قال "الطبري" في تفسيره: " كانت العرب وإن جمع جميعها اسم انهم عرب، انهم مختلفو الألسن بالبيان متباينو المنطق والكلام". وأن ألسنتهم كانت كثيرة كثرة يعُجز عن احصائها. وقد ذكر غيره مثل ذلك، ذكر أن لغات العرب كانت متباينة، وأن بعضها كانت بعيدة بعُداً كبيراً عن عربيتنا، كالألسنة العربية الجنوبية ومنها الحميرية. قال "ابن جني": "وبعد فلسنا نشك في بعُد لغة حمير ونحوها عن لغة بن نزار"، وقال "أبو عمرو بن العلاء": " ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا". وذكر "ابن فارس"، أن ولد "اسماعيل"، يريد بهم الغسنانية "يعيرون ولد قحطان أنهم ليسوا عرباً ويحتجون عليهم بأن لسانهم الحميرية، وأنهم يسمون اللحية بغير اسمها مع قول الله - جل ثناؤه - في قصة من قال: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، وأنهم يسمون، الذئب القلوب مع قوله: وأخاف أن يأكله الذئب... وما أشبه ذلك"،. وقد عرف ذلك الكتبة "الكلاسيكيون" وغيرهم.
فذكر مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري". "Periplus mare Erythrae"، أن سكان سواحل البحر الأحمر الذين كانوا يقيمون بين مدينة "Leuke Kome"، وميناء "Muza" يتكلمون بلهجات مختلفة ولغات متباينة، قلّ منهم من يفهمها عن الثاني، وبعضها بعيد عن بعض بعداً كبيراً. وقد عاش مؤلف هذا الكتاب في القرن الأول للميلاد، والساحل الذي ذكوه هو ساحل الحجاز.
وأصبح اليوم من الأمور المعروفة أن أهل العربية الجنوبية كانوا يتكلمون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، بدليل هذه النصوص الجاهلية التي ضر عليها في تلك الأرضين، وهي بلسان مباين لعربيتنا، حيث تبين من دراستها وفحصها أنها كتبت بعربية تختلف عن عربية الشعر الجاهلي، وبقواعد تختلف عن قواعد هذه اللغة. وهي لو قرئت على عربي من عرب هذا اليوم، حتى إن كان من العربية الجنوبية، فإنه لن يفم منها شيئاً، لأنها كتبت بعربية بعيدة عن عربية هذا اليوم، وقد ماتت تلك العربية، بسبب تغلب عربية القرآن عليها.
كما عثر في العربية الغربية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب على نصوص معينية و لحيانية وثمودية وغيرها، وهي مختلفة بعضها عن بعض، ومختلفة أيضاً عن "العربية" لغة القرآن الكريم.
ومع إدراك الرواة وعلماء اللغة وجود الخلاف في ألسنة العرب، فإنهم لم يدونوا اللهجات على أنها لهجات مستقلة ذات طابع لغوي خاص، لها قواعد نحوية وصرفية، تختلف اختلافاً متبايناً عن نحو و صرف عربية القرآن الكريم، وإنما "تناقلوا من ذلك أشياء كانت لعهد الإسلام، وأشياء أصابوها في أشعار العرب مما صحت روايته قُبيل ذلك. أما سواد ما كتبوه، فقد شافهوا به العرب في بواديها وسمعوه منهم، وهو بلا ريب من بقايا اللهجات التي كانت لعهد الجاهلية".
على انهم لم يدونوا من كل ذلك إلا كفاية الحاجة القليلة في تصاريف الكلام أو ما تنهض به أدلة الاختلاف بين العلماء المتناظرين من شواهد في الغريب والنادر وفي القواعد. أما تدوين اللهجات على إنها أصل من أصول اللغة، وأما تسجيل قواعد صرف ونحو تلك اللهجات، فهذا ما لم يحفل به أحد، ولم يقدم عليه عالم فيما نعلم من أخبار الكتب التي وصلت الينا، لأن أكبر غرضهم من جمع اللغة وتدوينها يرجع إلى علوم القرآن والحديث، ولغتهما اللغة الفصحى،اللغة التي تعلو على اللغات، أما ما دونها فلغات دونها في المنزلة والفصاحة، وألسنة شاذة غير فصيحة، ليس من اللائق بالعالم إضاعة وقته في البحث عنها، وفي التنقيب في قواعد نحوها وصرفها، وهي فوق ذلك لغات بطون وعشائر وقبائل ومواضع، ليس لها أتباع كثيرون، وقد أقبلوا على استعمال عربية الإسلام، وفي إحياء العربيات الأخرى إحياء للجاهلية.
"رأينا علماء اللغة وأهل العربية قد طرحوا أمثلة اختلاف اللغات في كتبهم، فلا قيمة لها عندهم الا حيث يطلبها الشاهد وتقتضيها النادرة.فيُ عرض كلامهم، لأنهم لم يعتبروها اعتباراً تأريخياً، فقد عاصروا أهلها، واستغنوا بهذه المعاصرة عن توريث تأريخها لمن بعدهم، ولو إن منهم من نصب نفسه لجمع هذه الاختلافات وإفرادها بالتلوين يعد استقصائها من لهجات العرب، وتمييز أنواعها بحسب المقاربة والمباعدة، والنظر في أنساب القبائل التي تتقارب في لهجاتها والتي تتباعد،وتعيين منازل كل طائفة من جزيرة العرب والرجوع مع تأريخها إلى عهدها الأول الذي يتوارث علمه شيوخ القبيلة وأهل أنسابها،لخرج من ذلك علم صحيح في تأريخ اللغة وأدوار نشأتها الاجماعية، يرجع البه على تطاول الأيام وتقادم الأزمنة، ولكان هذا يعد أصلا فيما يمكن أن يسمى تأريخ آداب العرب، يفرعون منه ومحتذون مثاله في الشعر وغيره مش ضروب الأدب.
ولكن القوم انصرفوا عن هذا وأمثاله لاعتقادهم أصالة اللغة، وانها خلقت كاملة بالوحي والتوقيف، وان أفصح اللهجات انما هي لهجة اسماعيل عليه السلام، وهي العربية القديمة الجيدة كما قال سيبويه".
"وعلى هذا اعتبروا لهجات العرب لعهدهم كأنها أنواع منحطة خرجت عن أصلها القرشي بما طرأ عليها من تقادم العهد وعبث التأريخ، فلم يجيئوا ببعضها إلا شاهداً على الفصاحة الأصلية في العربية وخلوّ ها من التنافر والشذوذ، وتماماً على الذي جمعوه من أصول العربية، وتفصيلاً لكل شيء إلا التأريخ".
"ومع أن الرواة قد وضعوا كتباً كثيرة ومصنفات ممتعة في قبائل العرب ومنازلها وأنسابها وأسمائها واشتقاق الأسماء وألقابها ومدحها وأشعارها وفرسانها وأيامها، وفى ذلك مما يرجع إلى التأريخ المتحدد، فلو أنهم اعتقدوا اللغاتِ بسبب من ذلك ولم يعرفوها بالوصف الديني الثابت الذي لا يتغير قي حقيقته، لأجروها مجرى غيرها من آثار التاريخ، ولكن ذلك الزمن قد طوي بأهله، ولحق فرعه باصله، فبقي ذلك الخطأ التاريخي كأن صوابه من بعض التأريخ الذي هو حديثُ الغيب".
ويستمر "الرافعي" في حديثه هنا، فيقول: "نقول هذا وقد قرأنا ما بين أيدينا من كتب الفهرست والراجمُ الطبقات على كثرتها، وتبينا ما يسرد فيها من لسماء الكتب والأصناف" عسى إن تجد من آثار احد الرواة أو العلماء ما يدل على وضع كتاب في تأريخ لهجات العربُ يمييز لغاتها علي الوجه الذى أومأنا لليه، او ما عسى أن نستدل به على انهم كانوا يعتبرون ذلك اعتباراً تأريخاً، ولكنا خرجنا منها على حساب ما دخلنا فيها: صفر في صفر، ولم يزدنا تعدادُ أسماء الكتب علماّ بموت هذا العلم وأنه لا كتب له، للسبب الذي شرحناه من اعتبارهم أصالة العربية".
وفي كتاب "فهرست" لابن النديم، وفي المؤلفات الأخرى لسماء كتب وضعها علماء اللغة في للغات، من ذلك "كتاب اللغات" ليونس بن حبيب " 183ه" من علماء العربية، وكان أعلم الناس بتصارف النحو، و "كتاب اللغات" لأبي زبد الانصارى "215ه"، و"كتاب اللغات" للاصمعي "213ه "، "17 2 ه"، و "كاب اللغات" لابن دريد "321 " و "كتاب
اللغات" لأبي عمرو الشيباني "213ه"، و "كتاب مجرد الغريب" على مثال العين وعلى غير ترتيبه، "وأوله هنا كتاب ألفه في غريب كلام العرب ولغاتها على عدد حروف الهجاء الثمانية والعشرين"، وهو لعلي بن الحسن، ويكنى أبا الحسن الهنائي، و "كتاب الاستعانة بالشعر وما جاء في اللغتت" لعمر بن شبة "262ه"، إلى غير ذلك من مؤلفات دونت في هذا الباب.
لكننا لا نستطيع أن نتحدث عما عالجته من موضوعات وعما ورد فيها من بحوث، بسبب اننا لا نملك نسخاً منها، فلا ندري إذا كانت قد وضعت فى خصائص لغات العرب من نحو وصرف ومفردات، أم أنها ألفت في الشواذ والنوادر وفي الأضداد واختلاف الألفاظ،وما يتعاور الأبنية من الاختلاف الصرفي والنحوي،لأن كل وجه من ذلك إنما هو أثر من لغة. والأصح، أنها لم توضع في خصائص لغات الجاهلين وفي قواعد نحوها وصرفها لضبطها، كالذي فعلوه في دراسة عربية الفرآن الكريم، فهذا عمل كبير، يحتاج إلى استقراء وتتبع لألسنة العرب في للجاهلية وعند ظهور الإسلام، وإنما كانت قد ألفت فيما جاء في الشعر الجاهلي وفي نوادر الأعراب وكلامهم من اختلاف وتغاير وشواذ، مما يغاير لغة القرآن الكريم، ودليل ذلك، أننا نرى أق المؤلفات التي نقلت من تلك الكتب في باب لغات العرب، لم تتحدث بشيء عن أصوله فى وصرف تلك اللغات، وإنما،تحدثت عن أمور ذكرت أنها خرجت فيها على قواعد العربية الفصحى، وشذت بها عنها، مما يدل على أن علماء اللغة لم يوجهوا عنايتهم فى تلك اللغات لدرسها بذاتها دراسة مستقلة، كما فعلوا بالنسة للعربية الفصحى وإنما أرادوا إظهار بعض مواضع خلافها مع العربية، أو مواضع الاتفاق معها لإثبات قاعدة نحوية أو صرفية، أو لإظهار سمو هذه العربية وعلوها على العربيات الأخرى من حيث السليقة والذوق والسلامة.
وقد بني سبب اهمالهم اللهجات الأخرى، على اعتقادهم انها لهجات رديئة فاسدة، وأن اللغة الفصحى هي اللغة الوحيدة التي يجب ضبط قواعدها والعناية بها، لأنها لغة القرآن الكريم، وأن الباحث في اللهجات الأخرى يؤدي إلى تثبيت لغات فاسدة إلى جانب لغة الوحي، ولم يكن هذا عملا مطاقاً ولا مقبولا بالنسبة إلى ذلك الوقت. ولذلك انحصر عملهم في المجال اللغوي على التوسع والبسط في هذه اللغة التي اسموها اللغة العالية أو الفصحى، وعلى ما تحتها من لهجات، وما اختلفت فيه بعضها عن بعض، وهي لهجات كانت قريبة من مواطن علماء اللغة، أما اللهجات البعيدة عنهم، فلم تنل منهم أية رعاية أو عناية، ونجد مواضع الاختلاف مسجلة في كتب اللغات والنحو وشواهده وفي كتب النوادر والغريب، و مجالس العلماء، حيث كانوا يتباحثون في أمور اللغة والشعر وأيام العرب و ما كان يتلذذ بسماعه الخلفاء والحكام الذين كانوا.يثيبون من يستمعون إليه، مما حمل العلماء وأهل الأخبار على تطلب الغريب والتنقير عن الشارد والهارب للتفوق به على اصحاب الحرفة المتنافسين فيما بينهم في عرض بضاعتهم على أصحاب الحكم والمال.
وأجمل ما ذكره هنا علماء العربية من مواضع اختلاف العربيات الاخرى عن العربية المحضة في الأمور الآتية: أحدها الإختلاف في الحركات، نحو نسْتعين ونستِعين بفتح النونُ كسرها فهي مفتوحة في لغة قريش، واسد وغيرهم يكسرها، ونحو الحصاد والحصاد.
والوجه الاخر، الإختلاف في الحركة والسكون نحو مَعَكم ومَعْكم.
ووجه آخر هو الإختلاف في إِبدال الحروف، فى: أولئك و أولالِك.
ومنها قولهم: أن زيداً وعن زيداً.
ومن ذلك: الإختلاف في الهمز والتليين فى مستهزئون ومستهزُون.
ومنه: الاختلاف في التقديم والتأخير، نحو صاعقة وصاقعة.
ومنها: الإختلاف في الحذف والاثبات، نحو استحييت واستحيت، وصددت و أصددتُ.
ومنها: الاختلاف في الحرف للصحيح يبدل حرفا معتلاَ، نحو أمّا زيد، و أيما زيد.
ومنها: الإختلاف في الإمالة والتفخيم مثل قضى و رمى، فبعضهم يفخّم وبعضهم يميل.
ومنها: الاختلاف في الحرف الساكن يستقبله مثله فمنهم من يكسر الأول، و منهم من يضم، نحو اشتروا الضلالة.
ومنها: الاختلاف في التذكير والتأنيث، فان من العرب من يقول: هذه البقر، وهذه النخل، ومنهم من يقول: هذا البقر، وهذا النخل.
ومنها: الاختلاف في الإدغام نحو: مهتدون ومٌهُدوّن.
ومنها: الاختلاف في الإعراب نحو.: ما زيدٌ قائماً، وما زيد قائم، وإن هذين، و ان هذان، وهي بالألف لغة لبني الحارث بن كعب.
ومنها: الاختلاف في التحقيق والإختلاس نحو: يامرُ كم ويأمرْكم، وعُفي له،وعُفْى له.
ومنها: الاختلاف في الوقف على هاء التأنيث مثل: هذه أمّهَْ و هذه أمّت.
ومنها: الاختلاف في الزيادة نحو: أنظٌرٌ، وأنظٌورُ.
ومن الاختلاف اختلاف التضاد"، و ذلك كقول حمير للقائم: ثب، أي اقعد، وثب بمعنى اقفز.
ُمنها الاختلاف في الكلمة، فقد يقع فيها ثلاث لغات، نحو: الزٌّجاج، والزَّجاج،والزِّجاج " وقد يقع في الكلمة أربع لغات، فى الصِّداق،والصَّداق و الصٌّدقة، و الصَّدقة. ويكون فيها خمس لغات، نحو: الشَّمال،والشَّمْل،والشَّمْأل، والشَّيْمل، والشَّمَل. ويكون فيها ستُ لغات، نحو: قٌسْطاص،وِقسْطاص، قَسْطاط، وقستاط، وقِسّاط، وقٌستاط، وقِسَّاط، ولا يكون اكثر من هذا.
ومنها الاختلاف في صورة الجمع، فى اسرى ولسارى، ومنها الاختلاف في التحقيق والاختلاس، نحو يامرٌكم ويامرْكم، وعٌفى وعفى له. ومنها الاختلاف في الموقف على هاء التأنيث مثل هذه امه وهذه امت. ومنها الاختلاف في الزيادة نحو انظر وانظور.
ُقد أشار "أبو العلاء" المعري في رسالة الغفران إلى ان "عدي بن زيد" العبادي، كان يجعل "الجيم" "كافا"، فيقول: "يا مكبور" يريد "يا مجبور"، "وهي لغة رديئة يستعملها أهل اليمن. وجاء في بعض الأحاديث إن الحارث بن هانئ. بن ابي شمر بن جبلة الكندي، استلحم يوم ساباط، فنادى: ياُ حٌكْر يا حٌكْر، يريد يا حجر ين عدي الأدبر، فعطف عليه فاستنقذه، ويكب في موضع يجب". و"الحارث بن هانئ" من كندة، وهو من الصحابة، وكندة من العربية الجنوبية في الأصل، فلا يستبعد منه نطق الجيم كافاً على الطريقة المصرية في الوقت الحاضر، إذ يقول العرب الجنوبيون "هكر" في موضع "هجر"، ولكن "عدي بن زيد" من "يميم"، وليست "تميم" من العربية الجنوبيهّ، ثم إن "المعري"، يقول عنه: "فيقول عدي بعباديته يا مكبور لقد رزقت ما يكب لن يشغلك عن القريض"، لي: "يا مجبور لقد رزقت ما يجب أن يشغلك عن القريض" فجعل قلب الجيم كافاً من سمات لغة العباديين.
ولخص بعض العلماء الوجوه التي تتخالف بها لغات العرب، في سبعة أنحاء لا تزيد ولا تنقص: الوجه الأول ابدال لفظ بلفظ كالحوت بالسمك وبالعكس، وكالعهن المنفوش، قرأها "ابن مسعود" كالصوف المنفوش. الثاني: ابدال حرف بحرف كالتابوت والتابوه. الثالث: تقديم وتأخير ما في الكلمة، نحو: سلب زيد ثوبه، سلب ثوب زيد. وأما في الحروف نحو: أفلم ييأٍس الذين، أفلم يإيس. الرابع زيادة حرف أو نقصانه نحو: ماليه وسلطانيه، فلا تكُ في مِرْية. الخامس: اختلاف حركات البناء نحو تحسين بفتح السين وكسرها. السادس: اختلاف الأعراب نحو ما هذا بشر بالرفع. السابع: التفخيم والإمالة. و هذا اختلاف في اللحن والتزيين لا في نفس اللغهّ.والتفخيم أعلى واشهر عند فصحاء العرب. فهذه الوجوه السبعة التي بها اختلفت لغات العرب.
وجمع "مصطفى صادق الرافعي" أنواع الاخلاف الواردة في كتب اللغة، فحصرها في خمسة أقسّام.
??????النوع الاول
وقد عده علماء اللغة من مستبشع اللغات، ومستقبح الألفاظ، ولذلك أطلقوا على اللغات التي تمارسها: اللغات المذمومة، من ذلك: "الكشكشة" وهي ابدال الشين من كاف المخاطب للمؤنث خاصة، كعليش ومنش وبش، في عليكِ، ومنكِ، وبكِ، في موضع التأنيث، أو زيادة شين بعد الكاف المجرورة. تقول عليكش، واليكش، وبكش، ومنكش، و ذلك في الوقف خاصة. ولا تقول عليكش بالنصب. وقد حكى كذا كش بالنصب. وإنما زادوا الشين بعد الكاف المجرورة لتبين كسرة الكاف فمؤكد التأنيث، و ذلك لأن الكسرة الدالة على التأنيث فيها تخفى في الوقت فاحتاطوا للبيان أن أبدلوها شيئاً، فإذا وصلوا حذفوا لبيان الحركة، ومنهم من يجري الوصل يجري الوقف فيبدل فيه أيضاً. وربما زادوا على الواو في الوقف شيناً حرماً على البيان أيضاً، فإذا وصلوا حذفوا الجميع وربما ألحقوا الشين فيه. وذكر أن "الكشكشة" في بني أسد وفي ربيعة. "وفي حديث معاوية تياسروا عن كشكشة تميم، أي ابدالهم الشين من كاف الخطاب مع المؤنث".
"و الكشكشة في ربيعهّ ومضر. يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شيناً. فيقولون رأيتكش ومررت بكش. والكسكسة فيهم أيضاً، يجعلون بعد الكاف أو مكانها شيئاً في المذكر". وورد: "والكسكسة لغة لتميم لا لبكر، كما زعمه ابن عباد، وانما لهم الكشكشة بإعجام الشين. هو إلحاللهم بكاف المؤنث سيناً عند الوقف دون الوصل. يقال: اكرمتكس مررت بكس، أي أكرمتك ومررت بك. ومنهم من يبدل السين من كاف الخطاب، فيقوك أبوس وأمس، أي ابوك وأمك. وبه فسر حديث معاوية رضي الله عنه تياسروا عن كسكسة بكر. وقيل: الكسكسة لهوازن". "ومنهم من يجعلها مكان الكاف ويكسرها في الوصل ويسكنها في الوقف؛ فيقول: منِشْ وعَليش".
والديش بالكسر: الديك، لغة فيه عند من يقلب الكاف شيناً، شبه كافه بكاف المؤنث لكسرتها.
وذكر "السيوطي" أن الكسكسة في ربيعة ومضر، يجعلون بعد الكاف أو مكانها في خطاب المذكر سيناً. وذكر بعضهم إن الكشكشة في لغة تميم، والكسكسة في لغة بكر. وذكر بعضهم إن الكسكسة لبكر لا لربيعة ومضر،وهي زيادة سين بعد كاف الخطاب في المؤنث لا في المذكر.
"والوتم في لغة اليمن، بجعل الكاف شيئاً مطلقاً. كلبيش اللهم لبيش. ومن العرب من يجعل الكاف جيماً كالجعبة يريد الكعبة". وقيل: "الوتم في لغة اليمن، تجعل السين تاء كالنات في الناس". "والشنشنة في لغة اليمن، تجعل الكاف شيناً مطلقاً كلبيش اللهم لبيش، أي لبيك".
وقد استشهد علماء اللغة على الوتم بشعر نسبوه إلى "علباء بن ارقم" هو: يا قبح الله بني الـسـعـلات عمرو بن يربوعٍٍ شرار النات
ليسوا أعـفـاء ولا أكـيات
فاستعمل النات بدل الناس، والأكيات بدل الأكياس. ولكن الشاعر من "بكر" لا من حمير.
و "الفحفحة في لغة هذيل، يجعلون الحاء عيناً. والوكم والوهم كلاهما في لغة بني كلب. من الأول يقولون: عليكِم وبكمِ حيث كان قبل الكاف ياء أو كسرة في موضع عليكم وبكم، ومن الثاني يقولون: منهم وعنهم وبينهِم، وإن لم يكن قبل الهاء ياء ولا كسرة". "وهم يكمون الكلام بكسر الكاف من يكمون، أي يقولون السلام عليكم بكسر الكاف". ومن أمثلة الفحفحة قولهم عياة في موضع حياة، وعلى لغتهم قرأ "ابن مسعود" عَتى عِين في قوله تعالى: حتى حين، فكتب إليه "عمر" إن القرآن لم ينزل على لغة هذيل، فاقرئ الناس بلغة قريش. ومن الفحفحة قولهم: العسن في الحسن، واللعم في اللحم، وذكر إن ثفيفاً كانت تفحفح في كلامها، فتقول عتى في موضع حتى. وقد ورد في "تاج العروس"، أن "الوكم" "لغة أهل الروم الان"، ولعل هذه اللغة انما جاءتهم من "كلب"، وهم من عرب بلاد الشام القدماء.
"قال الفراء: حتى لغة قريش وجميع العرب إلا هذيلاً وثقيفاً، فإنهم يقولون: عتى. قال: وأنشدني بعض اهل اليمامة: لا أضع الدلو ولا أصلتي عتى أرى جلّتها تولـي
صوادراً مثل قباب التلَّ
قال أبو عبيدة: من العرب من يقول: اقم عنيّ عتى آتيك، وأتى آتيك ؛ بمعنى حتى آتيك، وهي لغة هذيل".
و "العجعجة" في قظاعة كالعنعنة في تميم. يحولون الياء جيماً مع العين.
يقولون: هذا راجع خرج معج، أي راعي خرج معي. وقيل: "العجعجة في قضاعة. يجعلون الياء المشددة جيماً: يقولون في تميمي تميمج".وكانت قضاعة إذا تكلموا غمغموا، فلا تكاد تظهر حروفهم. وقد سمى العلماء ذلك الغمغمة قضاعة.
والاستنطاء، قول أنطى بدل أعطى. "قال الجوهري: هي لغة اليمن. وقال غيره: هي لغة سعد بن بكر. والجمع بينهما أنه يجوز كونها لهما"، وقيل: "هي لغة سعد بن بكر، وهذيل، والأزد، وقيس، والأنصار يجعلون للعين الساكة نوناً إذا جاورت الطاء... وهؤلاء من قبائل اليمن، ما عدا هذيل. وقد شرفها النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى الشعبي " أنه صلى الله عليه وسلم، قال لرجل: أنطه كذا وكذا، أي اعطه. وفي حديث آخر أن مال الله مسؤول ومنطى،أي معطى. وفي حديث الدعاء: لا مانع لما أنطيت.
وفي حديث آخر: اليد المنطية خير من اليد السفلى. وفي كتابه لوائل: وأنطوا الثبجة. وفي كتابه لتميم الداري: هذا ما أنطى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره. ويسمون هذا الانطاء الشريف. وهو محفوظ عند أولاده. وقرىء بها شاذاً إنا انطيناك الكوثر".
وعرفت لغة "بهراء" بوجود "التلتلة" بها. وتلتلة بهراء كسرهم تاء تفعلون. مثل كسر تاء تعلم، في موضع الفتح. وكسر التاء من "تكتب". و ذلك انهم يكسرون احرف المضارعة مطلقاً. "ونسب ابن فارس في فقه اللغة هذا الكسر لأسد وقيس، إلا انه جعله عاماً في أوائل الألفاظ، فمثل له بقوله: مثل تعِلمون وتعِلم وشعِير وبعير".
وعرفت "القطعة في لغة طيء: وهي قطع اللفظ قبل تمامه، فيقولون في مثل يا أبا الحكم: يا أبا الحكا. وهي غير الترخيم المعروف في كتب النحو، لأن هذا مقصور على حذف آخر الاسم المنادى، أما القطعة فتتناول سائر أبنية الكلام".
ومن لغة تميم كسر الشين في شهيد، وكذا كل فعيل حلقي العين سواء كان وصفاً كهذا، واسماً جامداً كرغيف وبعير. "قال الهمداني في اعراب القرآن: أهل الحجاز وبنو أسد يقولون رحيم ورغيف وبعير بفتح أوائلهن. وقيس وربيعة وتميم يقولون: رحيم ورغيف وبعير بكسر أوائلهن. وقال السهيلي في الروض: الكسر لغة تميم في كل فعيل عين فعله همزة أو غيرها من حروف الحلق، فيكسرون أوله كرحيم وشهيد. وفي شرح الدريدية لابن خالويه: كل اسم على فعيل ثانيه حرف حلق يجوز فيه اتباع الفاء العين كبعير وشعير ورغيف ورحيم. وحكى الشيخ النووي في تحريره عن الليث آن قوماً من العرب يقولون ذلك وإن لم يكن عينه حرف حلق ككبير وكريم وجليل ونحوه. قلت: وهم بنو تميم كما تقدم".
ومما اختلفت به تميم عن قريش أنها تذكر السوق والسبيل والطريق والزقاق والصراط والكلاء، وهو سوق البصرة، أما أهل الحجاز فذكرون الكلّ.
ومن ميزات لهجة تميم، أنها تنطق بالهمزة إذ وقعت في أول الكلمة عيناً. فيقولون في أسلم عسلم ويسمي العلماء ذلك "العنعنة". "وعنعنة تميم ابدالهم العين من الهمزة. يقولون: عن موضع أن". "قال الفراء: لغة قريش ومن جاورهم أن، وتميم وقيس وأسد و من جاورهم يجعلون ألف أن إذا كانت مفتوحة عيناً. يقولون أشهد عنك رسول الله، فإذا كسروا رجعوا إلى الألف وفي حديث قيلة: تحسب عين نائمة، وفي حديث حصين بن مشمت أخبرنا فلان عن فلاناً حدثه. أي آن فلانأَ حدثه. قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: كأنهم يفعلونه لبحح في أصواتهم. والعرب تقول: لأنك ولعنك، بمعنى لعلك. قال ابن الأعرابي لعنك لبني تميم، وبنو تيم الله بن ثعلبة يقولون رعنك. ومن العرب من يقول رغنك بمعنى لعلك". "قال الفرّاء: العنعنة في قيس وتميم. تجعل الهمزة المبدوء بها عيناً، فيقولون في انك عنك وفي أسلم عسلم".
وذكر إن العنعنة في كثير من العرب، في لغة قيس وتميم، وقيل في لغة قضاعة أيضاً، وفي لغة أسد ومن جاورهم، يجعلون الهمزة المبدوء بها عيناً، فيقولون في انك عنك، وفي أسلم عسلم، وفي أذُن عُذن، وفي ظننت أنك ذاهب، ظننت عنك ذاهب.
ومن مواضع الاختلاف بين لغة أهل الحجاز، ولغة تميم، الاختلاف في عمل ما وليس النافيتين. وتزدد الكلمة بين الإدغام والفك، وبين الإتمام والنقص، أو بين الصحة. والإعلال والإعراب والبناء، فمثلاً أهل الحجاز يفكون المثلين من المضارع المجزوم بالسكون وأمره، وتميم تقولهما بالإدغام، وخثعم وزبيد تنقص نون من الجارة، فيقولون: خرجت ملبيت في قولهم: خرجت من البيت وغيرهم يتمها.
و "ضللت" بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع. وهذه هي اللغة الفصيحة، وهي لغة نجد. و "ضللت تضل مثل مللت تمل، أي بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، وهي لغة الحجاز والعالية. وروى كراع عن "بني تميم" كسر الضاد في الأخيرة ايضاً. قال اللحياني: وبهما قرىء قوله تعالى: قل إن ضلت فإنما أضل على نفسي. الأخيرة قراءة أبي حيوة، وقرأ يحيى بن وثاب اضل بكسر الهمزة وفتح الضاد. وهي لغة تميم. قال ابن سيده: وكان يحيى بن وثاب يقرأ كل شيء في القرآن ضلت وضللنا بكسر اللام. ورجل ضال تال". و "الضلالة والتلالة".
واللخلخانية العجمة في المنطق، وهو العجز عن ارداف الكلام بعضه ببعض. ورجل لخلخاني غير فصيح. ويعرض ذلك في لغة أعراب الشحر وعمان.كقولهم في ما شاء الله مشا الله. والطمطمانية تعرض في لغة حمير، كقولهم طابم هوا، أي طاب الهواء. "وطمطمانية حمير بالضم ما في لغتها من الكلمات المنكرة، تشبيهاً لها بكلام العجم. وفي صفة قريش ليس فيهم طمطمانية حمير، أي الألفاظ المنكرة المشبهة بكلام العجم". وذكر أن الطمطمانية كانت أيضاً عند بعض عشائر طيء، "وهي ابدال لام التعريف ميماً. فيقولون في السهم والبر والصيام: امسهم، وامبر، وامصيام، وهذا ليس ابدالاً، وإنما هي لهجة يمنية، إذ كانوا يعُرّفون بالألف والميم، ولعل في ذلك ما يدل على صحة ما ذهب إليه النسابون من أن طيء قبيلة يمنية". ولكن حمير لا تعرف بالألف والميم، وانما تعرف ب "ان" "ن"، تضع هذه الأداة في آخر الكلمة التي يراد تعريفها. ولهذا، أخطاً من ذهب إلى أن هذه الطمطمانية ابدالاً، أو "لبس ابدالاً، وانما هي لهجة يمنية، إذ كانوا يعرفون بالألف والميم"، لما ذكرته من أن التعريف يلحق في الحميرية أواخر الكلم، ولا يكون في اولها، ويكون بالأداة "ن" "ان"، لا بالألف واللام، كما هو الحال في عربيتنا، وان التنكير عندهم يكون بإلحاق حرف "الميم" أواخر الألفاظ التي يراد تنكيرها، ولم يصل إلى علمي أن أحداً من الباحثين عثر على نص جاهلي في العربية الجنوبية عرف ب "ال" اداة التعريف في عربية القرآن الكريم.
ومن الشائع بين الناس، أن الرسول قال: "ليس ممبرم صيامم فم سفر"، أي "ليس من البر الصيام في السفر"، وعندي إن هذا الحديث من الأحاديث الضعيفة أو المكذوبة، وقد وضع ليكون شاهداً على "الطمطمانية" المذكورة، جاءوا به شاهداً على تكلم الرسول بلسان حمير، ولكن لسان حمير لم يكن يعرّف الغير معرف بهذه الأداة من التعريف، وقد يكون لهجة من لهجات بعض القبائل على نحو ما نسب إلى بعض عشائر طيء، كما ذكرت ذلك قبل قليل.
ومن العرب من يجعل الكاف جيماً كالجعبة يريد الكعبة. ومنهم من يستعمل الحرف الذي بين القاف والكاف كما في لغة تميم، والذي بين الجيم والكاف في لغة اليمن، وإبدال الياء جيماً في الاضافة نحو غلامج، وفي النسب نحو بصَرجّ وكوفج. ومن ذلك الحرف الذي بين الباء والفاء، مثل بور إذا اضطروا قالوا: فور.
ومن النوع الثاني، وهو الخاص بلغات منسوبة غير ملقبة عند العلماء: إبدال "فقيم" الياء جيماً، ولغتهم في ذلك أعم من لغة قضاعة التي مرت في النوع الأول، لأنها غير مقيدة، فيقولون في بُختى وعليّ ? بُختجٌّ وعلجٌّ. وحجتج في حجتى، وبج في موضع بي. "وقال ابن فارس في فقه اللغة: إن الياء تجعل جيماً في النسب عند بني تميم، يقولون غلامج، أي غلامي، وكذلك الياء المشددة تحول جيماً في النسب، يقولون بصَرجَ وكوفِّج في بصريّ وكوفي. وعكس هذه اللغة في تميم - على ما نقله صاحب المخصص- و ذلك انهم يقولون: صِهريٌ والصهاري، في صهريج والصهاريج".
في لغة مازن يبدلون الميم باءً والباءَ ميماً، فيقولون في بكر: مكر، وفي اطمئن اطبئن، ويقولون با اسمك ? مكان ما اسمك ? وفي لغة طيء يبدلون تاء الجمع هاءً إذا وقفوا عليها، إلحاقاً لها بتاء المفرد؛ وقد سمع من بعضهم: دفن البناه من المكرماه، يريد: دفن البنات من المكرمات.وحكى قول بعضهم: كيف البنون والبناه، وكيف الإخوه والأخواه ? وفي لغة طيء أيضاً يقلبون الياء ألفاً بعد إبدال الكسرة التي قبلها فتحة، و ذلك من كل ماض ثلاثي مكسور العين، ولو كانت الكسرة عارضة كما لو كان الفعل مبنياً للمجهول، فيقولون في رضى وهُدى: رضَا وهدُى، بل ينطقون بها قول العرب: فرس حظيِة بظّية فيقولون: حظاة بظاة، وكذلك الناصاة، في الناصية.
ومن لغتهم أنهم يحذفون الياء من الفعل المعتل بها إذا أكّد بالنون، فيقولون في اخشَينَّ وارمينَّ: اخشنّ وارمنَّ، وجاء في الحديث على لغتهم: "لتؤدن الحقوق إلى اهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء تنطحها"، وتنسب هذه اللغة إلى فزارة ايضاً.
وورد في بعض الروايات انهم يبدلون الهمزة في بعض المواضع هاءً فيقولون هنِ فعلت، يريدون إن فعلت.
وورد أن بعض "طيء" كان يقلب "العين" همزة، فيقول: دأني بدلاً من دعني.
وفي لغة تميم انهم يجيئون باسم المفعول من الفعل الثلاثي إذا كانت عينه ياءً على أصل الوزن بدون حذف، فيقولون في نحو مبَيِع: مبيوع، ولكنهم لا يفعلون ذلك إذا كانت عين الفعل واواً إلا ما ندر" بل يتبعون فيه لغة الحجازيين، نحو: مقول، و مصوغ.
وفي لغة هذيل لا يبقون ألف المقصور على حالها عند الاضافة إلى ياء المتكلم، بل يقلبونها ياءً ثم يدغمونها، توصلاً إلى كسر ما قبل الياء، فيقولون في عصاى وهواي: عَصِيّ وهوَيّ، ولا يفعلون ذلك إذا كانت الألف في آخر الاسم للتثنية، كما في نحو "فَتيَاي"، بل يوافقون اللغات الأخرى.
وفي لغة فزارة وبعض قيس، أنهم يقلبون الألف في الوقف ياءً، فيقولون: لهُدى. وافعى وحبلى، في مكان الهدى وأفعى وحبلى.
ومن تميم من يقلب هذه الألف واواً، فيقول: الهُدَو، وأفعوا، وحُبلوَ. ومنهم من يقلبها همزة، فيقول: الهُدأ وافعأ وحُبلأ.
في لغة خثعم وزبيد يحذفون نون "مِن" الجارة إذا وليها ساكن. وقد شاعت هذه اللغة في الشعر واستخفها كثير من الشعراء فتعاوروها.
في لغة "بلحرث" "بلحارث" يحذفون الألف من "على" الجارة واللام الساكنة التي تليها، فيقولون في على الآرض علأرض، في لغة قيس وربيعة وأسد، وأهل نجد من بني تميم، يقصرون "أولاء" التي يشار بها للجمع ويلحقون بها "لاماً" فيقولون: أولاِ لك.
في لغات أسماء الموصول: بلحرث بن كعب وبعض ربيعة يحذفون نون اللذين واللتين في حالة الرفع. وتميم وقيس يثبتون هذه النون ولكنهم يشددونها، فيقولون: اللذانّ واللتانّ، وذلك في أحوال الإعراب الثلاث.
وطيء تقول في الذي: ذو، وفي التي ذات، ولا يغيرونهما في احوال الإعراب الثلاث رفعاً ونصباً وجراً. وقد عرفت ب "ذي" الطائية، وترد "ذ" "ذو" هذه بهذا المعنى في الصفوية واللحيانية والثمودية.
في لغة ربيعة يقفون على الاسم المنوَّن بالسكون في كل أحوال الاعراب، فيقولون: رأيت خالد، ومررت بخالد، وهذا خالد، وغيرهم يشاركهم الا في النصب.
وفي لغة الأزد يبدلون التنوين في الوقف من جنس حركة آخر الكلمة، فيقولون: جاء خالدو، ومررت بخالدي.
وفي لغة سعد يضعفون الحرف الأخير من الكلمة الموقوف عليها إلا إذا كان هذا الحرف همزة أو كان ما قبله ساكناً، فيقولون: هذا خالد، ولا يضعفون في مثل رشأ وبكر.
في لغة بلحرث وخثعم وكنانة، يقلبون الياء بعد الفتحة ألفاً، فيقولون في اليك وعليك ولديه: إلاكَ، وعلاك، ولداه، ومن لغتهم أيضاً إعراب المثنى بالألف مطلقاً، رفعاً ونصباً وجراً، وذك لقلبهم كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها الفاً، فيقولون: جاء الرجلان، ورأيت الرجلان، ومررت بالرجلان.
وورد في بعض الروايات أن بني سعد بن زيد مناة، ولخم ومن قاربها، يبدلون الحاء هاءً، فيقولون في مدحته، مدهته. وأن بني أسعد بن زيد مناة و من وليهم يبدلون من الهاء فاءً، فيقولون فودج في موضع هودج.
وورد أن أزد شنوءة تقول: تفكهون، وتميم يقولون: تفكنون، بمعنى تعجبون.
وورد أن "الكلابيين" يلحقون علامة الإنكار في آخر الكلمة، وذلك في الاستفهام إذا أنكروا إن يكون رأي المتكلم على ما ذكر في كلامه أو يكون على خلاف ما ذكر.
فإذا قلتَ: رأيت زيداً، وانكر السامع إن تكونَ رأيته، قال: زيداً إنيه ! بقطع الألف وتبيين النون، وبعضهم يقول: زيد نيه ! كأنه ينكر أن يكون رأيك على ما ذكرت.
وذكر "الرافعي" الأمور التالية على النوع الثالث، من تغيير الحركات في الكلمة الواحدة حسب اختلاف اللهجات: هَلُمّ في لغة أهل الحجاز تلزم حالة واحدة بمنزلة رويد، على اختلاف ما تسند إليه مفرداً أو مثنى أو جمعاً، مذكراً أو مؤنثاً؛ وتلزم في كل ذلك الفتح ؛ وفي لغة نجد من بني تميم تتغير بحسب الإسناد، فيقولون: هلمَّ يا رجل، وهلمي، وهلما، وهلمّوا، وهلمُمنَ ؛ واذا اسندت لمفرد لا يكسرونها. فلا يقولون: هَلمَّ يا رجل، ولكنها تكثر في لغة كعب وغنى.
وفي لغة تميم يكسرون أول فَعِيل وفعِل إذا كان ثانيهما حرفاً من حروف الحلق الستة، فيقولون في لئيم ونحيف ورغيف وبخيل: لئيم، وِ نحيف بكسر الأول، ويقولون: هذا رجل لعِبٌ، ورحلِ محِكٌ، كل ذلك بالكسر وغيرهم بفتحه.
في لغة خزاعة يكسرون لام الجر مطلقاً مع الظاهر والضمير، وغيرهم يكسرها مع الظاهر ويفتحها مع الضمير غير ياء المتكلم؛ فيقولون: المال لكَ وِلهُ.
هاء الغائب مضمومة في لغة أهل الحجاز مطلقاً إذا وقعت بعد ياء ساكنة، فيقولون: لديهُ وعَلَيهُ؛ ولغة غيرهم كسرها.
في لغة الحجازيين يحكون الاسم المعرفة في الاستفهام إذا كان علماً كما نُطق به، فإذا قيل: جاء زيد، ورأيت زيداً، ومررت بزيد، يقولون: من زيدُ ? ومن زيداً ? ومن زيد ? أما إذا كان غير علم: كجاءني الرجل، أو كان علماً موصوفاً: كزيد الفاضل، فلا يستفهمون إلا بالرفع، يقولون: من الرجلُ ? ومن زيدٌ الفاضلُ ? في الأحوال الثلاث.
واذا استفهموا عن النكرة المعربة ووقفوا على أداة الاستفهام، جاءوا في السؤال بلفظة "مَن" ولكنهم في حالة الرفع يُلحقون بها واواً لمجانسة الضمة في النكرة المستفهم عنها، ويلحقون بها ألفاً في حالة النصب، وياءً في حالة الجر، فإذا قلتَ: جاءنيِ رجل، ونظرت رجلاً، ومررت برجل، يقولون في الاستفهام عنه: منَوُ ? ومنَا ? ومني ? وكذلك يلحقون بها علامة التأنيث والتثنية والجمع. فيقولون: مَنهَ ? في الاستفهام عن المؤنثة، ومنان ? ومنين ? للمثنى المذكر، ومَنتان ? ومنَتين ? للمثنى المؤنث: ومنون ? ومنين ? للجمع المذكر، ومنات ? للجمع المؤنث. وهذا كله إذا كان المستفهم واقفاً، فإذا وصل أداة الاستفهام جردها عن العلامة، فيقول: منَ يا فتى ? في كل الأحوال.
وبعض الحجازيين لا يفرق بين المفرد وغيره في الاستفهام، فيقول: منَو، ومنا، ومَني، إفراداً وتثنية وجمعاً في التذكير والتأنيث.
وحفظ عن أهل الحجاز انهم يعاقبون احياناً بين الواو والياء، فيجعلون احدهما مكان الأخرى، فيقولون في الصوّاغ: الصياغ، وقد دوّخوا الرجل وديّخوه. وسمع عن بعض أهل العالية قولهم، لا ينفعني ذلك ولا يضورني، أي يضيرني، وسمع عن قوم قولهم: في سريع الأوبة: سريع الأيبة. ومنهم من يقول في المصايب: مصاوب، ويقول حكوت الكلام، أي حكيته. وأهل العالية بقولون: القصوى، ويقول أهل نجد: القصيا.
وقد وردت أفعال ثلاثية تُحكى لاماتها بالواو والياء، مثل عزوت وعزيت، وكنوت وكنيت. وهي قريب من مائة لفظة.
في لغة بكر بن وائل وأناس كثير من بني تميم، يسكنون المتحرك استخفافاً، فيقولون في فخذ، والرّجُل، وكَرُمَ، وعلمَ: فخَذ، وكرم، والرّجل، وعَلمَ، وهذه اللغة هي في كثير من تغلب، ثم إذا تناسبت الضمتان أو الكسرتان في كلمة خففوا أيضاً، فيقولون في العُنُق والإبلِ، العُنق، و الإبل.
وحكى أن في لغة أزد السراة تسكين ضمير النصب المتصل.
ولبعض القبائل لغات في كلمات: فتميم نجد يقولون نهرٌ، للغدير،وغيرهم يفتحها. والوتر في العدد حجازية، والوِتر بالكسر فيَ الذّحل: الثأر، وتميم تكسرهما جميعاً، وأهل العالية يفتحون في العدد فقط.
ويقال وَتِد، ووتَد، وأهل نجد يدغمونها فيقولون. ودٌ. وبعض الكلابيين يقولوَن: الدِّواء، وغيرهم يفتحها. والعرب يقولون شُواظٌ من نار،و الكلابيون يكسرون الشين.
والحجازيون يقولون لعمري، وتميم تقول: وعملي. واللص في لغة طيء، وغيرهم يقول: اللِّصت.
وهناك لغات في الأعراب: فتستعمل "هذيل" "متى" بمعنى "مِن" ويجرون بها، سمع من بعضهم قوله: أخرجَها متى كُمِّه، أي من كُمه.
وفي لغة تميم ينصبون تمييز "كم" الخربة مفرداً، ولغة غيرهم وجوب جرّه وجواز افراده وجمعه، فيقال: كم درهمّ عندك، وكم عبيدٍ ملكت ! وتميم يقولون: كم درهماً، وكم عبداً ! في لغة الحجازيين ينصب الخبر بعد "ما" النافية نحو: ما هذا بشراً، وتميم يرفعونه.
في لغة اهل العالية ينصبون الخبر بعد إن النافية، سمع من بعضهم قوله: إن أحدٌ خيراً من أحدٍ إلا بالعافية.
الحجازيون ينصبون خبر ليس مطلقاً، وبنو تميم يرفعونه إذا اقترن بإلا، فيقول الحجازيون: ليس الطيب إلا المسك، وبنو تميم: إلا المسكُ.
في لغة بني أسد يصرفون ما لا ينصرف فيما عِلّة منعه الوصفية وزيادة النون، فيقولون: لست بسكرانٍ، ويلحقون مؤنثه التاء، فيقولون: سكرانة.
في لغة ربيعة وغنم يبنون "مع" الظرفية على السكون، فيقولون: ذهبتُ مَعهُ، وإذا وليها ساكن يكوسرنها للتخلص من التقاء الساكنين، فيقولون ذهبت مع الرجل.
في لغة "بني قيس بن ثعلبة" يعربون " لَدُن" الظرفية، وعلى لغتهم قرئ "من لدنهِ علماً"، وغيرهم يبنيها.
الحجازيون يبنون الأعلام التي على وزن فعَال: كحذام، وقطام، على الكسر في كل حالات الإعراب؛ وتميم تعربها ما لم يكن آخرها راءً وتمنعها من الصرف للعلَمية والعدل، فإذا كان آخرها راء كوبار، اسم قبيلة وظفار اسم مدينة فهم فيها كالحجازيين.
وتعرب هذيل "الذين" اسم الموصول إعراب جمع المذكر السالم، فيقولون: نحن الَّذون صبوا الصّباحا يوم النخيل غارة ملحاحا
ومن لغة هذيل أيضاً، فتح الياء والواو في مثل بَيضات، وهيآت، وعَورات، فيقولون: بيضَات، وهَيآت، وعوَرات، وبقية العرب على إسكانها.
وذكر "الرافعي" بعض الأمثلة على المثال الرابع من قبيل: إبدالهم أواخر بعض الكلمات المجرورة ياء، كقولهم في الثعالب والأرانب والضفادع: الثعالي والأراني والضفادي. وقد يبدلون بعض الحروف ياء كقولهم في سادس: سادي، وفي خامس: خامي.
ومن العرب من يجعل الكاف جيماً، فيقول مثلاً: الجعبة، في الكعبة، وبعضهم ينطق بالتاء طاء: كأفلطني، في أفلتني، وهي لغة تميمية.
وتقول بعض العرب اردت عَن تفعل كذا، وبعضهم يقول: لألني، في"لعلني". وفي لعل لغات يقولها بعض العرب دون بعض، وهي: لعليّ، ولعلني، وعلّي وعلّني، ولعنيّ، ولفني. ورَعَنَ، ورعنّ، وعنّ، وأن، و لعاء.
وورد تلعثم وتلعزم في لغة بعض الناس، وتضيفت الشمسُ للغروب، وتصيفت.
وفي "عند" لغات، هي: عنِدي، وعُندي، وعَندي، وفي لدن ثماني لغات، وهي لَدُن، ولُد ن، ولدَىَ، ولَدُ، ولدَن، ولُدن، ولَد، و لَدَى ؛ وفي "الذي": الذي، واللِذ، واللّذ، واللذيُّ، وفي التثنية اللذان، واللذانَ، و اللذا، و في الجمع: الذَين، والذون، و الملاءون، واللاءو، واللائي، - باثبات الياء في كل حال - و الألى ؛ وللمؤنث اللائي، واللاء، واللاتي: واللت، واللت، واللتان، واللتا، واللتانِّ، وجمع التي اللاتي، واللات، و اللواتيَ، و اللوات، و اللوا، واللاء، واللاتِ.
ومن لغات "هو" و "هي": هُو، وهِي، وهُوّ، وهِيّ وهُ،هِِ.
و من لغات لاجرم: لاجرَ، ولا ذا جرم، ولا ذا جر، ولا إن ذا جرم، ولا عن ذا جرم.
ومن لغات نعم، حرف الايجاب: نَعِم، ونِعِم، ونَحَم.
وبعض العرب يبدل هاء التأنيث تاءً في الوقف، فيقول: هذه أمت، في أمة، وبقرت في بقرة، وآيت في آية.
وذكر "الرافعي" إن النوع الخامس، هو النوع الخاص باللثغة من المتكلم. كالألفاظ التي وردت بالراء والغين وبحروف أخرى.
ومن مواضع الاختلاف التي ذكرها "الرافعي"، والتي وقعت في القرآن بسبب القراءات: تحقيق الهمز وتخفيفه، والمد والقصر، ولفتح والإمالة وما بينهما، والاظهار والادغام، وضم الهاء وكسرها من عليهم وإليهم وإلحاق الواو فيهما في لفظتي منهُمُو وعنهُمو، إلحاق الياء في اليه وعليه وفيه،وفى ذلك، فكان كل أهل لحن يقرءونه بلحونهم.
وللتضجيع: الإمالة، وكانت تميم وقيس وأسد تميل إلى إمالة الألف، وكان الحجازيون ينطقونها بتفخيم فلا يُميلون، ويظهر أن ذلك لم يكن عاماً في القبيلة الواحدة، فقد كان بعض منها يميل وبعض منها لا يميل، وفي ذلك قول سيبويه: "اعلم أنه ليس كل من أمال الألفات وافق غيره من العرب ممن يميل، ولكنه قد يخالف كل واحد من الفريقين صاحبه، فينصب بعضٌ ما يميل صاحبه، ويميل بعضٌ ما ينصب صاحبه. وكذلك من كان النصب في لغته لا يوافق غيره ممن ينصب، ولكن أمره وأمر صاحبه كأمر الأولين في الكسر "الإمالة" فإذا رأيت عربياً كذلك فلا ترينه خلط في لغته ولكن هذا من أمرهم".
وذكر "ابن فارس"، إن من اختلاف العرب في لغاتهم، اختلافهم "في التذكير والتأنيث، فإن من العرب من يقول: هذه البقر، ومنهم من يقول: هذا البقر، وهذه النخيل، وهذا النخيل"، واختلافهم "في الإعراب، نحو: ما زيد قائماً، وما زيد قائم، وإن هذين، وإن هذان، وهي بالألف لغة لبني الحارث بن كعب"،واختلافهم "في صورة الجمع، نحو أسرى وأسارى". وفي هذه اللغة فسر المفسرون الآية: )إن هذان لساحران(، اذ قالوا إنها نزلت على لغة بني الحارث بن كعب ومن جاورهم، "وهم يجعلون الاثنين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف.وقد أنشدني رجل من الأسد عن بعض بني الحارث ابن كعب:
فأطرق اطراق الشجاع ولو يرى مساغاً لناباه الشجاع لصمما
ويظهر من اختلاف العلماء - الذي رأيناه - في نسبة الأمور المذكورة إلى ألسنة القبائل وفي عدم اتفاللهم في كثير من الحالات في تثبيت اللغات المذكورة الى قبيلة معينة او حصرها في قبائل وترددهم في أقوالهم، إن ما ذكروه من اختلاف لم يكن حاصل دراسة استقرائية عميقة، وانما هو حاصل اتصال بأفراد أو بعدد قليل من الأعراب ومن المدعين بالعلم في ألسنة العرب، ولهذا نجد التناقض بادياً في أقوالهم، وصارت دراساتهم المتقدمة ناقصة غير كاملة، لا تتناول إلا أموراً جانبية لا تمس صلب اللغة ولا تنال قواعدها في الصميم، وعلى علماء اللغة في الوقت الحاضر واجب الخروج على الجادة القديمة التي يسيرون عليها اليوم في دراسة اللغة، بالذهاب بأنفسهم من جديد إلى مواطن اللغة، للأخذ من أحجارها المكتوبة إن وجدت ومن ألسنة الأحياء الباقين، أخذاً علمياً مقروناً بدراسات حديثة مبنية على تسجيل الأصوات، للاستعانة بها في الكشف عن لغات العرب بأسلوب علمي حديث.
ويلاحظ أيضاً أن علماء اللغة، قد جمعوا بعض الملاحظات التي ظهرت لهم، من دراساتهم للغة اهل الحجاز، وللغة تميم. فسجلوها في كتب اللغة والقواعد، وقد أشرت إليها فيما تقدم بأيجاز. واذا قلت أهل الحجاز، فلا أعني لغة قريش وحدها، انما لغات القبائل الحجازية، التي تكون مجموعة لالقبائل الساكنة في الحجاز. فإن العلماء حين شرعوا بتدوين اللغة، وجدوا إن لغة أهل مكة لم تعد صافية نقية بسبب اختلاط أهلها بالأعاجم، وظهور الفساد على لسانهم، لذلك، لا نجد لهم ذكراً بارزاً عند علماء اللغة، وانما حل عليهم مصطلح: أهل الحجاز. ويظهر إن عرب "تميم" من علماء اللغة، ووجود عدد من عشائرها في العراق على مقربة من المصريين، ونزول رجال منها البصرة والكوفة، ثم اشتهار رجال من تميم بالفصاحة والبلاغة والخطابة قبل الإسلام، كل هذه وأمور أخرى مكنت العلماء من تسجيل ملاحظات كثيرة عن لغة تميم، زادت بكثير عن الملاحظات التي دونتها عن القبائل الأخرى، وقد ذكر العلماء في مقابلها ما كان يختلف فيه أهل الحجاز عنهم، فتجمعت لدينا بذلك ملاحظات لغوية ونحوية ميزت لهجات تميم عن لهجات "أهل الحجاز"، وبعض القبائل الأخرى. وقد دخلت هذه الفروق في قراءة القرآن، فقرأ بعض القراء على لغة الحجازيين، وقرأ بعض آخر الآيات نفسها على لهجة تميم. كل قرأ على لسانه وتمسك بقراءته، وقد ساعد ذلك عدم وجود الحركات الضابطة للحروف، ولو كانت هناك حركات في مبدأ التدوين تضم الحرف أو تكسره أو تفتحه، لضاق نطاق هذا الاختلاف إذ كان على الناس القراءة وفقاً للمصحف المحرك المشكل الذي اتخذ إماماً لهم، ولكن عدم وجود مصحف إمام استعمل الشكل والإعجام، سهّل ظهور القراءات.
والخلاف بين "أهل الحجاز" "لغة أهل الحجاز" وبين "تميم"، هو خلاف في إطار مجموعة واحدة من القبائل، هي مجموعة "مضر". فالقبائل الحجازية التى ذكروها هي قبائل مضرية، و "تميم" من قبائل مضر كذلك في عرف أهل الأنساب. وكان بين اهل مكة، أي "قريشاً" وبين "تميم" اتصال وثيق قبل الإسلام، وكانت بينهم مصاهرة، وقد عرفت "تميم" واشتهرت بالفصاحة، ولو اخذنا برأي أهل الأخبار، وبما ذكروه عن فصاحة "تميم" وعن كثرة وجود الخطباء والشعراء فيهم، وعن حكومتهم في "عكاظ"، وبما ذكروه عن "قريش" فاننا نخرج بنتيجة هي ان "تميماً"، كانت اكثر شهرة في بضاعة الكلام من "قريش"، وهي نتيجة تناقض زعمهم أن قريشاً كانت اصفى العرب لغة، وأن لسانها هو اللسان العربي الفصيح الذي نزل به القرآن، وانها كانت تجتبي أحسن الألفاظ وأعذبها من بين سائر لغات العرب حتى صار لسانها أفصح الألسنة، ذلك بدليل أستشهاد علماء اللغة بلغة تميم من نثر وشعر في شواهدهم وأدلتهم على قواعد اللغة، كثرة لا تقاس بها الشواهد لحي استشهد بها العلماء على ضبط اللغة والقواعد، المنتزعة من لسان قريش.
