُرَّ أسمرا 

عجبت لهم إذ يخنقون نفوسهـم  ومقتلهم عند الوغى كان أغدرا

يشدّ الحليمُ منهم عَقٌدَ حبله=ألا إنما يأتي الذي كان حُذّرا أي انهم كانوا ذوي غدر بين، لو أنهم جاهدوا في الحرب وقتلوا، أما الآن فلا عذر لهم بين الرجال في خنقهم أنفسهم. وكان "الحكم بن الطفيل" وأصحابه قد خنقوا أنفسهم، بشد الحبل حول العنق، وذلك تحت شجرة بالمروراة، خشية الوقوع في الأسر. و "الحكم بن الطفيل" هو أخو "عامر بن الطفيل"، وقد عرف يوم "المروارة" بيوم "التخانق".

وقد عدّت قصيدته التي تبدأ ب: أقلى عليَّ اللـوم يا ابـنة مـنـذر  ونامي فإن لم تشتهي النوم فاسهري 

من القصائد "المنتقيات".

وأما شعر "عروة"، فقد عد أشعر شعر "بني عبس" في رأي أبناء قبيلته. روي ان "عمر بن الخطاب" " قال للحطيئة: كم كنتم في حربكم? قال: كنا ألفَ حازمٍ. قال: وكيف? قال: فينا قيس بن زهير، وكان حازماً وكنا لا نعصيه، وكنا نقدم باقدام عنترة، ونأتم بشعر عروة بن الورد، وننقاد لأمر الربيع بن زياد".

ويرى "بروكلمن"، انه كان بدوياً قحاً، رويت له أشعار أكثر مما روي لتأبط شراً والشنفري، لكنه كان دونهما في تصوير حياة الجاهلية.

ولعروة ديوان برواية "ابن السكيت" "243ه" "244ه"، طبع جملة طبعات. وقد ترجم إلى الألمانية والافرنسية، وقد جمع "الأصمعي" شعره في ديوان لم يصل الينا.

وفي شعر عروة شعر مصنوع، وضع عليه، وفيه كما رأينا ما ليس له، وقد نسبه بعض العلماء إلى غيره، ونجد في شعره شعراً يمثل طبيعة مجتمع حضري غلبت التفرقة الطبقية، فيه غنى حضر، وفقر أهل مدن، يظهر أنه وضع على لسانه حكاية عن وصع الناس في ذلك الوقت، خشيه ناظمه من تعرض الحكام أو الأغنياء له بسوء، فيما لو نشره باسمه، فآثر نظمه باسم "عروة".

و"الشنفري"، وهو "ثابت بن أوس" الأزدي، وقيل بل "الشنفري" اسمه لا لقبه، وقيل: بل هو: "عمرو بن مالك" الأزدي، وقيل "عمرو ابن براق"، وقيل غير ذلك، من "بني الأواس بن الحجر بن الهنئ بن الأزد"، من اليمانية في عرف أعل النسب. وهو من الصعاليك ومن العدائين. وكان من المرافقين للشاعر "تأبط شراً" في كثير من غزواته. وكان أكبر منه سناً، وتوفي قبله. وذكر أنه حلف يميناً أن يقتل من "بني سلامان" مائة رجل فقتل تسعة وتسعين، فأمسك به رجل عدّاء، هو "أسيد بن جابر" وهو عداء من العدائين وقتله. فمرّ به رجل من بني سلامان فركل جمجمته، فدخلت شظية منها في رجله فمات. فوفى الشنفري بقسمه، وأتم العدد وهو ميت. ويلاحظ أن أهل الأخبار يزعمون أن "عمرو بن هند" كان قد حلف يميناً أن يقتل من "بني دارم" مائة رجل، وأن يلقي بهم في النار، فسار اليهم فقتل تسعة وتسعين وأحرقهم بالنار، وبقي عليه أن يبر بقسمه بقتل واحد آخر منهم حتى يكمل العدد، فمر رجل من البراجم شمّ رائحة حريق القتلى، فحبسه قتار الشواء، فمال اليه، فلنا رآه "عمرو"، قال له: ممن أنت? قال: رجل من البراجم، فقال: ان الشقي وافد البراجم، وأمر فقتل وألقي في النار. فبرت به يمينه. وقد يكون للقصتين ولقصص آخر من هذا النوع علاقة بطقوس أو بأساطير جاهلية قديمة، تجعل الأبطال، ينذرون نذوراً تختلف عن نذور سائر الناس، هي قتل مائة نفس قربى إلى الآلهة، بدلاً من تقديم الضحايا من الحيوانات.

وكان "الشنفري" يحقد على "بني سلامان" حقداً شديداً، وسبب حقده عليهم، انه كان قد وقع أسيراً وهو صبي في "بني شبابة بن فهم"، فانتمى اليهم، ثم وقع أحد "بني شبابة" أسيراً في "بني سلامان بن مفرج" من الأزد، ففدى "بنو شبابة" الأسير به. فصار "الشنفري" فيهم، وحسب منهم، ثم أنه أراد الزواج من ابنة رجل منهم، فرده والدها رداً عنيفاً، أثر فيه، فعاد إلى "بني فهم"، وأخذ يغير على "بني سلامان" للإهانة التي لحقته من الرجل، والتي كانت سبب صعلكته.

ويروى ان الشنفري أغارمع "تأبط شراً" و "عمرو بن براق" على "بجيلة"، فوجدوا بجيلة قد أقعدوا لهم على الماء رصداً، وقد علم "تأبط شراً" انهم يريدونه، فتآمر مع الشنفري وعمرو بن براق، على انقاذه إن وقع في أيديهم، فلما جاء الماء قبضوا عليه، فعمد الشنفري وابن براق إلى حيلة كانوا قد اتفقوا عليها لغش بجيلة، فأنقذوه، وهربوا ساخرين من بجيلة التي خدعت بها. وللعرب قصص ترويه عن بساطة "بجيلة"، وسرعة انخداعها بالحيل.

وهو كما سبق أن ذكرت، أحد أغربة العرب، ويظهر ان الملامح الافريقية كانت بارزة عليه، بدليل تلقيبه بالشنفري، و "الشنفري" الغليظ الشفاه، ويظهر أنه أخذ ملامحه من أمه السوداء. وأخباره متناقضة متضاربة، يظهر منها ان أباه قد قتله قاتل من "الأزد"، قتله "حرام بن جابر"، وكان قد قدم "منى" فقيل له: هذا قاتل أبيك، فشد عليه فقتله. فحقد على قتلة أبيه، وقرر الأنتقام منهم شر انتقام، وأن لا يكف عنهم ما دام حياً، فكان يكثر من الغارة عليهم، يغير مع من معه من صعاليك، وقد يغير عليهم وحده.

ويروى في قتله، انه قتل من "بني سلامان بن مفرج" تسعة وتسعين رجلاً، فأقعدت له رجالاً يرصدونه، فلما دنا من ماء ليشرب، قبض عليه رجلان من "بني البقوم" من الأزد، فقبضا عليه، وأصبحا به في "بني سلامان". فربطوه إلى شجرة، فقالوا: قف أنشدنا، فقال الإنشاد على حين المسرة، ثم قال: فلا تدفنونـي إن دفـنـي مـحـرمُ  عليكم ولكن خـامـري أم عـامـر

إذا حملوت رأسي وفي الرأس أكثري  وغودر عند الملتقـى ثـم سـائري

هنالك لا أرجـو حـياة تـسـرنـي  سمير الليالي مُبسـلاً بـالـجـرائر

وذكر "المرتضى" أن هناك من نسب هذا الشعر إلى تأبط شراً. وقد نسبه "الجاحظ" إلى "تأبط شراً"، إذ قال: "وقال تأبط شراً: فلا تقبروني إن قـبـري مـحـرمُ  عليكم ولكن خامـري أم عـامـر

إذا ضربوا رأسي وفي الرأس أكثري  وغودر عند الملتقـى ثـم سـائري

هنالك لا أبغـي حـياةً تـسـرنـي  سمير الليالي مبسلاً بـالـجـرائر"

ويختلف نص هذا الشعر بعض الاختلاف عن النصوص الأخرى.

ويذكر أنه لمّا وقع بأيدي أعدائه، تفننوا في قتله، وأروه أصناف العذاب. قطعوا يده، وصاروا يسخرون منه، ويسألونه أين يدفنونه. فرد عليهم بمقطوعة رائعة، كما رثى يده بأرجوزة لما قطعوها، وقد ذكر أنه طلب منهم ألا يدفن، وإنما يلقى بجسده إلى الضباع. وروي أن رجلاً من "بني سلامان" رماه بسهم في عينه فقتله، فقال "جزء بن الحارث" في قتله: لعمرك للساعي أسيدُ بن جابـر  أحق بها منكم بني عقب الكلب 

وقد ضاع أكثر شعر "الشنفري". وقد طبعت لاميته، وللعلماء شروح وبحوث عليها. وهي في الفخر والحماسة، ولم يعرف كثير من قدماء علماء الشعر القديم هذه اللامية، ومن بينهم مؤلف كتاب "الأغاني". وقد تعرض "القالي" لموضوع "اللامية"، فقال: "حدثني أبو بكر بن دريد: ان القصيدة المنسوبة إلى الشنفري التي أولها: أقيموا بني أمي صدور مطيكم  فإني إلى قومٍ سواكم لأمـيل

له، وهي من المقامات في الحسن والفصاحة والطول، فكان أقدر الناس على قافية". ويعود الضمير "له" إلى خلف الأحمر. أي ان القصيدة هي من صنعه وعمله. وعدة القصيدة ثمانية وستون بيتاً. وممن شرحها: الخطيب التبريزي، والزمخشري، وابن الشجري، وابن اكرم وغيرهم. وقد ورد في "تأريخ الآداب العربية" لكارلو نالينو: "أما الشنفري الأزدي فصاحب اللامية المشهورة التي يفتخر فيها بانفراده من قومه ووحشة عيشه في البراري كأنه لم يعاشر إلا السباع. وهي قصيدة غاية في الجمال تنطق بلسان حال الشاعر وان كان بعض النحويين يزعمون انها من مصنوعات حماد الراوية المتوفي سنة 155". وفي قوله: "وان كان بعض النحويين يزعمون انها من مصنوعات حماد الراوية" وهم، لا أدري أوقع منه، أم من الترجمة، لأن غالبية العلماء تنسبها إلى خلف الأحمر، لا إلى حماد. كما ان وفاته كانت سنة "156ه".

وقد ذهب بعض المستشرقين الذين بحثوا أمر هذه القصيدة، إلى أن القصائد التي نحلها"خلف الأحمر" احتفظت دائماً بعمود الشعر القديم وطابعه، أما هذه القصيدة، فلها طابع خاص يجعل من الصعب تصور صدورها من "خلف الأحمر".

وذهب بعض آخر إلى جواز كونها من نظم "الشنفري"، وذكر أنها من مصنوعات "حمّاد "الراوية.

وفي "المفضليات" قصيدة طويلة له، هي قصيدة تائية، ومقطعات، وفي قصيدته وصف لحياته ولبعض غاراته، وكيف كان يقود صعاليكه في طرق وعرة، وهم على أرجلهم، ثم يصف حاله، فهي قصيدة فيها بعض تأريخ هذا الشاعر وقصص غزوه وتعامله مع رفاقه.

وقد طبع الأستاذ "عبد العزيز" الميمني، ديوان الشنفري في "الطرائف الأدبية"، وتوجد أشعاره أيضاً في "ديوان الهذليين". وقد كان عند العيني ديوان للشنفري في جملة دواوين عديدة كانت في حوزته. وقد كتب عدد من المستشرقين عن الشنفري وشعره بمختلف اللغات.

وأما "تأبط شراً"، وهو "ثابت بن جابر بن سفيان"، وقيل "ثابت بن عمسل" فهو من فهم، وكان من أغربة العرب، لأن أمه أمة سوداء. وكان من العدائين المعروفين عند العرب. وله أخبار كثيرة في ذلك، وله مغامرات تحمل طابع القصص والأساطير. وله قصيدة في وصف "الغول" ذكر فيها كيف طير بسيفه قحف ابنة الجن. وكان أحد رآبيل العرب. وذكر علماء اللغة ان الرئبال هو الذي ولدته أمه وحده، وبه سميت رآبيل العرب، ومن السباع الكثير اللحم الحديث بالسن، والذئب الخبيث، وترأبلوا: تلصصوا أو أغاروا على الناس وفعلوا فعل الأسد، أو غزوا على أرجلهم وحدهم بلا والٍ عليهم. وهذا المعنى هو أقرب المعاني وأقرب إلى الصحة في تفسير "رآبيل العرب". فهم الصعاليك الذين نبحث عنهم.

ويظهر أن أباه مات وهو صغير، وأن أمه التي كانت أمة سوداء على أغلب الروايات، أو أمة حرة في رواية، تزوجت الشاعر"أبا كبير" الهذلي، وهو من الصعاليك، من صعاليك هذيل، وأن أبناء قبيلته كانوا يعيرونه بسواده، مما ترك أثراً في نفسه، فتصعلك، وأخذ يرافق الصعالكة، ومنهم صعلوك شهير آخر، هو "الشنفري" الذي رافقه في كثير من غزواته. وقد نعت "تأبط شراً" بأنه شاعراً بئيساً، يغزو على رجليه.

ومما يروى من قصصه أنه كان يشتار عسلاً من جبل ليس له غير طريق واحد، فأخذت لحيان عليه ذلك الموضع، وخيّروه النزول على حكمهم أو إلقاء نفسه من الموضع الذي ظنوا أنه لا يسلم. فصب العسل الذي معه على الصفا وشدّ صدره على الزق ثم لصق على العسل، فلم يبرح ينزلق عليه حتى نزل سالماً، فنظم في ذلك قصيدة مطلعها: إذا المرءُ لم يحتل وقد جد جده  أضاع وقاسى أمره وهو مُدبر 

ولعلماء الشعر قصص في تفسير تسمية هذا الشاعر ب "تأبط شراً"، فزعم بعض منهم أنه "إنما سميّ تأبط شراً لأنه أخذ سيفاً وخرج، فقيل لأمه أين هو? قالت: لا أدري، تأبط شراً وخرج. وقيل أخذ سكيناً تحت أبطه وخرج إلى نادي قومه فوجأ بعضهم، فقيل تأبط شراً. وزعم بعض آخر أن أم تأبط شراً قالت له يوماً: إن الغلمان يجنون لأهلهم الكمأة فهلا فعلت كفعلهم، فأخذ جرابه ومضى فملأه أفاعي وأتى متأبطاً به، فألقاه بين يديها فخرجت الأفاعي منه تسعى فولت هاربة. فقال لها نساء الحيّ: ما الذي كان ابنك متأبطاً له? فقالت: تأبط شراً! وقيل: إنه رأى كبشاً في الصحراء فاحتمله تحت إبطه، فجعل يبول عليط طول طريقه، فلما قرب من الحي ثفل عليه الكبش، فرمى به، فإذا هو الغول. فقال له قومه: ما كنت متأبطاً يا ثابت? قال: الغول. قالوا: لقد تأبطت شراً، فسمي بذلك. وانه قال في ذلك: تأبط شراً ثم راح أو اغتـدى  يوائم غنماً أو يشف على ذحل 

وقيل سميّ بهذا البيت. قال رجل لتأبط شراً: بمّ تغلب الرجال وأنت دميم ضئيل? قال: باسمي، إنما أقول ساعة ما ألقى الرجل: أنا تأبط شراً، فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت". وقيل إنما سميّ "تأبط شراً"، لأن أمه رأته وقد تأبط جفير سهام وأخذ قوساً، فقالت له: هذا تأبط شراً، أو تأبط سكيناً فأتى ناديهم فوجأ بعضهم، فسميّ به لذلك، وكان لا يفارقه سيفه. قتلته هذيل في رواية، وقالت أخته ترثيه: نعم الفتى غادرتم برخمان  بثابت بن جابر بن سنان

وكانت تسمى "ريطة". وذكر أن أمه هي التي رثته. وقد ذكر في أشعار هذيل.

وكان سبب قتله، اته خرج غازياً في نفر من قومه، إذ عرض لهم بيت من هذيل، بين صدى جبل، فأراد مهاجمته، فمنعه من كان معه من مباغتته، لخروج ضبع اعتافوا منه، فلم يبال بتشاؤمهم، فلما قارب البيت رآه غلام، فهرب إلى الجبل، فهجم تأبط شراً مع جماعته على البيت، فقتلوا شيخاً وعجوزاً، وحازوا جاريتين وإبلاً، ثم أبصر تأبط شراً بالغلام، فاتبعه، فرماه الغلام بسهم أصاب قلبه، وحمل على الغلام فقتله، ثم مات هو من السهم، وترك جثة، فاحتملته هذيل، وطرحته في غار يقال له غار"رخمان". فرثته أخته "ريطة" بقولها: نعم الفتى غادرتم برخمان  ثابت بن جابر بن سفيان

قد يقتل القرِن ويَروي الندمان وفي بيت شعر ينسب إلى تأبط شراً، هو: ولست أبيت الدهرَ إلا على فتى  أسلّبه أو أذعرالسرب أجمعـا

معنى يفيد انه يغيرعلى القادم والآيب، يسلبه ويأخذ ما عنده، لا يبالي بشيء إلا بحصوله على غنيمة السلب، وهو ان قابل قافلة، فلم يتمكن منها، يكون قد رضي من فعله بما ألقاه من رعب وذعر في قلوب أصحابها، ويكون قد اشتفى بذلك منها. فهو رجلٍ منتقم، يريد أن يفرج عما ولد في قلبه من غلَ، بأية طريقة كانت، غلّ، ولد فيه، من سواد لونه، ومن ازدراء قومه له، ومن فقره وسوء حاله في هذه الحياة، وذلك فيما لو صح ان هذا الشعر هو من قوله.

ونسب قوم من الرواة إلى "تأبط شراً" قصيدة مطلعها: ولقد سريتُ على الظلام بمغشمٍ  جلد من الفتيان غير مهـبـل

وهي قصيدة نسبها غيرهم إلى "أبي كبير" أو "تأبط شراً" على نظمها.

قال "الجاحظ" في كتابه "الحيوان":" وقال تأبط شراً-إن كان قالها-: شامس في القرّ حتى إذا ما  ذكت الشعرى فبرد وظل

وله طعمان أرٌيُ وشـريُ  وكلا الطعمين قد ذاق كل

مما يدل على انه في شك من أمر نسبة هذه القصيدة اليه.

وأشعار "تأبط شراً" متناثرة في كتب الأدب. ولم يطبع له ديوان بعد. ومن شعره أبيات، يذكر فيها أن "عذّالة" لامته حتى أكثرت من لومه، فكادت تخرق جلده أي تخراق، وقد عبر عن ذلك بقوله:   

يا من لعذّالة خـذّالة نـشـبٍ  خرقت باللوم جلدي أي تخراق 

تقول:أهلكت مالاً لو ضننت به  من ثوب عزّ ومن بزّ وأعلاق

سدّد خلالك من مال تجمـعـه  حتى تلاقي ما كلّ امرئ لاق

عاذلتا انّ بعضَ اللوم معـنـفة  وهل متاع وإن بقـيتـهُ بـاق

وهذه هي مشكلة أولئك الصعاليك، كانوا يخاطرون بحياتهم، للحصول على نال، فإذا حصلوا عليه، ونجوا من تعقب الناس لهم، أهلكوه. يتلفونه على ملذاتهم، أو على أصدقائهم. وإذا بهم في حاجة إلى مال، وفي عسر وضيق. ومن شعره قوله: لَتَقرعنَّ علي السنّ مـن نـدمٍ  إذا تذكرت يوماً بعض أخلاقي 

وله شعر يصف فيه حاله، بقوله: قليل التشكي للمـهـم يُصـيبـه  كثيرُ الهوى شتى النوى والمسالكِ

يظلّ بموماة ويمسي بـغـيرهـا  جحيشاً ويَعروري ظهور المهالك

ويسبق وفد الريح من حيث يتنحى  بمنخرق من شدة الـمـتـدارك

إذا خاط عينيه كرى النوم لـم يزل  له كالئُ من قلب شيحان فـاتـك

ويجعل عينـيه ربـيئة قـلـبـه  إلى سلة من حدِّ أخلـق صـائكِ

إذا هزّه في عظم قرنٍ تهلـلـت  نواجذ أفواه المنايا الضـواحـك

يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي  بحيث اهتدت أم النجوم الشوابـك

وهي قصيدة مدح بها عمه "شمس بن مالك".

وقد شك "الجاحظ" في نسبة هذه القصيدة إلى "تأبط شراً"، إذ قال: "ومن هذا الباب قول تأبط شراً، أو قول قائل فيه في كلمة له". وتنسب أيضاً إلى "السليك بن السلكة" أحد غرابيب العرب.

وله قصيدة ذكر فيها أنه التقى بالغول، وصار جاراً للغيلان، وقد وصف حاله معها، حيث قال: وأدهم قد جبت جلـبـابـهُ  كما احتابت الكاعبُ الخيعلا 

إلى أنسحدا الصبح اثـنـاءه  ومزق جلبـابـه الألـيلا

على شيم نارٍ تنـورتـهـا  فبت لها مدبراً مـقـبـلا

فأصبحت والغول لي جارة  فيا جارتا أنت مـا أهـولا

وطالبتُها بعضها فالـتـوت  بوجه تهول فاسـتـهـولا

وهي قصيدة ذكرها "ابن قتيبة"، وقد اكتفيت منها بالأبيات المتقدمة. وقد عمل "ابن جني" ديوان "تأبط شراً"، ونشرت بعض أشعاره وترجمت بلغات أعجمية.

وأما "السليك بن السلكة"، فهو من تميم. وأمه أمة سوداء، وكان يغير على القبائل، و لاسيما القبائل اليمانية وقبائل ربيعة. وكان من العارفين باقتفاء الأثر. ومن العالمين بالمسالك وبالطرق وبالأرض. يذكرون أنه كان إذا جاء الشتاء استودع بيض النعام ماء السماء ثم دفنه، فإذا كان الصيف، وأغار واحتاج إلى الماء، جاء إلى مواضع البيض، فاستخرج البيض منها وشرب ما فيه من ماء.

وقد نسب "سليك" على هذا النحو: "سليك بن يثربي بن سنان بن عمير ابن الحرث، وهو مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن سلكة، وهي أمه. ولذا قيل: "ابن السلكه" وقيل اسم والده: "عمرو بن يثربي"، ويقال "عمير"، وهو شاعر لص فتاك عدّاء. يقال: "أعدى من سليك"، ويقال له: "سليك المقانب". قال قرّان الأسدي، وقيل أنس ابن مدرك: لَخُطابُ ليلى يالَ بـرثـن مـنـكـم  على الهول، أمضى من سليك المقانب 

وقال أهل الأخبار عنه، انه أحد أغربة العرب وهجنائهم وصعاليكم ورجيلاتهم، وكان له بأس ونجدة. وكان أدل الناس بالأرض وأجودهم عدواً على رجليه، وكان لا تعلق به الخيل. وتذكر قصة انه خرج رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر عليه، فيذهب بإبله، وبينما هو نائم، واذا برجل يجثم عليه، ويقول له: استأسر، فتمكن منه السليك، ووجده صعلوكاً فقيراً جاء مثله لعله يصيب شيئاً، فاتفق معه على أن يغزوا معاً، فلما سارا وجدا رجلاً صعلوكاً انضم اليهما، واتفقوا على الغزو، ولما كانوا في جوف "مراد"، وجدوا نعماً، فطلب "سليك" من رفيقيه الانتظار والتربص ريثما يذهب إلى الرعاء فيلهيهما، ثم يغيرا على النعم. فلما وصل إلى الرعاء، تودد اليهم، ثم قال لهم: ألا أغنيّكم? قالوا: بلى، فأخذ يغني: يا صاحبيّ ألا لا حيّ بالوادي  إلا عـبـيد وآم بـين أذواد

أتنظرانِ قليلاً ريث غفلتهـم  أم تعدوان فإن الريح للعادي 

فلما سمعا ذلك أطردا الإبل فذهبا بها.

وذكر ان "بكر بن وائل" سارت للإغارة على "تميم". ورأته طلائعها، فأرادت القبض عليه، حتى لا يذهب اليهم فيخبرهم بزحفهم عليهم. ولكنه ركض مسرعاً، ففلت منهم، وأخبر قومه بغزوهم، فكذبوه. فقال في ذلك شعراً، وجاءت "بكر بن وائل" فأغارت عليهم.

وقد وصفه "عمرو بن معدي كرب" في شعر منه: وسيريَ حتى قال في القوم قائل:  عليك أبا ثورٍ سُلَيٌك المقـانـب

ومرّ "سليك" في بعض غزواته ببيت من "خثعم"، أهله خلوف، فرأى فيهم امرأة بضة شابة، فتسّنمها ومضى، فأخبرت القوم، فركب "أنس بن مدرك الخثعمي" في أثره فقتله، وطولب بديته، فقال: واللهِ لا أديه ابن إفال، وقال: إني وقتلي سليكاً يوم أعقـلـه  كالثور بضرب لما عافت البقر 

غضبتُ للمرء إذٌ نيكت حليلتـه  وإذ يشدُ على وجعائها الثغـر

وقد ورد البيتان على هذه الصورة: إني وقتلي سليكاً ثم أعـقـلـه  كالثور يضرب لما عافت البقرُ 

أنفت للمرءِ إذ نيكت حليلـتـه  وأن يشد على وجعائها الثغـر

ومن بقية الشعراء الصعاليك، "حاجز" الأسدي، و "قيس بن الحدادية" الأزدي، و "أبو الطحمان" القيني، "وأبو خراش" الهذلي، وصخر الغي الهذلي، وأخوه الأعلم الهذلي، وعمرو ذو الكلب.

فأما "قيس بن الحدادية"، فهو "قيس بن منقذ بن عبيد بن أصرم بن ضاظر بن حُبشية بن سلول"، وله مع "عامر بن الظرب" حديث. وصفه "المرزباني" ب"شاعر قديم كثير الشعر". وأمه من "بني حُداد" كنانة، وقوم يجعلونها من حداد محارب. وكان صعلوكاُ خليعاً، ساهم مع جماعة من أهله في قتل رجل من قبيلتهم، وعجز قومه من دفع ديته، فولوا هاربين، فنزلوا في "فراس بن غنم" ثم لم يلبثوا أن قتلوا منهم رجلاً، فهربوا، فنزلوا على "أسد بن كرز" من "بجيلة"، فأحسن اليهم وتحمل عنهم ما أصابوا في خزاعة وفي فراس. وقد نسب "قيس" إلى أمه الحُدادية، وهي حضرمية من محارب. وورد ان أمه من "محارب بن خصفة". و "حداد" من كنانة. ومن شعره: أنا الذي أطرده موالِـيهٌ  وكلهم بعد الصفاء قاليه 

و لا نجد في بطون الكتب شعراً كثيراً لقيس بن الحدادية، بحيث تنطبق عليه جملة "كثير الشعر" التي أطلقها "المرزباني" على شعر هذا الشاعر، مما يبعث على الاحتمال بضياعه منذ عهد طويل.

وألف "قيس بن الحدادية"، عصابة ضمت "شذاذاً من العرب وفتّاكاً من قومه" وأخذ يغير على عشيرته بسبب خلعها له، وبقي شريداً متمرداً يغزو بصعاليكه، إلى أن قتل صعلوكاً.

وأما "أبو الطمحان" القيني، فهو "حنظلة بن الشرقي" من بني كنانة بن القين، وكان فاسقاً، نازلاً بمكة على الزبير بن عبد المطلب، وكان ينزل عليه الخلعاء، وكان نديماً له في الجاهلية. اختلف فيه، فمنهم من قال إنه جاهلي، ومنهم من قال إنه أدرك الإسلام. وقد زعم بعضهم أنه عاش مائتي سنة، وأنه ندم على ما اقترفه من الذنوب كالزنا وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير والسرقة، ورووا له شعراً تبرأ فيه من الذنوب. ذكر أنه قيل له: ما أدنى ذنوبك? قال: ليلة الدير، قيل له: وما ليلة الدير? قال: نزلت بديرانية، فأكلت عندها طفشيلاً بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كساءها، ومضيت!? وكانت له ناقة يقال لها "المرقال"، وله إبل استقاها قوم نزلوا ضيوفاً عليه وشربوا من ألبانها ثم أخذوها معهم، فقال في ذلك شعراً منه: واني لأرجو ملحها في بطونكـم  وما بسطت من جلد أشعث أغبر 

وذلك أنه جاورهم، فكان يسقيهم اللبن؛ فقال أرجو أن تشكروا لي ردّ لإبلي، على ما شربتم من ألبانها، وما بسطت من جلد أشعث أغبر، كأنه يقول: كنتم مهازيل فبسط ذلك من جلودكم.

وروي أنه كان من المعمرين، عاش على حدّ قول بعضهم مائتي سنة. فقال في ذلك: حنتني حانيات الدهر حـتـى  كأني خاتـل أدنـو لـصـيد

قصير الخطوِ يحسب من رآني  ولست مقـيداً أنـي بـقـيد

ونسب "المرتضى" له قوله: واني من القوم الذين همُ هـمُ  إذا مات منهم ميت قام صاحبه 

نجوم سماء كلما غاب كوكـب  بدا كوكب تأوي اليه كواكبـه

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههـم  دجى الليل حتى نَظَّم الجزع ثاقبه  

و ما زال منهم حيث كان مسـود  تسير المنايا حيث سارت كتائبـه

وقد لاقى "ابو الطمحان" مصاعب عديدة، وكان لا يكاد يجد له مكاناً يستقر فيه، حتى تقع له حادثة توقعه في مشكلات عويصة وفي شدة ومحنة، فكان يتنقل من جار إلى جار، ثم يهم بالعودة إلى أهله لولا خوفه من أداء الدية التي عليه أن يدفعها، فيحجم عن الذهاب اليهم، حتى استقر أخيراً في"بني فزارة" في جوار رجل يقال له "مالك بن سعد" أحد "بني شمخ"، وكان كريماً، فآواه، واعطاه ابلاً لتكون دية جنايته وزاد عليها، وكان قد لمح له انه يريد العودة إلى أهله لولا هذه الدية، فلما وجد هذا السخاء من مالك، بقي عنده، وصار أحد عشيرته حتى هلك فيها، وهو طاعن في السن. فذكره "السجستاني" لذلك في المعمرين، وأعطاه مائتي سنة من عمر مديد ! ونسب إلى "أبي الطمحان" قوله: ان الزمان ولا تفنى عجائبـه  فيه تقـطـع أُلافٍ وأقـران

أمست بنو القين أفراقاً موزّعة  كأنهم من بقايا حي لقـمـان

وله شعر في مدح "مالك بن حمار" الشمخي، وكان شريفاً من أشراف العرب قتله "خفاف بن ندمة" السلمي، يقول فيه: سأمدح مالكاً في كل ركـبٍ  لقيتهـم وأتـرك كـل رذل

فما أنا والبكارة من مخاضٍ  عظام جلة سـدس وبـزل

وقد عرفت كلابُكم ثـيابـي  كأني منكم ونسيتُ أهـلـي

نمتكم من بني شمـخٍ زنـاد  لها ما شئت من فرعٍ وأصل 

وله أيضاً: فكم فيهم من سيد و ابـن سّـيد  وفيّ بعقد الجار حين يفارقـه

يكاد الغمامُ الغرّ يزعب ان رأى  وجوه بني لأم وينهل بـارقـه

وله في "بني نمير" قوله: مهلاُ نميرُ فانـكـم أمـسـيتـم  منّا بثغر ثنـيّة لـم تُـسـتـرِ

سُوداً كأنكـم ذئائب خـطـيطة  مُطر البلاد وحرمها لم يُمطـر

يحبون ما بين أجا وبرقة عالـجٍ  حبو الضباب إلى أصول السخبر 

وتركتم قصب الشُريف طوامـياً  تهوى ثنيته كـعـين الأعـور

وله في الأتعاظ والاعتبار بدروس الغابرين، قوله: ألا ترى مأرباً ما كان أحصنـه  وما حواليه من سور وبنـيان

ظلّ العبادي يسقي فوق قُلتـه  ولم يهب ريب دهرٍ حق خوّان 

حتى تناوله من بعد ما هجعـوا  يرقى اليه على أسباب كتّـان

ولما في حياة الصعالكة من غرابة وطرافة ومغامرات، تستلذ لسماعها الآذان، وضع الوضاعون عليهم أخباراً كثيرة وأشعار عديدة، تجد بعضها تحكي الأيام التي وضع الوضاعون فيها تلك الأشعار، من حيث الطعن في الأغنياء، و تفضيل الفقراء عليهم، وترجيح الفقير على الغني، لشعوره بشعور انساني حرم منه الغني الذي لم يكن يفكر الا بنفسه، كما ان في كثير من الشعر المصنوع طابع حياة المغامرات. وهو يختلف نصاً من مؤلف إلى مؤلف، مما يدل على تعدد الروايات، وانه أخذ من ألسنة متعددة، فتعدد بعددها.

الفصل الحادي والستون بعد المئة
شعراء القرى العربية

والقرى العربية فينظر "ابن سلام" خمس هن: مكة والمدينة والطائف واليمامة والبحرين. و"القرية" في تفسير علماء العربية المصر الجامع، وقيل كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قراراً وتقع على المدن وغيرها. وقد جاءت اللفظة في مواضع عديدة من القرآن. كما وردت فيه: "القريتين"، بمعنى مكة والطائف، و "أم القرى"، بمعنى "مكة"، و "أهل القرى"، و "القرى". ومكة و المدينة و الطائف قرى، أما "اليمامة" فمصر جامع، ضم قرى، و كذلك البحرين. ولم تدخل " الحيرة"، أو الأنبار، في القرى العربية لكونها خارج حدود جزيرة العرب في عرف العلماء.

وذكر "ابن سلام" ان أشعر أهل القرى الخمس، أهل قرية "المدينة"، أي يثرب. وقد أخرجت خمسة من الفحول: ثلاثة من الخزرج و اثنان من الأوس. فمن الخزرج من "بني النجار" حسان بن ثابت، ومن بني سلمة: "كعب بن مالك"، و من "بلحارث بن الخزرج" " عبد الله بن رواحة".

ومن الأوس: قيس بن الخطيم، من "بني ظفر"، و "أبو قيس ابن الأسلت" من "بني عمرو بن عوف".

وروي عن "أبي عبيدة" قوله: "اجتمعت العرب على ان شعر أهل المدر: يثرب، ثم عبد القيس، ثم ثقيف، وعلى ان أشعر أهل المدر: حسان بن ثابت، ثم قال: "حسان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر اليمن في الإسلام، وهو شاعر أهل القرى". وروي انه كان أشعر أهل الحضر.

وفال ابن سلام في حديثه عن مكة: "وبمكة شعراء" ووصف أشعار قريش بأنها أشعار فيها لين، وهي سهلة سلسة إذا قيست بأشعار أهل البادية، يتغلب عليها طابع الحضارة، و كذلك شعر باقي القرى. و قال عن الطائف، وبها شعراء وليس بالكثير. وعلل ذلك بقوله: "وانما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء، نحو حرب الأوس و الخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم. و الذي قلل شعر قريش انه لم يكن بينهم ثائرة، و لم يحاربوا. وذلك الذي قلل شعر عمان و أهل الطائف". و قال عن "اليمامة": "ولا أعرف باليمامة شاعراً مشهوراً".

ولم تنفرد أشعار قريش و حدها باللين، و انما الليونة والسهولة في الشعر من طبائع الشعر الحضري أجمع. ففي طبيعة الحياة في الحاضرة سهولة غير موجودة في حياة البداوة، و راحة ودعة و استقرار، وهي أمور لا توجد في البادية، ثم فيها اجتماع و احتكاك بعالم خارجي، وميل إلى جمع المال والاستمتاع به، و الابتعاد عن الغزو و الحرب، وكراهة القتال و تعريض النفس للخطر، و النفس عزيزة غالية عند الحضر، وهي هينة رخيصة عند الأعراب، وما الذي يجعل الأعرابي يحرص على حياته حرص أهل الحواضر، و كل ما عنده جوع و فقر و طبيعة قاسيةتجعله لا يحصل على قوته الا بالاغارة على غيره لاستلاب ما عنده من رزق. فلا غرابة إذا ما غلظ شعره وخشن شعوره المتمثل في نظمه، ولأن شعر الحضري في مقابله.

ولم يذكر "ابن سلام" السبب الذي جعل "اليمامة" فقيرة في الشعر، حيث يقول: "ولا أعرف باليمامة شاعراً مشهوراً"، ولا الأسباب التي حملته على القول بعدم و قوفه على شاعر شهير فيها، مع أن "الأعشى" منها، وهو شاعر شهير، والمرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وهما شاعران مشهوران من "قيس ابن ثعلبة"، و "قيس ابن ثعلبة" من القبائل النازلة باليمامة، وقد ذكرها "ابن سلام" في طبقاته، كما ذكر "المتلمس"، في طبقاته، وهو شاعر معروف من شعراء اليمامة كذلك. و يظهر أنه نسي أسمائهم، لأنه كان يعلم أن الغلبة كانت لبني حنيفة على اليمامة عند ظهور الإسلام، و لم يحفظ الرواة -لسبب لا نعرفه- شعراً لشعراء من بني "حنيفة"، فعمم قوله على كل اليمامة، و الحكم بالتعميم شئ مألوف بين أهل الأخبار.

وقد ذهب "الجاحظ" ال ان "بني حنيفة" أهل اليمامة، كانوا أقل الناس شعراً، اذ يقول: "وبنو حنيفة مع كثرة عددهم، وشدة بأسهم، وكثرة وقائعهم، و حسد العرب لهم على دارهم و تخومهم وسط أعدائهم، حتى كأنهم وحدهم يعدلون بكراً كلها، و مع ذلك لم نر قبيلة قط أقل شعراً منهم. و في اخوتهم عجل قصيد ورجز، وشعراء و زجّالون". وقد أنكر أن يكون ذلك بسبب مكان الخصب و انهم أهل المدر، أي حضر، و انما رجع ذلك إلى الطبع، و إلى "قدر ما قسم الله لهم من الحظوظ والغرائز، و البلاد و الأعراق مكانها".

ويلاحظ أن علماء اللغة، جعلوا "اليمامة" في جملة الأرضين التي لم يرجعوا إلى لغتها، فذكروا أنهم لم يأخذوا اللغة "لا من بني حنيفة و سكّان اليمامة، ولا من ثقيف و أهل الطائف، لمجاورتهم تجار اليمن المقيمين عندهم"، و ذلك في الإسلام بالطبع، لأن تدوين اللغة لم يبدأ به الا في هذا الحين. وهو رأي صحيح، لأن لغات أهل اليمامة   

متأثرة باللهجات العربية الجنوبية، كما كانت كتاباتهم بالمسند، بدليل عثور المستشرقين على كتابات عديدة في مواضع من اليمامة، مدّونة بهذا القلم، وبلغة عربية جنوبية بلهجات خاصة بعض التأثر، و لهذا فنحن نستطيع أن نقول ان كتابات اليمامة التي عثر عليها الآن والتي سيعثر عليها في المستقبل، تكون مجموعة فريدة مهمة من الكتابات و قد تكون جسراً بين العربيات الجنوبية القحة، وبين اللغات العربية الشمالية، وقد تكون هذه الخصائص اللغوية الفريدة هي التي جعلت "ابن سلام" يقول في طبقاته: "ولا أعرف باليمامة شاعراً مشهوراً"، اذ سمع أن شعراء اليمامة كانوا يقولون الشعر بلهجاتهم التي تختلف عن اللهجة التي نظم بها شعراء مجموعة "ال"، فأهمل لذلك شعرهم، أو أن شعرهم لكونه شعراً محلياً خاصاً، لم ينتشر خارج قبائل اليمامة، فلم يصل إلى علمه منه شيء، فقال لذلك قوله المذكور، و لم يعده من الشعر المألوف، الذي تعورف عليه بين علماء الشعر، ولما كان "الأعشى" و "المرقش" الأكبر، و المرقش الأصغر، و المتلمس، قد نظموا الشعر باللهجة المألوفة، ولكونهم من المتنقلة الذين تنقلوا بين العرب، وقضو أكثر أوقاتهم خارج اليمامة، لم يدخلهم لذلك في شعراء اليمامة، لا جهلاً منه بأصلهم، وانما لما بينته من أسباب.

ولعل لكثرة وجود العبيد والموالي بها دخل في هذا الباب، فاليمامة أرض خصبة ذات مياه، استقر أهلها و أقاموا في القرى و زرعوا واعانوا بالموالي وبالعبيد و بأهل اليمن لاستغلال أرضهم، فصاروا من أصحاب الزراعة في جزيرة العرب، كما استغلوا معادنها، و استعانوا في استغلالها بالأعاجم، فذكر انه كان في معدن "شمام" ألف أو يزيد من المجوس، لهم بيت نار. ولعل "آل كرمان"، و "الأحمر" في الحرملية، هم من الأعاجم الذين كانوا قد ولجوا هذه المواضع للعمل بها قبل الإسلام، أضف إلى ذلك وجود عدد كبير آخر من الموالي في أكثر قرى اليمامة، شغلوا في الزراعة وفي استغلال المعادن وفي تصنيعها، و هي أمور يانف منها الأعرابي و يزدريها. و لهذا قيل لهم أهل "ريف"، و قد وصفهم صارت حنيفة أثلاثاً فثلثهـم  من العبيد و ثلث من مواليها 

وذلك تعبيراً عن كثرة من كان في اليمامة من العبيد والموالي الذين لعبوا دوراً كبيراً في اقتصاد اليمامة، حيث شغلوا في الزراعة و في الرعي و في استغلال المعادن و الصناعة، وأنشاء القرى، حتى صارت أرضها بين قرى وأرض استغلت بزرعها سيحاً، أي على مياه الأمطار. وأما القرى التي أقيمت على الآبار و العيون و المياه الجارية و على حافات الأودية. و قد حفر الرقيق أكثر هذه الآبار، كما استغلت الآبار العادية، أي الآبار القديمة التي تنسب إلى ما قبل مجيء قبائل "ربيعة" إلى اليمامة. و نجد في الكتب التي وصفت اليمامة ذكراً لمواضع كثيرة، توفرت بها المياه، فصارت أرضين خصبة، موّنت اليمامة وغيرها بالحنطة و التمور والخضر.

وكان جلّ أهل "اليمامة" عند ظهور الإسلام من "بكر بن وائل"، و بكر ابن وائل من "ربيعة"، فهم ليسوا من "مضر" اذن، الذين اخذ عنهم علماء العرية اللغة في الإسلام. فقوم الاعشى، وهم "بنو قيس بن ثعلبة" من بكر بن وائل، وبنو حنيفة، وهم قوم "مسيلمة" من"بني لجيم بن صعب ابن علي بن بكر بن وائل"، فألى ربيعة كانت الغلبة في هذا العهد، وأما بطون "تميم" التي كانت تقيم في مناطق من اليمامة، فلم تكن تكون الكثرة إلى جانب ربيعة، وتميم ومضر في عرف أهل الاخبار.

واليمامة اقليم مشهور عرف بعذوبة مياهه، و بخصبه وبكثرة قراه، وبأشتغال اهله بالزراعة، زراعة النخيل والاشجار المثمرة والحنطة، كما عرف بتربيته للإبل والبقر والغنم، ولذلك وفرت اللحوم به، وقد استقر أهله، وصاروا حضراً وأشباه حضر، ولعل لصلتهم بالمين ولنزوح أهلها القدماء من اليمن، وهم من اهل زرع وضرع، ثم توفر الماء والتربة الخصبة في اليمامة، جعلت كل هذه الامور اهلها حضراً على مستوى عال من الحياة بالنسبة إلى من كان يقيم في البوادي من القبائل، اعتمدوا في الدفاع عن انفسهم الحصون والبتل التي لا تزال آثار بعضها قائمة إلى هذا اليوم، فكانوا إذا بوغتوا بهجوم، اسرعوا إلى بتلهم وقصورهم، فتحصنوا بها، وهي من اهم ما يميز أهل الحضر عن اهل الوبر. ولهذا نجد مستوطنات اهل المدر، مكونة من أطم كما تسمى في "يثرب"، أو قصور كما تسمى في الحيرة وفي قرى عرب العراق، وبتل كما عرفت في اليمامة، وبفضل هذا النظام الدفاعي، حموا انفسهم من هجمات الاعراب عليهم.

ولطابع الاستقرار الغالب على أهل اليمامة أثر في شعر شعراء اليمامة. يظهر في اساليب شعرائها السهلة وفي البحور التي نظمو بها شعرهم، وهم يقربون بذلك من شعراء عرب العراق أو الشعراء الذين تأثروا بالشعر العراقي، كما يظهر هذا الطابع في المعاني التي تطرقوا اليها، وسبب قربهم في المعاني والصياغة من اهل العراق، هو تشابه الحياة بين عرب الحيرة مثلاً وبين اهل اليمامة، فأهل الحيرة حضر أو اشباه حضر، واهل اليمامة حضر مثلهم أو اشباه حضر، لهم زراعة، ولهم حرف قد احترفوها منذ امد طويل، ثم ان النصرانية كانت قد انتشرت بين عرب العراق، وقد انتشرت بين اهل اليمامة كذلك، وجذورها وان لم تكن عميقة راسخة في المحيطين، لكنها كانت قد تأثرت بعقلية أهلهما على كل حال.

ومن شعراء اليمامة "المرقش" الاكبر، وهو "ربيعة بن سعد بن مالك"، ويقال: بل هو عمرو بن سعد بن مالك، وقيل "عوف بن سعد بن مالك" من "بني قيس بن ثعلبة" من قبائل اليمامة المعروفة، وكان ابوه سيد قومه في حرب البسوس، وهو خال " عمرو بن قميثة"، وله صهر مع طرفة والاعشى ميمون. ذكر انه انما عرف بالمرقش بهذا البيت: الدار قفر والرسوم كمـا  رقش في ظهر الاديم قلم 

وبعد "المرقش" الأكبر من الشعراء العشاق، وله قصة عن حبه لابنة عمه، عن زواجها اثناء غيابه، ثم بحثه عنها، ونزوله كهفاً أسفل "نجران"، ثم احتياله في الصول اليها، ووفاته بعد ذلك. وهي قصة نجد لها مثيلاً في قصص وحكايات الامم الاخرى. وقيل ان صاحبته " اسماء بنت عوف بن مالك"، كان ابوها زوجها رجلاً من مراد، والمرقش غائب، فلما رجع اخبر بذلك، فخرج يريدها ومعه عسيف له من "غفيلة"، فلما صار في بعض الطريق مرض، حتى ما يحمل اليه معروضاً، فتركه الغفيلي هناك في غار، وانصرف إلى اهله، فخبرهم انه مات، فأخذوه وضربوه حتى اقر، فقتلوه، ويقال ان اسماء وقفت على امره، فبعثت اليه فحمل اليها، وقد اكلت السباع أنفه. فقال: يا راكباً أما عرضت فـبـلـغـن  أنس بن عمرو حيث كان وحرملا 

وقد وصف في هذه الابيات ما لاقاه في سفره، وهروب الغفيلي منه، وذهاب السباع بأنفه. ويقال انه كتبها على خشب الرحل بالحميرية، وكان يكتب بها، فقرأها لقومه، فلذلك ظربوا الغفيلي حتى اقر. وفي اكل السباع أنفه يقول: من مبلغ الفتـيان ان مـرقـشـاً  أضحى على الاصحاب عبثاً مثقلاً 

ذهب السباع بأنفه فـتـركـنـه  ينهشن منه في القفـار مـجـدلا

ونسب له قوله: ومن يلق خيراً يحمد الناس أمـره  ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

اخوك الذي احرجـتـك مـلـمة  من الدهر لم يبرح لها الهر واجما 

وليس اخوك بالذي ان تشـعـبـت  عليك امور ظل يلـحـاك دائمـاً

وقد تعرض "المعري" لكلمة "المرقش": هل بالديار ان تجيب صمم?  لو كان حياً ناطقـاً كـلـم

ماذا علينا ان غزا مـلـك  من آل جفنة ظالم مرغـم

وهذا خروج عما ذهب اليه الخليل".

وتعرض بعد ذلك له، بأن تصور نفسه وهو يقول له وقد زاره في اطباق العذاب" ان قوماً من اهل الإسلام كانوا يستزرون بقصيدتك الميمية التي اولها:   

هل بالديار أن تجيب صمم  لو كان حياً ناطقاً كـلـم

وانها عندي من المفردات. وكان بعض الادباء يرى أنها والميمية التي قالها المرقش الاصغر ناقصتان عن القصائد المفضليات، ولقد وهم صاحب هذه المقالة. وبعض الناس يروي الشعر لك: تخيرت من نعـمـان أراكـه  لهند، ولكن من يبلغه هنـدا?

خليلي جوراً بارك الله فيكمـا  وإن تكن هندا لأرضكما قصدا 

وقولا لها: ليس الضلال أجارنا  ولكننا جرنا لنلقاكـم عـمـدا

ولم اجدها في ديوانك فهل ما حكي صحيح عنك? فيقول: لقد قلت اشياء كثيرة، منها ما نقل اليكم، ومنها ما لم ينقل. وقد يجوز أن أكون قلت هذه الابيات ولكني سرفتها لطول الابد ولعلك تنكر انها في هند، وان صاحبتي أسماء، فلا تنفر من ذلك، فقد ينتقل المشيب من الاسم إلى الاسم، ويكون في بعض عمره مستهتراً بشخص من الناس، ثم ينصرف إلى شخص اخر، ألا تسمع إلى قولي: سفه تذكره خويلة بعـدمـا  حالت ذر نجران دون لقائها 

ومن القصيدة الميمية المنسوبة اليه بقوله: النشر مسك والوجـوه دنـا  نير، واطراف الاكف عنم

وقوله: ليس على طول الحياة نَدَم  ومن وراء المرء ما يعلم

ولم يبق من شعر المرقش الأكبر الا "12" قطعة، وفي بعض شعره اضطراب، والقطعة "54" من الأصمعيات من بحر عروض لم يهتد المتأخرون إلى تحديده. ونجد بحر الخفيف عنده.

وأما المرقش الأصغر، فهو "عمرو بن حرملة"، وقيل: "ربيعة بن سفيان"، و قيل "عمرو بن سفيان" و هو من بني سعد بن مالك بن ضبيعة، أحد عشاق العرب المشهورين. وورد في رواية أنه أخو المرقش الأكبر، و يقال انه ابن أخيه. و قد أشتهر بقصة غرامه بفاطمة بنت المنذر الثالث ملك الحيرة وكانت لها خادمة تجمع بينهما، يقال لها "هند بنت عجلان"، و كان للمرقش ابن عمّ يقال له "جناب بن عوف بن مالك" لا يؤثر عليه أحداً، وكان لا يكتمه شيئاً من أمره، فألح عليه أن يخلفه ليلة عند صاحبته، فأمتنع عليه زماناً، ثم انه أجابه إلى ذلك، فعلمه كيف يصنع إذا دخل عليها، فلما دنا منها أنكرت عليه مسّه، فنحته عنها، وقالت: لعن الله سراً عند المُعيدي، وجاءت الوليدة فأخرجته، فأتى المرقش فأخبره، فعضَّ على ابهامه فقطعها أسفاً وهام على وجهه حياءً. وخلد القصة في شعر.

وكان هرب من المنذر وأتى الشام، فقال: أبلغ المنذر المنقـبَ عـنـي  غير مستعتب ولا مستـعـين

لاتَ هنا وليتني طـرف الـز  ج و أهلي بالشأم ذات القرون 

وصاحبته بنت عجلان، أمة كانت لبنت "عمرو بن هند"، وفيها يقول: يا بنت عجلان ما أصبرني  على خطوب كنحتٍ بالقدوم 

ومن شعره المشهور هذا البيت: ومن يلق خيراً يحمد الناس أمرهُ  ومن يغوِ لا يعدم على الغي لائما 

ويعد المرقش الأصغر أشعر من عمه، ويغلب على شعره الغزل، وهو أكثر صقلاً، وأقرب مطابقة لأسلوب المتأخرين.

ومن شعراء اليمامة: "المتلمس"، وهو "جرير عبد المسيح"، وقيل "جرير بن عبد العزى"، وقيل غير ذلك، وهو من بني ضبيعة، وأخواله "بنو يشكر". وهو خال "طرفة"، لقّب بالمتلمس لبيت قاله، هو: فهذا أوان العرض حيّا ذبابه  زنابيره و الأزرقُ المتلمس 

وقيل ان اسم ابيه "عبد العزى"، وهو من أسماء الوثنيين، ويظهر انه تنصر فسمي نفسه عبد المسيح.

وكان ينادم "عمرو بن هند" ملك الحيرة هو وطرفة بن العبد، فبلغه انهما هجواه، فكتب لهما عامله بالبحرين كتابين، أولهما انه أمر فيهما بجوائز وكتب اليه يأمره بقتلهما، فاستراب "المتلمس" من الكتابين و عرض كتابه على غلام من أهل الحيرة، فقرأه فاذا فيه أمر بقطع يديه و رجليه، ودفنه حياً، فمزقه، ورماه في نهر الحيرة، وقال لطرفة: ادفع اليه صحيفتك يقرأها، فأبى و ذهب إلى البحرين فقتله عامل "عمرو بن هند". وهرب المتلمس إلى بصرى واستقر هناك إلى ان مات بها. وضرب المثل بصحيفة المتلمس.

والمتلمس" من "ضبيعة أضجم"، وقد نسبت إلى "الحارث الأضجم"، وكان قديم السؤدد فيهم، كانت تجبى اليه أتاواتهم.

وقد ذكر "العيني" أن البيت المنسوب إلى "المتلمس"، وهو البيت الذي ضرب به المثل، فقيل صحيفة المتلمس، و نصه: ألقي الصحيفة كي يخفف رحله  و الزاد حتى نعله ألـقـاهـا

ليس من نظم المتلمس، و لم يقع في ديوان شعره، و انما هو لأبي مروان النحوي، قاله في قصة المتلمس حين فرّ من عمرو بن هند. وكان قد هجا عمرو بن هند، و هجاه أيضاً طرفة بن العبد، فقتل طرفة و فرّ المتلمس. وبعد البيت المذكور: ومضى يظن يريد عمرو خلفه  خوفاً وفارق أرضه و قلاها

ويحتمل على رأي "بروكلمن" أن تكون قصة الصحيفة مختلفة، وكذلك القصيدة التي ورد فيها ذلك البيت.

قال الشريف "المرتضى": "ويقال ان صاحب المتلمس و طرفة في هذه القصة هو النعمان بن المنذر، وذلك أشبه بقول طرفة: أبا منذر كانت غـروراً صـحـيفـتـي  ولم أعطكم في الطوع مالي و لا عرضي 

أبا منذرٍ أفنيتَ فاسـتـبـق بـعـضـنـا  حنانيك بعض الشرّ أهون مـن بـعـض

وأبو منذر هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح طرفة النعمان، فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان".

وفي شعر المتلمس ما يتعلق بأخبار القبائل، وفيه هجاء لعمرو بن هند. وهو من الشعراء المقلين. "قال أبو عبيدة: و اتفقوا على ان أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثة: المتلمس، والمسيب بن علس، وحصين بن الحمام المريّ". وذكر انه أخذ يهجو "عمرو بن هند" من منفاه، ويحرض قوم طرفة على الطلب بدمه. فمن جملة ما قاله قصيدته: ان العراق و أهله كانوا الهوى  فاذا نأى بي ودهم فلـيبـعـد

ولما تهدده "عمرو"، وحلف ان وجده بالعراق ليقتلنه و ان لا يطعمه حب العراق، قال المتلمس: آليت حب العرق الدهر أطعمه  والحب يأكله في القرية السوس 

لم تدر بصرى بما آليت من قسمٍ  ولا دمشق إذا ديس الكـراديس

وبقي ببصرى حتى هلك بها، وكان له ابن يقال له: عبد المدّان، أدرك الإسلام، وكان شاعراً، هلك ببصرى و لا عقب له.

وكان طرفة بن العبد وخاله المتلمس وفدا على "عمرو بن هند"، فنزلا منه خاصة ونادماه، ثم انهما هجواه بعد ذلك، فكتب لهما كتابين إلى البحرين و قال لهما: اني قد كتبت لكما بصلة، فاشخصا لتقبضاها. فخرجا من عنده، والكتابان في أيديهما، فمرّا بشيخ جالس على ظهر الطريق منكشفاً يقضي حاجته، وهو مع ذلك يأكل ويتفلى، فقال أحدهما لصاحبه: هل رأيت أعجب من هذا الشيخ ? فسمع الشيخ مقالته فقال: ما ترى من عجبي ? أخرج خبيثاً، وأدخل طيباً، وأقتل عدواً، وان أعجب مني لمن يحمل حتفه وهو لا يدري. فأوجس المتلمس في نفسه خيفة وارتاب بكتابه. ولقيه غلام من الحيرة فقال: أتقرأ يا غلام ? قال نعم. ففض خاتم كتابه ودفعه إلى الغلام فقرأه عليه، فاذا فيه: إذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه واصلبه حياً. فأقبل على طرفة فقال: تعلم و الله، لقد كتب فيك بمثل هذا. فلم يلتفت إلى قول المتلمس، وألقى المتلمس كتابه في نهر الحيرة وهرب إلى الشام، وأخذ يهجو عمرو بن هند.

ورويت القصة بشكل آخر خال من التزويق والتنميق نوعاً ما. ذكرت ان " المتلمس وطرفة بن العبد هجوا عمرو بن هند، فبلغه ذلك، فلم يظهر لهما شيئاً، ثم مدحاه فكتب لكل منهما كتاباً إلى عامله بالحيرة " ?"، وأوهم انه كتب لهما فيه بصلة. فلما وصلا الحيرة، قال المتلمس لطرفة: انا هجوناه، ولعله اطلع على ذلك، ولو أراد أن يصلنا لأعطانا ! فهلم ندفع الكتابين إلى من يقرأهما، فان كان خيراً و الا ندرنا. فامتنع طرفة، ونظر المتلمس إلى غلام قد خرج من المكتب فقال: أتحسن القراءة ? قال نعم. فأعطاه الكتاب ففتحه، فاذا فيه قتله. ففر المتلمس إلى الشام وهجا عمراً هجاءً قذعاً. و اتى طرفة إلى عامل الحيرة بالكتاب فقتله". وقد حلت الحيرة في هذه القصة في محل البحرين، وصار العامل القاتل عامل الحيرة، وخلت من ذكر الشيخ.

وطرفة هو القائل في قصيدة له: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً  ويأتيك بالأخبار من لم تـزود

وكان النبي إذا استراث الخبر يتمثل بعجز هذا البيت من هذه القصيدة.

ومن الشعر المنسوب اليه، قوله: قليل المال تصلحه فيبقـى  ولا يبقى الكثير على الفساد 

وحفظ المال خير من بُغاة وجولٍ في البلاد بغير زاد 

وقوله: ولايقيم عـلـى ذل يُراد بـه  الا الأذلان: غير الحي، والوتد 

هذا على الخسف مربوط برمته=وذا يشج فلا يرثى له أحد وقوله: ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي  جعلت لهم فوق العرانين ميسما 

وما كنت الاّ مثل قاطع كـفّـه  بكفٍ له أخرى فأصبح أجذمـا

وذكر أن النبي كتب لعيينة بن حصن كتاباً، فقال: يا محمد أتراني حاملا ً إلى قومي كتاباً لا علم لي بما فيه. و قد أشير إلى "صحيفة المتلمس" في شعر الفرزدق، و في شعراء آخرين.

و نسب إلى "المتلمس" قوله: وأعلمُ علم حقٍ غـير ظـنٍ  وتقوى الله من خير العتـاد

لحفظ المال أيسر من بُغـاة  وضربٍ في البلاد بغير زاد 

واصلاح القلـيل يزيد فـيه  ولا يبقى الكثير مع الفسـاد

وله شعر في الأقارب ذكره له الجاحظ في كتاب الحيوان.

والمسيب بن علس، واسمه "زهير بن علس"، وانما لقب بالمسيب بقوله: فان سرّكم الا تؤوب لقاحكم  غزاراً فقولوا للمسيب يلحق 

و "المسيببن علس بن مالك بن عمرو بن قمامة"، هو من "جُماعة"، وهم من "بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار"، ويكنى "أبا الفضة"، وهو خال الأعشى، وكان الأعشى راويته. واسمه: "زهير بن علس". وانما سمي "المسيب" لبيت قاله، هو: فان سرّكم ألا تؤوب لقاحكمغزاراً فقولوا للمسيب يلحق وهو جاهلي لم يدرك الإسلام، من شعراء بكر بن وائل المعدودين. وكان امتدح بعض الأعاجم، فأعطاه، ثم أتى عدواً له من الأعاجم يسأله، فسمّه فمات، ولا عقب له

وقد ذكر "الهمداني" ان الأعشى يحتذى في شعره على مثال "المسيب"، وكان الاعشى راويته.

وله قصيدة قالها في "القعقاع بن معبد بن زرارة"، فيها: فلأهدين مع الرياح قصيدة  مني مغلغلة إلى القعقاع

أنت الذي زعمت معد أنه  أهل التكرم والندى والباع

وقد أورد "الهمداني" له قصيدة زعم أنه قالها في مدح "زيد بن مرب"، أو في مدح ابن ابنه "زيد بن قيس بن زيد" أولها: كلفت بليلي خدين الشبـاب  وعالجت منها زماناً خبـالا

لها العين والجيد من مغزل  تلاعب في القفرات الغزالا 

وقد ذكر "الجاحظ" شعراً قال انه لغيلان بن سلمة الثقفي، هو: في الآل يخفضها ويرفعها  ريعُ كأن متونه السحـلُ

عقلاً ورقماً ثـم أردفـه  كِلَلُ على ألوانها الخمـلُ

كدم الزعاف على مآزرها  وكأنهن ضوامـراً اجـلُ

وعقب عليه بقوله: "وهذا الشعر عندنا للمسيب بن علس".

وقد نشر ديوان "المسيب بن علس" في سلسلة نشريات "كب" Gibb بلندن سنة "1928م".

ومن شعراء اليمامة: "ذو الكف الأشل"، واسمه "عمرو بن عبد الله بن حنيفة" من بني قيس بن ثعلبة، يكنى أبا جلان، فارس شاعر جاهلي، توعدته "بنو حنيفة" فقال فيها شعراً.

و"الفند"، هو "شهل بن شيبان بن ربيعة بن زمان بن مالك بن صعب" الزمّاني من شعراء الجاهلية. وله قصيدة في حرب البسوس. وهو من "بني حنيفة". وكان أحد فرسان ربيعة المشهورين، شهد حرب بكر وتغلب، أي حرب البسوس، فكتب بنو بكر بن وائل إلى بني حنيفة يستنصرونهم، فأمدوهم بالفند الزماني في سبعين رجلاً، وكتبوا اليهم انا قد بعثنا اليكم ألف رجل.

ومن الشعر المنسوب اليه، قوله: كففنا عن بني هـنـد  وقلنا: القومُ اخـوانُ

عسى الأيام ترجعهـم  جميعاً كالذي كانـوا

فلما صرح الـشـرّ  وأضحى وهو عريان 

شددنا شـدة الـلـيث  عدا والليث غضبـان

بضرب فيه تفـجـيع  وتـوهـين وارنـان

وطعن كفـم الـزق  وهي والزق مـلان

وقد وردت هذه الأبيات في "الخزانة" بشيء من الاختلاف.

و"عمرو بن عبد العُزى بن سحيم بن مرّ بن الدئل" الحنفي، من بني حنيفة، وهو شاعر جاهلي، كذلك كان "عمرو بن الذارع" الحنفي من الشعراء الجاهليين.

ومن شعراء اليمامة أيضاً "موسى بن جابر بن أرقم بن سلمة بن عُبيد" الحنفي اليمامي. وكان جاهلياً نصرانياً، يلقب ب"أزيرق" اليمامة. ويعرف ب "ابن ليلى"، وهي أمه. وهو شاعر كثير الشعر، وعرف ايضاً ب "ابن الفريعة". وورد أنه كان من الشعراء الاسلاميين.

ومن شعراء اليمامة: "مجاعة بن مرارة بن سلمى بن زيد بن عبيد بن ثعلبة ابن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة" الحنفي اليمامي، وكان من رؤساء حنيفة، وأسلم ووفد، وأعطاه الرسول أرضا ً باليمامة يقال لها "العورة"، وكتب له كتاباً بذلك، وكان بليغاً حكيماً، وكان ممن أسر يوم اليمامة، فأشير على "خالد" باستبقائه فأبقاه، وكان قد أنضم إلى "مسيلمة".

ومن شعراء اليمامة "ثمامة بن اثال"، وكان من ساداتها، ولما أسلم قطع الميرة عن أهل مكة، وكانوا قد عتبوا عليه لدخوله في الإسلام، حتى شق عليهم ذلك، فكتبوا إلى الرسول: انك تأمر بصلة الرحم، وكان قد ثبت على الإسلام، ولم يرتد مع مسيلمة. وتوفي سنة "12" للهجرة. وذكر من شعره قوله" دعانا إلى ترك الديانة والهـدى  مسيلمة الكذاب إذا جاء يسجع

فيا عجباً من معشر قد تتابعـوا  له في سبيل الغي والغي أشنع 

وأشير إلى شاعرة من شاعرات"بني عجل" اسمها "حسينة"، وكان "عمرو بن الحارث بن أقيش" العكلي، قد أسرها، في يوم العذاب في الجاهلية، وهو يوم اغارت فيه"بنو عبد مناة بن أد بن طابخة" على عجل وحنيفة بأرض جو اليمامة، ففادها أخوها "أبجر بن جابر بن بجير بن شريط" العجلي بمائة من الابل و خمسة أفراس.

واذا تجوزنا فأدخلنا "الحيرة" في جملة هذه القرى، وجب اعتبار "عديّ ابن زيد" العبادي ممثلها الأول، اذ لم يبلغ أحد مبلغه في الشعر من بين رجال هذه المدينة. فهو المقدم على جميع شعراء الحيرة التي كان يجزلون العطاء لمن يمدحهم ويكيل لهم بالثناء، لا لمجرد حب الاستماع إلى المدح والثناء والاطراء، بل لما لشعر المديح ولشعر الهجاء من أثر كبير في حياة ذلك اليوم، فالشعر هو من أهم وسائل الاعلام في ذلك الوقت، وللدعاية والاعلام وجلب الناس نحو الممدوح أهمية كبيرة بالنسبة إلى رجال الحكم والسياسة في كل زمان ومكان، ان كذباً وان صدقاً، فالسياسي يريد تحقيق سياسته، بأية وسيلة كانت، حتى ان كانت بالكذب والغش والتزوير، فالشعر من وسائل الخدمة السياسية التي استعان ملوك الحيرة في بسط نفوذهم في جزيرة العرب.

و"عدي بن زيد" العبادي هو ابن الحيرة، فهو لسان هذه المدينة، أما بقية الشعراء، فقد كانوا يأتون هذه المدينة، لنيل صلة أو لقضاء أمر، ثم يعودون إلى ديارهم، و منهم من كان يطيل المقام بها، فيتأثر بثقافتها وبمحيطها حسب قابلياته وسرعة استجابته للمؤثرات الخارجية. ويظهر انه كان لأهل الحيرة و لعرب العراق عامة ذوق خاص في الشعر، ولهم حب لتنويع البحور، والتزام البحور السهلة المؤثرة، وميل إلى التنوع في الوزن، والتعبير أحياناً عن بعض أفكاراً مستمدة من البداوة، والظهور بلون محدد من التراث المحلي.

يقول "غرونباوم": "وليس من الغريب أن نجد التفنن في الأوزان الشعرية في العراق أغنى مما كان عليه في أي مكان آخر، وذلك لأن أجيالاً كثيرة هي التي عاشت في المدينة وفي البلاط، ونزعت بطبيعة وضعها إلى التحسن في تلك الفنون، ولكن الغريب المدهش حقاً ان نرى أبا دؤاد يعرض علينا أغنى تنوعٍ عروضي في الشعر العربي القديم، لأن شعره جاء على اثني عشر بحراً. واذا عدينا أمر التنويع في الاوزان، وجدنا هذه المدرسة قد أكثرت من بحر الرمل، و لا يستعمل هذا البحر في الشعر القديم الا أبو دؤاد في ثلاث قصائد، وطرفة في ثلاث قصائد، وعدي في سبع قصائد، والمثقب في واحدة، والاعشى في اثنتين. ولا يستثنى من هذا الحكم أيضاً الا امرؤ القيس، القصيدة 18. وأقول ان هذه الحقيقة تقوي الرواية التي تقول انه كان راوية لأبي دؤاد".

وقد لفت نظره وجود هذا البحر: بحر الرمل في العراق، ونموه بالحيرة بصورة خاصة، وعلل ذلك بقوله: "ان الرمل استعير من الوزن البهلويالثماني مقاطع كما صوّره "بنفينيسته" "المجلة الآسيوية 221: 2، 1930"، وانه عدل على نحو يلائم العروض العربي. والحق أن ليس من عقبة داخلية تقف دون القول بوجود أثر فارسي في النسق الشعري العربي، في المناطق المجاورة للدولة الفارسية والتابعة لها، ولأؤيد هذه النظرية احيل القارئ على بحر المتقارب، فقد أثبت "بنفينيسته" انه مشتق من البحر الفهلوي Hendekasyllabic ذي الأحد عشر مقطعاً اثباتاً يكاد لا يقبل الشك".

ولاحظ "غرونباوم" أن الخاصية العروضية الثانية لمدرسة الحيرة هي نزوعها إلى بحر الخفيف، وعند أبي دؤاد منه خمس عشرة قصيدة، وعند عدي سبع، وعند الأعشى خمس، ولم يستعمل هذا البحر عند الشعراء المعاصرين الا على نحو عارض. و لكننا نجد بحر الخفيف في شعر " عمرو بن قميئة"، وفي شعر للمرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وفي شعر لعبيد، وفي شعر ينسب لعامر ابن الطفيل، و معلقة الحارث بن حلزة.

ويعتبر "شوارتز" بحري الرمل والخفيف نوعاً من الايقاع الفارسي، انتقل إلى العربية. أما تأثير الشعر الساساني في الأعشى فيشهد به قطعة "بهلفية" طبعها "بنفينيسته" وترجمتها، وقطعة أبي دؤاد 14، و 18، وما فيهما من اشارة إلى البيزرة، تدلان على أثر الحضارة الساسانية في العراق.

وقد تعرض "بروكلمن" لموضوع تأثر الشعر الجاهلي بمؤثرات أجنبية، فأنكر ذلك، اذ قال: "وأما ما زعمه بعض العلماء من أن مؤثرات أجنبية أثرت في فن الشعر القديم، فليس هناك ما يؤيده، نعم يريد بورداخ أن يرجع النسيب العربي إلى شعر القصور اليونانية بالاسكندرية، لأن أكثر النسيب العربي يقال في عشق النساء المتزوجات، كما هو الحال عند شعراء ملوك الاسكندرية، ويتصور انتقال هذه الصناعة إلى العرب عن طريق شعراء الملوك في الشام والعراق. ولكن مثل هذه الابيات الغزلية، التي تشبه النسيب في مطلع القصائد وان لم تبلغ بعد نمواً كاملاً، يعرفها أيضاً شعر التكرية في أوائل القصائد المطولة وفي أواخرها.

ولا شك أنه من قبيل المصادفة والاتفاق أن يبدوا في قصيدة للمسيب بن علس، يتكرر فيها ست مرات هذا الخطاب: ولأنت، صدى ورنين لأسلوب الأنشودة القديم الذي يتميز به أكنوستوس تيوس. كما وضح ذلك الأستاذ نوردن.

ونرى في الشعر العراقي وفي شعر سواحل الخليج، أي العربية الشرقية، ذكراً للبحر وللسفين. وفي شعر طرفة قوله: كأن حدوج المالـكـية غـدوة  خلايا سفين بالنواصف مـن دَدِ

عدولية أو من سفين ابن يامـن  يجورُ بها الملاح طوراً ويهتدي 

يشق حَباب الماء حيزومها بهـا  كما قسم الترب المفايل بـالـيد

وصف للبحر ولسفن رجل يظهر انه كان يهودياً صاحب سفن، ولا نجد هذا الوصف أو الالتفاتة إلى البحر في شعر الشعراء القاطنين البوادي، أو الذين لم يروا النهرين الكبيرين في العراق أو ساحل الخليج. فهذا الوصف هو من خصائص البلاد التي تكون على سواحل البحار.

وليس وجود السهولة في الشعر العراقي مثل شعر "عدي بن زيد"، أو في شعر أهل القرى، بأمر غريب. أو حياة أهل المدر، هي ليونة وسهولة في حد ذاتها بالنسبة إلى حياة البوادي والبراري، حيث الخشونة والغلظة في الحياة، ومن ثم صار الأعرابي غليظاً فظاً خشناً، يتكلم بعنجهية لا يفهمها أهل المدر والاستقرار، فيتصورونها فظاظة منه وغلظة، وانسان على هذا النحو من الطبع أو التطبع، لا بد وأن يكون شعره خشناً مثله، فالشعر تعبير عن احساس نفسي، و عن انعكاس لثقافة المرء ولتربيته الناتجة عن محيطه، ولهذا نجد شعر شعراء القرى يختلف عن شعر أهل البوادي، بالفاظه و بأسلوب نظمه وبمعانيه وبروحه الحضرية.

وقد وصف شعر"عدي" بالليونة، ونسبوا ذلك إلى سكنه الحضر. "وأما عدي بن زيد فلقربه من الريف وسكناه الحيرة في حيز النعمان بن المنذر لانت ألفاظه فحمل عليه كثير، و الا فهو مقل". وقالوا عنه "وعدي من الشعراء مثل سُهيل في النجوم: يعارضها، ولا يجري معها. هؤلاء أشعارهم كثيرة في ذاتها، قليلة في أيدي الناس، ذهبت بذهاب الرواة الذين يحملونها". وقيل عن شعره: "والعرب لا تروي شعره، لأن ألفاظه ليست بنجدية، وكان نصرانياً من عباد الحيرة، قد قرأ الكتب". وقد أرادوا بالك تب، الكتب المقدسة التوراة والأناجيل والكتب النصرانية الأخرى. ولم يشيروا إلى لغتها، والأغلب أنها كانت بالارمية التي كانت شائعة في العراق و بين نصارى المشرق، ولكني لا استبعد احتمال وجود بعض منها باللغة العربية، لأن غالبية أهل الحيرة كانت تتكلم بعض الكتب لهم بالعربية، للوقوف عليها.

قال "ابو عبيدة" "ان العرب لا تروي شعر ابي دؤاد وعدي بن زيد، لأن الفاظهم ليست بنجدية، فلا بد أن يكون أساس الشعر عندهم على صميم العربية من لسان مضر، وما عدا ذلك فهو مما تبعث عليه فطرة صاحبه، ولكن العرب لا يبالون به ولا يروونه، وعلى هذا مشى المتأخرون في الاحتجاج بالشعر العربي، فالعلماء لا يرون شعر عدي بن زيد حجة. لانه كان يسكن بالحيرة ويدخل الأرياف، فثقل لسانه ؛ وهذا الاعتبار يحدد لنا منشأ الشعر". ولكننا لو تصفحنا شعر الشواهد، نجد أن فيه شعراً من شعر عدي، استشهد به في القواعد، وقد ذكر "الجاحظ" أن "أبا اياس" النصري، و كان أنسب الناس، كان يقول: "كانوا يقولون: أشعر العرب أبو دوُاد الايادي، وعدي بن زيد العبادي".

والواقع ان شعر "عدي" أقرب الينا من شعر أهل البادية، و أسهل فهماً، وفيه معان حضرية لا نعثر عليها في شعر شعراء أهل الوبر، و نجد في شعره ألفاظاً معربة، و استشهد بها "الجواليقي" في كتابه المعرب، وذلك دليل على تأثره بمحيطه و ببلدته التي كانت عربية نبطية فارسية، تلعب بها تيارات ثقافية متبانية ن وهو يخالف شعراء البوادي، في ابتعاده عن الأعاريض الطويلة، وميله إلى الأعاريض القصيرة، ثم في أسلوب خمرياته الشبيهة بخمريات الأعشى وحسان بن ثابت، ثم يخالف شعراء نجد في أفكار الزهد والتصوف التي ترد في شعره، والتي لا ترد و لا تخطر على بال الشاعر الأعرابي.

وعدى بن زيد العبادي، هو "عدي بن زيد بن حماد بن ايوب"، وقيل: "عدي بن زيد بن حمار"حماز" بن زيد بن أيوب بن مجروف "محروف" ابن عامر بن عصبة "عصية" بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم"، وقيل عدي بن زيد بن أيوب بن حمار"حماد" "جمار"، أحد بني "امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم". وكان كاتباً لكسرى على ما يجتبى من الغور ن وكان سبب ملك النعمان بن المنذر. وكان كسرى مكرماً له محباً، و كان عدي أنبل أهل الحيرة و أجودهم منزلة ولو أراد أن يملكه كسرى على الحيرة ملكه، و لكن كان يحب الصيد و اللهو، ولم يكن راغباً في ملك العرب. و عرف ب "أبي سوّادة".

وجدّ عدي أول من سمي من العرب بأيوب، وجده "جمار" "حمار" " حماد" "حماز" أول من كتب من العرب، لأنه نزل الحيرة فتعلم الكتابة منها. وذكره الجمحي في الطبقةالرابعة من شعراء الجاهلية، وقال هم أربعة رهط، فحول شعراء، موضعهم من الأوائل، وانما أخل بهم قلة شعرهم بأيدي الرواة، طرفة و عبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة، وعدي بن زيد. وذكر ان "حمازاً"، كان أول من تعلم الكتابة "من بني ايوب" وكتب للنعمان الأكبر.

وكان لعدي بن زيد عدو من أهل الحيرة يقال له: "عدي بن أوس" من "بني مرينا"، سبق ان تحدثت عنه، اوغر صدر "النعمان" على عدي حتى حبسه بالصنّين، سجن بظاهر الكوفة، فقال عدي بن زيد شعره كله أو أكثره في الحبس حتى مات به. وكان موته من جملة اسباب القضاء على حكم النعمان.

وقد ذكر عنه علماء الشعر، انه كان نصرانياً هو أهله، وليس معدوداً من الفحول، وعيب عليه اشياء. "وكان الاصمعي وأبو عبيدة يقولان: عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم، يعارضها ولا يجري معها، وكذلك عندهم أمية بن أبي الصلت. ومثلهما عندهم من الاسلاميين الكميت والطرماح". وقيل عنه انه"كان يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شئ كثير جداً، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة، وله أربع قصائد غرر احداهن:   

أرواح مـودع أم بـكـور  لك? لإاعمد لأي حال تصير 

والثانية: أتعرف رسم الدار من ام معبد  نعم، فرماك الشوق قبل التجلد 

والثالثة: لم ار مثل الفتيان في غبن ال  أيام ينسون ما عواقـبـهـا

والرابعة: طال ليلي أراقب التـنـويرا  أراقب الليل بالصباح بصيرا 

ومن شعره: عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه  فأن القرين بالمقارن مقـتـدى

يقال ان رسول الله قال: كلمة نبي ألقيت على لسان شاعر: إن القرين بالمقارن مقتدي.

ومن الاخباريين من نسب القصيدة التي مطلعها: طال ليلي أراقب التنـويرا  أرقب الليل بالصياح بصيرا 

إلى "سوادة بن عدي"، غير ان معظمهم يرى انها لعدي.

وذكر "ابو العلاء" المعري، انه شاهد بعض الوراقين ببغداد، يسأل عن قافية "عدي بن زيد" العبادي، التي اولها: بكر العاذلات في غلس الصب  ح يعاتبنه أما تـسـتـفـيق

وأن "ابن حاجب النعمان"، وهو أبو الحسين عبد العزيز بن ابراهيم، سأل عن هذه القصيدة وطلبت في نسخ من ديوان عدي، فلم توجد، ثم سمع بعد ذلك ان رجلاً من أهل استرباذ، يقرأ هذه القافية في ديوان "العبادي"، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم. وقد اورد المعري قصائد من شعره في رسالة الغفران، وأشار إلى بعض ما نحل عليه، والى بعض ما نسب اليه، ونسب إلى غيره.

وقال الاصمعي: كان عدي لا يحسن أن ينعت الخيل، وأخذ عليه قوله في صفة الفرس: فارهاً متتابعاً. وقال: لا يقال للفرس "فاره" انما يقال جواد وعتيق، ويقال للكودن والبغل والحمار: فاره" ووصف الخمر بالخضرة، ولم يعلم احد وصفها بذلك.

وفي شعر" عدي بن زيد"، زهد الرهبان وتصوف المتصوفين، فيه تذكير بالآخرة وتزهيد في الدنيا، ووعظ بمصير محزن يلحق المغرورين العتاة المتجبرين كالمصير الذي لحق الملوك الطغاة و الأقوام الخالية، ولا سيما في القصيدة التي يقول فيها: أين كسرى كسرى الملوك أنوشَر  وان ? أم أين قبله سـابـور?

وبنو الأصفر الكرام ملوك الـر  وم ? لم يبق منهـم مـذكـوراً

وأخـو الـحُـضـرإذ بـنــاه  وإذ دجلة تجبى اليه والخابـور

شاده مرمراً وجللـه كـلـسـاً  فللـطـير فـي ذراه وكـور

لم يهـبـه ريب الـمـنــون  فبان الملك عنه فبابه مهجـور

وتـبـين رب الـخـورنــق  إذ أشرف يوماً معرضاً والسدير

فارعوى قلبه وقال=فما غبطة حي إلى الممات يصير ثم بعد الفلاح=والملك والنعمة وارتهم هناك القبور ثم صاروا كأنهم ورق جف=فألوت به الصبا والزبور وورد أن "هشام بن عبد الملك" كان في مجلس فخم، فحدثه "خالد ابن صفوان" بحديث ملك الحيرة الذي اغتر بهذه الدنيا، ثم انشده قصيدة عدي ابن زيد"، التي منها: ايها الشامت المعير بالدهر  أأنت المبرأ المـوفـور?

أم لديك العهد الوثيق من الأ  يام، بل أنت جاهل مغرور 

حتى أتم انشادها عليه، فبكى وتأثر. وورد في رواية أخرى أن قائل هذا الشعر هو: أحد بني تميم"عدي بن سالم" المري العدوي. وقد ذكر ذلك "السهيلي"، لكنه عاد بعد ذكره الشعر، فقال: "والذي ذكره عدي بن زيد في هذا الشعر هو النعمان بن أمرئ القيس جد النعمان بن المنذر. وأول هذا الشعر: أرواح مودع أم بكور  فانظر لأي ذاك تصير 

قاله عدي وهو في سجن النعمان بن المنذر وفيه قتل". وروي أن "يونس النحوي" كان يقول: "لو تمنيت أن اقول شعراً ما تمنيت إلا هذا". أي القصيدة المذكورة.

وفي شعره الذي قيل انه قاله للنعمان بن المنذر، وكان قد نزل معه في ظل شجرة مونقة ليلهو النعمان هناك، مثال على الحث على الزهد والابتعاد عن الدنيا والاقناع بنبذها والترهب في هذه الحياة. تحدث فيه على لسان الشجرة، مخاطباً الملك، قائلاً له بعد أن أرى ما عليه من الانس والحبور: ايها الملك? ابيت اللعن، أتدري ما تقول الشجرة? قال: وما الذي تقول? قال: تقول: من رآنا فليحدث نفـسـه  انه موف على قرن زوال 

وصروف الدهر لايبقى لها  ولما تأتي به صم الجبـال

رب ركب قد أناخو حولـنـا  يمزجون الخمر بالماء الزلال 

إلى أن يقول: ثم اضحوا عصف الدهر بهم  وكذاك الدهر حالاً بعد حال

قالوا: فتنغص النعمان ونزع ملكه، وخلعه عنه، وترهب إلى غير ذلك من اشعار له، فيها هذا المعنى من الترغيب في الزهد والابعاد عن لذائذ الدنيا.

و "حكي عن النعمان بن المنذر، أنه خرج متصيداً ومعه عدي بن زيد العبادي فمر بآرام- وهي القبور، فقال عدي: أبيت أتدري ما تقول هذه الآرام? قال: لا. قال: إنها تقول: ايها الراكب المخـفـو  ن على الارض تمرون 

لكما كنتم فكنا=وكما كنا تكونون والشعر المنسوب إلى "عدي" الذي أدى على حد قول علماء الاخبار إلى اعراض "النعمان" السائح عن ملكه، وهروبه إلى البراري ليعيش فيها عيشة الرهبان، هو شعر لايمكن أن يكون من شعر "عدي"، لأن شاعرنا لم يكن كبير السن آنذاك حتى يصدر منه مثل هذا الشعر، كما أنه لم يكن على اتصال وثيق بذلك الملك في العهد. ولعلّه من الشعر المصنوع، الذي وضع عليه. وهو شئ كثير. ولو قالوا انه نظمه، وهو في سجنه حكاية عن قصة قديمة، لكان كلامهم هذا أقرب إلى العقل وأسهل للتصديق، لأنه كان قد كبر في العمر، وفي موقف يمكن أن يصدر منه مثل هذا الشعر.

وهو شعر سلس جميل ذو معان عميقة لطيفة، تتحدث عن تجارب رجل خبر الأيام، وعاش في نعيم ورفاه، حتى وصل مركزاً عالياً في بلده، واذا به يجد طريقه إلى المقابر، فيقبر بها وكأنه لم يكن شيئاً مذكوراً، فمن رأي الثاوين فيها، ومن نظر إلى القبور، فليحدث نفسه، أنه سيكون مثلهم، وانه موف على قرن زوال، و صروف الدهر لا يبقى لها، ولا تدوم حال على حال. وقد صار أسلوبه هذا نموذجاً لمن مال إلى الزهد والتصوف في الإسلام، وربما كان الشاعر "أبو العتاهية" ممن تأثر بهذا الشعر المنسوب إلى "عدي".

ولعل الأحداث التي وقعت له، والأيام التي قضاها في سجنه، حتى جاءته منيته، وهو فيه، قد أثرت في نفسيته فجعلته، يكثر من الزهد في هذه الحياة، ومن وعظ الإنسان، بأن يغتر ويتجبر ويتكبر، فالسعادة لا تدوم لأحد، والملك لا يخلد لملك أو مالك، والحياة مهما كانت سعيدة ناعمة، فإنها قصيرة تمر مرّ البرق خاطفة، فعلى المتجبر أن يتعلم العبر من حياة الماضين ومن الأمم العظيمة، ومن الجبابرة، من أمثال: الأكاسرة وملوك الروم، وصاحب الحضر، ومن حياة من أشاد القصور، وإذا به يتركها لغيره، ثم يدفن في حفرة ضيقة، فيخاطب النعمان صاحبه والشامتين به، والحساد الذين وشوا به حتى أصابه ما أصابه، ويقول لهم جميعاً، وهو قابع في سجنه: أيها الشامت الـمـعـيرُ بـالـده  ر أأنت المـبـرأ الـمـوفـور

أم لديك العهد الوثـيق مـن الأي  ام بل أنت جـاهـل مـغـرور

من رأيت المنونَ خلـدن أم مـن  ذا عليه من أن يضـام خـفـير

أين كسرى: كسرى الملوك أنو شر  وان أين قـبـلـه سـابــور?

إلى أن ينتهي منها، بقوله: ثم صاروا كأنهـم ورق جَ  فُّ فألوت به الصبا والدبور 

وهي قصيدة نظمت بالبحر الخفيف.

وقال "الجاحظ": "وقال عدي بن زيد العبادي، وهو أحد من قد حُمل على شعره الحَمٌل الكثير، ولأهل الحيرة بشعره عناية، وقال أبو زيد النحوي: كفى زاجراً للمـرء أيام عـمـره  تروحُ له بالواعظات وتغـتـدي

فنفسك فاحفظها من الغي والردى  متى تغوها تغو الذي بك يقتـدي

فإن كانت النعماء عنـدك لامـرئ  فمثلاً بها فاجز المطالـب أو زد

عن المرء لا تسأل وأبصر قرينـه  فإن القرين بالمقارن مـقـتـدي

ستدرك من ذي الجهل حقَّك كلـه  بحملك في رفقٍ ولمـا تـشـدّد

وظلم ذوي القربـى أشـدّ عـداوة  على المرء من وقع الحسام المهنّدِ 

وفي كثرة الأيدي عن تالظلم زاجر  إذا خطرت أيدي الرجال بمشهـدِ

وورد ان "عمر بن الخطاب" تمثل بشعرعدي: كدمى العاج في المحاريب أو كال  بيض في الروض زهره مستنير

ومن شعراء الحيرة "ابن بقيلة"، وله شعر ذكر فيه حال الحيرة بعد فتح المسلمين لها، إذ يقول:   

أيعد المُنـذِرين أرى سَـوامـاً  تروح بالخورنـق والـسـدير

وبعد فوارس النعمـان أرعـى  قلوصاً بين مرّة والـحـفـير

فصرنا بعد هَلك أبي قـبـيس  كجرب المعز في اليوم المطير 

تقسّمنا القـبـائل مـن مـعـد  علانيةً كـأيسـار الـجـزور

وكـنـا لا يرامُ لـنـا حـريم  فنحن كضرّة الضرع الفخـور

نؤدي الخرج بعد خراج كسرى  وخرج من قريظة والنضـير

كذاك الدهر دولتـه سـجـال  فيوم من مسـاءة أو سـرور

فهو يتأسف على ما وقع للحيرة، من تسلط قبائل "معد" عليها، ومن دخولهم في حكمهم، بعد أن كانوا يحكمون تلك القبائل، ويجبون الجبايات، ويظهر من ذكر "قريظة" والنضير في هذا الشعر، ان حكم الحيرة قد بلغ أرض هاتين القبيلتين، وذلك إن صح بالطبع ان هذا الشعر هو من شعره، وانه أصيل غير مصنوع.

وهو "عبد المسيح بن بقيلة" الغساني، أو "عبد المسيح بن عمرو بن قيس ابن حيان بن بقيلة"، وبُقيلة اسمه "ثعلبة"، وقيل: "الحارث". وقد حشر في جملة المعمرين الذين عاشوا ثلاثمائة سنة وخمسين سنة، وأدرك الإسلام، فلم يسلم، وكان نصرانياً. وله حديث مع خالد، حين طلب من أهل الحيرة إرسال رجل من عقلائهم ليكلمه في أمر المدينة، فلما جاء اليه قال له: أنعم صباحاً أيها الملك. فقال خالد " قد أغنانا الله عن تحيتك هذه، ثم سأله أسئلة أخرى، ثم قال له. أعرب أنتم أم نبيط ? قال: عرب استنبطنا، ونبيط استعربنا، في حديث منمق، يرويه أهل الأخبار، وكأنهم مع خالد وابن بقيلة يسجلون حديثهما بالكلم والحرف.

وقد تطرق "الجاحظ" إلى خبر التقاء "عبد المسيح" بخالد بن الوليد، وروى حديثه معه. وذكر "المرتضي" أنه لما بنى قصره المعروف بقصر ابن بقيلة قال: لقد بنيت للحدثان حـصـنـاً  لو أن المرءَ تنفعه الحصون

طويل الرأس أقعس مشمخراً  لأنواع الرياح بـه حـنـين

وروى "المرتضى" "أن بعض مشايخ أهل الحيرة خرج إلى ظهرها يختط ديراً، فلما احتفر موضع الأساس، وأمعن في الاحتفار أصاب كهيئة البيت، فدخله فإذا رجلُ على سرير من رخام، وعند رأسه كتابة: أنا عبد المسيح ابن بقيلة: حلبتُ الدهر أشطرهُ حياتي  ونلت من المنى بلغ المزيد

وكافحت الأمور وكافحتني  فلم أحفل بمعضلة كـئود

كدت أنال في الشرف الثريا  ولكن لا سبيل إلى الخلود"

ومن شعره في الناس وفي تهافتهم والتفافهم حول الغني قوله: والناس أبناء عَلاّت فمن علموا  ان قد أقل فمجفوُ ومهجـور

وهم بنون لأم إن رأوا نشـبـاً  فذاك بالغيب محفوظ ومخفور 

وهذا يشبه قول أوس بن حجر: بني أم ذيِ المالِ الكـثـير يرونـه  وان كان عبداً سيد الأمر جحـفـلا

وهم لمـقـل الـمـالِ أولاد عـلة  وإن كان محضاً في العُمومة مخولا 

ومن شعراء "تنوخ" "عمرو بن عبد الجن بن عائذ الله بن أسعد بن سعد ابن كثير بن غالب"، وكان فارساً في الجاهلية، و"بنو عبد الجن " أسرة معروفة، كان لها بقية في الكوفة. ومن شعره: أما والدماء المائرات تخالـهـا  على قنة العُزّى وبالنسر عندما 

ثم: وما سبح الرحمان في كل ليلة  أبيل الأبيلين المسيح بن مريما 

وأدخلوا في هذه الطبقة "جذيمة" الأبرش، و"لجيم بن صعب بن علي بن بكر ابن وائل"، وهو القائل: من كل ما نال الفتى  قد نلته إلا التحـية

وجذيمة الأبرش، هو "جذيمة بن مالك بن فهم بن عمرو" ملك الحيرة، والأبرش لقب له، ويقال له الوضاح، وهو خال "عمرو بن عدي"، وكان ينادم عدياً، وكان له نديمان هما: مالك، وعقيل، بقيا معه أربعين سنة، ثم قتلهما وندم، ويضرب بهما المثل لطول ما نادماه. وقد قتلت الزباء جذيمة. وقد شاء أهل الأخبار عدّه شاعراً من الشعراء وأوردوا له شعراً، كما سبق أن تحدثت عنه في أثناء حديثي عن مملكة الحيرة، وعن اسطورة صلته بالزباء. ولو جعلناه شاعراً: لوجب علينا تقديمه على كل الشعراء الجاهليين.

وقصة شعره اسطورة من أساطير أهل الأخبار، فلو كان له شعر، لوجب أن يكون بعربية أخرى، هي العربية التي دوّن بها شاهد قبر "امرئ القيس" ملك الحيرة، الذي توفي سنة "328" للميلاد أي بعد "جذيمة" بأمد، وشعره هو من شعر تبابعة اليمن وآدم والجن من صنع الرواة وأهل الأخبار.

وترى في شعر الأعشى، وأمية بن أبي الصلت، و"عدي بن زيد"، وكلهم من شعراء القرى، قصصاً، لا تجده في الشعر المنسوب إلى غيرهم من الشعراء. قصصاً نصرانياً وقصصاً يرد عند اليهود، وقصصاً من قصص الأساطير والخرافات، أو مما يتعلق بالأشخاص، كالذي ينسب إلى الأعشى من سرده حكاية السموأل وقصره في قصيدته التي يقول فيها: كن كالسموأل اذ طاف الهمام به  في جحفل كسواد الليل جـرار

بالأبلق الفرد من تيماء منزلـه  حصن حصين وجار غير غدار 

وقد وصف فيها السموأل وحصنه، وقصة وفائه، وما كان قد جرى من حوار بينه وبين الملك الغساني المطالب بأدرع الكندي، وترى من قراءتك لها ان النظم نمط غير مألوف في شعر غيره من الشعراء، الأبيات فيها مكملة لما قبلها متصلة بعضها ببعض، بحيث لا يمكن أن تفصل بينها، وإلا أختل المعنى، وظهر فراغ فيه. وهو شيء غير مألوف عند غيره. فالبيت على حد قول علماء الشعر شعر مستقل قائم بنفسه، لا يؤثر حذفه أو تقديمه أو تأخيره على المعنى و لا على ارتباط الأبيات بعضها ببعض، أما في هذه القصيدة، فكل بيت فيها تابع لسابقه، متصل معناه بمعناه، لأنه جزء منه، فلا يمكن حذف شيء من القصيدة دون ان يؤثر في معناها.

ونجد في شعره قصصاً عن سد مأرب، وعن تهدمه وإغراقه من كان يسكن عنده بالماء، ذكر ذلك ليكون عبرة وأسوة للمؤتسي، وهو قصص بني على حادث تهدم ذلك السد.

وفي شعر الأعشى قصص إرم وطسم وجديس، وأهل جوّ، ووبار. وهو قصص رصعه الأخباريون بشعر نسبوه إلى "هُزيلة" امرأة من "جديس"، والى "عميرة بنت غفار الجديسية"، في قصص عن الملوك القدماء، وكيف انهم كانوا يدخلون على العذارى قبل ادخالهم على أزواجهم، في قصص ينسب إلى ملوك آخرين، مثل ملوك اليمن. وهو قصص نجد له مشابه عند الأمم الأخرى.

ومن شعراء "غسان": "الشيظم بن الحارث" الغساني، وهو من الأسرة الحاكمة، كان قد قتل رجلاً من قومه، وكان المقتول ذا أسرة، فخافهم فلحق بالحيرة، فكان يتكفف الناس نهاره ويأوى إلى خربة من خراب الحيرة، فبينا هو ذات يوم في تطوافه إذ سمع قائلاً يقول: لحا الله صعلوكـاً إذا نـال مـذقة  توسد احدى ساعـديه فـهـوّمـا

مقيماً بدار الهون غير مـنـاكـرٍ  إذا ضيمَ أغضى جفنه ثم برشمـا

يلوذ بأرذاء المثلـريب طـامـعـاً  يرى المنع والتعبيس من حيث يمما 

يضنُ بنفسٍ كدَّرَ البؤس عَيشـهـا  وجودُ بها لو صانها كان أحـزمـا

فذاك الذي إن عاش عـاش بـذلةٍ  وإن مات لم يشهد له الناس مأتمـا

بأرضك فاعرك جلد جنبك إنـنـي  رأيت غريب القوم لحماً مُوضمـا

فكأنه نبهه من رقدة، فتحايل إلى صاحب خيل المنذر، وتقرب اليه، وأظهر له أنه رجل من أهل "خيبر"، أقبل إلى هذه البلدة بتجارة فأصاب بها، وله بصر بسياسة الخيل، فضمه إلى بعض أصحابه، حتى إذا وافق غرة من القوم، ركب فرساً جواداً من خيل المنذر وخرج من الحيرة يتعسف الأرض، حتى نزل بحي من بهراء فأخبرهم بشأنه، فأعطوه زاداً ورمحاً وسيفاً، وخرج حتى أتى الشام فصادف الملك متبدياً، وكان إذا تبدى لا يُحجب أحد عنه، فأتى قبة الملك فقام قريباً منه، وأنشأ يقول: يا صاحب الخيل الجياد المقربه  وصاحب الكتيبة المكوكـبـه

والقبّة المنيعة المـحـجـبـه  وواهب المُضمرة المُربـبـه

والكاعب البهكنه المـؤتـبـه  والمائة المُدفأة المُنتـخـبـه

والضارب الكبش فويق الرقبه  تحت عجاج الكَبَّة المُكتّـبـه

هذا مقام من رأي مُطَّلَبه=لديك إذ عَمّى الضلال مذهبه وخال أنّ حتفه قد كربه فأذن له الملك، فدخل عليه، وقص قصته، ثم بعث إلى أولياء المقتول فأرضاهم عن صاحبهم.

وفي شعر شعراء القرى، ميزة امتازوا بها عن شعر شعراء أهل البوادي، هي ان أبيات القصيدة عندهم ليست على نحو أبيات اقصيدة عند بقية الشعراء من استقلال الأبيات بنفسها، وقيامها بذاتها بحيث يمكن رفع الأبيات من مواضعها وتقديمها أو تأخيرها، أو حذفها، دون أن يؤثر ذلك على وحدة القصيدة أو المعنى. ففي شعر "الأعشى" مثلاً، ترابط بين الأبيات واتصال بين البيت المتقدم والبيت الذي يليه، بحيث لا يمكن أحدهما ورفعه، دون أن يؤثر حذفه على المعنى، كذلك يتعذر علينا في بعض شعره نقل البيت عن موضعه، وقد يأتي الأعشى بالفعل في بيت ثم يأتي بفاعله أو بمفعوله في البيت للتالي، أو يأتي بفعل الشرط في بيت ويأتي بخبره بعد بيت أو بيتين. ويرد التضمين في شعره، كما نجد "الاستدارة" فيه كذلك، والاستدارة توالي مجموعة متلاحمة من الأبيات تجري على نظام متسق، يقوم فيه كل بيت بنفسه في معناه، ولكن المعنى التام لا يتم إلا بالبيت الأخير منها. وهو أسلوب يثير السامع ويشوقه، ويجعله يتتبع الكلام حتى يبلغ منتهاه.

وأشعر شعراء "البحرين" الذين ذكرهم "ابن سلام": المثقب العبدي، والممزق العبدي، والمفضل بن معشر.

و"المثقب العبدي" واسمه "عائذ بن محصن بن ثعلبى"، من "بني عبد القيس"، من شعراء الجاهلية، وإنما سمي مثقباً لقوله: ظهرن بكلّة وسدلن أخرى  وثقبن الوصاوص للعيون

وذكر "ابن قتيبة" ان اسمه "محصن بن ثعلبة"، وقيل اسمه شأس بن عائذ ابن محصن، وقيل اسمه نهار بن شأس، وكان يكنى أبا وائلة. وهو من شعراء البحرين.

"وكان أبو عمرو بن العلاء يستجيد هذه القصيدة له، ويقول: لو كان الشعر مثلها لوجب على الناس أن يتعلموه، وفيها يقول: أفاطم قبل بينك مـتـعـينـي  ومنعك ما سألتكِ أن تبـينـي

ولا تَعِدي مواعـد كـاذبـات  تمرّ بها رياح الصيف دوني

فإني لو تعاند في شـمـالـي  عنادك ما وصلت بها يمينـي

إذا لقطعتها ولقلـت بـينـي  كذلك اجتوي من يجتـوينـي

فإما أن تكونّ أخـي بـحـقٍ  فأعرف منك غثي من سميني 

وإلا فاطرّحني واتـخـذنـي  عدوّاً أتقـيك وتـتـقـينـي

فما أدري إذا يممـت أرضـاً  أريد الخير أيهمـا يلـينـي

أألخير الذي أنـا أبـتـغـيه  أم الشرّ الذي هو يبتغينـي?

وتحدث عنه "ابن قتيبة"، فقال: "وهو قديم جاهلي، كان في زمن عمرو بن هند، واياه عنى بقوله: إلى عمرو ومن عمروٍ أتتني  أخي الفعلات والحِلٌمِ الرزين 

وله يقول: غلبتَ ملوكَ الناس بالحزم والنهـى  وأنت الفتى في سورة المجد ترتقي 

وأنجب به من آل نصرٍ سـمـيدعٍ  أغرّ كلون الهنـدوانـيّ رونـق"

ويرى "بروكلمن"، ان "ابن قتيبة" انما أخذ رأيه المذكور من البيت المتقدم المذكور في المفضليات، ولكن الأصمعي يعارض ذلك، فقد مدح المثقبر أبا قابوس النعمان بن المنذر.

وللمثقب العبدي ديوان مطبوع، كما يوجد له شرح. ومن شعره: لا تقـولـن إذا مـا لـم تـرد  أن تتم الوعد في شيء نـعـم

حسن قول نعم مـن بـعـد لا  وقبيح قول لا بـعـد نـعـم

إن قلت نعم فاصـبـر لـهـا  بنجاح القول إن الخـلـف ذم

واعلم بأن الذمّ نقص للفـتـى  ومتى لا تتـقـي الـذمَّ تـذم

اكرم الـجـار وراعٍ حـقـه  إن عرفان الفتى الحق كـرم

لا تراني راتعاً في مجـلـسٍ  في لحوم الناس كالسبع الضرم 

إن شرّ الناس من يكشـر لـي  حين يلقاني وإن غبت شـتـم

وكـلام سـيء قـد وقـرت  عنه أذنايَ وما بي من صمـم

فتـعـديتُ خـشـاة أن يرى  جاهل أني كمـا كـان زعـم

ولبعض الصفح والإعراض عن  ذي الخنى أبقى وان كان ظلـم

وأما "الممزق" العبدي، فاسمه "شأس بن نهار بن أسود"، وانما سمي "الممزق" ببيت قاله: فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل  وإلا فأدركني ولمـا أُمـزّق

وهو ابن أخي المثقب العبدي، وكان معاصراً لأبي قابوس النعمان بن المنذر. قال عنه "ابن قتيبة": "وهو جاهلي قديم، قال البيت المذكور في قصيدة قالها لبعض ملوك الحيرة. وذكر انه قالها للملك عمرو بن هند، حين همّ بغزو عبد القيس، فلما بلغته القصيدة انصرف عن عزمه. وقيل انه عرف بالممزق ببيته: فمن مبلغ النعمان ان ابن أخته  على العين يعتاد الصفا ويمزق 

وقد نسبه "السيوطي" على هذه الصورة: "شأس بن نهار بن الأسود بن جبريل بن عباس بن حي بن عوف بن سود بن عذرة بن منبه بن بكرة" العبدي، ثم البكري. ومن شعره: أحقاً أبيت اللعن إن ابـن فـرتـنـا  على غير إجرامٍ بريقي مُشـرقـي

فإن كنت مأكولاً فكـن خـير آكـل  وإلا فأدركـنـي ولـمّـا أمـزق

فأنت عميد الناس مهما تقل نـقـل  ومهما تضع من باطلٍ لا يحـقـق

أكلفتني أدواء قـومٍ تـركـتـهـم  فألا تداركني من البـحـر أغـرق

فإن يعمنوا أشئم خلافـاًعـلـيهـم  وإن يتهموا مستحقبي الحرب أعقبي 

ومما ينسب اليه: هل للفتى من بنات الدهرِ من واقِ  أم هل له من حمام الموت من واقِ 

وقوله: هون عليك و لا تولع باشفاقِ  فإنما مالنا للوارث الباقـي

ونجده يذكر في شعره صراخ الديك، ولا نجد للديك ذكراً عند الأعراب، لأنهم لا يربون الدجاج، وتربية الدجاج من خصائص الحضر. تراه يقول: وقد تخذت رجلاي في جنب غرزها  نسيفاً كأفحوص القطاة المطـرق

أنيخت بجوٍّ يصرخ الديك عنـدهـا  وباتت بقاعٍ كادئ النبت سـمـلـق

وذكر "المرتضى" أن من شعره قوله: ألا مَنٌ لعينٍ قد نآها حميمهـا  وأرّقني بعد المنام همومهـا

فباتت لها نفسان شتى همومها  فنفسُ تعزيها ونفس تلومهـا

وذكر أن من العلماء من ينسبه لمعقر بن حمار البارقي.

ومن شعراء "عبد القيس": "سويد" و "يزيد" ابنا "خذاق". قال عنهما "ابن قتيبة": "وهما قديمان، كانا في زمن عمرو بن هند. ويزيد القائل: نعمانُ إنـك غـادرُ خـدعُ  يخفي ضميرك غير ما تُبدي 

فاذا بدا لك نحت أثـلـثـنـا  فعليكما إن كـنـت ذا جـدّ

وهززت سيفك كي تحاربنـا  فانظر بسيفك من به تردي

وله شعر في الموت وفي ذم الدنيا، قال عنه "أبو عمرو بن العلاء" إنه "أول شعرٍ قيل في ذم الدنيا" وكان يزيد قد هجا "النعمان بن المنذر" فبعث اليهم النعمان كتيبته "الدوسر" فاستباحتهم، فقال أخوه سويد: ضربت دوسرُ فينا ضربة  أثبتت أوتاد مُلك فاستقر

فجزاك الله من ذي نعمة=وجزاه الله من عبد كفر ومن شعره قوله في "عمرو بن هند": أبى القلبُ أن يأتي السدير وأهلهُ  وإن قيل عيشُ بالسدير غـزير

به البق و الحُمّى وأسد خـفـية  وعمرو بن هند يعتدى و يجورُ

وهو القائل أيضاً: جزى الله قابوسَ بن هند بفعلـه  بنا و أخـاه غـدرة و أثـامـا

بما فجرا يوم العُطيف وفـرّقـا  أحـلافـاً وحـياً حـرامــا

لعلّ لَبُون الملوك تمنـع درهـا  ويبعث صرف الدهر قوماً نياما 

وإلا تغاديني المنية أغـشـكـم  على عُدواء الدهر جيشاً لهامـا

وكانت عبد القيس و تميم على اتصال بملوك المناذرة الذين كان نفوذهم يمتد إلى البحرين و اليمامة في بعض الاحايين، فكانت جيوش الحيرة في نزاع مستمر مع هذه القبائل التي كانت تنفر مندفع الإتاوة ومن الخضوع لآل لخم. ونجد أخبار هذا النزاع في شعر شعرائها، وهي أخبار لا نجدها في كتب التاريخ المالوفة، التي لم تحفل بالشعر، فضاع عليها قسط كبير من تأريخ الحيرة، حصلنا عليه لحسن حظنا من كتب الشعر و الأدب التي دونت أخبار الشعراء و دونت المناسبات التي قيل فيها ذلك الشعر.

الفصل الثاني والستون بعد المئة
شعراء قريش

ويزعم أهل الأخبار أن العرب كانت تقر لقريش بالتقدم في كل شيء عليها إلا في الشعر، فإنها كانت لا تقر لها به، حتى كان عمر بن أبي ربيعة، فأقرت لها الشعراء بالشعر أيضاً ولم تنازعها. وذُكر أن قريشاً كانت أقل العرب شعراً في الجاهلية، فاضطرها ذلك إلى أن تكون أكثر العرب انتحالاً للشعر في الإسلام. ويؤيد هذا الرأي أننا نجد أكثر من ذكر الرواة أسماءهم وأشعارهم من الشعراء الجاهليين إنما هم من غير قريش.

وذكر أهل ألخبار ان المنافسة التي كانت بين قريش والأوس والخزرج، أهل يثرب، دفعت أهل مكة على صنع الأشعار لتتغلب بها على الأنصار. "يروي الناس لأبي سفيان بن الحارث قولاً يقوله لحسان: أبوك أبو سُوء وخالك مثـلـه  ولست بخير من أبيك وختلكا

وأن أحق الناس ان لا تلومـه  على اللوم من ألقى أباه كذلكا 

أخبرنا أبو خليفة، أخبرنا محمد بن سلام، قال: وأخبرني أهل العلم من أهل المدينة ان قدامة بن موسى بن عمر بن قدامة بن مطعون الجمحي قالها ونحلها أبا سفيان. وقريش تزيد في أشعارها تريد بذلك الأنصار والرد على حسان". وهناك أخبار أخرى في هذا المعنى تفيد نحل الشعر وضمه إلى شعراء مكة، لتتباهى به على يثرب.

ولانجد بين الشعراء البارزين من أصحاب المعلقات شاعراً واحداً هو من قريش. كذلك لا نجد من بين شعراء الطبقات المتقدمة من فحول الشعراء الذين قدمهم علماء الشعر على غيرهم شاعراً هو من أهل مكىة. وهذا هو تفسير قول أهل الأخبار المتقدم، الدال على تأخر قريش بالنسبة إلى بقية العرب في قول الشعر، أما لو أخذنا قولهم المذكور، وصرفناه على أهل القرى، فإننا نجدمكة متقدمة فيه، لأنها انجبت عدداً لا بأس به من الشعراء بالقياس إلى الطائف، التي اشتهرت بشعر شاعرها "أمية بن أبي الصلت"، ولكنها لا تداني مكة في عدد من ظهر بها من الشعراء، وبالقياس إلى "نجران" والى قرى اليمامة. أما بالنسبة إلى يثرب، فقد برز بيثرب شعراء، هم أكثر عدداً وشعرة من شعراء مكة.

وقد وصف "ابن سلام" شعر قريش بقوله: "وأشعار قريش أشعار فيها لينُ يشكل بعض الأشكال". وذلك حين تحدث عن شعر "أبي طالب" وعن شعر "الزبير بن عبد المطلب"، وعما وضع الناس من شعر عليهما.

ويذكر أهل الأخبار، ان قريشاً كانت في الجاهلية دون غيرها من العرب، تعاقب شعراءها إذا هجا بعضهم بعضاً، كما كانت ترمي من يروي المثالب ويقع في أعراض الناس بالحمق، فتسقط منزلته بين الناس، ولهذا قلّلا فيها شعر الهجاء. ويذكرون ان أهل مكة لما أصبحوا يوماً وعلى باب الندوة مكتوب: ألهي قُصياً عن المجد الأساطيرُ  ورشوة مثل ما ترشى السفاسير 

وأكلها اللحمَ بحثاً لا خلـيط لـه  وقولها رحلت عير أتت عـير

أنكر الناس ذلك، وقالوا ما قالها إلا "ابن الزبعري"، وأجمع على ذلك رأيهم، فمشوا إلى "بني سهم"، وكان مما تنكر قريش ةتعاقب عليه أن يهجو بعضها بعضاً، فقالوا لبني سهم: ادفعوه الينا نحكم فيه بحكمنا. قالوا: وما الحكم فيه ? قالوا قطع لسانه، قالوا: فشأنكم. واعلموا والله انه لا يهجونا رجل منكم إلا فعلنا به مثل ذلك. وكان "الزبير بن عبد المطلب" يومئذ غائباً نحو اليمن، فخاف بنو قصي أن يقول شيئاً من هجاء، فيؤتى اليه مثل ما أتى إلى ابن الزبعري، وكانوا أهل تناصف، فأجمعوا على تخليته فخلوه.

وقد أحصى "جرجي زيدان" عدد الشعراء الجاهليين بنحو "120" شاعراً على اختلاف القبائل والبطون. وقد وجد أن عشرة شعراء منهم هم من قريش. معظمهم ان لم نقل كلهم ممن عاش عند ظهور الإسلام، وقد اشتهر بالشعر وعرف به لموقفه المعادي من الإسلام، ولاضطراره على مهاجاة النبي والمسلمين دفاعاً عن عقيدته، ولهذا كان معظم شعره في هجاء المسلمين، وفي الرّد عليهم وفي الفخر بقومه وتعديد مآثرهم ومناقبهم والدفاع عنهم.

قال "ابن سلام": "وبمكة شعراء، فأبرعهم شعراً عبد الله بن الزبعري ابن قيس بن عدي بن ربيعة بن سعد بن سهم، وأبو طالب بن عبد المطلب، شاعر، وأبو سفيان بن الحارث، شاعر، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، شاعر، وضرار بن الخطاب، شاعر، وأبو عزة الجمحي، شاعر، واسمه عمر بن عبد الله، وعبد الله بن حذافة السهمي الممزق، وهُبيرة بن أبي وهب ابن عامر بن عائذ بن عمران بن مخزوم".

ونجد في كتب السيرة والأخبار شعراً لعبد المطلب، من جملته قوله: لاهم ان العبد يمنع رحله فامنع حلالَك 

لا يغلبنِ صليبهم  ومـحـالـهـم غـدوا مـحـالــك

إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك

ومن شعراء قريش "أبو لبيد بن عبدة بن جابر"، وكان أحد فرسانها في الجاهلية.

و"أبو طالب"، عم النبي. وقد أدخلناه في عداد الشعراء، لوجود شعر ينسب اليه، ورد أكثره في سيرة "ابن اسحاق"، ولوجود ديوان مطبوع نسب اليه، واسمه "عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي"، وقيل اسمه "عمران"، وقيل اسمه كنيته. قال عنه "ابن سلام ": "وكان أبو طالب شاعراً جيد الكلام، وأبرع ما قال قصيدته التي مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه  ربيع اليتامى عصمة للأرامل

ولد قبل النبي بخمس وثلاثين سنة، ولما مات "عبد المطلب " وصي بالنبي اليه، فكلفه، وسافر به إلى الشام، وهو شاب، ولما بُعث الرسول كان لا زال حياً، وقد اختلفت في اسلامه، وتوفي في السنة العاشرة من المبعث.

وقد ذكر "ابن هشام" قصيدة لأبي طالب، قال انه قالها في "المطعم بن عدي" يعرض به، ويعم من خذله من بني عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش منها قوله: ألا قل لعمرو والوليد ومطـعـم  ألا ليت حظي من حياطتكم بكر

من الخور حبحاب كثير رغـاؤه  يرش على الساقين من بوله قطر 

وأورد "ابن هشام" له قصيدة أخرى، ذكر انه قالها في مدح قريش، لما رأى "أبو طالب" من قومه ما سره في جهدهم معه وحدبهم عليه. فقال: إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخر  فعبد مناف سرها وصميمهـا

فإن حصلت أشراف عبد منافها  ففي هاشم أشرافها وقديمهـا

ونسبت له قصيدة ذُكر انه قالها لما خشي "أبو طالب" دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، تعوذ بها بحرم مكة وبمكانة منه، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على غير ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره انه غير مسلم الرسول ولا تاركه أبداً حتى يهلك دونه. إذ يقول: ولما رأيت القوم لا ودّ فـيهـم  وقد قطعوا كل العرى والوسائل 

وقد صارحونا بالعـداوة والأذى  وقد طاوعوا أمر العدو المُزايل

وهي قصيدة طويلة، قال "ابن هشام" في آخرها: "هذا ما صح لي من هذه القصيدة وبعض أهل العلم ينكر أكثرها". ويظهر انها وردت بصورة أطول في سيرة "ابن اسحاق"، إلا ان "ابن هشام" طرح منها ما شك في أصله وما لم يثبت عنده انه من شعر "أبي طالب"، واكتفى بهذا القدر الذي دوّنه في سيرته.

وفي جملة ما جاء في القصيدة المذكورة قوله: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه  ثمال اليتامى عصمة للأرامل 

وقد ذهب "ابن سلام" إلى أن الرواة زادوا في قصيدة أبي طالب وطولوها فأبعدوا آخرها عن أولها. وتعرض لها "الرافعي" فقال: "وقد يزيدون في القصيدة ويبعدون بآخرها متى وجدوا لذلك باعثاً، كقصيدة أبي طالب التي قالها في النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مشهورة أولها: خليليّ مـا أذنـي لأولِ عـاذل  بصغواء في حق و لا عند باطل 

قال ابن سلام: زاد الناس في قصيدة أبي طالب وطولت بحيث لا يدري أين منتهاها، وقد سألني الأصمعي عنها فقلت صحيحة، فقال: أتدري أين منتهاها قلت لا، قلنا: وإنما طُولّت هذه القصيدة معارضة للطوال المعروفة بالمعلقات حتى لا يكون من شعر الجاهلية ما هو خير مما قاله عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في أصلها أبياتاً هاشمية تفي بكثير من الطوال".

وقد تعرض "ابن سلام"- كما قلت - لهذه القصيدة فقال: "وقد زيد فيها وطولت. رأيت في كتاب كتبه يوسف بن سعد صاحبنا منذ أكثر من مائة سنة: وقد علمت أن قد زاد الناس فيها، فلا أدري أين منتهاها. وسألني الأصمعي عنها، فقلت صحيحة. قال: أتدري أين منتهاها? قلت لا أدري".

ونسب أهل الأخبار لأبي طالب شعراً زعموا أنه قاله لأبي لهب يحرضه فيه على نصرته ونصرة الرسول، فيه: ان امرءاً أأبو عـتـيبة عـمـه  لفي روضة ما ان يسام المظالما 

ونسبوا له قصيدة"دالية" ذكروا انه نظمها لما مزقت "ااصحيفة": صحيفة قريش، التي كتبوها في مقاطعة "بني هاشم"، أولها: ألا هل أتى بحرينا صنع ربـنـا  على نايهم والله بالـنـاس أرود

فيخبرهم ان الصحيفة مـزقـت  وان كل ما لم يرضه الله مفسـد

تراوحها افك وسحر مـجـمـع  ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد 

وقد أورد "الزبيري" منها هذه الأبيات: جزى الله رهطاً من لؤي تتابـعـوا  على ملأ يهدي لـحـزم ويرشـد

قعوداً لدى جنب الحطيم كـأنـهـم  مقاولةُ، بل هـم أعـز وأمـجـد

هُمُ رجَعوا سهلَ بن بيضاء راضـياً  فسرّ أبو بكر بـهـا ومـحـمـد

ألم يأتكم ان الصـحـيفة مُـزقـت  وإن كان ما لم يرضه الله يفـسـد

أعان عليها كـل صـقـرٍ كـأنـه  شهاب بكـفـي قـابـس يتـوقـد

جريُ على حـل الأمـور كـأنـه  إذا ما مشى في رفرف الدرع أجود 

وهي من الشعر المصنوع.

ونسبوا له قوله: ودعوتني وزعمتّ انك صادقُ  ولقد صدقت وكنتَ قبل أمينا

ولقد علمتُلا بأن دين محمـد  من خير أديان البـرية دينـا

وقوله: ألا أبلغا عني على ذات بينـنـا  لؤياً وخُصّاً من لؤي بني كعب

ألم تعلموا انا وجدنا مـحـمـداً  نبياً كموسى خطّ في أول الكتب 

وان عليه في العـبـاد مـوّدة  وخيّر فيمن خصه الله بالحـب

ولأبي طالب شعر، رثى به "أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكان قد خرج تاجراً إلى الشام، فمات في موضع يقال له: "سرو سحيم". وكان "أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله" من "أزواد الركب " في قريش، وهم ثلاثة: هو و"مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس"، و "زمعة بن الأسود بن عبد المطلب"، وكانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحد. وله شعر في رثاء "مسافر".

وفي الديوان المطبوع شعر يمكن أن يكون صحيحاً، و لكن أكثره شعر منحول، و لا سيما القصيدة "اللامية" الطويلة. فإن القسم الأكبر منها، لا يمكن أن يكون من الشعر الأصيل. و يرى "بروكلمن" أن سبب الوضع، هو رغبة من وضعه على تزيين سيرة الرسول بمكة، وفي أوائل عهد النبوة، بكثير من الأشعار، بعد أن كثرت الأشعار في سيرته بالمدينة. كما أن للشيعة يداً في وضع هذا الشعر على لسان "أبي طالب" لاظهاره بمظهر المعاون للنبي المؤيد له، المؤمن بدعوته في قلبه و لسانه، تأييداً للإمام "علي"، الذي هو ابن "أبي طالب".

ونسب إلى "الجاحظ" له قوله: أمن أجل حبلٍ لا أباك علوته  بمنسأة قد جاء حبل وأحبل

ويروى لعلي بن أبي طالب شعر كثير. ولا يوجد شك في ان علياً كان مطبوعاً على قول الشعر، وانه كان ذا شاعرية، وله مواهب تؤهله لنظمه، كما كان من الحفّاظ للشعر، وقد أورد له أهل الأخبار والأدب شعراً ذكروه في المواضع المناسبة، كما جمع بعض الأدباء شعره في ديوان، فهو صاحب شعر، نظم في المناسبات، غير انه لم يكن شاعراً بمعنى انه اتخذ الشعر صناعة له، وانما كان يقوله في المناسبة، ثم ان المنسوب اليه، شعراً كثيراً، هو موضوع. صنع و حمل عليه. وأكثر ما جاء في الديوان الذي يحمل اسمه هو من هذا القبيل.

ونظراً إلى ما لعلي بن أبي طالب من مكانة في نفوس المسلمين، ولوجود شيعة له، فقد اهتم الناس بأمر ديوانه، وشرحوه شروحاً عديدة، وترجموه إلى لغات مختلفة، وطبع جملة طبعات، بحيث نستطيع ان نقول دون مبالغة، ان ديوان "علي" نال من المكانة والتقدير ما لم ينله أي ديوان آخر، ليس لما فيه من شعر أو من بلاغة، بل لحرمة ولمكانة صاحبه ففي هذا الديوان غث كثير، و فيه ما لا يمكن ارجاعه إلى "علي" أبداً. قال "أبو عثمان" المزني: "لم يصح عندنا ان علياً تكلم من الشعر إلا هذين البيتين": تلكم قريش تمنّاني لتقتـلـنـي  فلا وربك ما بروّا وما ظفروا 

فأن هلكتُ فرهنُ ذمتي لهـم  بذات رَوقين لا يعفو لها أثـر

ونسبوا لعلي قصيدة في الايام السبعة منها: أرى الأحد المبارك يوم سعد  لغرس العود يصلح والبنـاء

وفي الإثنين للتعـلـيم أمـن  وبالبركات يعرف و الرخاء

وإن رمت الحجامة في الثلاثا  فذال اليوم إهراق الـدمـاء

وأن أحببت أن تيقى دواء=فنعم اليوم يوم الأربعاء وي يوم الخميس طلاب رزق  لأدراك الفوائد والـغـنـاء

ويوم الجمعة التـزويج فـيه  ولذات الرجال مع النـسـاء

و يوم السبت إن سافرت فيه  وقيت من المكاره والعنـاء

وقد رويت القصيدة بروايات أخرى.

ونسبوا "لورقة بن نوفل" شعراً، وزعموا أنه قاله حين رآهم يعذبون بلالاً على إسلامه. منه: لقد نصحت لأقوام و قلت لـهـم  أنا النذير فلا يغـرركـم أحـد

لا تعبدن إلاهاً غير خالـقـكـم  فإن دعيتم فقولـوا دونـه حـدد

سبحان ذي العرش لا شيء يعادله  رب البريّةفرد واحـد صـمـد

وورقة، هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزى بن قصي، يجتمع مع النبي في جدّ جدّه. ذكر أنه كره عبادة الأوثان وطلب الدين في الآفاق و قرأ الكتب، و أنه كان حنيفاً على ملة إبراهيم، و ذكر أنه كان نصرانياً قد تتبع الكتب و علم من علم الناس، ومات في فترة الوحي قبل نزول الفرائض والاحكام، وروي بعضهم أنه آمن بالرسول و جعله من الصحابة، وشدد الإنكار على من أنكر صحبته، وجمع الأخبار الشاهدة له بأنه في الجنة. و هكذا نجد الروايات تجمع على تجمع على نبذه عبادة الاوثان، ثم تختلف في أنه كان حنيفاً على ملة الأحناف، أو نصرانياً. أما زعم إيمانه بالرسول، وما رووه من الشعر الموضوع المصنوع، الذي وضع على لسان غيره أيضاً، بزعم اثبات نبوة الرسول. وفي أكثره ركة.