ولو استقصينا ما دونه علماء اللغة عن مواطن الاختلاف بين لغات العرب، نصل إلى نتيجة أخرى، هي ان لغات كثير من القبائل تميل إلى ترجيح كفة "لغة تميم" على لغة أهل الحجاز، ففي الفتح والكسر، كما في "الوتر" ُ "الوتر"، نجد الفتح لغة أهل الحجاز، والكسر لغة تميم وأسد وقيس: وقد قرأ بالقرائتين في سورة: )والفجر. وليال عشرٍ. والشفع والوتر(. قال "الطبري": "واختلف القراء في قراءة قوله والوتر، فقرأته عامة قراء المدينة ومكة والبصرة وبعض قراء الكوفة. بكسر الواو. والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان مستفيضتان معروفتان في قراءة الأمصار، ولغتان مشهورتان في العرب فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب". فنرى من رواية "الطبري" المذكورة أن غالبية القراء، انما قرأت بقراءة تميم وأسد وقيس، وان كانت القراءة الثانية التي هي بالفتح لغة مكة صحيحة.
ولقبائل: "تميم" و "قيس" و" أسد"، هي من القبائل التي أكثر علماء العربية أخذ اللغة عنها، ونصوا على اسمها بالذات، فقالوا: "والذين عنهم نقُلت اللغة العربية وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي.من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم اكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم". فهي في مقدمة القبائل التي ركن إليها علماء اللغة في اخذ اللغة عنهم، يليهم هذيل، فكنانة، وبعض الطائيين.
ومعنى هذا أن بناء العربية، الذي قام به علماء،اللغة، انما أخذ معظم مادته من لغات القبائل الثلاث المذكورة، وهي قبائل أقامت في مواضع متجاورة منذ القدم،وكانت بطونها قد توغلت في بوادي العراق في الجاهلية القريبة من الإسلام وفي الإسلام، وفي البحرين ونجد وبعض مناطق اليمامة. فهي تكون جزاً كبيراً من جزيرة العرب والعراق.
ولتجاور القبائل الثلاث المذكورة في القديم، أثر كبير في تشابك اللغات وفي تقاربها، لأن للجوار أثراً خطيراً في تطور اللغة ونموها، ونحن في حاجة اليوم إلى وضع صورة مضبوطة لتوزع القبائل في الجاهلية في جزيرة العرب وبادية الشام على مر الأدوار، لنتمكن بواسطتها من تتبع الأثر السياسي والثقافي لهذه القبائل و ذلك فيما قبل الإسلام، ومن دراسة ما ذكره علماء اللغة من فروق بين اللغات بصورة علمية دقيقة مضبوطة، بتسجيل كل ما ذكروه واحصائه بالضبط، ثم تطبيق ما ذكروه على مواطن هذه القبائل التي ضبطت ضبطاً صحيحاً على هذه الصورة. ونجد في كتب اللغة والمعاجم اموراً لغوية كثيرة، مبعثرة لم يعثر إليها العلماء إلا عرضاً، مثل قول بني أسد "ييجع" يكسر أوله، مع عدم قولهم،"يعلم" استثقالاً للكسرة على الياء وأمثال ذلك، مما يحتاج إلى جمع وتصفية للوقوف على قديم اللغات.
وقد عرفت "بنو أسد" ببروزها فى شقي الكلام: الشعر والنثر. "قال يونس بن حبيب: ليس في بني أسد إلا خطيب، أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس. قال: وليس في هذيل إلا شاعر او رام، أو شديد العدو". وهي قبيلة شهيرة أرى أنها قبيلة "Asateni" المذكورة في جغرافية "بطليموس"، بين "Iodistae" التي تقع أرضها شمال ""Asateni، وهي "جديس"، وقبيلة "Mnasemanes" التي تقع منازلها في شمال غربها في خريطة بطلميوس، وبين "Laeeni" و"Thaemae" الواقعتين إلى الشرق منها، وموضع ""Baeti fl. Fontesالواقع إلى الجنوب وقبيلة "Thanutae" التي تقع منازلها جنوبي هذا الموضع، ثم موضع"Salma" وهو في الخريطة موضعان: موضع يقع شمالي "Mnasaemanes" وموضع يقع جنوب غربي "Baeti fl. Fontes".
وأما "هذيل"، فمواطنهم "جبال هذيل"، وهم جيران "سعد بن يكر" وجيران " كنانة"، و "هوازن"، وهي كلها من القبائل التي أثنى العلماء على لغتها. وهذيل من قبائل مضر، ومن القبائل التي اعرقت في الشعر، وقد استشهد العلماء بشعر شعرائها في اللغة وفي القواعد، ومن هنا عدّت في القبائل التي أخذ علماء العربية اللغة منها. وأما "سعد بن بكر"، و "كنانة"، و "هوازن" فهي مثل "قريش" و "هذيل" من مجموعة "خندف" من "مضر".
وأما بعض الطائيين" الذين أخذ عنهم علماء العربية العربيةَ، فقد نص العلماء على أسمائهم حين استشهدوا بشعر شعرائها. وطيء، منَ القبائل اليمانية في عرف النسابين. وهم من القبائل القديمة التي كان لها شأن يذكر قبل الإسلام، بدليل أن "بني إرم" والفرس، أطلقوا على العرب عموماً كلمة "طيايه" "طيإيو" من أصل "طيء" اسم هذه القبيلة. وأن العبرانيين أطلقوا "طيعا" "ط ي ي ع 1"، "طيايا" "طياية" في مرادف "عرب" مما يدل علي انها كانت أقوى قبائل العرب قبل الإسلام بزمن طويل، وربما كان هذا شانهم قبل الميلاد.
ولا يفهم من أقوال علماء اللغة عن لغتهم، انها كانت ذات صلة بالعربيات الجنوييه، وأما ما ذكروه من "ذي" التي نعتوها ب "ذي" الطائية، فليس لها صلة ب "ذ" الواردة في العربياتَ الجنوبية، وانما هي سمة خاصة بلهجة "طيء" التي هي من العربية الشمالية، أو من مجموعة عربية "ال" في اصطلاحي الذي أطلقته على العربية الشمالية، لامتيازها باداة التعريف هذه عن بقية اللهجات العربية التي استعملت أداة أخرى للتعريف. ولهذا فان قبيلة "طيء" هي قبيلة عربية من القبائل المتكلمة بعربية "ال"، وأن عدّ النسابون نسبها من الجنوب.
وما ذكرته من فروق واختلاف، فإنما هو مما يتناول الاختلاف الكائن بين الهجات العربية الشمالية، واكثره مما يتناول لهجاصت القبائل في عهد التدوين، في الايام التي ظهر فيها الوعي بوجوب تسجيل علوم اللغة وضبطها، فكان، أن اخذ علماء اللغة من فصحاء وممن اشتهر بالعلم باللغة من الصحابة والتابعين، كما أخذوا من الأعراب الذين كانوا يفدون على البصرة والكوفة، وهم من قبائل مختلفة، لكنهم على الاكثر من أعراب البوادي القريبة من العراق، ومن القبائل الضاربة في البادية، فقد ذهب قوم من علماء اللغة إلى البادية معدن اللغة للاخذ من السنة أهلها مباشرة، ولاستقراء لهجاتها للتوصل بذلك إلى معرفة اللغة والقواعد. فكان من هذا الجمع ومن مراجعة القرآن والشعر والحديث، هذا المدون في الكتب من علوم العربية. فهو كله إذن تدوين ظهر في الإسلام.
ولكننا لا نستطيع أن نتحدث عن ذهاب عدد كبير من العلماء الى البوادي لدرلسة لهجات القَبائل،كما لا نستطيع التحدث عن الطرق والأساليب التي سلكوها في جمع اللغة وفي البحث عنها وأخذها من أفواه أصحابها، لعدم وجود شيء من ذلك في الموارد الموجودة لدينا الآن. نعم لقد ذكروا أن اقدم من ذهب إلى البادية: يونس بن حبيب "183 ه"، و "خلف الأحمر" "180"، و" الخليل ابن أحمد" "175ه"، و "أبو زيد" الأنصاري "215 ه".، و "الكسائي" "189ه" الذي ذهب إلى وادي الحجازُ ونجدُ وتهامة، ورجع وقد أنفد خمس عشرة قنينة من الحبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ، ولكننا لا نعرف شيئاً عن بحوثهم وعن استقراءاتهم ولا عن طرقهم التي اتبعوها في بحثهم وتنقيرهم عن اللغة، والأغلب أنها تناولت الغريب والشعر، ثم إننا لآ نستطيع التحدث عن هذه الرحلات بشيء من الاطمئنانُ والثقة، لما قد يكون في كلام رواتها من المبالغة والاضافة والافتعال بسبب العصبية إلى المدينة والى العلماء.
ويلاحظ إن معظم الملاحظات المدونة عن اللغات تناولت قبائل الف علماء العربية الأخذ عنها والاستشهاد بكلامها، وهي قبائل يرجع النسابون نسبها على طريقتهم إلى "معد"، ويظهر من ملاحظات العلماء عن لهجاتها انها كانت تتكلم بلهجات متقاربة، ترجع إلى المجموعة الني تستعمل "ال" أداة للتعريف. أما القبائل التي رجع أهل النسب نسبها إلى قحطان، والتي اسثشهد بشعرها فهي: الأزد، وحمير، وبعض طيء، وخثعم. أما كندة، ومنها الشاعر "امرؤ القيس"، فلا تجد لها ذكراً في هذه اللغات، وإن استشهد بشعر شاعرها وبشعر غيره من شعراء هذه القبيلة، وقد اشير إلى اليمن، ولكنهم لم يذكروا قصدهم منها، ويظهر انهم أرادوا بهم أعراب اليمن، وهم مهاجرون في الأصل هاجروا من باطن الجزيرة إلى اليمن بعد ان ضعف الحكم فيها على أثر تدخل الحبش في شؤُون اليمن وتقاتل الملوك بعضهم مع بعض، مما أفسح المجال للاعراب بدخول العربية الجنوبية، فكونوا قوة خطيرة فيها، أشير إليها في كتابات المسند ب "واعربهم"، "واعربهمو" كما أشرت إلى ذلك فى الأجزاء السابقة من هذا الكتاب.
ولا تزال بعض اللهجات باقيهَ، تتكلم بها القبائل على سليقتها الأولى، وآسف لأن أقول إن علماء العربية في الوقت الحاضر، لم يوجهوا عنايتهم نحوها لدراستها قبل انقراضها وزوالها، مع إن دراستها من الأمور الضرورية بالنسبة لهم، لأنها تساعد في تعيين أصول العربيات وفي تثبيت المجموعات اللغوية العربية، وقد نستنبط منها آموراً علمية كثيرة فات على علماء العربية القدامى يومئذ تسجيلها، لأنها لا تزال باقية، فبواسطة الطرق الحديثة في البحث يمكن العثور على ما فات على أولئك العلماء من أمور.
وقد لاحظ "فؤاد حمزة"، إن أهل نجد أصرح في الوقت الحاضر لغة من أهل ألحجاز، لقرب هؤلاء من الحرمين واختلاطهم بالأجانب، وبعد أولئك عن كل تلك العوامل. ولكن أفصح اللهجآت وأقربها إلى الفصحى هى اللهجات اليمانية الواقعة ما بين جنوبي الحجاز واليمن. وقد ذكر انهم يتكلمونّ الألفاظ من مخارجها الصحيحة، ويتكلمون بما هو أقرب إلى الفصيح من سواه. ويتكلم بعض البداة منهم بكلم معرب فصيح.
ولاحظ أن لغات القبائل لا تزال مختلفة، فمنهم من يقلب "الجيم" ياء فيقول: "المسيد"، بدلاً من "المسجد"، وهم قوم من اليمن والنمور في وادي محرم، ومنهم من يقلب القاف والكاف "تس"، فيقول "حكى" "حتسى"، وهم من أهل نجد، ومنهم من يقلب "الكاف" "تش"، فيقول: "بكى" "بتش"، ومنهم من يقلب "القاف" "صاداً" مفخمة، فيقول "كال" في موضع "قال"، وهي من لغات أهل نجد، ومنهمّ من يقلب "الكاف" "سيناً"، فيقول "عبيسي"، في موضع "عبيكي" ومنهم من يقلب "القاف" "جيما."، فيقول "العجير" في موضع "العقير"، ومنهم من يقلب "الظاء" "لاماً"، فيقول "اللهر" في موضع "الظهر"، ومنهم من يقلب "الصاد" "لاماً"، فيقول "الليف" في موضع "الضيف"، ومنهم من يجعل "الياء" بين الألف والباء، فيقول "امطاير" في موضع "مطير".
ويلاحظ أن قبائل العراق لا تزال تستعمل مثل هذه اللهجات وغيرها،فيستعمل بعضها حرف العين في موضع الهمزة، فيقولون "سعال" في موضع "سؤال" وتستعمل بعض القبائل حرف "الياء" في موضع الميم"، فتقول "يومن"، في موضع "مومن"، أي "مؤمن"، وغير ذلك، وتستعمل بعضها الياء في موضع "الجيم"، فتقول: "ريال" في موضع "رجَّال"، أي "رجل". وذكر إن أهل اليمن يستعملون "الميم" في موضع "ال" أداة التعريف، فيقولون "أم بيت" في موضع "البيت،". وقد أشير في الحديث إلى هذه اللغة، ويظهر أنها لغة خاصة، ربما كانت حاصل ادغام حرف الجر "من" في الكلمة التي دخلت عليها، ف "أم بيت"، هي "من البيت" أو أنها لهجة من اللهجات التي تكلم بها أهل اليمن الشماليون، جعلت "الميم" أداة للتعريف. لأننا نعلم -كما سبق أن ذكرت- أن حرف "الميم" أداة للتنكير في اللهجات العربية الجنوبية، فيقال "بيتم" في موضع "بيت"، ونلحق آخر الأمم. أما أساة التعريف فحرف "ن" يلحق آخر الكلمة كذلك، ولا يدخل على أولها كما في "ال"، يقال "بيتنن" في موضع "البيت"، و "ملكن" في مقابل "الملك".
وذكر "فؤاد حمزة" إن قبيلة "فهم"، وتقع منازلها اليوم بين بني ثقيف شمالاً والجحادلة غرباً، تتكلم بعربية قريبة جداً من العربية الفصحى، وهي مشهورة بالفصاحة.
وفي العربية الجنوبية قبائل تتكلم اليوم بلهجات يرجع نسبها إلى اللهجات العربية الجنوبية القديمة، لأن في ألفاظها وفي تراكيب جملها، و دراستها في هذا اليوم، ضرورة لازمة لمن يريد الوقوف على تأريخ اللغة العربية قبل الإسلام، ومن الضروري كذلك وجوب دراسة اللهجات "الشحرية" و "المهرية" و "السواحلية" و "السقطرية"، و لهجات السواحل الأفريقية المقابلة لجزيرة العرب للوقوف على تطور اللغات العربية الجنوبية، وعلى حل رموزها التي لا تزال مغلقة غير معروفة عند علماء هذا اليوم. لما لهذه اللهجات من صلات بالعربيات الذكورة.
وارى من الضروري دراسة اللهجات العربية الحالية في كل مكان من أمكنة جزيرة العرب، ولا سيما في المواضع التي استخرج العلماء من باطنها نصوصاً مدوّنة بلهجات عربية قديمة، مثل أعالي الحجاز لنتمكن بهذه الدراسة من حل معضلات تلك الكتابات ومن تكوين رأي علمي واضح عن تطور تلك اللهجات فيما قبل الإسلام.
وارى من الضروري في هذا اليوم وجوب تأليف معجم لغوي، يضم اللهجات العربية القديمة، أي اللهجات الجاهلية التي وردت في النصوص الجاهلية، للوقوف عليها، و لا سيما على اللفظ الغريب منها، ومقارنتها بالألفاظ التي ترد في اللهجات العربية الأخرى لإحياء ما يمكن احياؤه من الميت منها، واستعماله في هذا اليوم، للاشياء التي قصرت العربية الفصحى عن وضع مسميات لها،أو،أن مسمياتها حوشية، لا تنسجم مع الذوق، وادخال الألفاظ الواردة في النصوص في المعاجم الموسعة العلمية التي تؤرخ الألفاظ، بأن تشير إلى ورودها لأول مرة في الشعر أو في للنصوص الجاهلية. كما أرى من الضروري وجوب العناية بدراسة ما ذكره العلماء عن اللهجات دراسة علمية نقدية تقوم على المقابلة والمطابقة والمقارنة باللغات الأخرى مع تسجيل قواعدها حسبما أمكن.
ولتشخيص
لغة القرآن صلة كبيرة في تعيين وتثبيت المراد من العربية الفصيحة أي العربية
المبينة. ولهذا فأنا
ضطر إلى التعرض لها، وإن كان الموضوع بحثنا إسلامياً، فأقول نزل القرآن منجماً
)بلسان عربي مبين(.ولكن العرب كانوا ولا زالوا يتكلمون بلهجات، فبأي لهجة من
لهجاتها نزل القرآن الكريم ? لقد تطرق "الطبري" في مقدمة تفسيره إلى هذا
الموضوع بعد أن تعرض لرأي من زعم أن في القرآن كلاماً أعجمياً، وأن فيه من كل لسان
شيئاً، فقال: "قال أبو جعفر: قد دللنا على صحة القول بما فيه الكفاية لمن وفق
لفهمه، على أن الله جل ثناؤه أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر
إجناس الأمم، وعلى فساد قول من زعم أن منه ما ليس بلسان العرب وبلغتها. فنقول
الآن:إذا كان ذلك صحيحاً في الدلالة عليه، فبأي ألسن العرب أنزل? أبالسن جميعها أم
بألسن بعضها ? إذ كانت
العرب وإن جمع جميعها اسم انهم عرب، فهم مختلفو الألسن بالبيان، متباينو المنطق
والكلام. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جلّ ذكره قد أخبر عباده أنه قد جعل القرآن
عربياً، وأنه أنزل بلسان عربي مبين، ثم كان ظاهره محتملاً خصوصاً وعموماً، لم يكن
السبيل إلى العلم بما عنى الله تعالى ذكره من خصوصه وعمومه إلاّ ببيان من جعل إليه
بيان القرآن، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كان ذلك كذلك، وكانت الأخبار
قد تظاهرت عنه،صلى الله عليه وسلم، بما حدثنا خلاد بن اسلم، قال: حدثنا أنس بن
عياض عن ابي حازم عن أبي سلمة، قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة، ان رسول الله صلى
الله عليه وسلم، قال: أنزل القرآن على سبعة احرف، فالمراء في القرآن كفرٌ، ثلاث
مرات، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه.
واستمر الطبري بعد ذلك في تعداد الطرق التي ورد فيها هذا الحديث: حديث "أنزل القرآن على سبعة احرف"، ورواية بعض الأخبار الواردة في حدوث اختلاف بين الصحابة في حفظ بعض الآيات وقراءتها. ثم خلص بعد هذا السرد إلى نتيجة، هي أن القرآن "نزل بالسن بعض العرب دون ألسن جميعها، وأن قراءة المسلمين اليوم ومصاحفهم التي بين أظهرهم هي بعض الألسن التي نزل بها القرآن دون جميعها"، فلم يجزم بتعيين اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم. وحديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف" حديث معروف مشهور، يرد في كتب التفسير وفي كتب المصاحف والقراءات. ورد بطرق متعددة، وبأوجه مختلفة. وهذه الطرق والأوجه، إن اختلفت في سرد متن الحديث وفي ضبط عباراته، قد اتفقت في الفكرة، وخلاصتها نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف. ويقصدون بالحرف وجهاً من أوجه الالسنة، أي لهجة من اللهجات.
أما رجال سند هذا الحديث، فعديدون، وفي حال بعضهم كابن الكلبي وأبي صالح مغمز. وهم جميعاً يرجعون سندهم إلى جماعة من الصحابة، هم نهاية سلسلة السند، قالوا: إنهم سمعوا الحديث من الرسول، ويعنون بهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وأنساً، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ارقم، وسمرة بن جندب، وسليمان بن صرد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن أبي سلمة، وعمرو ين العاص، ومعاذ بن جبل، وهشام بن حكيم، وابا بكرة، وأبا جهم، وأبا سعيد الخدري، وأبا طلحة الأنصاري، وأبا هريرة، وأبا أيوب، وجملتهم واحد وعشرون صحابياً على بعض الروايات.
وورد في الحديث، حديث آخر يرجع سنده إلى "ابن عباس" فيه تأييد له، نصه أن رسول الله قال: "اقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم ازل استزيده ويزيدني حتىّ انتهى إلى سبعة أحرف"، وحديث اخر، نصه: "إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف،فرددتُ إليه: أن هو"ن على أمتي، فارسل اليَ: ان اقرأ على حرفين، فرددت إليه: ان هون على أمتي، فأرسل الي أن اقرأه على سبعهَ أحرف"، وحديث ثالث نصه:" إن جبريل وميكائيل أتياني، فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل: اقر القرآن على حرف، فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف"، "في حديث أبي بكرة عنه: فنظرت إلى ميكائيل فسكت. فعلمت أنه قد انتهت العدة". وهناك أحاديث أخرى بهذا المعنى.
ونجد في كتب التفسير والحديث والأخبار احاديث وأقوالا تشير إلى ان بعض الصحابة كانوا يقرئون قراءات متباينةُ كانوا يتعززون بقرائهم ويتمسكون بها، ومنهم من كان يقرأها على الرسول فلم يعترض عليها، بل روى أنه قال: "اقرأوا كما علمتم"، وروي أنه "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه ُسلم، فقال له: اقراني عبدالله بن مسعود سورة اقرانيها زيد واقرأنيها ابي بن كعب، فاختلفت قرائتهم، فبقراءة أيهم اخذ ? قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وعلي إلى جنبه،قال علي: ليقرأ كل إنسان بما علم كل حسن جميل" ورووا على لسان عمر بن الخطاب قوله: "سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقُرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت اساوره في الصلاة، فتصبرت حنى سلم. فلما سلم، لبيته بردائه، فقلت: من اقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها ? قال: اقرأنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم. فقلت: كذبت، فو الله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤهاَ. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان قال: فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: أرسله يا عمر. اقرأ يا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن انزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منها" وكالذي ذكروه من ان رجلا قرأ عند "عمر" فغير عليه، "فقال: لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه سلم، فلم يغيرّ علي"، فاختصما عند النبى. صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله الم تقرئني آية كذا وكذا ? قال: بلى، فوقع في صدر عمر شيء. فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك في وجهه. فضرب صدره. وقال: أبعد شيطاناً ! قالها ثلاثاً. ثم قال: يا عمر: ان القرآن كله صواب" ما لم تجعل رحمة عذاباً، أو عذاباً رحمة".
وروي "ان رجلين اختصما في أية من القرآن وكل يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه، فتقارءا إلى ابي " فخالف ابي فتقارأوا إلى النبي صلى اللهُ عليه سلم، فقال: يا نبي الله اختلفنا في آية من قرآن وكلنا يزعم أنك أقرأته فقال لأحدهما: اقرا، قال:فقرأ، فقال: أصبت. وقال للاخر: اقرأ، فقرأ خلاف ما قرأ صاحبه، فقال: أصبت. وقال لأبي: اقرأ، خالفهما، فقال: أصبت. قال أبي فدخلني من الشك في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دخل في من امر الجاهلية. قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي في وجهي، فرفع يده فضرب صدري، وقال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم. قال: ففضتُ عرقاً، وكأني أنظر إلى الله فَرقاً،وقال: إنه أتاني آت من ربي، فقال: إن ربك يأًمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب، خفف عن أمتي. قال: ثم جاء ? فقال: إِن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلتُ: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاء الثالثة، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد.فقلت: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاءني الرابعة" فقال إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة الخ".
ورُوي عن زيد بن وهب، قال: أتيت ابن مسعود استقرئه آيةة من كتاب الله، فأقرأنيها كذا وكذا فقلت: إن عمر أقرأني كذا وكذا خلاف ما قرأها عبدالله. قال فبكى حتى رأيت دموعه خلال الحس، ثم قال: إقرأها كما أقرأك عمر، فوالله لهي أبين من طريق السيلحين.
وأورد العلماء أحاديث اخرى بهذا المعنى، تظهر كلها وقوع اختلاف بين الصحابة في قراءة القرآن، وعلم الرسول به، وتجويزه لهم القراءة بقراءتهم كل إنسان بما علم.
وقد اختلف العلماء في معنى هذه السبعة الأحرف وما اريد منها على أقوال. جمعها القرطبي على خمسة وثلاثين قولا،، وجعلها "السيوطي" علىنحو أربعين قولا، تحدث هو وغيره عنها، والحديث عنها في هذا الكتاب يخرجنا من حدود بحثنا المرسومة، وهو التأريخ الجاهلي، لنذلك فسوف لا أتكلم في هذا المكان ألا عن الأقوال التي عينت تلك الأحرف ونصت على أسمائها بالنصُ والتعيين، فأقول: قد رأينا الأحاديث المذكورة والأخبار المروية، وهي عامة، لم تنص على كون المراد من الأحرف السبعة حرفا معيناً، ولساناً خاصاً من ألسنة العرب، غير أننا نجد أخباراً، نصت على تلك الأحرف وعينتها وشخصتها، إذا تتبعنا سندها ورجالها نجدها تنتهي ب "ابن عباس". واكثر القائلين بها هم من علماء العربية مثل "أبو عبيد" و "أبو عمرو بن العلاء" وثعلب، والأزهري، وسند هذه الأخبار "الكلبي" عن "أبي صالح" عن "ابن عباس"، أو عن "قتادة" عن ابن عباس، وأمثال ذلك من طرق، فقد ورد عن "ابن عباس" قوله: نزل القرآن على سبع لغات، منها خمس بلغة العجز من هوازن، قال أبوعبيد: ُالعجز، هم بنو سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية،وثقيف، هؤلاء كلهم من هوازن. يقال لهم: عليا هوازن. ولهنا قال ابو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم، يعني بني دارم، "واخرج ابو عبيد من وجه آخر، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش وكعب خزاعة. قال: وكيف ذلك ? قال: لأن الدار واحدة، يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش، فسهلت عليهم لغتهم".
"وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش وهذيل وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر". وذكر بعض آخر أنه نزلّ بلغة قريش، وهذيل، وثقيف، هوازن، وكنانة، وتميم، واليمن وسعد بن يكر، هم من عليا هوازن. معنى هذا أنه نزل بلغات عدنانية ولغات قحطانية، أي بجميع ألسن العرب.
وقد تعرض "الطبري" للاقوال المذكورة، فقال "وروى جميع ذلك عن ابن عباس، وليست للرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله، وذلك ان الذي روي عنه ان خمسة منها من لسان العجز من هوازن: الكلبي عن أبي صالح، وان الذي روي عنه ان اللسانين اللآخرين لسان قريشُ وخزاعة: قتادة، وقتادة لم يلقه ولم يسمع منه"، وقد ضعف "ابن الكلبى"، ورفض علماء الفقه والحديث الأخذ عنه. وضعف "ابو صالح" كذلك واتهم بالكذب: "قال ابن معين: إذا روى عنه الكلبى فليس بشيء".
وأما "قتادة"، فذكر "الطبري" عنه أنه لم يلق "ابن عباس"، ولم يسمع منه فحديثه عن ابن عباس إذن مما لا يجوز الأخذ به. فروايته: "نزل القرآن بلسان قريش ولسان خزاعة"، رواية لا يعتمد عليها لهذا السبب. ولقتادة رواية أخرى بهذا المعنى نسبها إلى "أبي الاسود الدؤلي"، زعم أنه قال: "نزل القرآن بلسان الكعبين: كعب بن عمرو، وكعب بن لُؤي". وقد علق "خالد ابن سلمة" على هذا الكلام فقال: "ألا تعجب من هذا الأعمى يزعم إن القرآن نزل بلسان الكعبين ?وانما نزل بلسان قريش" - قال مخاطباً به "سعد بن ابراهيم"، وقد رمي قتادة بالتدليس.
وينتهي سند هذا الحديث: "أنزل القرآن على سبعهّ احرف" إلى "ابي هريرة" وقد كثر القول عن أبي هريرة، وأكثر "أبو هريرة" الحديث عن رسول الله، حتى قال الناس أكثر أبو هريرة الحديث عن رسول الله، وكان يقول لهم:" اني كنت امرءاً مسكيناً، اصحب رسوله الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني. وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان الأنصار يشغلهم القيام على اموالهم"، وذكر ان مسند" تقي بن مخلد، احتوى من حديث أبي هريرة على خمسة آلافُ و ثلثمائة حديث وكسر"، وقد يكون بعض ما اسند إليه مما اكثر عليه، اكثره عليه من جاء بعده، ثم إن علينا نقد حديثه، فليس هو بمشرع ولا معصوم، حتى نقبل منه كل ما روي عنه بل روي ان "عمر بن الخطاب" قال له:" أكثرت يا ابا هريرة من الرواية، واحر بك أن تكون كاذباً على رسول الله. ثم هدده وأوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله فإنه ينفيه إلى بلاده.
وقد اخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بارض دوس".
وهناك رأي ثالث يقول انه نزل بلغة مضر، لقول "عمر": نزل القرآن بلغة مضر وعين بعضهُم - فيما حكاه - ابن عبد البر السبع من مضر، أنهم هذيل، وكنانة، وقيس، وضبه، وتميم الرباب، واسد بن خزيمة،وقريش، فهذه قبائل مضر، تستوعب سبع لغات". وذكر أن "عمر" لما أراد "أن يكتب الإمام، أقعد له نفرا منّ أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر".ولما كانت القّبائل المذكورة من مجموعة "مضر"، تكون لغة القرآن، وفقاً لهذا الرأي لغة مضر، لا لغة قريش، وروي عن "عبد الله بن مسعود"، أنه كان يستحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر.
وعندنا أخبار أخرى تفيد أن القرآن إنما أنزل بلغة قريش. من ذلك ما روي من قول عمر: "لا يملين في مصاحفنا هذه إلا غلمان قريش، او غلمان ثقيف". وفسروا ذلك بأنه يعني أن القرآن إنما نزل بلغة قريش. وما روي من قول "عثمان" للرهط القرشيين الذين أوكل اليهم جمع القرآن وكتابته: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم. ففعلوا"، وما روي عنه أيضاً، من أنه لما استفتى في اختلاف "زيد" مع الرهط في كتابة التابوت أيكتبونه بالتاء أو الهاء، وقال الثلاثة القرشيون إنما هو التابوت، وقال زيد انما هو التابوه، قال: "اكتبوه بلغة قريش، فان القرآن نزل بلغتهم"، وما روي.عنه أيضاً من قوله الرهط الذين أمرهم بكتابة القرآن: "إذا اختلفتم انتم وزيد في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن نزل بلسانهم ففعلوا".
واستنكر "ابن قتيبة" قول من قال ان القرآن نزل بلغات اخرى، فقال:"لم ينزل القرآن إلاّ بلغة قريش"، واحتج بالآية: ) وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه(. واحتج آخرون بقول "عمر" لعبدالله بن مسعود: "إن القرآن لم يزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش".
ُروي في "البخاري"، أن القرآن نزل بلسان قريش والعرب. وقريش خلاصة العرب. " وذكر بعض العلماء انه نزل بلغة الحجازيين إلا قليلا، فإنه نزل بلغة التميمين كالإدغام في: ومن يشاق الله، وفي: ومن يرتد منكم عن حينه ؛ فإن ادغام المجزوم لغة تميم،ولهذا قل، والفك لغة الحجاز ولهذا كثر".
وذكر بعض العلماء "ان في القرآن من أربعين لغة عربية وهي: قريش، هذيل، وكنانة، وخثعم، و الخزرج، وأشعر، ونمير، وقيس عيلان، وجرهم، واليمن، وأزد شنوءة، وكندة، و تميم، وحمير، ومدين، ولخم، وسعد العشيرة، وحضرموت، وسدوس، والعمالقة، وانمار، و غسان، ومذحج، وخزاعة، وغطفان، وسبأ، وعمان، وبنو حنيفة، وثعلب، وطيء، وعامر ابن صعصعة، واوس، ومزينة، وثقيف، وجذام، وبلي، وعذرة، وهوازن، والنمر، و اليمامة.
وذكروا أن مما وقع في القرآن من غير العربية: الفرس، والروم، والنبط، و الحبشة، والبربر، والسريانية، والعبرانية، والقبط.
وقال بعض العلماء: "انزل القرآن اولاً بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح العرب أن يقرأوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعلاء على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الإنتقال عن لغته إلى لغة اخرى للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيل فهم المراد".
وذهب "الباقلاني" إلى أن "معنى قول عثمان إنه نزل بلسان قريش، أي معظمه، ولم يقم دليل على أن جميعه بلغة قريشا كله، قال الله تعالى)قرآناً عربياً(، ولم يقل قرشياً، قال: واسم العرب يتناول جميع القبائل تناولا" واحداً يعني حجازها ويمنها، وكذا قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر، قال: لأن لغة غير قريش موجودة في صحيح القراءات كتحقيق الهمزات فأن قريش لا تهمز، وقال ابن عطية: قال ابن عباس: ما كنت أدري معنى فاطر السماوات والأرض، حتى سمعت اعرابياً يقول لبئر ابتدأ حفرها: أنا فطرتها".
وسند القائلين: إن القرآن نزل بلسان قريش، كون الرسول من مكة،ومكة موطن قريش، فلا بد من نزول كتاب الله بلسانهم، ليكون حجة عليهم واعجازاً لفصحائهم، دليل ذلك قوله تعالى: )وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم(، فعلى هذا تكون لغة القرآن لغة قريش، ولما جاء في الأخبارالتي رويت عن "عمر" و "عثمان" من أنه نزل بلسان قريش.
ومن حججهم أيضاً ما رووه من قوله "ابي عبيد الله" من قوله "أجمع علماؤنا بكلام العربُ الرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وايامهم ومحالهم ان قريشا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغةّ. و ذلك أن الله - جل ثناؤه - اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشاً قطان حرمه وجيران بيته الحرام وولاته. فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش في امورهم.وكانت قريش تعلَمهم مناسكهم وتحكم بينهم. ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم، وتسميها أهل الله،لانهم الصريح من ولد اسماعيل عليه السلام، ولم تشبهم شائبة" ولم تنقلهم عن مناسبهم ناقلة، فضيلة من الله جل ثناؤه، لهم وتشريفاً، إذ جعلهم رهط نبيه الأدنين وعترته الصالحين. وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم واشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم. فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طُبعوا عليها، فصاروا بذلك افصح العرب. ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم، ولا عجرفية قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا الكسر الذي نسمعه من أسد وقيس".
وروي عن "قتادة" قوله: "كانت قريش تجتبي، أي تختار، أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتهم لغتهم، فنزلّ القرآن بها".
ثم إنها كانت بعيدة عن الأعاجم، فصان بعدها عنهم لسانها عن الفساد، وحفظها من التأثر بأساليب العجم، حتى إن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية.
ولكننا نجد خبراً يذكر أن "عثمان" قال للرهط الذين أمرهم بجمع القرآن وكتابته: "اجعلوا المملي من هذيل، والكاتب من ثقيف"، وليست هذيل ولا ثقيف من قريش. وتجد خبراً اخر يذكر أنه كانت غمغمة في لغة قريش، والغمغمة من اللغات الرديئة التي أخذها علماء اللغة على اللغات العربية الأخرىَْ، فكيف تتفق الغمغمة مع ما ذكروه من صفاء و نقاء وسهولة وبيان لغة قريش ثم نجد خبراً يذكر أن الخليفة "أبو بكر"، لما هم " بجمع القرآن، بعد إلحاح "عمر" عليه بذلك، "أجلس خمسة وعشرين رجلا من قريش، وخمسين رجلا من الأنصار، وقال: اكتبوا القرآن، واعرضوا على سعيد بن العاص، فإنه رجل فصيح"، ولو كان القرآن قد نزل بلغة قريش، لما اختار هذا العدد الكثير من الأنصار، وهم من غير قريش،ومن منافسي مكة في الجاهلية والإسلام، إن صح هذا الخبر، الذي اشك في صحته.
ثم نجد خبراً آخر يناقض الخبر المتقدم،يقول: "لما كُتبت المصاحف عُرضت على عثمان، فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: لا تغيروها ؛ فإن العرب ستغيرها أو قال ستعربها بالسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل، لم توجد فيه هذه الحروف". وهو خبر أشك في صحته، وللعلماء فيه آراء.
وأما ما قالوه من اختلاف "زيد" مع النفر القرشين الذين أشركوا معه في جمع القرآن من "كتابة "التابوت" بالتاء أو بالهاء، وكان من رأيه كتابتها "التابوه"، ومن رأي "عثمان" "التابوت"، فقد ذكر العلماء أن "التابوه" لغة في التابوت أنصارية. واللفظة هي من المعربات،أخذها الأنصار من العبرانية، فهي عندهم "ت ب ه" "ط ب ه" Teba Tebh بمعنى صندوقْ. وقد كتبت في القرآن بالتاء. وقد وردت اللفظة في سورة "طه"، وهي مكية، ووردت في سورة البقرة وهي مدنية..
واقرب الأقوال المذكورة إلى المنطق، هو قول من قال إنه نزل بلسان عربي وكفى فاسم العرب يتناول جميع القبائل تناولا" واحداً، يعني حجازها ويمنها وكل مكان آخر من جزيرة العرب، ثم ما بالنا نفسر ونؤول، ونلف وندور في. تفسير: "أنزل القرآن على سبعة احرف"، وهو حديث، روي بروايات تحتاج إلى نقد، وفيها ضعف، وأخبار ضعيفة، لا تقف على قدميها، ثم نترك كتاب الله القائل: )نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين(، و )هذا لسان عربي مبين( و )إنا أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون(، و )كذلك أنزلناه حكماً عربياً(، و )كذلك انزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد(، و )قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون(، و )كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون(، و )كذلك اوحينا إليك قرآناً عربيا(، و )إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون(، ) وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا(، ولم يقل قرشيا، ولو نزل بلغة قريش لما سكت اللَه تعالى عن ذلك، لما في التنويه بلسانهم إى كان افصح السنة العرب من حجة على العرب في فصاحته وبيانه وكونه معجزة بالنسبة لقريش، افصح الناس وألسنهم، وليس بكلام العرب عامة الذين هم على حدّ قول أهل الأخبار دون قريش في اللغة والكلام.
وما آية: )وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم(، إلا دليلاً وحجة على نزول القرآن بلسان العرًب، لا بلسان قريش، أو بلسان قبيلة معينة، أو قبائل خاصة. فالآية تقول: ) ما أرسلنا إلى أمة من الأمم يا محمد من قبلك ومن قبل قومك رسولاّ إلا بلسان الأمة التي أرسلناه إليه ولغتهم، ليبين لهم يقول: ليفهمهم ما أرسله الله اليهم من أمره ونهيه وليثبت حجة الله عليهم ثم التوفيق والخذلان بيد الله". ولما كان النبي عربياً، وقد نعت في القرآن أنه "النبي الأمي"، الذي أرسله الله إلى الأميين، "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم"، والأميون هم العرب، العرب كلهم، ولما كان الله قد أرسله إلى قومه العرب، وجب إن يكون الوحي بلسانهم المفهوم بينهم، بلسان طائفة منهم، يؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم نفسه من أنه نزل يلسان عربي مبين. "قال الأزهري: وجعل الله، عز وجل، القرآن المنزل على ألنبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عربياً، لأنه نسبه إلى العرب الذين انزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها، العربية، وجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، عربياً لأنه من صريح العرب". وقال "ابن خلدون": "أن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى اساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه".. وقال "الطبري" في تفسيره للاية: )انا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون(، "يقول تعالى ذكره: انا أنزلنا هذا الكتاب المبين قرآناً عربياً على العرب، لأن لسانهم وكلامهم عربي، فأنزلنا هذا الكتاب بلسانهم ليعقلوه ويفقهوا منه. وذلك قوله عز وجل ) لعلكم تعقلون(.
"قال ابن أبي داود في المصاحف: حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا ابي، حدثنا سعيد بن عبد العزيز: أن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص، لأنه كان اشبههم لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولهذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن. ونعت انه كان أحد أشراف قريش ممن جمع السخاء والفصاحة" وفي هذه الامارة دلالة على أن لهجة الرسول، لم تكن لهجة عامة قريش، وإنما كانت بالعربية التي نزل بها القرآن، ولهذا نص على أن لهجة "سعيد" كانت مشابهة للهجة الرسول، وكان من أفصح رجال قريش، ولو كانت عربية القرآن عربية قريش، لما كان هنالك معنى لقولهم: إن عربية القرآن اقيمت على لسان سعيد، لأنه كان أشبهبم لهجة برسول الله، إذ لو كانت عربية القرآن عربية قريش، لنص عليها، ثم لكان في وسع أي رجل كاتب من قريش، تدوينه، لفصاحة قريش، ولكن سعيدا كان من فصحاء قريش، لأنه كان يتكلم بعربية فصيحة، هي العربية التي نزل بها القرآن، والتي عرف فصحاء قريش فصاحتها، فاعرفوا لذلك بنزوله بافصح لغة وأبين بيان.
وقد ذهب "نولدكه" إلى أن القول بنزول القرآن بلسان قريش، إنما ظهر في العصر الأموي، لاظهار عصبيته منها على الأنصار، ونظراً لكون القرآن كتاب الله فلادعاء نزوله بلغة قريش أهمية كبيرة بالنسبة لهم، ولتأييد سياستهم المناهضة للأنصار والقحطانيين.
ويلفت حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" النظر إليه لاحقاً، فقد حصر القراءات في "سبعة أحرف". والأحرف الألسنة، مع أن العلماء يذكرون أن في القرآن من كل لغة، وأن فيه خمسين لغة. فإذا كان فيه هذا العدد أو نحوه، فما بال هذا الحديث يحصرها في سبعة فقط لا تزيد ولا تنقص وهي أحرف ثبتها العلماء ونصوا على أسمائها نصاً. هل أخذوا هذا الحديث من "السبع المثاني" في القرآن. الكريم، من قوله: )ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم(. أو أخذوه من عدد سبعة الذي يرد في مواضع عديدة من القرآن الكريم ? مثل سبع سماوات، وسبع سنابل، وسبع سنبلات، وسبع بقرات، وسبع سنين، وسبع شداد، والسماوات السبع، وسبع لبيال، وسبعاً شداداً، وسبعة أبواب، وسبعة أبحر، والعدد سبعة هو عد الأيام التي أتم الله فيها الخلق كله، وعدد أيام الاسبوع، ونحو ذلك. والعدد سبعة عدد لعب دوراً خطيراً عند الشعوب القديمة، فالأرض سبع طبقات، والسموات سبع طباق، وأنغام الموسيقى سبعة، والعدد سبعة عدد مقدس، لعب دوراً في الرياضيات القديمة وفي نظريات "فيثاغورس"، وعيون الشعر الجاهلي هي سبعة، هي القصائد السبع الطوال، أو المعلقات السبع، فهل اقتصر الحديث على هذا العدد لسبب من هذه الأسباب أو ما شابها من أسباب ?.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن العدد سبعة لا يمثل، حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة. ولفظ "السبعة" يطلق على إرادة الكثرة في الاحاد، كما يطلق السبعون في العشرات والسبعمائة في المئتين، ولا يراد العدد المعين. ويرده ما في كتب الحديث والأخبار من النص على العدد سبعة بصورة لا تقبل الشك في أن المراد منه ضيق العدد وانحصاره، ثم تعيين هذه الكتب اللهجات السبع بالأسماء، وقد ألف "الصعفدي" كتاباً في عدد السبعة، سماه "عين النبع على طرد السبع" قال فيه إن السبعة جمعت العدد كله، وهذا العدد يمثل الكمال، فأنا لا استبعد ان يكون هذا الحديث قد جاء من هذه الفكرة.
القراءات السبع
ومن الأحرف السبعة ظهرت نظرية القراءات السبع، القراءات المعتبرة المعتمدة عند القراء، وهي ترجع إلى أئمة ارتبطت القراءات بأسمائهم، وعليها يقتصر في القراءات وهي نتيجة تطور سابق لقرّاء سبقوا هؤلاء الأئمة الذين اعتمد عليهم في القراءات، وعلى قراءاتهم يقرأ من يستحق لقب "مقرئ" أو "قارئ"، وإن كَانت هنالك روايات تزيد بعض الزيادات على هذه المقراءات.
ولأجل تكوين فكرة علمية صحيحة عن هذه الأخبار وعن درجة سعة هذا
الاختلاف ومقدارها وما يجب أن يقال فيها، لا بد من نقد كل ما ورد في هذا الباب من حديث وروايات، وغربلته غربلة دقيقة. وتكون أول هذه الغربلة في نظري بنقد سلسلة رجال السند، أي الرواة، لمعرفة الروابط التي كانت تربط بينهم وصلة بعضهم ببعض وملاقاتهم، وما قيل وورد فيهم، إذ نسبت احاديث إلى أشخاص قيل انهم رووها عن أناس ثقات، ثبت من النقد أن بعض رجال السند لم يلتقوا في حياتهم بمن حدثوا عنهم كما في حديث قتادة عن ابن عباس، أو أنهم رووا ما رووه تسرعاً وبدون سند أو إجازة لمجرد سماعهم برواية أولئك الأشخاص لتلك الروايات.
ثم إن هذا النقد لا يكفي وحده، بل لا بد من نقد متن الحديث من حيث لغته وأسلوبه ومضمونه وروحه، ومن حيث انطباق بعض الروايات على جوهر القرآن الكريم وما عرف عن الرسول. فبهذا النقد للمتن، نتمكن من الحكم على إمكان صدور الحديث عن الرسول أو عدمه.
وبعد كلّ ما تقَدم، علينا حصر أمثلة الاختلاف التي ذكرها العلماء، وضبط كل ما ورد في الأخبار من هذا القبيل، لنتمكن من الحكم على مقدار ما اختلف فيه وسعته ودرجة موافقته لما جاء في ذلك الحديث وفي تلك الأخبار، ثم دراسة، هذه الكلمات التي قيل انها تمثل لهجات قبائل وانها حرف من هذه الأحرف السبعة المذكورة في الحديث، لقد لخص "ابن قتيبة" الأحرف السبعة بالأوجه التي يقع بها التغاير: فأولها: ما تتغير حركته، ولا يزول معناه ولا صورته، مثل: ولا يضار كاتب - بفتح -الراء وضها.
وثانيها: ما يتغير بالفعل مثل بعَدَ وباعد، يلفظ الطلب والماضي.
وثالثها: ما يتغير باللفظ مثل: نُنشزها وننُشرها بالراء المهملة.
رابعها: ما يتغير بإبدال حرف قريب المخرج مثل طلح منضود وطلع منضود.
خامسها: ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل:وجاءت سكرة الموت بالحق، وجاءت سكرة الحق بالموت.
وسادسها: ما يتغير بالزيادة والنقصان، مثلاً: وما خلق الذكر والأنثى، والذكر والأنثى، بنقص لفظ ما خلق.
سابعها: ما يتغير بإبدال كلمة بأخرى، مثل: كالعهن المنقوش، وكالصوف المنفوش.
وأجمل "ابن الجزري." الأوجه السبعة ب: 1 - و ذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو: البخل بأربعة أوجه، ويحسب بوجهين.
2 - أو بتغير في المعنى فقط فى: فتلقى آدمُ من ربه كلماتٍ، برفع آدم ونصب لفظ كلمات وبالعكس.
3 - واما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو: تبلو، وتتلو.
4 - وعكس ذلك، نحو بصطة وبسطة، ونحو الصراط والسراط.
5 - أو بتغيرهما نحو فامضوا، فاسعوا.
6 - وإما في التقديم والتأخير، نحو فيقتلون، ويقتلون، بفتح ياء المضارعة مع بناء الفعل للفاعل في إحدى الكلمتّين،وبضمها مع بناء الفعل للمفعول في الكلمة الأخرى.
7 - أو في الزيادة والنقصان.
وقد أوجز "أبو الفضل" الرازي" الحروف السبعة في: 1 - اختلاف الأسماء من إفراد، وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث.
مثل: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، قرئ هكذا جمعاً، وقرىء لأمانتهم بالإفراد.
2 - اختلاف تصريف الأفعال من ماض، ومضارع، وأمر، مثل: فقالوا: ربنَّا باعد بين أسفارنا، قرئ هكذا بنصب لفظ ربنا على أنه منادى، وبلفظ باعد فعل أمر، وبعبارة أنسب بالمقام فعل دعاء، وقرىء هكذا: ربئا بعدَّ يرفع رب على أنه مبتدأ وبلفظ بعَد، فعلاً ماضياً مضعف العين جملته خبر.
3 - اختلاف وجوه الإعراب، مثل: ولا يضار كاتب ولا شهيد. قرىء بفتح الراء وضمها، فالفتح على أن لا ناهية، فالفعل مجزوم بعدها، والفتحة الملحوظة في الراء هي إدغام المثلين. أما الضمّ فعلى أن لا نافية، فالفعل مرفوع بعدها.
4 - الاختلاف بالنقص والزيادة. مثل: وما خلق الذكرَ والأنثى، قرىَء بهذا اللفظ، قرئ أيضاً والذكرَِ والأنثى، بنقص كلمة ما خلق.
5 - الاختلاف بالتقديم والتاخير. مثل: وجاءت سكرة الموت بالحق، وقرئ: وجاءت سكرة الحق بالموت.
6 - الاختلاف يالإبدال، مثل: وانظر إلى العظام كيف ننشزها، بالزاي، وقرئ ننشرها بالراء. ومثل: وطلح منضود، بالحاء، وقرىء طلع بالعين. فلا فرق في هذا الوجه أيضاً بين الاسم والفعل.
7 - اختلاف اللغات، أي اللهجات، كالفتح والإمالة، والترقيق والتفخيم، والإظهار: والإدغام ونحو ذلك.
ونحن إذا تعمقنا في درس مواضع الاختلاف، وهي أهم ما يتصل بلهجة القرآن الكريم، وسجلناها تسجيلا دقيقاً شاملاً، تجد أنها ليست في الواقع اختلافاً في أمور جوهرية تتعلق بالوحي ذاته، وإنما هي في الغالب مسائل ظهرت بعد نزول الوحي من خاصية القلم الذي دون به القرآن الكريم. فرسم اكثر حروف هذا القلم متشابه، والمميز،بين الحروف إلمتشابهة هو النقط، وقد ظهر النقط بعد نزول الوحي بامد كما يقوله العلماء، ثم إنّ هذا القلم كان خالياً في بادئ امره من الحركات، وخلوّ الكلم من الحركات محدث مشكلات عديدة في الظبط من حيث اخراج الكلمة، أي كيفية النطق بها، فمن حيث مواقع الكلم من الإعراب.
كل هذه الأمور وأمور أخرى تعرض لها العلماء، أحدثت في الغالب القسم الأعظم مما يعد اختلافاً في القراءات.
ويعود القسم الباقي من مواضع الاختلاف إلى سبب أراه لا يتعلق أيضاً يمتن النص، وإنما هو، كما يتبين من الإمعان في دراسته ومن تحليل الآيات المختلف فيها، زيادات وتعليقات من ذهن الحفّاظ والكتاب على ما أتصور،لعدم وضوح المعنى لديهم، لعلها كانت تفسيراً أو شرحاً لبعض الكلم دوّنت مع الأصل، فظنت فيما بعد من الأصل. واثبات التفسير مع المتن، جائزعلى بعض الروايات. ويعود قسم آخر منه إلى استعمال كلمات قد تكون مخالفة لكلمة من حيث شكلها، ولكنها متفقة معها في معناها، والى استعمال كلمات متباينة في الشكل وفي المعنى. وهذا القسم هو، ولا شك، أهم اقسام الاختلاف، واليه يجب أن توجه الدراسة.
هذه الأمور المذكورة، تحصر جميع ما ورد من اختلاف في كلمات أو آيات من القرآن الكريم. أما ما ذكره العلماء من الأوجه التفسيرية للحديث: حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف، ومن جعلها خمسة وثلاثين وجهاً أو سبعة أوجه أو أقل من ذلك أو أكثر، فإنها تفاسير متأخرة، وأوجه نظر قيلت لإيجاد مخارج مسوّغة لتفسير هذا الحديث.
ويصعب في هذا الموضع ذكر امثلة لهذه الأمور، فهي عديدة كثيرة، ذكرت في كتب المصاحف وفي كتب التفسير، وأورد شواهد منها "كولدتزهير" في كتابه عن "المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن"،يمكن الاطلاع عليها في الصورة العربية له المطبوعة بمصر. فمن أمثلة الاختلاف الحادث من الخط "تستكبرون" بالباء الموحدة و "تستكثرون" بالثاء المثلثة في الآية: )ونادى أصحاب الأعرافِ رجالاً يعرفونهم بسيماهم، قالوا: ما أغنى عنكم جَمعُكم. ما كنتم تستكبرون(. و "بشراً" أو "نشراً." في الاية: )وهو الذي يُرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته(. وكلمة "إياه" في الاية: )وما كان استغفارُ إبراهيم لأبيه إلا عن مَوعِدة وعَدَها إياه(، إِذ وردت أيضاً "اباه" بالباء الموحدة. وأمثال ذلك مما كان سببه النقط.
وبعد ملاحظة ما تقدم، وحصر كل ما ورد في المصاحف وما قرأه القراء من قراءات، تجد أن ما يختص منه باللهجات وباللغات قليل يمكن تعيينه،ومعظمه مترادفات في مثل: أرشدنا واهدنا، والعهن والصوف، وزقية وصيحة، وهلم وتعال وأقبل، وعجل وأسرعْ، والظالم والفاجر، وعتى وحتى، وأمثال ذلك. وهذه الأمثلة هي كلمات مختلفة لفظاً، ولكنها في معنى واحد. وهي كما ترى مفردات لا دخل لها في قواعد اللهجات.
وأما الاختلاف في الاظهار، والإدغام، والإشمام،لا والتفخيم، والترقيق،والمد، و القصر، و الإمالة، و الفتح، والتحقيق، و التسهيل، والابدال. فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظاً واحداً، وليس هو من قبيل الإختلاف المؤثر في قواعد اللهجة، إنما هو اختلاف في الصور الظاهرة لمخارج حروف الكلمات، فلا يصح أن يعد فارقاً كبيراً يمكن أن يكون حداً يفصل بين اللهجات، بحيث يصيرها لغة من اللغات،ثم إن بعضه يعود إلى الخط، وبعضه إلى التجويد، أي طريقة التلاوة والأداء.
وللحكم على أصل المترادفات، تجب مراجعة سلسلة السند للوصول إلى صحة تسلسل الأخبار من جهة، والى معرفة راوي الخبر والقبيلة التي هو منها لمعرفة القراءة التي قرأها، وهل هي من لهجة قبيلته، أم هي مجرد كلمة من اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم نفسها، تلقاها القارىء على الشكل الذي رواها في قراءته.
لقد أشار العلماء إلى أمثلة من كلمات غير قرشية وردت في القرآن الكريم، ذكروا أنها من لهجات أخرى، ومنها: الأرائك، ولا وزرَ، و"حور"، وأمثال ذلك رجع بعضهم أصولها إلى خمسين لهجة من لهجات القبائل، كما أشاروا إلى وجود كلمات معربة أْخذت من لغات أعجمية مثل الرومية، والفارسية،، والنبطية، والحبشية، السريانية، والعبرانية وأمثال ذلك، وألفوا فى ذلك كتباً، منها: كتاب لأبي عبيد القاسم ين سلام الهروي المتوفى سنة "223ه" "838 م"، واسمه: "رسالة في ما ورد في القرآن من لغات القبائل"، وكتاب لغات القرآن، لأبي زيد الأنصاري المتوفى سنة "214 ه" "829م"، وغيرهما. ولكن بحوث هؤلاء العلماء انحصرت في دراسة المفردات، أي الكلمات، لا غير ثم إن الذين تناولوها لم يكن لهم علم بأكثر اللغات التي رجعوا أصولها إليها، ولا سيما اللغات الأعجمية مثل الرومية، والسريانية، والنبطية، والحبشية.