وقد نسب بعضه مثل قوله: لقد نصحت لأقوام وقلت لهم  أنا النذير فلا يغرركم أحد

إلى غيره. فقيل إنه لأمية بن أبي الصلت، وقيل انه لزيد بن عمرو بن نفيل. غير أن "السهيلي"، و "أبا الربيع" الكلاعي، والبغدادي يرون أنه له ومن الشعر المنسوب اليه قوله: ارفع ضعيفك لا يَحُر بك ضعفه  يوماً فتدركه العواقب قد نمـى

يجزيك أو يثني عليك وإن مـن  أثنى عليك بما فعلت كمن جزى 

وقد نسبا أيضاً لزهير بن جناب.

ولزيد بن عمرو بن نفيل، وهو أحد الأحناف شعر، وهو من المتألهين الذين حاربوا عن مكة طلباً للعلم و المعرفة و الدين، ذهب إلى بلاد الشام. وهناك احتك بالنصارى، فتعلم منهم أمور الدين. و لعله تعلم السريانية و الرومية بها ونظر في كتب النصرانية، لما يذكره أهل الأخبار من تعلمه للغتين. وفارق شأن بقية الأحناف قومه، وعاب الأصنام والاوثان، ونسب أهل الأخبار اليه انه كان يسند ظهره إلى الكعبة ثم يقول: يا معشر قريش، والذي نفسي بيده ما أصبح منكم أحد على دين ابراهيم غيري. وكان مثل بقية الأحناف أمثال ورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، وعبيد بن جحش وغيرهم، قد خالفوا قريشاً، وقالوا: انكم تعبدون ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام وعابوا عليهم ما هم عليه من التقرب إلى الحجارة. وقد أورد من ترجم حياته شيئاً من شعره، واستشهدوا ببعضه في الشواهد.

ومن شعر "زيد بن عمرو بن نفيل" في الأصنام قوله: تركتُ اللات و العُزى جميعاً  كذلك يفعل الجلد الصبـور

فلا العُزى أدين و لا ابتغيها  ولا صنمي بني غنـم أزور

و لا هبلاً أزور وكـان ربّـاً  لنا في الدهر إذ حلمي صغير 

و"سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل"، المعروف ب "أبي الأعور"، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، و أحد الصحابة الذين أسلموا قديماً، ما الشعراء وهو ابن "زيد بن عمرو" المذكور. وكان اسلامه قديماً و قبل عمر، وكان إسلام "عمر" عنده في بيته، لأنه كان زوج أخته فاطمة، وقد توفي سنة خمسين، أو احدى و خمسين، وقيل اثنتين وخمسين ز ومن شعره قوله: تلك عرساي تنطقان على عـمـدٍ  لي الـيوم قـول زورٍ وهـتـر

سالتني الـطـلاق ان رأتـا مـا  لي قليلاً قد جئتمانـي بـنـكـرِ

فلعلي أن يكثر الـمـال عـنـدي  ويعرى من المغـارم ظـهـري

وتـرى أعـبـدُ لـنـــا وأواقٍ  و مناصيف من خـوادم عـشـر

ونجـر الأذيال فـي نـعـمة زو  لٍ تقولان ضع عصاك لـدهـر

وَيّ كأن من لم يكن لـه نـشـبُ  يُحبب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ 

ويجنب سرّ الـنـجـيّ ولـكـن  أخا المال محـضـر كـل سـرّ

وكان "نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب" شاعراً، وكان هو وأخوه "منبه" من بدر. وقد رثاهما "الأعشى بن نباش بن زرارة" التميمي، حليف بني عبد الدار. وكان مدّاحاً لنبيه بن الحجاج.

وقد أورد "الزبيري" له شعراً منه قوله: تلك عرساي تنطقان بهجر  وتقولان قول زورٍ وهتر

تسألان الطلاق إذ رأتانـي  قل مالي قد جئتماني بنكر

فلعلي أن يكثر المال عندي  وتخلى من المغانم ظهري 

وترى أعبـد لـنـا وأواق  ومناصيف من ولائد عشر 

وقال "الزبيري" إن له أشعاراً كثيرة. وقد رأينا أن هذا الشعر الذي نسب لنبيه، قد نسب أيضاً لزيد. وقد نسب صاحب "الخزانة" الشعر لزيد، ثم عاد فنسبه لنبيه.

وكان " أبو العاصي" المعروف ب"الامين" من حكماء وشعراء قريش، ومما نسب اليه من شعر قوله: أبلغ لديك بنـي أمـية  آية نصحاً مـبـينـا

انا خلقنا مصلـحـين  وما خلقنا مفسـدينـا

إني أعادي معـشـراً  كانوا لنا حصناً حصينا 

خلقوا مع الجوزاء إذ  خلقوا ووالدهم أبونـا

وهو العاصي بن وائل، وكان من اشراف قريش، وفيه يقول ابن الزبعري: أصاب ابن سلمى خُلة من صديقه  ولولا ابن سلمى لم يكن لك راتقُ

فآوى وحـيّا إذ أتـاه بـخــلة  وأعرض عنه الأقربون الأصادق 

فإما أصب يوماً من الدهر نُصرةً  أتتك وإني بابن سلمى لـصـادق

وإلا تكن إلا لـسـانـي فـإنـه  بحسن الذي أسديت عني لناطـق

ثمال يعيشُ المقترون بفضله=وسيب ربيع ليس فيه صواعق وعبد الله بن الزبعري بن قيس بن عدي بن ربيعة بن سعيد بن سهم القرشي السهمي، من "أشعر قريش"، وكان شديداً على المسلمين، ثم أسلم في الفتح. وذكر أنه لما فتح رسول الله مكة، هرب إلى "نجران"، ثم أسلم ومدح النبي، فأمر له بحلة. وكان يهاجي حسان بن ثابت وكعب بن مالك. وذكر أنه"كان من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم، و على أصحابه بلسانه ونسه. وكان من أشعر الناس وأبلغهم. يقولون غنه أشعر قريش قاطبة. قال الزبير: كذلك يقول رواة قريش انه كان أشعرهم في الجاهلية. وأما ما سقط الينا من شعره و شعر ضرار بن الخطاب، فضرار عندي أشعر منه، و أقل سقطاً.

كان " ابن الزبعري" من المؤذين للرسول، قام يوماً فأخذ فرثاً ودماً فلطخ به وجه النبي، فانفتل النبي من صلاته، ثم أتى "أبا طالب" عمه فقال: يا عم ألا ترى إلى ما فعل بي ? فأخذ "أبو طالب" فرثاً ودماً فلطخ به وجوه القوم الذين كان "ابن الزبعي" بينهم. وبقي على عدواته هذه للرسول و في هجائه له و للمسلمين إلى عام الفتح، فأسلم.

وقد أشرت إلى ما ذكره "ابن سلام" من أمر البيتين اللذين وجدا مكتوبين على باب الندوة، وهما: ألهي قصيّاً عن المجد الأساطير  ورشوة مثل ما ترشى السفاسير 

وأكلها اللحم بحتاً لا خليط له  وقولها رحلت عيرُ أتت عيرُ 

وما كان من إجماع أهل مكة على انهما من قول "ابن الزبعري" ليس غير. وذلك مما أهلج أولاد قصي خاصة، فمشوا إلى "بني سهم" رهط "ابن الزبعري" طالبين منهم تسليمه لهم ليحكموا فيه حكمهم.

وفي البيتين، هجاء مرّ لقصي ولآل قصي، الذين ألهتهم الأساطير عن المجد، وكانوا يرشون ويرتشون مثل ما ترشى السفاسير، وهم السماسرة أولئك الذين يأكلون اللحم، ولا يعرفون إلا كلام: رحلت عيرُ، أتت عيرُ. كلام التجار. فلا يفهمون قولاً غير هذا القول.

ومن شعر "ابن الزبعري" قصيدته وفي وقعة أُحد، ومطلعها: يا غراب البين أسمعت فقل  إنما تنطق شيئاً قد فُعـل

قال وهو مشرك، فلما أسلم قال: يا رسول المليك إن لساني  ما فتقـتُ إذ أنـا بـورُ

وقد أشار في القصيدة في يوم أُحد، إلى انتصاف أهل مكة من المسلمين بقوله: ليت أشياخي ببـدر شـهـدوا  جزع الخزرج من وقع الأسل 

حين ألقت بقبـاء بـركـهـا  وعدلنا ميل بدر فـاعـتـدل

وقصيدته في "أُحد" من القصائد الجيدة، وقد دوّنها "ابن هشام" في جملة ما دوّن من الشعر الذي قيل في هذه المعركة. وقد ردّ عليه "حسان بن ثابت" بقصيدة دوّنها "ابن هشام" بعدها.

وله شعر في مدح النبي، فيه: منع الرقاد بلابـلُ وهـمـوم  و الليل معتلجُ الرواق بـهـيم

مما أتاني ان أحمـد لامـنـي  فيه فبت كأننـي مـحـمـوم

يا خير من حملت على أوصالها  عيرانة سرح الـيدين رسـوم

إني لمعتذر الـيك مـن الـذي  أسديت إذ أنا في الضلال أهيم

أيام تأمرني بـأغـوى خـطة  سهمُ وتأمرني بها مـخـزوم

فاغفر فدى لك والدي كلاهمـا  ذنبي فإنك راحـم مـرحـوم

وعيك من أثر المليك عـلامةُ  نور أضاء و خاتم مـخـتـوم

مضت العداوة فانقضت أسبابها  ودعت أواصر بيننا وحـلـوم

وهي ابيات نظمها معتذراً فيها عما كان منه من هجاء الرسول و المسلمين، ومن وقوفه مع المشركين في مواقفهم المعروفة، بعد أن سمع بما حل بغيره ممنهجا الرسول من قتل.

ويذكر أهل الأخبار أن "عبد الله بن الزبعري" و "ضرار بن الخطاب" الفهري، قدما المدينة أيام "عمر بن الخطاب"، فأتيا "أبا أحمد بن جحش" الأسدي، وكان مكفوفاً، وكان مألفاً يُجتمع اليه ويتحدث عنه، ويقول الشعر، فقال له: أتيناك لنرسل إلى حسان بن ثابت فنناشده و نذاكره، فإنه كان يقول في الإسلام ويقول في الكفر، فأرسل اليه، فجاء فقال: أبا الوليد أخواك تطرّبا إليك: ابن الزبعري وضرار يُذاكرانك و يناشدانك. قال: نعم إن شئتما بدأت و ان شئتما فابدأ. قال: نبدأ. فأنشداه حتى إذا صار كالمرجل يفور قعدا على رواحلهما. فخرج حسان حتى لقي عمر بن الخطاب، وتمثل ببيت ذكره ابن حُعدبة لا أذكره. فقال عمر: وما ذاك ? فأخبره خبرهما. فقال: لا جرم و الله لا يفوتانك. فأرسل في أثرهما فرُدّا. وقال لحسان أنشد. فأنشد حسان حاجته. قال له: اكتفيت ? قال نعم. قال شأنكما الآن، ان شئتما فارحلا و ان شئتما فأقيما".

ومن شعره قوله: ألا لـلـه قــوم و  لدت أخت بني سهم

هشام و أبـو عـبـد  مناف مدره الخصم

وذو الرمحين أشبـالُ  على القوة والحـزم

فإن أحلف وبيت اللـه  لا أحلف على إثـم

لمـا أن اخـوةُ بـين  قصور الروم والروم 

بأزكى من بني ريطة  أو أوزن في حـلـم

وكان "الزبير بن عبد المطلب" من فرسان قريش ومن شعرائها، وقد روى "ابن كثير" له شعراً، ذكر انه قاله فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها، هو: عجـبـت لـمـا تـصـوبـت الـعـــقـــاب  إلـى الـثـعـبـان وهـي لـهـا اضـطــراب

وقـد كـانـــت لـــهـــا كـــشـــيش  وأحـيانــاً يكـــون لـــهـــا وثـــاب

إذا قـمـنـا إلـى الـتـــأســـيس شـــدت  تهـيبـنـا الـبـنــاء وقـــد تـــهـــاب

فلما ان خشينا الرجز جاءت عقاب تتلئب لها انصباب 

فضمتها اليها ثم خلت لنا  الـبـنــيان لـــيس لـــه حـــجـــاب

فقمنا حاشدين إلى بـنـاء  لنا منه القواعد والتـراب

غداة نرفع التأسيس منـه  وليس على مساوينا ثياب

أعز به المليك بني لـؤي  فليس لأصله منهم ذهاب

وقد حشدت هناك بنو عدي  ومرة قد تقدمها كـلاب

فبوأنا المليك بـذاك عـزاً  وعند الله يلتمس الثـواب

وقد وردت هذه الابيات في سيرة "ابن هشام"، أخذت من سيرة "ابن اسحاق". وهي ولا شك من ذلك الشعر المصنوع الذي انتحل على الشعراء، وأعطى إلى "ابن اسحاق" فأدخله في سيرته، أسلوبها يتحدث عن نفسه، ونظمها بعيد عن نظم شاعر عاش في ذلك الوقت.

وقد تعرض "ابن سلام" لشعر "الزبير"، فقال عنه: "وأجمع الناس على أن الزبير بن عبد المطلب شاعر، والحاصل من شعره قليل. فما صح عنه قوله: ولولا الحَبش لم يلبس رجالُ  ثيابَ أعزة حتى يموتـوا"

ويقال ان: إذا كنت في حاجة مرسلاً=فأرسل حليماً ولا توصه وكان "الزبير" شاعراً مفلقاً شديد العارضة مقذع الهجاء، ولما جاء "عبد الل ابن الزبعري" السهمي "بني قصي" رفعوه برمته إلى"عتبة بن ربيعة" خوفاً من هجاء "الزبير" فلما وصل "عبد الله" اليهم أطلقه "حمزة بن عبد المطلب" وكساه، فمدحه. وكان "الزبير" غائباً بالطائف أو باليمن، فلما وصل إلى مكة و بلغه الخبر قال: فلولا نحن لم يلبس رجـالُ  ثياب أعزة حتى يمـوتـوا

ثيابهم سمـالُ أو طـمـارُ  بها ودكُ كما دسم الحميت

ولكنّا خلقنا إذ خـلـقـنـا  لنا الحبرات والمسك الفتيت 

وقد كان الخلعاء ينزلون على "الزبير بن عبد المطلب"، ومنهم "أبو الطمحان" القيني، وكان فاسقاً ومن الشعراء.

وكان "ابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هشام القرشي" الهاشمي، ابن عم الرسول وأخيه من الرضاعة من شعراء قريش المطبوعين. وكان ممن يؤذي النبي والمسلمين، يهجو رسول الله، وقد عارضه "حسان بن ثابت"، ثم أسلم. وكان إسلامه يوم الفتح قبل دخول رسول الله مكة. قال "ابن سلام": "ولأبي سفيان بن الحارث شعر، كان يقوله في الجاهلية فسقط، ولم يصل الينا منه إلا القليل، ولسنا نعد ما يروي ابن اسحاق له و لا لغيره شعلااً، ولأن لا يكون لهم شعر أحسن من أن يكون ذلك لهم. قال أبو سفيان: لعمرك إني يوم أحـمـل راية  لتغلبُ خيلُ اللاتِ خيل محمـد

أنا المدلجُ الحيران اظلم لـيلُـهُ  بعيد أرجى حين أهدي واهتدي

هداني هادٍ غيرُ نفسي وقادنـي  إلى الله من طردت كل مطّردِ

وروي له شعر قاله يوم تعرض المسلمون بقافلة "أبي سفيان"، ويوم أُحد وفي المناسبات الأخرى. وله شعر في يوم أُحد، وقد رد عليه حسان بن ثابت وبقية شعراء المسلمين حيث كانت بينهم وبين شعراء مكة مساجلات.

وكان نديماً لعمرو بن العاص السهمي، وكان الحارث بن حرب بن أمية نديماً للحارث بن عبد المطلب، وكان الحارث بن عبد المطلب من المؤلفة قلوبهم. ولما توفي الرسول رثاه "أبو سفيان بن الحارث" بقصيدة مطلعها: أرقـــت فـــبـــات لـــيلـــي لا يزول  ولـيل أخـي الـمـصـــيبة فـــيه طـــول

وأسـعـدنـي الـبــكـــاء وذاك فـــيمـــا  أصـيب الـمـسـلـمـون بـــه قـــلـــيل

لقـد عـظـمـت مـصـيبـتـنـا وجــلـــت  عشـية قـيل قـد قـبـــض الـــرســـول

واضـحـت أرضـنـا مـمـــا عـــراهـــا  تكـاد بـنـا جـوانـبـــهـــا تـــمـــيل

فقـدنـا الـوحـي والـتـنـــزيل فـــينـــا  يروح بـــه ويغـــدو جـــبــــــرئيل

وذاك أحق ما سالت عليه نفوس الناس أو كريت تسيل 

نبيّ كان يجلو الشك عنّا  بمـــا يوحـــي الـــيه ومـــا يقـــول

ويهـدينـا فـلا نـــخـــشـــى ضـــلالاً  علـينـا والــرســـول لـــنـــا دلـــيل

أفـاطـم إن جــزعـــت فـــذاك غـــدر  وان لـم تـجـزعــي ذاك الـــســـبـــيل

فقـير أبـــيك ســـيد كـــل قـــبـــر  وفـيه ســيد الـــنـــاس الـــرســـول

وقد وضعت أشعار على لسان "أبي سفيان" في هجاء "حسان بن ثابت". فقد هجا "قتادة بن موسى" الجمحي حسان بن ثابت بأبيات ونحلها "أبا سفيان". وقتادة من الشعراء المخضرمين.

وضرار بن الخطاب بن مرداس بن كثير بن عمرو بن سفيان بن محارب بن فهر القرشي الفهري من ظواهر قريش، وكان لا يكون بالبطحاء إلا قليلاً. وكان أبوه رئيس بني فهر في زمانه، وكان يأخذ المرباع لقومه. وقد قدّمه بعض رواة الشعر من قريش على "عبد الله بن الزبعري"، لأنه أقل منه سقطاً، وأحسن صنعةً. وكان من فرسان قريش يوم الخندق.

ولضرار شعر قاله في يوم "بدر"، وشعر في رثاء "ابي جهل". وأشعار أخرى في أُحد وفي الوقائع الأخرى تجدها في سيرة "ابن هشام".

وكان ضرار جمع من حُلفاء قريش ومن مُرّاق كنانة ناساً، فكان يأكل بهم ويَغير ويَسبي، و يأخذ المال، وكان خرج في الجاهلية في ركب من قريش فمروا ببلاد دَوس، وهم يطالبون قريشاً بدم "أبي أزيهر"، قتله "هشام ابن المغيرة"، فثاروا بهم وقتلوا فيهم، فقاتلهم ضرار ن ثم لجأ إلى امرأة منهم، يقال لها: "أم غيلان" مقينة تقين العرائس، فساعدته وساعده بنوها وبناتها، فسلم. ولقي ضرار يوم أُحد "عمر بن الخطاب"، فضربه بعارضة سيفه، و قال: انج يا ابن الخطاب، لأنه كان قد إلى أن لا يقتل يومئذ قرشياً، فلما ولي "عمر" الخلافة، وسمعت "أم غيلان" بذكر "ابن الخطاب" ظنته ضراراً، فقدمت المدينة، فتوسط لها "ضرار" عند الخليفة فأثابها.

وكان من مسلمة الفتح، ومن شعره في يوم الفتح، قوله: يا نبيّ الهـدى الـيك لـجـا  حي قريش و أنت خير لجاء

حين ضاقت عليهم سـعة الأر  ض وعاداهم إله الـسـمـاء

والتقت حلقتا البطان على القو  م وندوا بالصيلم الصلـعـاء

إن سعداً يريد قاصمة الظهـر  بأهل الحجون والبـطـحـاء

خزرجي لو يستطيع من الغي  ظ رمانا بالنسـر والـعـواء

وغر الصدر لا يهـم بـشـئ  غير سفك الدماء وسبي النساء 

قد تلظى على البطاح وجاءت  عنه هند بالسـوءة الـسـواء

إذ تنادى بـذل حـي قـريش  وابن حرب بدا من الشهـداء

فلئن أقحـم الـلـواء ونـادى  يا حماة اللواء أهل الـلـواء

ثم ثابت اليه من نهم الـخـز  رج و الأوس أنجم الهيجـاء

فانهـيه فـإنـه أسـد الأسـد  لدى الغاب والغ في الدمـاء

انه مطـرق يدير لـنـا الأم  ر سكوناً كالحية الصـمـاء

ومن الشعراء الذين هجوا الرسول والإسلام "هبيرة بن أبي وهب" المخزومي. من فرسان قريش وشعرائها، وكان مثل "ابن الزبعري" ممن يؤذون الإسلام، فهدر النبي دمه، فهرب إلى "نجران" حتى مات بها كافراً. وكانت عنده "أم هانئ" ابنة "أبي طالب" فأسلمت عام الفتح، فقال حين بلغ اسلامها قصيدة من بينها هذه الابيات: أشاقتك هند ام نـآك سـؤالـهـا  كذاك النوى أسبابها وانفتالـهـا

وقد أرقت في رأس حصن ممرد  بنجران يسري بعد نوم خيالهـا

وإن كنت قد تابعت دين محـمـدٍ  وعطفت الأرحام منك حبالـهـا

وهي قصيدة رويت في موارد متعددة مع شئ من الاختلاف.

واورد "ابن هشام" قصيدة ل "هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ" المخزومي، في معركة "أُحد". وذكر "ابن سلام" أن "هبيرة"، كان شاعراً من رجال قريش المعدودين، وكان شديد العداوة لله ولرسوله، فاخمله الله ودحقه، وهو الذي يقول يوم أُحد: قدنا كنانة من أكـتـاف ذي يمـن  عرض البلاد على ما كان يُزجيها  

قالت كنانة أنى تذهـبـون بـنـا  قُلنا النخيل فأموها ومـا فـيهـا

وله شعر كثير وحديث".

و "الحارث بن هشام بن المغيرة" المخزومي، أخو "ابي جهل" وابن عم "خالد بن الوليد"، كان من أشراف قومه، وقد مدحه "كعب بن الأشرف" اليهودي. وكان فيمن شهد بدراً مع المشركين، وفرّ حينئذ وقتل أخوه أبو جهل، فعير بفراره، فمما قيل فيه قول حسان بن ثابت: إن كنت كاذبة الذي حدثـتـنـي  فنجوت منجى الحارث بن هشام 

ترك الأحبة أن يقاتـل دونـهـم  ونجا برأس طمـرّة ولـجـام

فأجابه الحارث: الله يعلم ما تركت قتـالـهـم  حتى رموا فرسي بأشقر مزيد 

فعلمت أني إن أقاتل واحـداً  أقتل ولا يبكي عدوي مشهدي 

ففرت عنهم و الأحبة فـيهـم  طمعاً لهم بعقاب يومٍ مرصد

ويرى علماء الشعر ان هذه الأبيات أحسن ما قيل في الاعتذار من الفرار.

وكان الحارث يضرب به المثل في السؤدد حتى قال الشاعر: أظننت ان أباك حين تسـبّـنـي  في المجد كان الحارث بن هشام 

أولى قريش بالمكارم والـنـدى  في الجاهلـية كـان والاسـلام

وله أشعار في بدر وفي المناسبات الأخرى التي وقعت مع المسلمين، وله شعر في رثاء أخيه "أبي جهل". وذكر "ابن هشام" ان بعض أهل العلم بالشعر ينكر بعض هذا الشعر.

وقد شهد "أُحد" مشركاً حتى أسلم يوم فتح مكة. وكان من المؤلفة قلوبهم وشهد مع النبي حنيناً فأعطاه مائة من الإبل كما أعطى المؤلفة قلوبهم، وكان من المطعمين بمكة. وخرج إلى الشام في زمن "عمر"، فتبعه أهل مكة يبكون فراقه. وتوفي هناك بطاعون عمواس في رواية أخرى.

ومن شعراء قريش الذين أدركوا الإسلام وصاروا عليه، "ابن خطل"، "عبد الله بن خطل"، أو "آدم" القرشي الأدمي. وهو من ولد "تيم بن غالب". وكان ممن يهجو الرسول والاسلام، ويأمر قينتين له بأن تغنيا بهجاء الرسول. فأهدر النبي دمه ولو وجد تحت أستار الكعبة. وانما أمر بقتله لأنه كان مسلماً، ثم ارتد مشركاً، وكانت له قينتان: فرتني وأخرى معها، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله، فأمر بقتلهما معه. فقتله "أبو برزة" الأسلمي وهو متعلق بأستار الكعبة.

ومن شعراء قريش "أبو العاصي بن أمية الأكبر بن عبد شمس" كان يقال له "الأمين"، وكان من حكماء قريش. وينسب اليه قوله: أبلغ لديك بني أمـية  آية نصحاً مبـينـا

إنا خلقنا مصلحـين  وما خلقنا مفسدينـا

اني أعادي معشـراً  كانوا حصناً حصينا

خلقوا مع الجوزاء إذ  خلقوا ووالدهم أبونا

وكان "أبو عزة" واسمه "عمرو بن عبد الله بن عمير"، شاعراً، وكان مملقاً ذا عيال، فأسر يوم بدراً كافراً، فمن عليه الرسول على أن لا يهجو المسلمين، فعاهده و أطلقه. فلما كان يوم أُحد، أطعمه "صفوان بن أمية بن خلف الجمحي"، وكان محتاجاً، والمحتاج يطمع، فأخذ يحرض الناس على الإسلام، فقتل. وقيل إنه برص بعد ما أسن، وكانت قريش تكره الأبرص، وتخاف العدوى، فكانوا لا يؤاكلونه ولا يشاربونه ولا يجالسونه، فكبر ذلك عليه، فصعد جبل حراء، يريد قتل نفسه، فطعن بها في بطنه، فسال ماء أصفر، وذهب ما كان به، فقال في ذلك شعراً. وذكر "الزبيري" أنه أسر يوم "بدر" وكان ذا بنات ? فقال: "دعني لبناتي" فرحمه، و أخذ عليه ألا يكثر عليه بعدها، فلما جمعت قريش لرسول الله لتسير اليه، كلمه "صفوان بن أمية" وسأله أن يخرج إلى "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"، وهم حلفاء قريش، فيسألهم النصر، فأبى عليه، و قال "إن محمداً قَد منّ عليّ و أعطيته ألا اكثر عليه"، فلم يزل صفوان يكلمه حتى خرج إلى بني الحارث، يحرضهم على الخروج مع قريش والنصر لهم ن فقال في ذلك: أنتم بنو الحارث والناس إلهام  أنتم بنو عبد منـاة الـرّزام

أنتم حمـاة وأبـوكـم حـام  لا تعدوني نصركم بعد العام 

لا تسلموني لا يحل إسلام

فلما انصرفت قريش من أُحد، تبعهم رسول الله حتى بلغ "حمراء الأسد"، فأصاب بها "عمراً" ؛ فقال له: "يا محمد ! عفوك!" فقال له الرسول، "لا تمسح سبيلتك بمكة، تقول: خدعت محمداً مرتين!" "لا يلدغ مؤمن من حجر مرتين، و قتله صبراً".

ومن شعراء قريش "حرب بن أمية"، وهو من بني أمية، وكان رئيساً بعد المطلب، وهو والد "أبي سفيان بن حرب"، وقد زعم ان الجن قتلته، وأنشدوا في ذلك شعراً ذكروا ان الجن قالته، هو: وقبر حرب بمكان قـفـر  وليس قرب قبر حرب قبر 

وقد زعموا ان الجن خنقته. وقد نسبوا له هذه الابيات: أبا مَطرٍ هلُم إلـى صـلاحٍ  فتكفيك الندامى من قـريش

فتأمن وسطهم وتعيش فيهـم  أبا مطر هُديت لخير عـيش

وتنزل بلدة عـزت قـديمـاً  وتأمن أن يزورك ربُّ جيش 

قالوا انه قالها مخاطباً بها "أبا مطر" الحضرمي، يدعوه إلى حلفه و نزول مكة.

ومن شعراء قريش الذين أدركوا الإسلام: "أبو زمعة"، واسمه "الأسود ابن المطلب". له شعر رثا به من قُتل ببدر، ومنه: تُبكي أن يضل لها بـعـيرُ  ويمنعها من النوم السهـود

فل تبكي على بكرٍ و لكـن  على بدر تقاصرت الجدود

على بدرٍ سراة بني هصيص  ومخزومٍ و رهط أبي الوليد

وبَكِّي لإن بكيت على عقيلٍ  وبكى حارثاً أسـد الأسـود

وبكى إن بكيتهم جـمـيعـاً  وما لأبي حكيمة من نـديد

ألا قد ساد بعدهـم رجـالُ  ولولا يوم بدر لـم يسـودوا

الفصل الثالث والستون بعد المئة
شعراء يثرب

قال "ابن سلام": شعراؤها الفحول خمسة: ثلاثة من الخزرج واثنان من الأوس. فمن الخزرج، من بني النجار حسان بن ثابت، ومن بني سلمة، كعب بن مالك، ومن بلحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة، ومن الأوس: قيس بن الخطيم من بني ظفر، وأبو قيس بن الأسلت من بني عمرو بن عوف".

وهناك شعراء آخرون لكنهم لم يبلغوا مبلغ هؤلاء في الشعر، منهم: "احيحة بن الجلاح" و"سويد بن الصامت"، "أبو قيس مالك بن الحارث" وآخرون. ونسبوا لأبي آمنة جدّ النبي قوله: وإذا أتيت معاشراً في مجلسٍ  فاختر مجالسهم ولما تقعـد

ولكل أمر يستعـاد ضـراوة  فالصالحات من الأمور تعوَّدِ 

ويعد "مالك بن العجلان" الخزرجي في جملة شعراء يثرب، ذكر انه القائل للربيع بن أبي الحقيق اليهودي من أبيات: إني امرؤ من بني سـالـم  كريم وأنت امرؤ من يهود 

فأجابه الربيع من ابيات أولها: أتسفه قيلة أحلامـهـا  وحان بقيلة عثر الجدود 

وفيه يقول الشاعر "عمرو بن امرئ القيس" من بني الحارث بن الخزرج، من شعراء الجاهلية: يا مال والسـيد الـمـعـمـم قـد  يبطـره بـعـد رأيه الـسـرفُ

نحن بما عـنـدنـا وأنـت بـمـا  عندك عندك راضٍ والرأي مختلف 

وهو من مشاهير سادة "يثرب"، وله ذكر في نزاع أهل يثرب مع اليهود، وفي حرب "سمير" بين الأوس والخزرج. وهو قاتل"الفطيون".

وعمرو بن الإطنابة من شعراء "يثرب"، وهو من الخزرج، وهو شاعر فارسي قديم، خرجت الخزرج معه وخرجت الأوس وأحلافها مع "مُعاذ بن النعمان" في حرب كانت بين الأوس والخزرج. وذكر ان حسان بن ثابت جعله أشعر الناس، لقوله: إني من القوم الذين إذا انتدوا  بدأوا بحق الله ثـم الـنـائل

المانعين من الخنا جيرانهـم  والحاشدين على طعام النازل 

والخالطين فقيرهم بغنـيهـم  والباذلين عطائهم للـسـائل

لا يطبعون وهم على أحسابهم  يشفون بالأحلام داء الجاهل

القائلين ولا يعاب خطيبـهـم  يوم المقامة بالكلام الفاصل

ومن شعره: أبت لي عفتي وأبـى بـلائي  وأخذي الحمد بالثمن الربـيح

وإكراهي على المكروه نفسي  وضربي هامة البطل المشيح

ويقال ان معاوية قال: "لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين وهممت بالفرار، فما منعني من ذلك إلا قول ابن الإطنابة" الشعر المذكور.

ونسب "أبو الفرج" الاصبهاني إلى "أحيحة بن الجلاح بن الحريش "الجريش?" ابن جحجي بن كلفة" الأوسي قوله: لتبكيني قنية ومزمرها=ولتبكيني قهوة وشاربها ولتبكيني ناقة إذا رحلـت  وغاب في سربخ مناكبها 

وهي ابيات قبلها: يشتاق قلبي إلى مليكة لو=أمست قريباً لمن يطالبها ما أحسن الجيد من مليكة وال  لبّات إذ زانهـا تـرائبـهـا

وقد نسبها بعض آخر لعدي بن زيد العبادي، ونسبها بعض آخرلبعض الأنصار. و"أحيحة بن الجلاح"، من سادات الأوس. وكان سيدهم في زمانه. وكان شاعراً. وكانت عنده "سلمى بنت عمرو" من بني النجار، وأولاده منها اخوة "عبد المطلب" وهو من أصحاب المذهبات.

وقد ذكر "ابن الشجري"، أنه وجد في كتاب لغوي أن الشعر المذكور منسوب إلى "عدي بن زيد"، وقد تصفح نسختين من ديوان عدي فلم يجده فيهما، وإنما وجد له قصيدة على هذا الوزن وهذه القافية أولها:   

لم أرَ مـثـل الأقـوام فـي  غبن الأيام ينسون ما عواقبها 

وذكر "البغدادي" أن "الاصبهاني" اقتبسه في "الأغاني" لأحيحة.

وقد ذكر أهل الأخبار أن "أحيحة" كان في أيام التبع "أبو كرب بن حسان بن تبع بن أسعد" الحميري، وأن هذا التبع لما عاد من العراق يريد "يثرب" لقتل أهلها ابناً له بها، وهو مجمع على خرابها وقطع نخلها واستئصال أهلها وسبي الذرية، نزل بسفح "أُحد" فأحتفر بها بئراً، عرفت ب"بئر الملك"، ثم أرسل إلى أشرافها ليأتوه، فكان ممن أتاه "زيد بن ضبيعة"وابن عمه"زيد بن أمية بن عبيد"، وكانوا يسمون "الأزياد"، و "أحيحة بن الجلاح". فلما جاء رسول التبع، ذهب الأزياد اليه، وكان "أحيحة" له تابع من الجن، أخبره أنه يريد قتلهم جميعاً، ثم خرج من عنده ودخل قابل التبع تحدث معه عن أمواله و عن أموال المدينة، ثم خرج من عنده ودخل خباءه، وكان "تبع" قد أوكل حراساً به، فشرب و قرض أبياتاً مطلعها: يشتاق قلبي إلى ملـيكة  أمسى قريباً لمن يطالبها 

وأمر قينته أن تغنيه حتى استغفل الحرس، ففر منهم إلى أطمة "الضحيان"، و قيل "المستظل"، فجرد الملك كتيبة عليه، ثم حاصر المدينة، فلم يتمكن منها، إذ اعتصم أهلها من الأوس الخزرج واليهود بأطمهم، ثم أقنعه "حبران" من أحبار اليهود بكف الحصار عنها فرجع.

وكان "أحيحة" سيد الأوس في الجاهلية، وكان كثير المال شحيحاً عليه يبيع بيع الربا بالمدينة، حتى كاد يحيط بأموالهم، وكان له تسع وتسعةن بعيراً كلها ينطح عليها، وكان له أطمان، أطم في قومه يقال له "المستظل"، وأطم يقال له "الضحيان" بالعصبة في أرضه التي يقال لها الغابة، بناه بحجارة سود، ويزعمون انه لما بناه هو وغلام له أشرف، ثم قال: لقد بنيت حصناً حصيناً ما بنى مثله رجل من العرب أمنع منه، ولقد عرفت موضع حجر منه لو نزع وقع جميعاً. فقال غلامه: أنا أعرفه. قال: فأرنيه يا بني ? قال: هو ذا، وصرف اليه رأسه. فلما رأى أحيحة انه قد عرفه دفعه من رأس الأطم، فوقع على رأسه فمات. وهي قصة تشبه قصة "سنمار"، ولها شبه عند اليونان. ويذكرون انه لما بناه قال: بنيت بعد مستظل ضـاحـيا  بنيته بعصبة مـن مـالـيا

للستر مما يتبع القـواضـيا  أخشى ركيباً أو رجيلاً غاديا 

وينسب لأحيحة قوله: استغن أو مت ولا يغررك ذو نشب  من ابن عم و لا عـم و لاخـال

إني مقيم على الزوراء أعمرهـا  إن الحبيب إلى الإخوان ذو المال

وقوله: وما يدري الفقير متى غناه  ولا يدري الغني متى يعيل 

و"سويد بن صامت" أخو "عمرو بن عوف" من الأوس ومن "الكملة" ومن الأشراف أصحاب النسب، ومن الشعراء. وكانت له أشعار كثيرة. وهو الذي ذهب اليه النبي يوم قدم مكة حاجاً أو معتمراً ليدعوه إلى الإسلام، فلما كلمه النبي قال له "سويد" فلعل الذي معك مثل الذي معي ! فقال له رسول الله وما الذي معك ? قال: مجلة لقمان. فقال له رسول الله: اعرضها عليَّ ! فعرضها عليه، فقال: إن هذا لكلام حسن و الذي معي أفضل من هذا: قرآن أنزله الله تعالى عليّ، هو هدى و نور. فتلا عليه رسول الله القرآن ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه. وقال: إن هذا لقول حسن، ثم انصرف عنه. فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتله الخزرج. ويشك في إسلامه.

و "أبو قيس بن الأسلت، شاعر من الأوس. اختلف في اسمه، فقيل "صيفي" وقيل "الحرث" "الحارث"، وقيل "عبد الله"، وقيل "صرمة" و اختلف في اسلامه. ذكر انه كان يدعى "الحنيف" لتحنفه. ولم يكن أحد من الأوس والخزرج أوصف لدين الحنيفية ولا أكثر مسألة عنها منه. وكان يسأل من اليهود عن دينهم، فكان يقاربهم، ثم خرج إلى الشام فنزل على "آل جفنة" فأكرموه ووصلوه، وسأل الرهبان والأحبار، فدعوه إلى دينهم فامتنع، ثم خرج إلى مكة معتمراً، فبلغ "زيد بن عمرو بن نفيل" فكلمه، فكان يقول ليس أحد على دين إبراهيم إلا أنا وزيد بن عمرو بن نفيل. ولما قدم النبي إلى المدينة جاء اليه فقال: إلام تدعوا ? فذكر له شرائع الإسلام. فقال: ما أحسن هذا وأجمله ! فلقيه "عبد الله ابن أُبيّ بن سلول" فقال: لقد لذت من حزبنا كل ملاذ، تارة تخالف قريشاً، وتارة تتبع محمداً. فقال: لاجرم لأتبعنه إلى آخر الناس. وقد أختلف في اسلامه، والأغلب انه لم يسلم. وذكر انه كاد ان يسلم، لما اجتمع برسول الله، ولكن كلام "عبد الله بن أُبي" أثر عليه، فقال: والله لا أسلم سنة. ثم انصرف إلى منزله، حتى مات قبل الحول، و ذلك في ذي الحجة على رأس عشرة أشهر من الهجرة.

وفي سيرة "ابن هشام" قصيدة نسبت إلى "أبي قيس بن الأسلت" زعم أنه وجهها لقريش ينهى فيها عن الحرب ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض، ويذكر فضلهم وأحلامهم، ويأمرهم بالكف عن رسول الله، ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه عنهم الغيل وكيده عنهم. وأول القصيدة: يا راكباً اما عرضت فبـلـغـن  مغلغلة عنّي لؤي بن غـالـب

رسول امرئ قد راعه ذات بينكم  على النائي مخزون بذلك ناصب 

وهو من أصحاب المذهبات، ومطلع مذهبته: قالت ولم تقصد لقول الخنى  مهلاً فقد أبلغت أسماعـي

ونسب له قوله: ولو شا ربنا كـنّـا يهـوداً  وما دين اليهود بذي شكول

ولو شا ربنا كّنا نـصـارى  مع الرهبان في جبل الجليل 

ولكنا خلقنـا إذ خـلـقـنـا  حنيفاً ديننا عن كـل جـيل

نسوق الهدى ترسفُ مذعنات  تكشف عن مناكبها الجُلول

وكان "أبو القيس بن الإسلت" الأنصاري يهاجي حسان بن ثابت. وهو من الأوس، وحسان من الخزرج، فكانا يتهاجيان. و كان بين الحيين هجاء، فكان شعراء كل حي، يهاجمون شعراء الحي الثاني، عصبية، لما كان بينهما من تحاسد وتنافر.

والأسلت لقب "عامر بن جشم بن وائل بن يزيد" والد الشاعر المتقدم من الأوس، وهو شاعر من شعراء الجاهلية، وكانت الأوس قد أسندت أمرها يوم "بعاث" إلى "ابي قيس بن الأسلت"، فقام في حربهم وآثرها على كل أمر آخر، حتى أنهكته وشحب لونه. وقيل "الحارث"، وقيل "عبد الله"، وقيل "صرفة"، وقيل غير ذلك. واختلف في اسلامه. فمنهم من صيره مسلماً، وجعله في عداد الصحابة، ومنهم من جعله ومنهم من جعله متألهاً حنيفاً على دين ابراهيم، وكان يقول: ليس أحد على دين ابراهيم إلا أنا وزيد بن عمرو بن نفيل، ومنهم من زعم انه قال والله لا أسلم إلى سنة. فمات قبل الحول على رأس عشرة أشهر من الهجرة بشهرين، وذكر انه هرب إلى مكة فأقام بها مع قريش إلى عام الفتح. وللعصبية دور في هذه الروايات، ترد في رجال آخرين من أهل يثرب ومن أهل مكة، تقدم روايات منها رجالاً في الإسلام، وتؤخرهم أخرى، وتنفي عنهم بعضها الدخول في دين الله، لما لهذا التأخير أو التقديم، أو البقاء على الشرك من أهمية كبيرة بالنسبة لهم في ذلك الوقت.

وذكر أن "أبا قيس بن الأسلت" كان يعدل "بقيس بن الخطيم" في الشجاعة والشعر. وقيس بن الخطيم، شاعر فارس من الأوس. معدود من أصحاب "المذهبات". وتبدأ مذهبته بقوله: أتعرف رسماً كاطّراد المذاهب  لعمرة وحشاً غير موقف راكبِ 

وكان يلاحي الخزرج، قتل أبوه وهو صغير. قتله رجل من الخزرج، وعلم أن جده قتله رجل من "عبد القيس". فتعقب القاتِلَين، حتى ظفر بقاتل والده بيثرب، وظفر بقاتل جده بذي المجاز فقتله. أدرك الإسلام، ولكنه لم يسلم. ذكر انه قدم على النبي بمكة قبل الهجرة، فعرض النبي عليه الإسلام، فقال: إني لأعلم أن الذي تأمرني به خير مما تأمرني به نفسي، وفيها بقية من ذاك، فاذهب فاستمتع من النساء والخمر وتقدم بلدنا فأتبعك. فقتل قبل أن يتبعه. أصابه سهم وهو راكب أمام أطم لرجل من الخزرج.

وهو الذي يقول في حرب كانت بينهم وبين الخزرج: قد حصت البيضة رأسي فما  أطعم نوماً غير تهـجـاع

أسعى على جلّ بني مَلِـكٍ  كل امرءٍ في أمره ساعي

وذكر "المرزباني" ان قيس بن الخطيم، شاعر مجيد فحل، من الناس من يفضله على حسان شعراً. وقال حسان: إنا إذا نافرتنا العربُ فأردنا أن نخرج الحبرات من شعرنا أتينا بشعر قيس بن الخطيم. وله ديوان مطبوع. وهو الذي يقول في يوم بعاث: أتعرف رسماً كاطراد المذاهب  لعمرة قفر غير موقف راكب 

وله أشعار جيدة أخرى. أ وذكر انه كان مقيماً على شركه، وأسلمت امرأته، وكان يقال لها "حواء" وكان يصدها عن الإسلام، ويعبث بها. وكان رسول الله وهو بمكة قبل الهجرة يخبر عن امور الانصار، وعن حالهم فأخبر باسلامها، وقال له: احب أن لا تعرض لها، فكف عن اذاها، ويقال ان النبي دعاه إلى الإسلام وتلا عليه القرآن، فقال: اني لا أسمع كلاماً عجباً فدعني أنظر في أمري هذه السنة ثم أعود اليك فمات قبل الحول.

وذكر انه كان سيداً شاعراًن فلما هدأت حرب الانصار، تذاكرت الخزرج قيس بن الخطيم ونكايته، فتذامروا وتواعدوا قتله، فلما مر بأطم "بني حارثة" رمي بثلاثة أسهم، فصاح صيحة أسمعها رهطه، فجاءوه فحملوه إلى منزله، فلم يروا له كفراً إلا "أبا صعصعة بن زيد" النجاري، فأندس اليه رجل حتى اغتاله في منزله فضرب عنقه، وجاء برأسه، ووضعه أمام "قيس" وكان به رمق، فما لبث أن مات.

وله قصيدة، قالها حين ظفر بقاتل ابيه وقاتل جده فقتلهما من أبياتها: طعنت ابن عبد القيس طعنة ثـائر  لها نفذ لولا الشعـاع اضـاءهـا

ملكت بها كفي فانهرت فتقـهـا  يرى قائم من دونها ما وراءهـا

يهون علي أن ترد جـراحـهـا  عيون الأواسي إذ حمدت بلاءها

وكنت امرءاً لا اسمع الدهر سبة  أسب بها ألا كشفت غطـاءهـا

فأني في الحرب الضروس موكل  بإقدام نفس مـا أريد بـقـاءهـا

متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة  لنفسي إلا قد قضيت قضـائهـا

ثأرت عدياً والخطيم فلم اضع=ولاية أشياخ جعلت إزاءها وله غزل نابع من غزل أهل الحضر، تغزل فيه بعمرة بنت رواحة.

و"ابو قيس" "مالك بن الحارث"، وقيل "صرمة بن أبي أنس بن مالك" من بني النجار كذلك. كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الاوثان واغتسل من الجنابة، وهم بالنصرانية ثم امسك عنها، ودخل بيتاً فأتخذه مسجداً لا يدخل عليه طامث ولا جنب. وقال: أعبد رب أبراهيم فلما قدم الرسول يثرب أسلم فحسن اسلامه، وهو شيخ كبير. وكان قوالاً بالحق معظماً له. يقول في الجاهلية أشعاراً حساناً. وقد ذكر "ابن اسحاق" أشعاراً له، في الوصايان وفيها حث على مكارم الاخلاق والأمر بالمعروف وفي انصاف اليتيم وغير ذلك من شعر المواعظ.

ومن شعراء يثرب: "عمرو بن أمرئ القيس"، الذي سبق أن ذكرته، وهو جد " عبد الله بن رواحة" وهو شاعر خزرجي جاهلي. وله شعر في القتال الذي وقع بين الاوس والخزرج بسبب " سمير" الذي عدا على "بجير" مولى "مالك بن العجلان"، فحكم بدية المولى لمالك، فلما رفض الحكم هاجت الحرب. فلما طالت حكموا فيها "ثابت بن المنذر" والد حسان وبذلك انتهى النزاع.

وحسان بن ثابت من المخضرمين، من شعراء الخزرج، واسمه حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام. وهو شاعر رسول الله وشاعر الإسلام. وأمه "الفريعة" بنت " خالد بن حبيش بن لوذان". وهي من الخزرج أيضاً. أدركت الإسلام ايضاً فأسلمت، وقيل هي أخت "خالد" لا ابنته، ويكنى "أبا الوليد"، وأبا المضرب، وأبا الحسام، وأبا عبد الرحمن. "قال أبو عبيدة: فضل حسان ابن ثابت على الشعراء بثلاث: كان شاعر الانصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلى الله عليه وسلم في ايام النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام. وكان مع ذلك جباناً". ولم يشهد مع النبي مشهداً لأنه كان يجبن. وذكر انه كان لسناً شجاعاً لإاصابته علة احدثت فيه الجبن، فكان بعد ذلك لا يقدر على أن ينظر إلى قتال ولا يشهده. وروي عن "أبي عبيدة" قوله: اجتمعت العرب على أن أشعر اهل المدر يثرب، ثم عبد القيس، ثم ثقيف. وعلى ان أشعر أهل المدر حسان بن ثابت". و"قال الاصمعي: حسان بن ثابت أحد فحول الشعراء. فقال له ابو حاتم: تأتي له أشعار لينة. فقال الاصمعي: تنسب له اشياء لا تصح عنه".

وورد ان رسول الله قال: "ليس شعر حسان بن ثابت، ولا كعب بن مالك، ولا عبد الله بن رواحة شعراً، ولكنه حكمة. وذكر ان "الحارث المري" قال للنبي: "اني أعوذ بالله وبك من هذا، إن شعر هذا لو مزج بماء البحر لمزجه". وكان حسان قد رآه جالساً مع الرسول، فقال فيه شعراً مطلعه: يا حار من يغدر بذمة جاره  منكم فإن محمداً لا يغـدر

ويروى أنه كان إذ عالج شعراً، وعصى عليه، ثم احكمه وأعجبه، طرب به وربما صاح من الطرب ومن فرحة الانتهاء من الشعر. قال احدهم: "سمعت حسان بن ثابت في جوف الليل وهو ينوه بأسمائه ويقول: أنا حسان بن ثابت، أنا ابن الفريعة، أنا الحسام. فلما أصبحت غدوت عليه فقلت له: سمعتك البارحة تنوه بأسمائك، فما الذي اعجبك? قال: عالجت بيتاً من الشعر، فلما احكمته نوهت بأسمائي! فقلت وما البيت? قال: قلت: وإن امرءاً يمسي ويصبح سالماً  من الناس إلا ما جنى لسعـيد

وروي أيضاً أنه قام من جوف الليل فصاح "يا آل الخرزج، فجاءوه وقد فزعوا، فقالوا: مالك?قال: بيت قلته فخشيت أن أموت قبل أن اصبح فيذهب ضيعة خذوه عني، قالوا: وما قلت?قال: قلت: رب حلم أضاعه عدم الـم  ل وجهل غطى عليه النعيم 

وقد حمل "حسان" شعر كثير، بسبب تحامله على قريش، فأرادت قرثش النكاية به، فوضعت شعراً على لسانه ليحط من مكانته. قال "ابن سلام": "واشعرهم حسان بن ثابت، هو كثير الشعر جيده، وقد حمل عليه ما لم يحمل على أحد. لما تعاضهت قريش واستبت، وضعوا أشعاراً كثيرة لا تليق به".

وأكثر علماء الشعر ان شعر حسان في الجاهلية اقوى منه في الإسلام، قال "الاصمعي": "الشعر نكد يقوى في الشر ويسهل، فإذا دخل في الخير ضعف ولان. هذا حسان فحل من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره. وقال مرة اخرى: شعر حسان في الجاهلية من اجود الشعر. وقيل لحسان لان شعرك أو هرم في الإسلام يا أبا الحسام!فقال القائل: يا أبن اخي ان الإسلام يحجز عن الكذب، أو يمنع من الكذب، وان الشعر يزينه الكذب. يعني ان شأن التجويد في الشعر الافراط في الوصف والتزيين بغير الحق وذلك كله كذب".

وقال "الثعالبي": "من عجائب أمر حسان انه كان رضي الله عنه يقول الشعر في الجاهلية فيجيده جداً ويغير في نواصي الفحول ويدعى ان له شيطاناً يقول الشعر على لسانه كعادة الشعراء في ذلك. . فلما ادرك الإسلام وتبدل الشيطان أصلح للشاعر وأليق به أذهب في طريقه من الملك". وما قوة شعر "حسان" في الجاهلية، إلا بسبب قوة شبابه آنذاك ، واندفاعه على الشراب وسماع القيان، فلما كبر وشاخ، وذهبت قوة شبابه، وامتنع من الشرب بسبب تحريم الإسلام له، لم تبق له قريحة الشباب، واندفاع ذلك الوقت، فضعف شعره لذلك، وللن دخل في حيوية الإنسان وفي نتاجه العقلي، ومنه الشعر: ونسب إلى "الحطيئة" قوله: "أبلغوا الانصار أن شاعرهم أشعر العرب حيث يقول: يغشون حتى ما تهر كلابهم  لا يسألون عن السواد المقبل 

وقال عبد الملك بن مروان: أمدح بيت قالته العرب بيت حسان هذا". وكان حسان قد ادرك النابغة وانشده، وأنشد الأعشى، وكلاهما قال إنك شاعر. وله حديث مع النابغة.

وصف بأنه كان صاحب لسان طويل، "وكان يضرب بلسانه روثة أنفه، من طوله، ويقول، ما يسرني به مقول أحد من العرب، والله لو وضعته على شعر لحلقه، أو على صخر لفلقه". وكانت له ناصية يسدلها بين عينيه.

وكان ابوه "ثابت بن المنذر" من سادة قومه وأشرافهم، وكان "المنذر" الحاكم بين الاوس والخزرج في يوم "سميحة"، وكانوا حكموا في دمائهم يومئذ "مالك بن العجلان بن سالم بن عوف"، فتعدى في مولى له قتل يومئذ، وقال: لا آخذ دية الصريح، فأبوا أن يرضوا بحكمه، فحكموا "المنذر ابن حرام" فحكم بأن أهدر دماء قومه من الخزرج، واحتمل دماء الاوس.

وكان حسان في اول ايامه ينتقل في الارض طلباً للمال والعطايا والهبات، فكان يراجع ملوك الحيرة، ويعاود آل غسان. وكان هواه مع الغساسنة أقوى منه مع آل لخم، حتى انه كان يذكرهم بخير ويمدحهم بخير ويمدحهم وهو في الإسلام. وقد أكرموه كثيراً، وانعموا عليه اكثر مما انعم ملوك الحيرة عليه. والظاهر أن لبعد الشقة التي تفصل بين يثرب والحيرة، ولكثرة ما كان يفد من الشعراء على آل لخم، وفيهم من هو أشعر من حسان، واكثر منه مكانة في الشعر بين العرب، دخل في انصرافه إلى مدح آل غسان وذهابه في الاكثر اليهم طلباً للمال في مقابل مدحه لهم.

ويروى عن "حسان" ان السعالى نصحته بمدارسة الشعر، فقد روي عنه انه قال: "خرجت أريد عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني، فلما كنت في بعض الطريق وقفت على السعلاة صاحبة النابغة، و أخت المعلاة صاحبة "علقمة ابن عبدة"، فقالت وإني مقترحة عليك بيتاً، فإن أنت أجرته شفعت لك إلى أختي، وإن لم تجزه قتلتك. فقلت هات. فقالت: إذا ما ترعرع فينا الغلام  فما أن يقال له من هوه 

قال: فتبعتها من ساعتي، فقلت: فإن لم يسد قبـل شـد الإزار  فذلك فـينـا الـذي لاهـوه

ولي صاحب من بني الشيصبان  فحيناً أقـول وحـينـاً هـوه

فقالت: أولى لك، نجوت، فاسمع مفالتي واحفظها عليك بمدارسة الشعر، فإنه أشرف الآداب وأكرمها وأنورها، به يسخو الرجل، وبه يتظرف، وبه يجالس الملوك، وبه يخدم، وبتركه يتصنع. ثم قالت: لإنك إذا وردت على الملك وجدت عنده النابغة، وسأصرف عنك معرّته، وعلقمة بن عبدة، وسأكلم المعلاة حتى ترد عنك سورته. قال حسان فقدمت على عمرو بن الحارث فاعتاص على الوصول إليه فقلت للحاجب، بعد مدة: إن أذنت لي عليه، وإلا هجوت اليمن كلها. ثم انتقلت عنها. فأذن لي عليه، فلما وقفت بين يديه وجدت النابغة جالساً عن يمينه، وعلقمة جالساً عن يساره، فقال لي: يا ابن الفريعة، قد عرفت عيصك و نسبك في غسان، فارجع فإني باعث اليك بصلة سنيّة، ولا أحتاج إلى الشعر، فإني أخاف عليك هذين السبعين أن يفضحاك، وفضيحتك فضيحتي، وأنت اليوم لا تحسن أن تقول: رقاق النعال طيب حجزاتهـم  يحيّون بالريحان يوم السباسب 

الجواب: الا ما قدمتماني عليكما ? فقالا: قد فعلنا، هات، فأنشأت أقول و القلب وجل: أسألت رسم الدار أم لم تسأل  بين الجوابي فالبضيع فحوملِ 

حتى اتيت على آخرها. فلم يزل عمرو بن الحارث يزحل عن مجلسه سروراً حتى شاطر البيت، وهو يقول: هذه والله البتارة التي قد بترت المدائح، هذا وأبيك الشعر، لا ما تعلّلاني به منذ اليوم. يا غلام ألف دينار مرجوحة، فأعطيت ألف دينار، في كل دينار عشرة دنانير. ثم قال: لكَ عليّ مثلها في كل سنة، ثم أقبل على النابغة فقال: قم يا زياد بني ذبيان فهات الثناء المسجوع، فقام النابغى فقال:   

ألا أنعم صباحاً أيها الملك المبارك، السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك، ووالدي فداؤك، والعرب وقاؤك، والعجم حماؤك، والحكماء وزراؤك، والعلماء جلساؤك، والمقاول سمّارك، والعقل شعارك، والحلم دثارك، والصدق رداؤك، واليُمٌنُ حذاؤك، والبرُّ فراشك، وأشرف الآباء آباؤك، وأطهر الأمهات أمهاتك، وأفخر الشبان أبناؤك، وأعف النساء حلائلك، وأعلى البنيات بنياتك، وأكرم الأجداد أجدادك، وأفضل الأخوال أخوالك، وأنزه الحدائق حدائقك، وأعذب المياه مياهك، وحالف الإضريح عاتقك، ولاءمَر المسك مسكك، وجاورَ العنبر تراتبكَ، العسجد قواريرك، واللجين صحائفك، والشهد إدامك، والخرطوم شرابك، والأبكار مُستراحك، والعبير بنواسك، والخير بفنائك، والشر في ساحة أعدائك، والذهب عطاؤك، وألف دينار مرجوحة إيماؤك، وألف دينار مرهوجة ايتاؤك، والنصر منوط بلوائك، زين قولك فعلك، وطحطح عدوّك غضبك، وهزم مقانبهم مشهدك. وسار في الناس عدلك، وسكَّن تباريح البلاد ظفرك. أيفاخرك ابن المنذر اللخمي ? فو الله لقفاك خير من وجهه، ولشمالك خير من يمينه، ولصمتك خير من كلامه. ولأمك خير من أبيه، ولخدمك خير من علية قومه. فهب لي أسارى قومي، واسترهن بذلك شكري، فإنك من أشراف قحطان وأنا من سروات عدنان.

فرفع عمرو بن الحارث رأسه إلى جارية كانت على رأسه قائمة، فقال: مثل ابن الرفيعة فليمدح الملوك، ومثل ابن زياد فليثن على الملوك". وهكذا دبج أهل الأخبار هذا الثناء في كتبهم، وكان رواتهم قد سجلوه ساعة وقوعه على شريط مسجل.

وتعد قصيدة "حسان": أسالت رسم الدار أم لم تسأل  بين الجوابي فالبضيع فحومل 

من جيد شعره، وأشهر قصائده، فهي لينة الألفاظ أسهل فهماً من قصائد شعراء الصنف الأول، وفيها من المديح ما يليق بملوك أهل المدر، المتمتعين بأنواع الترف والرفاهية، ثم إن أطناب الشاعر في وصف الخمر يبعد عن أسلوب شعراء أهل البادية، كما يبعد عنه أيضاً الافتخار بقومه المقصور في بلاغة خطابهم ووفدهم على أبواب الملوك. وقد أبدع فيها في وصف معيشة ملوك غسان، وفي حياتهم الحضرية التي كانوا يحيونها، كما افتخر فيها بعشيرته الخزرج.

وخير شعر حسان هو ما قيل في مدح ملوك غسان. وكان هواه فيهم، وكانوا هم يغدقون عليه العطايا والأموال، ولا يؤخرونه من الدخول إلى مجالسهم، ويؤثرونه بالمودة، فخصص جيد شعره بهم. وقد مدح ملوك الحيرة أيضاً، غير أن مدحه لهم، هو دون مدحه لمنافسيهم الغساسنة، الذين كان يكثر التردد عليهم، على حين لم يكن يقصد المناذرة إلا لحاجة شديدة ولطلب. ولعل ذلك بسبب بعد الحيرة عن يثرب، وكثرة ذهاب الشعراء إلى ملوك الحيرة، واستدراج هؤلاء الملوك للشعر واغداقهم عليهم، للاستفادة منهم في نشر الدعاية لهم بين الأعراب.

ومن جيد شعره في ملوك الغساسنة قوله: أولاد جفنة حول قبر أبـيهـم  قبر ابن مارية الكريم المفضل 

يسقون مَنٌ ورد البريص عليهم  بَرَدَى يصفق بالرحيل السلسل

يغشون حتى ما تهر كلابـهـم  لا يسألون عن السواد المقبـل

وابن مارية هو الحارث الأعرج بن أبي شمر الغساني، وكان أثيراً عندهم، ولذلك يقول: قد أراني هناك حق مـكـين  عند ذي التاجِ مقعدي ومكاني 

و ذكر أنه دخل يوماً على "جبلة بن الأيهم" الغساني، فأذن له، فجلس بين يديه وعن يمينه رجل له ضفيرتان، وعن يساره رجل، وكان الأول هو النابغة، وكان الثاني، هو "علقمة بن عبدة". فاستنشدهم جبلة، فأنشد النابغة قوله: كليني لهم يا أميمة ناصـب  وليل أقاسيه بطيء الكواكب 

قال حسان فذهب نصفي. ثم قال لعلقمة أنشد، فأنشد: طحابك قلب في الحسان طروب  بعيد الشباب عصر حان مشيب

قال حسان، فذهب نصفي الآخر. ثم قال "جبلة" لحسان، أنت أعلم الآن إن شئت سكت، وإن شئت أنشدت، فأنشد: أبناء جفنة عند قبـر أبـيهـم  قبر ابن مارية الجواد المفضل 

يسقون من ورد البريص عليهم  كأساً تصفق بالرحيل السلسل

فأدناه منه، ثم أمر له بثلثمائة دينار وعشرة أقمصة لها جيب واحد، وقال: هذا لك عندنا في كل عام. وذكر "أبو عمرو الشيباني" هذه القصة لحسان مع "عمرو بن الحارث" الأعرج. ونجد الرواة يختلفون في مثل هذه القصص، بسبب ركونهم إلى رواة مختلفين، لم يدونوا الأخبار وانما سمعوها سماعاً، وأكثرها من المخترعات.

ويظهر انه تمكن من جمع ثروة مكنته من السكن في حصن حصين بيثرب عرف ب"فارع". وكان الرسول إذا خرج لغزوة أو معركة أودع أهله حصن حسان، لأنه كان حصناً حصيناً. وتذكر "صفية بنت عبد المطلب"، ان حسان كان في حصنه مع النساء والصبيان فمر يهودي به، وجعل يطيف حوله، فقالت "صفية" لحسان إن هذا اليهودي لا آمنه أن يدل على عوراتنا فانزل اليه فاقتله! فقال: يغفر الله لكِ يا بنت عبد المطلب، لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، فنزلت صفية وأخذت عموداً وقتلت اليهودي فقالت: يا حسان انزل فاسلبه! فقال ما لي بسلبه من حاجة يا أبنة عبد المطلب. وقد دفع بعض العلماء الجبن عن حسان، بحجة انه لو كان جباناً على نحو ما يقولون لما سكت عن تعييره به خصومه ممن كان يهاجيهم كضرار وابن الزبعري، وعللوا عدم نزوله من حصنه لقتل اليهودي بحجة انه ربما كان معتلاً في ذلك اليوم. وأنكر بعضهم أن يكون هذا الخبر صحيحاً. على كلٍ، صح هذا الخبر أم لم يصح فإنا لا نجد لحسان ذكراً في مغازي الرسول ولا في سراياه. بل نجد العلماء مجمعين على انه " لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهداً، لأنه كلن جباناً".