غير إن من الجائز أن يكون هؤلاء قد سمعوا عنها من الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام ولكن طريقة السماع هذه لا تكفي لإعطاء حكم على أصل لغة، بل لا بد من وجود علم ومعرفة بقواعد تلك اللغة وتاريخها وتطورها، والإحاطة بالعلاقات التاريخية بين العرب وغيرهم قبل الإسلام لمعرفة كيفية دخول تلك الكلمات إلى العرب، وإيجاد وجه صحيح للمقارنة بين اللغتين، وهذا ما لم يحدث في تلك الأيام، ولمّا كانت قراءة عبد الله بن مسعود من القراءات المشهورة المعروفة، وكان عبد الله بن مسعود من قبيلة هذُيل، وجب علينا البحث في لهجة هذيل لمعرفة خصائصها ومميزاتها وما انفردت به عن غيرها من اللهجات. وهذيل من القبائل التي عرفت بجودة لهجتها، في تدوين القرآن الكريم. ولذلك رأى الخليفة عثمان أن يكون المملي من هذيل والكاتب من ثقيف، وقد ذكرت لهجتها في جملة اللهجات التي نص عليها في الحديث المذكور على نحو ما أشرت اليه، كما أخرجت عدداً من الشعراء جمع بعض العلماء أشعارهم في ديوان، وقد طبع في القاهرة ديوان شعراء هذيل. ويفيدنا شعر هؤلاء الشعراء بالطبع في الوقوف على لهجة هذه القبيلة. ولكن هذا الشعر هو مثل شعر سائر الشعراء الجاهليين الاخرين مصقول مهذب، هذّب على وفق قواعد اللغة العربية التي ضبطت في الإسلام، ثم هو مضبوط برواية رواة هم في الأغلب من غير هذيل ولهذا قلما تجد في شعر هؤلاء الشعراء وغيرهمً ما يختلف عن قواعد اللهجة العربية، حتى أننا لا نستطيع في هذه الحالة أن ندعي إن هذا الشعر هو بلهجة هذيل وقد حرمنا العقلُ الوقوف على لهجات القبائل التي أخرجت أولئك الشعراء ومعرفة موثراتها في شعر أولئك الشعراء.
ومن أهم الأمثلة التي أوردها العلماء في قراءة "ابن عباس" مما له علاقة باللهجات، قراءته كلمة "حتى" "عتى" في الآية: )ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجنه حتى حين". وقد ذكر المفسرون وعلماء اللغة أن هذه القراءة هي بلهجة هذيلْ، وأن "عتى" هي "حتى" عند هذه القبيلة ذلك لأن هذه القبيلة تستعمل حرف العين بدلاً من الطاء في لهجتها. ولم يشر العلماء إلى موضع أخرى استعمل "ابن مسعود" فيها كلمة "عتى" في موضع "حتى" الواردة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كما اننا لم نجد في كتب اللغة المتقدمة إشارة إلى استبدال هذيل حرف العين بحرف الحاء. ونظرية "فحفحة" هذيل، رأي متأخر لم يقرن بأدلة وامثلة، فهو رأي لا يمكن الأخذ به. وأظن أن هذه القراءة المنسوبة إلى "ابن مسعود"، هي من القراءات المتولدة من حدوث اشتباه في القراءة، من جراء عدم حصول التمييز بين "العين" و"الحاء" في "حتى". ووقوع الاشتباه بين الحرفين في ابتداء الكلمات، أمر ليس بصعب، وإلا فَلمَ انفرد ابن مسعود في هذا الموضع فقط، باستعمال "عتى"، ولم يستعملها في المواضع الأخرى وهي كثيرة في القرآن الكريم.
نعم، لقد ورد في روايات إن ابن مسعود قرا "نحم" بدلاً من "نعم" في القرآن الكريم، وأنه قرأ "بحثرَ" عوضاً عن "بعثر". وهذه الروايات تناقض الروايات السابقة التي تزعم أنه قرا "عتى" في موضع "حتى" في الآية المذكورة،إذ نجده في هذه الروايات يقرأ "العين" حاءاً، اي عكس تلك القراءة المنسوبة اليه. ثم إنّ المفسرين وعلماء القراءات، لم يشيروا إلى قراءات أخرى له من هذا النوع قلب فيها حرف العين حاء مع تعدّد ورود حرف العين في القرآن الكريم.
وهناك روايات تفيد أن أسداًَ وتميماً استعملوا حرف الحاء في موضع العين في بعض الحالات، فقالوا: "مَحهُم." بدلاً "معهُم" و "أأحهد" في موضع " أأعهد". ولكنها لم تشر إلى أمثلة أخرى من هذا القبيل. وهذان المثالان لا يكفيان بالطبع لإعطاء حكم في هذا الإبدال عند القبيلتين، ولكن هنالك رواية متأخرة لا نعرف مرجعها تفيد أن هذا الإبدال واقع في لهجة سعد بن بكر، وهي قبيلة تقع مواطنها في شمالي المدينة. ولكن ما صلة ابن مسعود بهذه القبيلة وهو من هذيل? هل نفترض أنه أخذ قراءته تلك من أفواه رجال هذه القبيلة ? إذا أخذنا بهذا الظنّ، وجب علينا اثبات ذلك بدليل، وذكر أسماء الصحابة الذين أخذ ابن مسعود منهم قراءته. ويجب حينئذ رجَعُ تلك القراءة إلى أولئلك الصحابة لا إلى ابن مسعود. والواقع أننا لا نستطيع أبداً الاتيان بدليلٍ ما يثبت استعمال هذيل حرف العين في كلامها في موضع الحاء وبالعكس.
ورأيي أن ما نسب إلى ابن مسعود في هذه القراءة أو القراءات الثلاث، سببه وهمٌ وقع فيه مَنْ نسب تلك القراءة إليه، وهو ناتج من كتابة المصحف المنسوب إليه. وإلا، فلا يعقل أن يقتصر ابن مسعود على هذه القراءة أو القراءات التي هي ليست من لهجة أهل مكة ولا أهل يثرب ولا هذيل، ثم يترك سائر المواضع، ولا يعقل كذلك تلفظ الرسول بهذه اللهجة الشاذة التي لا نعرف من كان يستعملها على وجه ثابت، وقد دل القرآن بأفصح اللهجات.
والى أمثال هذه القراءات الشاذة، التي يجب نقدها وتمحيصها بعناية، استند "كارل فولرس" في نظريته القائلة بحدوث تغيير في نص القرآن الكريم. وهي نظرية لم يُقرّها عليه بعض كبار المستشرقين. ولو فحصت ودققت، لتبين أنها بنيت على روايات لا تثبت أمام التمحيص، أخذها لمجرد ورودها في الكتب. ولكن ليس كل ما يرد في الكتب بأمر مسلم به.
وقد بحث العلماء في اللغات التي وقعت في القرآن بغير لغة قريش، وفي جملتها لغة حمير، ورجحت إلى بحوثهم، فوجدت أن ما نسب إلى الحميرية من كلمات، لا يحمل طابع الحميرية، وليس من لغة العرب الجنوبيين بشيء. وقل مثل ذلك عن لغة "جرهم"، فقد دونوا الفاظا زعموا أنها وردت بلغة "جرهم"، ونحن نعلم من أقوال أهل الأخبار أنفسهم أن "جرهماً" كانوا من الشعوب العربية البائدة التي هلكت قبل الإسلام بزمن طويل. وقد ماتت لغتهم معهم بالطبع، فكيف يمكن للعلماء من تشخيص هذه الألفاظ ومن أرجاعها إلى جرهم وقد وجدت أيضاً إن ما ذكروه من أمثلة اخرى على لغات القبائل الي وردت ألسنتها في القرآن هو من هذا القبيل، ولا سيما القبائل الهالكة مثل "مدين"، فالعلماء الذين شخصوا تلك اللهجات التي زعموا أنها وردت في القرآن، يذكرون أن بعض أصحاب هذه اللهجات هم من العرب البائدة، فهم ممن ماتوا وبادوا، وماتت لغتهم بموتهم، فما يذكرونه من الفاظ لغاتهم الواردة في القرآن، هو مما لا أصل له إذن. ثم إنهم نسبوا ألفاظاً إلى "حمير"، وجدنا أنها ليست حميرية أبداً، أضف إلى ذلك أنهم لم يدرسوا العربيات الجاهلية دراسة علمية، ولم يكن لهم علم بها، ولهذا فما ثبتوه ودوَنوه عن اللغات العربية في القرآن، لا يمكن الأخذ يه، لأنه لا يستند على علم بالموضوع، ولا على دراسات لتلك اللهجات.
ومن أمثلة ما ذكروه على أنه من لسان "حمير"، الأرائك، ولا وزر، بمعنى لا جبل، وحور، ولهو، بمعنى المرأة، ولا تفشلا، وعثر، وسفاهة، وزيلنا، مرجواً، وإمام وغير ذلك، وذكروا أن "باءوا"، وشقاق، وخيراً وكدأب، وأراذلنا، ولفيفاً، وغير ذلك من لغة جرهم، وهي كلها من تخرصات من نسبها إلى جرهم، لما قالوه أنفسهم من هلاك جرهم قبل الإسلام بزمان طويل، فمن أبلغهم اذن أن هذه الألفاظ من الفاظ جرهم، ولم نزلت في القرآن، وقد نزل الوحي للأحياء وليس للاموات!.
وقد ذهب البعض مذهباً بعيداً في اللغات الواردة في القرآن، فذهب إلى أن "غساق"، بمعنى المنتن بلسان الترك، وهو بالطخارية، وأن "سيدها" زوجها بلسان القبط، وأن "الأرائك" بالحبشية، وأن "سبحى" بلسان الحبشة، وأن "الجبت" الشيطان بلغة الحبش، وان "حرم" بمعنى وجب بالحبشية، وأن "سكر"، بمعنى الحل بلغة الأحباش، وأن "سينين" بمعنى الحسن بلسان الحبشة، وأن "شطر"حبشية، وان "العرم" حبشيهّ، وأن قنطار بلسان اهل إفريقية، إلى غير ذلك من ألفاظ.
ونجد رواية تذكر ان الصحابة لما تشاوروا في أمر تسمية القرآن، ما يسمونه ? "فقال بعضهم: سموه السفر، وقال "ذلك اسم تسميه اليهود، فكرهوه، فقال رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على ان يسموه المصحف".، فجعلوا الفظة حبشية.
ولو درسنا الألفاظ المعربة المذكورة، في لن العلماء قد أخطأوا في تشخيصها وخلطوا في الغالب بين أصولها، بسبب أنهم لم يكونوا محسنون اللغات الأعجمية، ما عدا الفارسية، وأنهم لم يراجعوا أهل العلم والتخصص في اللغات الأعجمية، من رجال الدين من أهل الكتاب، لو المتبحرين بالأدب من الروم والسريان، بل اكتفوا بمراجعة اياً كان ممن كانوا يعرفونهم من نصارى ويهود، وحيث أنه لم يكن لدى هؤلاء علم المتبحرين في الدين والأدب، جاءت أجوبتهم فجّة أو مغلوطة، ودونت على هذه الصورة.
ونظراً لعدم وقوف العلماء على اللغات العربية الجنوبية، جلوا ألفاظاً عربية واردة في القرآن مثل "العرم" لفظة حبشية، مع أنها لفظة عربية جنوبية، مدونة في النصوص، وجعلوا ألفاظاً أخرى من هذا القبيل، من الألفاظ المعربة عن لغات أعجمية.
وقد اتخذ بعض العلماء حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف دليلا على نزول القرآن بلغة قريش، فقد قالوا: إن الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن واقعة كلها في لغة قريش، ذلك أن قريشاً كان قد داوروا بينهم لغات العرب جميعاً وتداولوها، وأخذوا ما استملحوه من هؤلاء وهؤلاء في الأسواق العربية ومواسعها، وأيامها ووقائعها، وحجها وعمرتها، ثم استعملوه وأذاعوه، بعد أن هذبوه وصقلوه. وبهذا كانت لغة قريش مجمع لغات مختارة منتقاة من بين لغات القبائل كافة، وكان هذا سبباً من أسباب انتهاء الزعًامة اليهم، واجتماع أوزاع العرب عليهم، ومن هنا شاءت الحكمة أن يطلع عليهم القرآن من هذا الأفق، وأن يطل عليهم من سماء قريش.
وهو استنتاج غير مقنع، لما أورده العلماء أنفسهم من أقوال وتفسر للحديث المذكور، ولما أوردوه من أن الصحابة من قريش، كان يشكل عليهم اللفظ من القرآن مثل "أبا" فيسألون عنه، لأنه لم يكن من لغة قريش. فقد ذكروا أن "عمر"، قرأ "عبس وتولى" حتى أتى على هذه الآية: وفاكهة وأبَّا، فقال: قد علمنا الفاكهة فما الأب. ثم قال: لعمرك يا ابن الخطاّب إن هذا ذو التكلف. وذهب البعض إلى أن المراد من اللفظة ما أنبتت الأرض للانعام، وذكر بعض العلماء أنها بلغة الحبش. وذكروا اشياء أخرى من هذا القبيل، تعارض قبول هذا الاستنتاج.
والذي أراه أن نص القرآن يعارض حديث الأحرف السبعة، ففيه: "بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ"، وفيه: "قل: ما يكون لي أن أبدّلهَ من تلقاء نفسي، إن اتبع إلا ما يوحى اليّ، اني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" وفيه "إنا نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون". فليس للرسول أن يغير أو يبدل ما نزل به الوحي عليه، ثم إنه كان لا ينتهي من الوحي، حتى يأمر من يكون عنده بتدوينه بلسانه حال نزوله عليه، وإذا لم يكن هناك كاتب أمر من يستدعي له كاتباً ليدونه، فكيف يتفق ذلك مع هذا الحديث، ومع الأمثلة التي ذكروها في القراءات ? ورد أن الرسول علم "البراء بن عازب" دُعاء فيه: "ونبيك الذي أرسلت"، فلما اراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على رسول الله قال: "ورسولك الاي أرسلت"، فلم يوافقه النبي على ذلك، بل قال له: "لا، ونبيك الذي ارسلت". وهكذا نهاه أن يضع لفظة رسول، موضع لفظة نبيّ، مع أن كليهما حق لا يحيل معنى، إذ هو رسول ونبي معاً، فكيف كان يجيز أن يوضع في القرآن مكان عزيز حكيم، غفور رحيم، أو سميع عليم، وكيف نقبل هذه الرواية التي تذكر أن "عبد الله بن مسعود" أقرأ رجلا كلمة "الفاجر" بدلاً من كلمة الأثيم في الآية: إن شجرة الزقوم طعام الأثيم، مع ورود المنع عن تغير أي حرف من حروف القرآن، وهل يعقل قيام "ابن مسعود" بذلك، وسكوت الصحابة عن عمله، لو صحّ أنه فعل ذلك.
ولو كان القرآن قد نزل بلغة قريش وحدها، فلمَ كان الصحابة من قريش مثل "أبو بكر" و "عمر" وغيرهما، يتحرون في تفسر ألفاظ وردت فيه، أو يلجأون إلى الشعر يستعينون به في تفسير القرآ ن، والشعر هو شعر العرب، لا شعر قريش وحدها، قال "ابن عباس" "إن الشعر ديوان العرب"،وكان إذا سئل عن عربية القرآن أنشد الشعر، و قال: "إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله، فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب، وكان إذا سئل عن شيء من القرآن انشد فيه شعرا ً".
قال "ابن قتيبة": "العرب لا تستوي.في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه بل لبعضها الفضل في ذلك على بعض، والدليل عليه قول الله عزً وجلّ: وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم... ويدل عليه قول بعضهم: يا رسول اذ: انك لتأتينا بالكلام من كلام العرب ما نعرفه، ونحن العرب حقاً. فقال: إن ربي علمني فتعلمت".
نطلق اليوم على العربية التي ندون بها أفكارنا: "العربية الفصحى"، وهي كما نعلم لغة الفكر والإدارة في العالم العربي. والعربية الفصحى، هي لغة الفصاحة والبيان، ومدار تركيب الفصاحة على الظهور والابانة. يقال: أفصح إذا تكلم بالفصاحة. وفصح الأعجمي فصاحة، إذا تكلم العربية وفهم منه. وهي اللغة العربية العالية التي لا تدانيها لغة عربية أخرى من اللغات العربية الباقية، واللسان الذي يحاول أن ينطق به كل مثقف مهذب، وأن يؤلف ويعبر عن مراده به.
وعرفت العربية الفصيحة بالعربية العالية، وكان علماء اللغة إذا وسموا كلمة بسمة الفصاحة، قالوا: كلمة فصيحة، وكلمة عالية، وإذا وسموها بالضعف وبالركاكة، قالوا: ليست بعربية فصيحة، أو ليست بالعالية. "قال ابن سيده: أشكد لغة ليست بالعالية". وقالوا في "لغة رديئة"، وقالوا: " وهي لغة أهل العالية". "والعالية ما فوق أرض نجد إلى تهامة والى ما وراء مكة، وهي الحجاز وما والاها.. وقيل عالية الحجاز، أعلاها بلداً وأشرفها موضعا ًوهي بلاد واسعة، والمسمى بالعالية: قرى بظاهر المدينة المشرفة، وهي العوالي، وأدناها من المدينة على أربعة أميال وأبعدها من جهة نجد ثمانية، والنسبة إليها عالي على القياس، ويقال أيضاً علوي بالضم، وهي نادرة على غير قياس". وعرفت هذه العربية العالية بالعربية المبينة، دعيت بذلك، لأن "اسماعيل" أول من فتق لسانه بها، فأبان وأفصح، وأرى أنها إنما نعتت بذلك، من القرآن الكريم، ففيه "بلسان عربي مبين"، و "هذا لسان عربي مبين"، وقصد العلماء من قولهم:"ليست بالعالية"، بمعنى ليمت بفصيحة،ولم يقصدوا النسبة إلى "العالية" التي هي الأرض المذكورة. غير أننا نجدهم أحياناً يقصدون بها أهل العالية فنرى "الطري" يذكر في تفسيره في قراءة "فيسحتكم": "والقول في ذلك عدنا أنهما قراءتان مشهورتان ولغتان معروفتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. غير أن الفتح فيها أعجب إليّ، لأنها لغة أهل العالية. وهي أفصح، والأخرى وهي الضم في نجد "ْ. والعالية ما فوق أرض نجد إلى ارض تهامة والى ما وراء مكة. وهي الحجاز وما والاها "وقيل: عالية الحجاز أعلاها بلداً وأشرفها موضعاً، وهي بلاد واسعة، والمسمى بالعالية قرى بظاهر المدينة المشرفة، وهي العوالي". "وعليا مضر بالضم أعلاها، وقيل قريش وقيس، وما عداهم سفلى مضر".
ونجد علماء العربية يستعملون مصطلح: "وليس بالعالي"، أو " ليس في اللغة العالية"، و "الفصيح..."، أو " والفصحاء يقولون"، في تقييم الكلم، كما استعملوا: " وليس بالمعروف"، أو "والأول أعلى"، و"لغة مجهولة"، أو "متروكة"، أو و " يحتمل أن يكون من أمثلة المنكر"، و " كلام قدم قد ترك"، و "وهذا لا يعرف في أصل اللغة"، أو و " المعروف"، وأمثال ذلك من مصطلحات للتعبير عن درجة الكلمة ومكانتها في مقاييس علماء اللغة من حيث الفصاحة و الركاكة وما بينهما من درجات.والفصيح في نظر علماء العربية" ما كثر استعماله في ألسنة العرب ودار في أكثر لغاتهم، لأن تكراره على الألسنة المستقلة بطبيعتها في سياسة المنطق دليل على تحقيق المناسبة الفطرية فيه".
ويسوقنا البحث في موضوع اللغة العربية الفصحى إلى التفكير في موضوع له صلة وثيقة بهذا الموضوع، بل هو في الواقع جزء منه، هو لغة الأدب عند الجاهلين، وهل كان لأهل الجاهلية لسان عربي واحد مبين، استعملوه في التعبير عن عواطفهم شعراً أو نثراً ? واذا كان لهم ذلك السان فهل كان فوق سائر لهجاتهم المحلية أو لهجات القبائل المتعددة ? أو أنه كان لهجة خاصة ? واذا كان لهجة عالية خاصة، فلهجة من يا ترى كانت هذه اللهجة ? وباي موطن ولدت ? وهل كانت لهجة عامة مستعملة عند العرب عامة، من عرب جنوبيين وعرب شماليين، أو أنها كانت لهجة خاصة بالعرب الشمالييِن? ثم هل كانت هذه اللهجة هي العربية التي نزل بها القرآن، أم كانت عربية أخرى لا صلة لها بها ? أماتها الإسلام كما أمات أموراً من أمور الجاهلية لصلتها بالوثنية، وأحل محلها لغة القرآن، لغة قريش ? ثم هل كانت هذه العربية، هي عربية الشعر، بمعنى إن الشعراء كانوا إذا أرادوا النظم، نظموا. شعرهم بهذه اللغة العالية، متجاهلين لغتهم القبلية، لأنها لغة الأدب الرفيع وبها كان يخطب الخطباء? لقدُ عني عدد من المستشرقين بالإجابة على أمثال هذه الأسئلة"فكتب "نولدكه"، رأيه في الموضوع في ص كتابه: تأريخ القرآن في باب القراءات واللهجات التي نزل بها القرآن الكريم، كما تطرق إليه أيضاً في أثناء كلامه على الشعر الجاهلي ولغة الأدب عند الجاهليين، وخلاصة رأيه أن الفروق بين اللهجات في الحجاز ونجد ومناطق البادية المتاخمة للفرات لم تكن كبيرة، وأن اللهجة الفصيحة شملت جميع هذه اللهجات. وذهب "غويديَ" إلى أن الغة الفصحى هي مزيح من لهجات تكلم بها أهل نجد و المناطق المجاورة لها، ولكنها لم تكن لهجة معينة لقبيلة معينة.
ورأى "نلينو"، إن العربية الفصحى تولدت من إحدى اللهجات النجدية، وتهذبت في مملكة كندةُ في أيامها، فاصبحت اللغة الأدبية السائدة. وعزا سبب ذلك الى ملوك هذه المملكة الذين، أغدقوا على الشعراء وشجعوهم مما كان له وقع في نفوسهم، ثم إلى توسع رقعة هذه المملكة التي ضمت أكثر قبائل معد، و كان لها فضل توحيد تلك القبائل وجمع شتاتها فشاعت هذه اللهجة على رأيه في منتصف القرن السادس للميلاد، وخرجت خارج نحد، وعمت معظم أنحاء الجزيرة ولا سيما القسم الجنوبي من الحجاز الذي فيه يثرب ومكة والطائف، مع بقاء اللهجات العامية في منطق الناس المعتاد، وكان للعواصم المشهورة ولملوك الحيرة وغسان شأن لا ينكر في هذا الانتشار السريع العجيب.
وذهب "هارتمن" "Hartmann" و " فولرس" "Vollers"، إلى أن العريية الفصحى هي لهجة أعراب نجد واليمامة، غير أن الشعراء أدخلوا عليها تغييرات متعددة. " وذهب "لندبرك" "Landburg" إن الشعراء هم الذين وضعوا قواعد هذه اللهجة، وعلى قواعدهم سار المتأخرون، و من شعرهم استخرجت القواعد، وما قصائدهم تلك استنبط العلماء أصول النحو.
وزعم "فولرس"، ان القرآن لم ينزل بلغة أعراب نجد واليمامة، وإنما نزل بلغة اهل مكة، اي لغة قريش، وهي لغة لم تكن معربة، وإنما كانت لغة محلية، فلما دونت قواعد العربية وثبتت طبق الاعراب على القرآن، وصقلت لغة قريش وفقاً لهذه القواعد.
لم يعين "فيشر" اللهجة التي نبعت منها العربية الفصحى، غير أنه رأى أنها لهجة خاصة. ول "بروكلمن" و "ويتزشتاين" اراء في نشوء هذه اللغة وتطورها، ولكنهما لم يتحدثا عن علاقتها ببقية اللهجات".
ذهب "يروكلمن" إلى أن لغة الشعر الجاهلي لا يمكن أن يكون الرواة والأدباء اخترعوها على أساس كثرة من اللهجات الدارجة، ولكن هذه اللغة لم تكد تكون لغة جارية في الاستعمال العام، بل كانت لغة فنية قائمة فوق اللهجات، وإن غذتها جميع اللهجات.
وذهب "برجيه" إلى أن العربية كانت لهجة قبلية صغيرة وصلت في وقت من الأوقات بفضل ظروف محلية إلى درجة من الكال خارقة للعادة، وهي مدينة بانتشارها إلى الإسلام.
و "ريجيس بلاشر" من المستشرقين الذين أيدوا رأي من ذهب إلى وجود لغة عالية عند أهل الجاهلية، فقال: "إن وجود لهجات ولغة عليا ليس فبه شيء مخالف للعادة، كما أن نموّ لهجة شعرية ليس فيه أيضاً شيء خارق". واللغة المذكورة لهجة شعرية تنطبق على اللهجات المحلية، بل هي امتداد لها، "وهي في الجملة موضوعة للاغراض النبيلة والتعبير الفني عن بعض أنواع التفكير"، لها خصائص اللهجات في وسط الجزيرة وشرقيها، ولم تكن هذه اللهجة العالية قاصرة في الاستعمال على أهل جزيرة العرب، بل كانت لغة الشعر أيضا عند عرب العراق وعرب بلاد الشام. ولهذا كان الشعر مفهوماً عند جميع الجاهليين، أينما كانوا: سواء كانوا في جزيرة العرب، أم في العراق وفي بلاد الشام. وكانت الفوارق بين هذه اللهجة وبقية اللهجات تختلف تبعاً للمجموعات اللغوية. فالفارق ضئيل بينها وبين لهجات أواسط جزيرة العرب وشرقيها، ولها خصائص الأقسام الشرقية والوسطى من جزيرة العرب. وكان الشاعر، ينزع دوماً إلى الابتعاد عن مؤثرات لهجته القبلية، والارتفاع عنها، إلى لغة الشعر المتعارفة بين الجاهليين آنذاك، لكونها اللغة الرفيعة في نظر اهل الجاهلية، وكانت تدل على تهذيب الشاعر وسمو مداركه وثقافته.
ويرى "بلاشر" أن علماء اللغة والنحو حين أخذوا بضبط قواعد اللغة، غربلوا اللهجات، وتوغلوا بين الأعراب مدفوعين بعقلية تنهيج وتنقية اللغة مما أدى بهم إلى توحيد لغتي القرآن والشعر الجاهلي، في الوقت الذي نظموا فيه واستخرجوا قواعد العربية الفصحى، مما ادى إلى إضاعة أشياء قليلة من اللهجة الشعرية الجاهلية في سبيل التوفيق بينها وبين لغة القرآن. وما العربية الفصحى الحالية إلا لهجة ولدت من لغة الشعر ولغة القرآن، والقرآن والشعر الجاهلي المضبوط في شكله الحاضر لا يمثلان اللغة الشعرية في شكلها القديم، وانما يبتعدان بعض الابتعاد عن تلك اللهجة، بسبب ما فعله علماء النحو والصرف، في تلك اللهجة من تشذيب وتهذيب لتلتئم مع لغة القرآن ومع قواعدها وقواعد لغة الشعر التي رسخها علماء اللغة.
وأما رأي علماء العربية، فخلاصته أن لغة قريش هي الأصل، "وانما صارت لغتهم الأصل، لأن العربية أصلها اسماعيل عليه السلام، وكان مسكنه مكة". وعندهم إن العربية قحطانية وحميربة وعربية محضة، وبهذه الأخيرة نزل القرآن، وقد انفتق بها لسان اسماعيل، وهي العربية الفصحى، لسان اسماعيل، ألهاماً. رووا عن "عمر" انه قال: "يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين اظهرنا ? قال: كانت لغةُ اسماعيل قد درَست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها،. فحفظتها". وهم يقولون إن: "أول من تكلم بالعربية اسماعيل بن ابراهيم"، أو إن " أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه اسماعيل بن ابراهيم"، بل تجاوز بعض منهم، وبالغ حتى زعم أن "العرب كلها ولد اسماعيل، إلا حمير وبقايا جرهم"، وأن العربية الصحيحة الفصيحة هي العربية التي نزل بها القرآن، أما لسان حمير وأقاصي اليمن، فليس "بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا".
ورأيهم أن قريشاً أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وأنقاهم لساناً، " و ذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشاً قطّان حرمه، وولاة بيعه، فكانت وفود العرب من حَجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش، مع فصاحتها وحسن لُغاتها، ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيرّوا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها ؛ فصاروا بذلك أفصح العرب.
ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عَنعنة تميم، و لا عجرفة قيس، ولاكشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولأ كسر أسد وقيس".
"وقال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى بالألفاظ والحروف: كانت قريش أجود العرب انتقاداً للأفصح من الألفاظ، واسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعاً، وأبينها إبانة عما في النفس". وقال ابن خلدون: كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، فصانها بعدها عن الأعاجم من الفساد والتأثر بأساليب العجم، حتى إن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية.
وروي أن "معاوية" قال يوماً: "من أفصح الناس ? فقال قائل: قِوم ارتفعوا عن لخلخانية الفرات، وتيامنوا عن عنعنة تميم، و تياسروا عن كسكسة بكر، ليست لهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. قال: من هم ? قال: قريش"، وقال "ثعلب": "ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، ونضجع قيس، وعجرفية ضبة، وتلتلة بهراء". وورد كلام "معاوية" مع الأعرابي على هذه الصورة: أن "معاوية" "قال: أي الناس أفصح ? فقام رجل فقال: قوم ارتفعوا عن فراتية العراق، وروي: الخلخانية العراق، وتياسروا عن كشكشة بكر، وتيامنوا عن كسكسة تميم، ليست فيهم غمغمة قضاعة، ولا طمطماشية حمير. قال: من هم ? تال: قومك قريش. قال: صدقت. ممن أنت ? قال: من جرم". واللخلخانية اللكنة في الكلام، والغمغمة: ألا يبين الكلام، والطمطمانية: العجمة. "قال الأصمعي: وجرم: فصحاء العرب. قيل: وكيف وهم من اليمن ? فقال: لجوارهم مضر" فمضر هم أهل الفصاحة على رأيه.
ورووا "عن ابي بكر الصديِّق، رضي الله عنه، انه قال: قريش هم أوسط العرب في العرب داراً، وأحسنه جواراً، وأعربه السنة. وقال -قتادة: كانت قريش تجتبي، أي نختار أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتها لغتها، فزل القرآن بها".
وقد استدلوا نزول القرآن بلغة قريش بادلة أخرى، منها قول عمر: " لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف".
وزعموا إن العرب "كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولاّ، وما ردوه منها كان مردوداً، فقدم علقمة بن عبدة التميمي،فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم. فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد اليهم العام المقبل فأنشدهم قصيدته: طحا بك قلب في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمط الدهر". فما كان علقمة ولا غيره ليكلف نفسه مشقة الذهاب إلى قريش، والى سوق عكاظ، لو لم تكن لغتها أفصح لغات العرب وأعذبها وأسلسها، ولو لم يكن لها علم بالشعر يفوق علم غيرها به.
وزعموا أيضاً أن العرب كانوا في جاهليتهم يقول الرجل منهم الشعر فلا يعبأ به ولا ينشده أحد، حتى يأتي مكة في موسم الحج، فيعرضه على أندية قريش فإن استحسنوه روى، وكان فخراَ لقائله وعلق على ركن من أركان الكعبة حتى ينظر إليه، وإن لم يستحسنوه طرح وذهب فيما يذهب. وقال "أبو عمرو بن العلاء: كانت العرب تجتمع في كل عام وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش. وكان العرب يعلقون أشعارهم بأركان الكعبة، كما فعل أصحاب المعلقات السبع، وانما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من له قدرة على ذلك بقومه وبعصبيته ومكانه في مضر.
فقريش أفصح العرب، ومعدن الفصاحة ومركزها وينبوعها، ثم من جاورهم وقاربهم، ثم من جاء بعد هؤلاء، فكلما بعد قوم عن قريش، بعدت لغتهم عن الفصاحة، ولهذا كان احتجاج علماء اللغة بلغات العرب على نسبة بعدهم عن قريش، "فاعتبروا لغة قريش. أفصح اللغات وأصحها، لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف، وهذيل، وخزاعة، وبني كنانة، وغطفان، وبني أسد، وبني تميم. ثم تركوا الأخذ عمن بعُد عنهم من ربيعة،ولخم، وجذام، وغسان، وإياد تج وقضاعة، و عرب اليمن، لمجاورتهم الفرسَ، والروم، والحبشة".
وأما رأي المحدثين من علماء العربية عندنا، فهو رأي الموافق المؤيد. هذا الدكتور "طه حسين" يقول في كتابه: "في الأدب الجاهلي": "أما إن
هذه اللغة العربية الفصحى التي نجدها في القرآن والحديث وما وصل إلينا من النصوص المعاصرة للنبي وأصحابه لغة قريش، فما نرى أنه يحتمل شكاً أو جدلاّ ؛ فقد أجمع العرب على ذلك بعد الإسلام، واتفقت كلمة علمائهم ورواتهم ومحدثيهم ومفسريهم على أن القرآن نزل بلغة قريش، أو قل على إن هذا الحرف الذي بقي لنا من الأحرف السبعة إنما هو حرف قريش. وقد يكون من التكلف والتحذلق أن يجمع، العرب كافة على أن لغة القرآن هي لغة قريش. وألاّ يظهر في العصر الإسلامي الأول ولا في أيام بني امية ولا في أيام بني العباس من ينكر هذا أو يجادل فيه رغم ما كان من الشعوبية الأعجمية ومن الشعوبية الحميرية ومن الخصومات السياسية بين قريش وغبرها من قبائل مضر، ثم يزعم زاعم أن هذه اللغة ليست لغة قريش، وإنما هي لغة قبيلة أخرى مهما تكن هذه القبيلة". ثم يمضي قائلاَ: "فنحن مضطرون. أمام هذا الاجماع من جهة، وأمام قرشية النبي من جهة اخرى، وأمام نزول القرآن في قريش من جهة ثالثة،وأمام فهم قريش للفظ القرآن في غير مشقة ولا عنف من جهة رابعة، وامام اتفاق القرآن في اللغة واللهجة مع ما صح من حديث النبي القرشي ومن الرواية عن اصحابه القرشيين من جهة خامسة، إلى أن نسلم بأن لغة القرآن انما هي لغة قريش.
ستقول: ولكن هذه اللغة قد كانت تفهم في غير قريش من قبائل الحجاز ونجد، ومن هذه القبائل المضري كقيس وتميم، ومنها اليمني كخزاعة والأوس، والخزرج، بل منها قبائل لم تكن عربية بوجه من الوجوه وهي هذه اليهودية التي كانت تستعمر شمال الحجاز، ولكنك تعرف رأينا في النسب وفي انتماء هذه القبائل إلى اليمن أو الى مضر. ومع هذا فقد قلنا إن لغة قريش سادت قبيل الإسلام. ونحن إن فكرنا عرفنا إن سيادة اللغات انما تتصل عادة بالسيادة السياسة والاقتصادية. فلنبحث عن البيئات الممتازة من الوجهة السياسية والاقتصادية في شمال البلاد العربية قبيل الإسلام.
الحق اننا لا نستطيع أن نفكر في هذه السيادة الفارسية في الحيرة أو هذه السياسة الرومية في أطراف الشام، فقد كانت هناك أسر عربية تمثل هذه السيادة،وكانت لهذه الأسر ضروب من السلطان، ولكن هذه الأسر لم تكن فيما يظهر حجازية، ولم تكن بيئاتها بيئات عربية خالصة، انما كانت بيئات مختلطة أقرب إلى الاعجمية منها إلى أي شيء آخر. فلم تبق إلا بيئات أربع: بيئة كندية في نجد، ولكن هذه البيئة كانت يمنية إن صح ما زعم الرواة والمؤرخون. وسيادتهم لم تطل ولم يكن لها من الضخامة ما يمكنها من أن تسلط سلطانها السياسي والاقتصادي والديني على شمال البلاد العربية. وبيئة أخرى قرشية في مكة، كان لها سلطان سياسي حقيقي، ولكنه قوي في مكة وما حولها، وهذا السلطان السياسي كان يعتز بسلطان اقتصادي عظيم، فقد كان مقدار عظيم جداً من التجارة في يد قريش، وكان هذا السلطان يعتز بسلطان ديني قوي مصدره الكعبة التي كان يحج إليها اهل الحجاز وغير أهل الحجاز من عرب الشمال. فقد اجتمع لقريش اذن سلطان سياسي واقتصادي وديني. وأخلق بمن تجتمع له هذه السلطات أن يفرض لغته على من حوله من أهل البادية. وبيئة ثالثة هي بيئة الطائف، كان لها شيء من السلطان الاقتصادي ولكنها لم تكن تداني البيئة المكية. وبيئة رابعة في شمالى الحجاز، هذه هي البيئة العربية في يرب وما حولها. ولكنا نظن إن أحداً لا يفكر في أن يقول إن هذه العربية الفصحى كانت لغة هؤلاء الناس من اليهود أو من الأوس والخزرج فضلاّ عن أن هذه البيئة على ثروتها وقوتها لم تكن تداني قريشاً فيما كان لها من سلطان.
لغة قريش إذن هي هذه اللغة العربية الفصحى، فرضت على قبائل الحجاز فرضا لا يعتمد على السيف وإنما يعتمد على المنفعة وتبادل الحاجات الدينية والسياسية والاقتصادية. وكانت هذه الأسواق التي يشار إليها في كتب الأدب، كما كان الحج، وسيلة من وسائل السيادة للغة قريش".
وبعد أن انتهى "الدكتور طه حسين" من إصدار قراره، قال: "ولكن ما أصل لغة قريش ? وكيف نشأت ? وكيف تطورت في لفظها ومادتها وآدابها حتى انتهت إلى هذا الشكل الذي نراه في القرآن ?". وكان جوابه على هذه الأسئلة قوله: "كل هذه مسائل لا سبيل الى الإجابة عليها الآن، فنحن لا نعرف أكثر من أن هذه اللغة لغة سامية تتصل بهذه اللغات الكثيرة التي كانت شائعة في هذا القسم من آسيا. ونحن نكاد نيأس من الوصول في يوم من الايام إلى تأريخ علمي محقق لهذه اللغة قبل ظهور الإسلام. وكيف والقرآن أقدم نص صحيح وصل الينا في هذه اللغة، ونحن نرى اللغة فيه كاملة متقنة تامة التكوين قد تجاوزت الوجود الطبي هي إلى هذا الوجود الفني الراقي الذي يظهر في الآداب".
وخلاصة رأي "الدكتور طه حسين" أن عربية قريش هذه، التي نزل بها القرآن الكريم، إنما سادت قبيل الإسلام، ولم تكن سيادتها تتجاوز الحجاز. إذ يقول: لا فالمسألة إذن هي أن نعلم: أسادت لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية وأخضعت العرب لسلطانها في الشعر والنثر قبل الإسلام أم بعده ? أما نحن فنتوسط ونقول: انها سادت قبل الإسلام حين عظم شأن قريش وحين اخذت مكة تستحيل إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية. ولكن سيادة لغة قريش قيبل الإسلام لم تكن شيئاً يذكر ولم تكد تتجاوز الحجاز. فلما جاء الإسلام عمت هذه السيادة وسار سلطان اللغة واللهجة مع السلطان الديتي والسياسي جنبا إلى جنب".
وكان المرحوم "مصطفى صادق الرافعي"، قد تعرض لهذا الموضوع وبحث فيه قبل "الدكتور طه حسين"، في كتإبه: " تأريخ آداب العرب"، الذي طبعه سنة "1911 م"، فذهب مذهب الأسلاف في أن العربية بدأت ب "اسماعيل" فلما خرج أولاده من ديارهم وانشعبت قبائلهم، تنوعت لهجاتهم، وتباينت ألسنتهم، حتى ظهرت قريش من بينهم، فأخذت وأعطت، وهذبت الألسنة واستخلصت منها أعذبها وأسماها، ثم لا تزال تهذب في اللغة. وتشذب حتى بلغت بها الكمال عند ظهور الإسلام، بنزول الوحي بها. وكانت القبائل: "بطبائعها متباينة اللهجات،مختلفة الأقيسة المنطقية المودعة في غرائزها، فكان قريش يسمعون لغاتهم ويأخذون ما أستحسنوه منها فيديرون به ألسنتهم ويجرون على قياسه؛ ولو كانوا بادين كسائر القبائل ما فعلوه، ولكن نوع الحضارة الذيَ اكتسبوه من نأريخهم ألآن من طباعهم وكسر من صلابتهم، فاتفقت في ذاك حياتهم اللغوية وحياتهم الاجتماعية القائمة بالتجارة وتبادل العروض مع أصناف الناس. فلما اجتمع لهم هذا الأمر ارتفعت لغتهم عن كثير من مستبشع اللغات ومستقبحها، وبذلك مرنوا على الانتقاد حتى رقّت أذواقهم، وسمت طبائعهم، وقويت سلائقهم، وحتى صاروا في آخر أمرهم أجود العرب انتقاءً للافصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعاً،وأبينهاابانة عما في النقس".
فهذا دور من أدوار تهذيب اللغة وتنقيتها، قامت به قريش، قامت به في مسكنها وموطنها مكة، وقامت بدور آخر، كان آخر الأدوار التي قامت فيها قريش قي تهذيب العربية،هو الدور العُكاظي، وهو "حالة من أحوال الحضارة، ولذلك اقتضى الصناعةَ اللسانية، فكان العرب يرجعون إلى منطق قريش، كما كان هؤلاء يبالغون في انتقاد اللهجات وانتقاء الأفصح منها. وهذا هو الدور الأخر من أدوار التهذيب اللغوي إذ يدخل في حالة عامة يشيع فيها المنطق الفصيح وتبلغ اللغة درجة عالية من النشوء ليس بعدها إلا موت الضعيف وتحوله إلى شكل أثري لا منفعة منه للمجموع المكوّن على هذه الطريقة، ولكنه يدل على أصل التكوين".
ثم توج عمل قريش في تهذيب اللغة بنزول القرآن بلسانها "فإن هذا القرآن لو لم يكن بلسان،قربش ما اجتمع له العرب البتة ولو كانت بلاغته مما يميت ويحيي، ثم كانوا لاُ يعدون في اعتبارهم اياه انه ضرب من تلك الضروب التي كانت لهم من خوارق العادات: كالسحر والكهانة وما اليهما، وهو الذي افترته قريشٌ ليصرفوا به وجوه العرب ويميلوا رؤوسهم عن الإصغاء إلى النبي". ثم "إن القرآن لو نزل بغير ما ألفه النبي صلى الله عليه وسلم، من اللغة القرشية وما اتصل بها، كآن ذلك مغمزأَ فيه، إذ لا تستقيم لهم المقابلة حينئذ بين القرآن وأساليبه، وببن ما يأثرونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. فيهون ذلك على قريش، ثم على العرب، فيجدون لكل قبيلة مذهباَ من القول فيه، فتنشق الكلمة، ثم يصير الأمرمن العصبية والشاحنة والبغضاء، إلى حال لا يلتئم عليه أبداً، ولو أن شّاعراً من شعرائهم ظهر فيهم بدين خيالي وأقامهم عليه، لكان في الرجاء والاحتمال أن يستجيوا له دون صاحب القرآن الذي ينزل عليه بلغة عير لغة قبيلته".
ومجمل حجج الباقين القائلين إن العربية الفصحى هي عربية قريش، إن قريشاً "كانت مهوى أفئدة العرب في الجاهلية، وكان لها عليهم نفوذ واسع بسبب مركزها الديني الروحي والاقتصادي المادي، إذ كانت حارسة الكعبة بيت عبادتهم، وكانت قوافلها تجوب أنحاء الجزيرة العربية،وكان العرب يجتمعون إليها في أعيادها الدينية وفي أسواقها القريبة والبعيدة.
ومعنى ذلك إن هنالك أسباباً دينبة واقتصادية أعدت لهجة مكة لتسود اللهجات القبلية في الجاهلية، وقد تداخلت فيها أسباب سياسية، فإن القبائل العربية كانت ترى تحت أعينها هجوم الدول المجاورة من الفرس والروم والحبش على أطرافها، كما كانت ترى هجوم الديانتن المسيحية واليهودية على دينها الوثني، فتجمعت قلوبها حول مكة، وهوت افئدتها إليها. و بذلك كله تهيأ للهجة القرشية أن يعلو سلطانها في الجاهلية اللهجات القبلية المختلفة، وأن تصبح هي اللغة الأدبية التي يصوغون فيها ادعتهم الدينية وأفكارهم وأحاسيسهم. وقد تدل على ذلك بعض الدلالة سوق عكاظ، فقد كانت سوقاً أدبية كما كانا سوقاً تجارية، وكان الخطباء يرتجلون فيها خطبهم وينشد الشعراء قصائدهم، ولمُ يرو ذلك عن سوق سواها، ومما يدعم هذا الدليل ما قاله الرواة من إن العرب "كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولاً، وما ردّوه منها كان مردوداً فقدم عليها علقمة بن عبدة التميمي،فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم. فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد اليهم العام المفبل فأنشدهم قصيدته: طحا بك قلب " في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمطا الدهر.
واذن فنحن لا نعدو الواقع إذا قلنا إن لهجة قريش هي الفصحى التي عمت وسادت في الجاهلية لا في الحجاز ونجد فحسب، بل في كل القبائل العربية شمالاّ وغرباً وشرقاً، وفي اليمامة والبحرين، وسقطت إلى الجنوب وأخذت تقتحم الأبواب على لغة حمير واليمن وخاصة في أطرافها الشمالية حيث منازل الأزد وخثعم وهمدان وبني الحارث بن كعب في نجران. ومما يؤكد ذلك إن الوفود اليمنية التي وفدت على الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يحدثنا رواة الأخبار والسيرة النبوية انها كانت تجد صعوبة في التفاهم معه، وأيضاً فإنه كان يرسل اليهم دعاة يعطونهم ويعلمونهم الشريعة الإسلامية من مثل معاذ بى جبل، ولو انهم لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى لكان ارسال هؤلاء الدعاة عبثاً. وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسعة في الجنوب حدثت قبيل الإسلام.
أما في الشمال فقد كانت الفصحى معروفة في كل مكان، وكان الشعراء يتخذونها لغة لشعرهم، ومما يدل على ذلك دلالة قاطعة سرعة استجابتهم للقرآن الكريم ودعوته، فإنهم كانوا يفهمونه بمجرد سماعه، فإذا عرفنا أنه نزل بلغة قريش تحتم أن تكون هي اللغة الأدبية التي كانت سائدة".
وبعد، فلقد عرضت عليك رأي المسترقين في العربية العالية: عربية القرآن الكريم، عربية الشعر الجاهلي، ثم عرضت عليك رأي علماء العربية فيها من متقدمين ومن معاصرين، وقد رأينا أن المستشرقين وعلماء العربية معاً لم يستندوا كلهم على سند جاهلي مكتوب، ولا على نص مدون بهذه العربية، لسبب واحد مفهوم معقول، هو عدم ورود نصوص جاهلية مدونة بهذه اللغة فلم يكن. أمامهم من سبيل سوى اللجوء إلى الموارد الإسلامية للاستعانة بهديها في استنباط رأي علمي بهذا الموضوع، وهذا ما فعلوه، أما قول علماء العربية أن عربية القرآن الكريم عربية "اسماعيلية"، بمعنى أنها عربية أخرى تختلف عن عربية العرب الجنوييبن، فرأي مقبول، على شرط أنه اصطلاح يعبر عن معنى اصطلح عليه. فقد أشير إلى "الاسماعيليين" في التوراة. وهم - كما سبق أن قلت - قبائل عربية شمالية كانت تقطن في القسم الشمالي الغربي من جزيرة العرب،وكانت حدودهم الغربية على اتصال بالعبرانيين.
ولا أعتقد أن أحداً من اصحاب الفقه في العربية، يركبه الشطط فيقول إنه نزل بلغة عربية جنوبية، أو بلغة ثمود أو لحيان أو الصفويين، أو يقول إن الشعر الجاهلي، قد نظم بلهجة من هذه اللهجات، فكلام مثل هذا، حتى لو صدر من أحد، فانه هراء يدل على جهل قائله بأبسط الاشياء.
وأما دعوى أن هذه العربية وحدها هي العربية الفصيحة الصحيحة، وأن ماعداها من عربيات، فلغات فاسدة رديئة، فدعوى يمكن قبولها والتسليم بصحتها، لو أن في وسع القائلين بها اثباتها بالأدلة المادية لللموسة، أي بأدلة النصوص الجاهلية المكتوبة، مع اثبات إن هذه اللغة الفصيحة كانت وحدها لغة الأدب والتدوين عند جميع العرب، وان الجاهلين كانوا لا يكتبون إلا بها، وأن ما سواها من اللهجات، كانت لهجات كلام، أي لغات العامه والسواد، تكلموا بها كما نتكلم نحن اليوم فما بيننا بلهجات محلية، نسميها لهجات عامية، فإذا كتبوا كتبوا بالعربية الفصيحة. ولكنهم عاجزون عن اثبات ذلك، ثم إن النصوص الجاهلية تناهض دعواهم هذه، فكل ما لدينا من نصوص جاهلية، مكتوب بلهجاتّ عربية أخرى، خلا خمسة نصوص كتبت بعربية نبطية، أي بعربية فيها ألفاظ واردة في العربية الفصحى، ولكن الإرمية او النبطية متحكمة في أسلوبها وفي قواعدها وفي إلكثرة الغالبة من كلماتها بحيث تمنعها من إن تعد فى عداد العربية الفصيحة، لذا، فنحن لا نحالف المنطق والعلم، أن أظهرنا اعتراضنا عليهما ورفضناها، وما كان لنا لنعترض عليها، لو إن الأمر كان على العكس، لو إن غالبية النصوص الجاهلية كانت بهذه اللغة، أو إن بعضاً منها على الأقل، ولو بعضا قليلا، كان بهذه العربية الخالصة، أو اننا لا نملك نصاً جاهلياً بتاتاً، بأية عربية كانت، لا بهذه العربية، ولا بالعربيات الأخرى، أما وأن لدينا اليوم الألوف من النصوص الجاهلية، وهي كلها بلهجات عربية أخرى، ولا نملك نصاً واحداً مدوناً بهذه العربية الخالصة، لذا، فنحن لا نظلم أنفسنا، ولا نظلم غيرنا، ان رفضنا دعواهم المذكورة، وقلنا ان اللغات التي مونتنا بالنصوص المذكورة، هي لغات فصيحة بالنسبة للناطقين بها، وفي نظرنا أيضاً، وهي لغة أدب بالنسبة لأصحابها الكاتبين بها.
والقول بان العربية الفصيحة هي وحدها العربية الصحيحة السليمة الفصيحة، وأن ما عداها من لغات عربية فلغات رديئة فاسدة، أو أنها دونها في الفصاحة، قول يمكن قبوله بالنسبة لأيام الإسلام، حيث صارت هذه العربية لغة الدين والحكم والفكر، بها تقوم الألسنة، وبها يدون الناس آراءهم. أما بالنسبة إلى أيام الجاهلية، فإننا لا نستطيع التسليم به، لسبب بسيط، هو أن أهل العربية الجنوبية مثلاً،كانوا يكتبون وينطقون بلغاتهم، فلغاتهم هي لغة التدوين والأدب عندهم، بقوا يكتبون بها، إلى ان دخلوا في الإسلام، فابدلوها عندئذ بهذه العربية، محكم الدين.ودليل ذلك، هذه النصوص المتاخرة المكتوبة بالمسند، والتي لا يبعد تاريخها عن الإسلام كثيراً " فلو كانوا يرون أن هناك عربية أفصح منها، لو انهم كانوا يعلمون أن هنآك عربية أرفع من عربيتهم شأناً، يدون ويكتب بها يقية عرب الجزيرهّ وأنها لغة الثقافة والعلم، لما نبذوها وعدلوا عنها إلى عربيتهم، وشذوا عن بقية أخوانهم العرب، بتمسكهم بالكتابة بها وحدها. وينطبق هذا القول على قوم ثمود والصفوين واللحيانين والنبط، فقد كتب كل قوم منهم بلغتهم، ولم يكتبوا بهذه العرَبية، وتدوينهم بلغاتهم، دليل على ثبوت فصاحتها عندهم،وليس في قول "ابو عمرو بن العلاء": "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا لا عربيتهم بعربيتنا"، ما يدل على ازدراء شأن الحميرية أو الغض منها، وإنما هو تعبير عن حقيقة تأريخية، هي أن الحميرية عربية أخرى، وهي حقيقة لا يجادل على صحتها أحد،" كما أن الثمودية واللحيانية والصفوية والنبطية عربيات أخرى. وكل هذه العربيات، هي عربيات فصيحة بالنسبة لأصحابها، لأنها لغة التدوين عندهم، حيث لم يكن لأهل جزيرة العرب، لغة أدب واحدة، دوّن بها جميع الجاهليين، حتى نقول إن النصوص الخارجة عليها،أي النصوص المدوّنة بلهجات أخرى، هي نصوص عوام وسواد،كتبوا بلغاتهم كما يكتب العامة بلغاتهم هذا اليوم، مع وجود العربية الفصيحة. وأما قولهم إن هذه اللغة العربية الفصحى هي لغة قريش، لاجماع العرب كافة على إن لغة القرآن هي لغة قريش، وعدم ظهور أحد أنكر هذا الاجماع، أو جادل فيه، رغم ما كان من الشعوبية الأعجمية ومن الشعوبية الحميرية، ومن الخصومات السياسية بين قريش وغيرها من قبائل مضر، فقول لا يستند إلى حجج تأريخية جاهلية، بل هو يصطدم مع واقع النصوص الجاهلية الواصلة الينا، وبعضها نصوص لا تبعد عن الإسلام بكثير، وقد كتبت كلها بلهجات تختلف عن هذه اللغة الفصحى التي نزل بها القران، وفي اختلافها عنها دلالة، على أن الشعوب التي تثبت تلك النصوص لم تكن تكتب بعربية القرآن " وفي هذه الدلالة تفنيد لقول من قال "إن لهجة قريش هي الفصحى التي عمت وسادت في الجاهلية لا في الحجاز ونجد فحسب، بل في كل القبائل العربية شمالاَ وغرباً وشرقاً، وفي اليمامة والبحرين، وسقطت إلى الجنوب وأخذت تقتحم الأبواب على لغة حمير واليمن، وخاصة في أطرافها الشمالية حيث منازل الأزد وخثعم وهمدإن وبني الحارث بن كعب في نجران"، ثم أني لم أتمكن من العثور على هذا الاجماع الذي أجمع العرب كافة عليه، والذي لم يعارضه أحد حتى من الشعوبين والحاقدين على قريش، وانما وجدت القرآن، وهو خير الشاهدين يقول )وهذا لسان عربي مبين(. و )إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون(.
)وكذلك انزلناه حكماً عرييا(. وكذلك أوحينا اليك قرآناً عربياً" إلى غير ذلك من آيات نصت نصاً صريحاً على أن لسان ا القرآن هو اللسان العربي، فعينته بذلك وثبتته، ولم أجد في القرآن آية واحدة ذكرت انه نزل بلسان قريش ولو كان قد نزل بلسانهم وكان لسانهم خير الألسنة وأفصحها، لما سكت عن ذلك، لما في النص عليه من اهمية بالنسبة الى العرب والى قريش المكابرين المناهضين للرسول، ثم اني وجدت أن ا العلماء يذكرون أن في القرآن لغات أخرى ليست من لغة قريش، وأن فيه الفاظاً هي بلغة تميم، أو بلغات أخرى مخالفة للغة قريش وأهل الحجاز، وان لهم آراءً في الأخبار الواردة في انه نزل بلغة قريش، مثل أخبار تنسب الى"عمر" تارة " وتنسب الى "عثمان" والى غيره تارة أخرى، وهي أخبار لا ندري مبلغ درجتها من الصحة أو الباطل، يظهر انها وضعت تحت تأثير من العصبيه السياسية التي ظهرت منذ أيام الرسول فيما بين الأنصار والمهاجرين، ثم صارت عصبية قحطانية يمانية جعلت العرب عربين: فإما إلى قحطان وإما الى عدنان، وليس بينهما جد ثالث.
ثم إنه لو كان قد نزل بلسان قريش وكان لسان قريش أفصح ألسنة العرب وأبينها وأبلغها وأكملها، ولذلك كان نزوله بها حجة للخصوم وإفحاماً للمشركين واحراجاً لهم واعجازاً لهم فلم لم يذكر القران ذلك، ولم يبين أنه نزل بلسان قريش أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء وإنه انما نزل بلسانهم لتكون حجة عليهم واعجازاً لهم في أن يأتي أبلغهم بآية مثل آياته، وفي ذكر قريش اذن إفحام لكل العرب. ولكنا نجده على العكس يخاطب قريشاً والعرب بقوله: "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله"، و"قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القران لا يأتون بمثله" فهو يحاججهم على أن يأتوا بمثله وباللسان الذي نزل به، وهو لسان عربي مبين، لا لسان بعض منهم اي بلسان قريش. ولو كان لسان هذا البعض هو اكمل الألسنة وأبلغها وأعذبها وأسلسها وأنقاها كان من الضروري ذكرِ ذلك إفحاماً للخصوم، فعدم النص على ذلك اللسان، هو أبلغ جواب على أنه لم ينزل به، وعلى أن لسانهم المذكور لم يكن أكمل لسان عربي.
ُاما العوامل التي أوجدها المحدثون في تفسير سبب سيادة لغة قريش على غيرها من اللغات عند ظهور الإسلام، وهي:السيادة السياسية، والسيادة الاقتصادية والسيادة الدينية، وهي عوامل تتصل بها عادة سيادة اللغات، فهي عوامل وضعوها وضعاً وتخيلوها من غير سند أو دليل، أقاموها على تصورات أخذوها من أقوال لأهل الأخبار،لا يركن إليها، ولا يعتمد عليها. وقد حاولت جهدي أن أعثر في مؤلفات القائلين بها على سند واحد يثبت سيادة قريش السياسية على غيرها من القبائل عند ظهور الإسلام، سيادة قوة وفتح، أو سيادة نفوذ واعتبار فلم أجد فيها دليلاً واحداً يمكن أن يكون حجة لإثبات تلك السيادة. وكل ما وجدته فيها أحكاماً عامة مطلقة لم تقم على حجة ولا دليل. ثم راجعت الموارد القديمة علني أجد فيها شيئاً، يثيت هذا التفوق، فلم أجد فيها أي شيء أيضاً يدل عليه، بل وجدت العكس، وجدت إن سادات مكة مثل عبد المطلب وغيره كانوا يراجون حكام اليمن ويتقربون اليهم، لينالوا منهم العطف والرعاية، والهبات والألطاف، وكانوا إذا سمعوا بتبوء ملك منهم كرسي الحكم، ركضوا إليه يهنئونه، داعين له بالعمر الطويل، وبالتوفيق في الحكم، ثم وجدت فيها أن سادتها كانوا يراجعون حكام العراق وبلاد الشام واليمن والحبشة، ويتوددون اليهم بالهدايا، لكسب عطفهم، وللحصول على مساعدات منهم، لتيسر سبل الاتجار مع الأرضين التي كانوا يحكمونها، وأنهم كانوا يصانعون سادات القبائل ويؤالفونهم، لضمان حق مرور تجارتهم بأرضهم بأمن وسلام، في مقابل اتاوات تدفع لهم، أو هدايا تحمل اليهم، ثم رأيت ما كان من أمر "هاشم" واخوته من عقدهم الإيلاف الذي أشير إليه في القرآن. ثم وجدت إن أهل الأخبار يقولون إن "قيصر" أعان قصياً على خزاعة، وأن "عثمان بن الحويرث" قد توسط لدى البيزنطيين لتنصيب نفسه ملكاً على مكة. ورأيت أن أهل الجاهلية، كانوا يعيرُ ن قريشاً بانها لا تحسن القتال، وانها تجاري وتساير من غلب، وانها لا تخرج إلا بخفارة خفير، وبحلف حليف، وبحبل من هذه الحبال التي عقدتها مع سادات القبائل. فلما سمع "النعمان بن قبيصحة بن حيةً الطائي" ابن عم "قبيصة بن اياس بن حية الطائي" صماحب الحيرة، ب "سعد بن أبي وقاص"، سأل عنه، فقيل: "رجل من قريش فقال: أما إذا كان قرشياً فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال، إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيراً، ولا يخرجون من بلادهم إلابخفير"، فهل في هذا الكلام بعد- إن صح بالطبع -ما يشير إلى نفوذ سياسي.
بل وجدت إن أهل الأخبار يذكرون أن "قصي بن كلاب"، وهو مجمع قريش وموطد حكمها على مكة إنما بسط نفوذه عليها بمساعدة الروم له حيث يقولون: "وجاء قصي بن كلاب، فجمع معداً - وبذلك سمي مجمعا - واستعان ملك الروم فاًعانه، وحارب الأزد فغلبهم واستولى على مكة". وكان الأزد على حدّ قول هذه الروايه قد طردوا جرهم عن مكة واستولوا عليها، فجاء "قصي" وأزاحهم عنها، بمعونة "ملك الروم"، فما كانت قريش لتزيحهم عنها لولا هذه المعونة، وقوم يستعيون بالأجانب للاستيلاء على قرية فقيرة هي كل ما ملكوا هل يعقل بعد أن يكون لهم نفوذ سياسي على النحو الذي تصوروه وذكروه.
وقد وجدت انهم كانوا يصطنعون الأحابيش والقبائل، للدفاع عن مدينتهم، وانهم استعانوا بالقبائل يوم "الأحزاب" في قتالهم المسلمين. وليس في هذا الاصطناع دلالة على سيادة سياسية، وانما هو دليل الضعف وشراء القلوب وتأليفها بالمال، فإذا كان في هذا الشراء معنى السيادة السياسية، فهو اذن أمر آخر. وقد رأينا انهم كانوا يصانعون الصعاليلك و الخلعاء، للاستفادة منهم، وللاستعانة بهم في حماية أنفسهم، ورأينا إن قريش الظواهر كانوا يفخرون على قريش مكة..
بأنهم أصحاب قتال، وانهم يقاتلون عنهم عن البيت، ثم رأينا أشياء أخرى من هذا القييل، تدل كلها على إن قريشاً كانوا ضعفاء غير محاربين، شأن كل الحضر، بالنسبة إلى الأعراب، وانهم عمدوا لضعفهم هذا إلى رشوة سادات القبائل بالهدايا وبالمال وبأشراكهم برأسمال قوافلهم، لتامين مرور أموالهم وتجاراتهم بأرضهم بأمن وسلام.. فهل يقال بعد كل هذا انه قد اجتمع لقريش سلطان سياسي،صار في جملة عوامل سيادة لغة قريش في جزيرة العرب قبيل الإسلام ? ونحن نعلم، إن من أهم مقومات السيادة العباسية،ضرورة وجود القوة العسكرية" فالقوة العسكرية، هي التي بسطت اللغة اليونانية في العالم القديم، وهي التي نشرت اللغة اللاتينية في أنحاء الأمبراطورية الرومانية، وهي التي أوصلت اللغة العريية في آسية إلى حدود الصين، وفي اوروبا إلى الأندلس وسواحل المحيط، وهي التي جعلت الانكليزية اليوم لغة عالمية، فكيف نتصور اذن خضو ع العرب الشماليين قبل الإسلام أو قبيله، للغة قريش، مع ما نعرفه من ضعف قريش في قدرتها على القتال، ولا سيما في ذلك العالم الذي كان القتال فيه شيئاً مالوفاً، بل هو عنصر من مستلزمات الحياة، لأنه من وسائل الرزق بالنسبة للاعرلب المساكين الذين حرمتهم الطبيعة من خيراتها، بل حتى من ضروريات الحياة، عالم لايحترم فيه إلا القوي الجبار-
ونحن إذا أخذنا بأثر السلطان السياسي في سيادة ا اللغات، وجب علينا حينئذ البحث عن البيثات التي جمعت بين القوة والرهبة العسكرية والنقوذ السياسي،وهي بيئات توفرت في اليمن، وفي مملكة الحيرة، التي بلغت حدودها في أيام "امرىء القيس" صاحب نص الأرة، المتوفى سنة "328 م" حدود نجران، والتي هيمنت على اليمامة والبحرين. وملوك الحيرة،عرب، لغتهم ولغة أتباعهم العربية. فقي مثل هؤلاء، الذين كان لهم سلطلن سياسي وسلطان عسكري، يجب التفكير لا في أناس حضر مسلمين قليلين مثل قريش، ونحن نعلم أن قريشاً كانوا يتوددون إلى ملوك الحيرة، والى ساداتها، وأن شعراء جزيرة العرب كانوا يقصدونهم من مختلف أنحائها، باستئناء العربية الجنوبية، لإنشادهم شعرهم في مدحهم، رجاء تحقيق مطلب، أو نيل جائزة، كما كانت الوفود تقدم اليهم، وتخطب أمامهم، وكان لهم ديوان بالعربية وبالفارسية، لكتابة الرسائل الى عمالهم على الأمصار والى سادات القبائل بالعربية، والى الفرس بالفارسية،كما كان الفرس يكتبون اليهم بالعربية، كما أجمعت على ذلك الموارد العربية والموارد الفارسية التي نقل منها ا المؤرخون أخبار الحيرة الى العربية وكان لهم - كما يقول أهل الأخبار - ديوان شعر فيه أشعار الفحول ومامدح فيه النعمان بن المنذر وأهل بيته، وكانت لهم مدارس تدرس الأطفال العربية، وكذلك كانت لأهل الأنبار ولأهل عين التمر مدارس تدرس، العربية،كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب، ولما جاء "خالد بن الوليد" إلى الحيرة وسأل سادتها: " ويحكم ! ما أنتم ! أعرب? فما تنقمون من العرب ! أو عجم ? فما تنقمون من الأنصاف والعدل! فقالوا له: بل عرب عاربة وأخرى متعربة فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا، ففالوا له: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان ألا بالعربية، فقال: صدقتم. فقال تكلم "خالد" معهم بالعربية، وتفاهم معهم وأيدهم ا في أن لسانهم هو اللسان العربي الذي لالسان لهم غيره كما أن لسانه هو اللسان العربي، وبهذا اللسان كان يتكلم ملوك الحيرة ويسمعون الشعر، ويخاطبون الوفود وأتباعهم، وبه كانوا أنفسهم ينظمون أشعارهم، لم يجدوا صعوبة في التفاهم مع أحد، ولم يجد أهل مكة ولا غيرهم ممن كان يأتي الحيرة، صعوبة في التخاطب والتفاهم مع أهلها فهل يعني هذا إن أهل الحيرة، كانوا يتكلمون بلغة قريش وانهم بفضل تكلمهم بهذه اللغة كانوا يتفاهمون مع الوافدين اليهم من مكة وغيرها من أنحاء جزيرة العرب!وأنهم لو لم يكونوا يعرفون عربية قريش، لكان أمر التفاهم معهم صعباً! أذن فعربية أهل الحيرة، هي عربية قريش أخذوها منهم بسبب نفوذهم السياسي، وغلبة لسانهم على ألسنة العرب! ولكن لة كان الأمر كذلك، فلم كان جوار أهل الحيرة لخالد حين سألهم: ويحكم ما أنتم! أعرب? نحن عرب عاربة وأخرى متعربة، وليدلك على ما نقول، أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، ولم يقولوا له، إنه ليس لنا لسان إلا بالقرشية، أو بعربية قريش أو بعربية قومك، وأمثال ذلك من عبارات يقتضيها الموقف التقرب من القائد المنتتصر، ولاثبات أنهم مثله، هو قرشي يتكلمون بعربيته القرشية المبينة فهل يعتزون بتكلهم بلسلن قريش، أفصح ألسنة العرب ويتباهون به !ولو كان ذلك اللسان لسان الأدب الرفيع عندهم لما سكتوا من تسميته بلسان قريش ابداً.
ثم خذ ما ذكره أهل الأخبار عن فتح "الأنبلر، تراهم يقولون: "ولما اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون، وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم ? فقالوا قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا، فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب، ثم لم تزل عنها، فقال: ممن تعلمتم الكتاب ? فقالوا: تعلمنا الخط من اياد، وانشدوه قول الشاعر: قومى إياد لو انـهـم أمـم وا لو اقاموا فتهزل النعـم
قوم لهم باحة العـراق إذا ساروا جميعاً والخط والقلم
ولو كان أهل الأنبار يكتبون بلغة قريش، لما قال أهل الأخبار إن "خالد" ُجدهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها،ولقالوا حتماً انهم كانوا يكتبون بلسان قريش. ثم إن نصهم دوماً على إن لسانهم كان عربياً، وديوان أهل الحيرة انما كان بالعريية، وان كتابتهم انما كانت بالعربية، دليل في حد ذاته على إن المراد بالعربية، العربية المطلقة، لا المقيدهّ، أعني عربية قريش.
الحق اقو ل: انني إذا فكرت تفكير علماء العربية المحدثين، الذين نسبوا تفوق اللغات على الهجات الى السيادة السياسية والسيادة الاقتصادية وأمثال ذلك من سيادات، فإني لآ أفكر في موطن اينعت فيه العربية في تلك الأيام سوى بلاد الشام والعراق، فقد أمدتنا بلاد الشام بنصوص وان كانت -كا سبق إن قلت - قد دونت بلهجة نبطية، لكنها لم تتمكن مع ذلك من التستر على لهجة أصحابها الأصلية. فقي نص "النمارة" مثلاً الذي يعود تاريخه إلى سنة "328 م"، عبارات مئل "ملك العرب كله"، و "ملك الآسدين ونزرا وملوكهم".
و "هرب مذحجو"، و "مدينة شمر"، و "ملك معدو"، و "نزل بنيه الشعوب"، و،" فلم يبلغ ملك مبلغه"، و "هلك سنة"، يفهم منها بكل جلاء ووضوح ان أصحابها كانوا يتكلمون بلهجة عربية شمالية، هي هذه ا اللهجة التي نسميها العربية الفصيحة، والتي تستخدم "ال" أداة للتعريف. في نص "شرحيل بن ظالم"، الشي الذي يعود تأريخه إلى سنة "568" للميلاد الذي هو: "انا شرحيل بر ظلمو بنيت ذا المرطول سنت 463 بعد مفسد خيبر بعام"، وهونص لا يبعد عن ميلاد الرسول إلا بسنتين، نرى عربية "ال" واضحة ظاهرة طاغية على هذا النص، محيث تشعرك إن النص وان كان كالنص السابق قد دون بلهجة متاثرة بالنحو النبطي، غير إن اصحابه كانوا يتكلمون بعربية شمالية، فهم اذن ممن كانوا يتكلمون بعربية "ال" بكل تاكيد، بدلالة هذه النصوص. وعربية "ال" هي عربية الشعر الجاهلى.
وحيث إن صاحب نص "النمارة" هو الملك "امرؤ القيس"، من ملوك الحيرة، وقد كتب لصحابه شاهد قبره، بالغة التي بينتها، ووضعوه على قبره، فلغة اصحابه اذن هي لغة "ال"، اي العريية الفصيحة. فنحن نستطيع أن نستنبط من ذلك، إن عرب الفرات في العراق كانوا يتكلمون بهذه اللغة في الفرن الرايع الميلاد، أي قبل أن تظهر سوق "عكاظ"، وقبل أن يولد"النابغة." الذبياني، حاكم هذه السوق على زعم أهل الأخبار، وقبل لن تقوم قريش بالغربلة المزعومة للغة، وقيل بروز قريش وولادة "قصي" بزمن طويل.
ثم ان ملوك الحيرة على الأخص ثم ملوك الغساسنة كانوا كعبة الشعروالشعراء، اليهم كان ينسب الشعراء، يقفون عل أبوابهم ساعات وأياماً ليسمح لهم "الحاجب" بالدخول على الملك لانشادهم اشعلرهم أمامهم، وقد كانوا قد اتخذوا -كما يقول اهل الأخبار - أياماً يسمح فيها للشعراء بالتباري في انشاد لشعارهم أمامهم، وعرض ما عندهم من بضاعة نفيسة في الشعر ليراها الشعراء المجتمعون عنده، ولم نسمع أن الشعراء كانوا يقصدون تجار قريش للتباري أمامهم بإنشاد الشعر،او انهم كانوا قداتخذوا موسماً يقصده الشعراء من سائر أنحاء جزيرة العرب للتباري يقول الشعر، لا في موسم الحج ولا في غيره. إن سادة مكة تجار، والتاجر لا يعرف إلا الكسبُ وجمع المال، وما شأنه وبضاعة الشعر ! لقد كان ملوك الحيرةُ ملوك الغساسنة قدوة لملوك بن أمية ولبنى العباس في تبنيَهم الشعر والشعراء،وفي ترويج سوقه وتنشيطه.وإعطائه قوة وصولة، قد يكون عن طبيعة فيهم وطبع، وقد يكون عن سياسة وغرض، لاتخاذ ألشعراء محطات اذاعة أو صحف للترويج بسياسة ملك، وللحط من شأن خصمه ومنافسيه، وللرد على الشعراء المعارضين.على كل فقد كانوا يستذوقون الشعر ويميزون الجيد منه من الفاسد، ويظهرون عيوبه أمام الشعراء،ويحسنون الى الشعراء من أجاد منهم، ومن لم يجد، فكآن هذا التشجيع في جلة العوامل المشجعة على نظم الشعر. وإذا كان "لبتي أمية فضل على الشعر الجاهلي بالاشماع إليه من أفواه الرواة، وبالحث على حفظه وتدوينه. وإذا كان لبني العباس فضل على الشعر والعربية والعلوم بتشجيعهم العلماء واستدعائهم إلى مجالسهم للاستماع اليهم، فصاروا بذلك جميعاً حماة العربية، فإن ملوك الحيرة وملوك عرب الشام كانوا قد مهدوا الجادة قبلهم لمن ذكرت، ورفعوا بعملهم المذكور من مستوى العربية، وعملوا عملهم في صقلها وفي توحيدها،وفي تقريب الألسنة بعضها من بعض والناس على دين ملوكهم، وأكثر شعراء الجاهلية. كانوا على اتصال إما بهؤلاء الملوك، وإما بأولئك.
وأذأ أضفنا إلى هذا التشجيع، والسيادة السياسية التي كانت لملوك الحيرة على نجد والبحرين، عامل التقدم الثقافي الذي كان لعرب الحيرة والأنبار والقرى العربية في العرإق وفي بلاد الشام على أهل البوادي، بل وعلىأهل مكة كذلك، الذين تعلموا خطهم من أهل الحيرة، لزم علينا القول إن العربية المبينة التي درست في مدارس عر"ب العراق، كانت قد تقدمت في العراق أكثر من أي مكان آخر في جز يرة العرب بالنسبة لأيام الجاهلية، ولعلّ هذا التفدم هو الذي أكسب العراق شرف وضع علوم العربية، وتفرده من بين سائر الأقطار الإسلامية، بجمع الشعر الجاهلي وقواعد العربية وعلوم الشعر واللغة، وإلا فلا يعقل ظهور هذه العلوم في هذه الأرضين من غير ماضّ ولا علم سابق، ولا أسس بنى عليها المسلمون بناءهم ا جديد.
وأما إن تلك السيادة السياسية، كانت في حدود ضيقة، في حدود القبائل
القربية من قريش، والمواضع التي كانت لها مصالح بها، فذلك موضوع اخر، له ما يبرره، فقد كان لسادات مكة مصالح اقتصادية في الطاثف، وكان لهم أملاك وبساتين، ولهم بيوت يقضون بها صيفهم، كما كانت لهم مصالح مشابهة مع المواضع الأخرى ومع القبائل، لا مجال لنكرانها أبداً. ولكن ما صلة هذه الأمور باللغة ومن قال من القدماء إن قريشاً فرضت لغتها على أهل تلك المواضع والقبائل فرضاً، أو إن أدباء تلك المواضع أو تلك القبائل، أخذوا لغة أدبهم من قريش ? أو إن سياسة قريش كانت ذات نفوذ واسع عميق، تركت أثرأ كبيراً في النفوس جعلت العرب من أجل ذلك يمجدون لغة أهل مكة، ويعتبرونها اللغة العالية، أما لغاتهم فلغات رديئة دونها في المنزلة والمكانة، مع اننا نعلم ما للعصبيات القبلية من أثر في التعصب إلى اللهجات، ثم اننا نرى إن كتب أهل الأخبار واللغة، تذكر إن الفبائل التي كانت تجاور مكة، كانت تتكلم بلهجاتها الخاصة بها، وان أهل الطائف، أي ثقيف، كان لهم لسانهم الخاص، وان "أهل الحجاز"، أي قريش وغيرهم، كانوا يكتبون بلهجات خاصة، سماها علماء اللغة لغات "حجازية"، ولم يسموها "قرشية"، ولو كانت تلك اللهجات، لغة قريش، لما دعاها العلماء "لغة أهل الحجاز"،، أو "حجازية"، وقالوا: " ما الحجازية"، وعلى "لغة أهل الحجاز"، و لقالوا: "لغة قريش" وعلى "لغة قريش"، وهكذا، أضف إلى ذلك اننا قلما نقرأ أمثلة على اختلاف لغة قريش عن بقية لغات العرب، وانما نقرأ أمثلة على اختلاف لغة أهل الحجازمما يدل على وجود فرق بين اللغتين، وان لغة قريش، لهجة من لهجات أهل الحجاز، لا انها الأصل. وقد رأينا وجود "الغمغمة" في لغة قريش، وقد نص علماء اللغة أنفسهم على وجودها في تلك اللغة.
ثم من في استطاعته اليوم اثبات إن عرب اليمامة أو عرب نجد، أو عرب البوادي، كانوا تحت تأثير لغة قريش، أو تحت تأثيرها السياسي، ولذلك كانوا ينظمون شعرهم بها، ويخطبون بها، والنصوص التي عثرعليها في اليمامة وفي مواضع من نجد تثبت خلافّ ذلك، تثبت بالدليل القاطع إن لهجة نصوصهم لم تكن على شاكلة لغة قريش، فكيف نصدق رأي من يرى إن أعراب باطن جزيرة العرب، كانوا ينظمون الشعر بلسان قريش مع وجود هذه النصوص الجاهلية التي عثر عليهاوالتي لا يزال العلماء يعثرون عليها إلى يومنا هذا، لا في نجد واليمامة والبحرين فقط، وانما في أرض الحجاز نفسها، وعلى مسافات غير بعيدة من يثرب ومن مكة، ومن الطائف، وهي بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، وبخط يختلف عن الخط الذي دون الوحي به وليست هذه النصوص مغرقة في القدم، حتى يعترض معترض، فيقول اننا نفرل: إن لغة قريش، صارت لغة الشعر، ولغة الأدب، مع ظهور الشعر الجاهلي، أو قبله بزمن غير بعيد لأن بين هذه النصوص، نصوص، نصوص لا يرتقي عهدها عن الإسلام إلا بزمن يسير!
واما ما يقصونه علينا من نفوذ السلطان الاقتصادي الذي كان لقريش وعن أثره في سيادة لهجة قريش على لهجات العرب، فأنا أقرأ أن مكة كانت مدينة تجار وتجارة، وبيع وشراء، واستيراد وتصدير، وليس من حق احد إن ينكر ذلك، بعد أن نص القرآن على اتجارهم، وعلى وجود رحلتين لهم: رحلة الشتاء، ورحلة الصيف. وبعد أن زخرت كتب الأتجار والتأريخ باخبار تجارة رجالها. ولكن هل كانت مكة المدينة المتاجرة الوحيدة في جزيرة العرب? والجواب: كلا، فقد كانت لأهل اليمن تجارة مع مختلف أنحاء جزيرة العرب وكان سادات اليمامهّ والبحرين من الأثرياء الثقال في بلادهم، وكانوا أصحاب تجارات كانت اليمامة خاصة، ريف مكة تمونها بالميرة والمنافع، وكان ساداتها إذا غضبوا عليها قطعوا الميرة عنها" فيصيبها من ذلك غم كبير، وتضطرعندئذ للى مصالحتهم. فلما جاءهم ثمامة بن أثال الحنفي، سيد أهل اليمامة: وقالوا له: "يا ثمامة صبوت وتركت دين أبائك، قال: لا أدري ما تقولون، إلا أني اقسمت برب هذه البنية لا يصل اليكم من اليمامة شيء مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمداً من آخركم. كانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة، ثم خرج فحبس عنهم ما كان ياتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم فلما اضر بهم، كتبوا إلى رسول الله صلى عليه وسلم، إن عهدنا بك وأنت تامر بصلة الرحم وتحض عليها، وان ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا، فإن رأيت إن تكتب إليه أن يخلي بيننا ويين ميرتنا فافعل، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن خل بين قومي وميرتهم. وكان تجار البحرين يحملون تجارتهم من أقمشة ومن تجارة البحر إلى مكة، كما كان ملوك الحيرة يبعثون بلطائمهم إلى الأسواق ومنها سوق عكاظ، وكان الحضر وأهل القرار في كل جزيرة العرب تجاراً ومنهم أهل.
يثرب، ويهودها ويهود وادي القرى، ويعود سبب اشتهار مكة بالتجارة دون غيرها من قرى ومدن جزيرة العرب، إلى القرآن الكريم، فإليه وحده يعود فضل اشتهارها بالتجارة، لما جاء فيه من ذكر عن قساوة تجار قريش وغلطهم تجاه الفقراء، ومن أكلهم أموال اليتامى والأرامل والبنات، ومن تعاطيهم الربا، ومن اتجارهم برحلتي الشتاء والصيف إلى غير ذلك من أمور حملت علماء التفسير والأخبار على التنقير عن أخبار تجارة مكة وعلى جمع ما حصلوا عليه في كتبهم، ولو نزل في القرآن الكريم شيء عن تجارة وتجار مواضع أخرى مسماة باسمها لخصي. تلك المواضع بعنايتهم من دون شك ولا ربية،ثم إن مدينة الرسول، وقد اشتغل الرسول نفسه بالتجارة، وكانت زوجته خديجة تاجرة، فحمل كل هذا علماء السيرة على البحث عن تجار مكة وعن تجارتها قبل الإسلام، وعن المواضع التي تاجروا معها. فطهرت مكة من ثم وكأنها المدينة الوحيدة التاجرة في جزيرة العرب.
وأما ما يذكرونه عن النفوذ الديني الذي كان لقريش على العرب، فالذي أعرفه من أمر الدين عند أهل الجاهلية، انهم كانوا بين مشرك، وهم الكثرة الكاثرة، وبين اليهود، وهم قلة، وبين نصارى، وهم أكثر من اليهود عدداً، وبين جالية مجوسية، قلدها في دينها نفر من العرب لا يبعأ بعددهم.أما الشرك فقد تتبعناه في الجزء السادس من هذا الكتاب، فوجسنا إن لكل قبيلة صنماً. كانت تتقرب إليه وتنذر له وتستعين به في حربها وغزوها، ولم تكن العرب تجح إلى صنم واحد، هو صنم قريش، بل كانت تحجح إلى أصنامها، ووجدنا ان "هبل" هو صنم أهل مكة وكفى. ثم رأينا ان لأهل نجران كعبة، لأهل يثرب محجة، ولإياد كعبة، ولثقيف محجة، وللقبائل الأخرى محجات، وللنبط محجة، ولأهل العربية الجنوبية معابدهم، ولم نقرا في أي نص من نصوص أهل الجاهلية انهم حجوا الى مكة، أو إن أحداً منهم ذهب اليها لغرض من الأغراض الدينية أو اي غرض أخر، ولم يرد اسم مكة في أي نص من هذه النصرص. ولم نسمع في أخبار أهل الأخبار، إن قوافل من عرب العراق أو عرب بلاد الشام او نجد أو العروض، كانت ترحل في موسم الحج إلى مكة لفرض تأدية الحج أو أداء العمرة في رجب، ولم أقف على اسم ملك من ملوك الحيرة قيل انه حج إلى مكة، ولم اقف على اسم ملك من ملوك كندة أو بقية العرب ذكر انه حج
في جاهلية الى مكة، اللهم الا ما زعموه من حج التبابعة إليها، وقد تعرضنا لطبيعة أمثال هذه الدعاوى القحطانية التي وضعتها العصبية إلى اليمن في الإسلام، وكلها أساطير وخرافات. ولو كان الحج إلى مكة عاماً عند كل مشركي جزيرة العرب، لما سكتت الأخبار عن ذكر من كان يفد إلى الحج من الأماكن البعيدة، ولظهر أثره في الشعر على الأقل.
وأما اليهود والنصارى والمجوس، فقد كانوا على دينهم، لا يحجون البيت ولا يتقربون إليه. فلهم عبادتهم الحاصة بهم. فلا نفوذ لقريش اذن عليهم من ناحية الدين.
نعم، قد يقال لي: ولكن ما قولك في هذا الاجماع الذي نراه في كتب التواريخ والأخبار من حج التبابعة إلى مكة ومن تقربهم إلى الكعبة بالكسوة والألطاف، وقد كانوا أول من كساها من العرب ? ثم ما قولك في هذا الشعر الذي قالوه في مدح البيت وفي التقرب إليه وفي الايمان بالله وبرسوله قبل ظهوره بل قبل مولده بمئات م ن السنين ? ثم - ماذا تقول من اشادة "عدي بن زيد" العبادي بالبيت وقسمه به في شعره، وهو يخاطب النعمان بن المنذر، الملك الغاضب عليه ? وماذا تقول في قول القائلين، من الشعراء الجاهليين الآخرين في تعظيم البيت وفي التقرب إليه، وقسمهم به ومن مجيء العرب إلى مكة من كل حدب وصوب للعمرة أو للحج ? ثم ماذا ستقول في أشياء أخرى من هذا القبيل تفند كلها قولك، وتثبت وجود نفوذ قريش على القبائل وخضوع القبائل لها في أمور ا لدين ? أما حج التبابعة البيت، فهو حج ولد في الإسلام، أولدته العصبية القحطانية العدنانية التي تحدثت عنها وأما الكسوة، فهي من مولدات ومخترعات هذه العصبية أيضاً. وأما الشعر الذي نسب الى التبابعة، فهو من فصيلة الشعر الذي روي على لسان آدم وهابيل وقابيل والجنّ، وأما المحجات، فقد بحثت عنها في الجزء السادس من هذا لكتاب. وقد سبق لي أن تحدثت عن مخترعات أخرى كثيرة غير هذه، أوجدتها العصبية الفحطانية العدنانية، منها خلق أنبياء قطانيين، وجعل العربية الأولى، عربية قحطانية، وجعل العرب العدنانيين عرباً مستعربة، إن غير ذلك من ابتكارات أوجدها القحطانيون، بعد أن ذهب الحكم منهم، وصاروا تبعاً لقريش في الإسلام، فأخذوا ينبشون الماضي ويبحثون في الدفاتر العتيقة، ويضعون ويفتعلون، للغض من خصومهم، ولإظهار انهم كانوا هم اللب والأصل، وان خصومهم جاء اليهم الحكم عفواً، من غير أصالة ولا مجد تليد، فهم أصل كل مجد وفخار..
وقد تعرض العلماء لهذا الموضوع القائم على العصبية فقال "ابن فارس": "فأما من زعم أن ولد اسماعيل - عليه السلام - يعيرون ولد قحطلن أنهم ليسوا عرباً ويحتجون عليهم بأن لسانهم الحميرية.. فليس اختلاف اللغات قادحاً في الأنساب. ونحن وإن كنا نعلم إن القران نزل بافصح اللغات فلسنا ننكر أن تكون لكل قوم لغة. مع أن قحطان تذكر أنهم العرب العاربة وأن من سواهم العرب المتعربة، وأن اسماعيل - عليه السلام - بلسانهم نطق، ومن لغتهم أخذ، وإنما كانت لغة ابيه صلى الله عليه وسلم، العبرية " فأنت أمام رأيين متناقضين، يدعي أصحاب كل رأي منهما أنهم هم العرب وأن لسانهم هو اللسان العربي الفصيح المبين،- وأن من سواهم فغنم، وأصحاب ألسنة فاسدة رديئة.
وأما ما زعموه وحكوه عن أدوار تهذيب اللغة، ومن انفتاق العربية بلسان اسماعيل الى اختتامها بالدور العكاظي وهو آخر أدوار التهذيب اللغوي فأقول انها أقوال بنيت على أخبار ضنعتها العواطف والمشاعر العصبية الضيقة التي ظهرت باجلى مظاهرها في صدر الإسلام عصبية قبلية قديمة كانت بين يثرب ومكة، أو بين اليمن ومكة، إزدادت شدة وقوة في الإسلام، بسبب استيلاء قريش على الحكم، فاستغلت العواطف الدينية لتأييد هذه العصبية ا السياسية. بجعل قريش تاجرة جزيرة العرب، وزعيمتها في اللغة، وموطن الفصاحة والبلاغة، ومجمع علماء اللغة الذين كانوا ياخذون ويعطون ويقررون كل ما هو سلس من الكلم وما هو بليغ وفصيح، حتى جعلوا كلام الله المنزل على رسوله بلسان عربي مبين، لسان قريش، والله تعالى يقول: "قرآناً عربياً ولم يقل قريشاً.
والعربية عربية العرب جميعاً من انصار ومهاجرين، أهل بادية وقرى. "قال الأزهري: وجعل الله عز وجلّ، القرآن االمنزل على النبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عربياً، لأنه نسبة إلى العرب الذين انزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها العربية، وجل النبي، صلى الله عليه وسلم، عريياً لأنه من صريح العرب". فلسان القرآن، لسان العرب جميعاً من مهاجرين وأنصار، لا لسان قريش خاصة، والنبي وان كان من قريش، لكنه كان عربياً من صريح العرب، ودعوته لم تكن دعوة ضيقة خاصة بقريش، إِنما كانت دعوة عامة جاءت إلى كل العرب، قوم النبي، ولهذا نزل بلسانهم وبهذا جائت الاية: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه"، ثم إلى الناس عامة لحديث:" أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، واعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة".
وأما ما زعموه من تخير قريش وانتقائها أفضل لغات العرب، حتى صار لسانها أعرب الألسنة، فزعم بني علي خبر "روي عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، انه قال: قريش هم أوسط العرب في العرب داراً، وأحسنه جوارأَ، وأعربه ألسنة"، وعلى خبر ينسب الى قتادة نصه: "كانت قريش تجتبي، أي تختار، أفضل لغات العرب، حتى صار افضل لغاتها لغتها، فنزل القرآن بها".. وهو خبر لا زال يردد ويكرر يوضع بين أقواس تارة وبغير أقواس تارة أخرى، استشهاداً به حتى وكأنه صار آية نزلت من السماء، مع كون "قتادة" من ا الضعفاء، وقد تحدث عن "ابن عباس" مع انه لم يلتق به، ونسب له أقوالاّ شاع بين الناس، مع انه لم يره ولم يسمع منه، فهل يؤخذ بعد بقوله على انه حجة، أو كأنه آية نزلت من السماء وهل نقبل خبره عن ا اللسان.
اجتباء قريش أفضل لغات العرب، على انه حجة "يستدل بها على أدوارالتهذيب وأنت لو رجعت إلى خبر: "أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وايامهم ومحالهم إن قريشاً أفصح العرب وأصفاهم لغة. و ذلك إن الله- جل ثناؤه - اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشا قطان حرمه وجيران بيته الحرام وولاته.
فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم. وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم.. الخ"، تجده منقولاّ نقلاَ حرفياً في كل موضع تعرض إلى أفصح العرب، أو العربية الفصحى، أو اللغة التي نزل بها الفرآن، يسند أحياناً وبغير سند أحياناً أخرى، حتى ظهر وكأنه خبر متواتر، وإجماع لم يخرج عليه عالم من العلماء، فاًخذ به المحدثون، وقالوا قولهم المذكور، ولكنك لو تتبعت الخبر، وعملت رأيك في حرفية نصه في كل الموارد، ثم وقفت على آخر مورد قديم ذكره، ترى انه خبر آحاد، ورواية واحدة ليس غير، اكتسب هذا الاجماع بسبب وروده بالحرف في تلك المؤلفات، فهو لا يفيد قطعاً، وانما حكمه حكم الأخبار الآحاد.
ثم إن ما ذكروه من صفاء لهجة قريش ومن فصاحتها، يعارضه قولهم بوجود "غمغمة" في لغتها. فقد قالوا: الغمغمة: "الكلام الذي لا يبين، ومنه صفة قريش فيهم غمغمة"، كما يعارضه قولهم بوجود التضجع في لغة قريش، فلما نحدث "ثعلب" عن معايب اللغة، قال: "ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وتلتلة بهراء، وكسكسة ربيعة، وكشكشة هوازن، وتضجع قريش، وعجرفية ضبة" مما يدل على انه قصد ب "تضجع قريش": عيباً من العيوب في الفصاحة. وفي وصف لغة قريش بالتضجع مناقضة لابتداء كلامه ب "ارتفعت قريش في القصاحة عن.."، كما لا يخفى. وعلماء العربية والأخبار يناقضون أنفسهم بأنفسهم، وهو شيء مألوف عنهم، لأنهم كانوا يعمدون إلى الرواية والاملاء عن ظهر قلب في الغالب " لا عن كتاب مدون وصحف مكتوبة، فلاَ غرابة إن ظهر هذا التباين في كلامه في هذا المكان.
ثم إن علماء العربية حين يبحئون في النحو أو في الصرف، أو في مفردات اللغة عن الغريب والشاذ، يذكرون فيما يذكرون لغة قريش، ولغة أهل الحجاز، فيقولون:".،. لغة قريش"، و "بلغة قريش"، كما يقولون: "لغة تميم"، ولغة طيء، ولغة يمانية، ولغة أسد، وغير ذلك، ولكنهم يقولون أيضاً: "يقول أهل الحجاز قتر يقتر، ولغة فيها أخرى يقترُ بضم التاء، وهي أقل اللغات"، وجاء: "وفي أمالي القالي: لغة الحجاز ذ أى البقل يذأى، وأهل نجد يقولون: ذوى يذوي"، إلى غير ذلك، وفي ذكرهم لغة قريش ولغة أهل الحجاز، مع اللغات الأخرى في مثل هذه المواضع دلالة بينة على إن العربية الفصحى ليست عربية قريش، وإنما عربية أخرى، هي العربية التي نص عليها في القرآن، أي العربية التي نزل بها الوحي، وإلا كان من السخف ذكر لغة قريش، حين الإشارة إلى الغريب والشاذ ومواضع الاختلاف.
وأما استشهادهم بحديث: "أنا أفصح العرب، بيد إني من قريش" أو " أنا أفصح العرب، بيد اني من قربش واني نشأت في بني سعد"، أو "أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد اني من قريش"، لاثبات أن قريشاًكانوا أفصح العرب، بل أصل الفصاحة، فالحديث من الآحاديث الغريبة الضعيفة، رواه أصحاب الغريب، كما نص على ذلك العلماءْ، فهو لا يفيد حكماّ علمياً لضعفه هذا، و لا يصلح أن يكون أساساً لاستشهاد. وقد يكون من موضوعات العصبية العدنانية القطانية، وقد يكون من الأحاديث التي رويت من باب الاشادة بقريش لكونهم قوم الرسول، وبالإشادة بذكرهم وتعظيمهم في كل شيء وجعل لسانهم أفصح الألسنة خدمة في رأيهم للاسلام وللرسول وللقرآن الكريم. وليس هذا بشيء غريب، فقد عهدنا أهل الأخبار يروون شعرأَ ونثراً على آلسنة التبابعة والأقوام الماضية بل والجن والكهان في الحث على الايمان بالرسول، قبل ميلاد الرسول بزمن، وقبل ظهور الإسلامء وهو مقبول عندهم، ودليل ذلك تسطيره في كتبهم وروايتهم له، ولو تجوزنا وقبلنا بالحديث، واعتبرناه حديثاً صحيحاً، فإننا لا نتسطيع مع ذلك أن نفهم منه ما فهموه هم من انه عنى إن قريشاً أفصح العرب، وانه صار أفصح العرب، من أجل انه من قريش، لأن معنى "بيد" على نفسير علماء العربية هو: "غير" و "على"، والأول أعلى. " يقال رجل كثير المال، بيد انه بخيل. معناه غير انه بخيل"، ولو أخذنا بالتفسيرين سالمذكورين قلنا بجب أن يكون معنى الحديث على هذا النحو: " أنا أفصح العرب، غير اني من قريش، واني نشأت في بتي سعد"، أو "أنا أفصح العرب، على اني من قريش، واني نشاًت في بتي سعد"، ومعناه بعبارة مبسطة أنا أفصح العرب، وان كنت من قوم منهم، هم قريش، لهم لسانهم، وقد نشأت في بني سعد. وقريش كما نعلم بعض العرب، لا كل العرب. وليس في هذا المعنى أية دلالة على تخصيص قريش بالفصاحة، وعلى إن لسانها أفصح الألسنة. وكل ما فيه إشادة بفصاحة الرسول وحده، وإفادة بأنه أفصح العرب، فلا أحد أفصح وأنطق منه، فهو حديث يفيد التخصيص لا التعميم،وهو خاص بفصاحة الرسول. وهو لذلك لا يمكن أن يكون حجة على تفضبل لسان قريش على الألسنة الأخرى، ولأجل تحويله إلى حجة فسّروا لفطة "بيد" تفسيراً جعل الفصاحة للرسول ولقومه فقالوا: " ويأتي بيد بمعنى: من أجل. ذكره ابن هشام"، فصار معنى الحديث: "أنا أفصح العرب، من أجل اني من قريش، واني نشأت في بني سعد بن بكر". فالرسول وفق تفسيرهم هذا، أفصح العرب من أجل انه من قريش، ففصاحته مستمدة منهم ومن "بني سعد بن بكر"، وصارت قريش في نظرهم أفصح العرب لساناً، وأصفاهم لغة. مع انهم ا يذكرون فيما يذكرون عن كلام الرسول، إن "عمر بن الخطاب" قال للرسول يوماً: "يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من ظهورنا.."، وان رجلاً آخر سأله بقوله: "يا رسول الله ما أفصحك ! فما رأينا الذي هو أعرب منك، قال: حق لي، فإنما أنزل القرآن على" بلسان عربي مبين. وقال الخطابي: اعلم إن الله لما وضع رسوله موضع البلاغ من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه، اختار له من اللغات أعربها، ومن الألسن أفصحها وأبينها، ثم أمده بجوامع الكلم، قال ومن فصاحته أنه تكلم بالفاظ اقتضبها لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها، كقوله: مات حتف أنفه، وحمي الوطيس... الخ". وفي حديث "عمر" إن صح: "ولم تخرج من بين أظهرنا" صراحة بتعجب عمر من هذه الفصاحة التي كانت للرسول مع أنه لم يخرج من بين أظهرهم، أي من مكة، ولو كان لسان قريش أفصح الألسنة لما قال عمر للرسول قوله المذكور، الذي يدل على إن الفصاحة في خارج قريش، وعند الأعراب. وفي جواب الرسول على للرجل من قوله: "حق " لي، فإنما أنزل القرآن عليّ بلسان عربي مبين"، - إن صح هذا الحديث - تفنيداً لقول القائلين بنزوله بلغة قريش، ولو كان قد نزل بلغتهم لقال: "بلسان قرشي مبين" ولم يقل أحد من العلماء إن اللسان العربي، هو لسان قريش، بل نجدهم يقولون دائماً: لسان قريش، ولغة قريش، ونزله بلسان قريش، ويذكرون هذا السان مع الألسنة الأخرى، مثل لسان تميم، وهذيل، وبني سعد بن بكر. وأما ما قالوه من أن الوفود اليمنية التي وفدت على الرسول، لم تجد صعوبة في التفاهم معه،وان الرسول حين أرسل معاذ بن جيل الى اليمن ليعظمهم ويعلمهم ما وجد صعوبة في التفاهم
معهم، وأنهم لو لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى، لكان ارسال هؤلاء الدعاة عبثاً، "وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسة في الجنوب حدثت قبيل الإسلام"، فيعارضه ما ذكروه من أنه "حين جاءته وفود العرب فكان يخاطبهم جميعاً على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وافخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين إن أصحابه رضوان الله عليهم ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوجه اليهم لخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياءكثيرة، حتى قال له علي بن ابي طالب، كرم الله وجهه، وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفودالعرب بما لا نفهم أكثره فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يساًلونه عنه عما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هنا الاختلاف فطرياً في العرب فلم يلتفتوا إليه". وفي هذا الخبر - إن صح - دلألة على الضد، دلالة على إن العرب كانت على سجيتها ولسانها في كلامها، وانها لم تكن تنطق بلسان قريش بل باًلسنتها،وإلا لما تعجب علي وغيره من كيفية تفاهم الرسول مع القبائل وعدم تمكنهم هم من فهم كلامهم، مع انه واياهم من أب واحد، أي من قريش، ثم من أكد لنا إن معاذ بن جبل، وهو من الأنصار لم يجد صعوبة في تفاهمه مع أهل اليمن، وان وفوداليمن لم تجد صعوبة في تفاهمها مع الرسول، ومن أين جاء هذا التأكيد ? والذي نعلمه إن الموارد لم تتحدث عن ذلك، بل الذي رأيناه هو العكس، وهو ما ذكرته في خبر علي مع النبي. أما لو اخذنا بما نجده في الموارد من كلام الوفود مع الرسول وجواب الرسول على كلامهم، وكله بهذه العربية المبينة، فقد قلت مراراً إن الصحابة في ذلك الوقت لم يكونوا يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ولا كلام الوفود مع الرسول، بل ولا كلام الرسول وحده، أي حديثه، وان ما نقراه من نصوص لا يمثل الأصل، وربما مثل المعنى وقد يكون لا هذا ولا ذاك، وانما روايات موضوعه، قد يحتمل أن يكون مع الوفود أناس يحسنون التكلم بالعربية المبينة، وان بين اصحاب النبى من كان من العربية الجنوبية ومن القبائل التي كانت تتكلم بلهجات متباينة، فكانوا يقومون له بدور التفاهم والتقريب بين كلام الرسول وكلام الوفود.هم، وأنهم لو لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى، لكان ارسال هؤلاء الدعاة عبثاً، "وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسة في الجنوب حدثت قبيل الإسلام"، فيعارضه ما ذكروه من أنه "حين جاءته وفود العرب فكان يخاطبهم جميعاً على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وافخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين إن أصحابه رضوان الله عليهم ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوجه اليهم لخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياءكثيرة، حتى قال له علي بن ابي طالب، كرم الله وجهه، وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفودالعرب بما لا نفهم أكثره فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يساًلونه عنه عما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هنا الاختلاف فطرياً في العرب فلم يلتفتوا إليه". وفي هذا الخبر - إن صح - دلألة على الضد، دلالة على إن العرب كانت على سجيتها ولسانها في كلامها، وانها لم تكن تنطق بلسان قريش بل باًلسنتها،وإلا لما تعجب علي وغيره من كيفية تفاهم الرسول مع القبائل وعدم تمكنهم هم من فهم كلامهم، مع انه واياهم من أب واحد، أي من قريش، ثم من أكد لنا إن معاذ بن جبل، وهو من الأنصار لم يجد صعوبة في تفاهمه مع أهل اليمن، وان وفوداليمن لم تجد صعوبة في تفاهمها مع الرسول، ومن أين جاء هذا التأكيد ? والذي نعلمه إن الموارد لم تتحدث عن ذلك، بل الذي رأيناه هو العكس، وهو ما ذكرته في خبر علي مع النبي. أما لو اخذنا بما نجده في الموارد من كلام الوفود مع الرسول وجواب الرسول على كلامهم، وكله بهذه العربية المبينة، فقد قلت مراراً إن الصحابة في ذلك الوقت لم يكونوا يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ولا كلام الوفود مع الرسول، بل ولا كلام الرسول وحده، أي حديثه، وان ما نقراه من نصوص لا يمثل الأصل، وربما مثل المعنى وقد يكون لا هذا ولا ذاك، وانما
روايات موضوعه، قد يحتمل أن يكون مع الوفود أناس يحسنون التكلم بالعربية المبينة، وان بين اصحاب النبى من كان من العربية الجنوبية ومن القبائل التي كانت تتكلم بلهجات متباينة، فكانوا يقومون له بدور التفاهم والتقريب بين كلام الرسول وكلام الوفود. موضوعه، قد يحتمل أن يكون مع الوفود أناس يحسنون التكلم بالعربية المبينة، وان بين اصحاب النبى من كان من العربية الجنوبية ومن القبائل التي كانت تتكلم بلهجات متباينة، فكانوا يقومون له بدور التفاهم والتقريب بين كلام الرسول وكلام الوفود.
وأما ما زعموه كل من دور "عكاظ" في تهذيب اللغة، وأثر قريش فيه، فلئن كان لعكاظ أثر في تباري العرب في النثر وفي الشعر، فإنك لا تستطيع ارجاع هذا الأثر إلى عمل وفعل جماعة معينة، وليس في الذي تحدث به الرواة من أخبار عن "عكاظ" ما يحصر فعل هذا التهذيب بقريش، وما قريش إلا كغيرهم من قصاد هذا المكان من حيث المجيء اليه للبيع والشراء والإتجار. لم تكن الحكومة لهم بعكاظ، وإنما كانت لتميم، وتميم من أشهر الناس في فنون الخطابة والكلام. ودليل ذلك، ما يورده أهل الأخبار عن خطبائهم وحكمائهم من كلام، وما ينسبونه اليهم من حكم وخطب بليغة، ثم إن هذه السوق لم تظهر إلا في أيام الرسول وقبل خمس عشرة سنة من الإسلام. وقيل إنها اتخذت سوقاً بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وتركت عام خرجت الحرورية بمكة مع "المختار بن عوف" سنة تسع وعشرين ومائة. وقد ذكر أهل الأخبار أن "عكاظ" سوق "كانت تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون، أي يتفاخرون ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر ثم يتفرقون"، وأنهم.كانوا "يقيمون شهراً يتبايعون ويتفاخرون ويتناشدون شعراً، فلما جاء الإسلام هدم ذلك"، وذكروا إن الشاعر النابغة الذبياني كان يأتيها فينشد الناس من شعره، "وكان النابغة تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأنشده الأعشى أبو بصير، ثم أنشده حسان بن ثابت، ثم الشعراء، ثم جاءت الخنساء السلمية فأنشدته"، وذكروا أن في شعر "أمية بن خلف" الخزاعي، اشارة إلى مكانة فذه السوق عند الشعراء، حيث يقول: ألا من مبلغ حسان عني مغلغلة تدب الى عكاظ
فأجابه "حسان" في أبيات تشير أيضاً إلى هذه الأهمية، و ذلك بقوله: أتاني عن أمـيّة زور قـول وما هوفي المغيب بذي حفاظ
سانشر إن بقيت لكم كـلامـاً ينشر في المجنة مع عكـاظ
قوافي كالسلاح إذا استمـرت من الصمم المعجرفة الغلاظ
فلم يشير حسان إلى أثرقريش في هذه السوق، ولم يشر أمية الىقريش كذلك، والذي يفهم من الشعرين أن ذكر عكاظ فيهما، هو بسبب تجمع الناس في هذه السوق، فما يقال فيها ويصرخ على رؤوس الأشهاد ينتشر في كل مكان، ويأخذ صداه بين الحاضرين، ثم يذهب إلى الغائبين، ولهذا كانت أيضاً الموضع الذي يعلن فيه الناس خلع من يريدون خلعه للتبرؤ من جرائره، شأنها في ذلك شأن "سوق مجنة"، وهي أيضاً من أسواق الجاهلية وكانت على أميال من مكة، وأنت ترى إن "حسان" قد ذكر أنه سينشر شعره فيها وفي عكاظ. مما يدل على أنها كانت ذات اهمية أيضاً من حيث النشر والاعلان، وأنها مثل عكاظ، ومثل أي سوق أخرى كبيرة من حيث تجمع الناس فيها والاعلان عما يقع لهم من أحداث.
واًما ما ذكزوه من انشاد حسان للنابغة شعره: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دمـا
ومن رد النابغة عليه بقوله: أنت شاعر، ولكنك أقلت جفناتك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك. فحكاية شك فيها العلماء، وإن كان هذا الشاهد من شواهد سييويه. لأن الاعتراض لا يدور على الشاهد، وانما على القصة. وقد ذهب بعض العلماء على انها خبر مجهول لا أصل له. وهناك قوم أنكروا هذا البيت أصلاً، ومنهم من روى ملاحظة النابغة المزعومة بشكل،أخر " وفي الشكلين ما يوحي إلى إن القصة مفتعلة، وضعها الرواة لإيجاد مخرج للبيت. ولم أجد في المراجع المعتبرة القديمة نصاً، يفيد إن الأمر كان لقريش في الحكم بين الشعراء أو الخطباء في سوق عكاظ. والنابغة الذي جعلوه حكماً يحكم في أمر الشعر لم يكن من قريش، بل هو من " بني ذببان"، وهو الحكم الوحيدالذي نص أهل الأخبار على اسمه وزعموا انه كانت له قبة حمراء من أدم وكان ينشد شعره، واليه تتحاكم الشعراء في أيهم أشعر وكل الشعراء الذين. ذكروهم هم: الأعشى، والخنساء، وحسان في قصة منمقة طربفة. ولم أعثر حتى الآن على اسم حاكم آخر، آلت إليه حكومة الشعر في عكاظ، لا من قريش ولا من غير قريش. فأين اذن موقع قريش في هذه السوق من الإعراب.
واما ما زعمه بعض أهل الأخبلر من إن العرب في الجاهلية كان يقول الرجل منهم الشعر في اًقصى الأرض، فلا يعبأ به حتى يأتي مكة فيعرضه على قريش، فأن استحسنوه روي وكان فخراً لقائله، وإن لم يستحسنوه طرح وذهب فيما ذهب وما روي عن "أبي عمرو بن العلاء" من قوله: كانت العرب تجتمع في كل عام بمكة، وكانت تعرض اشعارها على هذا الحي من قريش"، فروايات من نوع الروايات التي لا تتمكن من الوقوف على أرجلها، ولم تجد في كتب التاريخ والأخبار ما يؤيدها،وضعت لتبرير القصص الذي نسجوه عن أسطورة تعليق المعلقات، ثم إننا لم نسمع بخبر الشعر الذي استحسنوه وأجازوه، غير شعر المعلقات، ولو كان ما نسب إلى "أبي عمرو بن العلاء" أو غيره حقاً، من استحسان شعر وطرح شعر، لما سكت رواة الشعر من الإشارة إلى الشعر الذي استحسنه أهل مكة فنال بذلك شرف الاختيار والسيادة والرفعة، ولما غضوا النظر غضاً تاماً عن الاثارة إلى الشعر الذي لم يستحسنوه فسقط وذل، وفي ذكر الشعر الفاشل أهمية كبيرة في نظر الشعراء الخصوم، وفي نظر القبائل التي كانت تبحث وتتجسس على الهفواط والسقطات لاتخاذها مغمزاً تنال بها القبائل بعضها بعضاً ! ثم كيف سكتت قريش عن هذا الشرف الذي كان لها قبل الإسلام، وقد رووا أنها نظرت فإذا حظها في الشعر أيام الجاهلية قليل، فاستكثرلت منه في الإسلام، وأنها أضافت كثيرأَ إلى شعر "حسان" للاساءة إليه، ولو كان هذا الشرف المزعوم، لما سكتوا عنه، ولما سكت من تبسط في تأريخ مكة، أو كتب في السيرة عن الاشارة إليه، لما فيه من أهمية كبيرة بالنسبة للتأريخ، ثم اننا لا نجد في القرآن للكريم. شيئاً يشير إلى ذلك، مع تعرضه للشعراء، كما لا نجد في كتب الحديث أي شيء يدل على وجوده، مع أنها تعرضت للشعر، ولسماع الرسول له، وقد ذكرتّ أنه كان يسأل الصحابة أن ينشدوا شعر الشعراء له، الى غير ذلك مما هو مدون في بطون هذه الكتب. و أما ما زعموه من إن العرب كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولاَ، وما ردوه منها كان مردوداٌ، فقدم عليهم علقمة بن عبدة التميمي، فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم، فقالوا.
هذا سمط الدهر، ثم عاد اليهم العام المقبل، فأنشدهم قصيدته: طحا قلب في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمطا الدهر". فخبر آحاد، وان تواتر في الكتب، لم يروه "ابن سلام" ولا "ابن قتيبة"، وهو من نوع خبر تعليق المعلقات من الموضوعات التي أولدها أهل الأخبلر.
وفي الجدل الذي وقع بين علماء النحو وغيرهم في جواز او عدم جواز الاحتجاج بالشعر على غريب القرآن ومشكله، دلالة بينة على اجماع الطرفين على إن كتاب الله انما نزل بلسان عربي مبين، ولم ينزل بلسان قريش، الذي هو حرف من اللسان العربي. فقد قال المنكرون للاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر، إن معنى ذلك جعل الشعر أصلاً للقرآن،مع إن الشعر مذموم في القرأن والحديث، فردّ عليهم القائلون به بقولهم: "ليس الأمر كما تزعمون من انا جعلنا الشعر أصلاّ للقرآن، بل أردنا تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر، لأن الله تعالى قال: إنا جعلناه قرآناً عربياً، وقال: بلسان عربي مبين.
وقال ابن عباس: "الشعر ديوان العرب؛ فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه،".