ولحسا شعر في رثاء "المطعم بن عدي" والد "جبير بن مطعم"، مات ولم يسلم. وكان "مطعم " أجار النبي حين قدم الطائف لما دعا ثقيفاً إلى الإسلام، وهو أحد الذين قاموا في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم وبني المطلب. وكان فيما قاله في رثاء "المطعم": فلو كان مجداً يخلدُ الدهـر واحـداً  من الناس أبقى مجده الدهر مطعما 

أجرت رسول الله منهم فأصبحـوا  عبيدك ما لبى مـهـلُ وأحـرمـا

ومن شعره: أهوى حديث الندمان في فلق الص  بح وصوت المـغـرّد الـغـرد

وذكر ان بعض أهل المدينة كان يقول: ما ذكرت بيت حسان هذا إلا عدت في الفتوة.

وذكر أن الناس كانوا يتمثلون ب"فشركما لخيركما الفداء"، وهو عجز بيت لحسان. هو: أتهجوه ولست له بـنـد  فشركما لخيركما الفداء 

وهو من قصيدة يقول بعض الرواة إن مطلعها: عفت ذات الأصابع فالجواء  إلى عذراء منزلها خـلاء

هجا فيها "أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب". "قال مصعب الزبيري: هذه القصيدة، قال حسان صدرها في الجاهلية وآخرها في الإسلام".

وينسب إلى "حسان" قوله: تعلمتم من منطق الشيخ يعرب  أبينا فصرتم معربين ذوي نفر 

وهو بيت تليه أبيات أخرى في الفخر بيعرب، ويفضله على العرب، لأنه هو صاحب العربية، ومنه تعلم العرب عربيتهم. وقد دونت هذه الأبيات في كتاب: تأريخ ملوك العرب الأولية للأصمعي. وقد دوّن هذا الكتاب أبياتاً من قصيدته الشهيرة في مدح الغساسنة. وأبياتاً في مدح "جبلة بن الأيهم" الذي فرّ إلى بلاد الروم، وواصل مع ذلك بره لحسان. وهو شعر أراه مصنوعاً، ولا يتفق مع مذهب "حسان" في النظم.

وقد ذكر "حسان" قصر دومة، أي دومة الجندل في شعره، إذ قال: أما ترى رأسي تغير لـونـه  شمطاً فأصبح كالثغام المحول 

فلقد يراني صاحباي كـأنـنـي  في قصر دومة أو سواء الهيكل 

وورد ان الرسول لما "قدم المدينة، فهجته قريش، وهجوا الأنصار معه، فأتى المسلمون كعب بن مالك "?" فقالوا: أجب عنا، فقال: استأذنوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ادعوه، فأتى حسان، فقال رسول الله صلى الله عله وسلم: اني أخاف أن تصيبني معهم تهجو من بني عمي، فقال حسان: لأسلنّك منهم سل الشعرة من العجين، ولي مقول ما أحب ان لي به مقول أحد من العرب، وانه ليفري ما لا تفريه الحربة. ثم أخرج لسانه فضرب به أنفه كأنه لسان حية بطرفه شامة سوداء، ثم ضرب به ذقنه، فأذن له رسول الله". وورد "ان النبي صلى الله عليه وسلم لمّا قدم المدينة، تناولته قريش بالهجاء، فقال لعبد الله بن رواحة: ردّ عني. فذهب في قديمهم وأولهم، ولم يصنع في الهجاء شيئاً. فأمر كعب بن مالك " "ولم يصنع في الهجاء شيئاً، فدعا حسان بن ثابت فقال: اهجهم، وائت أبا بكر يخبرك بمعاييب القوم. فأخرج حسان لسانه حتى ضرب به على صدره، وقال: والله يا رسول الله، ما أحب ان لي به مقولاً في العرب، فصب على قريش منه شآبيب شر. فقال رسول الله: اهجهم، كأنك تنضحهم بالنبل".

وروي أن الرسول لما هجاه "عبد الله بن الزبعري"، و "أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"، و"عمرو بن العاص"، و"ضرار بن الخطاب" قال: "ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم ? فقال حسان: أنا لها وأخذ بطرف لسانه، وقال: والله ما يسرني به مقول بين بصرى وصنعاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تهجوهم وأنا منهم ? وكيف تهجو أبا سفيان وهو ابن عمي ? فقال: والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، فقال له: ائت أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك. فكان يمضي إلى أبي بكر ليقفه على أنسابهم. وكان يقول: كف عن فلانة وفلانة و اذكر فلانة وفلانة، فجعل حسان يهجوهم. فلما سمعت قريش شعر حسان، قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة، أو متى شعر ابن أبي قحافة.

فمن شعر حسان في أبي سفيان بن الحرث: وإن سنام المجد فـي آل هـاشـم  بنو بنت مخزوم ووالدك العـبـد

ومن ولدت أبناء زهرة مـنـهـم  كرام ولم يقرب عجائزك المجـد

ولست كعبـاس ولا كـابـن امـه  ولكـن لـئيم لا يقـوم لـه زنـد

وان امرءاً كانـت سـمـية أمـه  وسمراء مغمور إذا بلغ الجـهـد

وأنت هجين نيط فـي آل هـاشـم  كما نيط خلف الراكب القدح الفرد 

فلما بلغ هذا الشعر أبا سفيان، قال: هذا كلام لم يغب عنه ابن أبي قحافة".

وذكر ان الرسول جعله شاعره الناطق باسمه إذا جاءته الوفود، وتبارى الشعراء امامه، قام هو للرد عليهم. فحين قدم وفد "بني تميم" بخطيبهم و شاعرهم، ونادوه من الحجرات ان اخرج الينا يا محمد، وخطب خطيبهم مفتخراً، ثم قام شاعرهم وهو "الزبرقان بن بدر"، فقال: نحن الملوك فلا حيّ يقاربنا  فينا العلاء وفينا تنصب البيع 

قال رسول الله لحسان: قم، فقام وقال: إن الذوائب من فهرٍ واخوتهم  قد بينوا سنة للناس تتـبـع

إلى آخر الأبيات. "فقال التميميون عند ذلكم: وربكم إن خطيب القوم أخطب من خطيبنا، وإن شاعرهم أشعر من شاعرنا"، ويعد شعره هذا من جيد شعره.

وقد روي أن النبي كان يضع لحسان المنبر في المسجد يقوم عليه قائماً يهجو اللذين كانوا يهجون النبي. وقد شك "كيتاني" وكذلك "بروكلمن" في صحة هذا الخبر. ولكن الروايات تؤكد أن الرسول كان يستدعيه أحياناً للرد على الشعراء الوفود، وأنه كان يجلس في المسجد ينشد الشعر، والرسول يسمعه. وأن "عمر" مرّ بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله، ثم قال: أرغاء كرغاء البكر ? فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فوالله إنك لتعلم لقد كنت أنشدُ في هذا المسجد من هو خير منك، فما يغير عليّ ذلك، فقال عمر: صدقت. أو أن "عمر" مرّ على "حسان"، وهو ينشد الشعر في المسجد، فقال أفي مسجد رسول الله تنشد الشعر ? فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك. أو ما أشبه ذلك. وروي أن "عمر"، نهى أن ينشد الناس شيئاً من مناقضة الانصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شتم الحي والميت وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام.

وذكر أن أول شعر قاله "حسان بن ثابت" في الإسلام، هو قوله: فانا ومن يهدي القصائد نحونـا  كمستبضع تمراً إلى أهل خيبر 

ولما أسرت "هذيل" بعض المسلمين وباعتهم من قريش، هجاهم "حسان" هجاءً مراً، وصفهم فيه باللؤم، واللؤم عند العرب من أقبح المعيبات، إذ قال فيهم: لو خُلق اللؤمُ انسانـاَ يكـلـمـهـم  لكان خير هُـذيل حـين يأتـيهـا

ترى من اللؤم رقماً بين أعـينـهـم  كما لوى أذرع العانـات كـاويهـا

تبكي القبور إذا ما مـات سـيدهـم  حتى يصيح بمن في الأرض داعيها 

مثل القنافذ تخزي أن تـفـاجـئهـا  شد النهار و يلقى الليل سـاريهـا

وهي أبيات شديدة الهجاء، موجعة، تفنن فيها الشاعر وأبدع في وصف من هجاهم باللؤم و بالأمور المخزية الأخرى.

ويشك بعض المستشرقين في صحة الشعر المنسوب إلى "حسان" الوارد في التفجع على مقتل "عثمان" وفي الحث على الأخذ بثأره. وذلك لأن هذا الشعر شعر ملتهب فيه قوة وحيوية ونفس الشباب، فيبعد أن يكون من شعر شيخ قد تقدمت به السن.

وروي "عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج وقد فرش حسان فناء أطمه، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سماطين وبينهم جارية لحسان يقال لها "شرين" ومعها مزهر تغنّيهم، وهي تقول في غنائها: هل عليّ ويحـكـم  إن لهوت من حرج 

فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: لا حرج".

و"شرين" لفضة فارسية بمعنى "حلو" و "جميل"، فيكون اسم الجارية من الأسماء الفارسية، معناه في العربية"حلوة" و "جميلة". ولا يستبعد أن تكون من أصل فارسي، وإن نص أهل الأخبار على أنها قبطية.

و"شرين"، هي "سيرين" جارية أعطاها رسول الله لحسان لذبّه بلسانه عنه في هجاء المشركين، وقيل لضربة "صفوان بن المعطل" له بالسيف.

وهي أخت "مارية" القبطية. وذكر أن الرسول أعطى حسان الموضع الذي بالمدينة، وهو قصر بني "جديلة".

وقد اختلف الناس في سنة وفاة "حسان" الذي كان قد عمي لما تقدمت به السن. فقيل: توفي قبل الأربعين، وقيل سنة أربعين، وقيل خمسين، وقيل أربع وخمسين من سني الهجرة، والجمهور على انه عاش نائة وعشرين سنة، ولكن منهم من ذهب إلى انه عاش دون المائة أو ما بين المائة والمائة والعشرين.

وقد قال "ابن سعد" انه عاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين، ومات وهو ابن عشرين ومائة. وذكر انه مات في أيام معاوية.

وقد كان حسان ممن مشى بين الناس بحديث الإفك، وهو ممن نزلت بحقه الآية )إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم، بل هو خير لكم. ولكل امرئ منهم ما اكتسبت من الإثم. والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم(، لأنه مشى بالإفك مع من مشى به. وهم "عبد الله بن أُبي" رأس المنافقين بالمدينة، ومسطح، وحمنة بنت جحش. وقال بعضهم إن الذي تولى كبره منهم "حسان بن ثابت". قيل لعائشة، وقد دخل عليها "حسان بن ثابت": "أليس الله يقول: والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم. فقالت: أليس قد أصابه عذاب عظيم. أليس قد ذهب بصره وكنع بالسيف!". وروي انه جلد مع "مسطح" بسبب الإفك.

واعتذر "حسان" من قوله في الإفك بقوله: فإن كنت قد قلتُ الذي قد زعمتم  فلا رفعت سوطي إلي أناملي

ثم يقول: فأن الذي قد قيل ليس بلائط  ولكنه قول امرئ بي ماحِل 

وقد أسرف "حسان" في افكه بحديث الإفك، حتى آلم النبي، ويظهر أنه لم يكن من آولئك الأشخاص الذين كانوا يتحرجون من الهجوم على أقرب الناس اليهم، في حالة تسرعه وتأثره، فهو شاعر، ومن عادة الشعراء عدم الاستقرار. وكان عليه أن يدافع عن "عائشة"، باعتباره شاعر نبيّه، لا أن يساهم مع من استغل الحادث لايلام الرسول من المنافقين والذين لم يكن الإيمان قد دخل قلوبهم، وان يمعن في الإفك وفي إيلام الرسول، وقد اعتذر بعد ذلك كما رأينا بعذر بارد، حاول أن يتنصل فيه عمّا قاله في الإفك، مع أنه كان صنواً لعبد الله ابن أُبي في ذلك الحديث.

ولما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى، قال حسان قصيدته: بطيبة رسم للرسول ومعهـد  منير وقد تعفو الرسوم وتهمد 

وقال قصيدة أخرى مطلعها:   

ما بال عينك لا تنـام كـأنـمـا  كحلت مآقيها بكـحـل الأرمـد

جزعت على المهدي أصبح ثاوياً  يا خير من وطئ الحصى لا تبعد 

وقال قصائد أخرى في رثائه.

وكان حسان من المتعصبين ليثرب على مكة، ونجد في شعره عصبية لليمن، وتفاخراً شديداً بالأزد، والأزد من اليمن، وبنو غسان من الأزد. وهي عصبية قديمة، تعود إلى ما قبل الإسلام. يظهر ان سببها اختلاف ما بين المدينتين في الطباع وفي الطبيعة والأحوال الاقتصادية والزعامة، وقد فرح ولا شك حين كلفه الرسول بالرد على شعراء قريش، وهو حاقد عليهم منذ أيام الجاهلية. وقد بقيت هذه العصبية كامنة في نفسه حتى في الإسلام، وكاد أن يؤجج نارها مراراً بين الانصار والمهاجرين، وقد نهاه عمر من التعرض لأمور الجاهلية وأيامها ومن إنشاد ما كان قد قيل من شعر في الجاهلية بين أهل يثرب وقريش، حذر الفتنة، وعودة العصبية الجاهلية الأولى. وكان "عمر" قد نهى أن ينشد الناس شيئاً من مناقضة الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شتم الحي والميت وتجديد الضغائن، وقد هدم ال أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام. ويظهر انه لم يكن مثالياً بدليل هذه النزوات التي صدرت منه وهو في الإسلام وكادت تثير فتن الجاهلية.

وكان حسان يهاجي"أمية بن خلف" الخزاعي. وكان خلف قد هجا حسان بقوله: أليسَ أبوك فينـا كـان قـينـاً  لدى القينات، فسلا في الحفاظ

يمـانـياً يظـل يشـدّ كــيراً  وينفخ دائباً لـهـب الـشـواظ

وكان قد قال: ألا من مبلغ حسان عني  مغلغلة تدب إلى عكاظ

فأجابه حسان: أتـانـي عـن أمـية قــول  وما هو في المغيب بذي حفاظ 

سأنشر إن بقيت لكم كـلامـاً  ينشر في المجنة مع عكـاظ

قوافي كالسلاح إذا استمـرت  من الصم المعجرفة الغـلاظ

تزورك إن شتوت بكـل أرض  وترضخ في محلك بالمقـاظ

بنيت عليك أبـياتـاً صـلابـاً  كأمر الوسق قعض بالشظاظ

مجللة تـعـمـمـه شـنـاراً  مضرمة تأجـج كـاشـواظ

كهمزة ضيغم يحمي عـرينـاً  شديد مغارز الأضلاع خاظي

تغض الطرف ان ألقاك دوني  وترمي حين أدبر باللـحـاظ

وقد هاجى"حسان بن ثابت" النجاشي، وأسمه "قيس بن عمرو" من رهط "الحارث بن كعب"، وكان قد هجا الأنصار فردّ عليه "حسان بن ثابت"، ثم أمر بأن يكتب رده غلمان الكتاب، ليوزع على الناس. وقد كان النجاشي قد هجا "عبد الرحمن بن حسان"، واشتد هجاؤه عليه فأعانه والده عليه. وكان مما قاله حسان في "الحارث بن كعب" رهط النجاشي قوله: لا بأس بالقوم من طولٍ ومن عرض  جسم البغال وأحلام العـصـافـير

ويلاحظ ان أهل الأخبار نسبوا إلى ابنه "عبد الرحمن"، والى حفيده "سعيد ابن عبد الرحمن" مثل هذا الذي نسبوه إلى "حسان". إذ ذكروا ان "عبد الرحمن" أوقد ناراً حتى اجتمع اليه الحي، ثم قال: قد قلت بيتاً، فخفت أن يسقط بحدث يحدث عليَّ فجمعتكم لتسمعوه، وان ابنه "سعيد" فعل فعله. ويلاحظ ان الأبيات التي ذكروها هي على وزن واحد وعلى قافية واحدة. وقد تكون من وضع الرواة.

وأم "عبد الرحمن بن حسان"، أخت مارية القبطية أم ابراهيم ابن الرسول. وكانت تسمى "سيرين" "شيرين" "شرين". وكان عبد الرحمن شاعراً كذلك. وذكر ان والده أشار اليه بقوله: فمن للقوافي بعد حسان وابنـه  ومن للمثاني بعد زيد ابن ثابت 

ونسب إلى حسان أو إلى ابنه عبد الرحمن قوله: قلت شعراً لم أقل مثله، وهو: وان امرءاً أمسى وأصبح سالماً  من الناس، إلا ما جنى، لسعيد

وكانت لحسان بنت شاعرة، أرق حسان ذات ليلة فعنّ له الشعر فقال: متاريك اذناب الامور إذا اعترت  أخذنا الفروع واجتثثنا أصولهـا

ثم أجبل فلم يجد شيئاً، فقالت له بنته: كأنك قد أجبلت يا أبه ?! قال: أجل، قالت، قهل لك أن أجيز عنك ? قال: وهل عندك ذلك ! قالت: نعم، قال: فافعلي، قالت: مقاويل بالمعروف خُرسُ عن الخنا  كرام يعاطون العشيرةَ سولههـا

فحمي حسان فقال:   

وقافية مثل السنان رزئتـهـا  تناولت من جوّ السماء نزولها 

فقالت: يراها الذي لا ينطق الشعر عنده  ويعجز عن أمثالها ان يقولهـا

فقال حسان: لا أقول بيت شعر وأنت حية، قالت: أو أومنك ?قال: وتفعلين ? قالت نعم، لا أقول بيت شعر مادمت حياً.

ولحسان ديوان شعر مطبوع. طبع جملة مرّات. وقد شرح أيضاً، وطبعت الشروح كذلك.

وكعب بم مالك من شعراء يثرب كذلك. ويكنى أبا عبد الله وقيل أبا عبد الرحمن، وهو ممن شهد العقبة، وكان أحد شعراء رسول الله الذين كانوا يردّون الأذى عنه، وكان مجوداً مطبوعاً قد غلب عليه في الجاهلية امر الشعر. وذكر انه كان أحد الثلاثة الأنصار الذين قال الله فيهم )وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض(، وهم كعب بن مالك الشاعر هذا، وهلال ابن أمية، ومرارة بن ربيعة تخلفوا عن غزوة "تبوك" فتاب الله عليهم وعذرهم، وكانوا كلهم من الأنصار.

وكعب بن مالك من أسرة أظهرت جملة شعراء، فمالك والد كعب كان شاعراً، وعمه قيس كان شاعراً كذلك. وكان أولاد كعب وأحفاده شعراء "مجيدون مقدمون في الشعر".

وقد ذكر "ابن سيرين" ان كعباً قال بيتين كانا سبب إسلام دوس وهما: قضينا من تهامة كل وتر  وخيبر ثم أغمدنا السيوفا

تخبرنا ولو نطقت لقالت  قواطعهن دوساً أو ثقيفا

فلما بلغ ذلك دوساً، قالوا: خذوا لأنفسكم لا ينزل بكم ما نزل بثقيف.

وقال "ابن سيرين" أيضاً: "كان شعراء المسلمين: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك. فكان كعب يخوفهم الحرب، وعبد الله يعيرهم بالكفر، وكان حسان يقبل على الأنساب"، وأما شعراء المشركين: فعمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبعري، وأبو سفيان بن الحارث، وضرار بن الخطاب.

ولكعب شعر في يوم أحد، فيه: فَجئنا إلى موج من البحر وسطه  أحابيش منهم حاسر ومقـنـع

ثلاثة آلاف ونـحـن نـصـية  ثلاث مئين إن كثرنا أو أربـع

فراحوا سِراعاً مُرجعين كأنهـم  جهامُ هَراقت ماءه الريح مقلع

ورُحنا وأخرانا بطاء كـأنـنـا  أسود على لحمٍ ببيشة ظـلـع

وله شعر في أيام الخندق، وفي يوم بدر وفي المعارك الاخرى.

ومن شعر كعب بن مالك قوله: زعمت سخينة ان ستغلب ربها  فليغلبن مغالـب الـغـالـب

وفي رواية: جاءت سخينة كي تغالب ربها  فليغلبن مغالـب الـغـلاب

وكانت العرب تعير قريشاً بها، لأنهم كانوا يكثرون من أكلها، ولذا كانت تعير به. والسخينة حساء يؤكل في الجدب. مازح "معاوية" الأحنف بن قيس فقال: ما الشئ الملفف في البجاد ? فقال: هو السخينة يا أمير المؤمنين. والملفف في البجاد وطب اللبن يلف به ليحمى ويدرك، وكانت تميم تعير به. فلما مازحه معوية بما يعاب به قومه، مازحه الأحنف بمثله. وروي أن رسول الله قال لكعب: أترى الله نسي قولك: زعمت سخينة أن ستغلب ربها  وليغلبنّ مغالـب الـغـلاب

وجاء في رواية يضعفها العلماء، ان "حسان بن ثابت" وكعب بن مالك ، والنعمان بن بشير، دخلوا على "علي" فناظروه في شأن "عثمان" وأنشده كعب شعراً في رثاء عثمان، ثم خرجوا من عنده، فتوجهوا إلى معاوية فأكرمهم. وروي أنه كان ممن رثى عثمان، ولم يرد في الأخبار أنه ساهم في حرب علي ومعوية. وذكر أنه فقد بصره في آخر عمره، وتوفي في زمان معاوية سنة خمسين، وقيل ثلاث وخمسين.

و"عبد الله بن رواحة" من الخزرج، وهو أبو محمد، ويقال أبو رواحة، ويقال أبو عمرو، وكان من شعراء يثرب المعروفين: وهو احد النقباءليلة العقبة وشهد بدراً، وكان ممن يكتب للنبي، وكان ممن يكتب في الجاهلية، وهو الذي جاء ببشارة وقعة بدر إلى المدينة نوبعثه رسول الله في ثلاثين راكباً إلى "أسير ابن رقرام" "يسير بن رزام" اليهودي بخيبر فقتله. وقد استشهد بمؤتة سنة سبع. وليس له عقب. وهو خال "النعمان بن بشير" الأنصاري. وكان عظيم القدر في قومه، يناقض قيس بن الخطيم.

وهو يختلف عن حسان في كونه محارباً، اشترك مع الرسول في معاركه، ومات قتيلاً محارباً.

وأكثر ما روي من شعره، هو من الشعر الذي قاله في الإسلام. ولا سيما في معركة "مؤتة". وروي أن الرسول قال له يوماً: قل شعراً تقتضيه الساعة وأنا أنظر اليك. فانبعث مكانه يقول: إني تفرست فيك الخـير أعـرفـه  والله يعلمان ما خانتني الـبـصـر

أنت النبي ومن يحرم شفـاعـتـه  يوم الحساب لقد أزرى به القـدر

فثبت الله ما آتـاك مـن حـسـن  تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا 

وفي رواية ابن هشام: إني تفرست فيك الخير فـافـلة  فراسة خالفت فيك الذي نظروا

أنت النبي ومن يحرم نـوافـلـه  والوجه منه، فقد أزرى به القدر 

وروي ان الرسول دعاه، فقال له: كيف تقول الشعر إذا قلت? قال أنظر في ذلك ثم أقول. قال: فعليك بالمشركين. فأنشده: فخبّروني أثمان العبـاء مـتـى  كنتم بطاريق أو دانت لكم مضر  

فظهرت الكراهة في وجه الرسول، ان جعل قومه أثمان العباء فقال: نجالد الناس عن عرض فنأسرهـم  فينا النبي وفينا تـنـزل الـسـور

وقد علمتم بأنـا لـيس يغـلـبـنـا  حي من الناس إن عزوا وإن كثروا 

يا هاشم الخير إن الله فضـلـكـم  على البرية فضلاً مـا لـه غـير

إني تفرست فيك الخير وأعرفه=فراسة خالفتهم في الذي نظروا ولو سألت أو استنصرت بعضـهـم  في جل أمرك ما آووا ولا نصروا

فثبت الله ما آتـاك مـن حـسـن  تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا 

فتبسم الرسول وسر به.

وروى "هشام بن عروة عن أبيه. قال: ما سمعت بأحد أجرأ ولا أسرع شعراً من عبد الله بن رواحة، يوم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل شعراً تقتضيه الساعة وانا انظر اليك، ثم ابده بصره، فأنبعث عبد الله بن رواحة يقول: إني تفرست فيك الخير أعرفه  والله يعلم ما إن خانني بصر

وروي أن الرسول قال "لعبد الله بن رواحة: ما الشعر ? قال: شئ يختلج في صدر الرجل، فيخرجه على لسانه شعراً". وقد ذكر "ابن سلام" البيت المذكور وما بعده في قصيدة مطلعها: فخبروني أثمان العباء مـتـى  كنتم بطارق أو دانت لكم مضر 

ذكره في ضمن القصيدة، ولم يجعله مطلعها.

ولما دخل رسول الله مكة في عمرة القضاء، وابن رواحة بين يديه وهو يقول: خلّوا بني الكفّار عن سبيله  اليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله  ويذهل الخليل عن خليلـه

قال عمر: يا ابن رواحة في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر ?فقال النبي: خل عنه يا عمر، فو الذي نفسي بيده لكلامه أشدّ عليهم من وقع النبل. وقد كانت عمرة القضاء سنة ست من الهجرة.

وقد روي هذا الرجز بزيادة واختلاف. وقد ذكر "ابن هشام"، بعد إيراده هذه الأبيات هذه الملاحظة: "نحن قتلناكم على تأويله إلى آخر الأبيات: لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم، والدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين، والمشركون لم يقروا بالتنزيل، وإنما يقتل على التأويل من أقر بالتنزيل".

وكان "النعمان بن عجلان" الزرقي لسان الأنصار و شاعرهم، وكان رجلا أحمر قصيراً تزدريه العين، وكان سيداً، وله شعر يفخر بقومه على قريش من جملته: فقل لقريش نحن أصحاب مكة  ويوم حنين والفوارس في بدر 

*** نصرنا وآوينا النبي ولـم نـخـف  صروف الليالي والعظيم من الأمر

وقلنا لقوم هاجروا مرحبـاً بـكـم  وأهلاً وسهلاً قد أمنتم من الفقـرِ

نقاسمـكـم أمـوالـنـا وديارنـا  كقسمة أيسار الجزور على الشطرِ 

ثم تعرض لموضوع الخلافة، وقصة انتخاب "سعد" لها، وتعيين قريش أبا بكر خليفة، ثم تعرض لحق علي فيها.

وكان "علي بن أبي طالب" استعمل "النعمان" هذا على البحرين، فجعل يعطي كل من جاء من "بني زريق"، فقال فيه "أبو الأسود" الدؤلي: أرى فتنة قد ألهت الناس عنكم  فندلا زريق المال ندل الثعالب 

فإن ابن عجلان الذي قد علمتم  يبدد مال الله فعل المنـاهـب

الفصل الرابع والستون بعد المائة
شعراء ثقيف

وثقيف من القبائل التي لم تنجب عدداً يذكر من الشعراء. وشاعرهم الوحيد الذي نال شهرة، وظهر أمره هو "أمية بن أبي الصلت" الثقفي. وقد علل "ابن سلام" قلة الشعر بالطائف بقوله: "وبالطائف شعراء، وليس بالكثير، وإنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء نحو الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم، والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عُمان وأهل الطائف". وقد عرفت ثقيف بفصاحة لسانها، وبمقدرتها في الكتابة، ولهذا ورد ذكرها في حادث تدوين القرآن.

ومن شعراء ثقيف "أبو الصلت بن أبي ربيعة"، وهو والد "أمية بن أبي الصلت"، وغيلان بن سلمة، وكنانة بن عبد ياليل، وأبو محجن الثقفي.

وكانت زوجة "أبي الصلت": "رُقية بنت عبد شمس بن عبد مناف"، فهي من قريش. وهي والدة "أمية".

ونسبت إلى "أبي الصلت" قصيدة زعم أنه مدح فيها أهل فارس حين قتلوا الحبشة، ومدح "سيف بن ذي يزن"، وهنأه فيها لتوليه الملك، وقد أشار فيها إلى قصة "سيف"، وكيف ذهب إلى "هرقل" يستنجده على الحبشة، فلم يجد عنده ما طلب، ثم كيف ذهب إلى "كسرى"، وبقي عند بابه تسع سنوات حتى أمده بالجنود وعلى رأسهم باذان ووهرز، إلى آخر القصة التي ترد في كتب الأخبار والتواريخ. وقد نسبها بعض الرواة إلى ابنه "أمية".

وأمية بن أبي الصلت من الشعراء الذين رغبوا عن عبادة الأوثان وآمنوا بالله وبالبعث، ووقف على كتب أهل الكتاب فتأثر بها، وكان يجالسهم ويختلط بهم. وكان أبوه شاعراً، روى رواة الشعر شيئاً من شعره، وكان ابنه "القاسم بن أمية بن أبي الصلت" شاعراً كذلك وله صحبة. وذكر ان العرب اتفقت على ان "أمية" كان أشعر ثقيف.

وذكر انه كان في الجاهلية نظر الكتب وقرأها ولبس المسوح وتعبد أولاً بذكر ابراهيم واسماعيل والحنيفية وحرّم الخمر وتجنب الأوثان. ولما ظهر الإسلام حسد النبي، فلم يسلم، لأنه كان طمع في النبوة، أو انه أراد أن يسلم، فلما سمع بقتلى بدر، توقف ورثى قتلى المشركين، وذهب إلى الطائف فمات بها. وقد اختلف في سنة وفاته، فقيل انه توفي سنة تسع من الهجرة، وقيل قبل ذلك. وورد في رواية انه مات في الجاهلية ولم يدرك الإسلام. وقد صدقه النبي في بعض شعره، وقال: قد كاد أمية أن يسلم. وقد كان يكنى ب"أبي عثمان" وب"أبي القاسم".

وورد في بعض الروايات ان في حقه نزلت الآية: )واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، فاتبعه الشيطان، فكان من الغاوين(. ويرجع سند القائلين بذلك إلى "عبد الله بن عمرو" والى "ابن الكلبي".

وروي أن النبي سأل "الرشيد بن سويد" أن ينشده من شعر أمية، فأنشده إياه، فقال: كاد ليسلم. وأن النبي أنشد قول أمية: رجل وثور تحت رجل يمينـه  والنسر للأخرى وليث مرصد 

فقال: صدق، وهذه صفة حنلة العرش. وذكر ان معظم شعر امية كان في الآخرة، كما كان معظم شعر عنترة بذكرالحرب.

وقد دوّن "ابن هشام" قصيدة "أمية" التي نظمها يرثي من أصيب من قريش يوم بدر، ومطلعها: ماذا بـبـدرٍ بـالـعـقـن  قل من مرازبة جحـاجـح

ألا بكيت عـلـى الـكـرا  م بني الكرام أولى المـدائح

كبكا الحمام عـلـى فـرو  ع الأيك في الغصن الجوانح 

وذكر ان النبي نهى عن روايتها لما ورد فيها من رثاء قتلى بدر، ولكني أشك في صحة صدور مثل هذا النهي من الرسول، إذ لو كان الرسول قد نهى عن إنشادها، فكيف دونها "ابن هشام" وغيره، ولا تزال مدوّنة، وقد قال "ابن هشام" أنه دوّن القصيدة إلا ببيتين نال فيهما من أصحاب الرسول.

ودوّن "ابن هشام" قصيدة أخرى لأمية يرثي ويبكي "زمعة بن الأسود" وقتلى "بني أسد" من أبيتها: عُينُ بكّي بالمُسبلات أبا العـا  صي ولا تذكري على زمعة

لبني مُسلمٍ لهم خرّت الـجـو  زاء لا خـاتـه ولا خـدعة

وهم الهامة الوسيطة من كعبٍ  ومن هًم كذروة الـقـمـعة

أنبتوا من معاشر شعر الـرأ  س وقد بلّغوهم الـمـنـعة

وهم المطعمون إن قحط القط  ر وأصحت فلا ترى قـزعة

أمسى بنو عمهم إذا جلس النا  دي عليهم أكبادهـم وجـعة

ومن شعره الذي قاله في التحريض على رسول الله قوله: للهِ دَرُّ بـنـي عـلـيٍّ  أيّم منـهـم ونـاكـح

إن لم يغـيروا غـارةً  شعواء تحجر كلَّ نابح

بزهاء ألـفٍ أو بـأل  ف بين ذي بدن ورامح 

وروي انه كان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ ال تعرفها العرب، يأخذها من الكتب المتقدمة، وبأحاديث من أحاديث أهل الكتاب. وكان يسمى السماء في شعره: "صاقورة" و "حاقورة"، و "بِرقع". ويقول في الله عز وجل: هو السليط فوق الأرض مقتدر 

ويقول: وأبدت الثغرورا، يؤيد الثغر.

وفي شعر "أمية" إشارة إلى قصة أصحاب الفيل، إذ قال: إن آيات ربّـنـا بـيّنـات  لا يماري بهنّ إلا الكفور

حبس الفيل بالمغمس حتى  ظل يمشي كأنه معقـور

كل دين يومَ القيامة عند الله  إلا دين الحـنـيفة زور

ونسبت إلى "أمية قصيدة طويلة عدتها تسعة وسبعون بيتاً، ذكر فيها شيئاً من قصص الأنبياء: داوود، وسليمان، ونوح، وموسى، وذكر قصة ابراهيم واسحاق، وزعم أنه هو الذبيح، وقد وردت في ديوانه الذي جمعه "محمد بن حبيب"، وفي أبياتها بيت هو ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال 

وقد وجد هذا البيت في قصيدة رواها "الأصمعي" لأبي قيس اليهودي، وقيل هي لابن صرمة الأنصاري مطلعها: سبحوا للمليك كل صبـاح  طلعت شمسه وكل هلال 

ووجد أيضاً في أبيات لحنيف بن عمير اليشكري، قالها لما قتل محكم بن الطفيل يوم اليمامة في أبيات هي: يا سعاد الفـؤاد بـنـت أثـال  طال ليلي بفتـنة الـرحـال

أنها يا سعاد من حدث الدهـر  عليكم كـفـتـنة الـدجـال

إنّ دين الرسول ديني وفي القو  م رجال على الهدى أمثالـي

أهلك القوم محكم بن طـفـيل  ورجال ليسوا لنـا بـرجـال

ربما يجزع النفوس من الأمر  له فرجة كحـل الـعـقـال

وقد تحدث "أمية" في قصيدته اللامية عن الخلق وعن كيفية تكّون الأرض وظهور الأنهار والعيون، ثم عن الموت والبعث والنشر، وهي قصيدة أرى انها منحولة، وهي لا يمكن أن تكون من شعر تلك الأيام، وقد نحل على لسان "أمية" وأظن ان ذلك في أيام الحجاج، الذي كان يتعصب له لكونه شاعر ثقيف، وهو منها.

ومما نسب إلى أمية هذا الشعر: والأرض معقلنا وكانت أمّنـا  فيها مقامتنا وفيهـا نـولـد

وبها تلاميذ على قذُفـاتـهـا  حبسوا قياماً فالفرائض ترعد 

وهذا الشعر: صاغ السماء فلم يخفض مواضعها  لم ينتقص علمه جهلُ ولا هـرم

لا كشّفت مرةٍ عـنّـا ولابـلـيت  فيها تلاميذ في أقفـائهـم دغـم

وهذا البيت، الذي هو من الشعر الأول: فمضى وأصعد واستبدّ إقامة  بأولى قوى فمبتل ومتلمـد

وروى اهل الأخبار قصصاً عنه، هو من نوع القصص الذي يروى وقوعه للأنبياء، مثل تكليم الجن له، ووقوع طير على صدره، وشقه له، لتنظيف قلبه، في قصة أخذت من خبر غسل قلب الرسول ولا شك. ثم حكاية شعوره بدنو أجله، ووفاته. وقد حاول وضاع هذا القصص تبجيل "امية" واعطائه قدسية خاصة وإظهاره بمظهر الصالحين حتى كاد الوحي ينزل عليه لولا ظهور الرسول. وقد حاول بعض أهل الأخبار تخفيف أثر ما روي عن معارضة "أمية" للإسلام، ومنهم من أماته قبل الإسلام، وبذلك خلصه من تهمة اشتراكه مع المشركين في محاربة الإسلام. وهي روايات يظهر أنها ظهرت في أيام الحجاج، وبتأثير منه.

وأكثر من نسب اليه من شعره محمول عليه، ونجد في كتاب "البدء والتأريخ" لمطهر بن طاهر المقدسي شعراً فيه عبارات وألفاظ قرآنية، لا شك أنها مصنوعة، وقد حملت عليه. وقد ذهب "كليمان هوار" أن شعره كان من مصادر القرآن، ومعنى هذا أنه شعر صحيح، قاله "أمية قبل الإسلام، فتعلمه الرسول منه، ونزل به الوحي. وقد عارضه "بروكلمن" وآخرون من طائفة المستشرقين، وهم يرون أن هذا الشعر قد صنع ونسب اليه في عهد مبكر، ربما كان في القرن الأول للهجرة. وقد أدخل فيه قصص أخذ من القرآن.

وتعدّ قصيدة "أمية" التي مطلعها:   

عرفتُ الدار قد أقوت سنينا  لزينب إذ تحل بها قطينـا

في المجمهرات.

ونسب لأبي الصلت بن ابي ربيعة الثقفي، والد أمية قوله: لن يطلب الوتر أمثالُ ابن ذي يزن  لجج في البحرِ للأعـداء أحـوالا

أتى هرقل وقد شالت نعـامـتـه  فلم يجد عنده القول الـذي قـالا

ثم انتحى نحو كسرى بعد تاسـعة  من السنين، لقد أبـعـدتَ إيغـالا

حتى أتى ببني الأحرار يحملـهـم  انك عمري لقد أسرعت قلـقـالا

من مثل كسرى وباذان الجنود لـه  ومثل وهرز يوم الجيش إذ صالا

لله درهم من عصـبة خـرجـوا  ما ان ترى لهم في الناس أمثـالا

غُلبا جحاجحة بيضـاً مـراجـحةً  أسداً تربب في الغيضات أشبـالا

يرمون عن عَتَلٍ كأنـهـا غـبـط  بزمخر يُعجل المرمى إعـجـالا

أرسلت أسداً على سود الكلاب فقد  أضحى شريدهم في الأرض فلاّلا 

فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقـاً  في رأس غمدان داراً منك محلالا 

ثم أطل المسك إذ شالت نعامتهـم  واسبل اليومَ من بُرديك إسـبـالا

تلك المكارم قعبـان مـن لـبـنٍ  شيبا بماءٍ فـعـادا بـعـد أبـولا

وهي قصيدة زعم انه قالها في "سيف بن ذي يزن"، وزعم انها لابنه "أمية بن أبي الصلت". وقد رواها "الطبري" في تأريخه، على هذه الصورة: ليطلب الوتر أمثالُ ابـن ذي يزن  رَيَّمَ في البحر للأعـداء أحـوالا

أتى هرقل وقد شالت نعـامـتـه  فلم يجد عنده بعض الـذي قـالا

ثم انتحى نحو كسرى بعد سابـعة  من السنين، لقد أبـعـدت إيغـالا

حتى أتى ببني الأحرار يحملـهـم  انك لعمري لقد أطولت قلـقـالا

من مثل كسرى شهنشاه الملوك له  أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا 

لله درهم من عصـبة خـرجـوا  ما إن ترى لهمُ في الناس أمثـالا

غُرُّ جحاجـحةُ بـيض مـرازبة  أسد تربب في الغيضات أشـبـالا

يرمون عن شدُفٍ كأنهـا غـبـط  في زمخر يُعجل المرمى إعجالا

أرسلت أسداً على سود الكلاب فقد  أضحى شريدهم في الأرض فلالا 

فاشرب هنيئاً عليك التاج متـكـئاً  في رأس غمدان داراً منك محلالا 

وأطّلِ بالمسك إذ شالت نعامتـهـم  واسبل اليومَ من برديك إسـبـالا

تلك المكارم لا قعبان مـن لـبـنٍ  شيبا بماء فعـادا بـعـد أبـوالا

وقد نسبها لوالد أمية.

وقد ذكر "ابن هشام"، ان "ابن اسحاق" نسب هذه القصيدة لأبي الصلت ابن أبي ربيعة، ويروي انها لامية. وقد رواها على هذا النحو: ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن  رَيَّمَ في البحر للأعداء أحوالا

يممَ قيصرَ لما حان رحلـتـه  فلم يجد عنده بعض الذي سالا

ثم انثنى نحو كسرى بعد عاشـرة  من السنين يهين النفس والـمـالا

حتى أتى ببني الأحرار يحملـهـم  انك عمري لقد أسرعت قلـقـالا

لله درهم من عصـبة خـرجـوا  ما إن ترى لهمُ في الناس أمثـالا

بيضاً مرازبة غـلـبـاً أسـاورة  أسداً تربب في الغيضات أشبـالا

يرمون عن شدف كأنهـا غـبـط  بزمجر يُعجل المرمى إعـجـالا

أرسلت أسداً على سود الكلاب فقد  أضحى شريدهم في الأرض فلالا 

فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقـاً  في رأس غمدان داراً منك محلالا 

وأشرب هنيئاً فقد شالت نعامتهـم  واسبل اليوم في برديك إسـبـالا

تلك المكارم لا قعبان مـن لـبـنٍ  شيبا بماء فعـادا بـعـد أبـوالا

وقد ذكر "ابن هشام" ان "هذا ما صح له مما روى ابن اسحاق منها، إلا آخرها بيتاً: تلك المكارم لا قعبان من لبن. فأنه للنابغة الجعدي".

وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن صنعة الوضع جيداً، ولا له إلمام بأمور التأريخ، فالقصيدة التي مطلعها: لك الحمد والمنّ رب العبا  د أنت المليك وأنت الحكم 

هي قصيدة إسلامية، لا يمكن أبداً أن تكون من نظم شاعر لم يؤمن بالإسلام إيماناً عميقاً من كل قلبه ولسانه. خذ هذا البيت منها مثلاً: محمداً أرسله بالهـدى  فعاش غنياً ولم يهتضم 

ثم خذ الأبيات التالية له وفيها: عطاء من اللـه أعـطـيتـه  وخص به الله أهل الـحـرم

وقد علمـوا أنـه خـيرهـم  وفي بيتهم ذي الندى والكرم

يعيبون ما قـال لـمـا دعـا  وقد فرج الله إحدى البُـهَـم

به وهو يدعو بصدق الحـدي  ث إلى الله من قبل زيغ القدم 

أطيعوا الرسول عـبـاد الإل  ه تنجون من شـرّ يوم ألـم

تنجون من ظلمات الـعـذاب  ومن حرّنارٍ على من ظلـم

دعاني النـبـي بـه خـاتـم  فمن لم يجبه أسـرّ الـنـدم

نبيُّ هـدى صـادق طـيب  رحيم رؤوف بوصل الرحـم

به ختم اللـه مـن قـلـبـه  ومن بعده من نبـيّ خـتـم

يموت كما مات من قد قضى  يردّ إلى بـاري الـنـسـم

مع الأنبياء في جنان الخلـودِ  هم اهلها غير حل القـسـم

وقدس فينا بحـب الـصـلاة  جميعاً وعلّم خـط الـقـلـم

كتاباً من الـلـه نـقـرأ بـه  فمن يعتريه فـقـدمـاً أنـم

اقرأ هذه المنظومة، ثم أحكم على صاحبها، هل تستطيع أن تقول انه كان شاعراً مغاضباً للرسول، وانه مات كافراً، وان صاحبها رثى كفّار قريش في معركة بدر، وانه قال ما قال في الإسلام وفي رسول الله ? اللهم، لا يمكن ان يقال ذلك أبداً، فصاحب هذا النظم رجل مؤمن عميق الأيمان، هو واعظ ومبشر يخاطب قومه فيدعوهم إلى الإسلام والى طاعة الله والرسول. انه مؤمن قلباً ولساناً، مع انهم يذكرون ان الرسول قال فيه: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه، ولم يقصد الرسول ايمان أمية بالله وبرسوله، وانا ايمان لسانه وشعره بالله، و كفره برسوله، إذ لم يؤمن به، فمات على كفره وعناده وبغضه للرسول.

ثم ان صاحب المنظومة رجل يتحدث عن وفاة الرسول، ويريد تثبيت الناس على الايمان بعد ان انتقل إلى الرفيق الأعلى، فظهر من تزلزل ايمانه بسبب وفاته، مع ان أمية، كان قد توفي في السنة التاسعة من الهجرة، أي قبل وفاة الرسول، فهل يعقل أن يكون اذن هو صاحبها وناظمها ? أليست هذه المنظومة وأمثالها اذن دليلاً على وجود أيد لصناع الشعر ومنتجيه في شعر امية. نحمد الله على ان صنّاعها لم يتقنوا صنعتها، ففضحوا أنفسهم بها، ودلّوا على مقاتل النظم.

وروي ان بعض الرواة نسبوا إلى أمية بيتاً في قصيدة هو: الحمد لله لا شريك لـهُ  من لم يقلها فنفسه ظلما 

وفي القصيدة ضروب من التوحيد والإقرار بالبعث والجزاء والجنة والنار غير أن العارفين بالشعر ينكرون أن تكون أن تكون لأمية، وإنما نسبوها إلى النابغة الجعدي، وذكروا أن هذا البيت هو من شعر النابغة الذي كان يتأله في الجاهلية وأنكر الخمر وهجر الأزلام واجتنب الأوثان، وذكر دين ابراهيم.

ثم خذ قصيدة أخرى من القصائد المنسوبة لأمية، وهي في وصف الجنة والنار استهلت بهذا البيت: جهنم لا تبقـي بـغـيّاً  وعدنُ لا يطالعها رجيمُ 

ثم استمر في قراءتها، وفي ما جاء فيها من وصف للجنة والنار، ثم النظر في عبارات هذه الأبيات: فذا عسل وذا لبـن وخـمـرُ  وقمح في منابـتـه صـريمُ

ونخل ساقط الأكتـاف عـد  خلال اصولِهِ رطَب قمـيمُ

وتـفـاحُ ورمّـان ومـوزُ  وماء بـارد عـذبُ سـلـيم

وفيها لحم ساهـرة وبـحـر  وما فاهوا به لُهُـم مـقـيم

وحُورُ لا يرين الشمس فيهـا  على صُور الدُّمى فيها سُهوم 

نواعمُ في الأرائك قاصـرات  فهنّ عقـائل وهَـم قـروم

على سرر تُرى متقابـلات  ألا، ثم النظارةُ والـنـعـيم

عليهم سنـدسُ وجـيادُ ريطٍ  وديباج يرى فيهـا قـتـوم

وحُلّوا من أساور من لُجـينٍ  ومن ذهب، وعسجد كـريم

ولا لغوُ ولا تـأثـيم فـيهـا  ولا غولُ ولا فيها مُـلـيم

وكأس لا تصدع شاربـيهـا  يلذ بحسن رؤيتها الـنـديم

تصفَّق في صحاف من لجينٍ  ومن ذهب مبـاركة رذوم

ثم أحكم بعد ذلك على صاحب هذه الأبيات. لقد حاول ناظمها إدخال بعض الكلمات الجاهلية فيها، لإلباسها ثوباً جاهلياً، ولإظهارها بمظهر الشعر الجاهلي الأصيل، ولكنه لم يتمكن من ذلك، بل صيرها في الواقع نظماً لوصف الجنة والنار في الإسلام. وما بي حاجة إلى أن أحيلك على الآيات التي أخذ منها صاحب هذا الشعر وصفه من القرآن.

ومن الغريب ان بعض الباحثين اتخذ هذا النظم وأمثاله حجة لتبيان عقائد الجاهليين، فذكر مثلاً ان العرب في جاهليتها كانت تؤمن بالجزاء، وأن منهم من نظر في الكتب وكان مُقراً بالجنة والنار. وحجته في ذلك هذه المنظومة المنسوبة إلى أمية، مع انها من الشعر المزيف المصنوع! ثم خذ قصيدته في "عيسى بن مريم" وحمل أمه به، وسائر قصائده الأخرى، تجد عليها هذه المسحة الاسلامية بارزة ظاهرة، ومن الممكن إدراك هذا المصنوع المزيف بدراسة ألفاظه وأسلوبه وأفكاره، وبهذه الطريقة نتمكن من استخلاص الأصيل من شعره من الهجين.

ولأمية شعر في الموت، حيث يقول: من لـم يمـت هـرمـــاً  وللموت كأسُ، والمرء ذائقها 

ويروى له قوله في الله: واشهد أن الله لا شيء فوقه  عَلياً وأمسى ذكره متعاليا

وزعم أن أمية، قال عند موته: إن تغفر اللهم تغفر جمّا  وأي عبد لك لا ألمّـا

الشعر للنبي، وإنما المحرم انشاؤه. وقد زعم أن البيت لأبي خراش الهذلي، وذكر أنه لا يعرف قائله ولا بقيته، وقد أخذه أبو خراش وضمّه إلى بيت آخر، وكان يقولهما، وهو يسعى بين الصفا والمروة.

ومن شعر أمية قوله: زعم ابن جدعان بن عمرو أنني يوماً مُدابر 

ومسافرُ سفراً بعيداً، لا يؤوب له مسافر 

ومن ولد "أمية بن أبي الصلت": عمرو، وربيعة، ووهب، والقاسم. وكان ربيعة والقاسم شاعرين. وذكر انه نظم شعراً رد به على أبيه في انتسابه، منها: وإنا معشر من جذم قيس  فنسبتنا ونسبتهم سـواء

وهو القائل: وإن يك حيّا من إياد فـإنـنـا  وقيساً سواء ما بقينا وما بقـوا

ونحن خيار الناس طراً بطـانة  لقيس، وهم خير لنا إن هم بقوا 

ولا نعرف من أمر "القاسم بن أمية بن أبي الصلت" شيئاً يذكر. وقد أورد له "المرزباني" شعراً في مدح "بني دهمان". وذكر انه رثى "عثمان بن عفان" في قصيدة منها: لعمري لبئس الذبح ضحيتم بـه  خلاف رسول الله يوم الأضاحي 

فطيبوا نفوساً بالقصاص فـإنـه  سيسعى به الرحمن سعي نجاح

وأورد له "ابن قتيبة" أربعة أبيات مطلعها: قومُ إذا نزل الغريب بدارهم  تركوه ربّ صواهل وقيان

ورويت له مرثية في عثمان بن عفان منها: لعمري لبئس الذبح ضحيتم بـه  خلاف رسول الله يوم الأضاحي 

فطيبوا نفوساً بالقصاص فـإنـه  سيسعى به الرحمن سعي نجاح

وله موعظة في أسلوب يشبه أسلوب أعشى بني ربيعة، نشرها "كاير" في ديوان الأعشى. ومن شعراء ثقيف "عوف بن عامر بن حسان بن مالك بن حطائط بن جشم ابن ثقيف" الكاهن، وكان جاهلياً كاهناً شاعراً، و"كنانة بن عبد ياليل ابن سالم بن مالك بن حطائط بن جشم بن ثقيف"، وكان يمدح النعمان بن المنذر. و"كنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عُمير بن عوف بن عقدة بن غِيَرة بن عوف بن ثقيف"، وهو شاعر ذكره "ابن سلام".

ومسعود بن معتب بن مالك الثقفي من شعراء ثقيف، وهو جاهلي. وابنه عروة بن مسعود، الذي دعا قومه إلى السلام، فقتلوه. وكان"مسعود" غنياً، وكان يخشى عليها من أن تباع إلى قريش بعد وفاته، وكانت قريش تشتري الأرض والأموال بالطائف، فخشي أن يبيع ورثته ملكه لقريش.

و"أبو محجن الثقفي" واسمه مالك، وقيل عبد الله بن حُبيب بن عمرو بن عمير بن عوف، وقيل اسمه كنيته، هو من الشعراء المطبوعين، وكان كريماً منهمكاً في الشراب لا يكاد يقلع عنه، أسلم مع ثقيف. جلده "عمر" مّرات ثم نفاه إلى جزيرة، وبعث معه رجلاً فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص، يوم القادسية فكتب عمر إلى "سعد" أن سيحبسه فحبسه. فأرسل إلى امرأة سعد من يقول لها: اطلقيني ولك عليّ ان سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجليّ في القيد، وان قتلت استرحتم مني. فأطلقته، فوثب على فرسٍ لسعد، ثم أخذ رمحاً ثم خرج يهاجم الفرس، فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، وجعل الناس يقولون هذا مَلَك، لما يرونه يصنع، فلما هزم الفرس، رجع فوضع رجله في القيد، وترك الخمر قائلاً: قد كنت أشربها إذ يقام عليّ الحد وأطهر منها فأما الآن فلا والله لا أشربها أبداً.

ومن شعره: إذا مت فادفني إلى جنب كـرمةٍ  تروي عظامي بعد موتي عروقها 

و لا تدفنني في الفلاة فـإنـنـي  أخاف إذا ما مت أن لا أذوقهـا

أباكرها عند الـشـروق وتـارة  يعالجني عند المساء غبـوقـهـا

وللكأس والصهباء حق معـظـم  فمن حقها أن لا تضاع حقوقهـا

وحدّث من رأى قبر "أبي محجن" أنه نبتت عليه ثلاثة أصول كرم وقد طالت وأثمرت وهي معرشة على قبره. ولكنهم عندما تحدثوا عن موضع قبره، اختلفوا فيه، فقال بعض منهم إنه في نواحي أذربيجان، وقال قوم بجرجان. ويظهر أنهم اختلقوا قصة ظهور الكرم على قبره من الشعر المتقدم.

وذكر بعض الرواة ان "أبا محجن" هوى امرأة من الأنصار، يقال لها "شموس" فحاول النظر اليها، فلم يقدر، فآجر نفسه من بنّاء يبني بيتاً بجانب منزلها فأشرف عليها من كوة فأنشد: ولقد نظرت إلى الشموس ودونها  حرج من الحمن غير قـلـيل

فاستدعى زوجها عمر فنفاه، وبعث معه رجلاً يقال له أبو جهراء، فلما رأى "أبو جهراء" من أبي محجن سيفاً هرب منه إلى عمر، فكتب "عمر" إلى "سعد" يأمره بسجنه فسجنه.

وذكر "بروكلمن" ان "أبا محجن" لم يزل يشرب الخمر حتى نفاه "عمر" إلى "باصع"، وهي مدينة "مصوع" على ساحل الحبشة. وتوفي بها بعد مدة وجيزة. وهو خبر غريب، يخالفه كل من تعرض لأمر هذا الشاعر. فقد ذكروا جميعاً انه ترك الخمر منذ يوم "القادسية" ولم يعد اليها، ولم يذكر أحد انه عاد اليها، حتى نفترض انه عاد بعد ذلك إلى المدينة وعاد اليها فنفاه، وقصة نفيه إلى جزيرة في البحر، ترد قبل ذهابه إلى العراق، بعد أن فرّ منه حارسه، وكان قد أحس انه يريد قتله، فأمر "عمر" سعداً عندئذ بحبسه فحبس، ثم خرج فقاتل، فلما انتصر المسلمون، رجع إلى محبسه، ففك "سعد" قيوده وأطلقه.

وقد جمع شعر "أبي محجن" في ديوان، طبع، كما نجد له قطعاً من أشعاره في مختلف كتب الأدب ومن تعرض لسيرته من رجال الأخبار.

وكان "غيلان بن سلمة" من الأشراف، ذكر "الجمحي"، انه كان قسم ماله بين ولده وطلق نساءه، فنهاه "عمر" عن ذلك، ففعل بما أمر به.

الفصل الخامس والستون بعد المئة
الشعراء اليهود

لا نعرف نصاً جاهلياً جاء فيه خبر عن شعر يهودي، أو عن شاعر يهودي، عاش في بلاد العرب. وكل ما ورد النا عن شعر يهود، مستقى من الموارد الإسلامية حسب. كذلك لا نعرف مصدراً عبرانياً أو غير عبراني، تعرض لأمر شعر اليهود في جزيرة العرب. ولهذا فحديثي عن شعر يهود في أيام الجاهلية مستمد من الموارد الإسلامية وحدها.

ومن لم يلق على أشعار اليهود لا يجد فيها أي أثر لليهودية، ولا أية مصطلحات تشعر أن صاحبها يهودي. فلا نجد فيها شيئاً من قصص التوراة أو التلمود أو المشنا أو "الكمارة" أو أي شئ له صلة بعقيدة يهودية. مع اننا قد وجدنا شيئاً من قصص العهد القديم في شعر "أمية بن أبي الصلت"، وهو أمور الدين، والنظر في أحكام الشريعة، وفي التفكير في خلق السماوات والأرض والإنسان وفي الموت والفناء، أو أنهم كانوا في جهل بها، وكان أمرها عندهم إلى رجال دينهم، هم يبحثون فيها، ولهذا لم يحملوا أنفسهم مشقة التعرض لها والبحث فيها، أو أنهم كانوا قد تطرقوا فعلاً إلى هذه الأمور، وجاؤوا في شعرهم بأشياء مما يختص بدينهم ويميزهم عن غيرهم، وتطرقوا إلى عاداتهم وأشادوا بذكر أنبيائهم، غير أن الرواة المسلمين لم يحفلوا بشعرهم لأنه شعر يهودي، فضاع، كما ضاع شعر الوثنيين إذ لم يرو منه القليل.

وقد ذهب "ولفنسون" إلى ان السبب في قلة ما وصل النا من شعر اليهود في الجاهلية ومن أسماء شعرائهم، انما يرجع إلى ضعف إقبال اليهود على اعتناق الإسلام. والذي حافظ على القليل الذي وصل الينا هم اليهود الذين اعتنقوا الإسلام، ومن تناسل منهم تخليداً لما كان لأجدادهم من مجد أثيل وشرف عظيم. ولو لم يسلم بعض الأفراد من ذرية السموأل، لكان من الجائز عدم وصول أي شئ من شعره الينا.

وذهب "الدكتور طه حسين" إلى ان اليهود قالوا كثيراً من الشعر في الدين وهجاء العرب، وانهم انتحلوا وصنعوا شعراً لإثبات وجود لهم في الشعر، فنسبوه إلى شعراء يهود، ولكن الرواة العرب لم يحفلوا به فضاع.

وقد أدخل "كارلو نالينو" الشعراء اليهود مع الشعراء الوثنيين، وجعلهم في النصف الأول من أصناف طبقات الشعراء على حساب تصنيفه لهم إلى أربع طبقات وقال: "لا تستغربوا عدم الفرق بين الوثنيين واليهود من أهل البادية ووجوده بين الوثنيين والنصارى من أهل الحضر، لأنكم إذا اطلعتم على ما وصل الينا من أشعار اليهود قبل الإسلام ما ألفيتم فيها شيئاً أو عبارة يميزها من سائر أهل البادية. فمن طالع مثلاً أبيات السموأل بن عادياء "مع قطع النظر عن قصيدة واضحة التزوير منسوبة اليه لم تعرف ولم تطبع إلا حديثاً" لما توهم ان صاحبها تابع لدين اليهود. والأمر كذلك أيضاً في سائر أشعار يهود جزيرة العرب مثل شعبة بن غريض، و الربيع بن أبي الحقيق وغيرهما التي اعتنى بجمعها "نولدكة" و "فرانز دلتش" ليس من المستحيل ان ما فقد من أشعارهم "وهو كثير بالإضافة إلى ما حفظ"، قد حوى أشياء مما يختص بدينهم وليس من المحال أيضاً ان الرواة المسلمين امتنعوا عن نقلها لهذا السبب، ولكن لا يجوز لنا الحكم إلا في الموجود المعروف الذي لا يختلف عن شعر أهل البادية الوثنيين لا لغة ولا أسلوباً ولا مأخذا، كأن دينهم لم يؤثر في شعرهم البتة".

ولكنني أجد من مطالعتي لشعرهم نفساً يختلف عن النفس الذي نجده في شعر شعراء البادية، ذلك هو ميل هذا الشعر إلى التحدث عن المثل الأخلاقية، كالإنصاف والحكم بالعدل، والحلم، والصداقة، واحترام حق الصديق، والاتعاظ بالموت وبحوادث الدهر، وبوجوب الوفاء، خذ الأبيات المنسوبة إلى "الربيع بن أبي الحقيق"، وهي: سائل بنا خابِـرَ أكـمـائنـا  والعلم قد يُلقى لدى السـائل

لسنا إذا جارت دواعي الهوى  واستمع المصنت للـقـائل

واعتلج القوم بألـبـابـهـم  بقائل الجود ولا الفـاعـل

إنا إذا نحكـم فـي دينـنـا  نرضى بحكم العادل الفاصل 

لا نجعل الباطل حـقـاً ولا  نلط دون الحق بالبـاطـل

نخاف أن تسفه أحـلامـنـا  فنخمل الدهر مع الخامـل

ففيها إشارة إلى دين يأمر بالعدل والإنصاف، وبعدم مزج الباطل بالحق، ينهى عن الظلم ويأمر بالحق وفيها-ان صح بالطبع أنها من شعرهم-منطق واستماع إلى صوت متظلم، يعمد إلى رفع شكواه إلى المنصفين لإنصافه، فينصف، فأخذ الحق هنا هم بحكم الدين وقواعد العدالة لا بالسيف وبحكم العصبية والأخذ بالثأر، ونجد مثل ذلك في بقية شعرهم، وتحمل هذه الظاهرة المرء على التفكير في سبب ظهور هذا النوع من الشعر، وهل هو شعر جاهلي يهودي أصيل، أم أنه شعر مصنوع، وضع عليهم في الإسلام، لمآرب مختلفة، مثل المأرب الذي حمل الرواة على نسبة القصيدة المشهورة: إذا المرءُ لم يَدنَس من اللؤم عرِضُه  فكـلُّ رداءٍ يرتـديه جـمــيل

إلى السموأل، وكذلك بعض الأشعار الأخرى ! وقد ذكر "ابن سلام" أسماء فحول شعراء يهود، فجعلهم: السموأل بن الغريض بن عادياء، والربيع بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، و شُرَيح ابن عمران، وشُعية بن غريض، وأبو قيس بن رفاعة، وأبو الذيّال، ودرهم ابن زيد. وأضاف غيره اليهم: أوس بن دنى، وسماك، والغريض بن السموأل و"سلام بن مشكم" و "كنانة بن أبي الحقيق".

والسموأل، هو أشهر شاعر يهودي. وهو على ما يقوله لنا الأخباريون يهودي ثري شاعر، عرف ب"السموأل بن عاديا"، وب "السموأل بن عادياء" الأزدي، وب "السموأل بن غريض بن عاديا "عادياء" اليهودي"، و "السموأل بن حيان بن عادياء بن رفاعة بن الحارث بن ثعلبة بن كعب"، وب"السموأل بن أوفى بن عادياء" وب"السموأل بن أوفى بن عادياء بن رفاعة بن جفنة"، وب"السموأل بن غريض بن عاديا بن حبا" واختلفوا في نسب "عادياء" "عاديا"، فقالوا: "عادياء بن حباء"، وقالوا: "عادياء بن رفاعة بن جفنة"، وقالوا: انه من ولد "الكاهن ابن هارون بن عمران"، وقالوا انه من "بني غسان"، ونسبه "دارم بن عقال"، إلى "رفاعة بن كعب بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء". وهو نسب أنكره شريح بن السموأل، وأدرك الإسلام، وعمرو مزيقيا قديم لا يجوز أن يكون بينه وبين السموأل ثلاثة آباء ولا عشرة ولا أكثر... "وقد قيل ان أمه كانت من غسان". ونسب السموأل أيضاً إلى الأزد. وذكر "ابن دريد" ان السموأل من "بني غسان"، ولكنه ذكر أيضاً انه كان يهودياً، ونسبه "محمد بن حبيب" إلى غسان كذلك، ولم يشر إلى تهوده. وقد جعل "ابن قتيبة" السموأل ملكاً على تيماء.