ولو كان القرآن قد نزل بلسان قريش، لما احتاج الناس الى الشعر للاستشهاد به على فهم المشكل والغريب، وكان عليهم الرجوع إلى شعر قريش ونثرهم للاستشهاد به في توضيح ما فيه من مشكل وغريب، لا إلى شعر العرب وكلامم من غير قريش، ثم إن في قولهم بوجود مشكل وغريب فيه، وحروف خفي أمر فهمها على العلماء، هو دليل في حد ذاته على انه لم ينزل بلسان قريش، وانما بلسان عربي مببن، فلو كان قد نزل بلسانهم لما خفي امره على رجالهم، من مثل أبي بكر وعمر وغيرهما من رجال قريش، ونجد في المسائل المنسوبة الى "نافع بن إلأزرق" التي سألها على ما يذكر الرواة "ابن عباس" قي تفسير الفرآن بالشعر، دلالة على أنه كان يرى أن القرآن إنما نزل بلسان عربي، لا بلسان قريش فقد روي إن "نافع بن الأزرق" قال ل "نجدة بن عويمر": "قم بنا إلى هذا الذي يجترىء على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاماليه فقالا: إنّا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا وتأتينا بمصادقة من كلام العرب، فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عريي مبين فقال: ابن عباس: سلاني عما بدا لكما، ففال نافع: أخبرني عن قول الله تعالى: عن اليمن وعن الشمال عزين، قال: العزون: الجلق الرقاق، قال: وهل تعرف العرب ذلك ? قال: نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول: فجاءوا يهرعون إليه حتى يكونوا حول منبره عزينا"
وهي أسئلة مهمة اقترن جواب كل سؤال منها بشعر، من شعر شعراء الجاهلية والمخضرمين مثل،: "عبيد بن الأبرص"، و "عنترة"، و "أبو سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب"، و"لبيد"، و "طرفة بن العبد"، و "مالك ابن عوف"، و "عبلي الله بن الزبعرى"، و "حسان بن ثابت"، و "عديّ ابن زيد" العبادي، و "أمية بن أبي الصلت"، و "أبو ذؤيب"، و "أبو محجن الثقفي"، و " امرؤ القيس"، و "الأعشى"،و"النابغة"، و "حمزة بن عبد المطلب"، و "زيد بن عمرو"، و "عبدالله بن رواحة"، و "زهير بن أبي سلمى"، و "عمرو بن كلثوم" و "عبيد بن الأبرص"، و "كعب بن مالك"، و "أحيحة الأنصاري"، و "بشر بن أبي خازم"، و "ماللك بن كنانة"، و "أبو طالب" و "مهلهل"، و "الحطيئة"، و "أوس بن حجر"، وشعر آخر لشعراء لم يشر إلى أسمائهم، وإنما كان يقول: " أما سمعت قول الشاعر"، وقد أمكن تشخيص بعضه، ولم يهتد إلى قائل البعض الاخر، كما استشهد بشعر نسبه إلى التبابعة. وهي أجوبة مهمة، إن صح بالطبع انها صحيحة، وأنها من أسئلة "نافع" وأجوبة "ابن عباس"، تفيد تشخيص ذلك الشعر: وفي تثبيته، وإن كان من الصعب علينا التصديق بصحة هذه الأسثلة والأجوبة، التي أرى أنها وضعت في أيام العباسيين، وممكن بالطبع التوصل إلى تثبيت زمان وضعها، بالبحث عن أقدم مورد وردت إشارة فيه إليها، فحينئذ يمكن تعيين ألزمان الذي وضعت فيه بوجه تقريبي.
وفي تفسير الغريب والمشكله من القرِآن بالشعر، وقول علماء التفسير انا اللفظة من ألفاظ قبائل أخرى غير قرشية، وفي استفهام رجال قريش، وفي جملتهم رجال كانوا من أقرب الناس الى الرسول، مثل "أبي بكر" و "عمر" عن ألفاظ وردت في القرآن لم يعرفوا معناها، مثل "أبّاً"، وفي رجوع "ابن عباس" إلى الأعراب، يسألهم عن ألفاظ وردت في القراَن أشكل عليه فهم معناها، وفي اعتماده في تفسهيره للقرآن على الشعر، أقول في كل هذ! وأمثاله دلالة واضحة على إن القرآن لم يننرل بلسان قريش، وانما نزل بلسان العرب، ولو كان قد نزل بلغة قريش، كان استشهاد العاماء بالشعر وبلغات العرب في تفسير القرآن شيثاً عبثاً زائداً،وكان عليهم تفسيره وتبيين معناه وتوضيحه بالاستشهاد بلغة قريش وحدها، لا بالشعر الجاهلي الذي هو شعر العرب، وبكلام العرب. ولو رجعنا إلى كنب المّفسير والسير، نجد انها قد فسرت الغامض من ألفاط القرآن بالشعر. فقد استعان قدماء المفسرين في تفسير لفظة "سجى" بالشعر، فأورد"الطبري" مثلاً ببتاً من شعر "أعشى بن ثعلبة" في تفسير معناها، هو قوله: فماذنبنا إن جاش بحر ابن عمّكـم وبحرك ساج ما يوارى الدعامصا
ويقول أحد الرجاز: يا حبذا القمراء والليل الساج وطرق مثل ملاء النسـاج
واستعان "ابن هشام" ببيت شعر لأمية بن الصلت، في تفسيرها، وهو قوله: إذ أتى موهنا وقد نام صحبى وسجا الليل بالظلام البهـيم
وفسر "الطبري" "عائلا" بقول الشاعر: فما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغتي متى يعيل
ونجد في تفسير الطبري، وفي كتب التفسير الأخرى أمثلة لا تعد ولا تحصى من هذا القبيل،فسر فيها العلماء غريب الفاظ القرآن وما صعب فهمه من الألفاظ بالشعر، حتى لا تكاد تقرأ صفحة أو جملة صفحات من كتب التفسير، إلا وتجد فيها شعراً، استشهد به في تفسير كلمة أشكل فهمها على العلماء، فاستعانوا بالشعر لتوضيح معناها.
ولم يقف الاستشهاد بالشعر الجاهلي على الناحية المذكورة وحدها، بل استعين به في تفسير وتعليل أمور أخرى وردت في القرآن أشكل فهمها على العلماء، من ذلك أوجه العربية وقواعد النحو، فلما استقرى علماء العربية الشعر الجاهلي ولغات العرب، واستنبطوا منها القواعد، وجدوا إن بعضها لا يتماشى مع ما جاء في كتاب الله، فعمدوا إلى التأويل والبحث عن مخرج يوجهون ما جاء فيه وفق قواعد النحو التي قرروها، ولا سيما المواضع التي اختلف علماء النحو فيها، وجاءوا فيها بآراء مختلفة، في التوفيق بين القراءات في القرآن مثلاً، أو في الأمور المعضلة منه بالشعر، فقد اختلف قراء مكة، وقراء البصرة، والكوفة والشاًم في الآية: " فلأ اقتحم العقبة، وما أدراك ما العفبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة". وأورد "الطبري" آراء علماء اللغة والنحو، ثم استشهد بقول طرفة بن العبد ة ألا ايها الزاجري احضر الوغـى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
وأورد "الطبري" بيتين من الشعر للنابغة في تأويل الاية: "وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف ترضى"، اختلف في تاويلها علماء النحو، وأورد بيتاً شاهداً على جواز وضع "افعل" في موضع "قعيل" الوارد في تفسير كلمةُ واردة في سورة "والليل إذا يغشى". وهناك مواضع كثيرة اختلف علماء النحو في تاويلها بالنسبة لمذاهبهم في أوجه النحو،فأستشهد كل عالم منهم بشاهد من الشعر، لتاييد رأيه في صحة ما ذهب إليه على زعمه، وقلما استشهد المفسرون والعلماء بشعر من شعراء قريش، أو بكلام من كلامهم، في تفسير القرآن، فلو كان كتاب الله قد نزل بلغتهم لكان من اللازم، ايجاد مخارجه بالاستشهاد بلغة قريش، لا بالشعر الجاهلي وبكلام القبائل الأخرى.
وأنا لا ابتعد عن الصواب، إذا ما قلت إن القرآن قد ساعد في جمع الشعر الجاهلي وفي فظه، بسبب اضطرار العلم على الاستعانة به، في دراسة كتاب الله وفهمه، وفي تثبيت قواعد اللغة التي وضعت لتحصين العربية، وجعلها في متناول يد منَ لا علم له بها، يستعين بها على النطق بها وفقاً لمنطق العرب،وربما حمل ذلك البعض على انتحال الشعر للاستشهاد به في ايجاد مخرج في تأويل آية أو تفسير كلمة وردت في كتاب الله، اذن فقول من يقول إن لغة القرآن هي لغة قريش، وإن لغة قريش هي العربية افصحى، وانها لغة الأدب عند الجاهليين، قول بعيد عن الصواب، ولا يمكن إن ياخذ به من له أي إلمام بتأريخ الجاهلية ووقوف على نصوص الجاهليين، أخذ من روايات آحاد، وجدت لها انتشاراً في الكتب القديمة ينقلها بعضها عن بعض من غير نص على اسم السند والمرجع، فصارت وكانها أخبار متواترة صحيحة أضاف المحدثون عليها عامل النفوذ السياسي والاقتصادي، والديني، لإكساء الفكرة القديمة ثوباً جديداً يناسب العصر الحديث، لتأخذ شكلاّ مقبولاَ. أما لو سألتتي عن لغة القرآن الكريم، فأقول إِن القرآن قد ضبطها وعينها، إذ سماها "لساناً عربياً"، واللسان العربي، هو لسان كل العرب، لا لسان بعض منهم، أو لسان خاصة منهم، هم قريش، ولو كان هذا السان، هو لسان قريش لنزل النص عليه في كتاب الله.
ان قريشاً قوم من مضر في رأي علماء الأنساب، فلسانهم على هذا لسان من ألسنة مضر. وقد ورد لا عن ابن مسعود: أنه كان يسُتحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر، وورد عن "الأصمعي" قوله: "جرم: فصحاء العرب. قيل: وكيف وهم اليمن ? فقال: لجوارهم مضر". فإذا كانت الفصاحة والعربية في مضر فحري إذن نزول القرآن بلغة مضر، لا بلسان قريش.
لقد تمسك علماء اللغة بقول بعضهم:" أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشاً أفصحُ العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، و ذلك إن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشاً قطُّان حرمه، وولاة بيته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج،ويتحاكمون إلى قريش، وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها، ورقة السنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب ماتخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب". كما تمسكوا بقولهم: " كانت قريش أجود العرب ا أنتقاداً للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعاً، وأبينها إبانة عما في النفس، والذين عنهم نقلت العربية وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ من غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه لم يؤخذ من حضري قط،.ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لامن لخم، ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة، وغسان، واياد، لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر.
مجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عمان، لأنهم كانوا بالبحرين، مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من.
بني حنيفة وسكان الامة، ولا من ثقيف وأهل، الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم، والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وآثبتها في كتاب فصيرها علماً وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب". وعلة ذَلك "ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل، ولو علم إن أهل المدينة باقون على فصاحتهم، ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر، وكذا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاص عادة الفصاحة وانتشارها، لوجب رفض لغتها، ترك تلقي ما يرد عنها".
"وقد شك بعضهم في هذا القول، لأن قريشاً كانت تسكن مكة،وماحولها وهم من أهل المدر، وقريش تجار، والتجارة تفسد اللغة، وكان هذا مما عيب على اليمن من ناحية لغتهم، لأن رسول الله نشأ في بني سعد بن بكر بن هوازن واسترضع فيهم، فتعلم الفصاحة منهم، وأن كثيراً من غلمان قريش - في عهد محمد صلى الله عليه وسلم، كان يرُسل إلى بني سعد لتعلم اللغة والفصاحة، ومن أجل هذا ظنوا أن هذا الراي موضوع.لإعلاء شأن قريش في اللغة، لأن رسول الله منهم.
والذي يظهر لي أن سلامة اللغة من دخول الدخيل فيها.أمر غير الفصاحة، وأن سلامة اللغة كانت في بني سعد خيراً مما هي في قريش لأنهم أهل وبر، وأبعد عن التجارة وعن الاختلاط بالناس، وعلى العكس من ذلك قريش فهم أهل مدر، وكثير منهم كان يرحل إلى الشام ومصر وغيرهما ويتاجر مع أهلها، ويسمع لغتهم، فهم من ناحية سلامة اللغة ينطبق عليهم ما انطبق على غيرهم ممن خالط الأمم الأخرى".
فما قالوه من إن الاتصال والاختلاط بالأعاجم، يولد الفساد في اللغة، يتناول قريشاً قبل غيرهم من العرب نظراً لما كان لهم في الجاهلية من اتصال ببلاد الشام واليمن، وبالعراق وبالحبشة، ولوجود جاليات أعجمية، وعدد كيير من للرقيق يينهم، وما وجود المعربات في لغتهم إلا حجة على تأثر لسانهم بالأعاجم واخذهم منهم، فهل يمكن أن يكون لسان قريش اذن اصفى ألسنة العرب وأنقاها مع وجود هذه الأمور التي أخذناها من ألسنة أهل الأخبار ?
والان فلسان من، هو هذا اللسان العربي لقد علمنا انه لم يكن لسان العرب الجنوبيين، ولا لسان قوم ثمود أو اللحيانيين،أو الصفويين، لأن نصوصهم تثبت انه قد كان لهم لسان آخر، يختلف عن هذا اللسان. وذكرنا انه ليس بلسان قريش، وانما قريش كغيرهم عرب من العرب، فهل هو لسان العدنانين ? وجوابنا: كلا، فقد علمنا إن العدنانية عصبية ظهرت في الإسلام، وانها مضربة سميبت عدنانية، وقلنا إن الثقات من الرواة وقفوا في ذكر النسب عند "عدنان" ورووا إن النبي نهى عن الانتساب إلى ما بعده، وقلنا إن اسمه لم يرد في شعر شاعر جاهلي، خلا ما نسب إلى الشاعر "العباس بن مرداس"، من قوله: وعك بن عدنان الذين تلعبوا=بمذحج حتى طردوا كل مطرد وما نسب إلى لبيد، وهو من المخضرمين، من قوله: فإن لم تبد من دون عدنان والدا وقلنا أشياء أخرى تثبت إن "العدنانية" لم تظهر إلا في الإسلام، وان اسم "عدنلن" لم يكن معروفاً في الجاهلية، وربما ظهر قبيل الإسلام، ولهذا فلا يعقل أن تكون العربية، عربية العدنانيين.
إذن، فهل هي عربية مضر ? فقد ورد في الأخبار أن "عمر بن الخطاب" لما أراد أن بكتب الامام، أقعد له نفراً من أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر"، ونجد أهل الأخبار يذكرون أنه قال: "لا يملين في مصاحفنا هذه الا غلمان قريش، أو غلمان ثقيف". وليس بين الخبرين تناقض، لأن قريشاً من مضر، فيمكن حمل الخبرين على أنهما قصدا شيئاً واحداً، هو أن القرآن نزل بلسان قريش، وقريش من مضر، ولكن مضر قبائل عديدة، سبق أن تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب، فيجب أن يكون نزول القرآن إذن بلغات هذه القبائل على هذا التفسير،وتكون العربية الفصحى اذن عربية "مضر"، أي عربية القبائل التي يرجع أهل الأخبار نسبها إلى "مضر"، أو حلف مضر بتعبير علمي أصح، وليست عربية جماعة معينة منها، مثل قريش.
ولكن أهل الأنساب، يجعلون لمضر أخاً هو "ربيعة"، وأخوين آخرين" هما "إياد" و "أنمار" على رأي من جعل "أنماراً" ابناً من أبناء نزار، فما هو حال لسانهم ? هل يعدّ لسانهم لسان مضر، أم كانت لهم ألسنة أخرى? أما النصوص الجاهلية، فلا جواب فيها على هذا السؤال، لأنها لا تعرف عن لسان هؤلاء الأخوة شيئاً، ولم يرد فيها أي شيء من أسمائهم وأسماء قبائلهم، ثم إن هذه القبائل لم تترك لنا كتابة نستنبط منها شيئاً عنهم، اذن فنحن لانستطيع إن نتحدث عنهم ولا عن لسانهم بأي شيء يستند الى دليل جاهلي مكتوب.وأما الموارد الإسلامية، فتجعل لسانهم لسان مضر، وكيف لا نجعل لسانهم مثل لسان مضر وهم اخوة من أب واحد. فإذا قلنا إن لسان مضر، هو اللسان العربي الفصيح، وجب علينا القول بأن لسان إخوته كان مثل لسانه، وإذن فاللسان العربي الفصيح، هو لسان هذه المجموعة المكونة من ولد "نزار" وهي من ولد اسماعيل في النهاية على رأي أهل النسب والأخبار.
اذن فنحن أمام مجموعتين من العربيات، مجموعة تكو نَ العربية الجنوبية، ومجموعة تكون العربية الشمالية، وهي عربية الاسماعيليين، و ذلك على مذهب اهل ا لأخبار.
أما أنا، فأسمي هذه العربية، عربية " ال"، من سمة "ال" أداة التعريف التي تنفرد وتتميز بها عن بقية المجموعات اللغوية العربية: مجموعة "ن" "إن"، أي المجموعة العربية الجنوبية، ومجموعة "ه" "ها"، اي المجموعة التي تعر ف الأشياء بهذه الأداة: "ه" "ها"، وتشمل اللحيانية، والثمودية، والصفوية. فكل منا استعمل"ال" أداة للتعريف، هو في نظري من الناطقين بهذه اللغة مهما كان نسبه وفي أي مكان كانت اقامته، ولذلك فالعربية الفصمس هي عربية مضر وعربية ربيعة، وعربية إياد وعربية أنمار وعربية كلب وكندة والأزد وكل المستعملين لهذه الأداة، حتى يظهر المستقبل نصوصاً جديدة، قد تاًتي بأداة أخرى لتكو"ن مجموعة جديدة من المجموعات اللغوية.
نعم إن عربية "ال" لهجات، لها خصاثص ومميزات، تحدثت عن بعضها في فصل "لغات العرب"، ولكن الفروق بينها لا تختلف عن الفروق التي نبسها بين لهجات مجموعة "ن"، أو بين لهجات مجموعة "ه"، لأنها فروق ليست كبيرة بحيث قرتفع إلى مستوى الاستقلال عن بقية اللهجات.
العربية الشمالية والعربية الجنوبية
وقد اصطلح المستشرقون على رجع اللغات التي ظهرت في جزيرة العرب إلى أصلين: أصل شمالي يقال للغات التي تعود إليه: اللغات أو اللغة العربية الشمالية، وأصل جنوبي يقال للغات التي ترجع إليه:اللغات أو اللغة العربية الجنوبية.
وهذا التقسيم التقليدي للهجات العرب انما خطر ببال المستشرقين من النظرية العربية الإسلامية التي ترجع العرب إلى أصلين: اصل عدناني، وأصل قحطاني. ونظراً إلى عثورهم على كتابات عربية جنوبية تختلف في لغتها وفي خطها عن العربية القرآنية، رسخ في أذهانهم هذا التقسيم،وقسموا لغات العرب إلى مجموعتين.. لسهولة البحث حين النظر في اللغات واللهجات.
وبين العربيتن تباين واختلاف، ما في ذلك من شك. من ذلك إن الفعل في العربيات الجنوبية وليد المصدر، وان اداة التعريف فيها تكون في أواخر الكلم لا في أوائلها كما هو الحال في عربيتنا، وان حرف "الميم" هو أداة التنكير في العرببات الجنويية، إلى فروق أخرى، تحدثت عنها في الجزء السابع من كتابي القديم "تاًريخ العرب في الإسلام".
وإذا كنا لا نزال في جهل عن حقيقة اسم "عدنان"، الذي لم نعثر عليه حتى اليوم في نص من نصوص المسند، فإن في وسعنا التحدث عن "قحطان"، الذي سبق أن أشرت إلى أن أهل الأنساب أخذوةَ من التوراة. فهو اسم مهما قيل فيه، فقد أخذ من مصدر قديم يعود إلى ما قبل الميلاد. ثم انه أورد في النص العربي الجنوبي الذي وسم ب "Jamm 635ا" الذي دونه قائد الجيش "ابكرب احرس"" من آل ابل"، "أبكرب أحرس بن ابل"، أو "أبكرب أحرس" من ذلك لمناسبة عودته سالماً من حرب قاسها بأمر ملكه وسيده الملك "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان، اين الملك "علهان نهفان" ملك سباً وذو ريدان. وقد شمل القتال أرضاً واسعة، هي "أشعران"، أرض الأشعريين و "بحر"، والقبائل القاطنة حول مدينة "نجران"، ثم الأحباش الذين كانوا يحاربون معهم ويؤازرونهم في قتالهم ضد السبثيين، ثم سكان مدينة "قريتم" " قرية" الذين كانوا من "كاهل" "كهلم"، ثم في الصدامين اللذين وقعا مع "ربعت" "ربيعة" "ذ آل ئور"، "ربيعة" من "ذو آ ل ثور"، ملك "كدت" "كندة" وقحطان "قحطن"، وكذلك ضد "أبعل" أي سادة مدينة "قريتم.
ويفهم من النص إن "ربعت ذا الثورم"، هو اسم رجل، اسمه "ربيعة" من "آل ثور"، وكان كما يقول النص ملكأ على "كندة" و "قحطان". ويذكر أهل الأخبار، إن "كندة" اسم قبيلة وأبو حي من اليمن، وهم من نسل "ئور بن مرة بن أدد بن زيد"، وقيل "بنو مرتع بن ثور" أو "كندة بن ئور"، وقيل إن ثوراً هو مرتع، وكندة هو أبوه، إلى غير ذلك من آراء، تريك إن شيئاً من الواقع كان عند أهل الأخبار عن هذه القبيلة، في انهم لم يكونوا يعرفون شيثاً واضحاً عنه. وترى من هذا النص إن "آل ثور" اسم أسرة كانت تحكم قبيلتي "كدت" "كندة" و "قحطان"، وان رئيسها إذ ذاك هو "ربيعة" الذي لم يرد اسم والده. وقد جعل أهل الأخبار من "آل ثور" رجلاً جعلوه أباً لقبيلة كندة، ثم حاروا في نسبه. ويتبين من هذا النص إن "قحطان" كانوا في هذا العهد تحت حكم "ربيعة" الذي هو من "آل ثور".
وقد جعل "جامة" حكم "شعر أوتر" الذي سبق أن تحدثت عنه بتفصيل في الجزء الثاني من هذا الكتاب في حوالى السنة "65" قبل الميلاد، وقد بنيت آراء بقية الباحثين في وقت حكمه، فنكون بذلك قد وقفنا على ام قحطان وكندهً في نص يعود عهده إلى حوالى القرن الأول قبل الميلاد. وقد كانتا مثل أهل "قرية" وأهل "نجران" في حرب مع السبئيين. وهذا النص هو أقدم نص عربي جنوبي وصل فيه اسم "قحطان" و "كدت" "كندة" الينا حتى الآن.
ونحن لا نستطيع أن نتحدث عن لهجة "قحطان" و "كدت" "كندة"، و ذلك بسبب عدم وصول كتابات منهما الينا، ولكننا لا نستبعد احتمال كون لغتهما من مجموعة اللغات العربية الجنوبية، لأن مواطنهماكانت في العربية الجنوبية في هذا العهد، أما بطون "كندة" التي نزلت "نجداً" والتي ذهب بعضها إلى العراق، فنحن لا ندري إذا كانت لهجتهما قد تغيرت، فصارت عربية شمالية، بدليل نظم "امرئ القيس" الكندي وبقية شعراء الكندة الشعر بهذه العربية، أم أنها -كانت تتكلم بالعربيتين، إلا أن شعراءها كانوا ينظمون الشعر بالعربية المعهودة مجاراة للقبائل الشمالية التي كانت تجاورها والتي احتكت بها، وقد تكون هذه البطون قد هاجرت من العربية الجنوبية قبل الميلاد، فاًقامت بنجد، وتعربت من ثم بالعربية الشمالية، وقد تكون "كدت" قبيلة عربية جنوبية غير "كندة"، بقيت في اليمن إلى الإسلام، إذ ورد اسمها في نص "أبرهة" أيضاً، ونظراً الى التشابه فيما بين "كدت" "كدة" و "كندة" ربط النسابون بين الإثنين، وجعلوا نسب كندة "كدت". فتكون "كندة" بذلك من القبائل العربية الشمالية، و "كدت" من القبائل العربية الجنوبية، أقول هذه الآراء على سبيل الاحتمالات لأني من الأشخاص الذين يكرهون البت في الأمور العلمية لمجرد حدس أو ظن، ومن غير دليل علمي مقنع. والبت في مثل هذه الأمور لا يكون مقبولاً عندي إلا إذا استند على نص جاهلي، أو بدليل معقول مقبول، وحيث أننا لا نملكه الآن، فأترك هذه الاحتمالات إلى المستقبل عله يتمكن من العثور على نصوص جاهلية تكشف القناع عنها، وتأتي الينا بالجواب الواضح الصحيح.
ولكننا نجد في الوقت نفسه - وكما سبق إن ذكرت -إن هنالك لهجات عربية مثل الثمودية والصفوية، تستعمل "الهاء" أداة تعريف بدلاً من الألف واللام في عربيتنا، فيقال "هملك"، و "هدار" بمعنى "الملك" و "الدار". و ذلك كما في العبرانية، إذ تستعمل الهاء فيها أداة للتعريف، ويقوم "ذ" فيها مقام الاسم الموصول كما عند طيء في قديم الزمان، إلى خصائص أخرى تجعلها مجموعة أخرى لا هي عربية جنوبية ولا هي عربية شمالية.
كما تبين من دراسة بعض الكتابات الجاهلية، مثل الكتابات التي عثرعليها في "القرية" وفي جبل "عبيد"، وفي شمال خشم كمدة إن لها خصائص انفردت بها عن المجموعتين، وقد وردت فيها أسماء كثيرة لم ترد في الكتابات العربية الجنوبية وفي عربية "ه"، مما يجعلها أهلاً لأن تكون موضع دراسة خاصة في المستقبل، لعلها تكون مجموعة لغوية جديدة قائمة بذاتها، أو حلقة مفقودة بين اللغات الجاهلية المندثرة.
ووجود مثل هذا التباين الذي اكتشف من الكتابات، هو الذي دفعني إلى التفكير في اعادة النظر في تقسيم اللغات العربية إلى مجموعتين،وعلى إلتفكيربتقسيمها إلى مجموعات ذات خصائص لغوية متشابهة،تستنبط بالدرجة الأولى من أداة التعريف التي هي المميز الوحيد الذي يميز بين لهجات الجاهليين.
ونلاحظ إن عربية ال "ن" "إن" مصطلحات غير موجودة في العربية الفصيحة السامية الأخرى، صعب على العلم إدراكها بسبب ذلك، فاكتفوا باستخلاص معناها من وضعها في الجمل، و ذلك بصورة تقريبية، كما نلاحظ إن الأسماء فيها، تختلف عن الأسماء المعروفة عند العرب الشماليين، إن الأسماء الواردة في كتابات المسند المتلخرة، تختلف بعض الاختلاف عن الأسماء الواردة في النصوص القديمة، فقد تغلبت لبساطة على الأسماء المتاًخرة، حتى صارت تشاكل أسماء العرب الشماليين المألوفة عند ظهور الإسلام، وقد لاحظ "الهمداني" هذه الظاهرة، فعبر عنها بفوله: "فربما نفل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وكانت أسماء فيها ثقل فخففتها العرب وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناس مخففة مبدلة، فإذا سمعوا منها الاسم الموفر، خال الجاهل انه غير ذلك الاسم وهو هو. وخير ما يمكن ان نفعله في نظري لمعرفة المتكلمين بالعربية الفصحى، هوان نقوم بالبحث عن الخصائص النحوية والصرفية واللفظية التي يّميزها عن بقية العربيات، فإذا ضبطناها استطعنا تعيين من كان يتكلم بها، لما كنا لا نملك نصرصاًجاهلية مدونة بها، صار من الصعب علينا التوصل إلى نتائج علمية ايجابية مرضية، تحدد القبائل والأماكن التي تكلمت بها تحديداً صحيحاً مضبوطاً، غير ان المثل العريي يقول: ما لا يدرك كله لا يترك جله، فإذا عسر علينا الحصول على نتائح كلية مقنعة، فلا باس من الرضا بالحصول على جزء أو بعض من نتائج قد تقدم لنا معرفة وعلماً - ونحن إذا سرنا وفق حكمة هذا المثل، ودرسنا خصائص هذه العريية، تجد أن من أولى ميزاتها استعمال "ال" أداة للتعريف، تدخلها على أول الأسماء النكرة، فتحليها إلى أسماء معرفة، بينما تجد العرييات الأخرى التي عثر على نصوص جاهلية مدوّ نة بها تستعمل أدوات تعريف أخرى، ولما كنا نعرف المواضع التي عثر فيها على هذه النصوص، صار في إمكاننا حصرها، وبذلك نستطيع التكهن عن المواضع التي كان يتكلم أهلها بالعربية التي تستعمل "ال" اداة التعريف، أي هذه العربية الفصحى. ولما كاتت العربية الجنويية قد استعملت ال "ن" "إن" أداة للتعريف، تلحقها في أواخر الاسماء المنكرة، وحيث أننا لم نتمكن حتى الان من الحصول على نص في هذه الأرضين استعمل "ال" أداة للتعريف فبأستطاعتنا القول: إن سكانها لم يدوّنوا بالعربية القرآنية، بل كان تدوينهم وكلامهم بالعربية الجنوبية التي كانت تضم جملة لهجات. ولما كان آخر نص عثر عليه مدوّ ن بالمسند، يعود تأريخه إلى سنة "554" للميلاد، صار في إمكاننا القول بأن العربية الجنوبية كانت وبقيت لساناً العرب الجنوبيين إلى ظهور الإسلام.
ونظراً لعثور الباحثين على كتابات مدوّ نة بالمسند، في "القرية" أو "قرية الفأو" وفي مواضع اخرى من "وادي الفاو"، وفي مواضع من "وادي الدواسر"، وفي مواضع تقع جنوبي خشم العرض، فإن في استطاعتنا القول إن أهل هذه الأرضين كانوا يكتبون بالمسند، ويتكلمون بلغات عربية جنوبية، اختلفت بعض الختلاف عن العربيات الجنوبية المستعملة في العربية الجنوبية. فهي إذن من المناطق التي لم يتكلم أهلها بالعربية القرآنية. ونظراً لما نجده من وجود بعض الاختلاف بين عربية هذه المنطقة وعربية العربية الجنوبية، فإننا نستطيع القول بانها تكون مرحلة وسطى بين العربيات الجنوببة والعربية القرآنية، وحيث أن كثيراً من هذه الكتابات لم يكتب لها النشر، ولوجود كتابات أخرى لم يتمكن الباحثون من نقشها أو تصويرها، فمن المحتمل في رأيي مجيء يوم قد يعز فيه على لهجات جديدة، قد تزيح الستار عن أسرار اللغات عند الجاهليين، وقد تكون مجموعات لغوية جديدة من مجموعات اللغات العربية عند أهل الجاهلية.
وقد عثر في العربية الشرقية على كتابات جاهلية مدوّ نة بالمسند هي وإن كانت قليلة، إلا أنها ذات أهمية كييرة بالنسبة للباحث في تأريخ تطور الكتابة عند العرب، وللباحث في اللهجات العربية الجاهلية. فقد ثبت منها أن أصحاب هذه الكتابات كانوا يتكلمون بلهجات غير بعيدة عن اللهجة العربية القرآنية، وان كتبوا بالمسند. ويلاحظ من النص الذي هو شاهد قبر رجل لسمه "ايليا بن عين ابن شصر أنه استعمل لفظة "ذ" بمعنى "من" وناًسف لأن هذه النصوص القليلة قصيرة، وفي أمور شخصية، قد خلت من أداة التعريف، لذلك لا نستطيع تثبيت لهجتها بصورة أكيدة.
واستناداً إلى النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية، التي استعملت ال "ه" "ها" أداة للتعريف، نستطيع أن نقول إن أصحاب هذه اللهجات يكوّ نون مجموعة من اللغات قائمة بذاتها، تختلف عن العربية الجنوبية وعن العربية القرآنية. وهي تشارك العبرانية في استعمال الأداة المذكورة في التعريف،ولكنها تقارب عربية "ال" في استعمال المفردات.
وأما النبط، وهم عرب من العرب الشماليين، فقد استعملوا أداتين للتعريف، أداة هي حرف الألف المدود اللاحق بآخر الاسم، مثل "ملكا" بمعنى "الملك"، و "مسجدا"، بمعنى "المسجد"، وأداة أخرى، هي أداة "ال" التي نستعملها في عربيتنا. وفي استعمال النبط لأداتين للتمريف، دلالة على تأثرهم بالآراميين وبالعرب المتكلمين باللغة العربية القرآنية، أو العرب المستعملينء لأداة التعريف "ال" بتعبير أصح. والنبطية نفسها، لغة وسط، جمعت بين الآرامية والعربية، فبينما نجدها تستعمل الآرامية، إذا بها تخلط معها ألفاظاً وتراكيب عربية فصيحة. و ذلك بسبب اختلاط النبط بالاراميين وتأثرهم بثقافتهم، واحتكاكهم بالأعراب،وكونهم عرباً في الأصل. ومعنى هذا إن العرب الذين كانوا بجاورون النبط، وهم عرب البوادي كانوا من المتكلمين باًداة التعريف "ال"، سمة العر بية االفصيحة..
وأما النصوص المدونة بنبطية مشوبة بمصطلحات عربية، وأهمها نص "حرّ إن" التي يعود تاريخه إلى سنة "328" للميلاد، فإنه يفصح عن قوم عرب أو نبط لاستعمالهم "ال" أداة للتعريف في الألفاظ: "التج" يمعنى "التاج"، وفي "الأسدين"، بمعنى "أسد"، وفي "الشعوب". وأرجح كونهم عرباً، لاستعمالهم جملاّ عربية فصيحة بينة في هذا النص، مثل: "ملك العرب"، و "مدينة شمر"، و "نزل بنيه الشعوب"، و "فلم يبلغ ملك مبلغه"، فهذه جمل عربية، أصحابها عرب، وإن كتبوا بالنبطية وقد تفصح عن عربية أهل الحيرة في ذلك الوقت، لأن الملك المتوفى، وهو "امرؤ القيس"، هو من ملوك الحيرة، والنص المكتوب، هو شاخص قبره، فمن المعقول تصور أن الكتابة كتبت بلغة أهل الحيرة في ذلك العهد.
ويظهر من استعمال كتابة "زيد" التي يعود عهدها إلى،سنة. "512" للميلاد" لجملة" بسم الإلهَ"، أن صاحبها وان كتب بالنبطية، غير أنه كان من النبط المستعملين د "ال" أداة للتعريف. وأما الكتابة المعروفة بكتابة "حران"، فإنها أقرب هذه النصوص إلى العربية القرآنية. كما يتبين ذلك من نصها العربي، وهو: انا شرحيل بر ظلمو، بنيت ذا المرطول سنت 463، بعد مفسد خيبر بعم.
أي: "انا شرحيل" "شراحيل" بن ظلم، بنيت هذا المرطول سنة 463،
بعد خراب "غزو" خبير بعام. ويفابل تاريخ هذا النص سنة "568"للميلاد.
وعربية هذا النص، عربية واضحة، ليس فيها ما يحاسب عليه بالقياس إلى عربيتنا، إلا جملة "بر ظلمو" المكتوبة على وفق القواعد النبطية. ويلاحظ أنها استعملت "ال" أداة للتعريف، ولاحظت قواعد النحو في جملة: "بنيت ذا المرطول" المستعملة في عربيتأ، مما يدلا على إن صاحبها كان يراعي الإعراب في لسانه " وأنه من قوم كانوا يراعون قواعد الإعزاب في كلامهم.
اذن فنحن أمام قوم عرب، نبط، لسانهم "عربي من مجموعة "ال"، أي من العريية المستخدمة ل "ال" أداة للتعربف، منازلهم أطراف بلاد الشام، وشواطىء الفرات العربية. واذا تذكرنا أن السريان كانوا على الحيرة "حبرتا دي طيابة"، وأنهم كانوا يطلقون لفظة "طيابة" في مرادف "عرب"، عرفنا إذن، أن أهلها كانوا من العرب، ولما كان نص "النمارة" قد كتب بنبطية متأثرة بعربية "ال"، نستطيع أن نقول إن عرب الحيرة كانوا من للمتكلمين بهذه العربية.
يتبين لنا مما تقدم، إن العرب الذين كانوا يفطنون الحيرة والأنبار، او عرب العراق بتعبير أصح، ثم عرب بلاد الشام، وعرب البوادي، جزيرة العرب باستثناء للواضع التي أمدتنا بالكتابات، كانوا يتكلمون بعربية "ال" اي العربية التي نزل بها القرآن الكريم، ودوَن بها الشعر الجاهلي. وهي عربية اساسية، جمعت شمل لغات ولهجات، على نحو ما وجدنا في العربية الجنوبية من اشتمالها على جملة لهجات، وما وجدناه في اللهجة العربية الشمالية الغربية، المستعملة ل "ه" "ها" اداة للتعريف.
فأهل نجد وبادية الشام، وعرب العراق وبلاد الشام والحجاز، كانوا هم المتكلمن بهذه العربية التي تعرّف النكرة باًداة التعريف "ال،، و ذلك قبل الإسلام، أما المواطن الأخرى، فلها لهجاتها الخاصة، وبينها لهجات تاثرت بخصائص مجموعة "ال". وقد غلب الإسلام هذه العربيةّ على اللهجات الأخرى، فصارت الأكثرية تتكلم بها، إلا في المواضع المنعزلة، التي بقيت شبه مستقلة، حيث احتفظت ببعض خصائص لهجاتها القديمة، كالذي نراه اليوم في مهرة وفي الشحر وفي مواضع أخرى من العربية الجنوبية التي تتكلم بلهجات لا نفهمها عنهم هي من بقايا ا اللهجات الجاهلية.
وللوقوف على خصائص اللهجات المكونة لعربية ال "ن" "إن"، أرى إن من الضروري وجوب ارسال بعثات علمية إلى العربية الجنويية لدراسة اللهجات المحلية، هي عديدة وتسجيلها على الأشرطة من افواه المتكلمين بها، ولدراسهّ قواعدها النحوية والصرفية وأصول نظم الشعر عند المتكلمين بها، وتفيدنا دراسة نظم الشعر - خاصة - عند العرب الجنوييين الحاليين فائدة كبيرة في الوقوف على أسس نظم الشعر عندهم ايام الجاهلية، وعلى الفروق الكائنة بين نظمهم قبل الإسلام، ونظم بقية العرب الجاهلين. ولا بد أيضاً من مقارنة نظمهم في الوقت الحاضر، بنظم الأعراب في المملكة العربية السعودية، للوقوف على الفروق بين النظمين، وستكون هذه الفروق هادياً لنا في الوقوف على الفروق التي كانت بين النظم عند شعراء الجاهلية في بلاد الشام والعراق ونجد والبحرين واليمامة والحجاز والعربية الجنوبية.
وسوف تساعدنا دراسة لهجات المملكة الأردنية الهاشمية، المملكة التي كانت تعرف ب "ادوم" في التأريخ، وكذلك لهجات أعالي الحجاز في الوقت ا الحاضر، فائدة كبيرة في الوقوف على خصائص لهجة عربية ال "ه" "ها"، وفي استنباط قواعدها منها. فلا بد وأن تكون في اللهجة "البلقاوية"، وفي اللهجات المحلية الأخرى بقايا من تلك اللغة، مندجة مع عربية "ال" التي تغلبت على لسانهم منذ الفتح الإسلامي الذي بدأ لتلك البلاد عام "633" للميلاد، ولا بد من دراسة أصول نظمهم في لغاتهم الدارجة هذه للأهتداء بها على أصول النظم عندهم قبل الإسلام، وعلى المؤثرات التي أثرت على نظمهم في الوقت الحاضر، مع دراسة خصائص نظمهم وما يمتاز به عن أصول النظم عند بقية العرب في الوقت الحاضر أيضاً.
ولما كنا لا نملك نصوصاً جاهلية بعربية "ال" غير ما ذكرته من النصوص النبطية المشوبة بعربية "ال". ولما كانت هذه العربية ذات لهجات ولغات،عرفت اسماؤها وضبطت في الإسلام،وبينها فروق ومميزات، كما بينت ذلك في الملاحظات البسيطة السطحية التي جمعها عنها علماء العربية،ولما كنا لا نملك عن هذه اللهجات غير تلك الملاحظات التي أوجزتها في فصل: لغات العرب، فإن من اللازم ضم درّاسة ما سيقوم به علماؤنا في المستقبل عن اللهجات الحالية في مختلف أنحاء جزيرة العرب إلى دراسة العلماء المتقدمين، لتكمل احداهما الأخرى، وستتولد منهما ولا شك دراسة علمية قيمة، تفيدنا في الإهتداء إلى معرفة خصائص اللغات العربية قبل الإسلام.
لقد توصلت من دراسة ملاحظات أولئك العلماء، إلى إن هذه اللهجات لم تكن تختلف في كيفية النطق بالحروف، وفي القواعد الصرفية فقط، لكنها كانت تحتلف فيما بينها في القواعد النحوية أيضاً، مثل حذف الياء من الفعل المعتل بها إذا أكد بنون في لغة طيء وفزارة، ومثل "ذو" الطائية التي يلازم اعرابها بالواو في كل موضع، ومثل إعراب المثنى بالألف مطلقاً، رفعاً ونصباًوجراً، في لغة بلحرث، وخثعم، وكنانة، ومثل "هلَمَّ" في لغة أهل الحجاز التي تلزم حالة واحدة على اختلاف ما تسند إليه مفرداً أو مثنى أو جمعاً، مذكراً أو مؤنثاً، وتلزم في كل ذلك الفتح، بينما تتغير بحسب الإسناد في لغة نجد من بني تميم"، إلى غير ذلك من أمور تحدثت عنها في فصل: لغات العرب، وهي لو جمعت في مكان واحد ودرست بعناية ودقة، دلت على أن الفروق بين هذه اللهجات في القواعد هي اًعمق بكثير مما يظن.
ومع وجود هذه الاختلافات والفررق، كان بإمكان المتكلمين بهذه اللغات الثانوية المتفرعة من المجموعات اللغوية، التفاهم فيما بينهم، كما يتفاهم العراقيون والمصريون وأهل المغرب بعضهم مع بعض مع تكلمهم بألسنة ذات لهجات مختلفة. فكان في استطاعة أهل نجد التفاهم مع عرب الحيرة، وفي استطاعة أهل مكة التفاهم مع أهل الحيرة، والعكس بالعكس، مع وجود صعوبات بالطبع في فهم النطق بالهجة، وفي إدراك مخارج بعض الحروف واختلاف القبائل في النطق بها، ووجود كلمات غريبة في لغة، قد لا توجد في لغة أخرى. إلا إن هذه الفروق لم تكن شديدة عميقة، بحيث جعلت فهم العرب بعضهم بعضاً أمراً صعباً، أو صيرت اللغات وكأنها لغات أعجمية، لا يفهم المتخاطبون بها احدهم الاخر. ودليل ذلك اننا نجد الوفود التي وفدت إلى المدينة، لمبايعة الرسول على الإسلام، تكلم الرسول وتتفاهم معه ومع أصحابه، وتخطب أو تنشد الشعر أمامه، وهو يفهمهم، وهم يفهمونه من دون صعوبة ولا كلفة كبيرة، لأن أمر هذه اللغات لم يكن على نحو ما تصوره بعضهم من التباين والاختلاف، والبعد بين الألسنة. اللهم إلا ما كان من أمر أهل العربية الجنوبية، فقد كانوا يرطنون، بدليل ما جاء في كتاب رسول الله إلى "عياش بن أبي ربيعة المخزومي" حين أرسله برسالة إلى أبناء "عبد كلال" الحميري، فقد قال له فيها: "وهم قارئون عليك، فإذا رطنوا، فقل: ترجموا". وربما كان منهم من لا يفقه عربية المسلمين، الناطقين بعربية "ال"، فكان يترجم لهم بعض من لهم علم وفقه بالعربيات الجنوبية وبعربية القرآن.
وبدليل ثانٍ، هو أن المسلمين لما حاصروا القصر الأبيض من قصور الحيرة، سمعوا أهل القصر، يصرخون: "عليكم الخزازيف" ج "فقال ضرار: تنحوا لا ينالكم الرمي، حتى ننظر في الذي هتفوا به، فلم يلبث أن امتلا رأسُ القصر من رجال متعلقي المخالي، يرمون المسلمين بالخزازيف - وهي المداحي من الخزف"، فلم يفهم المسلمون معنى "الخزازيف" في بادىء الأمر لكنهم عرفوا أنهم يعنون شيئاً له صلة بالدفاع عن القصر، ثم عرفوه، بعد نزول سيل من "الخزف" عليهم. وكان أهل "الحيرة" ينطقون بالعربية، فلما قال خالد بن الوليد" لأصحاب عدي بن العيادي: "ويحكم ! ما أنتم ! أعرب ?
فماتنقمون من العرب اوعجم ? فما تنقمون من الانصاف والعدل فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، قال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان الا بالعربية، فقال: صدقت"، وقد كانت لهم مدلرس تدرس العربية، كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر، ومنهم أخذ أهل مكة كتابتهم، كما يذكر ذلك أهل الأخبار. فنحن نجد أن العرب كانوا يتكلمون على مقتضى سجيتهم التي فطروا عليها، ومع ذلك فقد كانوا يتفاهمون ويدركون المعاني، ولو كانوا من قبائل متباعدة، ومن اماكن متنائيهَ. "قال ابن هشام في شرح الشواهد: كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن ههنا كثرت الرواياته في بعض الأبيات".
ولما حاصر "خالد ابن الوليد" الأنبار، "تصايح عرب الأنبار يومئذ من السور، وقالوا: صبح الأنبارشر". ولما اطمأن بالأنبار "وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعريية ويتعلمونها، فسئلهم: ما أنتم ? فقالوا: قوم من العرب. نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا". فاهل الأنبار مثل أهل الحيرة عرب، كانوا يتكلمون العربيه، وهي عربية فهمها خالدُ ومن كان معه من رجال قبائل ولو كانت عربيتهم عربية قريش، لما سكتوا من النص عليها،لما في ذلك من تقرب إلى قريش. قال الأزهري: "وجعل الله، عز- وجل القرآن المنزل على النبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عريياً، لأنه نسبه إلى العرب الذين أنزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها العربية، وجعل النبي، صلى الله عليه وسلم عربياً، لأنه من صريح العرب، ولو أن قوماً من الأعراب الذين يسكنون البادية حضروا القرى العربية وغيرها، وتناموا معهم فيها، سموا عرباً ولم يسموَا أعرابا". "والعربية هي هذه اللغة". "والعرب هذا الجيل" أما أو سألتنىِ رأيي في هذه الخطب التي دوّ نها أهل السير والتواريخ والأخبار للوفود التي وفدت على الرسول لمبايعته، أو عن حديث الصحابة معه قبل الهجرة أو بعدها، فأقول لك بكل صراحة، إن هذه النصوص:.نصوص كلام الرسول مع الصحابة، ونصوص كلام الصحابة معه، هي نصوص وردت الينا بأفواه الرواة، كلامها كلامهم، وعباراتها عباراتهم، أما المعاني، اي المضامين، فهي التي أخذت بالرواية، وفي بعضها زيادات أو نقصان، ظهرت بسبب طبيعة الاعتماد على الذاكرة لا الكتابة والتدوين. فنحن اذن أمام نصوص، لا يمكن، أن نقول انها أصيلة، لأنها لم تؤخذ من محاضر جلسات، ولا من كتاّب كانوا يكتبون كل ما كان يقع ويحدث، وينقلون الكلام نقلاً أميناً صادقاً، كما ينقل الشريط المسجل للاصوات، أصوات المتكلمين، وانما رويت بعد الحادث بأمد، قد يكون قصيراً وقد يكون طويلاً، وبعضها أحاديث شخصية، ليست مهمهَ، وقد تكون من الموضوعات، ولا غرابة في ذلك فكتب التراجم والحديث والسير، مليئة بتكذيب كثير من هذه الأمور، التي افتعلت، إما من الرواة أنفسهم، وإما من آلهم، وإما عصبية، أو عن مذهب وعقيدة.
افصح العرب
وموضوع أفصح العرب موضوع لا أرى انه قد كان لأهل الجاهلية علم به، إذ كان لكل قوم منهم لسان يتعزون به ويتعصبون له، يرون انه لسانهم العزيز. ولا يكون فصاحة إلا إذا كان هنالك لسان أدب رفيع، يكونه رجال الأدب من ناثرين وشعراء، يكون لساناً مقرراً محترماً يتبعه الجميع، تعقده وحدة شاملة وشعور بوجود أواصر دم وتأريخ واحد وثقافة واحدة، وقلم يكتب به، فإذا اجتمعت كل هذه وامثالها وأضيفت إليها وجود حكومة كييرة تتخذ ذلك اللسان لساناً عاماً لها، ثم تقوم بتشجيع الأدباء والعلماء وتحسن اليهم، صار ذلك اللسان اللسان المحظوظ المأثور المقدم على سائر الألسنة، وصارت اللهجات الأخرى، آلسنة ثانوية بعده، تعد دون اللغة المذكورة.في الرتبة والمنزلة والفصاحة، كما حدث في الإسلام، حيث اعتبر اللسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم،لسان الإسلام والمسلمين، لسان الدين والدولة، به تكتب دواوين الدولة، وبه يؤلف العلماء ويكتب الأدباء، وينظم الشعراء، وبموجب قواعد المقررة يتعلم اللسان كيفية الكتابة والنطق،من خالفها أو أخذ بألفاظ خارجة على قواعد نحوها وصرفها عدّ عامياً جلفاً من سواد الناس وسوقتهم.
ومسار الفصاحة في نظر علماء العربية كثرة استعمال العرب للكلمة، سئل أبا عمرو بن العلاء": "كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة ? فقال: أحملُ على الأكثر، وأسمي ما خالفتي لغات. فما أكثرت العرب من استعماله من غيره، فهو فصيح. واما الفصاحة في المفرد: فخلوصه من تنافر الحروف، ومن الغرابة، ومن مخالفة القياس اللغوي. والتنافر ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسُر النطق بها، مثل "الهعخ" و "مستشزر". والغرابة أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها، فيحتاج في معرفتها إلى أن ينقر عنها في كتب اللغة، أو أن تكون قليلة الاستعمال، وأضاف بعضهم إلى ما تقدم: الا تكون الكلمة مبتذلة وآراء أخرى لا مجال للبحث عنها في هذا الكتاب، لعدم وجود مكان في حدوده.
وقد وضعت هذه الحدود في الإسلام، أما ما قبله فلا علم لنا برأي الجاهلين في الفصاحة وفي الفصيح، ولكننا نستطيع بالقياس إلى ما عندنا من كتابات، أن نقول: إن العرب الجنوبيين كانوا يدونون بلهجاتهم المعروفة، وهي: المعينية والسبئية والحضرمية والقتبانية، وفقاً لقواعد لهجاتهم وبالفاظهم، فهي بالنسبة لهم لغاتهم الفصيحة، لغة التدوين والكلام،ولما قضى السبئيون على استقلال حكومات معين وحضرموت وقتبان وأوسان، وتكونت منها حكومة واحدة، ضعفت الخصائص اللغوية التي ميزت لهجات هذه القبائل بعضها عن بعض، واندمجت بلغة السبئيين التي صارت لغة الحكومة، وصار العرب الجنوبيون يكتبون بها إلى ظهور الإسلام. فهذه اللغة، هي اللغة الفصحى عندهم وقلمها هو المسند.
أما بالنسبة إلى العرب الآخرين، فالظاهر إن عربية "ال"، كانت قد تغلبت عند ظهور الإسلام على العربيات الأخرى، وفي ضمنها عربية ال "ه" "ها"، و ذلك بقوة وضخامة القبائل المتكلمة بها، وباستعمال حكومة الحيرة وحكومة الغساسنة وحكومة كندة لها، مما حمل الخطباء والشعراء والكهنة والسحرة على النطق بها، وبلهجاتهم الخاصة بهم، وهي لهجات كانت متقاربة لكنها تختلف فيما بينها في استعمال بعض الألفاظ وفي كيفية النطق بالكلم، أي في مخارج الحروف، وفي خصائص نحوية وصرفية، إلا أن هذه الفروق والاختلافات لم تخرجها مع ذلك عن وحدة اللغة، وهي كلها في نظر أصحابها عربية فصيحة، وقد كانت تتقارب باحتكاك القبائل بعضها ببعض، وبتوسع نفوذ ملوك الحيرة في جزيرة العرب، وبتنقل الشعراء والخطباء بين القبائل، وبتاثر العرب بالأحداث السياسية العالمية، وبظهور النزعة إلى تكوين حكومات مدنية تحل محلّ الحكومات القبلية الضيقة، وبتوغل المبشرين والمثقفين العرب بين القبائل، يدعونهم إلى النصرانية التي كانت قد جاءت من الحيرة، بنصرانية شرقية عربية، متأثرة بالإرمية، لكنها اضطرت إلى التعرب بالتدريج، وبقي الحال على هذا المنوال إلى أن ظهرت كلمة الإسلام بلغة "ال"، فصارت بنزول الوحي بها أفصح ألسنة العرب، وصار قلمها قلم الإسلام المقرر. وبذلك نبذ المسند، وماتت الكتابة به منذ ذلك الحين،ومات التراث العربي الجنوبي بموت لسانه وقلمه. - وبانتصار الإسلام على الشرك، والإسلام دين ودولة، دعوته إلى "أمة"" المواطنون فيها اخوة، وله لسان، هو اللسان الذي نزل به القرآن، صار هذا اللسان أفصح الألسنة منذ ذلك الحين، بل لسان أهل الجنة، وصار من الواجب على المسلمين تثبيت قواعده ودراسته لفهم كتاب الله المنزل به، خدمة لدين الله الذي شرف هذا اللسان باتخاذه لساناً له. ورعاية قلمه التي ثبت كتاب الله، وقام العلماء بضبط قوإعده وجمع مفرداته، والبحث في كل ما يتعلق باللسان من علم. قام بهذه المهمة علماء المصرين: البصرة والكوفة، وكان لا بد لهم من رسم حدود، ومن وضع قواعد في كيفية تثبيت العربية، وفيمن يصح اخذ هذه القواعد من ألسنتهم، إلى غير ذلك من أمور، اتبعوها في جمع علوم العربية وحينُ شرع بوضع قواعد العربية، كان الإسلام قد حطم حدود جزيرة العرب، وتخطاها، قد غلب الساسانيين، وأبعد الروم عن بلاد الشام ومصر وما وراءها، وقد جمع العرب بالأعاجم، والعجم بالعرب،وشبك ألسنة الأعاجم بلسان العرب، ولسان العرب بألسنة العجم، واضطر العلماء إلى وضع قواعد فيمن يجب أخذ لسان العرب منهم من العرب، وفيمن لا يجوز الأخذ منهم، بسببّ اتصالهم بالعجم، وما طرأ على لسان بعضهم من خبث نتيجة لهذا الاتصال. فكانت تعاليمهم ألا تؤخذ العربية إلا من عرب بقوا بمعزل عن الأعاجم، فلا "يؤخذ عن حضري قط،ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام، لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزدُ عمان، لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمن عندهم، ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدآوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم، والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وأثبتها في كتاب فصيرها علماً وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب وذكر ان قريشاً كانوا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وأجود العرب انتقاداً للافصح من الألفاظ، أما الذين نقل عنهم اللسان العربي من "قبائل العرب، هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل، وبعض كتانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم". وروي أن أفصح العرب عليا هوازن، وسفلى تميم.
وروى "الجاحظ" أن "معاوية" قال يوماً: "من أفصح العرب ? فقال قائل: قوم ارتفعوا عن الخلخانية الفرات، وتيامنوا عن عنعنة تميم " وتياسروا عن كسكسة بكر، ليست لهم غمغمة قضاعة ولا طمطمانية حمير. قال: من هم ? قال قريش" وقد تحدث "الجاحظ" عن أثر المحيط في تكوين اللغة، فقال: "وكاختلاف ما بين المكيّ والمدني، والبدوي " والحضري، والسهلي والجبلي، وكاختلاف ما بين الطائي الجبلي والطائي السهلي، وكما يقال:إن هذيلاً أكراد العرب، وكااختلاف ما بين من نزل البطون وبين من نزل الحُزون، وبين من نزل النجود وبين من نزل الأغوار. وزعمت أن هؤلاء وان اختلفوا في بعض اللغة، وفارق بعضهم بعضاً في بعض الصور، فقد تخالفت عُليا تميم، وسِفِلى قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز، في اللغة، وهي في أكثرها على خلاف لغة حمير، وسكان مخاليف اليمن، وكذلك في الشمائل والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي. خالص غير مشوب ولا معلهج ولا مذرع ولا مزلج. ولم يختلفوا اختلاف ما بين بني قحطان وبني عدنان، من قبل ما طبع الله عليه تلك البرية من خصائص الغرائز، وما قسم الله تعالى لأهل كلّ جيزة من الشكل والصورة ومن الأخلاق واللغة". فرأى "الجاحظ" إن بين العدنانيين والقحطانيين فروقاً كبيرة في اللغة، غير إن بين كل مجموعة من هاتين المجموعتين فروقاً لغوية، كالذي أورده من أمثلة على الفروق التي تكون بين من ينزل الجبال، أو من ينزل السهول، وبين من ينزل النجود، ومن ينزل الأغوار، ثم الخلافات التي تقع بين بطون القبائل عند تشتتها وتفرقها. ثم تحدث عن لغة عليا تميم، وسفلى قيس، وعجز هوازن، ولغات أهل الحجاز. وهي قبائل تحدث عنها علماء اللغة.