والسموأل جدّ "صفية بنت حيي بن أخطب" لأمها. وهي يهودية، وقد تزوجها الرسول. وقد نسبها "ابن عبد البر" على هذه الصورة: صفية بنت حيي بن أخطب بن سعنة بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب ابن النضير بن النحام بن تخوم من بني اسرائيل من سبط هارون بن عمران. وامها "برة بنت سموأل". وكانت عند "سلام بن مشكم"، وكان شاعراً، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، وهو شاعر، فقتل يوم خيبر، وتزوجها رسول الله، في سنة سبع من الهجرة.

وقد اشتهر السموال بالوفاء، أكثر من اشتهاره بالشعر، ولا زال العرب يتبجحون بوفائه ويضربون به المثل في الوفاء. واشتهر بقصره الذي ضرب به المثل بالضخامة والجسامة، وهو "الأبلق" ب"تيماء"، أو على مقربة منها. حتى زعم أهل الأخبار أنه من أبنية "سليمان بن داوود" بناه بتيماء، واستشهدوا على صحة دعواهم ببيت شعر زعموا أنه من شعر الأعشى، هو: ولا عادياً لم يمنع الموت ما له  وورد يتيماء اليهودي أبلـق

بناه سليمان بن داوود حـقـبة  له أزج حم وطي مـوثـق

لكنهم يذكرون أيضاً انه من بناء "عاديا" والد السموأل، ويستشهدون على صحة روايتهم بشعر ذكروا انه للسموأل نفسه، يقول فيه: بني لي عاديا حصناً حصينا  وعينا كلما شئت استقـيت

وأطماً تزلق العقبان عنـه  إذا ما ضامني أمر أبـيت

وقد زعموا انه عرف ب"الأبلق الفرد". أخذوا ذلك من شعر نسبوه إلى السموأل، هو: هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره  يعز على من رامـه ويطـول

وذكروا انه انما عرف بالأبلق، لأنه كان في بنائه بياض وحمرة، وقيل لانه بنى من حجارة مختلفة الألوان. وقد ذكر في شعر للأعشى: وحصن بتيماء اليهودي أبلق 

وفي شعر آخر له أيضاً هو:   

بالأبلق الفرد من تيماء منـزلـه  حصن حصين، وجار غير ختار 

وزعم أهل الأخبار، أن الزباء "ملكة الجزيرة" قصدته فعجزت عنه وعن مارد، فقالت: "تمرد مارد وعز الأبلق"، فسيرته مثلاً. ولا أستبعد كون حصن السموأل من الحصون أو القصور القديمة التي كانت بتيماء. ورثه "السموأل" من آبائه وأجداده، فقد كان البابليون قد بنوا بها قصوراً وحصوناً، لما اتخذت عاصمة لهم، وسكنها ملكهم، ثم انها كانت من المدن القديمة العامرة، وقد كانت الأسر الكبيرة الغنية تبني القصور الفخمة في المدن للتحصن بها من الغزو ومن غارات الأعداء عليها، كما كانت الحكومات، ولا سيما حكومات المدن تقيم الحصون القوية المنيعة في المدن، للدفاع عنها، ولتكون مقراً للحكام، وتشاهد إلى اليوم آثار القصور والأبنية الضخمة التي كانت في تيماء. ومما يؤيد رأيي في أن قصر "السموأل"، أي حصنه من الحصون القديمة هو ما ورد في شعر "الأعشى" من أنه من أبنية "سليمان" ومن ورود لفظة "عاديا" في شعر الأعشى كذلك، وفي شعر السموأل: بنى لي عاديا حصناً حصيناً  وعيناً كلما شئت استقـيت

ولفظة "عاديا"، وإن صيرت اسم علم لرجل، لكني أعتقد انها ليست علماً، وانما تعني القدم، فالعادي عند العرب القديم جداً، ولو كان "عادياً" جدّ "السموأل"، فكيف نوفق بين الشعر المذكور المنسوب إلى الأعشى الذي يزعم انه من أبنية سليمان، ثم قولهم ان "عاديا" من أجداد السموأل، ثم قولهم انه من الحصون القديمة، وانه تعزز على "الزباء" لما أرادت فتحه، في الأسطورة التي يرويها اهل الأخبار، والتي تدل على قدم الحصن. ولكن ليس من المستبعد أن يكون أحد أجداد السموأل، قد جدد في بنائه ورممه لإصلاح ما أفسده الزمان منه، وأما الحصن نفسه فربما كان من بقايا أبنية البابليين بتيماء، فقد كانت "تيماء" معروفة في أيام "البابليين"، وموجودة قبل أيامهم، بدليل ان "نبونيد" ملك بابل جاء اليها فاتخذها أمداً عاصمة له.

وقصة وفاء السموأل قصة مشهورة، وقد تحدثت عنها، وذكر أن السموأل لما أبى دفع الدروع إلى الملك، وشاهد منظر ذبح ابنه، قال في ذلك: وفيت بأدرع الكنديّ إنـي  إذا ما خان أقوامُ وفـيت

وقالوا عنده كنز رغـيب  قلا وأبيك أغدر ما مشيت

بنى لي عاديا حصناً حصيناً  وبئراً كلما شئت استقـيت

وتعدّ قصيدة السموأل التي مطلعها: إذا المرء لم يَدنَس من اللُّؤم عِرضه  فكـل رداءٍ يرتـديه جـمــيل

من أجمل القصائد السلسة المنظومة في الوفاء وفي الفخر. وقد سجلت ثمانية أبيات منها في الكتاب المسمى: "تأريخ ملوك العرب الأولية من بني هود وغيرهم" المنسوب "لابي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي"، رواية "أبي يوسف يعقوب بن السكيت". وقد تم استنساخاً في عاشر شوّال سنة ثلاث وأربعين ومائتين. وهو كتاب لم يشر "ابن النديم" اليه، لا في أثناء حديثه عن "الأصمعي" ولا في أثناء كلانه على "ابن السكيت" وأول هذه الابيات المدونة فيه: تعيرنا أنا قليل عـديدنـا  فقلت لها إن الكرام قليل 

وقد اختلف العلماء في قائل القصيدة، فمنهم من نسبها إلى السموأل، ومنهم من نسبها لابنه "شريح"، ومنهم من جعلها للجلاح الحارثي. ورجع "بروكلمن" نسبتها لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي، وهو شاعر اسلامي.

ويقول "التبريزي" في شرحه للبيت: فإن بني الديّان قطبُ لقومهم  تدور رحاهم حولهم وتجول 

وهو من أبيات هذه القصيدة، يذكر انه لعبد الله الحارثي لا للسموأل.

ويلاحظ ان "أبا الفرج الاصبهاني"، قد نسب القصيدة المذكورة للسموأل ثم نسبها إلى "شريح"، الذي هو ابن السموأل في موضع آخر، ثم نسبها إلى "دكين العذري" في موضع ثالث، مما يدل على انه أخذ من مصادر مختلفة، اختلفت فيما بينها في نسبة القصيدة إلى صاحبها. كما نجد الرواة يختلفون فيما بينهم في ترتيب أبيات القصيدة، فمنهم من يقدم فيها، ومنهم من يؤخر، ويبعث هذا الاختلاف الريبة في صحة نسبة القصيدة إلى السموأل.

ولما تحدث "ابن قتيبة" عن الشاعر "دكين بن رجاء" من بني فُقيم الراجز، وهو من شعراء العصر الأموي، ومن المتصلين ب"عمر بن عبد العزيز"، قال عنه: إنه هو القائل:   

إذا المرءُ لم يدنس من اللؤم عِرضه  فكـل رداءٍ يرتـديه جـمــيل

وإن هو لم يُضرع عن اللؤم نفسـه  فليس إلى حسن الثنـاء سـبـيل

ويرى "ونكلر" أن قصة الوفاء هذه هي أسطورة استمدت مادتها من أسفار "صموئيل الأول" في التوراة، ومن الأساطير العربية القديمة نظمت على هذه الصورة فجعل بطلها شخصان هما: "السموأل"، و"امرؤ القيس".

وإذا تتبعنا الروايات الواردة في قصة وفاء السموأل، وذبح ابنه، ومتناعه عن تأدية الأمانة المودعة لديه، إلا لأصحابها الشرعيين، نجد أنها ترجع إلى موردين رئيسيين: قصة "دارم بن عقال" وشعر الأعشى.

وذكر "ابن سلام"، ان السموأل "كلمة له طويلة"، يقول فيها: إن حلمي إذا تغيب عـنـي  فاعلمي انني عظيماً رزيت 

وقد وردت في الأصمعيات، وهي تتحدث عن نشأة الإنسان وحياته وبعثه بعد موته، ويظن انها مصنوعة. وفي جملة ما قاله: ميتاً خلقت ولم أكن من قبلها  شيئاً يموت فمت حين حييت  

وقد طبع الأب "لويس شيخو"ديوان السموأل برواية "نفطويه" "323 ه"، وقد ترجم "ابن النديم" نفطويه، وذكر أسماء كتبه، ولكنه لم يذكر من بينها اسم هذا الديوان، وترجمه غيره، ولم ينسب له هذا الديوان. ويرى "بروكلمن" احتمال كون الشعر المرقم "ا - 6" من الديوان من الشعر الأصيل، أي من شعر السموأل، أما الشعر الباقي المنشور في الديوان، فهو لشعراء يهود متأخرين. ويرى غيره أصالة قصيدتين فقط من شعر هذا الديوان. وذكر بعضهم ان القصيدة رقم "7" ليست للسموأل، وانما لأحد يهود المدينة.

وقد تحدث المستشرقون عن شعر "السموأل" ولهم فيه كلام، فمنهم من يؤيد أصالة أكثره، ومنهم من لا يتعرف إلا بأصالة القليل منه. والواقع أن موضوع وجود "السموأل" نفسه قضية فيها نظر، ولا يستبعد أن تكون هذه القصة من وضع "دارم بن عقال"، وهو من ولد "السموأل"، أو من وضع أناس آخرين رووا عنه. و"دارم" هو راوي خبر قصة الوفاء، والأشعار المنسوبة إلى "امرئ القيس" المتعلقة بهذا الموضوع. وقد أشار إلى ذلك مؤلف كتاب "الأغاني" في اثناء كلامه على قصيدة نسبت إلى "امرئ القيس"، ابتداؤها: طرقتك هند بعد طول تجنب  وهناً ولم تك قبل ذلك تطرق 

فقال: "وهي قصيدة طويلة، وأظنها منحولة، لأنها لا تشاكل كلام امرئ القيس، والتوليد فيها بين، وما دوّنها في ديوانه أحد من الثقات، وأحسبها مما صنعه دارم، لأنه من ولد السموأل، ومما صنعه من روي عنه من ذلك فلم تكتب هنا".

ويلاحظ أن في شعر الأعشى كثيراً من أخبار السموأل، ومن شعره أخذ الأخباريون "تيماء اليهودي" و "الأبلق الفرد"، حيث يقول: كن كالسموأل إذ طاف الهمام به  في جحفل كقريع الليل جرّار

بالأبلق الفرد من تيماء منزلـه  حصن حصين وجار غير غدّار 

خيّره خطتي خسف فقـال لـه  مهما تقولنّ فإني سامعُ حـار

فقال ثكل وغدرُ أنت بينهـمـا  فاختر فما فيهما حظ لمختـار

فشكَّ غير طويل ثم قـال لـه  اقتل أسيرك إني مانع جـاري

ومن ولد السموأل "شريح" و"الغريض بن السموأل"، وكانا شاعرين كذلك. و"برة" في رواية من جعلها ابنة للسموأل، ووالدة "صفية" زوج الرسول. وللأعشى الشاعر الشهير شعر يرويه الرواة في مدح "الشريح بن السموأل" "شريح بن السموأل". وقد ورد في قصيدته الرائية اسم ولدين للسموأل، هما: "حوط" و"منذر". ولم يذكر الأخباريون اسم الولد الذي زعم ان "الحارث بن أبي شمر"، أو "الحارث بن ظالم" قتله لرفض السموأل دفع أدرع الكندي اليه، على نحو ما يذكره الرواة في قصة الوفاء. ونجد مضمون هذه القصة في هذه القصيدة المذكورة للأعشى، الموجودة في ديوانه. وهي قصيدة تتألف من واحد وعشرين بيتاً، يروي الرواة انه قالها مستجيراً ب"شريح بن السموأل" ليفكه من الأسر. وكان الأعشى على ما يقوله الرواة قد هجا رجلاً من "كلب"، فظفر به الكلبي وأسره، وهو لا يعرفه، فنزل بشريح بن السموأل وأحسن ضيافته، ومرّ بالأسرى، فناداه الأعشى بهذه القصيدة، فجاء شريح إلى الكلبي، وتوسل اليه بأن يهبه، فوهبه اياه، فأطلقه. وقال له: أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك، فقال له الأعشى: "ان تمام احسانك إليّ ان تعطيني ناقة ناجية، وتخلّيني الساعة، فأعطاه ناقة ناجية، فركبها ومضى من ساعته وبلغ الكلبي ان الذي وهبه لشريح هو الأعشى، فأرسل إلى شريح ابعث إليّ الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه، فقال: قد مضى، فأرسل الكلبي في أثره، فلم يلحقه".

وقد أختلف في اسم "شريح" الذي خلّص "الأعشى" من الأسر، فقد ذكر انه "شريح بن حصن بن عمران بن السموأل"، وذكر انه "شريح بن عمرو الكلبي" لا كما دعاه بذلك "ابن قتيبة".

وذكر "بروكلمن" اسم شاعر آخر من شعراء "آل عاديا"، هو الشاعر "سعيد بن الغريض" "سعيد بن غريض"، أخي السموأل. كما ذكر اسم "شعبة" حفيد للسموأل، بل ابناً له، وأن ما ذهب اليه "أبو الفرج الأصبهاني"، من أن "غريضاً" كان أخاً له، خطأ، لان "شعبة"، كان قد اعتنق الإسلام وعاش إلى زمن الخليفة "معاوية"، أي إلى زمن بعيد عن "السموأل"، وهذا يجعل من الصعب تصور أن "شعبة" كان ابن أخي "السموأل"، بل لا بد من أن يكون حفيداً له. أي ان الغريض كان ابناً للسموأل، وقد جعله يعيش في حوالي السنة "600" للميلاد، وجعل أيام "السموأل" في حوالي السنة "550" ونسبت لشعبة بن غريض بن السموأل قصيدة هي: لباب يا أختَ بنـي مـالـكٍ  لا تشتري العاجلَ بالآجـل

لباب داويني ولا تقـتـلـي  قد فضل الشافي على القاتل 

لباب هل عندك مـن نـائلٍ  يا ربما عللت بالـبـاطـل

إن تسألي بي فأسألي خابراً  فالعلم قد يكفي لدى السائل

ينبيك من كان بنا عـالـمـاً  عنّا وما العالم كالجـاهـل

انا إذا جارت دواعي الهوى  وأنصت السامعُ للـقـائل

واعتلج القوم بألـبـابـهـم  في المنطق الفاصل والقائل 

لا نجعل الباطل حـقـاً ولا  نَلِطّ دون الحق بالبـاطـل

نخاف أن تسفه أحلامُـنـا  فنخمل الدهر مع الخامـل

كما نسبت له أبيات اولها: يا دار سعدي بمفضي تلعة النعم  حُييت داراً على الاقواء والقدم

ونسبوا له أبياتاً في الخلان هي: أرى الخلان لمّا قلّ مالي  وأجحفت النوائب ودعوني 

فلما ان غنيت وعاد مالـي  أراهم لا أبالك راجعوني

وكان القوم خلاناً لمالـي  وإخواناً لما خولت دونـي

فلما مرّ مالي باعـدونـي  ولمّا عاد مالي عاودونـي

وروي أهل الأخبار ان "شعبة بن غريض"، عاش فأدرك أيام معاوية، وان معاوية لما حج رأى شيخاً يصلي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان، فقال: من هذا ? فقالوا: شعبة بن غريض، فأرسل اليه يدعوه، فأتاه رسوله، فقال أجب أمير المؤمنين ! قال: أو ليس قد مات ! قيل فأجب معاوية. فأتاه فلم يسلم عليه بالخلافة. فقال له معاوية: ما فعلت أرضك التي تكسي منها العاري ويرد فضلها على الجار ? قال: باقية. قال: أتبيعها ? قال: نعم. قال: بكم ? قال بستين ألف دينار ولولا خلة أصابت الحي لم أبعها. قال: لقد أغليت ! قال: أما لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف، ثم لم تبالِ. قال: أجل. قال: فإذا بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك الذي يرثى به نفسه. قال: قال أبي: يا ليت شعري حين أندب هالكاً  ماذا تؤبننـي بـه أنـواحـي

أيقلن لا تبعد فـرب كـريهة  فرجتها بشجـاعة وسـمـاح

ولقد ضربتُ بفضل مالي حقه  عند الشتـاء وهـبة الأرواح

ولقد أخذت الحق غير مخاصمٍ  ولقد رددت الحق غير مُلاحي 

وإذا دعيت لصعبة سهلتـهـا  ادعى بأفلح مـرة ونـجـاح

فقال: أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك ! قال: كذبت ولولا مت. قال: أما كذبت فنعم. واما لولا مت فكيف ولمَ ?قال: لأنك أنت ميت الحق في الجاهلية وميته في الإسلام. أما في الجاهلية فقاتلت النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبت الوحي حتى جعل الله تعالى كيدك المردود. وأما في الإسلام، فمنعت ولد النبي صلى الله عليه وسلم الخلافة وما أنت وهي ! وأنت طليق. فقال معوية: قد خرف الشيخ فأقيموه. فأخذ بيده فأقيم.

وقد ذكر "ابن حجر" موجز هذه القصة، أخذه من "ابن أبي طئ"، وقد رواها "عمر بن شبة" بسنده إلى "الهيثم بن عدي"، وذكر ان اسمه "سعنة بن عريض بن عاديا" التيماوي، نسبة لتيماء، وهو ابن أخي السموأل، ثم قال: "وحكي الخلاف في سعنة هل هو بالنون أو الياء ? ووردت له أشعار في مجالس ثعلب، وروي ان من شعره قوله: معتقة كانت قريش تعافـهـا  فلما استحلوا قتل عثمان حلت 

وقد نسب "ابن نباتة" في شرحه لرسالة "ابن زيدون" القصيدة المذكورة للسموأل. وأثبت "ابن سلام" الأبيات المذكورة في طبقاته، على أنها من شعر "شُعبة بن غريض".

و"شعبة" تصحيف "سيعة"، و"سيعة" من أسماء يهود.

وأشير في حماسة "البحتري" إلى رجل من هذه الأسرة دعي "عُريض بن شعبة"، وذكرت له هذه الأبيات: ليس يعطي القوي فضلاً من الرز  ق ولا يحرم الضعيف الخبـيث

بل لكلٍ من رزقه ما قضى اللـه  ولو كدّ نفسه الـمـسـتـمـيت

ومن شعراء يهود "الربيع بن أبي الحقيق"، وهو من "بني قريظة" على ما جاء في كتاب الأغاني، غير اننا نجد "ابن هشام "صاحب السيرة، يذكر: "سلام بن أبي الحقيق"، وهو شقيق "الربيع"، و"كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق" هو من "بني النضير". وقد قتل ابن أبي الحقيق بعد "الخندق"، وذلك أن "الأوس" لما أصابت "كعب بن الأشرف"، قالت الخزرج، والله لا يذهبون بها فضلاً علينا أبداً، فاستأذنوا النبي في قتل "ابن أبي الحقيق"، وهو بخيبر، فأذن لهم فقتلوه. وقد جعله "ابن سلام" من بني النضير، ونسب له أبياتاً دوّنتها في أول هذا الفصل.

وذكر أن "الربيع بن أبي الحقيق" كان على رأس قومه يوم "بعاث". وذكر أنه كان قد التقى مع "النابغة"، وقد تسابقا في نظم انصاف الأبيات.

ونسب إلى "الربيع بن أبي الحقيق" شعر، هو: سئمت وامسيت رهن الـفـرا  ش من جرم قومي ومن مغرم 

ومن سفه الرأي بعد النـهـي  وعيب الرشـاد ولـم يفـهـم

فاو أن قومي أطاعوا الحلـي  م لم يتـعـدوا ولـم يظـلـم

ولكنّ قومي أطاعـوا الـغُـوا  ء حتى تعكـس أهـل الـدم

فأوى السفيه برأي الحلي  م وانتشر الأمر لم يبرم

وقد نسب "المرزباني" هذا الشعر إلى "كنانة بن أبي الحقيق"، من بني النضير، وهو أخ الربيع.

ومن شعر الربيع قوله: فلا تكثر النجوى وأنت محاربُ  تؤامر فيها كل نكسٍ مُقصـر

قاله يخاطب "أبا ياسر" النضيري، وهو أخو حيي بن أخطب، وكان من العلماء بالتوراة. وفيه وفي عبد الله بن صوريا، ووهب بن يهودا، نزل قوله )ومن الذين هادوا سّماعون للكذب(.

ومن الشعر المنسوب اليه قوله: إذا مات منّا سـيد قـام بـعـده  له خلف يكفي السـيادة بـارع

من أبنائنا والعرق ينصر فرعـه  على أصله والعرق للفرع فارع 

وقوله: يرمي إلي بأطراف الهوان وما  كانت ركابي له مرحولة ذللا

أنا ابن عمك إن نابتـك نـائبة  ولست منك إذا ما لعبك اعتدالا 

وقوله: ترجو الغلام وقد أعياك والده=وفي أرومته ما ينبت العود وله أشعار أخرى في بني النجار.

ولكعب بن الأشرف، وهو من سادة يهود الذين كانوا يحرضون قريشاً وغيرهم على الرسول، أشعار في الحث على الانتقام من المسلمين لما اوقعوه بأهل مكة من قتل يوم بدر. ذكرت في سيرة "ابن هشام". وله أشعار أخرى افتخر بها بأهله وبماله وبنخله التي تخرج التمر كأمثال الأكف، جاء فيها: رُبَّ خالٍ لي لو أبصـرتـه  سبط المشـية ابـاء أنـف

لين الجانـب فـي أقـربـه  وعلى الأعداء كالسم الزعف 

وكرام لم يشنهـم حـسـب  أهل عزّ وحفـاظ وشـرف

يبذلون المال فيما نـابـهـم  لحقوق تعتريهـم وعـرف

وليوث حين يشتد الـوغـى  غير أنكاس ولا ميل كسـف

ومن شعره في رثاء قتلى بدر قوله: طحنت رحى بدر لمهلك أهلـه  ولمثل بدرٍ تستـهـل الأدمـع

قتلت سراة الناس حول حياضهم  لا تبعدوا إن الملوك تصـرع

ويشك "ولفنسون" في صحة نسبة هذه الأبيات إلى "كعب" ويرى احتمال كونها من الشعر المحمول عليه.

وقد ردّ على شعر "كعب" هذا حسان ابن ثابت، وامرأة من المسلمين، قالت: تحنن هذا العيد كل تـحـنـن  يبكي على قتلي وليس بناصب 

بكت عين من لبدر وأهـلـه  وعلت بمثليها لؤي بن غالـب

إلى آخر الأبيات.

فأجابها كعب بن الأشرف بقوله: ألا فازجروا منكم سفيهاً لتسلموا  عن القول يأتي منه غير مقارب 

أتشتمني إن كنت أبكي بعـبـرة  لقوم أتاني ودهم غـير كـاذب

فإني لباكٍ مـا بـقـيت وذاكـر  مآثر قوم مجدهم بالجبـاجـب

ويقال إن واله من "طيء". أما أمه، فمن بني النضير، وانه شبب بنساء النبي ونساء المسلمين، فأمر الرسول بقتله، فقتله محمد بن مسلمة ورهط معه من الأنصار. وله مناقضات وهجاء مع "حسان بن ثابت" وغيره في الايام التي وقعت بين الأوس والخزرج.

ومن شعره الذي شبب فيه بأم الفضل بنت الحارث قوله: أراحلُ أنت لم تحلل بـمـنـقـبة  وتارك أنت أم الفضل بالـحـرم

صفراء رادعة لو تعصر انعصرت  من ذي القوارير والحنّاء والكتـم

يرتج ما بين كعبيها ومرفـقـهـا  إذا تأتت قـيامـاً ثـم لـم تـقـم

أشباه أم حكـيم إذ تـواصـلـنـا  والحبل منها متين غير منـجـذم

احدى بني عامل جنّ الفؤاد بـهـا  ولو تشاء شَفَت كعباً من السقـم

فرع النساء وفرع القوم والـدهـا  أهل التحلة وإلايفـاء بـالـذمـم

لم أرَ شمساً بليل قبلها طـلـعـت  حتى تجلت لنا في ليلة الـظـلـم

ونسبله شعر في مدح "الحارث بن هشام"، هو: نبئت ان الحـارث بـن هـشـام  في الناس يبني المكرمات ويجمع 

ليزور أثرِبَ بالحمـوع وإنـمـا  يبني على الحسب القديم الأرفـع

ومن شعراء يهود "أوس بن دنى" القرظي. ذكر أن زوجته اعتنقت الإسلام في حياة الرسول، وطلبت منه اعتناقه كذلك، فقال: دعتني إلى الإسلام يوم لقيتهـا  فقلت لها لا بل تعالي تهودي

فنحن على توراة موسى ودينه  ونعم لعمر الدين دين محمـد

كلانا يرى أن الرشـادة دينـه  ومن يهد ابواب المراشد يرشد 

وله أبيات أخرى ذكرها "نولدكة" في أثناء حديثه عن الشعراء اليهود.

ولا نعرف من أمر "شريح بن عمران" شيئاً يذكر، وقد روى "ابن سلام" أربعة أبيات في المؤاخاة والصداقة، والبخل والمال. وروى "نولدكة" له ببيتين من قافية أخرى في الصداقة والصديق وحفظ العهد، هما: آخ الكرام إذا وجدت إلى اخائهم سبيلا 

واشرب بكأسهم وان تشرب به السم الثميلا 

وروي له قوله: بَجِـــــــلـــــــي مـــــــنـــــــك إذا مــــــــــــا خـــــــــــــــنـــــــــــــــتـــــــــــــــنـــــــــــــــي  ليس لـــــــــــــــي فـــــــــــــــــــي وصـــــــــــــــــــــــــــــــل خـــــــــــــــــــــــــــــــوان ارب

لا أحب المرء إلا حافظاًربقة العهد على كل سبب وروى "ابن سلام" أبياتاً من قصيدة تنسب إلى "أبي قيس بن رفاعة" قال "البكري": اسمه دينار، وقيل انه: "أبا القيس بن رفاعة" الأنصاري، فهو ليس من يهود. ومن شعره

منّا الذي هو ما إن طرّ شاربـه  والعانسون ومنّا المرد والمشيب 

ونسب لأبي قيس بن الأسلت الأوسي.

وروى "ابن سلام" قصيدة على قافية الدال مطلعها: هل تعرف الدار خَفَّ ساكنها  بالحجر فالمستوى إلى الثمد

دارُ لبـهـنـانةٍ خـدلـجةٍ  تبسم عن مثل بارد الـبـردِ

ذكر انها لأبي الذيّال. وأورد "البكري" لهذه الابيات: لم تـرَ مـثـل يوم رأيتـــه  برعبل ما احمر الأراك واثمرا 

فلم أر من آل السموأل عُصـبة  حسان الوجوه يخلعون المعذرا

ودرهم بن زيد الذي يقول: هجرت الرباب وجاراتها  وهمك بالشوق قد يطرح 

يمانـية نـازح دارهـا  تقيم بغمدان لا تـبـرح

وأورد "ابن هشام" قصيدة لرجل من يهود سّماه "سمال" اليهودي، يذكر فيها "بني النضير" مطلعها: غداة غدوتم على حتفـه  ولم يأت غدراً ولم يخلف 

بقتل النضير وأحلافهـا  وعقر النخيل ولم تقطف

وقد ردّ بها على قصيدة نسبت لعلي بن أبي طالب على رأي ابن أسحاق، أو لغيره من المسلمين على رأي "ابن هشام" مطلعها: عرفت ومن يعتدل يعرف  وأيقنت حقاً ولم أصدف

ولما قال "كعب بن مالك" شعراً في اجلاء "بني النضير" وقتل "كعب ابن الأشرف" مطلعه: لقد خزيت بغدرتها الحبور=كذاك الدهر ذو صرف يدور أجابه "سمال" اليهودي، بقوله: أرقت وضافني همّ كبـير  بليل غيره ليل قـصـير

أرى الأحبار تنكره جميعاً  وكلهم له علـم خـبـير

وكانوا الدارسين لكل علم  به التوراة تنطق والزبور 

قتلتم سيد الأحبار كعـبـاً  وقدماً كان يأمن من يجير 

تدلى نحو محمـود أخـيه  ومحمود سريرته الفجور

وكان "مرحب" اليهودي من الشعراء، ولما حاصر المسلمون "خيبر" خرج من حصنهم قد جمع سلاحه، وهو يرتجز ويقول: قد علمت خيبر اني مرحب  شاكي السلاح بطل مجرب 

أطعن أحياناً وحيناً أضـرب  إذا الليوث أقبلت تـحـوب

إن حماي للحمى لا يقرب

ونسب إلى أحد اليهود بيت شعر، خاطب فيه "مالك بن العجلان" بقوله: تسقيت قبله أخلافـهـا  ففيمن بقيت وفيمن تسود 

فأجابه "مالك" بقوله: إني امرؤ من بني سالم بن=عوف وأنت امرؤ من يهود ولما هرب اليهود إلى بيعهم وكنائسهم، قال مالك: تحانى اليهود بتلعانهـا  تحاني الحمير بأبوالها 

فماذا عليَّ بأن يلعنوا  وتأتي المنايا بأذلالها

وفي المفضليات قصيدة لرجل يهودي لم يذكر اسمه مطلعها: سلاربة الخدر ما شأنـهـا  ومن أي ما فاتنا تعـجـب

فلسنا بـأول مـن فـاتـه  على رفقة بعض ما يطلب 

ومن شعراء يهود "أبو أثاية" القرظي، و"أبو ياسر" النضيري، وأبو القرثع اليهودي. و "عمرو بن أبي صخر بن أبي جرثوم" اليهودي، "أبو حمضة". وله شعر في الجيران، و"كعب بن أسد بن سعيد" القرظي اليهودي، من بني قريظة، جاهلي، له مع قيس بن الخطيم في يوم "بعاث" مناقضات، و "مالك بن عمر النضري"، وهو جاهلي.

وذكر "المعري" اسم شاعر يهودي، ذكر ان اسمه "بسمير بن أدكن"، "سمير بن أدكن"، من أهل خيبر، قال شعرا" لما أمر "عمر" باجلاء أهل الكتاب من جزيرة العرب، هو: يصول أبو حفص علينـا بـذرة  رويدك ان المرء يطفو ويرسب 

كأنك لم تتبع حمـولة مـا قـط  لتشبع، ان الزاد شيء محبـب

فلو كان موسى صادقاً ما ظهرتم  علينا، ولكن دولة ثم تـذهـب

ونحن سبقناكم إلى اليمن فاعرفوا  لنا رتبة البـادي هـو أكـذب

مشيتم على آثارنا في طريقـنـا  وبغيتم في أن تسودوا وترهبـوا

وذكر ان "جبل بن جوال بن صفوان بن بلال بن أصرم بن إياس بن عبد غنم بن جحاش بن مجالة بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان" الشاعر الذبياني ثم الثعلبي، كان يهودياً مع "بني قريظة" وكان قد رثى "حيي بن أخطب" بأبيات منها: لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه  ولكنه من يخذل اللـه يخـذل

وقال بعض الناس انها لحيي بن أخطب نفسه. وذكر انه من ذرية "العطيون ابن عامر بن ثعلبة" "الفطيون?"، وكان يهودياً فأسلم، وهو القائل لما فتح النبي خيبر: رميت نطاة من النبي بفيلق  شهباء ذات مناقب وفقار

وذكر انه هو القائل: ألا يا سعد بنـي مـعـاذٍ  لما فعلت قريظة والنضير 

تركتم قدركم لا شيء فيها  وقدر القوم حامية تفـور

وزاد المرزباني فيها: ولكن لا خلود مع المنـايا  تخطف ثم تضمنها القبور 

كنهم غـنـائم يوم عـيد  تذبح وهي ليس لها نكير

فأجابه حسان: تعاهد معشراً نصروا علينا  فليس لهم ببلدتهم نصـير

هم أوتوا الكتاب فضيعـوه  فهم عمي عن التوراة بور 

كذبتم بالقرآن وقد أبـيتـم  بتصديق الذي قال النـذير

وهان على سراة بني لؤي  حريق بالبويرة مستطـير

وأورد "أبو الفرج الاصبهاني" أبيات شعر، نسبها إلى شاعرة يهودية سّماها "سارة" القريضية، ذكر أنها قالتها في رثاء قومها بعد أن قتل "أبو جبيلة" أشراف اليهود: بنفسي أمة لم تغـن شـيئاً  بذي حُرُض تعفيها الرياح

كهول من قريظة أتلفتهـا  سيوف الخزرجية والرماح 

رزئنا والرزية ذات ثـقـل  بمر لأهلها الماء القـراح

ولو أرِبُوا بأمرهم لجالـت  هنالك دونهم جأوى رداح

وذكر "الجاحظ" بيتين نسبهما لشاعرة يهودية، قالتهما في نفث الرقية والعثار، هما: وليس لوادة نفـثـهـا  و لا قولها لابنها دعدع 

تداري غراء أحوالـه  وربك أعلم بالمصرع

وقد جمع "ديلتج" أشعار يهود وتحدث عن أصحابها.

الفصل السادس والستون بعد المئة
الشعراء النصارى

وحديثنا عن الشعر النصراني، مستمد من الموارد الاسلامية. أما النصوص الجاهلية، فليس فيها أي شيء عن هذا الموضوع. وأما النصوص الأعجمية، فلم تحفل به أيضاً، ولم تتطرق الموارد الإسلامية إلى الشعر نفسه، من حيث طبيعته ومادته، وما امتاز به عن الشعر الوثني، أو شعر الشعراء اليهود، وما سنذكره عن الشعراء النصارى، مستمد من أسماء آبائهم ومن أسمائهم التي تدل على كونهم من النصارى ومن الشعر المنسوب اليهم.

والشعراء النصارى الذين نص على نصرانيتهم أهل الأخبار، مثل "عدي بن زيد" العبادي، أو لم ينص على نصرانيتهم، وانما يفهم من شعرهم ومن مواطنهم انهم كانوا نصارى، هم من الحضر، من سكان القرى ومن قبائل اشتهرت بتنصرها، وقد وجدت النصرانية سلبيتها إلى مواطن الحضر والاعراب فأقامت "بيعاً" وكنائس للتبشير بالنصرانية، ولتعليم أتباعها أمور الديانة، وللإشراف على ادارة شؤونهم الدينية، وقد كان أكثر من قام بالتبشير من غير العرب في بادئ الأمر، من روم ومن "بني إرم"، ثم انضم اليهم رجال دين عرب، كانوا قد تعلموا النصرانية في المدارس، وأظهروا فهماً ونباهة فيها، فعينوا مبشرين ومعلمين لتعليم العرب والأعراب أصول النصرانية، ولنشرها في جزيرة العرب، وكان من المبشرين من ينتقل مع الأعراب، لهم خيامهم، يرتحلون بها من مكان إلى مكان، فعرفوا لذلك برهبان الخيام.

"وكانت تنوخ في المرتبة الأولى بين عرب البادية الذين عرفوا النصرانية قبل الإسلام بزمن طويل. وقامت جماعة تنوخ على أساس حلف عقده بنو فهموبنو تيم اللات مع قبائل من النزاريين وغيرهم. ومن شعراء تنوخ أسد بن ناعسة التنوخي، الذي كان معاصراً لعنترة، وكان مولعاً بالاكثار من الألفاظ الغريبة في قصائده، حتى كان الخليل نفسه يتشكك في تفسيرها في كتاب العين".

وقد كانت النصرانية واسعة الانتشار على عهد الرسول، في قضاعة، وربيعة وتميم، وطيء، وكان لها أتباع في القرى العربية، وبين الاعراب، وبواسطتهم عرف العرب شيئاً عن النصرانية وعن رجالها الذين كانوا يقيمون في البيع، أو يسيحون في البلاد، ويرتحلون مع الأعراب طمعاً في تنصيرهم، وفي تعليم المتنصرين منهم أمور الدين. فقد كان بمكة نفر من التجار النصارى، وجماعة من الرقيق الأسود والأبيض، كانوا على على النصرانية، وكان بيثرب بعض النصارى كذلك، وكذلك بالطائف. أما نجران، فكانت من مراكز النصرانية المهمة في ذلك العهد. وقد ورد ان "طلق بن علي بن طلق بن عمرو" السحيمي الحنفي، وهو من سادة بني حنيفة باليمامة، كان نصرانياً، فلما ذهب إلى المدينة وشاهد الرسول أسلم أمامه، فلما أراد العودة أخبر رسول الله ان بأرضهم بيعة، فقال له الرسول ولمن معه: "إذا قدمتم بلدكم فاكسروا بيعتكم وابنوها مسجداً"، فكسروا بيعتهم واتخذوها مسجداً، ونضحوها بماء فضل طهور رسول الله، وكانوا قد جاءوا به في ادواة، وكان يدير البيعة راهب من طيء، فارتحل عنهم.

واذا صح هذا البيت المنسوب إلى حسان: فرحت نصارى يثرب ويهودها  لما توارى في الضريح الملحد 

فإن فيه دلالة على وجود نصارى ويهود بالمدينة عند وفاة الرسول.

ونحن لا نستطيع في الوقت الحاضر التحدث عن مدى تغلغل النصرانية في قلوب النصارى العرب. ولكننا نستطيع أن نقول قياساً على ما نعرفه من أحوال الأعراب وأحوال أهل القرى، أي الحضر، أن النصرانية كانت أوضح وأعمق جذوراً في نفوس أهل المدر، منها في نفوس أهل الوبر. أما الأعراب فكانت نصرانيتهم اسمية في الغالب شأنهم شأن أعرب هذا اليوم، وأعراب كل زمان، متدينون بدين، ولكنهم لا يعرفون من دينهم إلا الاسم، دينهم الصحيح، الذي يغلب على نفوسهم هو دين الفطرة، أعني العرف الذي ولدوا ونشأوا عليه. ولكن الرهبان ورجال الدين كانوا يتنقلون بين القبائل لتنصيرهم، حاولوا جهدهم تعليمهم قواعد النصرانية وأصولها، ومنه: عدم اغارة بعضهم على بعض، والعيش بعضهم مع بعض بسلام، حتى أنهم أثروا على بعض ساداتهم فحملوهم على الزهد والدخول في الرهبنة وكره الدماء، فذكر مثلاً أنهم أثروا على "داوود ابن هبالة" سيد "بني سليح"، من قضاعة، فأدخلوه في النصرانية، "وكره الدماء وبني دبراً، فكان ينقل الطين على ظهره والماء، فسمي اللثق، فنسب الدير اليه، وأنزله الرهبان"، واعتزل الغزو إلى أن أمره ملك الروم به، فلم يجد بداً من أن يفعل. وقد كانت العرب تتهم القبائل العربية المتنصرة بعدم قدرتها على القتال، وتستهين بها إذا ما التحمت بها في قتال.

والشعر النصراني، شعر سهل لين بالنسبة إلى شعر الشعراء الأعراب، وقد علل علماء الشعر ذلك بكون هؤلاء الشعراء من سكنة القرى والأرياف، ومن سكن القرية أو الريف لان لسانه ورق كلامه، ولهذا قالوا إن في شعر شعراء القرى لا مثل أهل مكة ويثرب ليونة، لأنهم لم ينبتوا في البوادي، ولم يقاسوا ما يقاسيه الأعراب من خشونة وشدة وضنك في الحياة، بل عاشوا في استقرار وأمان في حياة ناعمة بالقياس إلى حياة الأعراب، ولهذا لان لسانهم، وسهل شعرهم، وصار من السهل على صناع الشعر ومزوّريه صنع الشعر على ألسنتهم، كالذي فعلوه من وضع شعر كثير على لسان "عدي بن زيد" العبادي النصراني، وعلى شعر أمية بن أبي الصلت، وهو من شعراء ثقيف، وعلى شعر "حسان ابن ثابت"، وهو من شعراء يثرب.

و لا يختلف الشعر النصراني عن شعر الشعراء الوثنيين بشيء، اللهم في تطرق شعر "عدي بن زيد" وأضرابه إلى معادن دينية، والى إشارات إلى بعض معالم نصرانية. اما فلسفة نصرانية، أو حديث عن التثليث أو عن العقائد النصرانية الأساسية التي تميز النصراني المتدين عن غيره، فلا تجد لها و لا لأمثالها موضعاً في هذا الشعر. نعم لقد تطرق "عدي بن زيد"، وكذلك الأعشى إلى قصص مستمد من أصول نصرانية، كما تطرق إلى أعياد نصرانية، ولكننا نجد في شعر غيرهم إشارات إلى الأديرة والكنائس والرهبان والرهبنة ومصطلحات نصرانية وأشياء أخرى عرفوها من احتكاكهم بالنصارى، ومن سماعهم شيئاً عن النصرانية من النصارى العرب، تجعل من الصعب على الباحث أن يجد فرقاً كبيراً بين شعر الشعراء النصارى وشعر الشعراء الوثنيين. ولهذا ذهب بعض المستشرقين إلى ان من الصعب التحدث عن وجود شعر نصراني عربي له ميزات امتاز بها عن الشعر الوثني قبل الإسلام.

ومن النصارى "العباد"، وهم عرب تنصروا، ولم يكونوا من قبيلة واحدة، وانما كانوا من مختلف العرب. ولفظة "العباد" لفظة خصصت بنصارى الحيرة خاصة. ويذكر في "الحديث المسند: أبعد الناس عن الإسلام: الروم والعباد". ويظهر ان مرد ذلك، هو ان الروم والعباد، كانوا أصحاب ديانة ورجال دين ومؤسسات دينية منظمة، ومدارس، وثقافة، فكان من الصعب عليهم وكلهم نصارى، نبذ دينهم والدخول في الإسلام، لا على نحو العرب الوثنيين، الذين لم تكن لهم كتب دينية، و لا منظمات دينية، وكل ما كان عندهم عرف وعادات وتمسك بأصنام جبلوا على عبادتها، ولهذا كان تحولهم عنها أسهل من تحول العباد عن دينهم. وفي جملة "العباد" "بنو امرئ القيس بن زيد مناة" واليهم ينسب "عدي بن زيد".

وقد أدخل "كارلو نالينو" "أبا دؤاد" الإيادي في عداد الشعراء النصارى، ولكني لم أجد في شعره إلى ما يشير إلى تنصره، فلعّله أدخله في النصرانية، لما عرف عن انتشارها بين إياد، وهو "أبو دؤاد جارية بن الحجاج"، ويقال: "جويرية بن الحجاج بن يحمر بن عصام بن منبّه بن حذافة بن زهر بن إياد بن نزار بن معد"، وقيل: "حنظلة بن الشرقي" شاعر قديم من شعراء الجاهلية، ركان وصّافاً للخيل، وأكثر أشعاره في وصفها. ذكر أهل الأخبار أن "ثلاثة كانوا يصفون الخيل لا يقاربهم أحد: طفيل، ,ابو دؤاد، والنابغة الجعدي. فأما أبو دؤاد، فإنه كان على خيل المنذر بن النعمان بن المنذر، وأما طفيل فإنه كان يركبها، وأما الجعدي فإنه سمع من الشعراء فإخذ عنهم". وقال "أبو عبيدة": "أبو دؤاد أوصف الناس للفرس في الجاهلية والإسلام، وبعده طفيل الغنوي والنابغة الجعدي". وله شعر في المدح والفخر، لكن شعره في الخيل أكثر. ومما يلفت النظر، أن يكون أكثر شعر أبي دؤاد في وصف الخيل، ثم يكون مدحه لقومه بأنهم "أهل البغال". حيث ورد في شعر هو: نشدتكم بالله يا أهل الـبـلـد  هل سابق فيكم لمجد من أحد 

إلا إياد بن نزار بـن مـعـدّ  أهل البغال والقباب والعـدد

ما سامهم في الدهر ملك بعقد وإني أشك في هذا الشعر، فأسلوبه لا يدل على أنه من أساليب شعراء الجاهلية، و لا سيما الشطر الأول من البيت الأول، ثم إن هذا النسب المسطور في الشطر لأول من البيت الثاني، هو نسب ظهر في الإسلام، وعرف في أيام الأمويين.

وذكر ان "الحجاج" كان معروفاً ب"حمران". ولذلك قيل لأبي دؤاد: "جارية بن حمران". وقيل له: "حارثة بن الحجاج"، كما قيل له: "جريرة"، و"حوثرة"، ويظهر ان مصدر هذا الاختلاف هو وقوع النساخ في أخطاء في أثناء تدوين الاسم، فاختلط الأمر عليهم بين "جارية" و"حارثة"، وبين "جويرة"، و"جريرة"، و"حوثرة"، وهو اختلاف طالما نجده في أسماء وفي ألقاب الأشخاص الجاهليين، يقع بسبب التصحيف.

وهو من "بني حذافة"، كما يظهر من شعر ينسب لطرفة، وقد أشار "أبو دؤاد" في القصيدة الميميى التي تنسب اليه إلى "حذاق" بقوله: من رجال من الأقارب فـادوا  من حُذاق، هم الرؤوس الكرام 

وحذاق قبيلة من إياد.

وكان شاعرنا من إياد، وقد تزوج امرأة من قبيلته، ماتت بعد أن تركت له صبياً اسمه "دؤاد"، فتزوج امرأة أخرى، طلقها لأنها كانت تمقت ابنه، وكان ابنه شاعراً، رثى والده يوم وفاته. وقد تزوج "أبو دؤاد" امرأة أخرى هي "هي "أم حبتر" لكنها طلقته لتبذيره وإسرافه، وللخصومات التي كانت تقع بينهما. ويظهر انه ترك ابنة اسمها "دؤادة".

وقد ذهب "بروكلمن" إلى انه كان من المعاصرين للمنذر بن ماء السماء، الذي قدر وقته فيما بين حوالي "506" و "554" للميلاد. وذهب "فون غرونباوم" إلى انه كان حياً من سنة 480 إلى حوالي "540-550" للميلاد.

وقد ورد اسم "أبو دؤاد" في شعر "طرفة"، كما ذكره "الأسود بن يعفر"، الشاعر نديم "النعمان بن المنذر"، حيث يقول: ماذا أؤمل بـعـد آلِ مـحـرق  تركوا منازلهـم، وبـعـد إياد

أهل الخورنق والسدير وبـارق  والقصر ذي الشرفات من سنداد 

نزلوا بأنقرةٍ يسـيلُ عـلـيهـمُ  ماء الفرات يجيء من أطـواد

أرضن تخيرها لطيب مقيلـهـا  كعب بن مـامة وابـن أم دؤاد

وكعب بن مامة من إياد، وابن أم دواد، هو الشاعر أبو دؤاد "أبو دواد" الإيادي. و"انقرة" موضع بالعراق على مقربة من الحيرة. ويظهر من هذا الشعر، أن "إياداً"، أو فرعاً منها، نزلوا بأنقرة، بزعامة كعب بن مامة والشاعر أبو دؤاد.

وكان في عصر "كعب بن مامة" الإيادي، الذي آثر بنصيبه من الماء رفيقه "النميري" فمات عطشاً، فضرب به المثل في الجود، وبلغه عنه شيء فقال: وأتـانـي تـقـحـيم كـعـبٍ إلـى الـمـنـطـقِِ  إن الـــنـــكـــيثة الأقـــحــــــام

في نظام ما كنت فيه فلا يحزنك قولُ، لكل حسناء ذام 

ولقد رابني ابن عمي كعبُ  إنـــه قــــــد يروم مـــــــا لايرام

غير ذنـب بـنـي كـــنـــانة مـــنـــي  ان أفـارق فـــإنـــنـــي مـــجـــذام

وكان بعض الملوك أخافه، فصار إلى بعض ملوك اليمن فأجاره فأحسن اليه، فضرب المثل بجار أبي دؤاد، قال طرفة: إني كفاني من همٍ هممـت بـه  جار كجارِ الحذاقي الذي انتصفا 

والحذاقي هو "أبو دؤاد"، والحذاق قبيلة من إياد.

ويقال: انما أجاره الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، وذلك ان قباذ سرّج جيشاً إلى إياد، فيهم الحارث بن همام، فاستجار به قوم من إياد فيهم أبو دؤاد، فأجارهم.

وذكر ان جار "أبي دؤاد" هو كعب بن مامة، وكان "أبو عبيدة" يذكر ان جار "أبي دؤاد"، هو "كعب بن مامة"، وأنشد لقيس بن زهير ابن جذيمة في ربيعة بن قُرط: أحاول ما أحاول ثم آوي  إلى جارٍ كجارِ أبي دؤاد 

ويظهر أن "قباذ" لما أرسل جيشاً على "إياد" هربت من مواطنها فأجارها "الحارث بن همام". وورد في رواية أن جَدَباً حل بإياد، فاضطرت بطونها على الارتحال إلى مواضع أخرى، وكانت لهم ناقة اسمها "الزباء"، كانوا يتبركون بها، فخرجت تلتمس لهم الخصب والمرعىنحتى بركت بالحارث بن همام، فنزلت إياد عنده، وأجارهم.

وتذكر رواية أن "الحارث بن همام" ودى ابناً لأبي دؤاد، غرق حين كان أبو دؤاد في جواره، فمدحه. فحلف الحارث أنه لا يموت لأبي دؤاد ولد، إلا وداه، ولا يذهب له مال إلا اخلفه عليه.

ويرى "غرونباوم" أن "أبا عبيدة"، هو الذي صير "كعب بن مامة" الإيادي جار "أبي دؤاد"، وقد تابعه من جاء بعده على ذلك، فصار "كعب" بذلك مجير شاعرنا، بينما هو "الحارث بن همام". وسبب ذلك أن "كعباً" كان قد اشتهر بالكرم والإيثار وتقديم الغريب على نفسه، حتى أنه ضحى في سبيل صاحبه "النميري" حتى فضله بعض أهل الأخبار على "حاتم" الطائي في الجود. ثم عن كعباً من إياد، فربما فضل بنو إياد ان يكون منهم اسخى وأكرم رجل في العرب، على أن يكون من غيرهم، ولذلك افتخروا به، فنسبوا الجوار له، وحذفوه من "الحارث بن همام"، وهو من "بني شيبان".

وهناك رواية تجعل "المنذر" جاراً لأبي دؤاد، لأنه ودى أبناء "ابي دؤاد"، ودى كل ابن بمائتي بعير، حينما قتلهم "رقبة بن عامر" البهراني، وكان رقبة في جوار المنذر. وذكر "البغدادي"، أن أحد الملوك أحسن إلى "أبي دؤاد" واجاره، فضرب المثل بجار "أبي دؤاد"، ولم يذكر اسم الملك. قال طرفة: إني كفاني من أمر هممت بـه  جار كجار الحذاقي الذي انتصفا 

وقد ذكر "البغدادي" في الجزء الأول من الخزانة في تفسير بيت قيس بن زهير بن جذيمة: أطوّف ما أطوف ثم آوي  إلى جار كجار أبي دواد 

وأبو دواد، هو أبو دواد الإيادي الشاعر المشهور، وجاره كعب بن مامة الإيادي، الجواد المشهورنوقيل: بل هو الحارث بن همام بن مرة، وكان أسر أبا دواد ناساً من قومه، فأطلقهم واكرم أبا دواد واجاره فمدحه أبو دواد وأعطاه، وحلف أن لا يذهب له شئ إلا اخلفه له. ويقال ان ولد أبي دواد لعب مع صبيان في غدير فغمسوه فمات، فقال الحارث: لا يبقى صبي في الحي إلا غرق. فودى ابنه بديات كثيرة".

ونسب بعض رواة الشعر اليه القصيدة التي أولها: أعنّي على برقٍ أراه ومـيض  يضيء حبياً في شماريخ بيض 

وهي قصيدة تنسب أيضاً إلى "امرئ القيس".

ونسب "الأصمعي" له قوله: ويصيخ احياناً كما استمع المضل دعاء ناشد 

وقد تمثل بشعره، ومما تمثل به قوله: أكل امرئ تحسبين امرءاً  وناراً تحرق بالليل نارا

وقوله: الماء يجري ولا نظام لـه  لو وجد الماء مخرقاً خرقه 

ومن شعره: ترى جارنا آمناً وسطنـا  يروح بعقد وثيق السبب 

إذا ما عقدنا له ذمة=شددنا العناجّ وعقد الكرب أخذه الحطيئة، فقال: قوم إذا عقدوا عقداً لجارهمشّدوا العناج وشّدوا فوقه الكربا وكان الحطيئة من المقدرين لشعره. قيل له من أشعر الناس ?فقال: الذي يقول لا اعد الإقتار عدما ولكنفقدُ من قد رزئته الأعدام 

من قصيدة تعدّ من أجود شعره.

ومن شعره قطعة هجا فيها رجلاً اسمه "امرؤ القيس بن أروى"، إذ يقول فيه: امرأ القيس بن أروى مولياً  ان رآني لأبوأن بسـبـد

قلت بجلاً، قلت قولاً كاذباً  إنما يمنعني سـيفـي ويد

وقد وضع "غرونباوم" قبل هذين البيتين: بيتاً هو: وفتو حسن أوجـهـهـم  من إياد بن نزار بن معد 

وقد ورد في "اللسان" وفي التاج على هذه الصورة: في فتو حسن أوجههم=من إياد بن نزار بن مضر وعندي ان هذا البيت من الشعر المصنوع، لأن هذا النسب، لم يعرف إلا في الإسلام، ولا يوجد دليل يثبت وقوف الجاهليين عليه. وهو على الصورة التي ورد عليها في لسان العرب وفي تاج العروس خطأ، لأن نزاراً ليس ابن مضر في عرف أهل الأنساب، كما سبق ان تحدثت عن ذلك في باب العرب المتعربة.

وقد نسب هذا البيت إلى "الحارث بن دوس الإيادي".

ونجد الشاعر يرثي رجلاً اسمه "أبو بجاد"، نعته ب"أبي الأضياف في السنة الجماد"، وهذا الوصف هو من الأوصاف الدالة على غاية الكرم، إذ يلجأ الناس اليه في أيام الجوع وانحباس المطر وحصول القحط، حيث يجب ان يبخل الإنسان بماله من الإسراف في انفاقه، أما هو فلكرمه لا يحفل بسنة المحل سنة الجماد، بل يعطي وينفق على كل من يلجأ اليه مستجيراً. ولا نعلم من خبر "أبي بجاد" هذا شيئاً يذكر. وقد ورد في "تاج العروس": "وأبو البجاد شاعر سمي ببيت قاله: فويل الركب إذ آبوا جياعاً  ولا يدرون ما تحت البجاد

ولكن هل توجد صلة بين "أبي بجاد" الممدوح، وبين "أبي البجاد" الشاعر ? وجواب: لا.

وقد أشار "أبو دؤاد" إلى قتال وقع بين "بني شهران" وبين قوم آخرين لم يشر إلى اسمهم، وذلك في هذا البيت: وَلّت رجال بني شهران تتبعها=خضراء يرمونها بالليل من شمم وينسب رواة الشعر له شعراً زعم انه قال فيه: ضربنا على تُبـع جـزية  جياد البرود وخرج الذهب 

وولى أبو كرب هـاربـاً  وكان جباناً كثير الكـذب

واتبعته فهوى للـجـبـين  وكان العزيزُ لها من غلب 

وتبع، لقب يطلقه العرب على ملك حمير، فيقولون تبايعة اليمن، يريدون ملوك اليمن. و التبع "أبو كرب" هو الملك: "أبو كرب أسعد" وهو ابن الملك "ملك كرب يهأمن"، الذي حكم من سنة "385" حتى السنة "420" للميلاد. ولكن كيف ضربت "إياد" الجزية على "تبع"، وكيف وصل الشاعر إلى اليمن البعيدة عن إياد ? قد يقال إنه اشار إلى غزو قام به احد ملوك الحيرة على "أبي كرب أسعد"، تبع اليمن، أنتصر فيه ملك الحيرة على التبع، وكان هو وقومه قد ساهموا فيه، ولكننا لا نستطيع التأكد من ذلك، إذ من يثبت لنا أن هذا الشعر هو شعر صحيح، لم تصنعه العدنانية على لسانه في الإسلام حتى نصدق بصحة الخبر! ونجد في شعره إشارة إلى "قباذ"، والى "الحضر"، إذ يقول: أين ذو التاج والـسـرير قـبـاذ  خبنته الإيام فبادَ احدى الخُبـون

ولقد عاش آمـنـاً لـلـدواهـي  ذا عتاد وجـوهـر مـخـزون

وأرى الموت قد تدلى من الحضر  على ربّ أهله الـسـاطـرون

صرعته الاْ يام من بعد ملك ونعيم  وجـوهـر مـكــنـــون

ملك الخضر والفرات فما دجـلةً  شرقاً فالطـور مـن عـابـدين

ولقد كان في كتـائب خُـضـر  وبـلاط يشـاد بـالآخــرون

و"قباذ"ملك من الساسانيين حكم من سنة "483 -531" بعد الميلاد، وأما "الساطرون" فقد تحدثت عنه في الجزء الثاني من هذا الكتاب ولدينا قطعة من الشعر نسبت اليه، وردت فيها أسماء مواضع مثل: "هضب ذي الاْسناد"، و "السيلحين " و "برقة الاْثماد"، ثم أشار إلى معركة وقعت بين "إياد" قومه وبين "تنوخ" انتصفت " فيها "إياد" من تنوخ، إذ يقول: ولقد صَبين على تنوخٍ صبّة=فجزينهم يوماً بيوم قحاد وكان علماء العربية لا يستشهدون بشعر "أبي دؤاد" ولا بشعر "عدي بن زيد العبادي"، لاْن ألفاظها ليست بنجدية.

ذكر " الجاحظ" ان "أباد إياس" النصري، وكان أنسب الناس، كان يقول: "كانوا يقولون: أشعر العرب أبو دواد الإيادي، وعدي بن زيد العبادي".

ويروي "الاصمعي" ان الرواة لا تروي شعر أبي دؤاد ولا عدي بن زيد، لاْن ألفاظها ليست بنجدية، ولمخالفتهما مذاهب الشعراء، ولم يكن "الاْصمعي" ممن يهوى اليه كثيراً، بدليل انه جعل شعره صالحاً غير انه لم يجعله في عداد فحول الشعراء.

وورد في الاْخبار ان "الحطيئة"، كان يرى انه أشعر الناس. فقد ورد ان "سعيد بن العاص " سأل "الحطيئة: أي الناس أشعر ? قال: الذي يقول: لاأعد الإقتار عُدماً ولكن  فقد من قد رزئته الاْيام

وقائل هذا البيت، هو أبو دواد الإيادي.

وكان "أبو الاْسود" الدؤلي، وهو من الحذّاق العالمين بالشعر، يتعصب له.

وكانت "اياد" تفخر بشاعرها "أبي دؤاد"، وتقول: منّا أجود العرب: كعب بن مامة، ومنّا أشعر الناس: أبو دؤاد، ومنّا أنكح الناس: ابن الغز. وقد ادعت إياد أن الشعر بدأ بها، لإنه بدأ بأبي دؤاد.

وقد استشهد علماء شواهد النحو ببيت له، هو: ربما الجامل المؤبل فيهم  وعنانيج بينهن المهـار

وقد ذكر السيوطي أنه من قصيدة طويلة عدتها ثمانية وسبعون بيتاً.

وقد عدّه بعض أهل الأخبار في الشعراء المقلين. ونجد له شواهد في الأتعاظ والأمثال وفي الشعر الجيد وفي أمور النحو، وفي البديع. "ولدينا أحد عشر مطلعاً لإحدى عشرة قصيدة من قصائد أبي دؤاد وكلها مصرعة". ويرى "غرونباوم" قلة ما في شعر "أبي دؤاد" من الإقواء، فلم يقف في شعره إلا على اقواءين، ووجد بيتين، أحدهما من الرجز والآخر من الوافر، يبدو فيهما شيء من عدم الاستواء. وله مزايا خاصة استعملها في تفعيلات الخفيف. وأرى أن التشعيت الذي لاحظه "العيني" في الأصمعية "72"، "لا يعد خطأ، بل هو مظهر من مظاهر التطور الفني في هذا الوزن، مظهر استنكر أو نسي مع الزمن حين ظهر علم العروض، بعد حوالي قرنيين من وفاة أبي دؤاد".

وقد شرح ديوان "أبي دؤاد" العالم "ابن السكيت"، وقد نقل منه "البغدادي" في الخزانة. وقد ذكر "البغدادي" ان "لأبي دؤاد" ديواناً وقف عليه وأخذ منه، غير انه لم يذكر اسم جامعه. وفي الشعر المنسوب اليه شعر مصنوع، وقد ذُكر ان "خلف الأحمر" صنع على أبي دؤاد أربعين قصيدة. ونجد في الشعر الذي جمعه "غرونباوم" لأبي دؤاد شعراً لا يصح انه من شعره، كما ان في شعره ما نسب لغيره، ومنهم شعراء من إياد، مثل "أبي المنذر" الإيادي.

ومن شعراء "إياد": "لقيط بن يعمر"، وقيل "معمر" الإيادي. وإياد من قبائل هذا الحلف عدداً، قيل انهم لقاحاً لا يؤدون خرجاً، وهم أول معدي خرج من تهامة، فنزلوا السواد، وغلبوا على ما بين البحرين إلى "سنداد" و"الخورنق". وكانوا أغاروا على أموال لأنو شروان فأخذوها، فجهز اليهم الجيوش، فهزمهم مرة بعد مرة، ثم ان إياداً ارتحلوا حتى نزلوا الجزيرة، فوجه اليهم كسرى بعد ذلك ستين ألفاً في السلاح، وكان "لقيط" متخلفاً عنهم بالحيرة، فكتب اليهم: سلام في الصحيفة من لقيط  إلى من بالجزيرة من إياد

بأن الليث كسرى قد أتاكـم  فلا يشغلكم سوق النـقـاد

أتاكم منهمُ ستـون ألـفـاً  يُزجون الكتائب كالجـراد

فاستعدت إياد لمحاربة جنود كسرى، ثم التقوا، فاقتتلوا قتالاً شديداً، أصيبت فيه من الفريقين، ورجعت عنهم الخيل، ثم اختلفوا بعد ذلك، فلحقت فرقةُ بالشام، وفرقة رجعت إلى السواد، وأقامت فرقة بالجزيرة. ونسبوا له قصيدة أخرى، ذكروا انه نظمها في هذه القصيدة. من جملة ما ورد فيها: قوموا قياماً على أمشاط أرجلكـم  ثم افزعوا قد ينال الأمر من فزعا 

هيهات ما زالت الاموال من أبـد  لأهلها إن اصيبوا مرة تـبـعـا

ومنها قوله في اختيار الرئيس وتدبير الحرب والانصياع للقائد: وقـلـدوا أمـركـم لـلـهِ دركـمُ  رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا 

لا مترفاً إن رخاء العيش سـاعـده  ولا إذا عض مكروه بـه جـزعـا

ما زال يحلب هذا الدهر اشـطـره  يكون مُتبعاً طـوراً ومُـتـبـعـاً

حتى استمرت على شرز مريرتـه  مستحكم السنّ لا قحماً ولا ضرعـاً

وأنا إذ أذكر "لقيط بن يعمر" في هذا الفصل، فلا أريد بذلك اثبات انه كان من الشعراء النصارى، لاني لا أملك نصاً بذلك، إنما أدخلته هنا لمجرد أنه شاعر من شعراء إياد، كما ادخلت "أبا دؤاد" الإيادي فيه لما ذهب "نالينو" إلى انه من النصارى، وقد كانت النصرانية متفشية في إياد وتغلب، وقبائل أخرى من قبائل العراق وبلاد الشام، والبادية التي بينهما.

أما "عدي بن زيد" العبادي، فهو نصراني من غير شك، فالعباديون، نصارى، وقد اطلقت اللفظة عند العرب على النصارى، نصارى الحيرة، كما نص أهل الأخبار على تنصره. وقد كان شعره سهلاً ليناً، بعيداً عن شعر شعراء نجد، قال "الأصمعي": "كانت الرواة لا تروي شعر أبي دؤاد ولا عدي بن زيد لمخالفتها مذاهب الشعراء" أو "لأن ألفاظهما ليست بنجدية".

وقد روى "الجواليقي" له شعراً في كتابه "المعرب"، وهو كتاب ألفه في المعربات، وفي استشهاده بشعره دلالة على تأثره بالآرامية وبالفارسية التي درسها في "الكتاب".

واذا أخذنا بمذهب "الأصمعي" من ان الرواة كانت لا تروي شعر أبي دؤاد ولا عدي بن زيد، لمخالفتهما مذاهب الشعراء، وما ذكره غيره لان ألفاظهما ليست نجدية، ولأن عدياً سكن الريف، فلان شعره وبان ذلك على لسانه، ولأنه تأثر بلغة أهل الحيرة، واستعمل ألفاظهم، وما شاكل ذلك من حجج، وجب علينا رفض الاستشهاد بشعر "أمية بن أبي الصلت" كذلك، فقد كان من أهل قرية، وقد استعمل في شعره ألفاظاً لم تعرفها العرب، ةقرأ الكتب، كما يجب إدخال "الأعشى" معهما أيضاً، لأنه خالط أهل الريف، واتصل بالحضر وبالأعاجم، واستعمل في شعره الفاظاً معربة، كما اختلف مذهبه في الشعر عن مذهب شعراء البادية الاعراب، فضلاً عن كونه من أهل اليمامة، وأهل اليمامة ممن اختلط لسانهم بلسان أهل اليمن، وتأثر بهم.

ويخالف شعر "عدي" شعر شعراء نجد في ابتعاده عن الأعاريض الطويلة وميله إلى الأعاريض القصيرة، كما يخالفهم في أسلوب خمرياته، فهو في وصفه الخمر قريب من أسلوب "الأعشى" في الخمريات. وله أوصاف بديعة للخمر، تعبر عن معان حضرية، نابعة من طبيعة القرى والريف، وبهذا الوصف اختلف عن وصف امرئ القيس أو غيره من شعراء للخمر. كما امتاز بوصفه القيان ومجالس الشرب، وما كانت تولده له من نشوة وطرب، واتخذ "عدي" من الخمر، فلسفة دفعته إلى الزهد ونبذ الغرور، لأن الدنيا زائلة، وكل شيء فيها لا بد وأن ينتهي إلى الزوال. وهو شعر انبثق من طبيعة "عدي بن زيد" ثم من الأحوال التي مرت عليه، والتي انتهت به إلى السجن، بعد أن وصل أعلى ما يصل اليه إنسان في زمانه وفي مكانه.

واتخذ "عدي" من القصص القديم عبراً وجهها من سجنه إلى "النعمان" والى الشامتين به، الحاسدين له، الذين كانوا سبب نكبته، بأن قال: أيها الشامت المـعـير بـالـده  ر أأنت المبـرأ الـمـوفـور

أم لديك العهد الوثيق مـن الأي  ام بل أنت جاهـل مـغـرور

من رأيت المنون خلدن أم مـن  ذا عليه من أن يضام خـفـير

أين كسرى كسرى الملوك أنوشر  وان أين قـبـلـه سـابــور

وبنو الأصفر الكرامُ ملـوك ال  روم لميبق منـهـم مـذكـور

وأخو الحضر إذ بـنـاه وإذ دج  لة تجبـي الـيه والـخـابـور

شاده مرمـراً وجـلـلـه كـل  ساً فللطـير فـي ذراه وكـور

لم يهبه ريب المنون فبـاد الـم  لك عنه فبـابـه مـهـجـور

وتذكر رب الـخـورنـق إذ ش  رّف يوماً وللهـدى تـفـكـير

سرّه مـالـه وكـثـرة مـا يم  لك والبحر معرضاً والـسـدير

فارعوي قلبه فقال: ومـا غـب  طة حي إلى الممـات يصـير

ثم بعد الفـلاح ولامـلـك والأ  مة وارتهم هنـاك الـقـبـور

ثم أضحـوا كـأنـهـم ورق ج  فَّ فألوت به الصّبا والـدبـور

وله شعر آخر أوله: أتعرف رسم الدار من أم معبد  نعم، فرماك الشوق قبل التجلد 

قالى فيه: أعـاذل مـا يدريك أن مـنـيتــي  إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد 

ذريتي فإني انما لـيَ مـا مـضـى  أمامي من مالـي إذا خـف عـودي

وحمّت لـمـيقـات إلـيّ مـنـيتـي  وغودرت قد وسـدت أو لـم أوسّـد

وهو شعر نبع من واقع حاله الذي صار اليه، فهو لا يدري متى وفي أية ساعة ستأتيه منيته. ومن زج في سجن مثل سجنه، وصار في حال مثل حاله، يكون قلقاً لا يدري ما الذي سيكون مصيره، فهو شعر يعبر عن شعور انساني ينتاب الإنسان في مثل هذه المواقف، ليس له علاقة بنصرانية أو بدين.

والشعر المذكور إن صح انه من شعر "عدي"، وانه غير مصنوع ولا معمول عليه، يكون قد قدم لنا قصصاً قديماً من قصص أهل الجاهلية، وحكايات كانوا يروونها من حكايات التأريخ، ويكون بذلك شاهداً على ان أهل الحيرة، و المثقفين منهم بصورة خاصة كانوا يعرفون تأريخ الماضين، وقد وقفوا على تأريخ الفرس وتأريخ الروم، والحضر، وتأريخ غيرهم من شعوب معاصرة لهم، ومن شعوب غابرة، وردت أخبارها في الكتب القديمة، ولا سيما في الكتب المقدسة وفي كتب التواريخ. فنحن نجد له قصيدة أشار فيها إلى خطيئة آدم، وهذه الخطيئة تلعب دوراً خطيراً في كل الأديان السماوية المعروفة التي أقرت بالكتب المقدسة، وقد صاغ قصتها على هذا النحو: قضى لـسـتة أيّام خـلـيقـتـه  وكان آخرها أن صوّر الـرجـلا

دعاه آدم صوتاً فاسـتـجـاب لـه  بنفخة الروح في الجسم الذي جبلا 

ثُمت أورثهُ الفردوسَ يعمـرهـا  وزوجه صنعة من ضلعه جعـلا

لم ينههُ رَبهُ عـن غـير واحـدة  من شجرٍ طيب: أن شَم أو أكـلا

فكانت الحيّة الرقشاء إذ خلـقـت  كما ترى ناقة في الخلق أو جملا

فعمدا للتي عن أكـلـهـا نُـهـيا  بأمر حواءَ لم تأخذ لـه الـدّغـلا

كلاهما خـاط إذ بُـزا لـبـوسـهـا  مِن ورق التين ثوباً لـم يكـن غـزلا

فلاطَهما الله إذ أغـوت خـلـيفـتـهُ  طول الليالي ولم يجعل لـهـا أجـلا

تمشي على بطنها في الدهر ما عَمرت  والترب تأكله حـزنـاً وإن سُـهـلاً

فأتعبـا أبـوانـا فـي حـياتـهـمـا  وأوجد الجوع والاْوصاب والعـلـلا

وأوتيا المـلـكَ والانـجـيل نـقـرأه  نشفى بحكمته أحـلامـنـا عـلـلا

من غير ما حاجة إلا لـيجـعـلـنـا  فوق البرية أربابـاً كـمـا فـعـلا

والشعر هذا مذكور في كتاب "الحيوان" للجاحظ، وفي ذكره له، دلالة على أنه قد كان معروفاً في أيامه، وهو يستند على ما ورد في "سفر التكوين" السفر الاْول من أسفار التوراة، وفيه قصة الخليفة، ونجد قصة الحية في شعر "أمية بن أبي الصلت"، حيث يقول: كذي الاْفعى تَربَبّها لـديه  وذي الجني أرسلها تساب 

فلا ربّ البريّة يأمنـهـا  ولا الجني أصبح يستتاب

وقد دوّن هذين البيتين "الجاحظ" كذلك في كتابه: "الحيوان"، مما يدل على أنهما كانا معروفين، وهما من قصيدة ذكرها الجاحظ قبلهما في رطوبة الحجارة، وأن كل شيء قد ينطق، ثم عن منادمة الديك الغراب، واشتراط الحمامة على نوح.

وقصة "عدي" قصة أوضح وأقرب إلى الأصل المذكور في الاصحاحات الثلاثة الأولى من سفر التكوين، من القصة المذكورة في الشعر المنسوب إلى "أمية". يظهر أن ناظمها قد صاغها عن مطالعة وعن إلمام عام بها. فهي في الواقع قصيدة شملت قصة دينية، ضمت اسطورة الخلق كما جاءت في الاصحاحات المذكورة، مع بعض "الرتوش" والإصحاحات التي اقتضتها طبيعة نظم الشعر، وقد لخصها تلخيصاً حسناً قريباً من الأصل، يدل على إحاطة به. ولعله من وضع شاعر أحب صوغ هذه القصة في شعر، فنظمها ونسبها إلى "عدي بن زيد".

وقد ظل العباد يتغنون بخمريات وبشعر "عدي" أمداً طويلاً بعد وفاته. وقد كان "القاسم بن الطويل" العبادي، أحد ندماء "الوليد" الثاني ممن يروون شعره، وحبذه إلى الخليفة، الذي كان شاعراً يحب الخمر، وينظم الشعر فيها مما صار باب من أبواب الخمريات في الشعر الإسلامي. ومن شعره قوله: أيها القلب تعلـل بـددن  إنّ همي في سماع واذن 

ومن الشعراء النصارى الذين نص أهل الأخبار على تنصرهم: "موسى بن جابر بن أرقم بن سلمة بن عبيد" الحنفي اليمامي، المعروف ب"أزيرق اليمامة"، وبابن ليلى، وهي أمه، وكان نصرانياً. قال عنه "المرزباني" انه شاعر كثير الشعر، وقد أورد له نتفاً من شعره، ويمتاز ما ذكره بالبساطة والسهولة والليونة وهو يختلف بأسلوبه عن شعر الأعراب.

أما "الأعشى"، وقد تحدثت عنه، فهو من اليمامة، وقد كان معظم أهل اليمامة على النصرانية عند ظهور الإسلام، ولذلك فقد يكون على النصرانية، غير اننا لا نستطيع أن نأتي بدليل مقبول يثبت تنصره، وقد رأينا ان أهل الأخبار كانوا قد جعلوه في عداد "القدرية" و "أهل العدل"، زعموا انه أخذها من "الحيرة"، وكانوا عبّاداً، وكان يزورهم يشرب الخمر عندهم، كما كان روايته "يحيى بن متى" نصرانياً، لا يعني انه كان نفسه نصرانياً، وأما ما جاء في شعره من قصص وأمور معروفة عند النصارى، فلا يكون دليلاً على تنصره، فقد وردت مثل هذه الأمور في شعر غيره، ولم ينص أحد على تنصرهم، ثم ان شعره لا ينم على تعمق نصرانية، لكني لا أريد أن أثبت انه كان وثنياً، فوثنية الأعشى أو نصرانيته تخصه وحده، وأنا لا أريد أن أنقص عدد النصارى، وأن ازيد في عدد الوثنيين، وانما هو رأي واستنتاج ليس غير.

ومن شعره الذي تطرق فيه إلى أمور نصرانية قوله: فما أبيلي عـلـى هـيكـل  بناه وصَلّب فـيه وصـارا

يراوح من صلوات الملـيك  طوراً سُجوداً وطوراً جُوارا 

بأعظم منك تقي في الحساب  إذا النسمات نفضن الغبـارا

وهي من قصيدة مدح فيها "قيس بن معد يكرب" الكندي. وقد اتخذ "المعري" هذا الشعر دليلاً على ايمان الأعشى بالله و بالحساب و بالبعث، مما استوجب إدخاله في الجنة.

وهناك أفكار نصرانية نجدها في شعر "النابغة" وفي شعر "زهير"، و"لبيد"، غير أننا لا نستطيع أن نقول إنهم كانوا نصارى، لوجود هذه الأفكار في شعرهم، فمن الجائز ان يكون ورودها في شعرهم نتيجة لاختلاطهم بالنصارى، وقد كانوا يكثرون من الذهاب إلى الحيرة، لمدح ملوكها طمعاً في نيل عطاياهم، فاحتكوا بذلك بنصاراها، وورد قصص نصراني في شعر أو نثر لا يدل حتماً على تنصر الناثر أو الشاعر، كما أن وقوف شخص على دين من الأديان، لا يدل حتماً على أعتناقه لذلك الدين. ومن هنا أخطأ الأب "لويس شيخو" في دعواه بتنصر أكثر الشعراء الجاهليين.

ونجد في شعر امرئ القيس إشارات إلى معالم نصرانية، مثل الرهبان وصلواتهم وسهرهم، والى مصابيحهم، مثل قوله: نظرت اليها والنجوم كانهـا  مصابيح رهبان تشب لقفال 

ولكننا لا نستطيع إثبات أنه كان من النصارى.

و"حاتم الطائي" من شعراء طيء، وقد مات قبل الإسلام، وقبر ب"عُوارض" جبل فيه قبره ببلاد طيء. وهو "حاتم بن عبد الله بن سعد ابن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي"، ويكنى "أبا سفانة" بابنته، وابنه "عدي بن حاتم" من الصحابة. واليه ينسب المثل "لو غير ذات سوار لطمتني".

وسبب قوله اياه-كما يقول ذلك الرواة-ان حاتم الطائي كان أسيراً في "عنزة"، فقال له امرأة يوماً: قم فافصد لنا هذه الناقة ! وكان الفصد عندهم ان يقطع عرقاً من عروق الناقة، ثم يجمع الدم فيشوى. فقام حاتم إلى الناقة فنحرها، فلطمته المرأة. فقال حاتم: "لو غير ذات سوار لطمتني" فذهب قولاً. وروي أيضاً انه قال:: ?"هذا فصدي"، يريد انه لا يصنع إلا ما تصنع الكرام. وقد نسب هذا المثل لكعب بن مامه، وذلك انه كان أسيراً في عنزة فأمرته أم منزله أن يفصد لها ناقة، فنحرها، فلامته على نحره اياها، فقال: هكذا فصدي. ويلاحظ ان "الجاحظ" وغيره يقدمون"كعب بن مامه" على حاتم الطائي في الجود، "لاْن كعباً بذل نفسه في أعطية الكرم وبذل المجهود فساوى حاتماً من هذا الوجه، وباينه ببذل المهجة". كما نلاحظ ان بعض أخبار الجود المنسوبة إلى "حاتم" تنسب إلى "كعب بن مامه كالذي رأيته في تفسير المثل: "هكذا فصدي".

ولما بلغ حاتم قول المتلمس: قليل المال يصلحه فيبقـى  ولا يبقى الكثير مع الفساد 

وحفظ المال خير من فناء  وعسففي البلاد بغير زاد

قال قطع الله لسانه، حمل الناس على البخل فهلا قال: فلا الجود يفني المال قبل ذهابه  ولا البخل في مال الشحيح يزيد 

فلا تلتمس مالاًبعيش مُـقـتـر  لكل غـد رزق يعـود جـديد

ألم ترَ أن الـرزق غـاد ورائح  وأن الذي أعطاك سوف يعـيدُ

وذكر أن "زيد الخيل" عير حاتماً في خروجه من طيْ ومن حرب الفساد التي وقعت بين جديلة والغوث إلى "بني بدر" حيث يقول: وفرّ من الحرب العوان ولم يكن  بها حاتم طَباً ولا متـطـبـبـا

وريب حصناً بعد أن كان آبـياً  أبوة حصنٍ فاستقال واعتـبـا

أقم في بني بدر و لا ما يهمنـا  إذا ما تقضت حربنا أن تطربا

وقد أسره "ثوب بن شحمة" العنبري، وكان شريفاً في قومه، وكان يقال له "مجير الطير"، لأنه أجار الطير في أرضه، فكان لا يثار و لا يصاد بأرضه. فقال حاتم: إذا ما بخيل الناس هَـرّت كـلابـه  وشقّ على الضيف الغريب عفورها 

فإني جبان الكلب بـيتـي مـوطـأُ  جواد إذا ما النفس شحّ ضمـيرهـا

ولكن كلابي قـد أقـرت وعُـوّدت  قليل على من يعتريها هـريرهـا

وظل "حاتم" أسيراً عنده زماناً، وقد عُيّر "ثوب بن شحمة" بأنه وقومه أكلوا لحم المرأة، فقال شاعر: عجلتم ما صادكم علاج  من العنوق ومن الدجاج 

حتى أكلتم طفلة كالعاج وقد وصفت ابنته أباها للرسول، وكان قد سألها عن أبيها على هذه الصفة: "كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يردّ طالب حاجة قط". ووصفه "ابن الأعرابي" بقوله: "كان جواداً يشبه شعره جوده، ويصدق قوله فعله... إذا غنم أنهب وإذا سئل وهب... وإذا أسر أطلق". ويجب أن تكون وفاة "حاتم" غير بعيدة عن ظهور الإسلام.

ولأهل الأخبار قصص عن جود حاتم وكرمه، ويبدأون به غلاماً، يرعى إبل والده، فمرّ به "عبيد الأبرص"، و"بشر بن أبي خازم"، و "النابغة الذبياني"، وهم يريدون "النعمان" فنحر لهم ثلاثة من الإبل، وهو لا يعرفهم، ثم سألهم عن أسمائهم، فتسمّوا له، ففرق فيهم الإبل كلها، وبلغ أباه ما فعل، فاعتزله. ثم يروون انه ذبح فرسه، لما جاءته جارة له، فشوى لحمها لها ولأولادها الجياع، ثم استدعى بقية جيرانه فأطعمهم، وبقي هو وأهله جياعاً، ولم يكن لديه آنذاك غير فرسه هذه. ثم يروون قصصاً آخر مشابهاً، يمتد إلى ما بعد وفاته، حيث يذكرون قصة رجل اسمه "أبو خيبري"، ذكروا انه مرّ بقبر أبو خيبري يصيح: واراحلتاه! فقال له أصحابه: ما شأنك? فقال: خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر اليه، فنظروا إلى راحلته فإذا هي لاتنبعث، فقالوا: قد والله قراك، فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها، ثم أردفوه وانطلقوا، فبيناهم كذلك في مسيرهم، طلع عليهم "عدي بن حاتم" ومعه جمل أسود قد قرنه ببعيره، فقال: ان حاتماً جاءني في المنام فذكر لي شتمك اياه، وانه قراك وأصحابك راحلتك، وقد قال في ذلك أبياتاً، ورددها عليَّ حتى حفظتها: أبا خيبريّ وأنت امرؤُ  حسود العشيرة لوّامها 

فماذا أردت إلى رمّة  بداويّة صَخب هامها

تُبَغّي أذاها وإعسارها=وحولك عوفُ وأنعامها وأمرني بدفع جمل مكانها اليك، فخذه، فأخذه.

ولأهل الأخبار قصة في كيفية تزوج "حاتم" "ماوية بنت عفزر"، وكيف وجد عندها "النابغة"، ورجلاً من النبيت، يريدان الزواج منها، لما وصل اليها، وكيف امتحنتهم بقولها لهم: انقلبوا إلى رحالكم، وليقل كل رجل منكم شعراً يذكر فيه فعاله ومنصبه فإني متزوجة أكرمكم وأشعركم، ثم تذكر القصة تفصيل ما وقع بأسلوب منمق مقروناً بشعر وقرار"ماوية" بتفضيل حاتم عليهما. وتذكر قصة أخرى ان "ماوية" كانت ابنة من بنات ملوك اليمن، وكانت ذات جمال وكمال ومال، فآلت ألا تزوج نفسها إلا من كرام الناس، فقدم عليها حاتم، وزيد الخيل، وأوس بن حارثة لأم، فتقدم كل واحد يخطبها، فقالت ليصف كل واحد منكم نفسه في شعره، فلما أنشدوا فضلت "حاتم" الطائي عليهما، فزوجت نفسها منه. وذكر ان "معاوية" كان يهوى حديث "ماوية".

وهم يذكرون أن جود "حاتم" جاء اليه من أمه "عنبة"، التي كانت سخية إلى حدّ الإسراف، حتى حبسها اخوتها سنة في بيت لعلّها تكف عما كانت عليه، إذا ذاقت طعم البؤس وعرفت فضل الغنى، ثم أخرجوها ودفعوا اليها صرمة من مالها، فأتتها امرأة فسألتها، فقالت لها: دونك الصرمة، فقد والله مسني الجوع ما آليت معه ألا أمنع الدهرَ سائلاً شيئاً! ثم أنشأت تقول: لعمري لقدماً عضني الجوعُ عضة  فآليت ألا أمنع الدهـر جـائعـا

فقولا لهذا الائمي الآنَ أعفـنـي  وإن أنتَ لم تفعل فعض الأصابعا

و لا ما ترون اليوم إلا طـبـيعة  فكيف بتركي، يا ابنّ أمَّ، الطبائعا

ونسب لحاتم قوله: واني لاستحي حـياءً يسـرنـي  إذا الؤمُ من بعض الرجال تطلعا

إذا كان أصحاب الإنـاء ثـلاثة  حيياً ومستحياً وكلباً مُجَـشَّـعـا

فإني لأستحي أكلـيكـي أن يرى  مكانَ يدي من جانب الزاد أقرعا 

أكفُّ يدي من أن تمس أكفـهـم  إذا نحن أهوينا وحاجتنا مـعـا

وإنك مهما تعط بطنَك سُـؤلـه  وفرجك نالا منتهى الذم أجمعـا

وتنسب له قصيدة طويلة هي: وعاذلتين هبتا بعد هجـعة  تلومان متلافاً مفيداً ملوما 

تلومان لمّا غوّر النجم ضلة=فتى لا يرى الانفاق في الحمد مغرما إلى أن يقول: ولن يكسب الصعلوك حمداً و لا غنى  إذا هو لم يركب من الأمر معظمـا

لحا الله صعلوكـاً مـنـاه وهـمّـه  من العيش أن يلقي لبوسا ومغنمـا

ينام الضحى حتى إذا نومه استـوى  تنبه مثـلـوج الـفـؤاد مـورمـا

مقيماً مع المثـرين لـيس بـبـارح  إذا نال جدوى من طعام ومجثـمـا

ولـلـه صـعـلـوك يسـاور هــمـــه  ويمضي على الأحداث والـدهـر مـقـدمـا

فتى طلبات لا يرى الخمص تعذيباً ولم يلق شبعة  يبيت قلبـه مـن قـلة الـهـم مـبـهـمـا

وهي أبيات أرى أنها من هذا الشعر الذي يشك في أكثره، مثل الشعر المقال على لسان عروة والصعاليك، يظهر أن الظروف الاجتماعية جعلت الأدباء ينظمون على لسانهم، يتشكون فيها من ظلم الأغنياء، لما كانوا يرونه من قسوة أصحاب المال على المعدمين والبائسين.

ويشك في كثر من شعر حاتم. وقد صار حاتم بالقصص الوارد عنه من الأبطال المعروفين عند غير العرب أيضاً، فنجد له ذكراً في الفارسية وفي التركية، وألف فيه في اللغات الأوروبية، وطبع ديوانه جملة طبعات. وكان يشبه شعر النمر بن تولب بشعر حاتم الطائي، وكانا يشتركان في الجود وإتلاف الأموال وأريحية الطبع والتغني بذلك في الشعر.

وكان "حاتم" على النصرانية على ما يظن، وقد كان ابنه "عدي" عليها.

و"جابر بن حُنَيّ بن حارثة بن عمرو بن بكر" من شعراء تغلب. وله قصيدة مطلعها: ألا يا لقومي للجديد المصـرم  وللحلم بعد الزلّة، المتـوهـم

وللمرء يعتاد الصبابة بعـدمـا  أتى دونها ما فرطُ حول مجرّم 

ذكر ان سبب قوله لها، ان "المنذر بن ماء السماء" كان يبعث "عمرو بن مرثد بن سعيد بن مالك"، و"قيس بن زهير" الجشمي، على إتاوة ربيعة، وكانت ربيعة تحسدهما، فجاء "عمرو" يوماً، فقال جلساء الملك حسداً له: انه يمشي كأنه لا يرى أحداً أفضل منه! فجاء فحيّا الملك بتحية، فقال جابر هذه القصيدة. وقد أدخله "بروكلمن" في عداد الشعراء النصارى.

ويذكر انه هو "جابر" المذكور في البيت المنسوب لامرئ القيس، وهو: فإما تريني في رحالة جـابـر  على حرج كالقر تخفق أكفاني 

وكان امرؤ القيس آنذاك مريضاً، فكان "جابر" و"عمرو بن قميئة"، يحملانه على الرحالة، وهي خشبات، وهي الحرج.

الفصل السابع والستون بعد المئة
آراء الشعراء الجاهليين

والشعر الجاهلي مادة مهمة تعيننا في الوقوف على آراء الجاهليين، على الرغم من كون أكثره قد ورد في أمور لا صلة مباشرة لها بالرأي، أعني بالتفكير في خلق الكون وفي الإنسان نفسه، لِمَ جاء ولِمَ يموت، وما هي الغاية من ظهوره على هذه الأرض، وعن الخلق والخالق، من إثبات أو عدم، وعن النظم وأصول الحكم والمجتمع والمعرفة والثقافة وما شاكل ذلك من أمور لها صلة بالتأمل والتفلسف. ومع ذلك فإن في هذا الشعر المذكور، ما لا يكفي لاستنباط شيء منه عن الرأي عند الجاهليين.

لقد حمل خلو الشعر الجاهلي من العاطفة الدينية، بعض المستشرقين على الحكم بأن الجاهليين لم يكونوا يملكون حساً دينياً، وان دينهم سنتهم، وسنتهم ما ألفوه عن آبائهم وأجدادهم وأعراف قبيلتهم، وهي أعراف ورثوها وحافظوا عليها، محافظتهم على حياتهم، وقاوموا كل من كان يخرج عليها أو يتطاول عليها. ونجد الشعراء يمجدونها ويذكرونها على حين لا نشعر بوجود حس ديني في شعرهم، اللهم إلا في شعر عدد قليل من الشعراء.

والشعر الجاهلي خلو من الشعر الديني الذي يجب أن ينظم في المناسبات الدينية، مثل الحج. ولما كان الحج من المناسبات المؤثرة المثيرة، التي تجمع الناس، فتثير في الشاعر شعوراً بروعة المناسبة وبروعة الاجتماع، فلا بد وأن ينظم الشعراء شعراً فيه، لإنشاده على المتجمعين حول الصنم، غير أننا لا نملك أي شعر قيل فيه و لا في المناسبات الدينية المماثلة التي تدفع الإنسان إلى إظهار شعوره فيها. وهو أمر يلفت اليه النظر حقاً، ويجعلنا نفكر في الأسباب التي أدت إلى عدم ظهور الروح الدينية في هذا الشعر، هل هي طبيعة العربي في عدم اهتمامه بأمور الدين أم هي بسبب كره الإسلام رواية وحفظ ذلك الشعر الوثني!   

لقد نسب بعض المستشرقين خلو الشعر الجاهلي من الوثنية، إلى ترك المسلمين تعمداً رواية ذلك الشعر، بسبب دخولهم في الإسلام واجتثاث دين الله لمعالم الشرك فلم يجد المسلم أن من الهيِّن عليه، حفظ شعر فيه تنويه بما أبطله وحرمه كتاب الله، فرموا منه ما كان ثقيل الوثنية، وهذبوا منه ما كان خفيف الوزن، بأن رفعوا أسماء الأصنام، وأحلوا محلها اسم الله إن ناسب الإسم المعنى، أو شذبوا فيه وأضافوا شيئاً عليه لإزالة معالم الوثنية منه. لأن من الصعب تصور إعراض الشاعر الجاهلي عن ذكر أصنامه في شعره، بينما هو يتوسل ويتقرب اليها، وينذر لها. فالوثني مهما كان رقيق الدين، بعيداً عن التفكير فيه، فإنه لا بد وأن يلجأ اليه ساعة الشدة وأيام المحن، حيث يبحث عمن يساعده للخروج من محنته، شأنه في ذلك شأن أي إنسان آخر، حين تنزل به النوازل، فيلجأ حينئذ إلى إلهه أو آلهته وأصنامه والى القوى الطبيعية يستمد منها المساعدة والعون.

وأنا لا أستبعد احتمال موت هذا النوع من الشعر الوثني بسبب الإسلام، فليس من المعقول إبقاء الإسلام له، وفيه ما فيه من أمر الأصنام والوثنية المناهضة لدين الله. وعندي ان الجاهلي، مهما قيل عنه من إعراضه عن الدين ومن عدم احتفاله به، ومن بعده عنه، إلا انه كان مع ذلك شديد التمسك به في الأمور التي تمس حياته، مثل التوسل إلى الآلهة بأن تبارك في إبله، وأن تمنحه الغيث، وأن تشفيه من مرضه، إلى غير ذلك من أمور، ذات صلة بالمصالح الشخصية للانسان. ودليل ذلك، هو ان معظم ما نجده في نصوص المسند من كتابات، خلدت أسماء الأصنام، انما دونت فيها الأسماء لمثل هذه الأمور فإذا كان الأمر كذلك فنحن لا نستطيع استثناء الشعر الجاهلي من ذكر الأصنام في أمثال هذه المناسبات على الأقل، فالشاعر مثل أي انسان آخر، لا بد وأن يشعر في يوم ما بعجزه وبحاجته إلى مخاطبة أربابه وأن يتوسل اليها لتنفعه أو لتمن عليه بالصحة والعافية وبالمال، يتوسل اليها شعراً، فيمدحها ويشيد بذكرها، ويسترضيها، اقتداء بفعله مع الملوك وسادات القبائل، حيث يكيل المدح لهم شعراً لأنهم أحسنوا اليه.

وقد ورد اسم "الله" في الشعر وفي النثر الجاهليين، على نحو ما ذكرت في الجزء السادس من هذا الكتاب. لقد ذكرتُ هناك أن غالبية المستشرقين شكت في صحة ورود اسم الله في هذا الشعر، ورأت أن رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر، وذلك أنهم حذفوا منه أسماء الأصنام، وأحلّوا محلها اسم الله. فما جاء فيه اسم "اللات" حل محله اسم الله وهكذا. وذلك لأعتقادهم أن الوثنيين لم يكونوا يؤمنون بالله، فلا يعقل ورود اسمه في شعرهم. وهو رأي لا أقرهم عليه، لأن الجاهليين كانوا يؤمنون بالله، ولم يكونوا ينكرون وجوده أبداً، بدليل ما نجده في القرآن من تأكيد بأنهم كانوا يؤمنون به، وانهم كانوا إذا سألهم سائل من خلق الكون ليقولن الله. وقد ذكرت في حينه كل الآيات الواردة في القرآن الكريم عن هذا الموضوع. وبينت أن أهل مكة وغيرهم من العرب الشماليين، كانوا يؤمنون بإلَه واحد هو الله، ولم يكن بينهم وبين الإسلام خلاف فيه، وخلافهم معه هو في تقربهم إلى الأصنام والأوثان، لتشفع لهم، بزعمهم، إلى اله زلفى. مع أنها أجسام جامدة وأحجار لا حياة فيها، فمن هنا حمل الإسلام عليها، واعتبرها شركاً بالله، لأنهم بتقربهم اليها يكونون قد أشركوها مع الله في ألوهيته، وهذا هو الكفر والضلال في نظر الإسلام. ولذلك أمر بالابتعاد عنها وبنبذها وبنبذ كل ما يتصل بها من عبادة، كما أمر بطمس الصور، ومحوها لأنها من دلائل هذه الوثنية ومن معالمها.

وقريش نفسها لم تنكر على الرسول تعبده لله، ولم تمنعه من الصلاة في بيت الله، ومن ذكره وحمده له، لأنها تختلف معه في عبادته، وإنما اختلف معه، فيما هو دون الله من أصنام وأوثان، وذلك حين عابها وسفه أحلامهم بتقربهم اليها وهي جامدة مخلوقة مصنوعة، عندئذ هاجت وماجت واشتكت إلى أعمام رسول الله والى ذوي رحمه، ومن هنا كان عناد قريش وكفرها وعداوتها للرسول. كما نص على ذلك صراحة في القرآن وفي كتب السير. وأخذت تؤذيه وتؤذي المسلمين كلما ازداد هجوم الإسلام على الأصنام والأوثان.

ويشبه هذا النزاع ما وقع في النصرانية من هجوم على تقديس التماثيل والصور التي تمثل "الثالوث"، و"المسيح"، حيث اعتبرها البعض شركاً، مما سبب وقوع شقاق في الكنيسة. فقد اعتبر رجال الدين ال "ايقونات" شركاً، ولذلك حاربوا التماثيل والتصاوير. وقد كانت هذه المشكلة قد بدأت في الكنيسة نتيجة الصراع الذي وقع بين رجال الدين حول طبيعة المسيح.

ولو أخذنا بصدق ما نسب إلى الجاهليين من شعر ورد فيه اسم الله، وجب إدخال عدد من شعراء الجاهلية في المتألهين، القائلين بوجود إلَه، هو "الله". ففي شعر ينسب إلى "عروة بن الورد"، نجد اسم الله مذكوراً فيه، إذ يقول: فسر في بلاد الله والتمس الغنى  تعش ذا يسارٍ أو تموت فتعذرا

ويجب عدّ "امرئ القيس" من المتألهين أيضاً، فقد زعموا ان العرب كانت لا تعدّ الشاعر فحلاً، حتى يأتي ببعض الحكمة في شعره، فلما قال: والله أنجح ما طلبت بـه  والبر خير حقيبة الرجل 

عدوّه فحلاً. وهكذا أدخلوه بهذه الحكمة في جملة الفحول.

وقد ورد اسم الله في معلقته، في البيت: فقالت يمين اللهِ مـا لـك حـيلة  وما إن أرى عنك الغواية تنجلي 

ونجده يحلف بالله، فيقول: "يمين الله"، و"حلفت لها بالله"، وتقول له صاحبته: "سباك الله"، مما يدل على انه كان مؤمناً معتقداً به. ونجده يذكر الله في أشعاره الأخرى.

وزعم أهل الأخبار ان "الأفوه بن مالك" الأودي، كان من المتألهين كذلك، وانه لما شعر بدنو أجله، أوصى قومه: مذحج، بتقوى الله، وصلة الأرحام، وحسن التعزي عن الدنيا بالصبر.

وورد في معلقة "عبيد بن الأبرص" قوله: من يسأل الناس يحرموه  وسائل اللـه لا يخـيب

ويجب إدخال زهير في جملة المتألهين أيضاً، فقد ذكر انه كان يتأله ويتعفف في شعره ويؤمن بالبعث، ونسبوا له قوله: فلا تكتمنّ الله ما في نفوسكـم  ليخفى ومهما يكتم الله يعلـم

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر  ليوم الحساب أو يعجل فينقـم

وهو يقسم في معلقته بالبيت، فيقول: فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله  رجال بنوه من قريش وجرهم

فهو مؤمن بالله العلاّم بما في نفوس الناس، فلا تخفى عليه خافية، ومهما حاول الإنسان كتمان سره في قرارة نفسه، فإن الله لا يخفى عليه سره، و لا يفوته أبداً.

وتنسب لزهير قصيدة مطلعها: ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى  من الأمر أو يبدو لهم مـا بـدا لـيا

بدا لي ان الناس تفنـى نـفـوسـهـم  وأموالهم و لا أرى الـدهـر فـانـيا

وهي قصيدة ذكر فيها أنه عاش أكثر من مائة سنة، ثم ذكر الله، وأنه حق، وأنه كانو مؤمناً به، وأن أيامنا معدودات، ولا يدوم ويبقى إلا الله الذي أهلك تبعاً ولقمان بن عاد وعاديا، وأهلك ذا القرنين، وفرعون؛ ثم ذكر النعمان، وكيف حكم، ثم جاء يوم غير كل شيء. وقد قال الأصمعي، أنها ليست لزهير، ويقال هي لصرمة الأنصاري، و لا تشبه كلام زهير. وربما كانت من المصنوعات، صنعها من صنع من أمثالها من شعر الوعظ والإرشاد، فنسبه إلى الجاهليين.

ونجد "أبا طالب" يقسم بالله في شعره، فيقول في قصيدة له، يخاطب بها الرسول، انك جئت بدين سمح، هو من خير أديان البرية ديناً، ولولا الملامة، أو حذار سبّة، لوجدتني سمحاً بذاك مبينا.

وروي ان "لبيد بن ربيعة" الشاعر المخضرم، كان من المتألهين في الجاهلية وانه نظم قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل  وكل نعيم لا مـحـالة زائل

قبل الإسلام، أو عند ظهوره. وان الرسول قال: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.

وروي ان له أبياتاً تشير إلى التوحيد والصلاح، والخير، هي: إن تقوى ربنا خيرُ نَفل  وباذن الله ريثي وعجل 

وقوله: أحمد الله فـلا نـدّ لـه  بيديه الخير، ما شاء فعل 

وقوله: من هداه سبل الخير اهتدى  ناعم البال، ومن شاء أضل 

و"النابغة" الذبياني من المتألهين كذلك، فقد نسبوا له شعراً، ذكر أنه أعترف بوجود الله، إذ قال: حلفت فلم أترك لنفسـك ريبة  وليس وراء الله للمرء مذهب 

ونجده في معلقته يقول:   

إلا سليمان إذ قـال الإلـه لـه  قم في البريّة فاحددها عن الفند 

ونراه يذكر مكة في شعره: والمؤمن العائذات الطير تمسحها  ركبان مكة بين الغيل والسعـد

وورد اسم الله في قوله: أبـى الـلـهُ: إلا عـدلـه ووفـاءه  فلا النكر معروف ولا العرف ضائع 

أي ما يريد الله إلاّ عدل النعمان بن المنذر، وإلا وفاءه، فلا يدعه أن يجور ولا أن يغدر، فلا النكر يعرفه النعمان، ولا الجميل يضيع عنده. ومعنى هذا أن النابغة كان يرى أن الله هو الذي يقدر الأمور للناس، وأن الإنسان مسير بأمر الله.

و"الحارث بن حلزة" اليشكري من هذا الفريق كذلك، لقوله: فهداهم لالأسودين وأمر اللهِ  بلغٌ تشقى به الأشـقـياء

ولقوله: وفعلنا بهم كما علم الله  وما إن للحائنين دماء

واذا صدقنا بمعلقة "عبيد بن الأبرص"، وأخذنا بصدق الأبيات: من يسأل الناس يحرموه  وسائل اللـه لا يخـيب

باللـه يدرك كـل خـير  والقول في بعضه تلغيب 

والله لـيس لـه شـريك  علام ما أخفت القلـوب

بل يجب عدّه من الأحناف الموحدين، الذين آمنوا بإله واحد لا شريك له. وهو في نظري شعر اسلامي، ويبعد أن يكون من نظم ومن نفس شاعر جاهلي وقد ذهب "ابن الأعرابي"، إلى ان البيت الأول هو لشاعر آخر، هو: يزيد بن ضبّة الثقفي.

و"عمرو بن الإطناب" سيد الخزرج في أيامه من هذا الرعيل الذي ذكر اسم الله في شعره، غذ ذكره بقوله: إني من القوم الذين إذا انتدوا  بدأو بحق الله ثم الـنـائل

ونتدوا: جلسوا في النادي. فهو يبدأ بذكر الله، وبحقه، إذا ما جلس في النادي.

وورد اسم "الله" في شعر لخداش بن زهير: تقوه أيها الفـتـيان إنـي  رأيت اللهَ قد غلب الجدودا 

ونجد ذكر الله في شعر "صؤيم بن معشر بن ذهل" التغلبي، وكان قد لقي كاهناً، فسأله عن موته، فقال له: انك تموت في موضع يقال له "إلاهة"، فمكث زماناً ثم سار إلى الشام في تجارة ثم رجع في ركب من "بني تغلب"، فضّلوا الطريق، ثم أتوا موضعاً اسمه "إلاهة" قارة بالسماوة، فلدغته حية، ثم تذكر قول الكاهن، فقال: لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي  إذا هو لم يجعل له اللـه واقـيا

كفى حزناً أن يرحل الحي غدوة  وأصبح في أعلى إلالاهة ثـاويا

وهو شعر إن صح انه له، دل على ان صاحبه كان يؤمن بأن لكل انسان اجل، وانه إذا جاء الأجل، فلا مردّ له، وانه لا مرد لقضاء الله وقدره.

وفي شعر "قيس بن الحدادية"، إيمان بالله، وأن الله هو الذي يقدر الأمور، إذ يقول: فقلت لها والله يدري مـسـافـرٌ  إذا أضمرته الأرض ما الله صانع 

ويروى: فقلت لها والله ما من مسافر  يحيط بعلم الله ما الله صانع

وفي شعر "النمر بن تولب"، وهو من المخضرمين قوله:" سلام الإلَه وريحانـه  ورحمته وسماءٌ درر 

والعرب تقول: "سبحان الله وريحانه، أي: واسترزاقه".

ونجد في شعر للأعشى أنه كان يؤمن بالرحمن، اذ يقول: وما جعل الرحمن بيتك في العُلى  بأجياد غَربي الصفا والمحـرم

ويقول: وإن تقى الرحمن لا شيء مثله=فصبراً إذا تلقى السحاق الغراثيا ثم يبين بعده إيمانه بإله واحد لا شريك له، اذ يقول: وربك لا تشرك به ان شركـه  يحط من الخيرات تلك البواقيا

بل الله فاعبد لا شريك لوجهه  يكن لك فيما تكدح اليوم راعيا 

وإياك والميتات لا تقربنها=كفى بكلام الله عن ذاك ناهيا ونجده في القصيدة رقم "15" التي فيها البيت الأول، يحلف، برب الراقصات إلى منى، ثم يذكر "ماء زمزم"، أي مكة، بينما نجده في القصيدة الثانية مؤمن بالرحمن، مؤله له، موحد، لا يشرك بربه أحداً. وهو شعر روي عن "أبي عمرو الشيباني"، ركيك ضعيف، موضوع عليه.

وروي ان "الشنفري" كان ممن آمن بالرحمن، وذكره في شعره، إذ قال: لقد لطمت تلك الفتاة هجينها  ألا بتر الرحمن ربي يمينها 

ولكنه بيت يشك في صحته، ولم ينقله الثقات.

وقد سبق لي ان تحدثت في الجزء السادس من هذا الكتاب عن عبادة الرحمن،   

وقلت ان قريشاً قالت للرسول لما نزل الوحي ب)قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن(: "أتدرون ما الرحمن الذي يذكره محمد، هو كاهن باليمامة"، وانها قالت: "دق فوكن انما تذكر مسيلمة رحمن اليمامة"، وكان قد تسمى بالرحمن قبل مولد عبد الله والد الرسول.

وقد زعم اهل الأخبار ان الأعشى كان قدرياً، وانه أخذ رأيه هذا من أهل الحيرة. واستشهدوا على رأيه بالقدر بقوله: استأثر اللهُ بالوفاء وبالعدل  وولى الملامة الرجـلا

وا[ي الشريف "المرتضى" إلا أن مذاهب أهل العدل، أي على مثل ما ذهب اليه "المعتزله" والشيعة الإمامية الاثني عشرية في الإسلام. وعلل بعض أهل الأخبار سبب تحول الأعشى إلى القدرية، انه كان يأتي أهل الحيرة في الجاهلية، وكانوا نصارى، يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك. ورد في كتاب "الأغاني": "قال لي يحيى بن متي رواية الأعشى وكان نصرانياً عبادياً، وكان معمراً، قال: كان الأعشى قدرياً، وكان لبيد مثبتاً. قال لبيد: من هداه سبل الخير اهتدى  ناعم البال ومن شاء أضل

وقال الأعشى: استأثر الله بالوفاء وبال_عدل وولى الملامة الرجلا قلت: فمن أين أخذ الأعشى مذهبه?قال: من قبل العباديين نصارى الحيرة، وكان يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك".

والبيت المذكور هو من قصيدة مدح فيها "سلامة ذا فائش" مطلعها: إن مَحَـلاَ وإن مـرتـحـلا  وان في السفر ما مضى مهلا 

استأثر اللهُ بـالـوفـاء وبـال  عدل وولى الملامة الرجـلا

شك في صحتها "ابن قتيبة"، فقال: "وهذا الشعر منحول"، والصنعة في الواقع بينة على القصيدة، واذا كان الأمر كذلك، فيجب أن يكون القدري صاحبها، ذلك الرجل الذي نحلها الأعشى، لا الشاعر الأعشى.

ويذكر أهل الأخبار أن الأعشى كان ممن أقر بالملكين الكاتبين في شعره، إذ يقول: فلا تحسبني كافراً لـك نـعـمة  على شاهدي يا شاهد الله، فاشهد 

وشاهدي، يعني لساني، ويا شاهد الله، يريد الملك الموكل به. وكان هذا من ايمان العرب بالملكين. وقد نسبوا هذه العقيدة إلى بقية من دين اسماعيل، وزعموا أن العرب ممن أقام على دين اسماعيل، إذا حلفت تقول: وحق الملكين، فكان الأعشى ممن أقام على دين اسماعيل والقول بالأنبياء. "والأعشى ممن اعتزل وقال بالعدل في الجاهلية".

ونسب إلى "لبيد" العكس أي القول بالجبر واستدل من نسبه إلى الجبر بقوله: ان تقوى ربنا خير نـفـل  وباذن الله ريثي والعجـل

احمد اللـه فـلا نـد لـه  بيديه الخير ما شاء فعـل

من هداه سبل الخير اهتدى  ناعم البال ومن شاء اضل

وق قال بعض العلماء: ان هذه الابيات لا تشير حتما إلى مذهب لبيد في الجبر، وانها لا تكون سبباً في نسبة الجبر اليه، وقد تأولها، وأوجد لها مخارج في ابعاد القول بالجبر عنه. ثم قال: "اللهم إلا أن يكون مذهب لبيد في الاجبار معروفاً بغير هذه الابيات، فلا يتأول له هذا التأويل، بل يحمل على مراده على موافقة المعروف من مذهبه".

وينسب إلى "زهير بن أبي سلمى" قوله: يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر  ليوم الحساب أو يعجل فينقـم

وذكر انه كان يتأله ويتعفف في شعره المذكور على ايمانه بالبعث وبالحساب وبالثواب وبالعقاب.

ومن رأي الجاهليين ان الموت مكتوب على جبين الإنسان، ولا بد له من أن يواجهه في يوم محتوم مكتوب عليه. ومن لم يمت عبطة، مات هرماً. وفي ذلك يقول أمية: من لم يمت عبطة يمت هرماً=وللموت كأس، والمرء ذائقها ويقول الأعشى: ولو كنتَ في جب ثمانين قامةً  ورُقيت أسباب السماء بسلـم

ونجد رأي الجاهليين في الروح واضحاً في أشعارهم وفي أقوالهم عن الموت، فالموت-كما سبق أن تحدثت عنه- في نظرهم مفارقة الروح للجسد، فإذا فارقته صارت "هامة" ترفرف فوق قبر صاحبها. هذا "عروة بن الورد"، يذكر الموت، ثم يذكر ما سيقوله الناس عنه، بقوله: أحاديث تبقى، والفتى غيرُ خالد=إذا هو أمسى فوق صيّر وقد أشير إلى "العتائر" التي تقدم في "رجب"، في شعر "طرفة": عنتاً باطلاً وظلماً كـمـا تـع  تر عن حجرة الرّبيض الظباء 

وكان الرجل من العرب ينذر نذراً على شائه إذا بلغت مائة أن يذبح عن كل عشرة منها شاة في رجب، وكانت تسمى تلك الذبائح الرجبية، وهي العتائر.

وكان الرجل منهم ربما بخل بشائه فيصيد ظباءً فيذبحها عن غنمه في رجب ليوفي نذره.

ومن الشعراء من غلبت التبرم من هذه الدنيا، وذكر الموت، والاتعاظ به، وعلى رأس هؤلاء "عدي بن زيد" العبادي، النصراني، وهو خير من يمثل هذه النزعة التصوفية، التي ترى أن اللذة لا تدوم، وأن السعادة موقتة زائلة، وان على الإنسان أن يتعظ بمن عاش قبله من الملوك العظام، والأمم القوية، وممن نزع هذا المنزع وان كان دون "عدي" بكثير "الأسود بن يعفر"، في قوله: ماذا أؤمل بـعـد آل مـحـرق  تركوا منازلهـم، وبـعـد إياد

أهل الخورنق والسدير وبـارق  والقصر ذي الشُرفات من سنداد 

إلى أن قال: أين الذين بنوا فطال بناؤهم  وتمتعوا بالأهـل والأولاد

فإذا النعيم وكل ما يلهى به  يوماً يصير إلى بلى ونفاد

وآخرها: فإذا وذلك لا نفاد لذكره=والدهر يعقب صالحاً بفساد غير ان هذه النزعة، لم تكن ناتجة عن رأي وعن فلسفة ودراسة تأمل لهذه الحياة، وانما هي نزعة نجدها عند من أصيب بنكبة وعند من حلت به مصيبة، وعند المسنين الذين غلب العمر عليهم، فجعلهم حطاماً وكومة عظام، لا يستطيعون الوقوف على أرجلهم، فهم متعبون لا يجدون من يصغي اليهم أو من يعطف عليهم، أو من يساعدهم في الخروج من المآزق التي وقعوا فيها، فتبرموا لذلك من الحياة، وأخذوا يذمونها، وانما هم يذمونها لأنهم صاروا في الحال لا يتمكنون فيها من التلذذ بها و من التمتع بنعم الحياة التي هي هي لا تتغير وانما الذي يتغير هو الشخص، الذي كبر و عجز فصار يذم الدنيا، لأنه لم يعد قادراًعلى فعل ما كان يفعله أيام كان شاباً قوياً يحب الدنيا، فتقبل الدنيا عليه.

ونجد في شعر ينسب للأعشى إشارة إلى التطير، إذ يقول: ما تعيف اليوم في الطير الروح  من غراب البين أو تيس برح

وكان "النابغة" الذبياني من المتطيرين. خرج مرة مع "زبان بن منظور" الفرازي غازياً، فسقطت عليه جرادة، فتطير منها. فرجع من الغزو، ومضى زبان فظفر وغنم، فقال: تعـلـم أنـه لا طــيرَ إلا  على متطير، وهي الثبـور

بلى شيء يوافق بعض شيء  أحاييناً، وباطـلـه كـثـير

وقال خرز بن لوذان، ويقال مرقش السدوسي: لا يمنعـك مـن بـغـا  ء الخير تعقاد التمـائم

لا، و التشاؤم بالعـطـا  س، ولا التيامن بالمقاسم 

واذا الأشـاتـم كـالأيا  من، والأيامن كالأشـائم

قد خط ذلك في الزبـو  ر الأولـيات الـقـدائم

وفي شعر "عبيد بن الأبرص" القائل: نبئت أن بني جـديلة أوعـبـوا  نفراء من سلمى لنا وتكتـبـوا

ولقد جرى لهم فلم يتـعـيفـوا  تيسٌ قعيد كالهرارة أعـضـب

وأبو الفراخ على خشاش هشيمة  متنكب إبط الشمـائل ينـعـب

طُعنوا بمرّان الوشيجِ فما تـرى  خلف الأسنة غير عرق يشجب

وتبدلوا اليعبوب بعد إلـهـهـم  صنماً ففرّوا يا جديل وأعذبـوا

كلام عن العيافة، فأشار إلى تيس قعيد من الظباء، والقعيد الذي يأتي من الخلف، والأعضب المكسور القرن، وهو مما يتشاءم به العرب. وأبو الفراخ عني به الغراب، واليعبوب صنم لجديلة، وكان لهم صنم أخذته منهم بنو أسد، رهط "عبيد بن الأبرص"، فتبدلوا اليعبوب بدله.

وقد أشير إلى التشاؤم بالغراب في شعر ينسب لعلقمة الفحل: ومن تعرض للغربان يزجرها  على سلامته لا بد مشـؤوم

ونجد في شعر "أبي ذؤيب" الهذلي، وهو من الشعراء المخضرمين، اشارة إلى تشاؤم العرب بطير الشمال، إذ يقول: زجرتُ لها طيرَ الشمال فإن تكن  هواك الذي تهوى يُصيبك اجتنابها 

والعرب تتشام من "طير الشّمال"، على نحو ما تحدثت عن ذلك في الجزء السادس من هذا الكتاب.

وكان "خزز بن لوذان" السدوسي على مذهب من ينكر الطيرة ولا يعتقد بها، وينسب اليه قوله:   

لا يمنعك مـن بُـغـا  ء الخير تعقاد التمائم

ولقد غدوت وكنتُ لا  أغدو على واقٍ وحاتم 

فإذا الأشاتـم كـالأيا  من والأيامن كالأشاتم

وكـذاك لا خـير ولا  شر على أحد بـدائم

قد خطّ ذلك في الزبو  ر الأوليات الـقـدائم

وفي شعر "عبيد بن الأبرص" إشارة إلى رأي العرب في الحمامة، فالعرب تقول: "أخرق من حمامة"، وعبيد يقول في ذلك: عيُّوا بـأمـــرهـــم كـــمـــا  عيت بـبـيضـتـهـا الـحـمـــامة

جعلت لها عودين من نشمٍ وآخر من ثمامة 

قال ذلك تعبيراً عن حمقها. فالنشم شجر من أشجار الجبال تتخذ منه القسيّ، والثمامة نبت قصير يضرب به المثل في الضعف، وذلك حمقها: أن تجمع بين ضعيف وقوي، فيتكسر عشها ويقع البيض فينكسر.

وقد تطرق "العباس بن مرداس" إلى ذكر"الغول"، فقال: أصابت العامَ رعلاً غول قومهم  وسط البيوت ولون الغول ألوان 

وهو يشير بذلك إلى تلون الغول. وفي شعر "زيد الخيل" اشارت إلى عادة تعليق الحلي، وخشخشة الخلاخيل على السليم، ليبرأ ويشفى، اذ يقول: أيم يكون النعل منه ضـجـيعة  كما عُلقت فوق السليم الخلاخل 

ونجد مثل ذلك في أشعار شعراء آخرين.

ومن مذاهب أهل الجاهلية المذكورة في الشعر، أنهم كانوا يستسقون السحائب لقبور من فقدوه من أعزائهم، ويستنبتون لمواقع حفرهم الزهر والرياض، قال النابغة: فلا زال قبر بين تبنى وجاسم  عليه من الوسمي طل ووابل 

فينبت حوذاناً وعوفاً منـوراً  سأتبعه من خير ما قال قائل

وكانوا يجرون هذا الدعاء مجرى الاسترحام.

وفي شعر بعض الشعراء أن الحياة لا تدوم، وان المال وان كان أساس هذه الحياة، لكنه متاع أيام وكل ذاهب. فبينما هو يجمعه ويحرص عليه، إذا به يعيث همج هامج، وما المال الا عارة فاخلف وأتلف، فكله مع الدهر ذاهب، هذا "الحارث بن حلزة" اليشكري، يقول: بينا الفتى يسعى ويسعى له  تاح له من أمره خالـج

يترك ما رقح من عيشـه  يعيث فيه همج هـامـج

لا تكسع الشول بأغبارهـا  انك لا تدري من الناتـج

وهذا تميم بن مقبل يقول: فاخلف واتلف انما المال عارة  وكله مع الدهر الذي هو آكله 

ونجد في شعر الشعراء الجاهليين، ذم للاغنياء الذين يملكون ولا يعطون شيئاً منه للفقير والبائس والمحتاج، وللذين يكبرون من شأن الكبير لماله، ويبتعدون عن الفقير لفقره، ويعظمون الغني على كثرة عيوبه ونواقصه، لا لشيء الا لماله وغناه، فنرى "عروة بن الورد"، يقول: ذريني للغنى أسعى فانـي  رأيت الناس شرهم الفقير

وأبعدهم وأهونهم علـيهـم  وان أمسى له حسب وخير 

يباعده الـنـدي وتـزدريه  حليلته وينهره الصـغـير

وتلقى ذا الغنى وله جـلال  يكاد فؤاد صاحبه يطـير

قليل عيبه والـعـيب جـم  ولكن الغني رب غفـور

وللشعراء الجاهليين رأي في النساء. رأي أغلبهم ان المرأة متعة للرجل، يلهو بها، ويقضي حاجته منها، خلقت للبيت وللولادة، وهي دون الرجل. وهي تحب الشاب القوي، والغني الكثير المال. ونجد هذا الرأي عند أكثر الشعراء اتصالاً بالمرأة، وعند أكثرهم لهواً بها مثل "امرىء القيس" حيث يقول: فيا رب يوم قد أروح مرجـلاً  حبيباً إلى البيض الأوانس أملسا 

أراهن لا يحبين من قل مالـه  ولا من رأين الشيب فيه وقوسا 

ونجد الأعشى يقول: وأرى الغواني لا يواصلن أمرءاً  فقد الشباب وقد يصلن الأمردا

وفي شعر علقمة بن عبدة ترديد لرأي امرىء القيس وزيادة: فان تسألوني بالنساء فـانـنـي  بصير بأدواء النساء طـبـيب

إذا شاب رأس المرء أو قل ماله  فليس له في ودهن نـصـيب

يردن ثراء المال حيث علمنـه  وشرخ الشباب عندهن عجـيب

الفصل الثامن والستون بعد المئة
شعر المخضرمين

المخضرم هو الذي أدرك الجاهلية والإسلام. والشعراء المخضرمون هم الذين عاشوا في الجاهلية وفي الإسلام ونظموا الشعر في العهدين: الجاهلية والإسلام. والمخضرم من يدرك عهدين متناقضين.

والشائع بين الناس أن الإسلام قد سبب في انصراف الناس عن الشعر وعن روايته "بما شغلهم من أمور الدين والنبوة والوحي وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض فيالنظم والنثر زماناً ثم استقر ذلك وأونس الرشد من الملّة ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره وسمعه النبي، صلى الله عليه وسلم، وأثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه". وقد نسب إلى "عمر" قوله: "كانالشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته"، "فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأن العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب، وألفوا وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم كثير". والشائع بينهم أيضاً أن الشعر قد أصيب بسبب ما تقدم بنكسة، فذبل وضعف وذهبت عنه قوة وسورة وجزالة وشدة الشعر الجاهلي، وأعرض الشعراء مثل "لبيد" عن الشعر، اذ رأوا أن في كلام الله ما يغنيهم عنه، وقّل بذلك عدد الشعراء و لا سيما الشعراء الفحول بالنسبة إلى أيام الجاهلية، وغلبت الليونة على الشعر الجديد، فصار شعر "حسان" الذي قاله في الإسلام ضعيفاً ليناً بالنسبة إلى شعره الجزل الذي قاله في جاهليته.

وجوابي على هذه الدعاوي: صحيح ان الشعر الجاهلي قد نقص حجمه وضاع قسم كبير منه، ولكن ضياعه ذلك لم يكن بسبب الإسلام، وانما بسبب الأحداث والتطورات التي طرأت على جزيرة العرب، بسبب دخولها في الإسلام، كحروب الردة مثلاً و الفتوح، وانفتاح أرض الله الواسعة أمام المسلمين، وفرار الكثير من أهل جزيرة العرب نحو الخارج بحثاً عن أرض أخصب وماء أوفر، وجوّ أطيب وثراء وعيشة راضية. اما حروب الردة، فقد أكلت من المسلمين ومن المرتدين جماعة عرفت برواية الشعر ويحفظها له، وبنظم الشعر أيضاً، فقل بهلاكهم عدد حفّاظ الشعر، كما قلّ في الوقت نفسه عدد حفّاظ القرآن. وأما الفتوح، فقد قتل فيها قوم من الشعراء ومن حفّاظ الشعر، فهلك بموتهم شطر من الشعر الجاهلي، وتقلص عدد العلماء به. كماألهت الناس عن الشعر، بما فتحت لهم من آفاق الأرض وبما درّت عليهم من أموال وأشغال، قلصت من فراغهم الذي كان يكوّن معظم حياتهم في البوادي، فجعلتهم في الأرضين الجديدة يصرفون معظم وقتهم في استغلال الأرضين التي صارت من نصيبهم، وفي إحياء الموات، وفي تربية المواشي، والاشتغال بالزراعة، وهي أشغال تستبد بوقت الإنسان، وتصرف ذهنه اليها لمعالجتها، فلا يشعر في مثل هذه الحالة بماكان يشعر به يوم كان في بواديه فارغ البال، يقضي وقته بالتعبير عن نفسه بشعر يقتل به فراغه، ويسلي به نفسه بالتغني به لأصدقائه، ثم هو قد يتعيش منه، بما يناله من قبيلته من مال واحترام، وبما قد يحصل عليه من مدحه للملوك وللسادات من عطايا وهبات ثمناً للمدح. ومحيط فيه شغل وعمل، وفيه تعب جسماني وعقلي لا يساعد على نمو الشعر فيه، ومن هنا كان إقبال أهل الحضر مثل أهل مكة وأهل يثرب   

وأهل الطائف وأهل اليمامة على الشعر، ونبوغهم فيه أقل من إقبال أهل البوادي عليه، بسبب انشغال أهل القرى والحضر عامة بتدبير أمور الحياة، وبالحرف وباستغلال الأرض والمال والتجار يطلعون على أحوال جيرانهم وعلى عوراتهم، ويقفون على أسرار حياتهم في الشعب وفي القرية، فلا يكون للهجاء عندهم لهذا الأثر الذي يكون له عند الأعراب، ولا يكون للمدح عندهم ما يكون له من أثر عند أهل البادية. ومن هنا نجد دولة الشعر وقد قلّ نفوذها في العالم العربي في هذا اليوم عما كان عليه نفوذها قبل ثلاثين سنة أو أكثر، بسبب التطور الحضاري الذي أخذ يغزو العالم العربي، وهو تطور يقلص من فراغ الإنسان، ويستبد به، جاء له بهموم و بمشاكل نفسية و بأمراض الحضارة التي تريد المزيد من التمتع بمتع الحياة من جنسية ومادية، ليتمتع بها الإنسان في هذه الحياة التي لن يعود اليها مرة ثانية، فصار يفكر في الحصول على المادة جهد طاقته، ولو عن طريق إماتة أعصابه، ليستمتع بأقصى حد ممكن باللذة الحسية، التي صار يراها انها سبب هذا الوجود، وذلك قبل فواتها منه، بموت يخترمه منها، فزاد الإقبال على المتعة، وعلى رأسها الاستمتاع باللذة الجنسية، وبلذةالشرب والتدخين، وقلّ الإقبال على الاستمتاع باللذات النفسية، وفي جملتها الشعر، فلا تجد اليوم له في أوربة ما كان له من مكانة قبل عشرات السنين، وغلب النثر عليه، وقلّ عدد من كان يحفظ شعر الشعراء الماضين والمعاصرين، وعلى هذا النحو صار حالنا اليوم، فتناقص عدد حفاظ الشعر في النجف مثلاًتناقصاً كبيراً من حيث العدد والكم، و النجف في الشعر والأدب كوفة العراق بالأمس أيام الأمويين والعباسيين. فالإعراض الذي لاقاه الشعر في صدر الإسلام، لم يكن بسبب كره الإسلام له، وإنما بسبب التطور الذي طرأ على حياتهم، فغيرها من جميع الوجوه، نتيجة لخروجهم من جزيرتهم، ولاختلاطهم بأمم أعجمية ذات نظم أخرى، ونظرات متباينة مع نظرات العرب إلى مفهوم الحياة.