وقد ذكر "الرافعي" إن الفصاحة اشتهرت في مضر، حتى عرفت اللغة بالمضرية، ومن أشهر قبائلها كنانة - ومن بطونها قريش -ثم تميم، وقيس، وأسد، وهذيل، وضبة، ومزينة". وقال أيضاً: "وأفصح القبائل الذين هم مادة اللغة فيما نص عليه الرواة: قيس، وتميم، وأسد، وللعجز من هوازن الذين يقال لهم عليا هوازن، وهم خمس قبائل أو أربع، منها سعد بن بكر، وجُشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف. قال أبو عبيدة: وأحسب أفصح هؤلاء بني سعد بن بكر، و ذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا - أفصح العربَ بيد اني من قريش، واني نشأت في بتي سعد بن بكر - وكان مستعرضاً فيهم - وهم أيضاً الذين يقول فيهم أبو عمرو بن العلاء، أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم" وتلك القبائل كلها كانت تسكن في بوادي نجد اوالحجاز ونهامة،وقد بقيت معادن الفصاحة زمناً بعد الإسلام، واليها كان يرحل الرواة، حتى إن الكسائي لما خرج إلى البصرة فلقي الخليل بن أحمد، وجلس في حلقته، قال له رجل من الأعراب: تركت أسداً وتميماً وعندهما الفصاحة وجئت إلى البصرة فقال للخليل: من أين أخذت علمك ? قال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة. فخرج اليهم ولم يرجع حتى أنفد خمس عشرة قنينة حبراً في الكتابة عن العرب.
ولم تزل هوازن وتميم وأسد متميزة بخلوص النية وفصاحة اللغة إلى آخر القرن الرابع للهجرة وقد ترك الأخذ عن "حاضرة الحجاز" أي مكة "لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتداوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم"، فلم يأخذوا منهم. وقد قرأنا قبل قليل اسماء القبائل التي أدخلها علماء اللغة في القائمة السوداء المقاطعة التي لم يجوّزوا الأخذ منها، و ذلك حين شروعهم بتدوين اللغة أيضاً للسبب المذكور وهو اتصالها بالأعاجم، وتاثر ألسنتها بلغات من اتصلت بهم من عجم.
واللغات في نظر "ابن جني" على اختلافها كلها حجة "ألا ترى أن لغة الحجاز في إعمال ما، ولغة تميم في تركه، كلّ منهما بقبله القياس، فليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها، لأنها ليست أحق بذلك من الأخرى، لكن غاية مالك في ذلك أن تتخير إحداهما فتقويها على أختها، وتعتقد إن أقوى القياسين أقبل لها، وأشد نسباً بها، فاما رد إحداهما بالأخرى فلا،.
أعود الآن فاكرر ما سبق أن قلته من اننا اليوم في حاجة ماسة، إلى وجوب تسجيل كل ما أورده علماء اللغة عن لغات العرب ولهجاتها، فصيحة كانت تلك اللغة أو رديئة، ولا سيما في الأمور التي شذت فيها هذه اللهجات بعضها عن بعض الشعر أو في النثر، تسجيل كل الأسماء الجاهلية التي عرف بها العرب قبل الإسلام، مع بيان اسماء الرجال الذين تسموا بها وأسماء القبائل التي هم منها، والمواقع التي كانوا بها، لنتعرف بذلك على أصول هذه القبائل، والأماكن التي جاءت منها، والأثر الذي تأثرت به من القبائل المجاورة لها، فنحن نعرف اليوم، إن أهل العربية الجنوبية، كانت لهم أسماء وردت في المسند لم تكن شائعة بين العرب الشماليين، وقد كانت خاصة بهم، ثم نعرف اليوم إن الأسماء الواردة في النصوص العربية الجنوبية المتاخرة المقاربة للاسلام، اختلفت بعض الاختلاف عن الأسماء القديمة المركبة المضافة، مما يدل على وقوع تغير في الذوق اللغوي عند العرب الجنوبيين قبيل الإسلام، وعلى الميل إلى اختزال الأسماء وتبسيطها، على نحو ما كان عند العرب الشماليين، ومثل هذه الدراسة، تكون ذات قيمة كبيرة في الوقوف على التطورات السياسية والثقافية والاجتماعية التي مرت على جزيرة العرب قبيل ظهور الإسلام. وهذا التغير الذي أشر إليه هو شيء طبيعي، وقع قبل الإسلام، كما وقع في الإسلام، فقد ماتت الأسماء الجاهلية، مثل "امرؤ القيس"، و "معدي كرب"، و "شرحبيل"، و "شرحئيل"، و "عبد عوف"، و "عبد مناة"، و "عبد أسد"، في الإسلام، وحلت محلها أسماء إسلامية، وماتت الفاظ جاهلية، بسبب إماتة الإسلام لها، أو إعراضه عن استعمالها، أو بسبب تغير الذوق، فلم تعد تصلح للاستمال، وولدت ألفاظ إسلامية لم تكن معروفة عند الجاهليين، ونشأت معان جديدة لألفاظ جاهلية قديمة لم تكن تعبر عن هذه المعاني قبل الإسلام، كذلك، نحن في حاجة إلى تدوين شعر الشعراء على حسب القبائل التي ينتمي اليها قالة الشعر، لنتمكن بذلك من دراسة خصائص شعر كل قبيلة، وما ورد فيه من لغتها، على أن نهتم بصورة خاصة، بالأصول الأولى لهذا الشعر، أي بأقدم الروايات التي ورد فيها، ثم ندون إلى جانبها الروايات المختلفة التي ورد فيها على ألسنة علماء الشعر واللغة، والتعديلات - التي أدخلها العلماء عليه، لترى ما فعله العلماء في الشعر الجاهلي،وطبيعة ذلك الشعر بالنسبة إلى اللغات، وخصائص كل شعر.
ونجد في كتاب "الإكليل" ملاحظات ثمينة تفيدنا كثيرأَ في دراسة اللهجات العربية الجنوبية، وقد أخذها من كلام الناس في أيامه. من ذلك ما ذكره في كتابه "الإكليل" من قوله نقلا عن كلام "أبي نصر": إن "حمير تطرح مثل هذه الألف في كلامها، فنقول: إذا أردت أن تقول للرجل: اسمع واذهب: سمعَ وذِهَب، وغِضَب في اغضب وشرب في اشرب". وهي لغة لا تزال تستعمل في بعض القبائل اليمانية. ومن ذلك استعماله لفظة "القدمان" في قوله: "وقرأ زبر حمير القديمة ومساندها الدهرية، فربما نقل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وتهانت أسماء فيها ثقل فخففتها العرب وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناسُ مخففة مبُدلة. فإذا سمعوا منها الاسم الموفر، خال الجاهل انه غير ذلك الإسم، وهو هو". ولفظة "القدمان" من الألفاظ العربية الجنوبية التي ترد بكثرة في كتابات المسند، ترد مع أسماء بعض الأشهر التي يتكرراسمها، على نحو قولنا في العربية: "ربيع الأول" و "ربيع الثاني"، و "جمادى الأولى" و "جمادى الاخرة"، فيستعملون "قد من" "قدمان" للأول، أي الأقدم والمتقدم، ويستعملون "اخرن" "اخران" للثاني، أي الاخر والمتأخر، وتعني "قدمان" القدامى والقدماء كذلك.
ونجد في ثنايا كتابه مصطلحات وألفاظاً أخرى من هذا القبيل استعملها هو،
أو هلها عن غيره، أو من الكتب، وهي ترجع إلى اللهجات العربية القديمة، وقد لا تجد لها وجوداً في معاجم اللغة. كذلك يجب البحث في كتب "سعيد ابن نشوان" الحميري وفي كتب غيره من المؤلفين من أهل العربية الجنوبية إلى يومنا هذا، لنلتقط ما قد يكون في ثناياها من كلم عربي جنوبي قديم، ومن امثلة وجمل، وأسماء أشهر وغير ذلك.، إضافة إلى دراسة لهجات الأحياء منهم، ووجوب الحفر حفراً علمياً في مواضع الآثار لاستخراج ما فيها من نفائس مكتوبة أو غير مكتوبة لتعيننا في الوقوف على أصول لغة العرب الجنوبيين قبل الإسلام. ولا بد لنا اليوم من وجوب القيام بمسح لغوي جغرافي، للغات جزيرة العرب ولقبائل العراق وبلاد الشام، لمعرفة ما تبقى عندها من أثر للهجاتها القدبمة. مسح عام لكلامها الذي تنطق به، ولشعرها الذي تنظمه في الوقت الحاضر، وللأسماء الغريبة التي تتسمى بها، ومسح مثل هذا سيعين الباحثين كثيرأَ في الوقوف على أسرار اللهجات العربية قبل الإسلام.
والاختلاط بين الأمم، بمختلف وسائله، ومن ذلك الاتصال التجاري، يؤدي إلى حدوث تفاعل في اللغة، فقد يولد هذا الاحتكاك ألفاظاً جديدة يطلقونها على أشياء لم يكن لأهل تلك اللغة علم بها، وقد يضطر أصحابها إلى استعمال المسميات الأجنبية كما هي، أو بشيء من التبديل والتغيير ليناسب النطق بتلك اللغة. وقد وقع ما أقوله في كل اللغات، ويقع الآن أيضاً، وسيقع في المستقبل إلى ما شاء الله، لا استثناء في ذلك، ولا تفاضل، ولا امتياز. فاللغات كلها، ومنها اللغة العربية في جاهليتها واسلاميتها، تخضع لهذا والقانون وليس الأخذ والعطاء دليلا على وجود نقص في لغة ما، أو وجود ضعف في تفكير المتكلمين بها. فكل اللغات مهما بلغت من النمو والكمال والسعة، لآ بد لها من أن تأخذ وأن تطور مدلول مفرداتها أو تضع مفردات جديدة لأمور لم تكن معروفة وموجودة عندها. ولا نعرف لغة ما من اللغات الميتة أو الحية، انفردت بنفسها انفراداً تاماً، فلم تأخذ شيئاً ولم تعط شيئاً.
والعربية بجميع لهجاتها وألسنتها مثل اللغات الأخرى، وفي جملتها اللغات السامية أخذت وأعطت، قبل الإسلام وبعد الإسلام، ولا تزال تأخذ وتعطي ما دام أصحاب اللسان العربي باقين في هذا الكون. والأخذ والعطاء ووضع. مفردات جديدة في لغة ما، هما من دلائل، الحيوية ومن أمارات القرة رالتكامل في تلك اللغة. ومن دلائل هذا الأخذ والعطاء، ما حدث في العصور الإسلامية: من أخذ وعطاء بين العربية واللغات الأعجمية، فطعمت العربيةُ الفارسيةَ والتركية والرومية وغيرها بمادة غزيرة من الكلمات، كما أخذت هي حاجتها منها. ومن دلائله أيضاً ما يقع اليوم من وضع المصطلحات لمعاني لا عهد لعربية بها.من قبل كمخترعات تظهر دوماً ومعاني علمية ليس للعلماء عهد بها، ولا بد من وضع ما يقابل في العربية، بوضع لفظ عربي، أو تعريب المصطلح وتكييفه وفق النطق العربي إن كان من غير الممكن إخضاعه للمفردات العربية.
وقد يزعج هذا الرأي فريقاً من الناس يذهبون إلى أن العربية لغة نقية صافية لم تتأثر بغيرها من اللغات، فلم تأخذ من اللغات شيئاً، ولم يدخل إليها لفظ أجنبي، أو إن ما دخل إليها من دخيل معرب هو قليل، وهم في منطقهم هذا محافظون متزمتون لا يعترفون بنظرية الأخذ والعطاء في اللغات. فإذا قلت لهم إن اللفظة الفلانية لفظة معربة واصلها أعجمي، أجابوك: ولكنها وردت في القرآن الكريم، ووردت في شعر فلان، وفلان من الشعراء الجاهليبن. واذا قلت لهم: ولكن دخولها العربية كان قبل الإسلام بزمن، وقبل ذلك الشاعر بزمن طويل، وأن الجاهليين نسوا أصلها واستعملوها استعمال الألفاظ العربية، فحكمها اذن حكم الألفاظ العربية في أيام ذلك الشاعر، وعند نزول الوحي، أجابوك أيضاً: وكيف نؤمن أنها معربة، أفلا بجوز أن تكون عربية في الأصل، وقد أخذها الأعاجم أنفسهم من العربية، ومن أين لك الدليل على العكس ? واذا ذكرت لهم أن اللفظة الفلانية عبرانية في الأصل أو سريانية أو كلدانية، قالوا:.وكيف تثبت ذلك، وهذه اللغات والعربية كلها من أصل واحد ودوحة واحدة، فلمَ تحكم بأنها من أصل سرياني أو عبراني أو كلداني أو غير ذلك، ولا تحكم باًنها عربيهّ أصيلة، وان وجودها في نلك اللغات، هو بسبب اشتراكها والعربية في الأصل السامي. فهي في العربية أصيلة اذن، وهي في تلك اللغات أصيلة أيضاً وقديمة بسبب مشاركتها للعربية في الأصل السامي.
وقد فات مثل هؤلاء إن القدامى من العلماء لم يفتهم أمر هذه ألمعربات فأشاروا إليها، ومنهم جمهور أصحاب كتب التفاسير والحديث والمعجمات، وأن من العلماء من ألف فى هذا الموضوع، فألف أبو منصور المعروف بالجواليقي. كتاباً في هذا الباب دعاه: "المعرب من الكلام الأعجمي". ولم ينتقده مع ذلك علماء يومه، ولا من جاء بعده لإقدامه على تأليف كتابه هذا، ولم يفل أحد انه كان جاهلا أو متحاملا على العربية، مسيئاً إليها، لأنه أنكر أصول الألفاظ المذكورة في مؤلفه، فعدّها أعجمية معربة مع انها عربية أصيلة، لا شك في عربيتها ولا شبهة. قال "الجاحظ": "ألا ترى إن اهل المدينة لمّا نزل فيهم ناس من الفرس في قديم الدهر علقوا بألفاظ من الفاظهم، ولذلك يسموّن البطيخ الخربز، ويسمون السميط الرزدق، ويسموّن المصوص المزور، ويسقون الشطرنج الاشترنج، في غير ذلك من الأسماء". وتجد في تفسير "الطبري"، وهو من العلماء الثقات المحققين وفي تفاسير غيره من العلماء المدققين إشارات إلى أصول ألفاظ وردت في كتاب الله ذكروا انها من المعربات،وقد نصوا على أصولها التي أخذت منها، حسب علمهم واجتهادهم في ذلك الوقت، لم يجدوا في ذلك. بأساً ولا انتقاصاً لحرمة القرآن، أو مساً به، وفي القرآن - كما يذكر العلماء - أكثر من مائة لفظة معربة، نصوا على أصولها حسب علمهم واجتهادهم واستفسارهم من الأعاجم، وهي كلمات دخل بعضها العربية قبل الإسلام بعهد طويل بل لعدم وجود مثيل لها في لغة العرب،فاخرجتها العرب على أوزان لغتها وأجرتها في فصيحها، فصارت بذلك عربية،وانما وردت في القرآن لأنها كانت قد تعربت وجرت عند العرب مجرى الفصيح، ولم تكن لديهم ألفاظ غيرها. وفي بعض هذه المعربات ألفاظ لم تكن مالوفة أو معروفة عند الوثنيبن، لأنها من ألفاظ أهل الديانات، وتظراً لكونها تعبر عن أمور دينية ضرورية لا مثيل لها في العربية، كان من اللازم تعليم الناس اياها،لذلك وردت في القرآن.
وقد رجح العلماء أصول المعربات الواردة في القرآن إلى لغات كانت شائعة انذاك ومعروفة للعرب، أخذها العرب منها باحتكاكهم باهلها، مثل اليونانية، والفارسية، والسريانية، والعبرانية، والحبشية، والهندية، و القبطية، والنبطية، حتى ذهب "أبو ميسرة"، وهو من العلماء التابعين إلى أن "في القرآن كل لسان"، وروى مثله عن "سعيد بن جبير"، و "وهب بن منبه". ولو راجعنا أقوال العلماء في هذه المعربات التي درسوها وتحدثوا عنها لوجدنا أنهم قد أخطأوا في تشخيص الكثير منها، فلم يتمكنوا من الوقوف على أصولها، لعدم معرفة أكثر علماء العربية اللغات الأعجمية. نعم تمكن العارفون منهم بالفارسية من تشخيص المعربات عن الفارسية، غير أن منهم من زاد عليها وبالغ فيها، فأدخل في المعرب عن الفارسية ما ليس من الفارسية بشيء. وأدخل ألفاظاً عربية أصيلة في طائفة المعربات،مع أنها عربية جاهلية، وردت في نصوص المسند وفي النصوص الأخرى،وسبب ادخالهم لها ضمن المعربات، هو عدم احاطتهم باللهجات العربية الجنوبية، وباللهجات الجاهلية الأخرى، فتخبطوا في تعيين الأصول، فترى بعض منهم يرجع معرباً إلى أصل عبراني، ونجد آخر يرجعه إلى أصل يوناني، بينما يرجعه ثالث الى أصل حبشي، وقع ذلك بسبب عدم وقوف العلماء على اللغات الأجنبية وكتفائهم بالاستفسار من الأعاجم، ممن لم يكن لهم علم بعلوم اللغات، وإنما كانوا يعرفون الكلام بها، إذ لم يكونوا من أصحاب التضلع والتخصص، كما أن عصبية البعض منهم للسانهم دفعهم أحياناً للى الاختراع وصنع الأجوبة الكاذبة، يضاف إلى ذلك عامل الادعاء بالعلم والفهم، مما يحمل صاحبه على الوضع والكذب.
وبين الباحثين في المعربات الواردة في القرآن جدل في وجود المعرب فيه، منهم من قال بوجوده، ومنهم من رد القول به ومنعه، فقال: "انما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم إن فيه غير العربية، فقد أعظم القول، ومن زعم ان كذا بالنبطية، فقد اكبر القول"، وقالوا: "ما ورد عن ابن عباس وفيه من تفسير الفاظٍ من القرآن انها بالفارسية لو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك، انما اتفق فيها توارد اللغات، فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد"، وبالغ بعضهم في نفي المعربات، حتى قال: "كل هذه الألفاظ عربية صرفة، ولكن لغة العرب متسعة جداً، لا يبعد أن تخفى على الأكابر الجلة، وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر وفاتح" والذين ذهبوا إلى وقوعه فيه، يرون بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لانحرجه عن كونه عربياً. وعلل بعضهم سبب وقوعه في القرآن بقوله: "إن حكمة وقوع هذه الألفاظ في القرآن، انه حوى علوم الأولين والآخرين، ونبا كل شيء، فلا بد أن تقع فيه الاشارة إلى انواع اللغات والألسن ليتم إحاطته بكل شيء، فاختير له من كل لغة أعذبها واخفها وأكثرها استعمالا للعرب"، وأيضاً النبى صلى الله عليه وسلم، مرسل إلى كل أمة، وقد قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، فلا بد وأن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم، وإن كان أصله بلغة قومه هو". وقال "ابن سلام": " والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعاً، و ذلك إن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب، فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال انها عربية فهو صادق، ومن قان أعجمية فصادق. ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجوزي وآخرون".
وقال "ابن النقيب": " من خصائص القرآن على سائر كتب الله تعالى المنُزلة، انها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، ولم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم، والقرآن احتوى على جميع لغات العرب، وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير،. فهو من الذين يرون إن في القرآن كل لسان.
ولا يقوم جدل المانعين من وقوع المعرب في القرآن، أو القائلين به على أساس اختلافهم في وقوع المعرب في العربية، وانما انصب كل اختلافهم على وقوع المعرب في كتاب الله. فالمانعون يقولون - كما رأينا - إن الله يقول: "قرآناً عربياً"و "ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا: لولا فصلت آياته أ أعجمي عربي"، فكل ما فيه هو عربي اذن، والذين يجيزونه،. يقولون إن هذه الأحرف أصولها أعجمية، لكنها وقعت للعرب، فعربتها بألسنتها وحوّ لتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال انها عربية فهو صادق، ومن قال أعجمية صادق. فالخلاف اذن خلاف عقائدي لا صلة له باللغة، وبوقوع المعرب أوعدم وقوعه في العربية.
وهناك فريق آخر جماعته من المحدثين في الغالب ومن غير العرب، ذهب مذهباً معاكساً لمذهب من ذكرت تماماً. تطرف في رأيه تطرفاً مسرفاً وبالغ في أحكامه مبالغة منكرة. رجعَ ألفاظاً عربية استعملها، الجاهليون إلى أصول أعجمية،وادعى انها من الألفاظ المعربة عن السريانية أو اليونانية أو اللاتينية،أو العبرانية أو الفارسية، لمجرد ورودها أو ورود مشابه لها في تلك اللغات، وحجته في ذلك أن الجاهليين أميون أعراب وثنيون، وأن الألفاظ التي رأوا عجمتها هي ألفاظ حضارة لها مدلولات دينية أو سياسية أو اجتماعية أو حرفية أو غير ذلك، ولهذا لا يمكن أن تكون من صميم العربية، بل لا بد أن تكون طارئة عليها دخيلة في الأصل، ثم عربت. وفي هؤلاء المتعصب لجنسيته، مثل إن يكون سريانياً أو يهودياً، هذا رجع تلك الألفاظ إلى لغته لتعصبه لها،والمتأثر بنظرية جهل الجاهليين وعدم وجود أي علم أو ثقافة لديهم، والمتعصب على الإسلام، هذا رجع أكثر الألفاظ الحضارية إلى النصرانية أو اليهودية أو الفارسية، لإثبات أخذ الإسلام منها،وتعلم الرسول ديانته من تلك الديانات. أما البحث العلمي الخالص، فهو ما كان بعيداً عن كل الميول والاتجاهات والنزعات ودوافع التعصب، قائماً على الحقائق والوقائع وفكرة البحث عن الحق للتوصل إليه. فالرأيان في نظري باطلان، بعيدان عن جادة العلم. وواجب الباحث في مثل هذه الأمور أن يتريث اولا"، وألاّ يبت في قرار إلا إذا كان متأكداً من سلامة السبل التي سار عليها في الوصول إلى قراره، ولا سيما أن العربية والعبرانية والسريانية كلها من هذا الأصل الذي يطلق علماء الأجناس واللغات عليه: الأصل السامي، وتشترك كلها أو أكثرها في كثير من الألفاظ، والحكم بأن هذه اخذت من هذه أو تلك، حكم فج ناقص إذ لم يستند إلى موارد ونصوص مرتبة ترتيبا تاًريخياً. ثم إن العربية ليست عربية واحدة؛ فإن هناك ألسنة عربية أخرى، مثل عربيات اليمن، وهي لهجات عربية قديمة ذات نصوص يعود تأريخ بعضها الى ما قبل الميلاد، فلا بجوز التعميم بالاستنآد إلى لغة القرآن الكريم وحدها، بل لا بد من تتبع ما جاء في اللغات العربية الأخرى. أضف الى ذلك أن أهل اليمن كانوا أصحاب حضاره وحضارتهم أرقى واعلى درجة من حضارة بعض الساميين. ولذلك يدفعنا الواجب إلى دراسة ما جاء في نصوصهم. من ألفاظ ومسمّيات وآراء ومقارنتها بما جاء في النصوص الواردة في اللغات. السامية الأخرى، للحصول على رأي علمي في هذه الأمور. ولكننا مع ذلك نحن في وضع لا نتمكن فيه من البت في هذه الأمور، لأن مالدينا من نصوص جاهلية أغلبه من النوع الذي عز عليه على ظاهر الأرض، لأن الظروف لم تمكن العلماء حتى الآن من التنقيب تنقيباً علمياً عميقاً في باطن مواطن الاثار، لاستخراج المطمور من الكتابات والاثار الأخرى، الغالب أن يكون المطمور ذا أهمية كبيرة، وسيعين المؤرخين في كتابة الأجزاء المفقودة من تاريخ العرب قبل الإسلام. وقد يكون من بين ما يعثر عليه ما هو أقدم من النصوص التي بين أيدينا. وعلى هذه النصوص إن رتبت ترتيياً زمنياً يوثق به، يمكن أن يكون اعتمادنا في تئبيت المفردات وفي تعيين زمن استعمالها في العربية وفي كونها عربية أصيلة أو معربة.
ان وجود المعربات دليل على اتصاله الجاهليين بغيرهم، واتصال غيرهم بهم، ُعلى الروابط الفكرية التي كانت بين العرب وبقية الساميين،ويين العرب والشعوب الأخرى وجمعها وتصنيفها لذلك في مجموعات حسب الموضوعات يعطينا رأياً عن النواحي التي تاثر بها الجاهليون في أمور الحياة. غير إن هذا العمل عمل شاق، ويجب أن يستند إلى معجمات جامعة مرتبة ترتيباً تاريخياً، تذكر الكلمة، ثم تذكر أصلها من اي أصل أتت وفي أي زمن كان ذلك وأول من استعملها أو أقدم نص عربي وردت فيه، وفي اي معنى استخدمت، وهكذا. ولكننا لا نملك، يا للأسف، مثل هذه المعجمات. وكل ما لدينا معجمات قديمة، لم تنتبه لهذه الأمور، لم يميز الجاهلي من الإسلامي، ولا اللفظ الوارد في عربية القرآن الكريم من اللفظ الوارد في اللهجات العربية الأخرى على انها مرادفات، ترد في عربيتنا على حين انها مسميات للشيء ذاته في اللغات العربية الأخرى.
والذين يقولون بعدم وقوع المعرب في كلام العرب، كانهم يتصورون إن العرب كانوا بمعزل عن العالم وانقطاع عن الناس. ولهذا لم يتأثروا بغيرهم، ولم يؤثروا في غيرهم، وأن عرقهم لذلك بقي صافياً نقياً سليماً، لم تدنسه أعراق أعجمية، ولم يمازج دمهم دم غريب، ولم تدخل لغتهم لفظة غريبة، بل بقيت نقية صافية على ما خلقها الله يوم خلق اللغات. وقد تكون في اللغات الأخرى، كلمات دخيلة، أما العربية فحاشاها من ذلك وهؤلاء لا يدرون انه قد كانت في سواحل جزيرة العرب قبل الإسلام مستوطنات يونانية، نشاًت في مواضع عديدة من سواحل البحر الأحمر وسواحل البحر العربي وا الخليج العربي، وقد بقي أصحاب تلك المستوطنات في مستوطناتهم فلم يعودوا إلى ديارهم، ونسوا أصولهم وعاداتهم، وصاروا عرباً مثل سائر العرب،يرجعون أنسابهم الى أصول عربية على عرف العرب وألأعراب. وأن منهم من بقي عرقه الدساس يحنّ إلى أصله،فقد ذكر المؤلفون اليونان إن بعض القبائل العربية الساكنة على السوآحل، كانوا يرحبون ببعض اليونان، لاعتقادهم انهم يجمعهم واياهم صلب واحد.
يضاف إلى ذلك الرقيق من الجنسين، وقد كانت بلاد العرب تجلب عددأَ كبيراً منه في كل عام، تشتريه من أسواق العراق ومن أسواق بلاد الشام، وتوكل إليه القيام بأعمال مختلفة، ولا سيما الأعمال التي نحتاج إلى خبرة ومهارة فنية ودراية. ونحن نعلم أن العربي الصريح يأنف من الاشتغال بالحرف وزراعة الخضر، ولذلك وُ كِلَ إلى هذا الرقيق أمر القيام بها، فأدخل إلى العربية كثيراً من الألفاظ الخاصة بالزراعة وبالحرف، لم تكن معروفة في العربية، كماسأتحدث عن ذلك فيما..
يضاف إلى ذلك أيضاً، التجارة فقد كان التجار من عرب وغرباء يتعاطونها في جزيرة العرب وفي خارجها، يصدرون منها حاصلاتها وما تجمع فيها من سلع مستوردة من سواحل افريقية الشرقية والهند، ويأتون إليها بما تحتاج إليه قبائلها وأهل مدرها وأهل إفريقية من بضائع مصنوعة أو منسوجة من حاصل الانبراطوريتين الساسانية والرومية والأرضين المصاقبة لهماومن الطبيعي أن يؤدي ذهاب التجار العرب إلى اسواق العراق وبلاد الشام، واحتكاكهم بالفرس والروم، إلى الوقوف على أحوالهم والاتصال بهم والأخذ منهم والتأثر بثقافتهم وحضارتهم واقتباس ما يلائمهم منهم ومن الطببعي أن يؤثر التجار الروم والفرس بعض اسلتاثر في نفوس زملائهم العرب في الأماكن التي ولجوها من جزيرة العرب، وأن ينقلوا اليهم شيثاً من آراثهم وأفكارهم وتجاربهم في الحياة،وأن يعطوهم شيثاً من مصطلحات لغتهم التي لا تعرفها العربية، ومن الأسماء الخاصة بالتجارة وبالبضائع التي يأتون بها إلى جزيرة العرب لبيعها في أسواقها.
وكان للمبشرين شاًن مهم في نقل التراث اليوناني والإرمي إلى جزيرة العرب في ايام الجاهلية، وبجهادهم المضني المتواصل وعملهم المتواصل، دخلت النصرانية في أماكن متعددة قاصية من بلاد العرب،حتى نمكنوا من تنصير قبائل وامراء ورؤساء قبائل، بطريقتهم الخاصة في الاقناع والتأثير، وبالتطبيب، وبالتقرب إلى ضعاف الحال من الناس.وقد اتبعوا في التبشير وفي إدارة المؤسسات التبشيرية النظم الإدارية والدينية المتبعة في الكنيسة، فجعلوا "بيث قطرايا"، أي "قَطرَاً" الموضع المعروف اليوم على ساحل ا الخليج، كرسياً ل "مطرابوليطي"، يقيم فيه، ويشرف على إدارة خمسة أساقفة، يقيمون في "ديرين" و "مشمهيغ" أي "سماهيج" وهجر وبلاد "مازون" و "حطا" المسماة "ييد أردشير"، وهي الخط.
وفي موضع مثل نجران غلبت النصرانية على أهله،نظمت الكنيسة شؤون المدينة، فتولى رئيسها الديني، وهو بدرجة "أسقف"، الأمور الدينية، وتولى "السيد" أمور الحرب و ادارة المسائل الخارجية المتعلقة بعلاقة نجران بغيرها، وتولى "العاقب" الأمور الداخلية، وهم جميعاً يؤلفون معاً مجلس المدينة فيديرون معاً أمور الناس، وينظرون في كل ما حدث بينهم من نزاع وخصومات. وهكذا نظمت العلاقات بين كنيسة المدينة وحكهامها، وانسجم الحكم بين الجماعتين.
وقد أدخل التبشبير ألفاظاً يونانية وسريانية ترد في الديانة وفي الحياة اليومية إلى اللغة العربية، ولا سيما المصطلحات الخاصة بتنظيم الكنيسة وبالحياة النصرانية، كما كان لبعض الشعراء الجاهليين يد في إدخال بعض المصطلحات النصرانية إلى العربية، كالذي نجده في شعر "مرىء القيس" والأعشى وعدي بن زيد العبادي وغيرهم من كلمات ترد بكثرة عند النصارى، نتيجة اتصالهم واحتكاكهم بهم، فصارت بذلك تلك الكلمات من المعربات ويضاف إلى من ذكرنا اليهود، ففد كان لهم أثر في الجاهليين، في يهودالعربية الغربية خاصة، أي في الحجاز، في البقعة الممتدة من "يثرب" حتى بلاد الشام، وفي اليمن. فقد سكن اليهود في هذه المواضع، وبنوا لهم مستوطنات فيها، واختلطوا بعربها، واحترفوا الحرف كما ذكرت ذلك في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب.
وقد كانت "مدراشات" اليهود في يثرب وفي المستوطنات اليهودية الأخرى تلقن اليهود أحكام دينهم، وتعلم أطفالهم القراءة والكتابة. وقد قصدها العرب وجلسوا في مما يستمتعون إلى يهود. وقد شاهدها الرسول بعد هجرته إلى المدينة، وحفر جدلاً كان قد وقع بين جماعة من يهود، كما حضرها أبو بكر ونفر آخرون من الصحابة. وكان أحبارهم يدرسون فيها ويفتون، كما كانوا يقيمون الصلوات واحتفالات الأعياد في "الكنيس". ومن هؤلاء.اليهود ومن "مدراشاتهم" انتقلت الألفاظ العبرانية إلى العربية فعربت، وفي جملة ذلك لفظة "مدراس"، و "سفر"، و "تور اة"، و "تا بوت"، و "حبر"، و "كاهن" وغير ذلك من مصطلحات لأكثرها صلة بشؤون الدين.
إن الحاجة، هي التي تحمل الناس على الأخذ والعطاء، وبها نفسر اقتباس العرب للمعربات. فأسماء بعض الالات والأدوات والطرق الفنية والأنسجة الدقيقة المصنوعه من الحرير وأسماء المأكولات النفيسة وأسماء النبات التي هي من أصل شمالي وبعض المشروبات وما شابه ذلك، انما دخلت العربية وعربت لأسباب عديدة، أهمها أن الحياة في جزيرة العرب حياة عادية، تكاد تجري على وتيرة واحدة، فلم تساعد على ظهور الأمور المذكررة، فاضطر الناس بحكم الحاجة إلى أخذها من غيرهم واستيراد أشياء مادية وغير مادية من جيرانهم، حتى في الأمور الفكرية والروحية، مثل المعربات الدينية فإن خضعت الحاجة، فالنصارى العرب استعملوا معربات من اصل سرياني، لأنهم اضطروا إلى استعمالها، لأنها تعابير دينية لا وجود لها عند العرب الوثنيين أولاّ، ثم هي مصطلحات رسمية كنسية، لم تتساهل الكنيسة في تغيير أسمائها، ولهنا استعملها العرب على النحو المرسوم، كما يستعمل الأعاجم المسلمون المصطلحات العربية، لأنها مصطلحات اسلامية ليس لها مقابل في لغتهم، أو لأنها مصطلحات دينية نحب المحافظة على تسميتها وان وجد لها مقابل في لغات الأعأجم.
واكثر المعربات الجاهلية، هي من أصل يرجع إلى لغة بني ارم أو إلى لغة الفرس، ثم تليها المعربات المأخوذة من لغات أخرى مثل اليونانية والعبرانية واللاتينية والحبشية والقبطية، وكثير من الألفاظ اليونانية إنما دخل إلى العربية عن طريق السريانية، فقد كان السريان قد أدخلوها في لغتهم، لأنها لم تكن معروفة عندهم، ومن لغتهم هذه تعلمها الجاهليون.
والمعربات السريانية الأصل، هي في الزراعة في الغالب، وفي التوقيت، ثم في موضوعات دينية وصناعية وتجارية وفي أمور أخرى. أما المعربات عن الفارسية فهي في موضوعات زراعية كذلك وفي أسماء المأكول والملبوس وأمور اجتماعية. وأما المعربات عن العبرانية، ففي أمور خاصة بسكناهم بين العرب وبأمور دينهم وشؤونهم. وأما المقتبس عن اليونانية فهو في أمور حِرفية، وفي مصطلحات دينية ومصطلحات زراعية ومصطلحات تستعمل في شؤون البحروما شاكل ذلك. وتفسر وجود المعربات السريانية والفارسية بنسبة تزيد على نسبة وجود المعربات الأخرى هو إن المتكلمين بلغة بتي إرم كانوا مزارعين في الغالب، وكانوا على اتصال بالعرب، وقد خالطهم العرب وعاشوا بينهم، واقتبسوا منهم، حتى انهم كتبوا بلسانهم، ودخل الكثير منهم في دينهم، دين النصرانية، ولا سيما قبيل الإسلام. وقد كانت أحوالهم الاجتماعية مشابهة للاحوال الاجتماعية عند العرب، ولا سيما عرب بلاد الشام والعراق. ووضع مثل هذا يؤدي بالطبع إلى الاقتباس والأخذ والعطاء. وأما الفارسية، فقد كان الفرس يحتلون بلاد العراق وكان لهم نفوذ على العربية الشرقية، وقد استولوا على اليمن قبيل الإسلام، ولهم تجارة مع أهل مكة وأماكن أخرى، وبحكم هذه الصلات دخلت في العربية ألفاظ فارسية وصارت في عداد المعربات.
ونحن إذا تتبعنا صورة توزع المعربات بين العرب، نجد إن توزيعها يختلف باختلاف الأمكنة، فهناك أمكنة تأثرت بالمعربات الفارسية بالدرجة الأولى، وهناك مواضع تأثرت بالمعربات السريانية في الأكثر، وهناك أقاليم تأثرت بالمعربات عن اليونانية أو الحبشية بالدرجة الأولى. ثم نجد ظاهرة أخرى في كيفية توزع المعربات وظهورها، هي ظاهرة الحاجة والظروف السائدة في مكان ما. فيمكننا اذن ارجاع تأثر لهجات العرب الجاهليين بالمؤثرات اللغوية الأعجمية اذن الى عاملين: عامل الاختلاط بالأعاجم عن طريق الجوار أو السكن معهم في موضع واحد، واستخدامهم لهم ومجيء الأجانب من تجار ومبشرين اليهم، وعامل الحاجة التي كانت تدفع إلى أخذ أشياء غير معروفة في بلاد العرب، فتدخل العربية باسمائها الأعجمية، فإذا انقضى زمن عليها، تدخل في ضمن اللسان العربي وتعرب، حتى ليخيل إلى من لا يعرف أصلها انها عربية الأصل والنجار.
ولما تقدم نرى إن المعربات عن السريانية والفارسية هي أظهر وأبرز في لهجات عرب العراق من المعربات الأخرى،وان المعربات عن السريانية واليونانية - اللاتينية أبرز وأوضح في لغة عرب بلاد الشام من المعربات المنقولة عن الفارسية أو الحبشية. وان المعربات عن الحبشية واللهجات الافريقية، هي أوضح وأكثر ظهوراً في لهجات العرب الجنوبيين من المعربات الأخرى، و ذلك بسبب اختلاط العرب الجنوبيين بأهل الساحل الافريقي الشرقي ووجود جاليات افريقية في العربية الجنوبية وجاليات عربية جنوبية في السواحل الافريقية المقابلة منذ أيام ما قبل الميلاد، فأذى هذا الاختلاط والتجاور إلى الأخذ والعطاء في اللغة. كما نجد المعربات عن الهندية والفارسية والإرمية ظاهرة بارزة على ألسنة أهل ا الخليج " لاتصالهم بالهند وبفارس.وبالعراق.
وأما مثال ظهور المعربات بسبب الحاجة، فهو مما نجده في لهجة أهل يثرب وما حولها من مؤثرات فارسية وسريانية في الزراعة بصورة خاصة وفي نواح أخرى من نواحي الحياة الاجتماعية، فقد استعل أهل المدينة ألفاظاً فارسية في لهجتهم، بسبب حاجتهم وظروفهم. فأرضهم أرض خصبة ذات آبار ومياه، ولما كانوا في حاجة إلى أيدي عاملة لتشغيلها لاستغلال مواردها استعانوا بالرقيق،وكان معظم الرقيق الذي جيء به، من رقيق العراق الذي يرجع إلى أصل فارسي، أو نبطي متأثر بالفارسية، لرخص ثمنه بالنسبة إن رقيق الروم، ولفطنته ولمهارته في الحرف بالنسبة لرقيق افريقية، وعن طريق هذا الرقيق دخلت المعربات الفارسية والنبطية المستعملة في الزراعة وفي أمور أخرى عرف بها الفرس والنبط إلى "يثرب". أما أهل مكة، فلم تظهر المعربات الزراعية عندهم، لعدم وجود حاجة لهم إليها، بل استخدموا معربات أخرى في الأمور التي كانوا بحاجة إليها، والتي لم يكن لها وجود عندهم، وقد دخلت اليهم من اماكن مختلفة، كان لهم تعامل معها، ومن الرقيق والتجار الغرباء الذين كانوا يعيشعون بها.
ولبعض المحدثين بحوث في الدخيل من السريانية على العربية، من جملتها بحث المستشرق "فرنكل" Frankel دعاه "الألفاظ الآرامية الدخيلة على العربية" "Die Aramaischen Fremdworter im arabicchen". وكتابه هذا هو أشهر كتاب ألفه المستشرقون في هذا الباب. كما إن لآباء للكنيسة الشرقيين مؤلفات وبحوثاً في الألفاظ السريانية في العربية، وضعوها بالعربية، نشر بعضها في مجلة المشرق، ونشر بعض آخر في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، ونشر بعضه في كتب، مثل كتاب: "غرائب اللغة العربية"، تأليف الأب رفائيل نخلة اليسوعي، وفيه باب خاص بالكلمات الدخيلة في العربية الداخلة فيها من الارامية والعبرانية والفارسية واليونانية ومن التركية واللاتينية والايطالية والفرنسية:من لغات أخرى. وفي بعض هذه البحوث تسرع في الأحكام، إذ فيها ألفاظ نسبت إلى أصل سرياني، وهي من الألفاظ الواردة في اللهجات العربية القديمة، وفيها مما يرد في العربية وفي اللغات السامية الأخرى، لأنه من المشترك الذي يرد في أصول الساميات..وقد رأيت اختيار ألفاظ في الزراعة أو ألفاظ لها علاقة بها، من القائمة التي أوردها "الأب رفائيل نخله اليسوعي"، للالفاظ الآرامية الداخلة في العربية، و ذلك للقوف عليها، ولتكوين فكرة عنها، وبعض هذه الألفاظ هو في رأيي مما استعمله العرب قبل الإسلام، ووارد في النصوص الجاهلية، فمن الصعب ارجاعه إلى أصل ارامي من غير نص أو دليل منطقي مقبول وبعضه من النوع الوارد في العربية وله أصل عربي، فلا يمكن أن يقال إنه من أصل آرامي، لمجرد وجود مرادف له أو لفظ مقارب له، وبعض آخر هو من الألفاظ التي ترد في كثير من اللغات السامية فلا يجوز تخصيصه بالسرياني، وارجاع أخذ العرب له من هذا الأصل.
ومن اللهجات في الزراعة وما يتعلق بها وبالفواكه والحبوب والأزهار وما شاكل ذلك: "آس" وهو من أصل سرياني هو "اسو"، و "أب" بمعنى ثمرة من "أبو"، و "ارف" و "أرفى" من أصل سرياني كذلك بمعنى قسم الأرض وحددها، ومن يمسح الأرض ويحددها. و "أكتار" بمعنى حراث، أي من محرث الأرض من أصل Akoro، و "أنبوب"، من "أبوبو" Aboubo بمعنى قصبة وأنبوب أجوف وما بين عقدتين من القصب، و"اندر" بمعنى بيدر، من "ادرو" Edro و "باسور" بمعنى عنب غير ناضج، و "باكورة" ويراد بها أول الثمر من Bakorto و "بطيخ"، أي البطيخ من Fatiho"بور" صفة للارض من "بورو"Bouro و "بيب"، بمعنى قناة ومجرى الماء إلى الحوض من أصل "بيبو" Bibo، و "بيدر" منBayt-edro و "- تبن" من "تبنو"، و "تخم" بمعنى حد" من أصل "تحومو"thoumo و "ترعة"، بمعنى قناة عميقة من "توعتو" و "توت" من "توتو" toutoا و"ثوم"من toumo و "جبن من أصل goubno والجريب منgribo، و "جرام" بمعنى نواة من أصل garmo، و "الجران" ويراد به حجر منقور للماء وغيره من Gourno، و "الحب" بمعنى الجرة الكبيرة من "حبو" Houbo و "حمص" من "حمصو" Hemso و "حندقوق" من Handqouqo، و "خبيص"، بمعنى حلوى مخبوصة، من طحين وسمن وعسل وأصلها "حييصو" Habiso، و "ا لخر د ل" من "حرد لو"Hardlo، و "خس" من "خسو" Haco، و "الخوص" الذي يكون على السعف من "حوصو" Housoا، والخوخ من Houho و "الدبرة" البقعة المزروعة أي الحقل من "دبرو" dabroو "دبس" أي الدبس من debcho و"دبق" من debeq و "درس"، كأن نقول درس الحنطة من drach و "دقلة" أي نخلة من deqlo، و "رُب" وهو ما ينثر من عصير الثمار من أصل Raubo و "رحى" من Rahyo و "رمان" من أصل Roumano و "ريحان" من Rihno و"زبن"بمعنى باع الثمرعلى شجره من Zaban نمعنى باع و "زبون" بمعنى مشتري من zobouno و "زفت" من أصل zefto و "زق" من zeqo و "زمارة " قصبة يزمر بها من zamorto و "زيت" من zayto و "زيتون" من zaytouno و "سكة" مثل سكة المحراث من sekto
و "سكر" ما يسد به النهر من chakro و "سلاء" أي شوك النخل من salow و "سماق" من أصل sawmoqo، وسنبل الحنطة من seblo و"سنبل" بمعنى نيات طيب الرائحة من sanboul و "شتلة" ما قلع من النبات ليغرس في مكان آخر من أصل chetlo و "شرعوف" نبات وثمر من أصل sourafo و "شالم" و "شولم" و "شيلم" من chaylmo و "صعتر" من setro و "صفصاف" من safsofoو "مطمورة"، وهي حفرة تحفر في الأرض يوسع أسفلها لحفظ الحبوب من matmourto و "عذق" أي عنقود عنب أونخل من "عدق" daq و "عقا ر" خمر ونبات يتداوى به، وقد سمى العرب الخمر دواء من أصل egro، و "عنب" من enbo، و "عنقر" جذر القصب من eqoro. بمعنى جذر و "عود" وهو العود الذي يتبخر به من ouda، و "غابة" من أصل obto بمعنى غابة كثيرة الأشجار، وغدير بمعنى نهر وبركة يتركها السيل من gadiro،و"غرب" نوع من الحور من أصل arbo، و "فجل" من fouglo، وفدان من أصل fando و "فرث"، من ferto" و "الفروج" من farougo، و"الفرخ" من farahto، و "فرع" بمعنى غصن من "فرعو"fero، و "فقح" مثل "فقح النبات" بمعنى أزهر من أصل، "فقح" fqah، و "فقاح النبات" أي زهره من أصل "فقو" fagho، و "فقد"، بمعنى شراب من زبيب أو عسل من "فقودو" fqodo،، و "فل" وهو زهر يشبه الياسمين من "فلو" falo و "قثاء" من qtouto، و "قش" من qecho، و "قصر" وهو ما يبقى في الغربال من النفاية، من أصل "قصرو" qisro أي قشرة الحنطة، و "القطران" وهو سائل زيتي يستخرج من بعض الأشجار من أصل "قطرون" qotron " و "القفيز" وهو مكيال من "قفيزو" qfizo، و "قفص" من "قفسو"qafso، و "قلة" بمعنى جرة كيرة من "قلتو" qoulto، و "قمح" أي حنطة، من "قمحو" qamho، و "كاث" وهو ما ينبت مما انتثر من الزرع المحصود من koto و "كداس"الحب المحصود المجموع من "كديخو" qdicho، و "كر"" بمعنى حمل ستة اوقار حمار، أو ستون قفنزاً من "كورو" kouro، و "كرب" من أصل "كزب" krab، و "كُر ا ث" من karoto، و "كرخ" بمعنى أجرى وحول من "كرخ" krak، و "كرفس" من "كرفسو"،krafso و "كزبرة" من "كوزبرتو" kouzbarto، و "كمثر ى" من "كو متر و" komatro، و "معين" نعت للماء الجاري على وجه الأرض من "مينو" mino، و "نجر" من "نجر"nagar ومنها النجار، و "نشوق" من "نسكو" nosko و "نطر" بمعنى حرس من "نطر" ntar ومنها الناطور أي الحارس، و "نطُاٌ ر" وهو ما يكون على هيأة رجل ينصب بي الزرع لإخافة الطيور. وإبعاد الحيوانات المضرة به من "نوطورو"notoro، و "نيطل" بمعنى دلو من "نطلو" notlo.، ونعناع من mono، و "نورج" سكة المحراث من "نورجو" norgo، و "نير" وهي خشبة معترضة في عنقي ثورين يجران محراثاً من "نيرو" niro، و "هرطمان" من qourtomo، وبل ووابل بمعنى المطر الشديد من "يبل"، و "ورد" من "وردو" wardo، و "وسق" بمعنى حمل بغير من "وسقو" wasqo، و "يتوع"، كل نبات له لبن، أي سائل أبيض في داخله يشبه اللبن من"يتوعو"،yatou,o. وقد وردت لفظة "الأب "" في القرآن الكريم: "وفاكهة وأب... متاعاً لكم". وقد ذكر إن "عمر" قال: "قد عرفنا الفاكهه فما الأبّ ? قال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف"،قد اختلف المفسرون في المراد منها، مما يدل على أن اللفطة لم تكن معروفة عندهم معرفة واضحة، وفي كلام عمر: "إن هذا لهو التكلف"، أو قوله: "ما كلفنا أو ما أمرنا بهذا" دلالة على عدم وضوح معناها عنده وعند الناس. وهي بمعنى "ثمرة" في الإرمية Ebo، وقد ذهب العلماء إلى أن "الأبَّ" ما تنبت الأرض للانعام والماشية، فهي في معنى آخر، يخص العشب والكلا وما تنبته الأرض ليعلفه الحيوان في راي غالبية العلماء، في المعنى الوارد لها في السريانية.
وأما "الأرف"، فبمعنى تقسيم الأرض وتحديدها، ويقال لمن يمسح الأرض يعين حدودها "ارفو"، Arfoفي الارمية، وقد ذكر علماء ا الغة ان الارف الحدود بين الأرضين، أو معالم الحدود بين الأرضين، "وفي حديث عثمان رضي الله عنه، الارف تقطع الشفعة، وهي المعالم والحدود، هذا كلام أهل الحجاز، وكانوا لا يرون الشفعة للجار".
وأما "الأكار" فيذكر علماء اللغة أنها من أصل "أكر"، بمعنى "حفر"، والأكار بمعنى الحفار والحراث والزارع. ومن ذلك حديث "أبي جهل: فلو غير اكار قتلتي"، أراد به احتقاره وانتقاص". تقابل هذه اللفظة لفظة "اكورو" Akoro في الأرمية التي هي "اكار"، ويين الألفاظ التي ذكرتها ألفاظ لايوجد دليل على انها معربة من اصل ارمي لأننا نجد إن لها جذراً عربيا، وهي ليست من المسميات التي لم يعرفها العرب حتى نقول انها استوردت من الخارج، أو ان الحاجة حملت العرب على تعلمها من الرقيق الذي كان عندهم أو من المبشرين أو التجار الغرباء.
وأما المعرب عن الفارسية مما في الزراعه، فاكثره من اسماء أثمار او أزهار أو روائح وعطور، مثل أ الخريز" بمعنى البطيخ، من اصل "خربوزة". وفي الحديث عن أنس قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يجمع يين الخربز والرطب". وفي حديث عن عائشة: "ياكل البطيخ بالرطب". و "السيسنبر" نوع من الريحان، و "الجل" بمعنى الورد، و "الجلاب" اي ماء الورد. وقد وردت اللفظة في حديث عائشة عن الرسول. و ذلك دليل على إن الفظة كانت معروفة قبل أيام الرسول. ويلاظ إن لفظة "بطيخ" هي من الألفاظ المعربة كذلك، عربت من أصل "فطيخو" بلغة بتي ارم، وقليل منه ما يخص آلات للزراعة أو الأرض، مثل "بستان" والجمع "بساتين".، وذلك لأن غالبية الذين كانوا يفلحون الأرض ويزرعونها في العراق وفي بلاد الشام، هم من بني إِرم أو من المتكلمين بلغتهم، وباحتكاك العرب بهم تعلموا اسماء الآلات والأدوات وطرق حرث الأرض وزرعها، وأسماء كثير من الزروع ومقاييس الأرض وطرق الاستفادة من الأرض، فدخلت إلى العربية. أما الفرس في العراق، فلم يكونوا يباشرون زراعة الأرض وفلاحتها في العراق،وانما كان "مرازبتهم" وأثرياؤهم يمتلكون الأرضين الواسعة، ويسخرون أهل البلاد في استغلالها لهم، ولهذا لم تترك لغتهم أثراً كبيراً يشبه الأثر "الإرمي" من ناحية الزراعة في العربية.
أما المعربات في الزراعة عن اليونانية، فاقل عدداً، إذ لم يكن العرب على اتصال مباشر بالمزارعين اليونان، لهذا لم ياخذا عنهم كثيراً، والمعروف من المعربات في هذا الباب هو في أسماء نمر نبات او بذور، أو ما يتعلق بحاصل عنب، مثل الخمور، فقد كان أهل الحجاز يستوردون الخمور من بلاد الشام، وقد تعلمها أهل هذه البلاد من الروم بأسمائها اليونانية. ولما أخذها العرب من بلاد الشام، حرفوا الأسماء بعض التحريف يلائم المنطق العربي.
ُمن هذه المعربات: "الاسفنط": وهي أجود الخمر المطيب من عصير العنب.، من أصل "افسنتين" Apsinthion، كان الخمر يطيب به. و "خندروس"، ويراد بها نوع حنطة، أو حنطة مجروشة من أصل Khandhros، و"خندريس" ويراد بها خمر معتقة، ونعت لخمر مصنوعة من الكرم اسمه Kantharios. و "زنجبيل"، وهي من اصل zinguiveri. ومن الألفاظ الواردة في القرآن الكريم. وقد ذكرت في شعر منسوب إلى الأعشى.
و "القرنفل"، من أصل Kariofillon. و "كافور" من Kafoura. وفي السريانية qafouro. و "المسطار"، ويراد بها الخمر التي اعتصرت من أبكار العنب حديثاًْ، وأصلها "مسطس" Mousotos. و "نرجس" من أصل Narkisos.
وبلاد الشام أكثر شهرة من العراق في الأعناب، وهي مادة صالحة لصنع أنواع متعددة من الخمور. اما اهل العراق، فقد استخرجوا خمرهم من التمر،فلم يعرف لهذا السبب بتنويع الخمور. وقد استغل سكان جزيرة العرب التمور أيضاً لاستخراج الخمور منها، و ذلك في الأماكن التي تكثر فيها النخيل، وتقل أشجار الكروم. ولاتصال الحجاز ببلاد الشام بالقوافل الكبيرة، كانت الخمور من أهم السلع التي تستوردها القوافل من تلك البلاد. - ومن الألفاظ الارامية التي دخلت في العربية،.ولها معان سينية لفظة "ابل" بمعنى تنسك من ebal، و "تابس" بمعنى "حزن" من etebal، و "أبيل" بمعنى راهب من "ابيلو" abilo الإرمي بمعنى ناسك وراهب. وقد جعلها "الجواليقي" فارسية الأصل وهو خطأ منه. و "الباعوث"، صلاة لثاني عيد الفصح في بعض الطوائف من أصل boouto" بمعنى صلاة وطلب "برخ" بمعنى زياده ونماء من "برختو" bourhto بمعنى بركة وعطية و" البيعة" من "بيعتو" bito. و "الدنح"، ويراد بها عيد الغطاس،
من اصل "دنحو" و "دير" اي بيت الرهبان، من أصل دار. و "ديراني." نسبة إلى "دير"، من أصل Dayronoyo. و "رباني"، بمعنى عالم بشريعة اليهود، وحاخام أي معلم من أصل "ربونو" Rabono. و "روح القدس" من "روح قدشو" Rouhqoudcho. و "مزمور" من "مزمورو" Mazmouro. و "سلاّق" عيد صعود السيد المسيح،من Souloqoأي صعود. و لا "صلاة" من "صلوتو" Salouto. و "قس" "قسيس" من "قشيشو" Qachicho. و "القوس" ويراد بها الصومعة، من أصل Kaucho، بمعنى عزلة.. و "ناقوس" من أصل. noqouch وهناك ألفاظ أخرى لها معان دينية، لم تكن شائعة معروفهَ الا بين النصارى، لذلك لم أرَ حاجة إلى الاشارة إليها، ثم إن من الصعب البرهنة على انها كانت مستعملة عند النصارى الجاهليين،.