أما إعراض "لبيد" عن قول الشعر بعد اعتناقه الإسلام، فليس مرده اعتقاده بكره الإسلام للشعر، وانما هو في رأيي بسبب تقدمه في السن، والانسان متى تقدم في العمر خفتت مواهبه وبرد احساسه، ووهنت عواطفه التي تكون متقدمة في أيام المراهقة والشباب، أو قد يكون هذا العامل وعامل آخر، هو سلطان الدين الذي استولى عليه وهو في سن الشيخوخة، بحيث صيره يشعر بوجوب الإنصراف نحو العبادة وحفظ ودراسة كتاب الله، ومع ذلك فهناك روايات روت أن معظم شعره الذي فيه تدين وزهد وحث على العمل الصالح، هو شعر قاله في الإسلام، وان ما زعم من أنه ترك الشعر، وانكب كلية على قراءة القرآن زعم غير صحيح.

وأما اعراض "بشار بن عدي بن عمرو بن سويد" الطائي عن الشعر، فيظهر أنه عن وازع نفسي ديني، حمله على التفرغ لدراسة كتاب الله، وعلى الزهد، وقد يكون ذلك بسبب تقدمه في السن. وفي تركه الشعر يقول: تركت الشعر واستبدلت منه  كتاب الله ليس له شـريك

وودعت المدامة والندامـى  إذا داعى منادي الصبح ديك 

وأما إعراض "مالك بن عمير" السلمي عن الشعر، فهو حادث فردي كذلك، لا يعلم مبلغ درجته من الصحة، ومع ذلك، فإن كل من ترك الشعر من اشعراء لا يصل عددهم إلى عشرة، وهم قلة بالنسبة إلى عدد الشعراء المخضرمين الذين استمروا في نظمه في الإسلام.

وأما ما قالوه عن الضعف الذي ألم بشعر "حسان" الذي قاله في الإسلام وعن متانة شعره وجزالته في الجاهلية، فلا يعقل إرجاع سببه إلى الإسلام، فقد اتخذ الرسول "حساناً" شاعراً له، يجبُّ عنه وعن الإسلام المشركين، كما شجع غيره في الردّ على شعراء الشرك، وكان الرسول يستصوب الشعر الصلد الجزل المتين ذا المعاني الجيدة العميقة، ومصدر ضعف "حسان" في شعؤه في الإسلام، هو بسبب تقدمه في السن، والتقدم في السن-كما سبق ان قلت- يضعف المواهب، ومنها الشاعرية، ويخمل العواطف، فقد كان حسان في جاهليته شاباً ورجلاً، قوي الجسم ككل رجل، متقيد الحس، متألق الحس، متألق العاطفة، ذا شاعرية حساسة ثائرة، يشرب ويلهو ويسمع الغناء ويحضر مجالس الطرب، فلما جاء الإسلام، ودخل فيه مع من دخل، كان قد تقدم في السن، فبرد حسه، وضعف شعره في المعاني التي قالها في الجاهلية، وفي الدروب التي سلكها من دروب الشعر الجاهلي، ولكنه تألق في معان أخرى تنسجم مع عمره ومع المثل التي اعتنقها، فمن ثم صار شعره يختلف عن شعره في الجاهلية. ولم يقع ذلك لحسان وحده، وإنما وقع هذا الحادث لكل شاعر هجم عليه العمر، واستبدت به الأعوام.

ومما وقع للشعر في الإسلام، ان الزعامة انتقلت فيه من البوادي إلى الحواضر، فبعد أن كان شعر الأعراب، بجزالته وبخشونته وبصلادته، هو المقدم عند علماء الشعر والمحبينله، وبعد أن كانت القبائل هي التي تنجب الفحول، صارت الحواضر هي التي تنبت الفحول، لتبدل الزمن، ووقوع تغير في الذوق، ولتغلب الحضارة على البداوة، ولاهتمام الناس بالمعاني، أكثر من اهتمامهم بالشكل وبمظهر القوالب فقل شعر الشعراء الأعراب الفصحاء، ثم انحسر الشعر من موطنه، كما انحسر أكثر سكان البوادي عن بواديهم، ليلحقوا بخير الحضر، وصار الشعر العربي الفصيح من حصة الحضر في هذه الأيام. كما حلت الكوفة ثم "دمشق" ثم بغداد فبقية الحواضر محل "الحيرة" وقصور الغساسنة ومضارب سادات القبائل في استقبال الشعراء وفي الانعام عليهم بالهدايا والألطاف. ولتغير الذوق بتغير المجتمع، تغير الشعر كذلك، ولا سيما في أيام بني العباس.

وفي شعر المخضرمين شعر قيل في الرسول وفي حوادث الإسلام، وفي الرد على المشركين وتسفيه مقالتهم في دينهم ونيلهم من دين الله، قاله الشعراء بعد دخولهم في السلام. وعلى رأس هؤلاء من ذكرت من شعراء يثرب، يتقدمهم "حسان بن ثابت" شاعر الرسول، الذي كان يستدعيه الرسول في المناسبات ليجيب على شعر الشعراء الوافدين عليه، كالذي كان من أمره مع شاعر وفد "تميم" الزبرقان ابن بدر.

وكان لرد شعراء يثرب على شعراء قريش ومن لف لفهم، أثر كبير في نفوس المشركين. يروى ان النبي قال لحسان بن ثابت: اهجهم، يعني قريشاً، فو الله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام، في غلس الظلام، اهجهم ومعك جبريل روح القدس. وقد كان هجاؤه شديداً عليهم، له وقع في نفوسهم أشد من وقع شعر بقية الشعراء عليهم. فقد كان لسانه حاداً قاطعاً، لا سيما إذا ما تناول ناحية الهجاءوما يتعلق منه بالوقائع والايام والنزاع القديم الذي كان بين أهل مكة ويثرب. فييد في ذلك كل الإجادة، ويتفوق بهذه الناحية على شعراء قريش.

وكان حسان وكعب يعارضان شعراء قريش بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيرانهم بالمثالب. وكان عبد الله بن رواحة يعيّرهم بالكفر وينسبهم إلى الكفر، ويعلم انه ليس فيهم شر من الكفر، فكانوا في ذلك الزمان أشد شيء عليهم قول حسان وكعب، وأهون شيء عليهم قول ابن رواحة، فلما أسلموا وفقهوا الإسلام، كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة.

وأما شعر شعراء مكة إلى عام الفتح، فكان في إيذاء الرسول والإسلام، وفي هجاء المسلمين، وتمجيد قريش ورثاء من قتل من المشركين وتعظيم أمر الجاهلية وسنة الآباء وما ألفوه عن آبائهم من أمور. وقد حفظت كتب السير والمغازي والتواريخ شيئاً من شعرهم، من النوع الذي لم يتضمنقذعاً شديداً بالاسلام، ولا شتماً عنيفاً وهجاءً غليظاً بالرسول وبالمسلمين. أما النوع الثاني الذي أفحش فيه أولئك الشعراء، وجاءوا فيه بشتائم وسباب، فقد أنف أصحاب السير والمغازي والتأريخ من روايته، فتركوه، ولو جمع الباقي من شعرهم مع ردّ عليه، لكوّن منه ديواناً ثميناً في المعارضة التي كانت بين المشركين والمسلمين في مبدأ ظهور الإسلام، ولكان سجلاً قيماً لتأريخ ذلك الصراع، وليفية تغلب الإسلام على الشرك. فهو وثائق تأريخية من الدرجة الأولى، على أن يغربل ويفحص فحصاً علمياً للتيقن من درجة صفائه ونقائه بالطبع.

ونوع آخر من أواع الشعر كان عند المخضرمين، هو شعر القتال. القتال الذي وقع بين المسلمين والمشركين واليهود، إلى أن أنتصر الإسلام. فأختفى صوت الشرك وصوت يهود، وبقي صوت الإسلام وحده، لا يعارضه أحد، ولا يجابهه صوت. فقد كان من عادة العرب، أنهم إذا تقاتلوا أنشدوا شعراً يفتخرون فيه بأنفسهم وبقبيلتهم وبشجاعتهم، ولا سيما حين يخرج فارس لمبارزة فارس آخر، وقد يقف الشعراء في صفوف المحاربين يحرضونهم على القتال والاستبسال.

ونجد في بطون كتب السير والمغازي والتواريخ، نماذج طيبة من هذا الشعر: شعر القتال. قال المحاربون عند خروجهم من صفوف المقاتلين لمقبلهم من سيخرج لمبارزتهم من الجانب الثاني.

وتولدت من هذا النوع من الشعر شعر آخر قيل في معارك الفتوح. في المعارك التي وقعت مع عرب الحيرة، ثم مع الفرس، وفي المعارك التي حدثت بين المسلمين وبين الغساسنة، وبين المسلمين والروم، ثم في الفتوحات الأخرى. فقد ساهم في هذا القتال شعراء مخضرمون، حاربوا في الجاهلية عند القتال، من التحمس في القتال والاندفاع من الصفوف إلى الأمام لمبارزة من قد يبرز لهم لمقاتلتهم، ومن التغني بالقتال ومبارزة العدو. ونجد في كتب الفتوح والتأريخ والأخبار، نماذج من هذا الشعر. ونجد في شعر "قيس بن مكشوح" المرادي وصفاً ليوم القادسية، وفخراً بسيرة مع جمع من قومه من "صنعاء" إلى وادي القرى فديار كلب، إلى اليرموك، فالشأم، ثم القادسية بعد شهر، ثم مقابلته جمع كسرى وأبناء المرازبة، وهجومه على رأس الفرس.

ولو جمعنا هذا الشعر الذي قيل في هذا القتال لكوّنا منه ديواناً، يصور هجرة القبائل العربية من مواطنها إلى البلاد المفتوحة، ويتحدث عن الأبطال الذين ساهموا في جمع هذا الديوان، والملحمة الشعرية التي تروي قصص الفتوح، وما قام به المحاربون الشجعان في حروب الفتح.

وهناك شعراء أسلموا، لكن قلوبهم بقيت على ما كانت عليه قبل الإسلام، من عدم الاهتمام بأمور الدين، فلم يحفلوا بالسلام، ولم يذكروا الرسول، وهم شعراء أهل البادية الأعراب.

وطالما كان يأتي الشعراء إلى "يثرب" على طريقتهم في الجاهلية في إنشاد شعرهم أمام رجل منهم عظيم، مثل ملوك الحيرة أو الغساسنة، أو سادات القبائل. فيقف الشاعر أمام الرسول لينشده شعره الذي أعده لهذه المناسبة، أو ليقول شعراً بالمناسبة. ولما قدم وفد "تميم"، المدينة، ودخلوا المسجد، وقالوا: "يا محمد، جئناك لنفاخرك، فائذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: نعم، أذنت لخطيبكم فليقل، فخطب: "عطارد بن حاجب" فلما انتهى قال الرسول لثابت بن قيس بن شماس، أجبه، فأجابه. ثم قالوا: يا محمد، ائذن لشاعرنا، فقال: نعم، فقام الزبرقان بن بدر فقال: نحن الكرام فلا حيٌ يعادلنـا  منّا الملوك وفينا تنصب البيعُ 

فلما انتهى منها، أجابه حسان، فحكموا ان خطيب المسلمين أخطب من خطيب تميم، وان شاعر الرسول أشعر من شاعرهم.

وعادة التفاخر في مجالس الملوك وسادات القبائل، وإنشاد الشعر في ذلك، وردّ الشعراء بعضهم على بعض، دفاعاً عن قومهم، من العادات الجاهلية القديمة، التي بقيت في الإسلام كذلك، ولما أخذت الوفود تفد على الرسول بعد فتح مكة، كان في أعضائها من يخطب على طريقتهم في الخطابة، ومنهم من ينشد الشعر، ثم يعلنون إسلامهم، ومنهم من يشترط شروطاً، وكان من بين المسلمين من يتولى الردّ عليهم، وقد يجيبهم الرسول بنفسه.

وقد كره الإسلام من الشعر الجاهلي الشعر الذي يتعرض بالأعراض ويتحرش بعورات الناس، والشعر الذي يهيج الفتن، ويلقى البغضاء بين الاخوة، فيعيدها فتنة جاهلية، ومن هنا جاء النهي عنه في قوله: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحاً يَرِيِه خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً"، ولم يأت في عامة الشعر. وآخذ الخلفاء الشعراء الهجائين متى اقذعوا في شعرهم، وتحاملوا فيه على الناس، تحاملاً يغض منهم. وهنا حبس "عمر" الحطيئة، وكان يقف بالمرصاد لمن يفعل فعله في نهش أعراض الناس. ولذلك تخوف المخضرمون في شعرهم من شعر الهجاء واحترسوا فيه امتثالاً للمثل الإسلامية التي تأمر بالابتعاد عن ذكر المثالب والامتناع عن إيذاء الناس، وخوفاً من تأديب الخلفاء لهم إن نهشوا أعراض المسلمين.

والقديم من شعر المخضرمين، و لا سيما شعر المتقدمين منهم في السن، هو استمرار في الواقع للشعر الجاهلي، نظم على طريقة أهل الجاهلية وأساليبهم في نظم الشعر وعلى معانيهم التي كانوا يتطرقون اليها في شعرهم في الغالب، فقد ولدوا في الجاهلية وقضى بعض منهم أكثر سني حياته فيها، ونظموا أكثر شعرهم في تلك الأيام وفي الأحداث التي وقعت فيها. ولذلك صار شعرهم يختلف عن شعر الشعراء الاسلاميين، لأنهم لم يشهدوا الجاهلية ولم يدركوها، وهم من ثم لم يتأثروا بعقليتها كثيراً، ومن هنا يجب علينا أن نوجه لشعر الشعراء المخضرمين المسنين الذين قضوا أكثر أيام حياتهم في الجاهلية عناية خاصة، وأن نقوم بدراسته دراسة نقد دقيقة، إذ نتمكن بها من الوقوف على تطور الشعر الجاهلي ومكانته عند ظهور الإسلام.

ومن الشعراء المخضرمين من لقي الرسول وصحبه ومدحه وروى عنه، ومنهم من صحبه، لكنه لم يرو عنه، ومنهم من لم يره لكنه دخل في الإسلام. وقد ذكر بعض العلماء أسماء الشعراء الذين صحبوا الرسول ورووا عنه، منهم "حسان ابن ثابت"، و"كعب بن مالك"، و "عبد الله بن رواحة"، و "عدي ابن حاتم" الطائي، و "عباس بن مرداس" السلمي، و "أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"، و "حميد بن ثور" الهلالي، و "أبو الطفيل عامر ابن وائلة"، و "أيمن بن خريم" الأسدي، و "أعشى" بني مازن، و "الأسود بن سريع"، و "الحارث بن هشام"، و "عمرو بن شاس"، و "ضرار بن الأزور"، و "خفاف بن ندبة"، و"لبيد بن ربيعة"، و "ضرار بن الخطاب"، و "عبد الله بن الزبعري"، ولم تكن للبيد، و لا لضرار ولا لابن الزبعري رواية عنه. وكذلك "أبو ذؤيب" الهذلي، و "الشماخ ابن ضرار"، وأخوه "مزرد بن ضرار".

وقد عدّ "ابن سلام" "النابغة" الجعدي، والشماخ بن ضرار، ولبيد، وأبو ذؤيب الهذلي طبقة، وقال: وكان الشماخ أشد متوناً من لبيد، ولبيد أحسن منه منطقاً.

و "النابغة" الجعدي، هو: "أبو ليلى عبد الله بن قيس"، أوطقيس بن عبد الله بن عدس"، وقيل: "حبّان بن قيس"، "حيان بن قيس"، وغير ذلك. قيل له "النابغة"، لأنه كان يقول الشعر ثم تركه في الجاهلية، ثم عاد اليه بعد أن أسلم، فقيل: نبغِ. قيل انه كان قديماً شاعراً مفلقاً طويل العمر في الجاهلية وفي الإسلام"، حتى زعم انه كان أسنّ من النابغة الذبياني، واستدلوا على طول عمره بأبيات زعموا انه قالها هي: ألا زعمت بنو أسـد بـأنـي  أبو ولد كبير السـن فـانـي

فمن يك سائلاً عني فـإنـي  من الفتـيان أيام الـخـتـان

أتت مائة لعـام ولـدت فـيه  وعشر بعد ذاك وحجـتـان

وقد أبقت صروف الدهر مني  كما أبقت من السيف اليماني

وذكر "السجستاني" في كتاب المعمرين، انه عاش مائتي سنة. وهو القائل: قال "?" أمامة كم عمرت زمانه  وذبحت من عنز على الأوثان

ولقد شهدت عكاظ قبل محلّهـا  فيها وكنت أعد من الفـتـيان

والمنذر بن محرّق في ملكـه  وشهدت يوم هجائن النعمـان

وعمرت حتى جاء أحمد بالهدى  وقوارع تتلى مـن الـقـرآن

ولبست في الإسلام ثوباً واسعاً  من سبب لا حرم ولا مـنـان

وهو عند الأخباريين أسن من النابغة الذبياني وأكبر، واستدلوا على أنه أكبر من النابغة الذبياني، بأن النابغة الذبياني كان مع النعمان بن المنذر، وكان النعمان ابن المنذر بن محرق. وقد أدرك النابغة الجعديّ المنذرَ بن محرق ونادمه، ولكن النابغة الذبياني مات قبله، وعمّر بعده عمراً طويلاً. ذكر بعضهم أنه عمّر مائة وثمانين وذكر بعضهم أنه عمر أكثر من ذلك حتى ذكر بعض منهم انه عمّر مائتين وعشرين سنة. وذكروا أن "عمر" قال له: كم لبثت مع كل أهل? قال ستين سنة. وأنشده قوله: لقيت أناساً فأفنـيتـهـم  وأفنيت بعد أناس أناساً

ثلاثة أهلين أفنـيتـهـم  وكان الإلهَ هو المستآسا 

وجعل بعضهم عمره "240" سنة، وكان أكثرها في الجاهلية.

وهو من "الفلج" جنوب نجد، وكان يزور بني لخم في الحيرة. وكان شاعراً مغلّباً، ما هاجى قط إلا غلب، هاجى أوس بن مغراء، وليلى الأخيلية، وكعب بن جميل فغلبوه جميعاً. وذكر انه مكث إلى أيام "عبد الله بن الزبير".

وذكروا انه كان يذكر في الجاهلية دين ابراهيم والحنيفية ويصوك ويستغفر. وقال في الجاهلية كلمته التي أولها: الحمد للهِ لا شريك لـه  من لم يقلها فنفسه ظلما 

وفيها ضروب من دلائل التوحيد والإقرار بالبعث والجزاء والجنة والنار وصفة بعض ذلك على نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وقد قيل ان هذا الشعر له، ولكنه قد صححه علماء العشر مثل: يونس بن حبيب، وحماد الراوية، ومحمد ابن سلام، وعلي بن سايمان الأخفش للنابغة الجعدي.

وروي انه كان ممن فكر في الجاهلية وأنكر الخمر والسكر وهجر الأزلامَ واجتنب الأوثان وذكر دين ابراهيم.

وذكر ان "النابغة" قدم على "عثمان" يستأذنه في السفر إلى البادية، لأن نفسه اشتاقت اليها، ليشرب من ألبانها، وليشرب من شيح البادية، فقال له عثمان: "أما علمت ان التعرب بعد الهجرة لا يصلح? قال: لا واللهِ ما علمت وما كنت لأخرج حتى أستأذنك، فأذن له، وضرب له أجلاً". ثم دخل على "الحسن بن علي" فودعه، فقال له: أنشدنا من بعض شعرك، فأنشده: الحمد لله لا شريك لـه  من لم يقلها فنفسه ظلما 

فقال: يا أبا ليلى ما كنا نروي هذه الأبيات إلا لأمية بن أبي الصلت? قال: يا ابن بنت رسول الله، والله اني لأول الناس قالها وان السروق من سرق أمية شعره".

وذكر أنه كان من أصحاب "علي" وحارب معه يوم صفين، وله مع "معاوية" أخبار. ومات معمراً بأصبهان سنة "65ه" "684م". وكان معاوية سيره اليها مع "الحرث بن عبد الله بن عوف بن أصرم". وكان ولي اصبهان من قبل علي.

وقد وفد النابغة على النبي وأنشده قصيدته الرائية التي فيها: أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى  ويتلو كتاباً بالمـجـرة نـيرا

إلى أن بلغ قوله: بلغنا السماء مجدنا وجدودنـا  وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا 

فقال رسول الله: إلى أين أبا ليلى? فقال: إلى الجنة. فقال رسول الله: نعم إن شاء الله.

ولما أنشده: و لا خير في حلم إذا لم تكن له  بوادر تحمي صفوه أن يكـدرا

و لا خير في جهل إذا لم يكن له  حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

فاستحسنه الرسول وقال: لا يفضض الله فاك. وذكر أن كلمة النابغة هذه قصيد مطوّل نحو مائتي بيت أوله: خليلي غضـا سـاعة وتـهـجـرا  ولو ما على ما أحدث الدهر أو ذرا 

وهو من أحسن ما قيل من الشعر في الفخر بالشجاعة سباطة ونقاوة وجزالة وحلاوة. وقد تعرض فيها بأمور الجاهلية والاسلام.

وأسلم وحسن إسلامه وكان يرد على الخلفاء ورد على عمر ثم على "عثمان".

ويظهر ان القصيدة قد طوّلت على "النابغة" فيما بعد، وانها لم تكن على هذا النحو من الطول لما أنشدها على الرسول. وقد روى بعض العلماء منها أربعة وعشرين بيتاً، لعلها هي الأبيات التي أنشدها أمام النبي.

وذكر انه كان بالبصرة، فرعت "بنو عامر" في الزرع، فبعث "أبو موسى" الأشعري في طلبهم، فتصارخوا يا آل عامر! فخرج النابغة الجعدي ومعه عصبة له. فضربه أسواطاً. فقال النابغة في ذلك: رأيت البكر بكر بني ثمـود  وأنت أراك بكر الأشعرينـا

فإن تك لابن عفّـانٍ أمـينـاً  فلم يبعث بك البر الأمـينـا

فيا قبر النبي وصـاحـبـيه  ألا غوثنا لو تسـمـعـونـا

ألا صلى إلهكـم عـلـيكـم  و لا صلى على الأمراء فينا 

وقد مدح "النابغة" الجعدي عبد الله بن الزبير، ويظهر انه كان في ضيق. وعسر، إذ يقول فيها: أتاك أبو ليلى تجوب به الـدجـى  دجى الليل جوّاب الفلاة عرمرم

لتجير منه جانـبـاً دعـدت بـه  صروف الليالي والزمان المصمم 

فأعطاه قلائص سبعاً وفرساً وخيلاً، وأوقر له الركاب براً وتمراً وثياباً. ومن جيد شعره قوله: فتى كملت خيراته غير أنـه  جواد فما يبقى من المال باقيا 

فتى تمّ فيه يسـر صـديقـه  على أن فيه ما يسوء الأعاديا 

قال العلماء في شعر "النابغة": "خمارُ بوافِ، ومطرف بآلاف. يريدون أن في شعره تفاوتاً، فبعضه جدّ مبرّز وبعضه ردئ ساقط". ونسب إلى "الفرزدق" قوله في النابغة الجعدي: "صاحب خُلقان، يكون عنده مطرف بألف دينار، وخمار بواف".

وقد ذكر "أبو العلاء" المعري قصيدة النابغة التي يقول فيها: ولقـد أغـدو بـشـرب أنـف  قبل أن يظهر في الأرض ربش 

فقال على لسان "النابغة" الجعدي: "ما جعلت الشين قط روياً، وفي هذا الشعر ألفاظ لم أسمع بها قط".

وروى "المعري" له قصيدة، استحسن منها قوله: طيبة النشر، والبداهة، وال  عِلاّت، عند الرُقاد والنسم

ومن شعره قوله في "زياد بن الأشهب بن أدد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة" العامري الجعدي: مقام زياد عند باب ابن هاشم  يريد صلاحاً بينكم ويقرب

وكان قد مشى في الصلح بين علي ومعاوية. وكان من أشراف أهل الشام ومن المقربين إلى معاوية.

و"الطفيل بن عمرو بن طريف" الدوسي، من الشعراء الأشراف. كان شاعراً لبيباً. تذكر رواية انه أسلم حين كان الرسول بمكة، وانه لما أتى مكة ذكر ناس من قريش أمر النبي، وسألوه أن يختبر حاله، فأتاه فأنشده من شعره، فتلا النبي الاخلاص والمعوذتين فأسلم في الحال وعاد إلى قومه. وتذكر رواية انه عاد مرة أخرى إلى مكة، ثم عاد إلى قومه حتى هاجر الرسول إلى المدينة، فجاء على رأس وفد من دوس ممن أسلم، فوصل والرسول محاصر "خيبر"، فمكث بالمدينة حتى إذا فتحت مكة، بعثه الرسول إلى "ذي الكفين" صنم "عمرو بن حممة" حتى أحرقه. وقد أورد "المرزباني" شيئاً من شعره.

وأعشى بن مازن، أو الأعشى المازني، هو "عبد الله بن الأعور"، وقيل ان اسم "الأعور" "رؤبة بن فزارة بن غضبان بن حبيب بن سفيان بن مكرز ابن الحرماز بن مالك بن عمرو بن تميم". يكنى "أبا شعيثة". "وقال أهل الحديث: يقولون المازني وانما هو الحرمازي، وليس في بني مازن أعشى". وذكر انه أتى للنبي فأنشده: يا مالك الناس وديّان العرب  اني لقيت ذربة من الذرب

وفيه قصة امرأته وهربها.

فكتب النبي إلى "مطرف بن نهصل"، وكانت امرأته عنده، ان يعيدها اليه، فأعادها، فقال: لعمرك ما حبي معاذة بالـذي  يغيره الواشي و لا قدم العهد

و لا سوء ما جاءت به إذ أزلها  غواة رجال إذ ينادونها بعـدي

وذكر صاحب "الاستيعاب"، ان اسم والد "أعشى" مازن، هو"الأطول". وقيل اسم الأطول أو الأعور: "عبد الله".

وروى ان اسمه "عبد بن لبيد" الأعور. وقيل: "الأعور بن قراد بن سفيان". وكان قد خرج في "رجب" يمير أهله من هجر، فهربت امرأته بعده ناشزاً عليه، فعاذت برجل منهم. فجاء "الأعشى" إلى الرسول وعاذ به. وأنشأ يقول قصيدته.

ومن شعره: يا حكم بن المنذر بن الجـارود  سرادق المجد عليك مـمـدود

أنت الجواد ابن الجواد المحمود  نبتَّ في الجود وفي بيت الجود 

والعود قد ينبت في أصل العود   

و "الحطيئة"، وهو "جرول بن أوس بن مالك بن "حيوة" جؤية بن مخزوم بن مالك" العبسي، ويكنى "أبا مليكة" "من فحول الشعراء ومقدميهم وفصحائهم، وكان ينصرف في جميع فنون الشعر من مدح وهجاء وفخر ونسب ويجيد في جميع ذلك. وكان ذا شر وسفه، وكان إذا غضب على قبيلة انتمى إلى أخرى، زعم مرة انه ابن عمرو بن علقمة من بني الحارث بن سدوس. وانتمى مرة إلى ذهل بن ثعلبة، وأخرى إلى بني عمرو بن عوف. وله في ذلك أخبار مع كل قبيلة وأشعار مذكورة في ديوانه. وكان كثير الهجاء حتى هجا أباه وأمه وأخاه وزوجته ونفسه، وهو مخضرم أدرك الجاهلية والاسلام. وكان أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد ثم أسر وعاد إلى الإسلام. وكان ملحفاً شديد البخل، لا يقف إلحافه في السؤال عند حد، ولا يخجل من التصريح في الاستكداء وفي إذلال نفسه في الحصول على مال. طاف في الآفاق يمتدح الأمائل ويستجديهم. وقد عدّ في البخلاء. "قيل بخلاء العرب أربعة: الحطيئة، وحميد الأرقط، وأبو الأسود الدؤلي، وخالد بن صفوان". وقيل عنه انه كان "دنيء الطبع، لئيم النفس، كثير الطمع، جعل الشعر متجراً، فكان له من الهجاء معاش ومكسبُ لأن الناس كانوا يهدون له الهدايا خوفاً من شره. فقال الأصمعي: كان الحطيئة جشعاً سؤولاً ملحفاً دنيء النفس، كثير الشر قليل الخير، بخيلاً قبيح المنظر، رث الهيئة مغموز النسب، فاسد الدين، وما تشاء أن تقول في شعر شاعر ما من عيب إلا وجدته فيه، وقلما تجد ذلك في شعره"، كان لا يبالي من هجو من سبق أن مدحه وأثنى عليه، لاغداقه المال عليه، بل يظهر انه كان من ذلك الفريق من الناس المرضى النفوس الذين يسيئون إلى من أحسن اليهم، بل كانوا أول من يسيء إلى من أحسن اليه، لعقدة مستعصية في النفس.

وكان قصير القامة، ولقصره هذا لقب بالحطيئة. وكان ذميماً، قبيح الوجه، سيء الهيئة، ولعل هذه الأمور هي التي صيرته سيء الطبع، هجاءً لكا أحد، فلا يسلم من لسانه أحد. فلما هجا أباه، بأبيات قاسية شديدة منها: فنعم الشيخ أنت لدى المخازي  وبئس الشيخ أنت لدى المعالي 

جمعت الؤم، لا حيّاك ربـي،  وأبواب السفاهة والضـلال

قيل: "كان الحطيئة يرعى غنماً له، وفي يده عصا. فمرَّ به رجلُ فقال: يا راعي الغنم ما عندك? قال: عجراء من سلمٍ. يعني عصاه. قال: إني ضيف. فقال الحطيئة للضيفان أعددتها".

وهجا أمه بشعر موجع منه قوله: تنحي فاقعدي مني بـعـيداً  أراح الله منك العالمـينـا

ألم أوضح لك البغضاء مني  ولكن لا أخالك تعقلـينـا

أغربالاً إذا استودعت سراً  وكانوناً على المتحدثـينـا

جزاك الله شراً من عجوز  ولقّاك العُقوق من البنينـا

حياتك ما علمت حياةُ سوء  وموتك قد يسر الصالحينا

ثم هجا أخاه وزوجته، فلما لم يبق أمامه أحد سلم من هجائه إلا نفسه، اذ اطلع في حوض فرأى وجهه فقال: أبت شفتاي اليومَ إلا تكلـمـا  بسوء فما أدري لمن أنا قائله 

أرى لي وجهاً شوّه الله خلقه  فقبح من وجه وقبح حاملـه

وقد جعل "المعري" هذا الشهر، سبباً دخل به الجنة، لقوله بالصدق.

وله قصيدة "سينية" مشهورة، هجا فيها "الزبرقان بن بدر"، فسجنه "عمر" عليها، منها قوله: ملوا قراه، وهرته كـلابـهـم  وجرحوه بـأنـياب وأضـراس

دع المكارم لا ترحل لبغيتـهـا  واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسي 

وفيها: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه  لا يذهب العرف بين الله والناس 

وقد قال "أبو عمرو بن العلاء" عن هذا البيت: "لم تقل العرب قط بيتاً، أصدق" منه.

وقد حملت دمامة خلقة الحطيئة ورثة هيئته وسوء ملبسه الناس على ازدراء شأنه وعدم الأهتمام به عند حضوره مجلساً لا يعرفه فيه أحد، والى وقوعه في مشاكل معهم. وقد يكون من الصعب عليهم رتق الخرق بعد وقوعه وإصلاح حاله. غير أن منهم من كان يجد سبيلاً إلى ذلك، باسترضائه بتقديم المال له، وهو ما يطلبه، فينسبه ما أصابه من ازدراء وإهمال. وزعم أنه كان مغمور النسب، وأنه كان من أولاد الزنا الذين شرفوا.

وقد غلب الهجاء على طبعه، حتى عدّ من أنبغ الشعراء المتقدمين فيه. وقد ذهب "بروكلمن" إلى أن للهجاء الفضل في بقاء شعر الحطيئة. فالهجاء باب له منفذ واسع إلى العواطف حفظه الأعداء والحساد للنيل ممن قيل بحقهم من أعدائهم وحسادهم، فحفظه الناس جيلاً عن جيل.

ويقال ان "عمر" لما لقي الحطيئة قال له: "كأني بك عند بعض الملوك تغنّيه بأعراض الناس. أي تغني بذمهم وذم أسلافهم في شعرك وثلبهم". ولما هجا "الحطيئة" "الزبرقان بن بدر" استعدى عليه "عمر"، فدعا "حسان بن ثابت" فقال: أتراه هجاه? قال: نعم وسلح عليه فحبسه، فقال وهو في حبسه شعراً يستعطف به "عمر" حتى رق عليه، وشفع له "عمرو بن العاص"، فأطلقه على ألا يهجو أحداً. ويقال انه كتب إلى عمر شعراً يتوسل فيه العفو عنه، وأن يرحم حال أولاده الصغار بذي مرخ، فيه: ماذا تقول لأفراخ بـذي مـرخٍ  حمر الحواصل لا ماء ولا شجر 

ألقيت كاسبهم في قعر مظلـمة  فاغفر عليك سلام الله يا عمـر

أنت الأمين الذي من بعد صاحبه  ألقى اليك مقاليدَ النهى البشـر

لم يؤثروك بها إذ قدموك لـهـا  لكن لأنفسهم كانت بها الـخـير

واذا صح ما روي من أن الحطيئة لما قدم المدينة، يريد الرسول، أرصدت له قريش العطاء، خوفاً من شره، فيجب أن يكون قدومه قبل عام الفتح، وغلبة المسلمين على المشركين. ولكننا نجد بعض الرواة يشكون في دخوله في الإسلام حياة الرسول. يقول "ابن قتيبة": "ولاأراه أسلم إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأني لم أسمع له بذكر فيمن وفد عليه من وفود العرب، إلا اني وجدته يقول في أول خلافة أبي بكر رضي الله عنه حين ارتدت العرب: أطعنا رسولَ اللهِ إذ كان حاضراً  فيا لهفتي ما بال دين أبي بكـر

أيورثها بكراً إذا مـات بـعـده  فتلك، وبيت الله، قاصمة الظهرِ 

وقد يجوز أن يكون أراد بقوله: أطعنا رسول الله، قومه أو العرب. وكيف ما كان فإنه رقيقَ الإسلام، لئيم الطعم".

وقد مدح شعر الحطيئة، فذكر عنه "أبو الفرج الأصبهاني" انه "كان من فحول الشعراء ومقدميهم وفصحائهم. وكان يتصرف في جميع فنون الشعر منمدح وهجاء وفخر ونسيب، ويجيد في جميع ذلك". وقال "الأصمعي": "وما تشاء أن تقول في شعر شاعر ما من عيب إلا وجدته فيه، إلا الحطيئة، فقلما تجد ذلك في شعره". وروي عن "اسحاق الموصلي" قوله: "ما أزعم ان أحداً من الشعراء بعد زهير أشعر من الحطيئة". قال "الجاحظ": وكان الأصمعي يقول: "الحطيئة عبدُ لشعره. عاب شعره حين وجده كله متخيَّراً منتخباً مستوياً، لمكان الصنعة والتطلف، والقيام عليه"، زنسب للأصمعي قوله: "زهير بن أبي سلمى، والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر".

وكان "الحطيئة" راوية كعب بن زهير، بل يقال انه كان راوية زهير ابن أبي سلمى. وله ديوان برواية "السكري" عن "محمد بن حبيب"، طبع مراراً. وذكر انه "قال لكعب بن زهير: قد علمت روايتي شعر أهل البيت وانقطاعي، وقد ذهب الفحول غيري وغيرك، فلو قلت شعراً تذكر فيه نفسك وتضعني موضعاً، فإن الناس لأشعاركم أروى. فقال كعب: فمن القوافي شأنها من يحوكهـا  إذا ما ثوى كعب وفوز جرول

وروي "أن أعرابياً وقف على حسان وهو ينشد، فقال له كيف تسمع ? قال ما أسمع بأساً؛ فغضب حسان. فقال له: من أنت ? قال: أبو مليكة. قال: ما كنت قط أهون علىّ منك حتى اكتنيت بامرأة، فما أسمك ? قال: الحطيئة، فأطرق حسان، ثم قال: إمض بسلام".

وذكر بعض الرواة أن "الحطيئة" لما حضرته الوفاة اجتمع اليه قومه فقالوا: يا أبا مليكة، أوصِ. فقال: ويل الشعر من رواية السوء. قالوا أوصِ، يرحمك الله. قال: من الذي يقول: إذا أنبض الرامون عنها ترنمت  ترنم ثكلى أوجعتها الجـنـائز

قالوا: الشماخ. قال أبلغوا غطفان أنه أشعر العرب. وتستمر الرواية على هذا النوع من طلب قومه منه أن يوصي، و من إجابته أجوبة لا صلة لها بالوصية. حتى انتهت بأنهم حملوه على أتان وجعلوا يذهبون به ويجيئون وهو عليها حتى مات، وهو يقول: لا أحد ألأم مـن حـطـيئة  هجا بنيه وهجا الـمُـريئة

من لؤمه مات على الفريئة 

وروى "ابن قتيبة" القصة على هذا النحو "قيل له حين حضرته الوفاة: أوصِ يا أبا مليكة. فقال: مالي للذكور دون الأناث، فقالوا أن الله لم يأمر بهذا، فقال: لكني آمر به ! ثم قال: ويل للشعر من الرواة السوء، وقيل له: أوصِ للمساكين بشيء: فقال: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا، فأنها تجارة لن تبور ! وقيل له: اعتق عبدك يساراً، فقال: اشهدوا انه عبد ما بقي عبسيّ! وقيل له: فلان اليتيم ما توصي له ? فقال: أوصي بأن تأكلوا ناله وتنيكوا أمه ! قالوا: فليس إلا هذا ?! قال: احملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريمٌ، لعلي أنجو ! ثم تمثل: لكل جديد لـذة غـير أنـنـي  رأيت جديد الموت غير لـذيذ

له خبطة في الخلق ليست بسُكَّر  ولا طعمَ راح يُشتهى ونـبـيذ

ومات مكانه".

وهي قصة لا تخلو من أثر الوضع والصنعة، قيلت على لسانه، لما عرف عنه من اللؤم والبخل والتعرض بالناس. وقد رويت بصور مختلفة.

وقد ذكر "الحطيئة" "سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أمية"، القرشي الأموي في شعره، وكان سعيد ممن ندبه عثمان لكتابه القرآن. وكان جواداً، ولم ينزع قميصه قط، وكان أسود نحيفاً، وكان يقال له: "عكة العسل"، قال الحطيئة فيه: سعيدٌ فلا يغررك قلة لحمه  تخدد عنه اللحم فهو صليبُ 

ومن شعر "الحطيئة" المشهور قوله: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم  ومن يُساوي بأنف الناقة الذنبا

وكان الرجل من "بني أنف الناقة" إذا قيل له: ممن الرجل ? قال: من بني قريع، فلما مدحهم "الحطيئة" بهذا الشعر صار الرجل منهم إذا قيل له: ممن أنت ? قال: من بني أنف الناقة افتخاراً، في قصة سبق أن تحدثت عنها.

ومن جيد شعره قوله: متى تأتي تعشو إلى ضوء ناره  تجد خير نارٍ عندها خير موقد 

والشاعر "كعب بن زهير" هو ابن الشاعر الجاهلي "زهير بن أبي سلمى". فهو شاعر ابن شاعر، وأبو شعراء. فقد كان ولدا "كعب" وهما: "عقبة"، بلغا "أبرق" العراق، وذهبالى الرسول لما سمع من خبره، فأسلم. فلما بلغ "كعباً" خبر إسلامه، ذمّ أخاه لمفارقته سنة آبائه وأجداده، وخروجه على ما ألف عليه أباه وأمه. بشعر قال فيه: ألا أبلغا عني بجـيراً رسـالة  على أي شيء أنت منزل ذلكا 

على خلق لم تلف أماً ولا أبـاً  عليه ولم تدرك عليه أخاً لكـا

أو: ألا ابلغا عني بـجـيراً رسـالة  على أي شيء ريب غيرك دلكا 

على خلق لم تلف أمـاً ولا أبـاً  عليه ولم تدرك عليه أخاً لكـا

سقاك أبو بكـر بـكـأس روية  فأنهلك المأمور منها وعلـكـا

ورويت الأبيات على هذه الصورة أيضاً: ألا ابلغا عنـي بـجـيراً رسـالةً  فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا 

سقيت بكأس عنـد آل مـحـمـد  فأنهلك المأمون منها وعـلّـكـا

فخالفت أسباب الهدى وتبـعـتـه  على أي شيء وَيبَ غيرك دلّكـا

ووردت بصورة أخرى، مما يدل على اختلاف الرواية، ووقوع خطأ في الاستنساخ. وقد لام فيها قومه لدخول أكثرهم في الإسلام، وهجاهم هجاء مرّاً.

فبلغت أبياته رسول الله فأهدر دمه. وكتب بجير بذلك اليه، ويقول له النجاء، ثم كتب اليه انه لا يأتيه أحد مسلماً إلا قبل منه وأسقط ما كان قبل ذلك، ولما انتهى إلى "كعب" قتل "ابن خطل"، قدم المدينة فسأل عن أرق أصحاب النبي، فدل على "أبي بكر"، فأخبره خبره، فمشى "أبو بكر" وكعب على أثره وقد التئم حتى صار بين يدي النبي فقال: رجل يبايعك. فمدّ النبي يده، فمد كعب يده فبايعه وأسفر عن وجهه فأنشده قصيدته التي مطلعها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول  مُتَّيمُ إثرها لم يجزَ مكبـول

وهي قصيدته الشهيرة التي طبعت مراراً وشرحت شروحاً كثيرة، وتعدّ من "المشوبات". فكساه النبي بردة له، فاشتراها "معاوية" من ولده بعشرين ألف درهم، وهي التي يلبسها الخلفاء في الأعياد.

وهي قصيدة نظمها على نفس شعراء البادية وطريقتهم في مدح الملوك وسادات القبائل، ولولا الأبيات: نبئت ان رسول اللهِ أوعدنـي  والعفو عند رسول الله مأمول 

مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ال  قرآن فيه مواعيظ وتفـصـيل

والبيت: إن الرسول لنورُ يستضاء به  مهندُ من سيوف الله مسلول 

لقلنا: انه انما أراد ملكاً أو سيد قبيلة لا نبياً، جاء يعلن دخوله في دينه، واقتناعه بنبوته.

ويذكر علماء الشعر أن "الحطيئة" قال لكعب: قد علمتم روايتي لكم أهلَ البيت وانقطاعي اليكم، فلو قلت شعراً تذكر فيه نفسك ثم تذكرني بعدك، فإن الناس أروى لأشعاركم، فقال: فمن للقوافي شأنها من يحوكهـا  إذا ما مضى كعب وفوز جرول 

كفيتك لا تلقى من الناس واحـداً  تنخّل منها كل مـا يتـنـخّـل

يثقفها حتى تلـين كـعـوبـهـا  فيقصر عنها من يسيء ويعمل

وقد ذكر "ابن قتيبة" هذه الأبيات في أثناء ترجمته "زهيراً" على هذه الصورة: ومن للقوافي شأنها من يحوكها  إذا ما توى كعب وفوّز جرول

يقولُ فلا يعيا بشيء يقـولـه  ومن قائليها من يُسيء ويعمل

يقومها حتى تلين مـتـونـهـا  فيقصر عنها كل ما يتمـثـل

كفيتك لا تلقى من الناس شاعراً  تنخّل منها مثل ما أتـنـخـل

"قيل لخلف الأحمر: زهير أشعر أم ابنه كعب، قال: لولا أبيات لزهير أكبرها الناسُ لقلت ان كعباً أشعر منه".

وكان لكعب ابن يقال له: "عقبة بن كعب"، شاعرُ، وولد لعقبة العوّام، وهو شاعر كذلك. فنحن اذن أمام بيت توارث نظم الشعر.

وقد جمع علماء الشعر شعر "كعب" في ديوان، كما شرحوا وفسروا قصيدة "بانت سعاد" التي نالت عندهم مكانة كبيرة، لأنها قيلت في مدح الرسول، ولتقدير الرسول لها واعطائه البردة، تقديراً لقيمتها، حتى عرفت بقصيدة البردة، فصارت من أشهر أشعار العرب، التي يتغنى بها في المناسبات، حتى تفنن المغنون في غنائها، وخلدت اسم الشاعر حتى اليوم. وقد ترجمت إلى عدة لغات أعجمية. وشطرت وخمست، لما صار لها من مكانة في أعين الشعراء.

ومن الشعراء المخضرمين: "العبّاس بن مرداس" من "بني سليم"، وأمه "الخنساء". أسلم قبل فتح مكة بيسير. ولما فرغ الرسول من ردّ سبايا "حنين" إلى أهلها، أعطى المؤلفة قلوبهم، وكانوا أشرافاً ويتألف بهم قومهم، فأعطى أبا سفيان وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن كلدة، والحارث ابن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العُزّى، وصفوان بن أمية، وكل هؤلاء من أشراف قريش، والأقرع بن حابس بن عنان بن محمد بن سفيان المجاشعي التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، ومالك بن عوف النصري، أعطى كل واحد من هؤلاء مائة بعير، وأعطى دون المائة رجالاً من قريش، وأعطى العباس بن مرداس دون المائة، أو أباعر، فسخطها، وقام بين يدي الرسول يعاتبه، فقال: أتجعل نَهبي ونهبَ العبيد بين عيينة والأقرع 

وأبياتاً أخرى. فلما أنشد هذه الأبيات بين يديه، قال: اقطعوا عني لسانه، فأعطي حتى رضي. وقيل أعطي مائة.

ورويت الأبيات على هذه الصورة: كانـت نـهـابـاً تـلافَـــيٌتُـــهـــا  وكـرّى عـلـى الـقـوم بـالأجـــرع

وحـثـى الـجـنـود لـكـي يدلـجــوا  إذا هـجـع الـقـومُ لـم أهــجـــع

فأصبح نهبي ونهب العُبَيٌد بين عيينه والأقرع 

إلا أفائل أعطيتها  عديد قـــوائمـــه الأربـــــــع

ومـا كـان بـــدر ولا حـــابـــسُ  يفـوقـان مـرداسَ فـي الـمـجـمــع

وقـد كـنـت فـي الـحـرب ذا تُــدٌرأ  فلـم أعـط شـيئاً ولــم أمـــنـــع

ومـا كـنـت دون امـرئٍ مـنـهـمــا  ومـن تـضـع الـيومَ لا تـــرفـــع

ولما بلغ زوجة العباس بن مرداس نبأ إسلامه، قالت: لعـمـري لـئن تـابـعـتَ دين مـــحـــمـــد  وفـارقـت إخـوان الـصـفـا والـصـــنـــائع

لبدلّتَ تلك النفس ذلاً بعزةغداة اختلاف المُرهفات القواطع

ومن شعره قصيدته: لأسماء رسم أصبح اليوم دارساً  وأقفر إلا رحرحان وراكسـا

وتعدّ من "المنصفات".

وروي أن "حرب بن أمية" جدّ معاوية لما انصرف من حرب عكاظ هو وإخوته مرّ بالقرية، وهي إذ ذاك غيضة شجر ملتف لا يرام، فقال له "مرداس" والد العبّاس: أما ترى هذا الموضع! قال: بلى فما له? قال " نعم المزدرع هو، فهل لك أن تكون شريكي فيه، ونحرق هذه الغيضة ثم نزرعه بعد ذلك? قال: نعم. فأضرما النار في الغيضة، فلما استطارت وعلا لهبها سمع من الغيضة أنيناً وضجيجاً، ثم ظهرت منها حيّات بيض تطير وخرجت منها. ولم يلبث حرب ومرداس أن ماتا: فأما مرداس فدفن بالقرية، ثم ادعاها بعد ذلك "كليب بن أبي عهمة" الظفري، فقال في ذلك عباس بن مرداس: أكليب مالك كل يوم ظالمـا  والظلم أنكد وجهه ملعـون

عجباً لقومك يحسبونك سـيداً  وإخال إنك سـيد مـعـيون

فإذا رجعت إلى نسائك فادّهن  إن المسالم رأسه مـدهـون

وأفعل بقومك ما أراد بـوائل  يوم الغدير سميّك المطعون

وكان للعباس ولد اسمه "جاهمة" أسلم وصحب النبي.

وكان "زيد الخيل بن مهلهل بن زيد" الطائي ممن وفد على رسول الله سنة تسع، فسماه النبي: "زيد الخير". وكان شاعراً خطيباً شجاعاً يكنى "أبا مكنف". وأمه من "كليب". وكان أحد شعراء الجاهلية وفرسانهم المعدودين، وكان جسيماً طويلاً. مات "زيد الخيل" منصرفه من عند النبي، وقيل في خلافة عمر.

ذكر انه مر بغلام، فسأله من أنت? قال: أنا بجير بن زهير، فحمله على ناقة، ثم أرسل به إلى أبيه. فأراد "زهير بن أبي سلمى" والد الغلام إثابته، فأرسل اليه فرس ابنه "كعب" وكانت من جياد خيل العرب، فاستاء "كعب" من ذلك، وقال شعراً ليوقع بين قوم "زهير" وبين قوم "زيد الخيل"، وهجا زيداً.

وكان لزيد الخيل ابنان، يقال لهما مكنف وحريث، أسلما وصحبا النبي وشهدا قتال "الردة" مع "خالد بن الوليد". وحماد الراوية مولى "مكنف". ولحريث شعر في رثاء "أوس بن خالد"، وكان قد قتل في حرب.

وكان "مكنف" أكبر ولد أبيه، وبه كان يكنى. وأسلم وحسن إسلامه، وشهد قتال أهل الردّة مع "خالد بن الوليد". وكان أسلم هو وأخوه "حريث ابن زيد الخيل" ويقال له أيضاً "الحارث"، وصحبا النبي. وشهدا قتال أهل الردة مع "خالد" واشترك "مكنف" في قتال "بني أسد" لما ارتدوا مع "طليحة" الأسدي. ونسبت له هذه الأبيات في قتال طليحة: ضلوا وغرهم طليحة بالمـنـى  كذباً وداعي ربـنـا لا يكـذب

لما رأونا بالفضـاء كـتـائبـاً  يدعو إلى رب الرسول ويرغب 

ولّوا فراراً والرماح تـؤزهـم  وبكل وجه وجهوا نـتـرقـب

و"حميد بن ثور بن حزن" الهلالي، من الشعراء المخضرمين الفصحاء، وكان كل من هاجاه غلبه. وقد وفد على النبي، فأنشده شعراً فيه: أصبح قلبي من سليمي مقصداً  إن خطأ منها وإن تعـمـدا

حتى أتيت المصطفى محمـداّ  يتلو من الله كتاباً مـرشـدا

وذكر أنه كان في عداد الصحابة الذين رووا عن الرسول، وضعفه بعضهم. قيل إنه عاش إلى خلافة عثمان. وذكر بعض العلماء أنه عاش إلى ما بعد ذلك، وأنه دخل على بعض خلفاء بني أمية، فقال له: ما جاء بك? فقال: أتاك بي الله الذي فوق من ترى  وبرّك معروف علـيك دلـيل

وقد عدّه "ابن قتيبة" في الإسلاميين.

و"الأسود بن سريع بن حمير بن عبادة" التميمي السعدي، ممن رأى الرسول وغزا معه وروى عنه. وكان شاعراً توفى في أيام "معاوية"، وذكر أنه توفى سنة "42 ه". وقيل فقد يوم الجمل، وقيل ركب سفينة وحمل معه أهله وعياله، لما قتل "عثمان"، فما رؤي بعد. وكان قاصاً، قيل إنه كان أول من قص في مسجد البصرة.

وكان "ضرار بن الأزور بن مرداس" الأسدي، فارساً شجاعاً وشاعراً مطبوعاً، استشهد يوم اليمامة، وقيل بعد ذلك. وقد أنى النبي فأنشده: خلعت القداح وعزف الـقـيا  ن والخمر أشربها والثـمـالا

وكرى المجبر فـي غـمـرة  وجهدي على المشركين القتالا 

وقالـت جـمـيلة بـددتـنـا  وطرحت أهلك شتى شمـالا

فيا ربّ لا أغبنـن صـفـقة  فقد بعت أهلي ومالي بـدالا

ولضرار قصيدة قالها في يوم الردة، لما بلغه ارتداد قومه من "بني أسد"، منها:   

بني أسد قد ساءني ما صنعتـم  وليس لقومٍ حاربوا الله محرم

وأعلم حقاً انكم قـد غـويتـم  بني أسد فاستأخروا أو تقدموا

نهيتكم أن تنهبوا صدقـاتـكـم  وقلتُ لكم: يا آل ثعلبة اعلموا

عصيتم ذوي أحلامكم وأطعتـم  ضجيعاً وأمر ابن اللقيطة أشأم 

وقد بعثوا وفداً إلى أهل دومة  فقبح من وفد ومـن يتـيمـم

ولو سئلت عنا جنوب لخبـرت  عشية سالت عقرباء بها الـدم

وضجيم هو "طلحة بن خويلد"، وكانت أمه حميرية أخيذة، وابن اللقيطة: "عيينة بن حصن"، وقوله: يا آل ثعلبة، أراد ثعلبة الحلاف بن دودان بن أسد. وعقرباء بأرض اليمامة. وكان "عيينة" قد انضم إلى "طلحة" الذي تسمية الموارد "طليحة" استصغاراً لشأنه، كما دعت "مسلمة" "مسيلمة"، وقال: "والله لأن نتبع نبياً من الحليفين أحب الينا من أن نتبع نبياً من قريش؛ وقد مات محمد، وبقي "طليحة"، وقاتل معه حتى هرب. وكان يدير المعركة وهو متلفف في كساء له بفناء بيت له من شعر، يتنبأ لهم، والناس يقتتلون، حتى جاءه الوحي بقوله: "ان لك رحا كرحاه، وحديثاً لا تنساه"، ثم لم يصمد، فهرب.

وضرار هو الذي قتل "مالك بن نويرة" بأمر "خالد بن الوليد".

وكان "هوذة بن علي" الحنفي شاعراًوخطيباً، ذكر أنه كتب إلى الرسول كتاباً يقول فيه: "ما أحسن ما تدعو اليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك". وقد مات عام الفتح. وهو شاعر يجب إدخاله في الجاهليين، لأنه لم يعتنق الإسلام، وقد تحدثت عنه هنا، لأنه من المتأخرين، وله خبر مع الرسول.

و"فروة بن مسيك بن الحارث بن سلمة" المرادي، شاعر، وهو صحابي مخضرم. وكان من أشراف قومه، قدم على رسول الله، مفارقاً لملوك كندة، فبايعه، ونزل على "سعد بن عبادة"، فكان يحضر مجلس رسول الله، ويتعلم القرآن وفرائض الإسلام. ثم استعمله الرسول على مراد وزبيد ومذحج كلها، وكتب معه كتاباً إلى الأبناء باليمن يدعوهم إلى الإسلام، فأقم فيهم حتى نوفي رسول الله. وذكر أن النبي، أجاز "فروة" باثني عشر أوقية، وحمله على بعير نجيب وأعطاه حلة من نسج عمان. واستعمله "عمر"-كما جاء في رواية- على صدقات مذحج.

وقد جمع شعر "فروة" في ديوان، رجع "السيوطي" اليه، ونقل منه.

و"عمر بن معديكرب" الزبيدي من أشراف اليمن وساداتهم، وقد اشتهر وعرف بالشجاعة، قال عنه "أبو عمرو بن العلاء: لا يفضل عليه فارس في العرب". وكان فحلاً في الشجاعة والشعر. وأكثر شعره في الحماسة. وقد اشتهر بسيفه "الصمصامة"، والأرجح انه شهد "القادسية"، وكان له أثر فيها. واختلف في صحبته للنبي، فمن العلماء من ذكر انه لم يلق الرسول، وانما قدم المدينة بعد وفاته، ومنهم من ذكر انه قدم المدينة في وفد ?زبيد"، فأسلم سنة تسع أو عشر، وصحب الرسول. و لا تخلو أقوال الرواة فيه من أثر العصبية لليمن أو عليها، وقد اختلف في عمره، وأكثرهم انه مات بعد أن تجاوز المائة، ومنهم من جعل عمره فوق المائة والخمسين. وهو ابن خالة "الزبرقان بن بدر" التميمي، وأخته "ريحانة بنت معدي كرب" والدة "دريد بن الصمة"، و "عبد الله ابن الصمة". وكانت تحت "الصمة بن الحارث".

وورد في بعض الروايات، أنه قدم على رسول الله المدينة فأسلم، ثم أرتد بعد وفاته فيمن ارتد باليمن، ثم عاد إلى المدينة فشهد اليرموك ثم هاجر إلى العراق فأسلم، وشهد القادسية، وله بها أثره وبلاؤه، وشهد مع النعمان بن مقرّن المزني فتح نهاوند، فقتل هنالك، مع النعمان وطليحة بن خويلد، فقبورهم بموضع يقال له: "الاسفيذهان".

ومن شعره الذي يتمثل به، قوله: إذا لم تستطع شيئاً فدعه  وجاوره إلى ما تستطيع 

وقوله: أريد حباءه ويريد قتـلـي  عذيرك من خليك من مراد 

وتمثل به علي بن أبي طالب، لما رأى عبد الرحمان بن ملجم المرادي.

ولعمرو بن معد يكرب، ديوان برواية "أبي عمرو الشيباني" رآه "ابن حجر" وقال عنه "ورأيت في ديوانه رواية أبي عمرو الشيباني من نسخة فيها خط أبي الفتح بن جني قصيدة يقول فيها: والقادسية حين زاحم رستم  كنّا الكماة نهز كالاسطان

ومضى ربيع بالجنود مشرقاً  ينوي الجهاد وطاعة الرحمن 

وأورد "ابن حجر" له أشعاراً أخرى.

ونجد لعمرو بن معدي كرب شعراً في وصف الحرب، ذكر أن "عمر" سأله: "أخبرني عن الحرب"، فقال: هي كما قال الشاعر: الحرب أول ما تكـون فـتـيةً  تسعى بزينتها لكـل جـهـول

حتى إذا استعرت وشبّ ضرامها  عادت عجوزاً غير ذات حلـيل

شمطاء جزّت رأسها وتنكـرت  مكروهة للضم والـتـقـبـيل

وهي في بعض الروايات من شعره.

ومن شعر "عمرو بن معدي كرب" قوله: سوى أنّ أصواباً باعـقـق لـم يزل  بها آنسُ من أهلهـا غـير بـارح

وجدنا به العَمٌرين عمرُ بـن عُـدية  وعمرو بن عمرو في حلال سُلاطح 

وجدنا بني عمرو ثمانـين فـارسـاً  لكل صباحٍ كاشر الـنـاب كـالـح

وكان الغدانيون تحـت رمـاحـهـم  رماح بني عمرو غداة المصـابـح

مصافين أصهاراً ورحمـاً وجـيرزة  وما كان فيهم فارس غير جـامـح

وقوله: وجدّك مخصيّ على الوجه ناعسُ  تشير به الركبان ما قام أفـرع

وله أشعار قالها في حروبه في العراق مع جيش الفتح.

و"ساعدة بن جؤية" "ساعدة بن جؤين" "جؤية"، هو من الشعراء المخضرمين. أدرك الجاهلية والاسلام، وأسلم. وليست له صحبة. قيل عن شعره انه محشو بالغريب والمعاني الغامضة. وهو شاعر من شعراء مضر، محسن، قيل عن شعره انه ليس فيه من الملح ما يصلح للمذاكرة.

و "أبو ذؤيب" "خويلد بن خالد بن محرّث"، شاعر مخضرم، مجيد. وهو من "هذيل". رحل إلى المدينة، فوصلها والرسول مسجى، فكان ممن صلى عليه وشهد دفنه. "سئل حسان من أشعر الناس ?فقال حياً أم رجلاً ? قالوا حياً، قال: هذيل، وأشعر هذيل غير مدافع أبو ذؤيب. وتقدم أبو ذؤيب على جميع شعراء هذيل بقصيدته العينية التي أولها: أمن المنون وريبها تتوجع"، التي يرثي بها بنيه

وقد قال عنه بعض المؤرخين انه شاعر مجيد مخضرم كان أشعر هذيل، وهذيل أشعر أحياء العرب. وقال المرزباني عنه: كان فصيحاً كثير الغريب متمكناً في الشعر في إسلامه. هلك في زمان عثمان وقيل في زمن "عمر".

وكان راوية لساعدة بن جؤية الهذلي.

وتعدّ قصيدته المذكورة التي قالها في رثاء بنيه الخمسة أو الثمانية الذين قتلوا أو هلكوا بالطاعون في عام واحد، من أجود شعره، وهي قصيدة تفيض بالأسى والحنان على بنيه الذين ترك فراقهم أسى وحسرة في قلبه. وأولها: أمن المنون وريبها تتـوجـع  والدهر ليس بمتعب من يجزع 

ومن أبياتها الجيدة: واذا المنّية أنشبت أظفارها  ألفيتَ كل تميمة لا تنفـع

وقد وصف فيها حاله، وكيف أن جسمه صار شاحباً من الوجد على ما حل ببنيه، وكيف أنه صار لا يعرف طعم الراحة و لا النوم، حتى صار يعيش ناصب، يخال نفسه إنه لاحق بهم مستتبع، ولقد حرص بأن يدافع عنهم، ولكن المنيّة متى أقبلت فلا دافع لها: ولقد حرصت بأن أدافع عنهم  وإذا المنيّة أقبلت لا تدفـع

وإذا المنيّة أنبشت أظفارهـا  الفيت كل تميمة لا تنـفـع

ولأبي ذؤيب شعر في رثاء الرسول وردت أبيات منها في "الاستيعاب". وقد اختلف في المكان الذي توفي به هذا الشاعر، كما اختلف في سنة وفاته. وقد طبع ديوانه. وكان أبو ذؤيب، شاعراً فحلاً، لا غميزة فيه ولا وهن. ومن شعره في رثاء الرسول قوله: لما رأيت الناس في عسلانهم  من بين ملحود له ومضرح

متبادرين لشرجع بأكفهم=نص الرقاب لفقد أبيض أروح فهناك صرتُ إلى الهموم ومن بيت  جار الهموم يبيت غـير مـروح

كسفت لمصرعه النجوم وبدرهـا  وتزعزعت آطام بطن الأبـطـح

وتزعزعت أجيال يثرب كـلـهـا  ونخيلها لحلول خطـب مـفـدح

ولقد زجرتُ الطير قبل وفـاتـه  بمصابة وزجرت سعـد الأذبـح

وكان لأبي ذؤيب ابن يقال له "مازن بن خويلد"، ويكنى أبا الشهباء، وهو أحد شعراء هذيل.

و"أبو خِراش"، "خويلد بم مرة الهذلي" من شعراء هذيل، وهو شاعر مشهور، أدرك الإسلام شيخاً كبيراً ووفد على "عمر" و في أيامه كانت وفاته. وكان من الفصحاء. يقال إنه كان سريع الجري. دخل مكة في الجاهلية، وللوليد بن المغيرة فرسان، فقال: ما تجعل لي إن سبقتهما عدواً ? قال: إن فعلت فهما لك، فسبقهما. يقال إن ضيوفاً من اليمن نزلوا عليه، فذهب يستقي الماء فنهشته حية، فأقبل مسرعاً حتى أعطاهم الماء، ولم يعلمهم ما أصابه. فباتوا يأكلون، فلما أصبحوا وجدوه في الموت، فأقاموا حتى دفنوه. فبلغ عمر خبره، فكتب إلى عامله أن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش فيغرمهم ديته.

ومن شعره: لا هم هذا رابع إن تمّا  أتمه الله وقـد أتـمـا

إن تغفر اللهم تغفر جمّا  وأي عبد لك لا ألمّـا

قاله وهو يسعى بين الصفا والمروة، وثم شجر يومئذ.

ولأبي خراش أخ يقال له: "عروة بن مرة"، من شعراء هذيل المعدودين، وأخ آخر اسمه "أبو جندب بن مرة"، أحد شعراء هذيل المعدودين أيضاً.

و "صخر" الغي، هو "صخر بن عبد الله" الخيثمي الهذلي، من شعراء الخلاعة، وقد عرف بشدة بأسه وكثرة شره، وله صاحبة اسمها "دهماء". وقد ذكرها في قصيدته: إني بدهماء عزّ ما أجـدُ  يعتادني من حبابهـا زؤد

عاودني حبها وقد شحطت  صرف نواياها فأنني كمد 

وهو على رأي "المرزباني" من المخضرمين.

و "النمر بن تولب بن زهير بن أقيش"، شاعر مخضرم، يكنى "أبا ربيعة" ويسمى "الكيّس"، أدرك الإسلام وهو كبير، وهو من "الصحابة". وهو من "بني عكل". وصف بأنه جواداً واسع القرى، كثير الأضياف، وهّابا لماله. وانه كان أفتى الشعراء، شاعراً فصيحاً جريئاً على المنطق. قال عنه "المرزباني": "كان شاعراً فصيحاً، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً، ونزل البصرة بعد ذلك. وكان أبو عمرو بن العلاء يسميه الكيّس لجودة شعره وكثرة أمثاله. وكان جواداً وعمر طويلاً حتى أنكر عقله، فيقال انه عمر مائتي سنة. وهو القائل: يحب الفتى طول السلامة جاهداً  فكيف يرى طول السلامة يفعل 

وله شعر يخاطب به النبي منه: إنّا أتيناك وقد طال السفر=أقود خيلاً وجعا فيها ضرر وفرق "ابن حزم" بين "النمر بن تولب بن أقيش" العكلي، وبين "النمر بن تولب" و بين "النمر بن قاسط". و قال إنه الذي عاش حتى خرف. و يقال إن للنمر بن تولب العكلي ابناً يقال له "ربيعة" هاجر إلى الكوفة.

وكان "النمر" شاعر الرباب في الجاهلية، ولم يمدح أحداً ولا هجا، واستحسن من شعره قوله: تدارك ما قبل الشباب وبـعـده  حوادث أيام تـمـر وأغـفـل

يود الفتى طول السلامة والغنى  فكيف يرى طول السلامة يفعل 

يرد الفتى بعد اعتدال وصـحة  ينوء إذا رام القـيام ويحـمـل

ومن الشعر المنسوب اليه قوله: خاطر بنفسك تنال رغـيبةً  إنّ القعود مع العيال قبيح

إن المخاطر مسالكٌ أوهالك  والجدّ يجدي مرة فـيريح

وقوله: ومتى تصبك خصاصةٌ فارجُ الغنى=وإلى الذي يهب الرغائب فارغب لا تغضبن على امرئ في مالـه  وعلى كرائم أصل مالك فاغضبِ 

وقد تعرض "النمر بن تولب" في شغره إلى قصة "زرقاء" اليمامة وجديس، والى قصة غزو "تبع" لجديس واستباحته اليمامة. وقد ورد ذكر "عادياء" في شعره بقوله: هلا سألتِ بعـادياء و بـيتـه  و الخيل و الخمر التي لم تمنع 

وفي شعره قصص عن "لقمان" وعن "لقيم بن لقمان" من أخته، ويظهر أنه كان من الأشخاص الذين كانوا يهتمون بالقصص والحكايات المروية عن الجاهليين، فأدبج شيئاً منه في شعره.

و"الخنساء بنت عمرو بن الشريد بن رياح بن ثعلبة بن عُصية بن خفاف ابن امرئ القيس بن بهثة بن سليم "السلمية، واسمها "تماضر"، ممن أدركن الإسلام. وقد أسلمت فعدّت صحابية. و "الخنساء" لقبها، قدمت على رسول الله مع قومها فأسلمت. وذكر ان الرسول كان يستنشدها ويعجبه شعرها.

"وأجمع أهل العلم بالشعر على انه لم يكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها. وكانت اول أمرها تقول البيتين والثلاثة حتى قتل أخوها معاوية ثم أخوها صخر، فأكثرت من الشعر وأجادت". وهي أم الشاعر "العباس بن مرداس"، وأم اخوته الثلاثة وكلهم شاعر. ولم تلد إلا شاعراً، وذكر "الكلبي" ان أم ولد "مرداس" جميعاً الخنساء، إلا العباس، فإنها ليست أمه، و لم يذكر من أمه. غير ان "أبا الفرج الأصبهاني" ذكر انها أمه. وكان النبي يعجبه شعرها ويستنجدها و يقول هيه يا خناس ويومئ بيده.

روي انها تقول الشعر في زمن النابغة الذبياني، وكان النابغة تضرب له قبة حمراء من أدم عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، وكانت "الخنساء" ممن أنشدته شعرها، ويقال انه لما سمع شعرها، قال: "والله ما رأيت ذات مثانة أشعر منك، فقالت له الخنساء: والله و لا ذا خصيين".

ومن جيد شعرها، قولها في "صخر" أخيها: لا بد من ميتة في صرفها غـير  والدهر من شأنه حول واضرار 

وان صخراً لتأتم الـهـداة بـه  كأنه علـم فـي رأسـه نـار

وذكر أنها كانت سوّمت هودجها براية في الموسم، وعاظمت العرب بمصيبتها بابنها "عمرو" وبأخويها صخر ومعاوية، وجعلت تشهد الموسم وتبكيهم، وا، هنداً ابنة عتبة لما قتل ببدر أبوها وعمّها شيبة و أخوها الوليد فعلت كذلك وقالت: اقرنوا جملي بجمل الخنساء، فصارتا تبكيان وتتناشدان.

وروي أن الرسول كان يستحسن قول الخنساء في صخر أخيها: لا بد من ميتةٍ في صرافها غير  والدهر من شأنه حولٌ وإضرارُ 

وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه=علم في رأسه نار وذكر أنها زارت "عائشة" و تحدثت معها.

وروي أنها حضرت حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال، فحثتهم على القتال والاستماتة فقتلوا جميعاً، فقالت الحمد لله الذي شرفني بقتلهم. وكان "عمر" أمر أن تعطى الخنساء أرزاق أولادها الأربعة حتى توفي، وله قصة معها، وذكر أنه لما طلب منها أن تكف عن البكاء، قال لها: "ما الذي أقرح ما في عينيك ? قالت: البكاء على سادات مضر، قال إنهم هلكوا في الجاهلية، وهم أعضاد اللهب وحشو جهنم. قالت: فداك أبي وأمي فذاك الذي زادني وجعاً". ثم طلب منها أن تنشده من شعرها، فأنشدته: سقى جدثاً أعراق غمرة دونه  وبيشة ديمات الربيع ووابله

و"خفاف بن ندبة"، هو "خفاف بن عُمير بن الحارث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية" ويكنى أبا خراشة، وهو ابن عم الخنساء و "ندبة" أمه. وهو شاعر مشهور من المخضرمين، وله شعر يمدح به "أبا بكر"، وبقي إلى زمن "عمر"، وكان أسود حالكاً. شهد الفتح وكان معه لواء "بني سليم"، وذكر "الأصمعي"، انه و دريد أشعر الفرسان. وله يقول: العباس بن مرداس: أبا خراشة أما أنت ذا نفـر  فإن قومي لم تأكلهم الضبع 

ويعدّ من فرسان قيس وشعرائها المذكورين.

وضابئ بن الحارث بن أرطاة البرجمي، وسويد بن كراع العكلي، والحويدرة الذبياني، وأسمه قطبة بن أوس بن محصن بن جرول، وسُحيم عبد بني الحسحاس الأسدين، من طبقة واحدة، تكون الطبقة التاسعة في "طبقات الشعراء"، لابن سلام. وكان "ضابئ"، رجلاً بذياً كثير الشر، وكان بالمدينة، صاحب صيد وصاحب خيل، وقد حبسه عثمان، وبقي في سجنه حتى مات.

و"سحيم" عبد بني الحسحاس، شاعر مشهور مخضرم، أدرك النبي، وتمثل النبي بشيء من شعره. وكان عبداً أسود شديد السواد أعجمياً. وذكر ان اسم "عبد بني الحسحاس" "حميمة"، وقيل "سُحيم"، وانه شبب بنساء قومه، ثم بنت سيده فقتله سيده. وقيل ان قتله كان في خلافة عثمان. وله ديوان مطبوع. وورد ان "عمر" أمر بقتله لأبيات فاحشة. وذكر انه حُفر له أخدود وضع فيه وألقى عليه الحطب ثم أحرق. وورد ان "عمر" استنشده شعره، وانه أنشده قصيدته: ودع سليمي إن تجهـزت غـاديا  كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا 

وكان سحيم حبشياً معلّطاً قبيحاً، وهو القائل في نفسه: أتيت نساء الحارثيين غـدوة  بوجه براه الله غير جمـيل

فشبهني كلباً ولستُ بفوقـه  و لا دونه إن كان غير قليل 

اشتراه "عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي"، وكتب إلى "عثمان": "إني قد اشتريت لك غلاماً حبشياً شاعراً، فكتب اليه عثمان: لا حاجة بنا اليه، فاردده، فإنما حظ أهل العبد الشاعر منه إذا شبع أن يشبب بنسائهم، وإذا جاع أن يهجوهم". "ويقال سمعه عمر بن الخطاب ينشد: ولقد تحدر من كريمة بعضهـم  عرقٌ على جنب الفراشِ وطيب 

فقال له "إنك مقتول، فسقوه الخمر ثم عرضوا عليه نسوة، فلما مرّت به التي كان يتهم بها أهوى اليها، فقتلوه"، إلى غير ذلك من قصص.

و"سحيم بن وثيل بن أعيقر بن أبي عمرو بن إهاب بن حميري" الرياحي، شاعر مخضرم، تفاخر هو وغالب بن صعصعة والد الفرزدق، فتناحروا الإبل. وقد وصف بأنه خنذيذ شريف مشهور الذكر في الجاهلية والإسلام. وله قصيدة مطلعها: أنا ابن جلا وطلاّع الثـنـايا  متى أضع العمامة تعرفوني 

وماذا يدرك الشعراء منـي  وقد جاوزت حدّ الأربعـين

و"ربيعة بن مقروم بن قيس بن جابر بن خالد" الضبي، أحد الشعراء المخضرمين. وكان أحد شعراء مضر. ذكر أنه وفد على كسرى في الجاهلية، ثم عاش إلى أن أسلم. "وذكره دعبل في طبقات الشعراء، وقال مخضرم حبسه كسرى بالمشقر ثم أدرك القادسية". وكانت عبد القيس أسرته، ثم منت عليه بعد دهر.

والشاعر "أبو زيد، حرملة بن المنذر بن معديكرب بن حنظلة" الطائي من شعراء طيء، وكان نصرانياً ومات على دينه بعد خلافة عثمان. وكان نديم "الوليد بن عقبة"، يشرب الخمر معه، ولما صار "الوليد بن عقبة" إلى "الرقة"، سار "أبو زيد" اليه، فكان ينادمه، وكان يحمل في كل يوم أحد إلى البيعة، فيحضر مع النصارى، ويشرب، ولما مات دفن على "البليخ"، وهناك أيضاً قبر "الوليد بن عقبة". وقد اشتهر بوصف الأسد، وكان مغرى بوصفه في شعره. وورد في رواية انه أسلم بتأثير "الوليد بن عقبة" عليه. لكن الأغلب انه بقي على نصرانيته، وقد استعمله "عمر" على صدقات قومه، ولم يستعمل نصرانياً غيره. قيل انه رثى "علي بن أبي طالب". وكان له أخ "من خلصة ملوك العجم". وذكر انه بقي إلى أيام معاوية.

و"الشماخ بن ضرار" الذبياني من الشعراء كذلك، أدرك الجاهلية والإسلام. و"الشماخ" لقب، واسمه "معقل"، وقيل "الهيثم". "قال ابن الكلبي: كان الشماخ أوصف الناس للخمر وللقوس"، وأرجز الناس على بديهة، وهو كثير الهجاء، له مهاجاة مع "الحليج بن سعد" التغلبي. وله شعر في مدح "عرابة" الأوسي، وكان قدم المدينة، فأوقر له عرابة راحلته تمراً وبرّاً وكساه وأكرمه. وكان له أخوان: مزرداً وجزءاً، رويت مقطعات صغيرة من شعرهما. وللشماخ ديوان شعر مطبوع. قال عنه "ابن سلام": "فأما الشماخ: فكان شديد متون الشعر، أشد أسر الكلام من لبيد، وفيه كزازة. ولبيد أسهل منه منطقاً، وكان للشماخ اخوة، وهو أفحلهم، ومزرد هو أشبههم به. ذكر ان "الوليد بن عبد الملك" أنشد شيئاً من شعره في وصف الحمير، فقال: ما أوصفه لها، اني لأحسب ان أحد أبويه كان حماراً. قيل: كان يهجو قومه وضيفه ويمّن عليهم بقراه، وهو أرجز الناس على البديهة. وجعله "الجمحي" في الطبقة الثانية من شعراء الإسلام، وقرنه بالنابغة الجعدي، ولبيد، وأبي ذؤيب الهذلي. وقال: انه كان شديد متون الشعر، أشد كلاماً من لبيد. وكان معاصراً للحطيئة. ويروي ان "الحطيئة" كان يعدّه أشعر بني غطفان. وأخوه "مزرد"، واسمه "جزء بن ضرار". وقيل يزيد وجزء أخوهما. وهو "مزرد بن ضرار بن سنان بن عمر بن جحاش بن بحالة الغطفاني" الثعلبي. يقال مزرد لقب له، لقب به لقوله: فقلت تزردها عبـيد فـإنـنـي  لزرد الشيوح في الشباب مزرد 

وكان يكنى "أبا ضرار"، وقيل: "أبا الحسن"، وهو أسن من الشماخ، وكان هجاء حلف أن لا ينزل به ضيف الإ هجاه، ولا سكب سنه ولا بيت الإ هجّاء ، ثم ادرك الإسلام فاسلم. قدم على رسول الله فأنشد له ابياتا منها: تعلم رسول الله لم ار مـثـلـهـم  احسن على الادنى واقرب للفضل 

تعلم رسول الـلـه انـا كـأنـنـا  افأنا بأنمار ثعالـب ذي غـسـل

وانمار رهطه، وكان يهجوهم.

وورد عن"عائشة" انها قالت: من صاحب هذه الابيات: تعني التي في عمر لما مات: جزى الله خيرا من امير وباركت  يد الله في ذاك الاديم الممـزق

قالوا: مزرد، فسألت من مزرد? فحلف بالله انه لم يشهد الموسم تلك السنة، ومنهم من نسب هذه الابيات التي قبلها للشماخ.

ومعن بن اوس بن نصر بن زياد المزني، شاعر مجيد فحل من المخضرمين. عمّر إلى ايام ابن الزبير، وهو من شعراء مضر. ذكر "المرزباني"، انه كان رضيع "عبد الله بن الزبير"، وكان مصاحبا له، وكف في آخر عمره.

و"سويد بن ابي كاهل" أو "سويد بن غطيف" وقيل اسمه: "غطيف ابن حارثة" اليشكري، ويقال "الوائلي"، ويقال "الغطفاني"، ويكنى "ابا سعيد"، هو شاعر مخضرم، وهو صاحب قصيدة مطلعها: بسطت رابعة الحَبْلَ لـنـا  فوصلنا الحَبْل منها ما اتسع 

وهي قصيدة من اغلى الشعر وانفسه في نظر علماء الشعر، ذكر ان العرب كانت تفضلها و تقدمها، وتعدها من حكمها، وكانت في الجاهلية تسميها "اليتيمة" لما اشتملت عليه من الامثال. وللشاعر شعر كثير، لكن برزت هذه على شعره.

ذكر انه كان إذا غضب على قومه، ادعى إلى غطفان، فقال رجل من "بني شيبان": من يشتري مسجدي ذبيان إذا طعنوا  إلى فزارة أو من يشتري الـدارا

فأجابه سويد: ان المساجد لا تباع و انـمـا  باعت كحيلة بظرها البيطارا 

وعد من المعمرين، ذكر انه عمّر في الإسلام ستين سنة بعد الهجرة.

وقد وضعه "ابن سلام" مع الحارث بن حلزة، وعنترة، وعمرو بن كلثوم في الطبقة السادسة من شعراء الجاهلية.

و"الزبرقان بن بدر"شاعر تميم من الشعراء المخضرمين، وكان اسمه "الحصين". ولما قدم وفد "تميم" إلى المدينة في اشرافهم، كان الزبرقان احدهم، ولما تفاخروا بانفسهم و تباهوا بفعالهم، قالوا للرسول: يا محمد ائذن لشاعرنا، فقال: نعم، فقام الزبرقان بن بدر، فقال قصيدته التي مطلعها: نحن الكرام فلا حيّ يعادلنـا  منّا الملوك وفينا تنصب البيع 

وذكر ان الرسول ولاه صدقات قومه فأداها في الردة إلى ابي بكر فأقره ثم إلى عمر.

وقد هجا "الحطيئة" الزبرقان بن بدر، وكان سبب ذلك ان الحطيئة لقي الزبرقان ب"قرقرى" ومعه ابناه اوس و سوادة و بناته و امرأته فعرفه الزبرقان و سأله اين تريد? قال: العراق لأصادف من يكفيني عيالي و اصفيه مدحي، فقال له: لقيته، قال: من? قال: انا، قال: من انت? قال الزبرقانابن بدر. وكتب كتابا إلى امرأته، لتعطيه و تنفق عليه، فبلغ ذلك: "بغيض ابن عامر" واخوته و بني عمه، وكانوا ينازعون "الزبرقان" الرياسة، فدسوا إلى "ام بدرة" امرأة الزبرقان ان الزبرقان يريد ان يتزوج بنت الحطيئة، ولذلك امرك ان تكرميه، فجفته ام بدرة، فأرسل بغيض اهله إلى الحطيئة ان ائتنا فنحن احسن لك جوارا من الزبرقان، واطعموه ووعدوه، فتحول اليهم، فلما جاء "الزبرقان" بلغه الخبر فركب اليهم، فقال لهم: ردوا علي جاري، فأبوا حتى كاد ان يكون بينهم حرب، فحضرهم اهل الحي فاصطلحوا على ان يخيروه فاختار بغيضا و رهطه، فجعل الحطيئة يمدحهم من غير ان يتعرض بالزبرقان، فلم يزل كذلك حتى ارسل الزبرقان إلى شاعر من "النمر بن قاسط" يقال له: "دثار بن شيبان" فهجا بغيضا وآل بيته، فلما سمع الحطيئة شعر دثار، حمى لجيرانه، فقال شعره في الزبرقان معرضا به، فأستعدى الزبرقان "عمر" عليه، فحبس الحطيئة اياما، فقال وهو محبوس: ماذا تقول لافـراخ بـذي مـرخ  زغب الحواصل لا ماء و لا شجر 

القيت كاسبهم في قعر مظـلـمة  فاغفر عليك سلام الله يا عـمـر

وشفع له "عمر بن العاص" فأطلقه.

وقيس بن عاصم بن سنان المنقري ن من الصحابة و من الشعراء الفرسان الشجعان. ومن الحلماء. قدم في وفد تميم على النبي، فقال رسول الله: "هذا سيد اهل الوبر". وقد عاش بعد الرسول.

و"عمرو بن سنان بن سمي بن سنان بن خالد بن منقر" المنقري، من "بني منقر"، فهو من شعراء تميم. ويعرف ب"عمرو بن الاهتم"، سمي ابوه سنان الاهتم، لأن "قيس بن عاصم" المنقري ضربه بقوس فهتم فمه. وكانت ام سنان سبية من الحيرة، يقال انها سبيت وهي حامل. قال ابن عاصم: نحن سبينا امكم مُـقـرِبـا  يوم صبحنا الحيرتين المنون

جاءت بكم غفرة من ارضها  حيرية ليست كما تزعمون

لولا دفاعي كنتـم اعـبـداً  منزلها الحيرة و السيلحون

و"غفرة" هي ام سنان.

واخو "عمرو بن الاهتم"، عبد الله بن الاهتم، جد خالد بن صفوان بن عبد الله بن الاهتم الخطيب. وآل الاهتم خطباء، و كلهم من البلغاء المشهورين.

وعمرو بن الاهتم، ممن وفد على رسول الله، وكان في الجاهلية يدعى "المُكَحَّل" لجماله، وكان له ابن يقال له "نعيم بن عمرو" من اجمل الناس، وفيه تأنيث، وله يقول عبد الرحمن بن حسان: قل للذي كاد لولا خط لحـيتـه  يكون انثى عليها الدرّ و المسك 

هل انت الا فتاة الحي ان امنوا  يوما، وانت إذا ما حاربوا دُعك 

ومن شعره قوله في حق الزبرقان بن بدر، وكان ينافسه: ظللت مفترش العلياء تشتمـنـي  عند النبي فلم تصدق ولم تصـب

ان تبغضونا فأن الروم اصلـكـم  والروم لا تملك البغضاء للعرب

فأن سوددنـا عـود وسـوددكـم  مؤخر عند اصل العجب و الذنب 

و"نافع بن الاسود بن قطبة بن مالك" التميمي ثم الاسيدي، شاعر مخضرم يكنى "ابا نجيد". وقد شهد فتوح العراق، وانشد له "سيف" في الفتوح اشعارا كثيرة، يفتخر فيها بقومه، ويذكر فيها مشاهده في فتوح الشام و العراق.

ومن شعراء تميم المخضرمين: "متمم بن نويرة" اليربوعي، صاحب المراثي المشهورة في اخيه "مالك بن نويرة" الذي قتله "خالد بن الوليد" لما سار لقتال اهل الردة، وتزوج امرأته، مما ادى إلى غضب بعض الصحابة ومنهم "عمر" على "خالد"، لامور اخذوها في قتله عليه. ومن شعره المشهور في رثاء "مالك" قوله: أبى الصبر آيات أراها و اننـي  ارى كل حبل بعد حبلك أقطعـا

واني متى ما ادعُ باسمك لا تجب  وكنت جديرا ان تجيب و تسمعا

وكنا كند ماني جـذيمة حـقـبة  من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأنـي و مـالـكـا  لطول اجتماع لم نبت ليلة معـا

فان تكن الايام فرقـن بـينـنـا  فقد بان محمودا اخي يوم ودعـا

اقول وقد طار السنا في ربابـه  وغيث يُسح الماء حتى تـريعـا

سقى الله ارضا حلّها قبر مالـك  دِهاب الغوادي المدجنات فأمرعا 

وآثـر سـيل الـواديين بـديمة  ترشح وسميا من النبت خروعـا

وهي قصيدة مؤثرة تعد من المراثي الجيدة القوية. تعبر عن قلب منفطر من شدة ما حل به من الالم. قيل ان"عمر" قال لمتمم لما دخل عليه أنشدني بعض ما قات في اخيك فأنشده شعره المتقدم، قال له "عمر": "يا متمم، لو كنت اقول الشعر لسّرني ان اقول في زيد بن الخطاب مثل ما قلت في اخيك، قال متمم: يا امير المؤمنين، لو قتل اخي قتلة اخيك ما قلت فيه شعرا ابدا، فقال عمر: يا متمم ما عزّاني احد في اخي بأحسن مما عزيتني به". وقد ضربت الشعراء الامثال به و بأخيه مالك في اشعارهم.

ومما سبق اليه مالك ن واخذه الناس منه قوله: جزينا بني شيبان امسٍ بقرضهم  وعُدنا بمثل البدء، و العود احمد 

فقال الناس: العود احمد.

"يروى ان عمر قال للحطيئة: هل رأيت أو سمعت بأبكى من هذا? قال: لا والله ما بكى بكاء عربي قط و لايبكيه". وكان عمر يستمع إلى قوله في رثاء أخيه.

ومن شعره المشهور قوله: وكل فتى في الناس بعد ابن أمه  كساقطة احدى يديه من الخبل

وكان "مالك بن نويرة" من الشعراء كذلك. وقد عرف ب "فارس ذي الخمار". وذو الخمار فرسه. ولقب ب "الجفول". وهو من شعراء وفرسان "بني يربوع" المعدودين. وكان من أشرفهم ومن أرداف الملوك. استعمله النبي على صدقات قومه، وبقي عليها إلى وفاة الرسول، فيقال انه لمّا بلغه خبر وفاته أمسك الصدقة وفرقها في قومه وقال في ذلك: فقلت: خذوا أموالكم غير خائف  و لا ناظر فيما يجيء من الغد

فإن قام بالدين المحـوق قـائم  أطعنا وقلنا الدين دين محمـد

وقد قتل خالد بن الوليد، مالكاً، في قصة ترد في كتب الردة والفتوح والتأريخ، وتزوج امرأته، وكانت فائقة في الجمال، مما حمل بعض الصحابة مؤاخذته على هذا العمل، ومنهم "عمر".

ومن المخضرمين "النجاشي" "قيس بن عمرو" الحارثي، وكان ممن لازم علياً وشهد معه "صفين"، ومدحه. وقد بلغ "علياً" وهو بالكوفة انه كان سكران في شهر "رمضان" مع "أبي سماك" الأسدي، فهرب "أبو سماك"، وقبض على "النجاشي" فحدّه "علي" ثمانين سوطاً، ثم زاده عشرين، فقال له: ما هذه العلاوة? فقال: لجرأتك على الله في شهر رمضان، ثم وقفه للناس ليروه، فهرب إلى "معاوية" وهجا "علياً" على ما يقال، وهجا أهل الكوفة. وكان هجّاء، هجا "بني العجلان"، فاستعدوا عليه "عمر". فهدّد "عمر" النجاشي، وقال له: إن عدت قطعت لسانك. وهجا قريشاً هجاء مراً. وهجا "عبد الرحمن بن حسان بن ثابت"، ولما مات "الحسن بن علي" رثاه النجاشي، وتوفي بعد ذلك بقليل.

وروى أنه هاجى "تميم بن مقبل" من "بني العجلان"، وهو من شعراء الجاهلية، الذين أدركوا الإسلام، وعمر طويلاً. وكان يتهاجى مع "النجاشي"، فاستعدى "تميم" "عمر" على النجاشي، فسمع "عمر" ما قال فيه وفي بني قومه، فلما وصل إلى بيته: أولـئك أولاد الـهـجـين وأسـرة  اللئيم ورهط العاجز المـتـذلـل

وما سمي العجـلان إلا لـقـولـه  خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل 

قال عمر: أما هذا فلا أعذرك عليه فحبسه وضربه. وكان "عمر" قد حكم "حساناً" في هجاء "النجاشي" لتميم، فلما حكم "حسان" بإقذاعه في هجائه له حبس "النجاشي" عليه. وقد جمع "أبو سعيد" السكري شعر "تميم بن مقبل"، وجمعه غيره من العلماء. وهو "تميم بن أُبي بن مقبل". وقد اشتهر بوصف القداح، حتى جعل من أوصف العرب للقدح، ولذلك يقال: "قدح ابم مقبل".

ويعدّ "تميم بن مقبل" من عوران قيس، وعددهم خمسة شعراء، وهم: تميم بن مقبل، وعمرو بن أحمر الباهلي، والشماخ معقل بن ضرار، وراعى الإبل عُبيد بن حصين التميري، وحميد بن ثور الهلالي. وهو من الجاهليين الذين أدركوا الإسلام، فأسلم، فهو من المخضرمين. وقد أدرك زمن معاوية، وكان هواه مثل هوى قبيلته مع "معاوية" على "علي". وكان عثمانياً له قصيدة في رثاء أهل الجاهلية، وكان يتذكر الجاهلية ويترحم على أيامها، ويحن اليها، ويرى ان الزمان قد تغير، وان الأرض قد تغيرت، وتبدلت أخلاق الناس، فصار يرى نفسه غريباً في مجتمع غريب عنه، له مُثل تختلف عن مثل أهل الجاهلية، فصار يحن إلى أيام ما قبل الإسلام.

قيل لتميم بن مقبل: تبكي أهل الجاهلية وأنت مسلم: فقال: وماليَ لا أبكي الديار وأهلـهـا  وقد زارها زوّار عكٍَ وحميرا

وجاء قطا الأجباب من كل جانب  فوقّع في أعطافنا ثـم طـيّرا

وفي هذه القصيدة المؤلفة من خمسين بيتاً، والمنشورة في ديوانه، والتي وردت بروايات مختلفة، حنين ظاهر إلى أيام الجاهلية، وتوجع بيّن للتغير الذي حدث فاجتث ذكريات الأيام القديمة، إذ باد أهلها، وتنكر الناس لها، وبرز من لم يكن معروفاً إذ ذاك من الناس. فهو يرى أن الجاهلية بأيامها وبمثلها وبرجالها وبقبائلها، وبمروءتها، أحسن حالاً من الأيام الجديدة التي أخذت مكانها، والتي أحلت الموالي ونكرات الناس محل السادة الأشراف.

وكان قد تزوج "الدهماء" زوجة أبيه في الجاهلية، على عادتهم في تزوج نساء الآباء، وأحبها حباً شديداً، فلما جاء الإسلام وحرم هذا الزواج، اضطر إلى تطليقها، وهو مكره، فكان يقول: هل عاشق نال من دهماء حاجته  في الجاهلية قبل الدين مرحوم

ولعل هذه الطلاق، كان في جملة العوامل التي جعلته يحن إلى الجاهلية ويذكرها بخير.

ومما ينسب اله قوله: فاخلف وأتلف انما المال عـارة  وكله مع الدهر الذي هو آكلـه

وأيسر مفقودٍ وأهـون هـالـكٍ  على الحيّ من لا يبلغ الحي نائله 

وقوله: خليليّ لا تستعـجـلا وانـظـرا غـداً  عسى أن يكون الرفق في الأمر أرشدا 

وكان "عبد الرحمن بن حسل" الجمحي من الشعراء الهجائين. كان أبوه من أهل اليمن، فسقط إلى مكة، فولد له بها: "كلدة" و "عبد الرحمن"، وكانا ملازمين لصفوان بن أمية بن خلف الجمحي، فنسبا إلى "بني جمح". وذكر أنهما كانا أخوي "صفوان" لأمه. وذكر أنه كان بعسكر "يزيد بن أبي سفيان"، وأنه كان من مسلمة الفتح. وقد هجا "عثمان" لما أعطى مروان خمسمائة ألف من خمس "إفريقية" فقال: وأحـلـف بـالـلـه جـهـــد الـــيمـــين  ما تـــرك الـــلـــه أمـــراً ســـدى

ولـكـن جـعـلـت لـــنـــا فـــتـــنة  لكـي نـبـتـلـي بـك أو تـبــتـــلـــى

دعـوت الـــطـــريد فـــأدنـــيتـــه  خلافـاً لـمـا سـنّـه الـمـصـطـــفـــى

وولـيت قـربـاك أمـــر الـــعـــبـــاد  خلافـاً لـسـنة مــن قـــد مـــضـــى

وأعطيت مروان خمس الغنيمة آثرته وحميت الحمى 

ومالاً أتاك به الأشعري  من الـفـيء أعـطــيتـــه مـــن دنـــا

فإن الأمـــينـــين قـــد بَـــيّنــــــا  منـار الـطـريق عــلـــيه الـــهـــدى

فمـــا أخـــذا درهـــمـــاً غــــيلة  و لا قـسّـمـا درهـمـــاً فـــي هـــوى

فأمر "عثمان" به فحبس بخيبر. وقيل ان "علياً" كلم "عثمان" فيه فأطلقه وشهد الجمل مع علي، ثم صفين فقتل بها. وذكر انه قال وهو في السجن: إلى اللهِ أشكو لا إلى الناس ما عدا  أبا حسن غلا شـديداً أكـابـده

بخيبر في قعر الغموص كأنهـا  جوانب قبر أعمق اللحد لاحـده

أإن قلت حقاً أو نـشـدت أمـانة  قتلت فمن للحق إن مات ناشـده

و "ألس بن أبي أناس بن زنيم" الكناني، هو من الشعراء الذين كانوا قد هجوا الرسول فأهدر النبي دمه، فبلغه ذلك، فقدم عليه معتذراً، وأنشده شعراً مدحه به. وكلمه فيه "نوفل بن معاوية" الديلي، فعفا عنه، قائلاً للرسول: "أنت أولى بالعفو، ومن منا لم يؤذك ولم يعادك، وكنا في الجاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع حتى هدانا الله بك وأنقذنا من الهلكة? فقال: قد عفوت عنه. فقال: فداك أبي وأمي. وأول القصيدة يقول فيها: فما حملت من ناقة فوق رحلها  أبرّ وأوقى ذمة من محـمـد

ويقول فيها: ونبي رسول الله اني هجـوتـه  فلا رفعت سوطي إليّ إذا يدي

فإني لا عرضاً خرقت و لا دماً  هرقت فذكر عالم الحق واقصد

وقد ذكر "ابن قتيبة"، ان "أبا أناس"، والد "أنس"، هو القائل في رسول الله: فما حَمَلَتْ من ناقة فوق رحلها  أعف وأوفى ذمة من محمـد

وقد قال "دعبل بن علي" في طبقات الشعراء، هذا أصدق بيت قالته العرب. وفي جملة ما جاؤ في هذه القصيدة التي تنسب إلى أنس بن زنيم قوله: ونبي رسول الله أني هجـوتـه  فلا رفعت سوطي إليّ إذا يدي

فإني لا عرضاً خرقت و لا دماً  هرقت فذكر عالم الحق واقصد 

وذكر أن "عبيد بن زياد" كان يحرش بين الشعراء، فأمر "حارثة" أن يهجو "أنس بن زنيم"، فقال فيه أبياتاً، منها قوله: وخبرت عن أنس أنه  قليل الأمانة خوّانها

فأجابه أنس بأبيات أولها: أتتني رسالة مستنكر  فكان جوابي غفرانها 

وأنس هو القائل لعبد الله بن الزبير، حين تزوج مصعبُ عائشة بنت طلحة على ألف ألف درهم: أبلغ أميرَ المؤمنين رسـالةً  من ناصحٍ لكَ لا يُريدُ خِداعا 

بضع الفتاةِ بألفٍ ألفٍ كاملٍ  وتبينتُ سادات الجنود جياعا

لَوْ لأبي حفص أقول مقالتي  وأقص شأن حديثكم لارتاعا

وكن "أسيد بن أبي اياس بن زنيم" الكناني ابن اخب "سارية" الكناني، ممن هجوا الرسول أيضاً، فأهدر النبي دمه، فخرج إلى "الطائف" وأقام بها، مثل غيره ممن هجوا الرسول فخافوا على أنفسهم، فلجأوا إلى ثقيف. فلما كان عام الفتح، خرج مع "سارية بن زنيم"، وقدم على الرسوم فأسلم. ومدحه بشعر. وذكر انه كان قد رثى قتلى بدر، فأهدر النبي دمه. وروي انه قال في علي بن أبي طالب وفي مخاطبة قريش: في كل مجمع غـاية أخـزاكـم  صدع يفوق على المذاكي القرح 

هذا ابن فاطمة الذي أفـنـاكـم  ذبحاً وقتلاً بعضـه لـم يرتـح

للـهِ دركـم ألـمـا تـذكـروا  قد يذكر الحر الكريم ويستحـي

وورد في رواية انه كان قد أسلم وأدرك "أحداً". وتشابه قصته في هدرالنبي دمه وفي هجائه للرسول قصة "أنس بن زنيم" الكناني، المتقدم، وهو ابن أخي "أسيد" على رواية "الإصابة".

وروي أن "سارية بن زنيم" الكناني، كان ممن هجا الرسول كذلك، فبلغ ذلك الرسول، فتوعده. فجاء اليه معتذراً فأنشد: تعلم رسول اللـه أنـك قـادر  على كل حيّ من تهام ومنجـد

تعلم رسول الله انك مـدركـي  وأن وعيداً منك كالأخذ بالـيد

تعلم بأن الركب إلا عـويمـراً  هم الكاذبون المخلفو كل موعد

ونبي رسول الله أني هجـوتـه  فلا رفعت سوطي إليّ إذا يدي 

وتليها أبيات أخرى، نسبت كلها إلى "انس بن زنيم". ويظهر أن التباساً قد وقع عند الرواة، فخلطوا بين الثلاثة من "آل زنيم".

وقد ذكر أن "سارية" هذا كان خليعاً في الجاهلية، لصاً كثير الغارة، وأنه كان يسبق الفرس عدواً على رجليه، ثم أسلم. وأرسله "عمر" فيمن أرسله من المسلمين لفتح فارس.

وكان "بشير بن أبيرق" "بشر بن أبيرق" الشاعر يقول الشعر ويهجو به أصحاب النبي، وينحله بعض العرب.

وجعل "ابن سلام": "أمية بن حرثان بن الأشكر" "أمية بن الأسكر" و"حريث بن مُحَفّض"، و"الكميت بن معرور بن الكميت" الأسدي، و"عمرو بن شأس" الأسدي، طبقة واحدة، هي الطبقة العاشرة من طبقاته. وكلهم ممن عاش في الجاهلية والإسلام، وكان "أمية بن الأسكر" الكناني من سادات قومه وفرسانهم، وله أيام، وابنه "كلاب بن أمية"، أدرك النبي فأسلم مع أبيه. وقد سكن "كلاب" البصرة. وروى لأمية شعراً في حروب الفجار.

و"حريث بن مخفض" "حريث بن محفص"، المازني من تميم، من "خزاعي بن مازن". وهو مخضرم له في الجاهلية أشعار، وتمثل الحجاجُ بأبيات من شعره، مثلاً لأهل الشام في طاعتهم وبأسهم، وهي قوله: ألم ترَ قومـي إن دعـوا لِـمُـلّـمةٍ  أجابوا وإنْ أغضب على القومِ يغضبوا 

بني الحربِ لم تقعد بهم أمـهـاتـهـم  وآباؤهم آبـاء صِـدقٍ فـأنـجـبـوا

فإن يك طعن بالرُدينـي يطـعـنـوا  وإن يك ضرب بالمناصل يضـربـوا

و "عمرو بن شأس" الأسدي، المكنى ب"أبي عرار"، شاعر كثير الشعر مقدم، شهد القادسية، ومنهم المستوغر، واسمه "عمرو بن ربيعة"، ويكنى "أبا بهنس"، وهو من تميم، زعم انه عاش ثلاثين وثلاثمائة سنة، وأدرك أيام معاوية. وذكر ان "عمرو بن شاس" عاش حتى أدرك أيام عبد الملك بن مروان.

ومن الشعراء المخضرمين "المنذر بن رومانس" الكلبي، وهو أخو النعمان بن المنذر لأمه، وأمهما "رومانس". وله شعر قاله بعد فتح الحيرة، يتذكر فيه أيام الحيرة الأولى، وكيف كانوا يحكمون العراق ونجداً.

ومن المخضرمين "أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل"، وهو أحد الصحابة الذين أسلموا قديماً، وفي بيته أسلم "عمر"، لأنه كان زوج أخته فاطمة، توفي سنة "50"، وقد أورد الجاحظ له شعراً، وهو شعر نسب أيضاً لوالده، وتروى كذلك لنبيه بن الحجاج.

و "سالم بن دارة من الشعراء المخضرمين" وهو "سالم بن مسافع "مسافح" ابن عقبة بن يربوع بن كعب بن عدي" من "غطفان". وكان رجلاً هجاء وبسببه قتل. قتله "زميل بن أبير" " زميل بن عبد مناف"، "زميل بن أبرد"، "زميل بن وبير" من بني فزارة وكان "سالم" قد أمعن في هجاء فزارة، وألح عليها في الهجاء، فقال في جملة ما قاله: حَدَبْدبا بَدْبَدبـا مـنـك الآن  استمعوا أنشدكم يا ولـدان

إنّ بني فزارة بـن ذبـيان  قد طرّقت ناقتهم بإنسـان

مُشّيإ أعجِب بخلق الرحمن  غلبتم الناس بأكل الجُردان

كلّ متلّ كالعمو جَـوفْـان  وسرق الجار ونيك البعران 

إلى غير ذلك من شعر مقذع، فلما أمعن في الهجاء، تعقبه "زميل بن أبير" "زميل بن أم دينار" الفزاري، فلحق به وضربه بالسيف ضربة جرحته، وكان قد خرج من المدينة، فعاد اليها، يتداوى، فدفعه "عثمان" إلى طبيب نصراني، ويقال إن "أم البنين" "بسرة بنت عيينة بن حصن" الفزاري، وكانت عند "عثمان"، جعلت للطبيب جعلاً حتى سمّه فمات.

ومن شعره في هجاء فزارة قوله: لا تأمنن فزاريّاً خلوت بـه  على قلوصك واكتبها بأسيار 

وله شعر يخاطب به "عيينة بن حصن" الفزاري، وكان قد ارتد في خلافة "أبي بكر" ثم عاد إلى الإسلام، وقال لأبي بكر: قصتي وقصة الأشعث ابن قيس الكندي واحدة، فما بالكم أكرمتموه وزوجتموه، ولم تفعلوا ذلك بي، فأجاب سالم عن ذلك بقوله: يا عـيينة بـن حــصـــن آل عـــدي  أنـت مـن قـومـك الـصـمـيم صـمـيم

لست كالأشـعـث الـمـعـصـب بـالـتـا  ج غـلامـاً قـد سـاد وهـو فــطـــيم

جدّه آكـــل الـــمـــرار وقـــيس  خطبه فـي الـمـلـوك خـطـب عـظـيم

إن تـكـونـا أتـيتـمـا خـطـب الـعــذ  ر سـواكـــمـــا تـــقـــد الأديم

فله هيبة الملوك وللأشعث إن حان حادث قديم 

إن للأشعث بن قيس بن معدي  كرب عـــزة وأنـــت بـــهـــيم

وأتى "سالم بن دارة" عدي بن حاتم، فمدحه، فشاطره "عدي" ماله.

والأغلب بن عمرو بن عبيدة بن حارثة بن دُلف بن جشم بن قيس بن سعد ابن عجل بن لجيم بن الصعب بن عليّبن بكر بن وائل، من الشعراء المخضرمين، ويعد من أرجز الرُجّاز، وأرصنهم كلاماً وأصحهم معاني. وهو أول من أطال الرجز، وكان الرجل قبله يقول البيت والبيتين إذا فاخر أو شاتم. وذكر أنه استشهد بنهاوند. وله ديوان. وقيل ان الخليفة "عمر" كتب إلى "المغيرة ابن شعبة" وهو على الكوفة، أن استنشد من قبلك من الشعراء عما قالوه في الإسلام، فكتب إلى لبيد، فكتب لبيد اليه سورة البقرة في صحيفة، وقال: قد أبدلني الله بهذه في الإسلام مكان الشعر، وجاء "الأغلب" إلى المغيرة، فقال له: أرجزاً تريد أم قصـيدا  لقد طلبت هيّناً موجودا 

فكتب بذلك إلى "عمر"، فكتب اليه أن أنقص من عطاء الأغلب خمسمائة فزدها في عطاء لبيد، وله قوله: المرء توّاق إلى ما لم ينـل  والموت يتلوه ويلهيه الأمل 

وأنشد له "أبو الفرج" أرجوزة يهجو فيها سجاح التي ادعت النبوة وتزوجت بمسيلمة الكذّاب.

وكان "هريم بن جواس" التميمي، يهاجي "الأغلب"، وهو من المخضرمين، وافقه بسوق عكاظ، فقال له: قبحت من سالفة ومـن قـفـا  عبد إذا ما رسب القوم طفـا

فما صفا عدوّكـم و لاصـفـا  كما شرار البقل أطراف السفا 

فقال له: من أنت ويلك? قال: أنا غلام من بني مقاعس  الضاربين فلك الفوارس 

ومن الشعراء المخضرمين: "عقيبة بن هُبيرة" الأسدي. وكان جريئاً، وفد على معاوية بن أبي سفيان، فدفع اليه رقعة فيها: فهبنا أمة ذهبت ضِـياعـاً  يزيد أميرهـا وأبـو يزيد

أكلتم أرضنا فجردتمـونـا  فهل من قائم أو من حصيد 

أتطمع في الخلود إذا هلكنا  وليس لنا ولا لك من خلود

ذروا خّون الخلافة، واستقيموا  وتأمير الأراذل والـعـبـيد

وأعطونا السويّة لا تـزركـم  جنود مردفات بالـجـنـود

فقال له معاوية: ما جرّأك عليّ? قال: نصحتك إذ غشوك، وصدقتك إذ كذبوك! فقال: ما أظنك إلا صادقاً! فقضى حوائجه.

ومنهم "حضرمي بن عامر بن مجمع بن موألة "مَوَلَة"" من بني أسد، وهو شاعر فارس سيد، له في كتاب "بني أسد" أشعار وأخبار. وقدم مع وفد "بني أسد"، وفيهم ضرار بن الأزور، وسلمة بن حبيش، وقتادة بن القائف، وأبو مكعب، وكتب لهم الرسول كتاباً. فتلعم "حضرمي" سورة "عبس وتولى"، فزاد فيها: "وهو الذي أنعم على الحبلى، فأخرج منها نسمة تسعى"، فقال له النبي: "لا تزد فيها". وورد ان السورة هي سورة: سبح اسم ربك الأعلى. وكان يكنى: "أبا كدام"، وله شعر في حرب الأعاجم، أنشد بعضه "عمر بن الخطاب"، وقد نقل عنه "سيف بن عمر" في الفتوح بعض أخبار مسيلنة والردة.

ومن المخضرمين "حنيف بن عمير" اليشكري، قاتل "محكم بن الطفيل" يوم اليمامة. وله شعر في قتله.

ومن المخضرمين: "ربيعة بن مقروم بن قيس"، وكان ممن أصفق عليه "كسرى"، ثم عاش في الإسلام زماناً. شهد القادسية وجلولاء، وهو من شعراء "مضر" المعدودين.

ومن الشعراء المخضرمين: "أبو بكر بن الأسود بن شعوب" الليثي، وهو "شداد بن الأسود". وقيل اسمه: "عمرو بن سُمي بن كعب بن عبد شمس" الكناني، وأمه "شعوب" من بني خزاعة، وله شعر كثير قاله وهو كافر، ثم أسلم بعد. ومن شعره، قصيدة في رثاء قتلى المشركين ببدر، يقول فيها:   

فماذا بالقليب قلـيب بـدر  من القينات والشرب الكرام 

إلى أن يقول: يخبرنا الرسول لسوف نحيا  وكيف حياة أصداء وهام

ومن المخضرمين: "قطبة بن الزبعري"، وهي أمه. وهو "قطبة بن زيد ابن سعد بن امرئ القيس بن ثعلبة" من بني القين بن جسر. وكان سيد قضاعة في الجاهلية وأول الإسلام. وله مفتخراً: حميتُ القوم قد علمت معدٌ  ومن للقوم من مولى وجار 

حبوت بها قضاعة إن مثلي  حقيق أن يذب عن الذمار

ولست كمن يُغمز جانـبـاه  كغمز التين تجنيه الجواري 

ومن المخضرمين "عبدة الطبيب"، "عبدة بن الطيب"، وهو من "بني عبشمس بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم". ومن جيد شعره في رثاء قيس بن عاصم، قوله: عليك سلام الله قيسَ بن عاصمٍ  ورحمته ما شاء أن يترحمـا

تحية من ألبسته منك نـعـمة  إذا زار عن شحط بلادك سلما 

فلم يك قيس هلـكـه واحـدٍ  ولكنه بنيان قـوم تـهـدمـا

وقوله: والمرءُ ساع لأمر ليس يدركه  والعيش شح واشتقاق وتأميل

وقد أعجب "عمر" بهذه القصيدة الطويلة التي على اللام.

"واسم الطيب: يزيد بن عمرو بن علي بن أنس بن عبد الله بن عبد تميم بن جشم بن عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم". وهو من مشاهير الشعراء، وقد ساهم في فتوح العراق، وهو القائل في قتال الفرس: هل حبل خولة بعد الهجر موصول  أم أنتَ عنها بعيد الدار مشغـول

ثم يقول: يقارعون رؤوس الفرس ضاحية  منهم فوارس لا عزل و لا ميل

وكان "أبو عمرو بن العلاء" يقول: قول عبدة: وما كان قيس هلكه هلك واحد  ولكنه بنيان قـومٍ تـهـدمـا

أرثى بيت قيل.

ومن شعره قوله: ولقد علمت بأن قصري حفرة  غبراء يحملن اليها شـرجـع

فبكت بناتي شجوهن وزوجتي  والأقربون إلى ثم تصـدعـوا

وتركت في غبراء يكره وردها  تسفى عليّ الريح حـين أودع

وقوله: لمّا نزلنا نصبنا ظلّ أخـبـية  وفار للقوم باللّحم المراجـيلُ

وَرْداً وأشقر لم يهنئه طابـخةُ  ما غيّر الغلي منه فهو مأكول 

ثُمّتَ قمنا إلى جُرْدٍ مـسـومة  أعرافهن لأيدينـا مـنـاديل

ومن المخضرمين "عدي بن عمرو بن سويد بن زبان" الطائي، المعروف بالأعرج. وهو القائل: تركت الشعر واستبدلت منه  إذا داعي صلاة الصبح قاما 

كتاب الله ليس لـه شـريك  وودعت المدامة والندامـى

ومن الشعراء المعمرين: "أبو الطمحان" القيني، واسمه حنظلة بن الشرقي من بني كنانة بن القين. زعم أنه عاش مائتي سنة، فقال في ذلك: حنـتـنـي حـانـيات الـدهـر حـــتـــى  كأنـي خـاتـــل أدنـــو لـــصـــيد

قصير الخطو يحسب من رآنيولست مقيداً أني بقيد 

تقارب خطو رجلك يا سويد  وقـيدك الـزمـــان بـــشـــر قـــيد

ونسب اليه قوله: إن الزمان ولا تفنى عجائبـه  فيه تقـطـع ألاف وأقـران

أمست بنو القين أفراقاً موزعة  كأنهم من بقايا حي لقـمـان

وقد أختلف فيه، فزعم بعض أنه جاهلي لم يدرك الإسلام، وزعم بعض اخر انه ادركه. وانه قال شعراً يتبرأ فيه من الذنوب كالزنا وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، والسرقة، وكان نديماً للزبير بن عبد المطلب في الجاهلية، ونسب له قوله: وإني من القوم الذين هم هـم  إذا مات منهم ميت قام صاحبه 

نجوم سماء كلما غاب كوكـب  بدا كوكب تأوي اليه كواكبـه

ًأضائت لهم أحسابهم ووجوههم=دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبة ومن المعمرين الشعراء: "الربيع بن ضبع" الفزاري، زعم انه أدرك أيام "عبد الملك بن مروان" وانه دخل عليه فقال له: "يا ربيع، أخبرني عما ادركت من العمر والمدى ورأيت من الخطوب الماضية، قال: أنا الذي أقول: هأنذا آمل الخـلـود وقـد  أدرك عقلي ومولدي حجرا 

فقال عبد الملك: قد رويت هذا من شعرك وأنا صبي، قال: وأنا القائل: إذا عاش الفتى مائتين عاماً  فقد ذهب اللذاذة والفتـاء

قال: قد رويت هذا من شعرك، وأنا غلام، وأبيك يا ربيع، لقد طلبك جد غير عاثر، ففصل لي عمرك، قال: عشت مأئتي سنة في فترة عيسى عليه السلام، وعشرين ومائة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام". وأخذ عبد الملك يسأله، وهو يجيب. وقد علق "المرتضى" على هذا الخبر بقوله: "ان كان هذا الخبر صحيحاً فيشبه أن يكون سؤال عبد الملك له انما كان في ايام معاوية، لا في ايام ولايته، لأن الربيع يقول في الخبر: عشت في الإسلام ستين سنة. وعبد الملك ولي في سنة خمسة وستين من الهجرة، فإن كان صحيحاً فلا بد مما ذكرنا، فقد روي ان الربيع أدرك ايام معاوية".

وزعم انه قال شعراً لما بلغ مائتي سنة، وشعراً آخر لما بلغ مائتين واربعين. وهو مثل شعر المعمرين في العمر وفي ذهاب الشبابن وتقدم السن، وفي عدم تحمل السنين والشيخوخة، وغير ذلك من الأعراض التي تلازم الشيوخ.

ومن شعراء بني تميم: "حارثة بن بدر بن حصين بن قطن بن غدانة" الغداني من بني "يربوع"، كان من فرسان "بني تميم" ووجوهها وسادتها، وكان يعارض الشعراء نظراءه في الشعر، ولم يكن معدوداً في فحول الشعراء.

وقد نسبوا اليه قوله: لعمرك ما أبقى لي الدهر مـن أخ  حفي ولا ذي خلة لـي أواصـلـه

ولا من خلـيل لـيس فـيه غـوائل  فشر الأخلاء الكـثـير غـوائلـه

وقل لـفـؤاد إن نـزا بـك نـزوة  من الروع أفرخ، أكثر الروع باطله 

وروى الشريف "المرتضى" أشعاراً أخرى، أكثرها في المنايا، وفي الصدق والاخلاص، والنصح، وتجنب أمكنة السوء، وفي تجاوز الأقرباء على حقوق القريب وفي الوقوع في الفقر حيث يقول: وإذا افتقرت فلا تكن متخشـعـاً  ترجو الفواضل عند غير المفضل 

واستغن ما أغناك ربك بالغـنـى  وإذا تكون خصاصة فتـجـمـل

وقد كان في أيام "زياد بن ابيه"، وكان مستهتراً بالشراب، وله شعر عاتب به "عبد الله بن زياد" لما تغير عليه بعد اختصاصه بأبيه.

ومما استحسن من شعره قوله: يا كعب ما راح من قوم ولا ابتكروا  إلا وللموت في آثـارهـم حـادي

يا كعب ما طلعت شمس ولا غربت  إلا تـقـرب آجـالا لـمـيعـاد

وكانت لخفاف بن نضلة بن عمرو بن بهدلة الثقفين وفادة على النبين وفد عليه فقال: إني أتاني في المنام مـخـبـر  من جن وجرة في الأمورموات 

يدعو الـيك لـيالـياً ولـيالـيا  ثم احزأل وقال لـسـت بـآت

فركبت ناجية أضر بمتـنـهـا  جمر تحت به على الأكمـات

حتى وردت المـدينة جـاهـداً  كيما أراك فتفرج الكـربـات

ويروى ان النبي استحسنها، وقال: ان من البيان لسحراً وان من الشعر كالحكم.

و "بشر بن قطبة بن سنان" الفقعسي، من الشعراء الفرسان، شهد اليمامة مع "خالد بن الوليد"، وقال في ذلك: أروح وأغدو في كتـيبة خـالـد  على شطبة قد ضمها الغزو خيفق 

ومنها: إذا قال سيف الله كرّوا علـيهـم  كررنا ولم نجعل وصاة المعوق

أقول لنفسي بعدما رَقَّ بالـهـا  رويدك لما تشققي حين تشفقي

وكوني مع الراعي وصاة محمد  وإن كذبت نفس المنافق فاصدق 

ومن شعراء "بني أشجع": "بقيلة" الأشجعي، وكان سيداً كبيراً شاعراً. ومن شعره: إلبس قريبك إن أطماره خلقـت  و لا جديد لمن لا يلبس الخلـقـا

فإن أشعر بـيت أنـت قـائلـه  بيت يقال إذا أنشدتـه صـدقـا

وانما الشعر لبّ المرء يعرضـه  على المجالس إن كيساً وان حمقا 

وكان "امرؤ القيس بن عابس بن المنذر بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية الأكرمين" الكندي، من الشعراء، وكان ممن حضر حصار حصن "النجير"، فلما أخرج المرتدون ليقتلوا، وثب على عمه ليقتله، فقال له عمه: ويحك أتقتلني وأنا عمك? قال: أنت عمّي والله ربي، فقتله. وكان ممن ثبت على الإسلام، وأنكر على الأشعث ارتداده. وقد كتب إلى "أبي بكر" في الردة: ألا ابلغ أبا بكر رسولاً  وبلغها جميع المسلمينا

فليس مجاوراً بيتي بيوتاً  بما قال النبي مكذبينـا

ومن شعره:   

قف بالديار وقوف حابـس  وتـأنَّ إنـك غـيرُ آيس

ماذا عليك مـن الـوقـو  ف بهامد الطلّلـين دارس

لعبت بهن الـعـاصـفـا  ت الرائحات من الروامس 

وقد أخذه الكميت كله غير القافية فقال: قف بالديار وقوف زائر  وتأيَّ إنك غير صاغر

ةمن الشعر المنسوب اليه، المعروف بخفة رويه، قوله: يا تَـمْـلِـكُ يا تـــمـــلـــي  صلـينــي وذري عـــذلـــي

ذريني وسلاحي ثم شدي الكف بالغزل 

ونَبلي وفقاها  كعـراقـيب قـطـا طُــحـــل

ومـنـي نـظــرةٌ بـــعـــدي  ومـنـي نـظـرةٌ قـبـــلـــي

وثـــوبـــاي جــــــديدان  وأرخـى شـرك الـنـــعـــلِ

وإمـا مـتُ يا تـــمـــلـــي  فكـونـي حـرة مـثـــلـــي

وتروى هذه الأبيات للفند الزماني.

وشداد بن عارض الجشمي من الشعراء المشهورين، ذكره "ابن اسحاق" في المغازي، ولما سار رسول الله إلى الطائف، قال في ذلك: لا تنصروا اللاتَ إن اللهَ مهلكهـا  وكيف ينصر من هو ليس ينتصر 

إن الرسول متى ينزل بـلادكـم  يظعن وليس بها من أهلها بشـر

و"هوذة بن الحرث بن عجرة بن عبد الله بن يقظة" السلمي المعروف ب "ابن الحمامة"، وهي أمه، من الشعراء المخضرمين، قال لعمر بن الخطاب لما قدم أناساً عليه في العطاء: لقد دار هذا الأمر في غير أهله  فأبصر أمين الله كـيف تـريد

أيدعى خثيم والشريد أمـامـنـا  ويدعى رباح قبلنـا وطـرود

فإن كان هذا في الكتاب فهم إذا  ملوك بني حرّ ونحن عـبـيد

ولمالك بن عامر بن هانئ بن خفاف الأشعري، قصيدة طويلة يشرح فيها أحواله، مذ كان في الجاهلية إلى دخوله في الإسلام، ومجيئه النبي، ثم اشتراكه في الفتوح كالقادسية، ثم مساهمته في حرب صفين مع "علي". وقد ختمها بقوله: كأن الفتى لم يعـش لـيلة  إذا صار رمساً على صور 

وطول بقاء الفتـى فـتـنة  فأطول لعمرك أو أقصـر

وقيل "مالك" الطويلة أهمية خاصة بالنسبة لدارسي الأدب العربي، لأنها تتناول ترجمة حياة الشاعر، وتسجل سيرته بشعر، وهو نموذج لم يتطرق اليه شعراء العربية بكثرة.

و"مالك بن عمير" السلمي من الشعراء المعروفين، ذكر انه جاء إلى النبي فقال: "يا رسول الله إني امرؤ شاعر، فافتني في الشعر? فقال: لأن يمتلئ ما بين لبتك إلى عاقتك قيحاً خير لك من أن تمتلئ شعراً" ويذكر الخبر أنه قال للرسول: "فامسح عني الخطيئة"، فمسح الرسول يده على رأسه ثم أمرها على كبده ثم على بطنه، وترك بعد ذلك الشعر.

ومن المخضرمين "شبيل بن ورقاء" "شبيل بن وفاء" من زيد بن كليب ابن يربوع، وكان شاعراً مذكوراً جاهلياً، فأدرك الإسلام وأسلم إسلام سوء. وكان لا يصوم رمضان، فقالت له بنته: ألا تصوم? فقال: تأمرني بالصـوم لا دَرَّ درهـا  وفي القبر صومٌ، يا تبال طويل 

و "أنس بن مدرك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف" الخثعمي ثم الأكلبي، والمعروف ب "أبي سفيان" هو من الشعراء الجاهليين الذين أدركوا الإسلام. وكان شاعراً وقد رأس؛ إذ كان سيد خثعم في الجاهلية، كما كان فارسها. وذكر أنه قتل "السليك بن سلكة" الشاعر المعروف، وكان قد اعتدى على امرأة من خثعم، فلحقه وقتله، فطالب "عبد ملك مويلك" الخثعمي بدية "السليك"، وكان "السليك" يعطيه إتاوة من غنيمته على الحيرة، فأبى "أنس" أن يديه لفجوره، كما كانت له أخبار مع "دريد بن الصمة" في الجاهلية. وقد عاش طويلاً فزعموا أنه عاش مائة وأربعاُ وخمسين سنة.

وكان "سواد بن قارب" الدوسي من الشعراء، وكان يتكهن في الجاهلية ثم أسلم. ورووا له أبياتاً فيها إشارة إلى "الرئي" والجن.