وبعض الألفاظ المذكورة معروف، وقد ذكر في الحديث، وهذا مما يدل على شيوعه عند أهل الحجاز عند ظهور الإسلام، وبعضه مما ورد في القرآن الكريم من ايات تعرضت للنصرانية في ذلك العهد. " وباتصال العرب باليهود في الحجاز، دخلت في العربية ألفاظ ومصطلحات دينية، عُربت، مثل: "آمين" من أصل "امن"، و"اسرائيل" و "اسرائين" من "يسرائيل" "ي س رال"، و"تابوت" "ت ب ه" بمعنى صندوق خشب و "تلمود" و "توراة" من "تورا" بمعنى تعليم وشريعة، و "جهنم" من "جي هنم"، بمعنى وادي هنم، وهو جنوب أورشليم، أي القدس، وقد كثر فيه قبل الميلاد إحراق الأطفال تضحية لإله العمونيين. و "حبر" من "حبر" "ج ب ر" بمعنى "الرفيق" في الأصل، ثم قصصت بعالم. و "اسرافبل" من "سرافيم" "س ر ف ي م"، ملك من الملائكة الكبارْ، و "سبت" امم يوم، من "شبث" بمعنى يوم الراحة، واستراح. و "سبط"، قبيلة من قبائل اليهود الاثني عشر، من "شبط"، و "مدِراس"، بمعنى معهد تدرس فيه التوراة، من "مدرثس، "مدراش"، اي بحث وشرح نص.
ولفظة "نبي" "نابى" nabi للستعملة في عربيتنا من الألفاظ الواردة في التوراة، وردت "300" مرة في مواضع مختلفة منها. وترد في لغة بني إرم ايضاً، حيث وردت على هذه الصورة nbiyo. وقد ذكر علماء اللغة انها من المعربات.
واخذت العربية من العبرانية ألفاظاً قليلة ذات صلة بالحرف، مثل "تايوت" بمعنى صندوق من "تبا" teba، ويراد بها معنى صندوق في العبرانية. و "فطيس" من "بطيش" Pattich بمعنى مطرقة كا ا. و "قدوم" من "قردم" "قردوم" qardom بمعنى فاس، و "كرزن" من "كرزن" بمعنى فاس كبيرة"، وقد احترف اليهود الحدادة والصياغة والنجارة في الحجاز، وتكسبوا منها، ورآهم الجاهليون، وهم يعملون بآلاتهم، فتعلموا منهم أسماء الآلات المذكورة وغيرها، واستعملوها على النحو المذكور.
ويلاحظ إن الباحثن في المعربات من المستشرقين والشرقيين، رجعوا أصول ألفاظ يهودية إلى السريانة، وهي يهودية في الأصل، وقد أحلها السريانية من العبرانية بواسطة النصرانية، بدليل.ورودها في اليهودية قبل ظهور النصرانية بزمن. أما المجوسية، ديانة الفرس، فلم تترك اثراً يذكر في العربية من ناحية المعربات ذات المعاني الدينية، لقلة اتصالا العرب بها، وعدم اهتمام المجوس بنشر دينهم، وقلة عددهم في جزبرة العرب. ولهذا كانت أكئر ألألفاظ الدينية التي عرفها الجاهليون، قد دخلت فيهم من اليهودية والنصرانية،بسبب اتصال اليهودية والنصرابية بالجاهليين اتصالاً مباشراً، ولفظة "المجوسية" نفسها هي من الألفاظ المعربة، فهي من أصل Magush في الفارسية القديمة، Magh في الفارسية الحديثة، و Maghos في اليونانية، وقد اتتقلت من الإرمية إلى العربية، وفي الحديث: " كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يمجسانه، أي يعلمانه دين المجوسية" وذكر أن اللقظة قد وردت في ييت شعر جاهلي هو: أحارأريلكَ برقاًهبَّ وهـنـا كنار مجوس تستعر استعارا
يقال إن صدر البيت لامرىء القيس وعجزه للتوأم اليشكري، "قال، أبو عمرو ابن العلاء: كان امرؤ القيس معنا عريضاً ينازع كل من قال إنه شاعر،فنازع التوأم اليشكري، فقال له: إن كنت شاعراً فملّط انصاف ما أقول وأجِزها، فقال: - نعم، فقال امرؤ القيس: أصاح أريك برقاً، هب وهناً
ففال التوأم: كنار مجوس تستعر استعارا
فقال أمرؤ القيس: أرَقت له ونام أبو شريح
فقال التوأم: إذا ما قلتُ قد هدأ استطارا
إلى آخر الشعر. وإذا صح هذا التمليط، تكون هذه اللفظة قد وردت فيه لأول مرة في شعر جاهلي.
ُمن الألفاظ التي لها صلة بالمجوسية لفظة."موبذ." و "موبذان"، بمعنى الرئيس الديتي للمجوس. من أصل "موبد"، بمعنى كاهن ورجل دين عند الفرس القدماء. وفي باب الماًكولات والمشروبات وما يتعلق بهما، تجد المعربات عن الفارسية أبرز وأطهر من المعربات الماخوذة من لغة بني ارم، أو من لغة الروم واللغات الأعجمية الأخر. ف "الباذق"، وهو ضرب من الأشربة، من أصل فارسي، هو "باذة" "باده" بمعنى خمر، ئي شراب مسكر. ولفظة "باطية" ويراد بها إناء زجاج للشراب، من أصل "باديه" أي جرة، و "البالغاء"، بمعنى الاكارع من أصل "بايها" بمعنى أرجل.. و "الجلاب" اي ماء للورد، من أصل "كُل آب"، و "كُل" بمعنى ورد،و"آب" بمعنى ماء. و"الجوزينج" "الجوزينق" من الحلاوات، وتعمل من الجوز. من أصل "كوزينة". و "الخربز" البطيخ، من أصل "خربوزة" و "ا لخشكنان" و"الخشكار"، اي خبز مصنوع من قشر الحنطة والشعير، من أصل "خشك"، يمغنى يابس وآرد، بمعنى طحين. و "خوان" بمعنى مائدة و "دوق" بمعنى لبن استخرج زبده، من أصل "دوغ"، بمعنى لبن حامض. و "فالوذج" "الفالوذ" "الفالوذة"، نوع من الحلواء، من أصل "فالوده" "بولاد""، ويذكر أهل الأخبار: أن عبدالله بن جدعان كان يطعم العرب هذا الطعام، فمدح. و "القند"، السكر، و "الكعك"، من أصل "كاك". و "اللوزينح" نوع من الحلواء، من أصل "لوزينه"، و "الأنبار" أهراء الطعام، واحدها "نبر"، و "أنابير" جمع الجمع، من أصل "انباشتن" بمعنى خزن. و "الدّرمك"، وهو الدقيق الأبيض، أي لباب الدقيق، و "الجردق"، و "السميذ".
و "السكباج"، وهو لحم يطبخ بخل، من أصل "سركه باحة"، و "السكبينج" دواء. وصمغ شجرة بفارس، و "السكرجة" قصاع يؤكل فيها صغار، و "الز ير باج"، و "الاسفيداج"، و "الطباهج"، و "النفرينج." من ألوان الطبيخ.
وسبب ذلك إن الفرس كانوا ارفع مستوى من بني إرم في الحياة الأجتماعية" واكثر تقدماً في الحياة البيتية منهم، فتفننوا في الماكل والملبس،وتنوعوا في المطبخ وافتنوّا في تنويع الأكل، وأوجدوا لكل طعام اسماً، لم تعرفه لغة بني إرم، لأنهم لم يكونوا يعرفون تلك الأطعمة، وباحتكاك العرب بالفرس وببني ارم الذين اقتبسوا من الفرس بعض تلك الماكولات تعلموا منهم أنواع الأطعمة، وأخذوا منهم أسماءها أيضاً، ودخلت على بعضها الصنعة، لتحويلها وفق قواعد النطق العريي.
وينطبق ما قلته عن المعربات الفارسية في الأكل والمشروبات وما يتعلق بهما، على المعربات من الفارسية في العطور والروائح والطيب وما يتعلق بها،.وعلى بعض العوائد الاجتماعية، ولا سما بين العرب الذين كانوا على انصال مباشر بالفرس. فقد تاًثروا بحكم هذا الاتصال بهم، واقتبسوا منهم بعض عوائدهم، مثل استخراج ماء الورد المسمى "جلاب"، وهو "ماء الورد" للتطيب به. وقد وردت لفظة "الجل"، ومعناها الورد في بيت شعر للأعمثى. وكذلك الجلسان"، وقد ذكر إن "الجلسلن" من "كلشان" "كلشن"، اي ما يخثر من الورد على الحلفرين في العرس، وذكر انها الورد، أو قبة يعجلون عليها الورد.
و "القمقم"، قنينة لماء الزهر أو نحوه "قمَقمة". وتعتي لفظة كوكوميون وهي "قمقم" وعاء من نحاس لتسخين الماء في اليونانية.. ولعل احدى اللغتين قد استعارتها من الأخرى. وقد رجع بعض علماء اللغة اللفظة إلى الرومية، أي اليونانية، وذكر إن اللفظة وردت في بيت شعر لعنترة.
و "مسك". من "مشك". و "نافجة" وعاء المسك، من أصل "نافه" من "ناف" بمعنى سرة.
واستعارت العربية من الفارسية الفاظاً من الألبسة والأنسجة والخياطة، و ذلك مثل "ابريسم" وهي من اصل "أبريشم" و "استبرق" من أصل "استبرك"، أي ثوب حرير مطرز بالذهب. وقد ذكر علماء اللغة أنها من "لستفره" و "استر وه". و "بركان" "بر نكان"، كساء، من "يرنيان".
و "تخريص" "دخريص" من أصل "تيريز"، وورد أن "البنيقة" معربة كذلك من اصل "بنيك" في معنى "التخريص" و"الدخريص". و "جربان" زيراد بها جيب القميص من أصل "كريبان" و "الجوالق"، من أصل "كوال" "جوال"، ومعناها عدل كبير منسوج من صوف أو شعر.
و "الخسرواني"، وهو الحرير الرقيق الحسن الصنعة، وهو منسوب إلى الأكاسرة أي الملوك. و "الدخدار" وهو الثوب، من أصل "تخت دار". و "الديباج" من أصل "ديوباف" أي نساجة. الجن، و "السبيج"، وهو قميص بلا كمين ولا جيب، من أصل "شبى"، اي ليلى. و"سربال"، من أصل "سر بال". و "سروال"،. و "الشوذر" الملحفة والإزار،، من أصل "جادر". و "الطيلسان" من "طيلسان" "تالسان"، و "الفرند"، الحرير من "برند" و "الكرباس"، ثوب خشن من "كر با س".
وقد عرف الجاهليون ألقاب بعض القادة العسكريين والاداريين في الانبراطوريتين اليونانية والفارسية، فأدخلوها في العربية، لأنها ألقاب رسمية نعت بها أولئك الموظفون الكبار، وعرفوا بعض الرتب الكنسية كذلك. فما دخل إلى العربية من اليونانية واستعمل عند الجاهلين لفظة "بطريق"، من أصل Patrikios. وقد وردت في بعض الرسائل المنسوبة إلى الغساسنة،ويراد بها درجة قائد في الانبراطورية البيزنطية. ولفظة "أسقف"، وقد ورد في كتب السير: إن وفد نجران حين قدم على الرسول، كان يتألف من رؤساء المدينة أصحاب الحل والعقد، ويلقبون ب "السيد" و "العاقب" و "الأسقف". والسيد عندهم صاحب رحلتهم، والعاقب أميرهم وصاحب مشورتهم الذي يصدرون عن رأيه، والأسقف حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم. ولفظة "أسقف" هذه من أصل يوناني هو Episkopos، وأما "قيصر" التي يراد بها في العربية "انبراطور" الروم، أي ملكهم، فإنها من أصل لاتيني هو "سيسر" Caesar. وترد في كتب السير في معرض الكلام على الكتب التي أرسلها الرسول إلى الروم والفرس والحبشة وبعض الأمراء.
ومن المصطلحات المأخوذة من الفارسية في هذا الباب، "الأسوار"، وهو الرامي، وقيل الفارس،وقائد الفرسانْ، من أصل "أسب سوار"، و "اسب" الحصان، و "سوار" على ظهر أي راكب، ومعناها راكب الحصان أي فارس، وتجمع "أسوار" على "أساورة". وترد في الكتب أحياناً مضافة "أساورة الفرس"، وتجمع على "أساور" و "اساورة" أيضاً، وقد وردا جميعاً في الشعر. وأما "الأشائب"، و،مفردها "أشابة"، فمعناها الأخلاط من الناس من أصل "آشوب". وذكر انها عربية خالصة،من "أشب الشيء" بمعنى خلطه. وترد لفظة "أنبار" و "الأنبار"، وتعني أهراء الطعام ويقال للواحد "نبر" أيضاً وأما "الأنابير" جمع الجمع. وقد اشتهر موضع "الأنبار" على نهر الفرات على مقربة من الفلوجة، وكان مأهولا" بالعرب عند ظهور الإسلام، وقد ذكرت في الجزء الأول من هذا الكتاب أن بعض أهل الحجاز ينسب أخذ أهل مكة الكتابة إلى قوم منهم ذكروا أنهم تعلموها من أهل الأنبار.
و "الإيوان" في العربية، الرواق. وهو مكان متسع من بيت تحيط به ثلاثة حيطان، من اصل "أيوان" eyvan. وأما "الدهقان"، فحاكم اقليم، من "ده" بمعى ضيعة و "خان" بمعنى رئيس قبيلة، و ذلك في الفارسية القديمة. وقد وردت اللفظة في بيت شعر للأعشى وتجمع على "دهاقين". وأما "كسرى"، فملك من ملوك الفرس، وهو "خسرو" Khosrow في الفارسية. ولكن الجاهليين جعلوا اللفظة لقبا لملوك إيران، يقابل "شاه" أي الملك، وصارت عندهم مثل: "قيصر" للروم، وتبع لليمن، والنجاشي للحبشة. واما "المرزبان"، فالرئيس من الفرس، وتفسيرها "حافظ الحدّ" في مقابل حاكم ووالي ولاية، وتجمع على "المرازبة".
وأما لفظة "الهربذة" وتجمع على "الهرابذة"، فخادم النار عند المجوس. وقيل: رئيس خدام النار الذين يصلون بالمجوس، وقد تكلمت بها العرب قديماً. وقد وردت هذه اللفظة فىِ بيت شعر لامرىء القيس. وأما "موبذ" و "موبذان" فحاكم المجوس، بمثابة القاضي عند المسلمين، من "موبد" وهو الكاهن ورجل دين عند المجوس.
اما اسماء النقود، فإنها معربات يرجع أصلها إلى الفارسية أو اليونانية أو اللاتينية. فقد كان الجاهليون يتعاملون مع الفرس والأرضين الخاضعة للانبراطورية الرومية، ولهذا تعاملوا بنقود هاتين الانبراطوريتين. وهي نقود.ضرورية من المعادن. وتعاملوا بها في بلادهم ايضئاًكما نتعامل نحن بالنقود الأجنبية، ف "النمي" مثلاَ، هي فلوس رصاص كانت تتخذ ايام ملك بني المنذر، يتعاملون بها في الحيرة، هي من أصل رومي، أي يوناني، هو noummiyon. وقد وردت في بيت للنابغة: وقارفت وهي لم تجرب وباع لها من الفصافص بالنمي " سفسير
وقد نسب هذا البيت لأوس بن حجر أيضاً.
فيظهر من ذلك إن "بني المنذر" كانوا قد أخذوا اللفظة من اليونانية، أي من نقود نحاس ضربها الروم، فضربوها هم في الحيرة، وتعامل بها الناس.وأما "الدينار"، وهو نقد كان معروفاً متداولاّ بين الجاهليين، مستعملا في أسواق مكة وبقية مواضع الحجاز وجزيرة العرب عند ظهور الإسلام. وقد ذكر في القرآن الكريم فإنه نقد روماني يساوي عشرة دراهم، ويعرف ب denarius في الاتينية.
وأما "الدرهم" فاسم نفد يوناني، يسمى دراخمي نdhrakhmiفي اليونانية، وقد شاع استعماله إذ ذاك.
وقد وردت التسمية في بيت شعر هو: وفي كل أسواق الـعـراق إتـاوة وفي كل ما يباع امرؤ مكس درهمْ
ويفيد هذا البيت أن الحكومة كانت تاًخذ إتاوة من الأسواق من التجار والباعة، وأن ما يباع يدقع عنه مكس، قدره درهم.
ولفظة "مكس"، هي أيضاً من الألفاظ المعربة، عربت من أصل "مكسو" Makso في لغة بني إرم.
و "الدانق" نقد أخذت تسميته " من الفارسية" من "دانك". وقد بقي مستعملا في الإسلام. وقد عرف ا الخليفة. "أبو جعفر المنصور" ب "الدوانيقي" نسبة إلى هذا النقد.
وأما "الفلس" وتجمع على "فلوس"، فإنه نقد من نحاس، وأصله في اليونانية "فولس" Follis. وقد عبر عنه بمعنى نقود أيضاً، فقيل في العامية "فلوس"، وقصد بها نقود.
ومن المعربات المستعملة في تقويم النقد وفحصه، لفظة "شقل" بمعنى الوزن، أي وزن النقد لمعرفة مقدار معدنه المؤلف منه. ولفظة "قسطار"،ومعناها ناقد الدراهم، أي الناقد الماهر العارف بالنقد، من أصل لاتيني هو quaestor. وتظهر هذه المعربات إن أهل الحجاز وفي والعرب الشماليين كانوا قد استعملوا النقد البيزنطي والساساني في أسواقهم وفي تجارتهم، وكانوا عالة على الأعاجم في استعمال النقد. و ذلك مما يدل على إن تعاملهم التجاري مع الانبراطوريتين كان وثيقاً. وقد بقيت هذه النقود الأعجمية مستعملة في الإسلام كذلك،وبقيت أسماؤها حية حتى بعد تعريب النقد، ولا يزال اسم الدينار والدرهم والفلس إلى هذا اليو م.
أما العرب الجنوبيون، فكان لهم نقد خاص بهم. تحدثت عنه في الجزء الثامن من كتابي: تأربخ العرب قبل الإسلام. وقد ذكرت أن بعض العلماء رجع تأريخ أقدم نقد عريي جنوبي عثرعليه سنة "405" قبل الميلاد. ويظهر أن أهل الحجاز لم يتعاملوا به كثيراً،بدليل عدم وجود ذكر له في المؤلفات الإسلامية، وفي الأخبار الواردة عن أيام الرسول. وقد ذكرت أن أسماء تلك النقود أسماء عربية جنوبية لا صلة لها باًسماء النقود التي تحدثت عنها، ومن تلك الأسماء: "بلط" ويجمع على "بلطات"، وهو اسم نقد من ذهب. و"خبصت" "خبصة"، نقد من نحاس، و "رضى"، قيل إنهاِ اسم نقد، وقيل إنها صفة للنقد. بمعنى رضية وصحيحة غير مزيفة ولا منقوصة، لأن النقد كان على أساس الوزن والنوع في ذلك العهد. وذكرت أيضاً بعض الألفاظ التي استعملوها في الصيرفة وفي نقد النقود.
ومن الألفاظ اللاتينية التي دخلت إلى العربية "لبرجد"، وهو ثوب مزدان بالذهب، وثوب غليظ مخطط من أصل Paragauda. و "برذون" من أصل burdo وBurdonis، و "دينار" من أصل denarius، وهو نقد من المعدن و "سجل" وقد تحدثت عنها و "سجلاط" من أصل "سجلاطس" Sigillatum ثياب كتان موشاة، وكأن وشيها خاتم وتزدان بصور صغيرةْ. و "سجنجل"، وتعتي المرآة، أو سبيكة فضة مصقولة، استعملت استعمال المرآة، من أصل Sexaangulus التي تعني "المسدس الزوايا" في اللانينية. قد وردت في بيت لامرىَء القيس. و "الصراط"، بمعنى الطريق، من أصل لاتيني هو strata بمعنى طريق كبير مبلط. وقد عرف الرومان ببراعتهم في شق الطرق العسكرية لاستعمالها في التجارة وفي الأغراض العسكرية. و "الصاقور" الفاًس لكسر الحجارة، من أصل لاتيني هو Securis. ويظهر أثر الأخذ من اليونانية واللاتينية والفارسية والارمية في المكاييل والموازين كذلك، و ذلك عند عرب الحجاز ونجد والعراق وبلاد الشام. أما عرب الجنوب فقد كانت لهم أسماء للمكاييل والموازين خاصة بهم، اختلفت عن الأسماء المستعملة عند العرب الشماليين المذكورين و ذلك كما نحدثت عنها في الموضوع الخاص بالمكاييل والموازين عند الجاهليين في الجزء الثامن من كتابي: تأريخ العرب قبل الإسلام. ومن هذه المعربات "المد"، وهو نوع مكيال للحبوب، وهو من أصل لاتيتي هو Modius و "الجريب"، من أصل إرمي هو " جرييو" Gribo. و "الرطل" من أصل يوناني هو Litra، و "الأوقية" من أصل يوناني uncia ounguiya، و "مثقال" من أصل matqolo"، وهو وزن في الإرمية. و "قيراط"، وهو جزء من أربعة وعشرين من أجزاء شيء،أو حبة واحدة من اربعة وعشرين حبة.. وكانه القدماء يزنون بالحب. واللفظة من أصل يوناني هو Keration. و "قنطار"، وهو مئة رطل، من أصل لاتيني هو Certennarium Pondus. و "الكر"، وهو ستة أوقار حمار، وهو مكيال لأهل العراق، وقد ورد ذكره في الحديث، هو". كرو" Kouro في لغة بني إرم. وغير ذلك من أسماء ذكرتها في الجزء الثامن من هذاالكتاب. ولا حاجة بنا إلى اعادة ذكرها.
وأخذت العربية من اللغة "السنسكريتية" بعض الألفاظ الخاصة بالمحاصيل لخاصة بالهند، مثل الفلفل وبعض الأسماء المتعلقة بالتوابل والعقاقير والأطياب والجواهر وقد أشار علماء اللغة إلى ألفاظ شائعة على الألسنة، لكنها أعجمية الأصل تاًتي في نوع المعرب. ذكر "الثعالبي" أمثلة منها في كتابه "فقه اللغة"، وقال " عنها انها: "أسماء فارسيتها منسية وعربيتها محكية مستعملة، هي: الكف.
الساق، الفرش، البز"از، الوزان، الكيال، المساح، البياع، الدلاءل، الصر"ا ف، البقا ل، الجمال، الحمأ ل، القصاب، البيطار، الرائض، الطر"از، الخراط، الخياط، القزً از، الأمير، ا الخليفة، الوزير، الحا جب، القاضي، صاحب البريد، صاحب الخبر، السقاء، الساقي، الشراب، الدخل، الخرج، الحلال، الحرام" إلى غير ذلك من ألفاظ تجدها في كتابه وفي كتب اللغة التي نقلت منه.
وفي بعض الذي ذكره، ما هو فارسي حقاً، أو من مصدر أعجمي آخر، لم يعرفه "الئعالبي"، لأنه لم يعرف من اللغات الأعجمية غير الفارسيه، فنسب أصل تلك الألفاظ إليها، ولكن البعض الباقي هو عربي، ما في أصله العربي من شك، ولا يمكن أن يكون من المعربات.
ونجد في المعاجم وفي كتب اللغة كلاماً عن هذه المعربات، فقي كتاب "المزهر" وكتب اللغة المعتبرة صفحات نص فيها على الألفاظ المعربة من مختلف اللغات. فلا أرى بي حاجة هنا إلى ذكر تفاصيل اخرى عن الألفاظ المعربة بتفصيل كل ما نص عليه العلماء من المعربات. ولكتي أود أن أيين إن علماء اللغة لم يكونوا على علم باللغات الأعجمية، ونلك لم يتمكنوا من رجع المعربات إلى أصولها الحقيقية، فأخطأوا في ذكر الأصول. ونظراً إلى إن فيهم من كان يتقن الفارسية فقد رجع أصول كثير من الألفاظ إلى أصل فارسي، لأنه وجد أن الفرس نطقوا بها، ولم يعلموا انهم أخذوها هم بدورهم من غيرهم، فصارت من لغة الفرس، أو انهم وجدوا بعض الألفاظ قريبة من أوزان الفارسية للكلمات، فظنوا انها فارسية، مع انها من أصل آخر. وفعل بعض منهم ذلك عصبية منهم إلى الفارسية لأنهم من أصل فارسي، فتمحلوا لذلك تكثيراً لسواد المعربات من لغة الفرس وتعصباً لهم.
وفي شعر الأعشى معربات عديدة مقتبسة من الفارسية، قدّ يكون أخذها من عرب الحيرة وبقية عرب العراق، وقد يكون اخذها من الفرس مباشرة لاتصاله واختلاطه بهم في العراق. واقتبسها إما ليحكي عما شاهده ورآه في العراق،فاستعمل الألفاظ الفارسية الشائعة هناك، وإما أن يكون قد تعمد إدخالها في شعره ليري الناسَ أنه حاذق بثقافة الفرس واقف على حضارتهم ولغتهم، كالذي بفعله بعض من يدرس في بلاد الغرب من استعماله ألفاظاً أعجمية في لغته ليلمح للناس بانه قد تثقف بثقافة الأجانب، وتلك في نظره مبزة يفتخر بها على الناس.
وقد زعم أن الأعشى رحل إلى بلاد بعيدة، فبلغ عمان وحمص وأورشليم وزار الحبشة وأرض النبط وأرض العجم، وقد ذكز ذلك في بيتين من الشعر. والى زيارته هذه للعراق ولأرض العجم ينسب أهل الأخبار ورود الألفاظ الفارسية في شعره. وفي بعض المعجمات وكتب اللغة مثل لسان العرب والمعرب للجواليقي، أبيات للاعشى يرد فيها وصف لأحوإل الفرس وعرب العراق، وقد استعمل فيها ألفاظاً فارسية لها مناسبة وصلة بذلك الوصف. منها ما يتعلق بالملابس، ومنها مايتعلق بالأشربة والخمور والأفراح، ومنها ما يتعلق بالمناسبات مثل الغناء والأعياد. وشاعر آخر نجد في شعره معربات فارسية، هو "عدي بن زيد العبادي". وهو من أهل الحيرة، المقربين إلى ملوكها والى الفرس، الحاذقين بالعربية وبلغة الفرس. وقد كان كاتباً باللغتين، كما كان أبوه بليغاً باللسانين، وتولى رئاسة ديوان العرب عند الأكاسرة. وهو نصراني، ولهذا استعمل في شعره ألفاظاً نصرانية اقتبست من السريانية، وأشار بحكم نصرانيته إلى عادات نصرانية، كما كان حضرياً مترفاً غنياً أدخل إلى بيته وسائل الترف والراحة المعروفة في ذلك اليوم، ولهذا فإن لجمع شعره جمعاً تاماً ونقده وتحليله واستخراج صحيحه من منحوله أهمية كبيرة في اعطاء رأي عن الحياة الفكربة والثقافية لعرب العراق قبيل ا لاسلام.
وبعد، فإن اللغة التي بحثت عن وجود المعربات فيها، هي اللغة العربية التي نزل القرآن بها. أما اللهجات والألسنة العربية الجنوبية، فإن أثر هذه المعربات فيها كان قليلاَ، ونجد في كتاباتها ألفاظاً عربية جنوبية، مكان تلك المعربات. ومعنى هذا بعُد نلك اللهجات عن المؤثرات الأعجمية الشمالية. وسبب ذلك رقي المتكلمين بها، وتقدمهم في الحضارة بالقياس إلى بقية سكان جزيرة العرب والى ابتكارهم أنفسهم لكثير من الأشياء، فكان من الطبيعي إن تكون أسماؤها بلغة الصانعين لها.
ولدي ملاحظة، هي إن وجود المعربات في العربية الحجازية، يدل دلالة صريحهَ واضحة، على إن المتكلمين بها كانوا قد تأثروا بالحضارات الشمالية أكثر من تاثرهم باخوانهم العرب الجنوبيين، وان اتصالهم الفكري كان بالشمال أكثر منه بالجنوب، ولا يقتر هذا التأثر على المعربات فقط،بل يشمل كل المؤثرات الثقافية الأخرى، كالذي رأيناه في مواضع متعددة من الأجزاه المتقدمة من هذا الكتاب. فكأننا أمام ثقافتين مختلفتين وشعبين متباينين،بالرغم من اتصال حدود الحجاز باليمن، وقرب المسافة بينهما، حتى اللغة نجد بوناً شاسعاً بينها وبين اللغات العربية الجنوبية، وهذا ما حمل بعض العلماء على القول: ما لغة حمير بلغتنا،ولا لسانهم بلساننا، ففرق بين اللسانين.
أما "أمية بن أبي الصات" فقد وردت في شعره معربات من أصل سرياني في الغالب، يظهر أنه أخذها من المنابع النصرانية التي قيل إنه وقف عليها. فقد ذكر أنه كان قد قرأ كتب أهل الكتاب، ووقف على أخبارهم وعقائدهم، وإن اتصاله بهم أثر في رأيه الذي كونه لنفسه في الأديان. وأرى أن من اللازم توجيه العناية لدراسة ما تبقى من شعره للوقوف على أصوله، وعلى درجة تأثره بالتيارات الفكرية والآراء الدينية لأهل الكتاب، وعلى الألفاظ المعربة عن السريانية أو غيرها التي ترد في شعر هذا الشاعر، و ذلك بعد التأكد من صحة الشعر. ومن المعربات الواردة في شعر "أمية" لفظة "تلاميذ" جمع تلميذ، و ذلك في هذا الشعر المنسوب إليه: والأرض معقلنا وكانت أمّنـا فيها مقامتنا وفيهـا نـولـد
وكا تلاميذعلى قذفـاتـهـا حُبسوا قياماً فالفرائص ترعد
وفي هذا الشعر: صاغ السماء فلم يخفض مواضعها لم ينتقص علمه جهـل ولاهـرم
لا كشفت مرة عتا ولا بليت فيها تلاميذ في أقفائهم دغم
وذكز أن "المتلمد" الواردة في شعر ينسب له أيضاً، بمعنى متلمذ، وأن لفظة "التلاميذ" قد ترخم في الشعر على "تلام"، كما جاء في شعر "الطرماح"،و "غيلان بن سلمة" الثقفي، وهو من الشعراء المخضرمين. ووردت لفظة "التلاميذ" في شعر لبيد، في هذا البيت: فالماء يجلو متونهن كما جلو التلاميذ لؤلؤ اًقشبا
وقد ذكر علماء اللغة أن التلاميذ: غلمان الصاغة، وهي فارسية.
معرفة المعرب
قال علماء العربية تعرف عجمهّ الاسم بوجوه: 1- النقل بأن ينقل ذلك أحد أئمة العربية.
2- خروجه عن أوزان الأسماء إلعربية نحو إبريسم، فإن مثل هذا الوزن مفقود في أبنية الأسماء في اللسان العربي.
3- أن يكون أوله نون ثم راء نحو نرجس، فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية.
4- أن يكون آخره زاي بعد الدال، نحو مهندز، فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية.
5- أن يجتمع فيه الصاد والجيم، نحو الصولجان والجص.
6- أن يجتمع فيه الجيم والقاف نحو النجنيق،والجردقة، والجرموق، والجوسق، و ا لجلاهق، و جلنبق.
7- أن يكون خماسياً أو رباعباً عارياً عن حروف الذلاقة، وهي: الباء، والراء، والفاء، واللام، والميم، والنون، فإنه متى كان عربياً، فلا بد أن يكون فيه شيء منها. نحو سفرجل، وقِرطعب، وجحمرش.
هذا وقد تتبع بعض علماء العربية كلام العرب، فوجدوا بعض حالات إذا اجتمعت فيها حروف معينة دلت على أصل أعجمي، من ذلك قولهم: 1- الجيم والتاء لا تجتمعان في كلمة من غير حرف ذي لقيّ، ولهذا ليس الجبت من صميم العربية.
2- الجيم والطاء لا تجتمعان في كلمة عربية،.ولهذا كان الطاجن والطيجن مولدين، لأن ذلك لا يكون في كلامهم الأصلي.
3- لا تجتمع الصاد والطاء في كلمة من لغتهم، أما الصراط، فصاده من السين.
4- ندر اجتماع الراء مع اللام إلا في ألفاظ محصورة: كور ل ونحوه.
5- قال "البطليوسي": لا يوجد في كلام العرب دال بعدها ذال الا قليل، ولذلك أبى البصريون أن يقولوا بغداذ.
6- ليس في كلام العرب شين بعد لام في كلمة عربية محضمة، الشينات كلها في كلام العرب قبل اللامات.
اقسام الأسماء الأعجمية
"قال أبو حيان في الارتشاف: الأسماء الأعجمية على ثلاثة أقسام: قسم غيرته العربُ،وألحقته بكلامها فحكم أبنيته في اعتبار الأصل والزائد والوزن حكم أبنية الأسماء العربية الوضع، نحو درهم وبهرج. وقسم غيرته ولم تلحقه باًبنية كلامها، فلا يعتبر فيه ما يعتبر في القسم للذي قبله، نحو آجر وسفسير.وقسم تركوه غير مغير، فما لم يلحقوه بأينية كلامهم لم يعد منها، وما ألحقوه بها عد منها مثال الأول خراسان، لا يثبت به فُعالان، ومئال الثاني: خُرم ألحق بسلُّم، وكُركُم ألحق بقُمقُم.
ابدال الحروف
وهناك حروف لا تتكلم بها العرب إِلاّ ضرورة، فإذا اضطروا إليها حولوها عند التكلم. بها إلى أقرب الحروف إلى مخارجها، و ذلك كالحرف الذي بين الباء والفاء مثل "بور" إذا اضطروا قالوا "فور". لأن "بور" ليس من كلام العرب. وحرف "ب" حرف غير عربي. وقد يحولون ل "ب" إلى "ب"، كما في "سابور"، وأصله "شابور".
وقد يحول حرف ل "ب" إلى "P"" إلى "ف" عند تحويل الأعلام الأجنبية إلى عربية. مثل Platon، اسم الفيلسوف اليوناني، "27 4 - 347 ق. م" الذي حول إلى "افلاطون". و ذلك بتحويل حرف "الباء" إلى "ف"، وبتحويل حرف "التاء" إلى "طاء". وقد اتيع المعربون قاعدة تحويل "التاء" الواردة في الأعلام الأعجمية إلى حرف "طاء" في الغالب، فحول Aristoteles "384 - 2 32 ق. م" إلى "أرسطو طاليس". و Plotinus الاسكندري "205 - 270 م"، إلى "فلوطين". ولو زالت هذه الطريقة معروفة ف "تهران" عاصمة ايران، هي "طهران".
والعرب يعربون الشن سيناً، فيقولون: نيسابور، وهي نيشابور، وقد أبدلوا بالإضافة إلى حرف "الشين" حرف "الباء" "ياء"". فالأصل "نيشابور"، ومثل ذلك: "سابور"، فالأصل هو "شابور".
"وقال بعضهم: الحروف التي يكون فيها البدل في المعرب عشرة: خمسة يطُرد إبدالها، وهي: الكاف، و ا لجيم، والقاف، و الباء، و الفاء. و خمسة
لا يطرد إبدالها ة وهي: السين، والشين، والعين، واللام، والزاي. فالبدل المطرد: هو في كل حرف ليس من حروفهم كقولهم:كربج، الكاف فيه بدل من حرف بين الكاف والجيم، فابدلوا فيه الكاف؛ أو القاف نحو قربق. أو الجيم نحو جَورب، وذلك فِرند هو بين الباء والفاء فمرّة بدل منها الباء ومرّة تبدل منها الفاء. وأما ما لا يطرد فيه الإبدال، فكل حرف وافق الحروف العربية كقولهم اسماعيل أبدلوا السين من الشين، والعين من الهمزة، وأصله إشمائيل. وكذلك قفشليل أبدلوا الشين من الجيم واللام من الزاي، والأصل قفجليز، وأما القاف في أوله فتبدل من الحرف الذي بين الكاف والجيم".
النثرهو الكلام المرسل الذي لا يتقيد بالوزن والقافية، وهو الجزء المقابل للشعر، من أجزاء الكلام. وهو أقدر من الشعر على إظهار الأفكار وعلى التعبير عن الراي، وعلى الإفصاح عن علم ومعرفة، لكونه كلاماً مرسلا حراً لا يتقيد بقيود، خالياً من الوزن والقافية ومن المحافظة على القوالب، إلا انه دون الشعر في التاثر في النفوس وفي اللعب بالعواطف، لما في الشعر من سحر الوزن والقافية والإنشاد بانغام متباينة مؤثرة، لا سيما إذا ما اقترن بعزف على آلات طرب. ولوجود القافية والوزن في الشعر، ولكونه أبياتاً، سهل حفظه،وصار من الممكن خزنه في الذاكرة أمداً طويلاّ، وهن هنا امتاز على النثر، الذي لا يمكن حفظه بسهولة، ولا خزنه في الذاكرة، لعم وجود مقومات الخزن المذكورة فيه. والنثر الذي نقصده ونعنيه، هو النثر الذي يبحث عنه مؤرخ الآداب، لكونه قطعة فنية، تعبر عن عاطفة انسانية، وعن مظاهر الجمال والشوق والتأثر في النفوس، فيه صياغة وفن في حبك القول، وتفنن في طرق العرض، وإغراء في تنميق الكلم ودبج الكلمات، وحلاوة وطراوة وسحر وبيان، فهو كلام عال لا يشبه كلام العامة، ولا مما يتخاطب به الناس، ولا مما يتعامل به في التجارة والمكسب أو في الدوائر، وانما هو من قبيل كتب الأدب، ومن قبيل الأمثال والخطابة والمراسلات الأدبية وما شاكل ذلك من وجوه. ولهذا، نستبعد من هذا النثر، ما وصل الينا من نصوص جاهلية، لأنها كتبت في أغراض أخرى، كتبت في تقديم نذور، وفي معاملات: من بيع وشراء، وتئبيت ملك، أو تحديد حدود، أو في قوانين وأوامر، ولم تكتب في أغراض أدبية خالصة. وبين ايدينا خطب طويلة ومتوسطة وقصيرة، نسبها الرواة إلى خطباء جاهليين، زعموا أنهم كانوا في ايامهم آية في الفصاحة والبلاغة. والبيان، وأساطير وقصص زعم أهل الأخبار أنها أخبار صحيحة وروايات مروية،وأصول منافرات ومفاخرات ومعاتبات ومشاتمات، زعموا انها جرت في الجاهلية، وانتقلت اصولها بنصها وفصها وحروفها وكلمها من رواتها إلى الإسلاميين، فدو نت في كتبهم، كما رووا حكماً وأمثالاَ وأقوالا"، زعموا أنها لحكماء من أهل الجاهلية حفظها الناس حفظاً، ورووها رواية رجلاّ عن رجل، وجيلاَ عن جيل، حتى وصلت، مرحلة التدوين. وكل هذا المسجل الذي نتحدث عنه، هو من مدونات أهل الإسلام، ليس فيه من مدونات أهل الجاهلية أي شيء.
وبين هذا النثر، خطب منمقة مزوقة، نسبت إلى ملوك وسادات العرب البائدة، الذين بادوا قبل الإسلام بعهد طويل، ومات معهم أدبهم بالطبع، وخطب نسبت إلى التبابعة، وقد هلكوا أيضاً قبل الإسلام، وكلام نسب إلى أنبياء جاهليين، والى الجن أيضاً، رواه أهل الأخبار، دون أن يكلفوا أنفسم مشقة الإفصاح عن كيفية وصول تلك الخطب و ذلك الكلام اليهم، مع أنهم كرّروا القول بأن كلام بعضهم كان كلاماً آخر يخالف كلامنا، وأن عربيتهم لا تشاكل عربيتنا، فكيف نقلوها ودوّنوها إذن في الإسلام إن نثراً من هذا النوع هو نثر مصطنع بالطبع صنع على لسان أولئك الماضين، من غير شك ولا شبهة، فهو من هذه الناحية مكذوب مرفوض.
وأما النثر المنسوب إلى العرب الذين عاشوا قبيل الإسلام، أو أدركوا الإسلام، فالصحيح في " أقل من المصنوع، خاصة نصوص الخطب والحكم والمواعظ، والقصص والأيام، والوفادات والخطب الطويلة، لأن من المستحيل على الذاكرة، حفظ الكلام المنثور بالحروف والكلمات حفظ اشرطة التسجبل له أو للغناء أو الموسيقى، مهما وهب الله تلك الذاكزة من قوة في قدرة الأخذ والحفظ. ثم هي إذا حفظته اليوم، فلا بد وأن تتعثر به غداً، ثم يزداد تعثرها به بعد ذلك. هذا رسول الله يذكر "قس بن ساعدة الإيادي"، فيقول: "رحم الله قساً كأني أنظر إليه على جمل أورق، تكلم بكلام له حلاوة لا أحفظه"، وإذا راجعت نص خطبة "قس" في الموارد، تجد الرواة على اختلاف شديد فيما بينهم في ضبط نصها، وهذا حديث رسول الله التام، لي المروي بالنص، وبالطرق الصحيحة تراه يرد أحياناً بعبارات مختلفة مع اتحاد المعنى، مما يدل على أن رواته قدأجهدوا أنفسهم جهد طاقتهم في حفظه، لكنهم عجزوا عن حفظه حقظ الكتاب للمكتوب. خذ صيغ التشهدات في الصلاة مثلا، وهي قصيرة العبارة، لا طول فيها، تجد الصحابة والفقهاء يختلفون مع ذلك في ضبطها، فترى نص تشهد "ابن مسعود" يختلف بعض الاختلاف عن نص تشهد "ابن عباس"، وعن نص تشهد"عمر"، وعن نص تشهد "أبي سعيد الخدري"، وعن تشهد "جابر"، مع قول "ابن مسعود": "علمني رسول الله التشهد وكفيّ بكفّه، كما يعلمني السورة من القرآن"، وقول "أبي سعيد الخدري": "وكناّ لا نكتب إلا القرآن والتشهد"، وقول "جابر": "كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"، بل خذ القرآن، وهو كتاب الله المضبوط المدو"ن، الذي حفظه بعض الصحابة، وتلوه على الرسول، وحرصوا على المحافظة على نصه حرصهم على حياتهم، بل أشدّ منها، ودونوه ساعة الوحي، وأمام الرسول، ظهرت مع ذلك فيه قراء ات، بسبب اختلاف مدارك الصحابة في فهمه وفي حفظه، وبسبب اللهجات وعيوب الخط، فإذا كان هذا ما حدث في أيام الرسول وبعد وفاته بقليل، وقد وقع في أعز كلام بالنسبة للمسلمين، فهل يعقل بعد،التصديق بصحة النصوص المروية لخطب طويلة، زعم أنها قيلت في قصور كسرى، أو بحضرة ملوك الحيرة، أو الغساسنة، أو تبابعة اليمن، أو الكلام المروي عن قوم عاد وثمود، وقوم لوط، وغيرهم وغيرهم ممن هلكوا وبادوا قبل الإسلام بزمن طويل.
ثم كيف نصدق بخطب زعم انها قيلت في الجاهلية، مثل خطبة "النعمان بن المنذر" أمام كسرى، أو خطب الوفد الذي أرسله هذا الملك إلى "كسرى" ليكلمه في أمر العرب، وهي خطب طويلة منمقة، على حين يذكر العلماء إن الأحاديث لم تنقل كما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم،وانما رويت بالمعنى". وسبب ذلك، انهم وجدوا إن من غير الممكن اثبات النص بالرواية من غير تبديل ولا تغيير قد يقع عليه، وخشية وقوع هذا الخطاً في كلام الرسول، وهو أعز كلام، وعليه ترتيب الأحكام في الحلال والحرام، جوّ زوا الرواية بالمعنى. ولهذا تركوا الاستشهاد بالحديث "على إثبات القواء- الكلية في لسان العرب"، ولو وثق العلماء من أن لفظ الحديث، هو لفظ الرسول حقاً "لجرى مجرى القرآن الكويم في إثبات القواعد الكلية. واتما كان ذلك لأمرين: أحدهما إن الرواة جوّزوا النقل بالمعنى، فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه صلى الله عليه وسلم لم يقل بتلك الألفاظ جميعها، نحو ما روى من قوله: زوجتكها بما معك من القرآن، ملكتكها بما معك من القرآن، خذها بما معك من القرآن، وغير ذلك من الألفاظ الواردة، فتعلم يقيناً انه صلى الله عنيه وسلم، لم يتلفظ بحميع هذه الألفاظ، بل لا يحزم بأنه قال بعضها، إذ محتمل انه قال لفظاً مرادفاً لهذه الألفاظ، فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه إذ المعنى هو المطلوب،ولا سيما تقادم السماع وعدم ضبطها بالكتابة والاتكال على الحفظ. والضابط منهم من ضبط المعنى. وأما من ضبط اللفظ فبعيد جداً، لا سيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم اني أحدثكم كما سمعت، فلا تصدقوني، انما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين انهم يروون بالمعنى وفي سنن الترمذي، عن مكحول عن وائلة بن الأسقع قال: إذا حدثناكم على المعنى فحسبكم، ورواية الذهبي في سر أعلام النبلاء: إذا حدثتكم بالحديث على معناه فحسبكم.
لقد وجد الصحابة إن من الصعب عليهم حفظ كلام الرسول بالنص والحرف، وهم معه في كل وقت، يحدثهم ويحدثونه، فيشق عليهم ضبط كلامه، وهم لا يكتبونه ولا يكررونه عليه، وليس من الممكن أن يجلس رسول الله، ثم يطلب من أصحابه إعادة كل كلام كلمهم به، فسأله أحدهم: "يارسول الله ني اسمعع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمعه منك، يزيد حرفاً أو ينقص حرفاً. شال: لذا لم تحلوا حراماً ولم تحرموا حلالاّ وأصبتم المعنى فلا بأس" وكان من الصحابة من يروي حديثه تاماً، ومنهم من ياتي بالمعنى، ومنهم من يورده مختصراً، وبعضهم يغاير بين اللفظيٍن ويراه واسعاً إذا لم يخالف المعنى. وروي عن "مكحول"، "قال دخلت أنا وأبو الأزهر على وائلة بن الأسقع فقلنا له: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله ليس فيه ولا تزيد ولا نسيان !فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئاً ? فقلنا: نعم وما نحن له بحافطي جداً. إنا نزيد الواو والألف وننقص، فقال: هذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تالونه حفظاً، وانكم تزعمون انكم. تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى ألا يكون سمعنا لها منه إلا مرة واحدة? حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى.
وكان ابن أبي ليلى يروي الشيء مرة هكذا ومرة هكذا بغير إسناد، وانما جاء هذا من جهة حفظه، لأن أكثر من مضى من أهل العلم كانوا لا يكتبون،ومن كتب منهم فإنما كان يُكتب لهم بعد السماع،وكان كثير منهم يروي بالمعنى فكثيراً ما يعبر عنه بلفظ من عنده فياتي قاصراً عن أداء المعنى بتمامه، وكثيراً ما يكون أدنى تغير له محيلاً له وموجباً لوقوع الإشكال فيه، وقد أجاز الجمهور الرواية بالمعنى".
ولتجويزهم رواية الحديث بالمعنى، لم يحتج أئمة النحو المتقدمين من المصرين بشيء من الحديث في النحو، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب "ولولا تصريح العلماء براز النقل بالمعنى في الحديث، لكان الأولى في اثباته فصيح اللغة كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أفصح العرب. جرى على ذلك الواضعون الأولون لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، وا الخليل، وسيبويه من أئمة البصرة، والكسائي، والفراء، وعلي بن المبارك الأحمر، وهشام الضرير من أئمة الكوفة فعلوا ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول، إذ وثقوا بذلك لجرى مجرى. القرآن الكريم في اثبات القواعد الكلية. وإذا كان هذا موقف ذاكرة الصحابة من كتاب الله ومن حديث رسوله، فهل يعقل أن تكون حافظتهم أقوى وأشد حفظاً واكثر دقة في رواية كلام هو دون كلام الله وكلام رسوله، فنصدق قول من قال إن "سلمة بن غيلان" الثققي مئلاّ دخل في ناس من العرب على كسرى، فطرُح لهم مخاد عليها صورته، فوضعوها تحتهم، إلا سلمة بن غيلان فإنه وضعها على رأسه، فقال له: ما صنعت ? قال: ليس حق ما عليه صورة الملك أن يبتذل، وما اجد في جسدي عضواً لا أكرم ولا أرفع من رأسي فجعلتها فوقه. فقال له: ما أكلك ? فقال: الحنطة. فقال: هذا عقل الحنطة أو أن نصدق بكلام وفد "طي إلى "سواد بن قارب" الدوسي، وامتحانهم إياه، ثم جوابه المسجع على سجعهم، أو كلام الكاهنة "عفيراء" الحميرية،، أو كلام "ابنة الخس"، أو كلام "عبد المطلب"، وغره من سادات قريش مع تبابعة اليمن وحكامها الحبش، وهو كلام مضبوط بالحروف والكلمات، ترويه كتب أهل الأخبار على أنه كلام صحيح صادق، لم ينله تغيير ولا اعتراه تبديل، وكأنه قد سجل على شريط "تسجيل"، أو على اسطوانة، لم تلعب بها يد إنسا ن.
جاء في "لسان العرب": "قيل لسيدنا محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الأمي لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب،وبعثه الله رسولاَ وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه ا الخلة احدى آياته المعجزة، لأنه، صلى الله عليه وسلم، تلا عليهم كتاب الله منظوماً، تارة بعد أخرى، بالنظم الذي أنزل عليه فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه، وكان الخطيب من العرب، إذا ارتجل خطبة ثم أعادها زاد فيها ونقص"، فإذا كان هذا شان الخطيب،
وهو مرتجل الخطبة، وصاحبها لا يستطيع إعادة نصها، فكيف يكون حال السامع الذي يسمعها سماعاً ولا يكتبها على صحيفة، فهل يحوز اذن لنا التصديق بصحة نصوص هذه الخطب الجاهلية وما يروونه عن الجاهليين من أدب منثور !
السجع
وقد جعل "الجاحظي" كلام العرب أنماطاً، جعله "في الأشعار، والأسجاع، و ا لمزدوج، و المنثور".
والسجع في تعريف العلماء له: الكلام المقفى، أو موالاة الكلام على رويّ واحد. وقيل: السجع أن يأتلف أواخر الكلم على نسق كما تأتلف القوافي. وسجع يسجع سجعاً: نطق بكلام له فواصل كفواصل الشعر من غير وزن. وقد ألفِ "الكهان" النطق بالسجع، حتى غلب على كلامهم، واختص بهم، كما اختص الشعر بالشعراء، فعرف لذلك ب "سجع الكهان". "ولما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، في جنين امرأة ضربتها الأخرى، فسقط ميتاً بغرة على عاقلة الضاربة، قال رحل منهم: كيف ندى من لا شرب ولا أكل ولا صاح، فاستهل. ومثل دمه يطل. قال صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الكهان. وفي رواية: اياكم وسجع الكهان. وفي الحديث انه، صلى الله عليه وسلم، نهى عن السجع في الدعاء. قال الأزهري: انما كره السجع في الكلام والدعاء.لمشاكلة كلام الكهنة وسجعهم فيما يتكهنونه، فأما فواصل الكلام المنظوم الذي لا يشاكل السجع، فهو مباح في الخطب والرسائل". وروي الحديث على هذه الصورة: ا اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت احداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله إن دية جنينها غُرّ ة، عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها. وورثها ولدها ومن معهم. فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل، ففال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: انما هذا من اخوان الكهان، من اجل سجعه الذي سجع".
. قال الجاحظ في معرض كلامه على السجع وقول الرسول: أسجع كسجع الجاهلية. "وكان الذي كره الأسجاع بعينها وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، أن كهان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون اليهم، وكانوا يدعون الكهانة، وأن مع كل واحد منهم رئياً من الجن، مثل حازي جهينة، ومثل شق وسطيح، وعُز"ى سلمة، وأشباههم: كانوا يتكهنون، ويحكمون بالأسجاع، كقول بعضهم: والأرض والسماء. والعُقاب الصقعاء، وافعة ببقعاء، قهد نفر المجد بني العُشراء، للمجد والسناء.وهذا الباب كثير. ألا ترى أن ضمرة بن ضمرة، وهرم بن قطبة،والأقرع ابن حابس، ونفيل بن عبد العزى، كانوا يحكمون.، وينفرون بالأسجاع وكذلك ربيعة بن حذار. قالوا: فوقع النسُ في ذلك الدهرِ، لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها في صدور كثير منهم، فلما زالت العلة، زال التحربم. وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فيكون في تلك الخُطب أسجاع كثيرة فلا ينهونهم. وقد كان الكهان حكاماً كذلك، يفصلون في الخصومات بين الناس. يأتي اليهم المتخاصمون، وبعد أن يؤكدوا لهم رضاهم وقناعتهم بحكمهم، يحكمون بينهم فيما يرونه، وينسب الناس إلى الكهان إدراك الغيب برئي ياًتي اليهم فيلقي لهم بما يراه ويعلمهم من المغيبات عما يسألون، ولذلك ورد: أن الكهانة هي ادعاء علم الغيب، كالإخبار بما سيقع، وورد: الكاهن القاضي بالغيب، وكل من ادل بشيء قبل وقوعه.
ويفهم من روايات أهل الأخبلر ومن كتب الحديث والموارد الأخرى، أن الكهانة كانت شائعة في الناس،فكانوا يقصدونهم في كل شيء لاستشارتهم وللاخذ برأيهم وللفصل في الخصومات والنزعات. وقد منعها الإسلام، حتى ورد في كتب الحديث: إن من أتى كاهناً او عرافاً فقد كفر.
ونجد في بطون الكتب أمثلة من سجع الكهان. وهو يستحق الدرس والبحث، لتحليل عناصره، وبيان صدقه من كذبه، وصحيحه من فاسده. وفي بعضه مثل ما نسب إلى "زبراء الكاهنة"، محاكاة لأسلوب السور القصيرة من القرآن الكريم. وهو مرحلة مهمة من مراحل تطور أسلوب الكلام عند العرب، وهو حري اذن بالدراسة وبالبحث.
وقد أشير إلى قول الكهان في القرآن الكريم في آية: "فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون"، و "انه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كإهن، قليلا ما تذكرون". فقد زعموا انه كاهن، وزعموا انه مجنون، فوبخوا لزعمهم هذا، وقيل لهم إن "محمداً ليس بكاهن فتقولوا هو من سجع الكهان". "وكانت قريش يدعون انهم أهل النهي والأحلام"، " فقال الله أم تأمرهم أحلامم بهذا أن يعبدوا أصناماً بكماً صماً، ويتركوا عبادة الله، فلم تنفعهم أحلامهم حين كانت لدنياهم"، فانزعجوا منه وقالوا عنه انه كاهن، وانه شاعر، وانه مجنون. وفي اتهامهم الرسول بانه كاهن، وبأن القرآن "هو من سجع الكهان"، دلالة على وجود السجع عند الجاهليبن، وانه كان من نمط الكلام الذي اختصوا به. فلا مجال اذن للشك في وجود السجع عندهم، وان كنا نشك في صحة نصوص السجع المنسوب اليهم ويذكر أهل الأخبار، أن "ضماداً" لما قدم مكة معتمر اً، "سمع كفار قريش يقولون: محمد مجنون. فقال: لو اتيت هذا الرجل فداويته، فجاءه فقال له: يا محمد إني أداوي من الريح، فإن شئت داويتك لعل الله ينفعك. فتشهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حمد الله وتكلم بكلمات فأعجب ذلك ضمادأَ فقال: أعدها عليّ، فأعادها عليه، فقال: لم أسمع مثل هذًا الكلام قط، لقد سمعت كلام الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل هذا قط". فالكنهة والسحرة والشعراء هم طبقة خاصة، كانوا يؤثرون في عواطف السامعين باستعمالهم أسلوباً خاصاً من الكلام، هو أسلوب السجع، بالنسبة إلى الكهنة والسحرة، والشعر بالنسبة الى الشعراء. أما الخطباء، فقد كانوا سجاعاً في الغالب، لكنهم كانوا يستعملون المرسل من النثر أيضاً بأساليبه المختلفة.
وقد ذكر "الجاحظ" أن "الكهان" كانوا "يتكهنون ويحكمون بالأسجاع"، هذه "زبراء" تنذر "بني رئام"، عن أنباء ستقع، فتقول "واللوح الحافق والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأدو ختلا، ويحرق أنياباً عُصلا، وإِن صخر الطود لينذر ثُكلا، لا تجدون معه معلا، فوافقت قوماً أشارى سكارى، فقالوا: ريح خجوج، بعيدة ما بين الفرُُ وج، أنت زبراق بالأبلق النتوج. فقالت زبراء: مهلاً يا بني الأعزة، والله إني لأشم ذفر الرجال تحت الحديد، فقال لها فتى منهم يقال له هُذيل بن منقذ: يا خذاقِ، والله ما تشمين إلا ذَفَر إبطيك، فانصرفت عنهم وارتاب قوم من ذويَ أسنانهم، فانصرف منهم أربعون رجلاٌ وبقي ثلاثون فرقدوا في مشربهم، وطرقتهم بنو داهن وبنو ناعم فقتلوهم أجمعين".
وهذا كاهن "بني أسد" "عوف بن ربيعة"، يأتيه " رئيه"، فيتكهن لقومه قائلاً: "يا عبادي قالوا: لبيك ربنا، قال: من الملك الأصهب، الغلاّب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يعلق رأسه الصخب، هذا دمه ينثعب، وهذا غداً أول من يسُلب، قالوا: من هو يا ربنا ? قال: .
لولا: أن تجيش نفس جاشية، لأخبرتكم انه حجر ضاحية. فركبوا كل صعب وذلول فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكرُ حجر فهجموا على قبته "". وهذا "ختافر بن التوءم" الحصري الكاهن، وكان قد أوتي بسطة في الجسم، وسعة في المال، وكان عاتياً، يأتيه "رئيه" بعد غيبة طويلة، فيقول: "خُنافر" فيجيبه: "شصار ?"، فقال: "اسمع أقل"، قال خنافر: قل اسمع، فقال: عه تغنم، لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية. قال خنافر: أجل، ففال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، انتسخت النحلَ، ورجعت إلى حقائقها الملل، انك سجير موصول،والنصح لك مبذول، وإني آنست باًرض الشام، نفرا من آل العُذام"، حكاماً على الحكام، يذبرون ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزجرت، فعاودت فظلفت، فقلت بم تهيمنون، وإلام تعترون ? قالوا: خطابٌ كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع ياشصار،عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الاثار، تنج من أوار النار، فقلت: وما هذا الكلام ? فقالوا: فرقان بين الكفر والايمان، رسول من مضر، من أهل المدر، ابتعُث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجاً قد دَثرَ، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومعاذ لمن ازدجر، ألف بالآي الكبر، قلت: ومن هذا المبعوث من مضر ? قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشر، وان خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر، وأقبلت اليلك ابادر، فجانب كل كافر، وشابع كل مؤمن طاهر، وإِلا فهو الفراق، لا عن تلاق، قلت: من اًين أبغي هذا الدين ? قال: من ذات الإحرين، والنفر اليمانين، أهل الماء والطين، قلت: أوضح، قال: الحق بيثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل، فهناك أهل الطول والفضل، والمواساة والبذل، ثم املس عتي، فبت مذعوراً أراعي الصباح، فلما برق لي النور امتطيت راحلتي، وآذنت أعبدي، واحتملت بأهلي حتى وردت الجوف، فرددت الإبل على أربابها بحولها وسقابها، وأقبلت أريد صنعاء، فأصبت بها معاذ بن جبل أميراً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبايعته على الإسلام وعلمني سوراً من القرإن، فمنّ الله عليّ بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة" وهكذا اسلم على حد قول أهل الأخبار والفضل يعود في ذلك إلى "رئيه" "شصار" الذي أسلم قبله، وهو من الجن، والجن مثل البشر، منذ ظهر الإسلام بين مسلم وكافر. ولما أسلم "خنافر"، قال شعراً يحمد الله فيه على ان من عليه بالإسلام، ويذكر "رئيه" "شصار" بالخير، إذ لولاه لكان في نار جهنم.
وأسندوا له قوله: ألم ترَ أن الـلـه عـاد بـفـضـلـه وانقذ من لفح الجـحـيم خـنـافـرا
دعاني شصار للتي لو رفـضـتـهـا لأصليت جمراً من لضى الهون جائرا
وهو خبر يرجع سنده إلى "ابن الكلبي". وقد ذكر في الأخبار المنثورة لابن دريد، وقد ذكر انه اسلم على يد معاذ بن جبل باليمن. لا أدري كيف حفظه "ابن الكلبي" ورواه عن والده، الذي صنعه ووضعه، إلا أن يكون والده قد حضر المحاورة فكان يسجلها، وهو ما يعد من المستحيلات.
وقد أمات الإسلام "الكهانة"، فقد اجتثها وحاربها، وحث على نبذ سجع الكهان و أساليب الكهان في الملبس، فكان منهم من قاوم، ثم انخذل، بدخول قومه في دين الله، فدخل معهم فيه. وفي كتب أهل الأخبار قصص على نمط قصة اسلام "خنافر"، وكلام دار بينهم وبين "رئيهم"، دوّ نه أهل الأخبار بالخروف والكلم، لم يتركوا منه حرفاً، وكأنهم كانوا كتاب ضبظ محضرجلسات أمروا بتدوين كل محضر ساعة وقوعه. وتجد أخبار الكهان، وما لاقوه من عنت من "رئيهم" حين أدركوا الإسلام، وما أخبروا به من قرب ظهور الرسول كأخبار العر اف اللهبى "العائف"، و "الغيطلة" الكاهنة، والكاهن "خطر" والكاهن "سواد بن قارب" الدوسي، و "ابن الهيبان"، والماًمور الحارثي، وغيرهم وغيرهم.
ولسجع الكهان، طريقة خاصة به، ميزته عن سجع غيرهم، فهو قصير الفقرات، يلتزم التقفية وتساوي الفواصل من كل فقرتين أو اكثر، يعمد إلى الألفاظ العامة المبهمة المعماة، والى تكوين الجمل الغامضة، ليمكن تأويلها تأويلات متعددة، وتفسيرها بتفاسير كئيرة، لا تلزم الكاهن، فيقع في حرج، كالذي يقعع لو تكلم بكلام واضح صريح. فيظهر في الجاهل الكاذب. أما السجع المنسوب إلى الخطباء، ففقره أطول، وكلمه أوضح، طويل النفس، متحرر نوعاً ما من قيود سجع الكهان بين الفقر تطابق في الطول، وفي فقره بيان مشرق، فواصله كفواصل الشعر من دون وزن. جهد صاحبه أن يجعل الفواصل واضحة صافية، ذات مقاطع مستقلة في الغالب بمعناها، وينتهي الكلام بانتهائها من غير التزام قافية، وقد يكون مرسلاً، خالصاً من تساوي الجمل والتزام القافية، فهو بين سجع وازدواج وترسل. وقد يكون مزدوجاً، فهو سجع خفيف مقبول.
وبالاضافة إلى السجع، واستعمال الألفاظ الغامضة المبهمة، والإيماءة والرموز والتكنية عن الأشياء، تهرباً من التصريح، وحذر افتضاح الأمر، كان الكاهن، يلحف في الأسئلة ويمعن في الاستفسار، حتى يستنبط من ذلك بفطنته وذكائه ما يريد السائل، فيعطيه جواباً مائعاً، شأن جواب السحرة والعرافين، كما كان يعمد إلى القسم بظواهر الطبيعة من كواكب ونجوم،وشمس وقمر،ورياح وعواصف وسحب، وليل ونهار، وشجر وحجر،وإمثال ذلك مما نجده في خطبهم وأقوالهم، وهو شيء يلفت النظر، ويبعث على التعجب من قسم القوم بهذه الأمور. ولكن المتتبع الدارس لعقائد القوم في الجاهلية، ولحياتهم الاجماعية لا يعجب من ذلك، كما لا يعجب من قسمهم بالخبز، والملح، واللبن، والقوس، والعصا، فإن لهذه الأمور وأمثالها معاني عميقة عند أهل الجاهلية، فقدت أكثريتها معانيها في الإسلام، بسبب ابطاله لتلك العقائد، وان بقي حشد منها في نفوس الناس إلى هذا اليوم، بسبب رسوخه في العقل والدم..
وفي القرآن قسم بالسماء، وبالعاديات، وبالتين والزيتون، وبغر ذلك، ذهب المفسرون في سبب القسم بها مذاهب، ففسروا وتأولوا، ولو فكروا إن هذا النوع من القسم، هو أسلوب من أساليب العرب في القسم قبل الإسلام، وأن القرآن انما نزل بلسان العرب، ولذلك اتبع طريقتهم في القسم، لأنه خاطبهم على قدر عقولهم وبلغتهم، عرفوا السبب، ولا زال الأعراب على سجيتهم القديمة في القسم بهذه الأشياء، يقسمون بها كما يقسم المتحضر باعز شيء عنده. والسجع في الواقع باب من أبواب الشعر، والمرحلة الأولى من مراحله، والبذرة التي أنبتت الشعر العربي. ويتكون من فقرات. واذا اخذنا الشعر البدائي الذي يكون المرحلة الأولى من الشعر، نرى انه لا يختلف اختلافاً كبيرأَ عن السجع. و "الكلام المسجع، هو ضرب من ضروب الشعر عند غير العرب. وقد طوّ ر الشعراء السجع، واوجدوا منه الشعر، واذا درسنا أول الشعر العبراني، أو أوليات الشعر عند الشعوب السامية، وعند الشعوب الارية، في انه نمط من أنماط هذا الكلام الذي نسميه "السجع". وهو لا زال يعد شعراً عند كثير من شعوب هذا اليوم.
والمزاوجة والازدواج بمعنى واحد.. وازدوج الكلام وتزاوج أشبه بعضه بعضاً في السجع أو الوزن، والازدواج لون من ألوان الإفصاح عن الشعور بأسلوب من أساليب الأدب المنثور، أخف على النفس من السجع.، وأسهل انقياداً لأنامل الكتاب منه. وهو على كل حال لون من ألوانه، خففت قيود قوافيه، حتى صار على هذا الشكل. ومن الازدواج قول أحد بني أسد يخاطب رجلا شيخاً مات ابن له: "اصبر أبا أمامة، فإنه فرط افترظه، وخير قدمته، وذخر أحرزته". فقال مجيباً له: "ولد دفنته، وثكل تعجلته، وغيب وُ عِدته، والله لئن لم أجزع النفس، لا افرح بالمزيد".
وقد تحدث "الجاحظ". في أثناءحديثه عن الشعوبية ومطاعتها على خطبا، العرب عن اساليب الجاهليين في الكلام في أمورهم الجليلة مثل المنافرة والمفاخرة، وعقد المعاقدة والمعاهدة وأمثال ذلك، ثم عن أخذهم المخصرة، عند مناقلة الكلام"فقال: "وبمطاعنهم على خطباء العرب: بأخذ المخصرة عند مناقلة الكلام" ومساجلة الخصوم بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لم يُقفّ، وبالأرجاز عند المتح، وعندُ مجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادة والمحاورة. وكذلك الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعمال المنثور في خطب الحمالة، وفي مقامات الصلح، وسل السخيمة، والقول عند المعاقدة والمعاهدة، وترك اللفظ يجري على سجيته وعلى سلامته، حتى يخرج على غير صنعة ولا اجتلاب تاًليف،ولا التماس قافية، ولا تكلف لوزن. مع الذين عابوا من الاشارة بالعصي، والاتكاء على أطراف القسي، وخذ وجه الأرض بها، واعتمادها عليها إذا اسحنفرت في كلامها، وافتنّت يومَ الحفل في مذاهبها، ولزومهم العمائم في أيام الجموُع، وأخذ المخاصر في كل حال، وجلوسها في خطب النكاح، وقيامها في خطب الصلح وكل ما دخل في باب الحمالة، وأكد شأن المحالفة، وحقق حُرمة المجاورة، وخطبهم على رواحلهم في المواسم العظام، والمجامع الكبار، والتماسح بالأكف، والتحالف على النار، والتعاقد على المِلح، وأخذالعهد الموكّد واليمين الغموس، مثل قولهم ما سرى نجم وهبت ريح، وبل بحر صوفة، وخالفت جرة" درة". فنحن إذن أمام طرق من الكلام، كل طريق منها يؤدي إلى نوع من الكلام، يستخدم في حالة من الحالات، فمساجلة الخصوم، تكون بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لا يقفى، أي المرسل، أما في حالة الشدة والعمل، مثل المتح، أي الاستقاء من البئر، وفي حالات البناء ورقع الحجر، وفي القتال، فتستعمل الأرجاز، لتنشيط المهمة. واما السجع، فيستعمله الكهان، ويستخدم في المنافرة والمفاخرة، وأما المنثور، أي الكلام المرسل، الحالي من السجع والازدواج، فيستعمل في الحمالة، أي تحمل ديات قوم لا مال لهم، فيقوم غيرهم بتحمل مبلغ الدية، وفي مقامات الصلح، ودفن الأحقاد والصغائن، إلى غير ذلك من حالات. فالسجع، إذن غير النثر، وفي المزاوجة، وغير الرجز. وقد جعل "الجاحظ" الكلام المنثور: أسجاعاً، وازواجاً، ومنثوراً. فهذه في نظره أساليب النثر.
وأنا إذ أصف أسلوب النثر عند الجاهليين، لا أعتي اني أثق بصحة هذا النثر المنسوب اليهم، وأثبت صحة نصه، وانما أنا أصفه مستنداً في وصفي هذا على المدون المعمول عليهم، الوارد الينا في بطون الكتب، لأنه وإن كان في نظرنا مصنوعاً موضوعاً، لكنه صيغ على كل حال وفق أسلوب الجاهليين، وعلى نمط كلامهم، إذ لا يعقل أن يكون الرواة قد اخترعوا تلك الأنماط من الكلام اختراعاً، وأوجدوها من العدم ايجاداً، فهم إذ وضعوا على ألسنة أهل الألسنة من العرب، فإنما وضعوا عن تقليد ومحاكاة، وعلى نمط كلام سابق كان مألوفاً عند أهل الجاهلية الذين أدركوا الإسلام. ودليل ذلك أثره في خطب الخطباء الذين خطبوا أمام الرسول، وفي خطب الخطباء الذين، عاشوا في صدر الإسلام. فأنا حين أرفض النصوص، لا أزعم انه لم يكن لهم نثر، وان النثر انما ظهر وعرف في الإسلام، بل أقر انه قد كان لهم نثر، وكانت لهم خطب وكان لهم كلام، ولكن أقول إن هذه النصوص المتبتة المدوّ نة، هي نصوص لا يجوّ ز العقل أن تكون صحيحة أصيلة مضبوطة، لما قلته من عدم قدرة الذاكرة على المحافظة على أصالة النثر.
وأود أن أستثني الأمثال الجاهلية من هذا التعميم للذي عممته على نصوص النثر الجاهلي، فالأمثال بحكم ايجازها وكثرة انتشارها على الالسنة، ولكونها أداة تعليمية تحفظها الذاكرة، ولا نخطىء فيها كثيراً، حافظت لذلك على أصلها ونصها، ودليل ذلك اننا لا نزال نضرب الأمثال بها حتى اليوم، ثم إن منها ما قد ضرب به مثلاً في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي، وفي خطب ا الخلفاء الراشدين وكتبهم، ولهذا فنحن لا نبتعد عن العلم إن قلنا بصحتها من حيث النص والمعنى، أي من حيث الضبط بالكلم ومن حيث المحافظة على المعنى. أما بقبة النثر، فأنا على رأيي من عدم إمكان القول بصحة نصوصه،وإن كنت أبى افق على جواز بناء بعض النصوص على معان جاهلية، فيكون النص في هذه الحالات من وضع الروة، أما المضمون فجاهلي، تطور وتزوق حسب الأفواه التي روته ودبجته، بحيث ظهر على الصورة التي وصلت الينا وإذا كان الحال على هذا المنوال، فأين يا ترى نجد النثر ? وجوابي أنك لا تجد النثر الصحيح المنثور بهذه العربية البينة الفصيحة إلا في القرآن الكريم. فالقرأن الكريم، لكونه كتاب الله وقد دوءن ساعة نزوله، دو"نه كتبة عند نزول الوحي، وأخذه عتهم كتبة آخرون وحفظه الحفاظ، وقرأ الكثير منهم ما كتبه من آي أو ما حفظه منها ومن السور على الرسول، فأبد قراءتهم،وثبت كتابتهم، فهو لهذا الكتاب الوحيد المنزل بلسان عربي مبين. لا شبهة في ذلك ولا شك. أرشدنا إلى أساليب الجاهليين في فنون القول، بمخاطبته لهم بلسانهم وبطرق بيانهم، وبأسلوب محاججتهم، وضرب لهم الأمثال باًمثالهم، كي تكون جمرة مقبولة عندهم، وخاطبهم على قدر عقولهم، بلسان عربي مبين، يفهمه كل العرب، ففيه إذن نجد نثر العرب، وإن كان هو أبلغ النثر، وفيه تجد حياة الجاهليين وعقليتهم.
وقد وصف "الجاحظ" أسلوب القرآن بقوله: "خالف القرآن جميع الكلام الموزون والمنثور، وهو منثور غير مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع، وكيف صار نظمه من أعظم الرهان، وتاليفه من أكبر الحجج".
ثم نجد هذا النثر في،الحديث، في الحديث النبوي، وفي الحديث موضوع وضعيف، إلا إن فيه ما لا يشك في صحته. وفيه ما روي بالمعنى، لتجويزهم الرواية عن الرسول بالمعنى، خشية الخطا في النص، والتقول عليه، ومن تقول على رسول الله متعمداً، تبوأ مقعده في النار، وقد روي الحديث رواية، أي مشافهة، غير إن من العلماء من ذكر إن "عبدالله بن عمرو بن العاص"، كان قد كتب حديث الرسول، و ذلك انه استاًفنه في أن يكتب حديثه فاًذن له. وروي عنه انه قال حفظت عنه ألف مَثَل، وروي عن "ابي هريرة" قوله: "ما أجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب". ولكنا لم نسمع بما حل بالصحف التي دوّ ن بها "عبدالله" حديث الرسول، ولا أدري اذا كان ما روي عنه في المساند، مثل مسند "أحمد بن حنبل" قد نقل من تلك الصحيفة نقلا" أم رواية.
وهناك روايات تذكر إن "همام بن منبه"، أخذ عن "أبي هريرة"، حديث رسول الله، وكتب ما أخذه في صحيفة عرفت ب "الصحيفة الصحيحة" في مقابل "الصحيفة الصادقة" المنسوبة لعبدالله بن العاص، وتجد نقولاء منها في البخاري، وفي مسند " أحمد بن حنبل". وقد نشرت هذه الصحيفة في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق. وهذه الصحيفة، إن صح انها من وضع "همام بن منبه" وانها أصيلة، ذات أهمية كبيرة بالطبع، لأنها أقدم صحيفة نعرفها في الحديث بعد صحيفة "عبدالله بن عمرو بن العاص"، وان كانت دونها في المنزلة، لأنها أخذت عن لسان "أبي هريرة"، واخذ "عبدالته" حديثه من فم الرسول، ومن الجائز أن يكون حديث أبي هريرة بلسانه، أما حديث "عبدالله"، فربما كان بلسانه أيضاً، في انه كان ينقله من فم الرسول فيحفظه ثم يدونه، فهو اقرب إلى الصحة من صحيفة "همام". وربما كان "عبدالله"، قد دوّ ن حديثه بحضرة الرسول، فإن هذا الموضوع، لا زال مجهولاً، لم يبحث بحثاً علمياً صحيحاً، وهو ينتظر من الباحثن من يقوم بالبحث عنه.
ويظهر من أحاديث تنسب إلى الرسول مثل حديث: "لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه"، ومن أخبار تنسب إلى "أبي بكر" و "عمر" في النهي عن كتابة الحديث، مثل ما نسبوا إلى"عمر" من انه كتب إلى الأمصار من كان عنده شيء من الحديث فليمحه، ومن انه أنشد الناس أن ياًتوه بصحف الحديث، فلما أتوه بها أمر بتخريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب ! ومثل ما نسب إلى "علي" من قوله: "اعزم على كل من عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم"، وأمثال ذلك مما نسب إلى الصحابة في النهي عن كتابة الحديث، وفي الحث على تحريق ماقد كان عندهم من صحف وكتب أو إمحائه، انه قد كان عند الصحابة صف فيها حديث رسول اذ كتبت في أيام الرسول وبعده، كانوا يراجعونها ويستعزون بها، وكان في بعضها ما يشك في صحته وفي صدوره من الرسول، ولخوف الرسول وصحابته من إن ياتي يوم تكون فيه تلك الصحف مرجعاً للناس مثل رجوعهم للقرآن، يتخذونها سنداً لهم، اتخاذ اليهود للمثناة، أي "المشنا"، أمروا بانلافها وبالنهي عن التدوين. والاكتفاء بالحديث مشافهة، وبنشره بالرواية. وهي طريقة غير مامونة أيضاً، فالتدوين أضمن منها وأسلم، ولكنها طربقة كانت متبعة في ذلك الحين، لأسباب لا أستطيع إن أتحدث عنها في هذا المكان، لأن الحديث عن تدوين حديث رسول الله وعن ورود النهي عن تدوينه يخرجنا عن الحدود المرسومة لهذا الكتاب. على كل فإن أخذ المحدثين بمبدا رواية حديث الرسول بالمعنى، كان هو السبب الذي حمل علماء النحو واللغة على عدم الاستشهاد به في شواهد القواعد واللغة، كما بينت ذلك في موضعع آخر من هذا الكتاب.
وفي رسائل الرسول وكتبه ووصاياه وخطبه وأوامره، وفي خطب الوفود التي كانت تفد عليه، وفي خطب الصحابة، أمثلة على طبيعة وأسلوب الخطب عند الجاهليين، ولا سيما القديم من تلك الخطب الذي ألقاه الخطباء أمام الرسول قبل دخولهم في الإسلام، فهو في الواقع استمرار لأسلوب الخطاب في الجاهلية، القي بالطريقة المالوفة عندهم التي تمثل التفكير الجاهلي، والعقلية الجاهلية أيام ظهور الإسلام. وإن كنت اشك في صحة كثير من الخطب والرسائل المنسوبة إلى الرسول ذلك لأننا إذا درسنا نصوص هذه الرسائل، نجد أصحاب السير والتواريخ يروونها بصور مختلفة، وفي اختلافهم هذا، د لالة على ان الرواة لم ينقلوها من أصل مكتوب،وإنما اخذوا النص بطريق المعنى والرواية، فوقع من ثم هذا الاختلاف. أضف إلى ذلك شل التزوير، فقد نص المؤرخون وأرباب السير على أن بعض أهل الكتاب وسادات القبائل والرجال، قدموا للخلفاء كتباً مزورة فيها إقرار قرار وإحقاق حق، للمطالبة بتنفيذ ما جاء فيها، وفي حديث: "من كذب على متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار"، وحديث آخر يشبهه هو: "إن الذي يكذب علطّ يبتي له بيتاً من النار"، وأحاديث أخرى من هذا القبيل، دلالة على وقوع الكذب على الرسول في حياته وبعد وفاته.
وقد ورد أن الرسول "حين جاءته وفود العرب، فكان يخاطبهم جميعاً على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلىّ ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين أن أصحابه رضوان الله عليهم ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوُجه اليهم الخطاب كانوا يجهلون من ذلك اشياء كثيرة: حتى قال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسمعه يخاطب وفد بتي نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره ?فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الإختلاف فطرياً في "العرب فلم يلتفتوا إليه".
فإذا كان الأمر من اختلاف لغات العرب على هذا النحو، واذا كان الصحابة ومنهم ا الخلفاء، وهم على ما هم عليه من فصاحة وبلاغة، لم يفهموا كلام الوفود، فهماً صحيحاً، حتى كان الرسول يفسر لهم ما كان يقوله للوفود، وما كانت الوفود تقوله له، فكيف نصدق بصحة نصوص خطبهم وكلامهم، وقد ألقيت بلهجاتهم الخاصة، ولم يكن هناك كتبة ولا مدونون، يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ومحاضر كلامه معهم، وما كان يقع بحضرته من نقاش وكلام ?.
وأنت إذا راجعت خطب الرسول التي خطها في "حجة الوداع" تجدها وقد رويت بصور مختلفة، وفي هذا الاختلإف دلالة بينة على انها لم تنقل من أصول مكتوبة، وانما أخذت من الأفواه، وإلا لما جاز عقلاً وقوعه أبداً. وسبب ذلك، أن الناس في ذلك الوقت، لم يكونوا قد تعودوا لا في الجاهلية ولا في الإسلام اتخاذ كتاب لتدوين ما كان يقع لهم من أحداث، ولم يكن عندهم مراسلون يرافقون الملوك والحكام وسادة القبائل والوفود، لوصف مواكب الملوك ومشاهدهم وحروبهم، وخطبهم ومفاوضاتهم مع سادات القبائل. وكذلك كان الحال في الإسلام، بل ولا رواة لهم ذاكرة قوية، لحفظ أحاديث المجالس والأحداث، واذاعتها بين الناس، لأن العناية بحفظ الأحداث والتواريخ وتخليدها تقتضي وجود وعي باًهميهَّّ تدوين التأريخ، ولم يكن هذا الوعي معروفاً آنذاك. ولهذا جائت أخبار الحوادث عن طريق شهود عيان رووا ما شاهدوه لأصحابهم، كما يروي أي إنسان ما قديقع له من أمور لأصدقائه،وهؤلاء قصوا تلك المرويات على أصحابهم وعلى من جاء بعدهم بلغتهم، وبهذه الطربقة وصلت الأخبار إلى المدونين عندما بدئ بالتدوين.وليس من المعقول بالطبع محافظة الذاكرة على النصوص الأصلية للخطب وللكلام، ولقول الراوي الأول للاحداث. وليس من المعقول أيضا" وصولها سالمة تقية من كل تغيير أو تبديل أو تحريف، ولا سيما في الأمور العاطفية التي تضرب على أوتار العصبية. ولهذه الأسباب وغيرها فنحن لا نستطيع الاطمئنان إلى صحة هذه الأخبار المروية من الأفواه، لما محتمل أن يكون قد وقع فيها من زيف أو من تحريف عن عمد أو من غير عمد. ولو كانت الذاكرة تعي كل كلام وتحفظ كل حديث بالحرف والكلمة، لما اجاز العلماء رواية حديث الرسول بالمعنى، إذ كان من الصعب حفظه بالحرف. ولا أظن أن أحداً يقول إن حفظ أخبار الجاهلية ونصوص كلام رجالها،أهم عند العرب من حفظ حديث الرسو ل وأنا أشك في صحة أكثر ما نسب إلى "مسيلمة" من كلام وقرآن. وهو "مسيلمة بن حبيب الحنفي"، المكنى ب "أبي ثمامة"، والمنعوت بين المسلمين ب "الكذاب". واسمه الصحيح "مسلمة"، وقد صغر في الإسلام، ازدراء بشأنه. فقد روي انه صنع قرآناً مضاهاة للقرآن، غير انهم لم يتحدثوا بشيء عن قرآنه. واذا صح ما ذكره أهل الأخبار من انه ادعى الوحي بمكهَ أو باليمامة قبل الإسلام، وانه نزّ ل على نفسه آيات زعم انها تنزيل من الرحمان، فيكون قد باشر بتأليف قرآنه قبل الوحي.
وذكر إن في حقه نزلت الاية: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، أو قال أوحي إلى ولم يوح إليه بشيء. ومن قال سانزل مثل ما أنزل الله". فقد ذكر علماء التفسير إن عبارة: لا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه بشيء"، نزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة، فيما كان يسجع ويتكهن به. ومن قال: ساًنزل مثل ما أنزل الله نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي صرح،أخي بتي عامر بن لؤي، ءكان يكتب، للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيما يملي: عزيز حكيم، فيكتب: غفور رحيم فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حول، فيقول: نعم سواء، فرجع عن الإسلام م، ولحق بقريش. وقال لهم: لقد كان ينزل عليه عزيز حكيم، فأحوله ثم أقول لما أكتب،فيقول: نعم سواء". وكَان من حديث "سيلمة" إن قريشاً قالت للرسول: "بلغنا افه ايما يعلمك هذا رجل باليمامة، يقال له الرحمان، وإنا والله ما نؤمن بالرحمان ابداً"، وذكر أهل الأخبار إن قريشاً "حين سمعت: بسم الله الرحمن الرحيم، قال قائلهم: دق فوك، انما تذكر مسيلمة رحمان اليمامة"، لأنهم كانوا قد سمعوا بدعوته إلى عبادة الرحمان، قبل نزول الوحي على الرسول. وورد "انهم لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن قالت قريش: أتدرون ما الرحمن ? هو كاهن اليمامة !". وقد قالوا لمسيلمة: رحمان، وقالوا أيضاً فيه: رحمان اليمامة.
وأنا لا أستبعد احتمال مجيئه إلى مكة قبل الإسلام. فقد ذكر انه تزوج "كبشة" "كيسة بئت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس"، وهي من مكة، فلا يعقل عدم مجيئه. إلى مكة وإقامته بها بعض الوقت، ومجيئه إليها بين الحين والحين. ومن هنا كان لأهل مكة علم بدعوة مسيلمة إلى عبادة "الرحمان": وقد زعم أنه "كان يقول: أنا شريك محمد في النبوة، وجبريل عليه السلام ينزل عليّ كما ينزل عليه، وكان.رجَآل بن عنفوة من رائشي نبله، والحاطبين في حبَله، والساعين في نصرته، وكان مسيلمة يقول: يا بني حنيفة، ما جعل الله قريشاً بأحق بالنيوة منكم، وبلادكم أوسع من بلادهم، وسوادكم أكثر من سوادهم، وجبريل ينزل على صاحبكم مثل ما يزل على صاحبهم. ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد الناس يتذاكرونه وما ييلغهم عنه من قوله وقول بني حنيفة فيه، فقام يوماً خطيباً، فقال بعد حمد الله والثناء عليه. أما بعد، فإن هذا الرجل الذي تكثرون في شأنه كذاب في ثلاثين كذاباً قبل الدجال، فسماه المسلمون مسيلمة الكذاب، وأظهروا شتمه وغيه و تصغيره، وهو باليمامة يركب الصعب والذلول في تقوية أمره ويعتضد برجال بن عنفوة، وهو ينصره ويذب عنّه ويصدق أكاذيبه، ويقرأ أقاويله التي منها: والشمس وضحاها، في ضوئها ومنجلاها. والليل إذا عداها، يطلبها ليغشاها، فأدركها حتى أتاها وأطفأ نورها فمحاها".
. "ومنها: سبح اسم ربك الأعلى، الذي يسر على الحبُلى، فأخرج منها نسمة تسعى من بين أحشاء ومعى، فمنهم من يموت ويدس في الئرى، ومنهم من يعيش ويبقى إلى أحل ومنتهى، والله يعلم السرّ وأفى، ولا تخفى عليه الآخرة و الأولى ومنها: اذكروا نعمة الله عليكم واشكروها؛ إذ جعل لكم الشمس سراجاً، والغيث ثجاجاً، وجعل لكم كباشاً ونعاجاً، وفضة وزجاجاً، وذهباً وديباجاً، ومن نعمته علكم ان أخرج لكم من الأرض رماناً، وعنباً، وريحاناً، وحنطة و زؤا ناً. " وكان أبو بكر إذا قرع سمعه هذه الترهات يقول: أشهد أن هذا الكلام لم يخرج من إله" "وكان رجال بن عنفوة صاحب مسيلمة قدم المدينة مراراً، وقرأ القرآن وأظهر الايمان، وأسرّ الكفر. ويروى إن للنبي صلى الله عليه وسلم، بينما هو جالس في "أصحابه إذ سمع وطئاً من خلفه، فقال: هذا وطء رجل من أهل النار، فإذا هو رجّال بن عنفوة. فلما قدم وفد حنيفة على اي صلى الله عليه وسلم - وفيهم مسيلمة إلا انه لم يلقه - وأظهروا الإسلام وأرادوا ألانصراف، أمر لهم عليه الصلاة والسلام بجوائز كعادته في الوفود، وقال: هل بقي منكم أحد ? قالوا: لا، إلا رجل منا يحفظ رحالنا - يعنون مسيلمة - فقال صلى الله عليه وسلم: ليس بشرَكم مكاناً. فلما رجع الوفد إلى مسيلمة وقد بلغه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم:.قد سمعتم قول محمد في ": ليس بشركم مكاناً، وقد أشركني في الأمر بعده، فعليكم به. ولما انصرفوا إلى اليمامة أعلن مسيلمة النبوة، وادعى الشركة، وفتن أهل اليمامة، وانقسموا بين مصدّ ق ومكذب، وراضٍ وساخط، وكتب مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كتاباً قال فيه: إلى النبي محمد رسول الله من مسيلمة رسول الله، أما بعد، فإني قد أشركت في الأمر معك، وان لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم يعتدون ولا يعدلون. وختم الكتاب وأنفذه مع رسولين، فلما قرىء الكتاب على النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهما: ما.تقولان ? قالا: نقول ما قال أبو ثمامة، فقال: أما والله لولا إن الرسل لا يقتلون لقتلتكما.
واملي في الجواب: من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ولما صدر الرسولان إلى مسيلمة الكذاب افتعل كتاباً يذكر فيه انه جعل له الأمر من بعده، فصدّقه أكثر بتي حنيفة.
وبلغ من تبركهم به انهم كانوا يسألونه أن يدعو لمريضهم،ويبارك لمولودهم، وجاءه قوم بمولود لهم فمسح رأسه فقرع. وجاءه رجل يساله إن يدعو لمولود له بطول العمر، فمات من يومه.
وكان ثمامة بن أثال الحنفي يقشعر جلده من ذكر مسيلمة، وقال يوماً لأصحابه: إن محمداً لا نبي معه ولا بعده، كما إن الله تعالى لا شريك له في ألوهيته، فلا شريك لمحمد في نبوته. ثم قال: أين قول مسلمة: يا ضفدع نقي نقي، كم تنقين ! لا الماء تكدرين، ولا الشرب تمنعين،من قول الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: حم. تنزيل الكتآب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. فقالوا: أوقح بمن يقول مثل ذلك مع مثل هذا.
وقد روي قول "مسيلمة" في الضفدع على هذا النحو: "يا ضفدع بنت ضفدعين: نقي ما تنقين. نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين". وروي أن وفد اليمامة لما قدم على "أبي بكر" بعد مقتل مسيلمة، "قال لهم: ما كان صاحبكم يقول ? فاستعفوه من ذلك، فقال: لتقولن. فقالوا: يا ضفدع نفي كم تنقين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين... في كلام من هذا كثير. فقآل أبو بكر ويحكم إن هذا الكلام لم يخرج من إل " ولا بر، فاين ذهب بكم"?، أو آنه قال: "هذاكلام ما اتى من عند آل، أي من عند الله. وهو في الأسماء الأعجمية إيل، مثل إسرافيل، وجبريل، وميكائيل، وإسرائيل، واسماعيل". وقيل الإل: الربوبية، والأصل الجيد والمعدن الصحيح، أي لم يجىء من الأصل الذي جاء منه القرآن. ويجوز أن يكون بمعنى النسب والقرابة، من قوله تعالى: "لا يرقبون في مؤمن إلاّّ ولا ذمة". وقول حسان: لعمرك إن إلك من قـريش كإلء السقب من رأل النعام
وقد ذكر "الطبري" في مقدمة تفسيره، أن القرآن لما نزل على الرسول، "أقر جميعهم بالعجز وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا على أنفسم بالنقص، إلا من تجاهل منهم وتعامى، واستكبر وتعأشى، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز، ورام ما قد تيقن أنه غير قادر عليه، فأبدى من ضعف عقله ما كان مستوراً ومن عيَ لسانه ما كان مصوناً، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق، والجاهل الأحمق، فقال: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، فالحابزات خبزاً، والثاردات. ثرداً، واللاقمات لقماً... ونحو ذلك من الحماقات المشبهة دعواه الكاذبة". والطري وإن لم يصرح باسم قائل هذه الحماقات، لكنه قصد به مسيلمة من غير شك اما أن تلك الآيات آيات قالها "مسيلمة" حقأ، فتلك قضية لا يمكن إثباتها، فلما قتل، وضع أصحابه عليه أموراً كثيرة، قد يكون في جملتها هذه الآيات أما قرآنه الذي قيل إنه وضعه يضاهي به القرآن، فقد هلك بهلاكه، ولم أجد أحداً ذكر أنه وقف عليه، ونقل منه، ولعله كان كلاماً. لم يسجل في حياة مسيلمة، وإنما كان محفوظاً في صدر صاحبه وفي صدور أتباعه، ودخل من دخل من أصحابه في الإسلام طمس أثر ذلك القرآن.
وقد دون "الرافعي" الآيات التي أخذتها من تفسير الطبري، على هذه الصورة: "والمُبذرات ز رَعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقَماً، إهالة وسمناً... لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر،ريفكم فامنعوه، والمُعتر فآووه، والباغي فناوئوه"..
ونسب "الرافعي" له قوله "والشاء وألوانها، واعجها السود والبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، انه لعجبَ محض، وقد حرم المذق فما لكم لا تمجعون.
وقوله: "الفيلُ ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل". وروي انه "جعل يسجع لهم الأساجيع ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا"، أو انه قال: "ألم ترَ إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى". روي انه قال هذه الآيات لسجاح لما اراد الدخول بها، فقالت:"، وماذا أيضاً ? قال: أوحى إلي: إن الله خلق النساء أفراجأ، وجعل الرجال لهن ازواجاً، فنولج فيهن قُسعاً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً انتاجاً. قالت أشهد انك نبي، قال: هل لك إن أتزوجك فآ كل بقومي وبقومك العرب ! قالت: نعم، قال: ألا قوفسا إلى الـنـيك فقدُ هبي لك المضجع
وإن شئتِ فقي البـيت وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلقـنـاك وإن شئت على أربع
وإن شئت بثـلـثـيهَ وإن شئت به أجمع
قالت: بل به اجمع.،قال بذلك اوحى إليّ فأقامت عنده ئلاثاً ثم انصرفت إلى قومها، فقالوا: ما عندك ? قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته، قالوا: فهل أصدقك شيئاً ? قالت: لا، قالوا: ارجعي إليه، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق فرجعت، فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن، وقال: ما لك ? قالت أصدقني صداقاً، قال: من مؤذنك ? قالت: شبث بن ربعى الريآحي، قال: علي به، فجاء، فقال: ناد في أصحابك إن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد: صلاة العشاء الاخرة وصلاة الفجر". وأما "سيف" فذكر انه صالحها "على أن يحمل إليها النصف من غلا"ت اليمامة، وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها، فباح لها بذلك، وقال: خلفي على السلف من يجمعه لك، وانصرفي أنت بنصف العام، فرجع فحمل إليها النصف، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة.
وذكر أن "سجاح" لما دخلت قبة "مسيلمة"، "قالت له: اخبرني بما ياًتيك به جبريل ? فقال لها: اسمعي هذه السورة: انكن معشر النساء خلقن أمواجاً، وجعل الرجال لكن أزواجاً، يولجن فيكن إيلاجاً، لا ترون فيه فتوراً ولا إعوجاجاً، ثم يخرجونه منكن إخراجاً، فقالت له: صدقت، والله إنك لنبي مرسل"، وهي قصة أخذت من موارد سابقة، مثل الطبري، غير أنها غيرت فيها بعض التغبير، تنتهي بأنه رفع عن قومها صلاهّ العشاء والصبح لأجل المهر. - وزعم أن "من قرآن مسيلمة التي يزعم أنه نزل عليه، لعنة الله عليه: والنازعات نزعاً، والزارعات زرعاً، والحاصات حصداً،، والذاريات ذرواً، فالطاحنات طحناً، والنازلأت نزلاً، فالجامعات جمعاً، والعاجنات عجناً، فالخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، فالاكلات أكلاً، والماضغات مضغاً، فالبالعات بلعاً".
وقد اتخذ قتل "مسيلمهّ" فخراً، فادعى قتله بنو عامر بن لؤي، وادعى بعض الخزرج قتله، وادعى "بنو النجار" قتله، وادعى "حبشي" قاتل حمزة قتله، وكان "معاوية يدعي قتله" ويدعي ذلك له "بنو أمية". وذكر أن "عبد الملك بن مروان" قفىّ لمعاوية بقتل مسيلمةْ، وهو قضاء سياسي لا أصل له بالطبع.
ويظهر إن بتي حنيفة بقوا على تعلقهم بمسيلمة، حتى بعد مقتله وذهاب امره.
ففي خبر ينسب إلى "ابن معيز" السعدي انه مر على مسجد بني حنيفة، فسمعهم يذكرون "مسيلمة"، ويزعمون انه نبي، فأتى "ابن مسعود" فاًخبره، فبعث اليهم الشرط، فجاموا بهم فاستتابوا فخلي عنهم، وقدم "ابن النواحة" فضرب عنقه. هذا، ويدل تعلق "بتي حنيفة" وغيرهم من عرب اليمامة بمسيلمهَ، واستماتتهم في الدفاع عنه، وتذكرهم له حتى بعد هلاكه، على انه كان شخصية موثرة قوية، سحرت أتباعها، حتى انقادوا له هذا الانقياد. وقد نص "ابن حجر" على قتل "ابن مسعود" لابن النواحة، إلا انه لم يذكر إن ذلك كان بسبب اعتقاده بنبوة "مسيلمة"، وانما ذكر انه "كان قد اسلم ثم ارتد فاستتابه عبدالله بن مسعود، فلم يتب فقتله على كفره وردته". امم "ابن النواحة" "عبادة بن الحارث" احد بني عامر بن حنيفة.
ويروى إن "الألخل" الضبعي، قال في مسيلمة: لهفاً عليك أبا ثـمـامة لهفاًعلىُ ركني شمامه
كم آية لـك فـيهـــمُ كالبرق يلمع في غمامه
وكان "الضبعي" شاعراً، زعم انه ادعى النبوة، وكان يقول: لمضر صدر النبوة، ولنا عجزها، وقد ضرب عنقه "عمر بن هبيرة"، ومن شعره: لنا شطر هذا الأمر قسمهّ عادل متى جعل الله الرسالة ترتبـا
اي راتبة في واحد، وسئل "الأحنف بن قيمس" رأيه في مسيلمة، فقالا: "ماهو بنبي صادق ولا بمتنبىء حاذق.
وانا لا استبعد ما نسب إلى "مسيلمة" من دعوى نزول الوحي عليه، وتسمية ذلك الوحي "قرآناً" أو كتاباً أو سفراً، أو شيئاً آخر، ولكني استبعد صحة هذه الايات التي نسبتها الكتب إليه، وأرى أن أكثرها ورد بطريق آحاد، فلما نقلها الخلف عن السلف، وكثر ورودها في الكتب ظهرت وكأنها أخبار متواترة، وصارت في حكم ما أجمع عليه. وقد رويت بعض الآيات مئل:آية الضفدع، بصور متعددة مختلفة، مع أفها أشهر وأعرف آية أو آيات نسبت إليه، فما بالك بالآيات الأخرى، ثم إننا نجد الرواة يناقضون أنفسهم كثيراً فيما نسبوه إليه، وبعضه مما لا يعقل صدوره من مسيلمة، مثل شعره الذي قاله لسجاح، حين أراد الدخول بها. وهل يعقل أن يقول إنسان يدعي النبوة مثل هذا الكلام الفاحش أمام الناس، ليدون ويسجل عليه! وقد ذكر "ابن النديم" إن لابن الكلبي مؤلفاً خاصاً ألفه في مسيلمة دعاه: "كتاب مسيلمة الكذاب، لم يصل الينا، وله كتاب آخر في بني حنيفة اسمه: "كتاب أيام بني حنيفة"، وهم قوم مسيلمة، وكتاب دعاه: "كتاب أيام قيس بن ثعلبة".
وزعم أن من كلام "طليحة" الأسدي الذي قاله لأصحابه: والحمام واليمام، والصرد والصو ام، قد صمن قبلكم بأعوام، "ليبغن ملكنا العراق والشام". وروى "الطبري" سجعاً من سجع "سجاح"، وكانت نصرانية راسخة في النصرانية، قد علمت من علم تغلب، هو قولها لأتباعها: "عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة"، فلما جاءت مع قومها اليمامة، قال لها مسيلمة: لا لنا نصف الأرض، وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش، فحباك به، وكان لها لو قبلت. فقالت: لا يرد النصف إلامن حنف، فاحمل المنصف إلى خيل تراها كالسهف. فقال مسيلمة: سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذطمع، ولا زال اًمره في كل ما سرّ نفسه يجتمع. رآكم ربكم فحياكم، ضمن وحشة خلاكم، ويوم دينه أنجاكم، فأحباكم علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجاّر، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم و الأمطار.
وقال أيضاً: لمّا رأيت وجوههم حسُنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت، قلت لهم: لا النساء تاًتون، ولا الخمر تتشربون، ولكنكم معشر أبرار تصومون يوماً، وتكلفون يوماً، فسبحان الله !إذا جاءت الحياة تحيون، والى ملك السماء ترقون ! فلو انها حبة خردلة، لقام عليها شهيد بعلم ما في الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور وكان مما شرع لهم مسيلمة إن من أصاب ولداً واحداً عقباً لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن فيطلب الولد، حتى يصيب ابنأَ ثم يمسك، فكان قد حرّم النساء على من له ولد ذكر و بلاغة الكلام معروفة عند الجاهليين، فقد كانوا ينعتون المتكلم الجيد بالبليغ، وفي القرآن الكريم: "وقل لهم في أنفسم قولاَ بليغاً". والبليغ الفصيح الذي يبلغ بعبارته كنه ضميره ونهاية مرامه. سأل "معاوية" "صحار بن عياش" العبدي"، ما البلاغة ? فقال: لا تخطىء ولا تبطىء. أو أنه قال له: ما البلاغة ? قال: الإبحاز. قال: ما الايجاز ? قال: أن لا تبطىء ولا تخطىء وكان قد دهش من فصاحته وبلاغته،-فقال له: ما هذه البلاغة فيكم ? قال: شيء يختلج في صدورنا فنقذفة كما يقذف البحر بزبده.
وقد ميز "الطبري" وغيره من العلماء بين الخطباء وبين الفصحاء والبلغاء، فالخطباء هم من جماعة صناع الكلام، وصناعتهم صناعة الخطب، وذكر بعدهم "البلغاء"، صناع البلاغة، ثم "الشعر" والفصاحة، فجعل للشعر في مقابل الفصاحة، ثم السجع والكهانة، وقال: " كل خطيب منهم وبليغ، وشاعر منهم وفصيح"، فالخطيب هو الذي يخطب باسم الوفد أو القوم، وله لذلك عندهم مقام جليل، لأنه عقل من يتكلم باسمهم ولسانهم، والبليغ من يتحدث ويتكلم في المجالس والأندية، بكلام بليغ رصين، والفصيح من يفصح ويعرب بلسانه، ونجدهم يقولون أحياناً خطيب فصيح، وشاعر فصيح، فالفصاحة صفة تلحق بالمتكلم ناثراً كان أو كان شاعراً.
وللبيان عند العرب مقام كبير. وقد أشاد القرآن بالبيان، فقال: "الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان" فجعل الببان في جملة ما علمه الله الإنسان. ونعت القرآن بانه نزل "بلسان عربي مبين"، ووصف القرآن بقوله: "طس،تلك آيات القرآن وكتاب مبين". وينسب إلى الرسول قوله: "إن من البيان لسحرا". وورد في المثل: "جرح ا السان كجرح اليد. هو في شعر امرىء القيس". يضرب في تاثير الوقيعة، وفي أئر القول في فعل الناس، وروي أن ذوي الفهم والعلم من قريش تاثروا ببلاغة القرآن وفصاحته، فروي أن "الوليد بن المغرة"، وكان من بلغاء قريش وفصائحهم ومن علمائهم بالشعر، لما دخل على "أبي بكر" يساًله عن القرآن "فلما أخره خرج على قريش، فقلل: يا عجباً لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر، ولا بسحر، ولا جهني من الجنون"، أُ انه قال لما سمع القرآن: "والله لقد نظرت فما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس بشعر وان له الحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وانه ليعلو وما يعلى،وما أشك أنه سحر"، أو أنه قال: "سمعت قولاً حطواً أخضر مثمراً، يأخذ بالقلوب. فقالوا: هو شعر. فقال: لا والله ما هو بالشعر، ليس أحد أعلم بالشعر مني، أليس قد عرضت على الشعراء شَعرهم ! نابغة وفلان وفلان. قالوا: فهو كاهن. فقال: لا والله ما هو بكاهن قد عرضت علي الكهانة. قالوا: فهذ سحر الأولين اكتتبه. قال: لا أدري إن كان شيثاً فعسى هو إذا سحر يؤثر"، أو أنه قال أشياء اخرى من هذا القبيل، اتفقت في المعنى والمقصد، واختلفت في العبارات، كما روي أن قوماً من قريش ومن غيرهم، أسلموا بتاًثر بيان القرآن عليهم، فقد روي إن "عمر بن الخطاب" أسلم على ما يقال حين سمع القرآن. روي عنه انه قال: "خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أتعجب من تأليف القرآن. فقلت هذا والله شاعر، كما قالت قريش. فقرأ: انه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر، قليلاً ما تؤمنون. فقلت كاهن. قال: ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون حتى ختم السورة. قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع". وهي رواية تخالف ما جاء في خبر اسلامه، من انه كان قد خرج يريد قتل الرسول، فتلقاه "نعيم بن عبدالله" النخام، وكان من المسلمين، فقال له: أين تريد يا عمر ? فقال له: "اريد محمداً هذا الصابىء الذي فرّ ق أمر قريش وسفه احلامها، وعاب دينها وسب آلهتها، فاقنله"، فقال له "نعيم":،"أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم قال: وأي أهل بيتي ? قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فا طمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمداً على دينه فعليك بهما"، فرجع عمر عامداً إلى اخته وختنه وعندهما "خباب بن الأرت" معه صحيفة فيها "طه" يقرئهما اياها، فلما سمعوا حس، عمر، أخذت "فاطمة" الصحيفة. فلما دخل "عمر"، قال: ما هذه الهينمة التي سمعت ? قالا: ما سمعت شيئا، ثم قال لأخته اعطني هذه الصحيفة التي سمعتم تقرأونها أنظر ما هذا الذي جاءبه محمد. فأبت أخته اعطاءها. إلا أن يغتسل، فاغتسل عمر، فأعطته الصحيفة وفيها "طه" فقرأها وتأثر بها فأسلم.
ورووا أن "سويد بن الصامت"، صاحب صحيفة لقمان، كان ممن أعجب بالقرآن، ورووا أن "جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل"، وكان من أكابر قريش ومن علماء النسب، قدم على النبيّ، فسمعه يقرأ "الطور"، فأثرت القراءة فيه، وقد أسلم فيما بعد، بين الحديبية والفتح، وقيل في الفتح. والفصاحة في معنى البلاغة، فهي مرادف لها في الاستعمال. والفصيح هو البين في اللسان والبلاغة، ولسان فصيح، أي طلق. وقد اشتهر "قس بن ساعدة الايادي" في الفصاحة حتى ضرب به المثل فيها، فقبل: أفصح من قس، وأنطق من قس، وأبين من قس، أي أفصح، وأبلغ من قس. وقد ذكره "الأعشى" بقو له: وأبلع من قسّ وأجرأ من الذي بذي الغيل من خفان أصبـح خـادرا
كما ذكزه الحطيئة بفوله: وأبون من قس وأمضى إذا مضى من الريح إذ مسّ النفوس نكالهاْ
ونسبوا إلى "قس" قوله ينصح ولده: "إنّ المعا تكفيه البقلة. وترويه المدقة، ومن عيرك شيثاً ففيه مثله، ومن ظلمك وجد من يظلمه، ومتى عدلت على نفسك عَدَل عليلك من فوقك،وإذا تنهيَنتَ عن شيء فانْهَ نفسك، ولاتجع ما لا تأكل، ولا تأكل ما لا تحتاج إليه، وإذا ادخرت فلا يكونن كنزك إلا فعلك. وكن عف العيلة،مشترك الغنى، تسد قومك. ولا تشاورن مشغولاَ وإن كان حازماً، ولا جائعاً، وإن كان فهما"، ولا مذعوراً وإن كان ناصحاً ولا تضعنّ في عنقك طوقاً لا يمكنك نزعه إلا بشق نفسك. وإذا خاصمت فاعدل، وإذا قلت فاقتصد. ولا تستودعن أحداً دينك وإن قربت قرابته، فإنك افا فعلت ذاك لم تزل وجلاً، وكان المستودعَ بالخيار في الوفاء والغدر، وكنت له عبداً ما بقيت. وإن جنى عليك كنت أولى بذلك، وان وَ فى كان الممدوح دونك". وقد اشتهرت "إياد" بالفصاحة والبيان، وبقدرة في اللسان. وقد ظهر منهم جملة خطباء. واشهرت "بنو أسد" بالخطابهَ كذلك، قال "يونس بن حبيب ليس في بني أسد إلا خطيب أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس. قال: وليس في هذيل إلا شاعر أو رام، أو شديد العدو.
والان، وبعد أن انتهينا من الكلام على النثر، نفول هل كان للجاهليين أدب منثور ? أي مدونات من الأدب المنثور. لقد ذهب البعض إلى انه لو كان للجاهليين أدب منثور مدون، لعدّ عجيباً اختفاء آثاره هذا الاختفاء الكلي، حتى من أحاديث العرب المنقولة. والواقع إن من غير الممكن في الوقت الحاضر البت علمياً في هذا الموضوع، لأننا لا نملك أدلة علمية، لنستنبط منها أحكاماً تؤيد أو تنفي وجود التدوين في الجاهلية. أما مسالة عدم ورود نصوص أدبية منثورة الينا، أو عدم ورود إشارات إلى وجودها في الجاهلية، فإنها أمور لا يمكن أن تكون حجة على اثبات عدم وجود التدوين عند الجاهليين، اذ لا يجوز انها كانت، ولكنها تلفت، بسبب كونها كانت مكتوبة على مواد سريعة التلف، فهلكت، كما هلكت مدونات صدر الإسلام، حيث لم يصل من أصولها إلا النزر اليسير، وهو نزر يشك في أصالته وصحته.
وذهب بعض إلى وجود أدب منثور، إذ لا يعقل وجود أدب منظوم، ثم لا يكون للعرب أدب منثور. ويتجلى طراز هذا الأدب في الأمثلة والحكم المنسوبة إلى الجاهلييبن. أما مؤلفات وكتب، وصحف مدونة فلم يصل منها الينا أي شيء. ولكن ذلك لا ينفي عدم وجودها عند أهل الجاهلية، وقد تحدثت عن موضوع التدوين عند الجاهليين في موضع آخر من هذا الكتاب.
وللجاحظ رأي في كلام العرب، فهو يرى أن "كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكاًنه إلهام، وليست هناك معاناة ه ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام "فتاًتيه المعاني أرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده"، عل حين يكون كلام العجم "عن طول فكرة وعن اجتهاد راي، وطول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكير ودراسة الكتبُ". وقد حصر اصناف البلاغة عند العرب بالقصيد والرجز، وهما من الشعر، وبالمنثور، وهو الكلام المرسل، وبالأسجاع، وبالمزدوج وما لا يزدوج من الكلام.
أما موضوع وجود ترجمات جاهلية عربية للتوراة والانجيل والكتب الشرعية الأخرى المعتبرة عند اهل الكتاب، فموضوع لم يتفق عليه الباحثون حتى الآن. نعم ورد في الأخبار أن الأحناف كانوا قد وقفوا على كتب الله،وقرأوها بالعبرانية وبالسريانية، وانهم كتبوا بهما وبالعربية، ولكن هذه الأخبار غامضة غير واضحة، يجب أخذها بحذر، كما ورد أن بعض الرقيق من أهل الكتاب ممن كان بمكة كان يقرأ كتاب الله، وكانت قريش ترى رسول الله يمرّ عليه وبحلس عنده ويستمع إليه، فقالت إنما يتعلم "محمد" منه، ولكن " الأخبار الواردة عن هذا الموضوع لا تشير إلى أن هذا الذي زعم أنه كان يعلم الرسول، كان قد دون ترجمة كتب الله، أو تفاسيرها بالعربية، وأن الناس قد وقفوا عليها.
وأما ما ورد من أمر "عمرو بن سعد بن أبي وقاص" "عمرو بر سد ير أبي وقاص" المذكور في تاريخ "ميخائيل السوري" "المتوفى سنة 1169 المهيلاد" البطريق "البطريارك يوحنا" بطريق اليعاقبة، ترجمة "الانجيل" من السريانية إلى العربية ثم ما جاء من وقوع خلاف بين "عمرو" ويين "البطريارك" بشان الترجمهَ، ثم من استعانة "البطريارك" بعد ذلك برجال من "تنوخ"، و "عاقولا"، و "طيء"، كانوا يتقنون العربية والسريانية للقيام بالترجمة. ولترجمه التوراة، مع رجل يهودي، فإنه خبر غير مؤكد، وقد شك فيه بعض الباحثين، وربما وضع للطعن في "البطريارك"، وضعه خصومه عليه.
ولم تأت جهود "بومشتارك" وتلامذته بنتائج مؤكدة مقبولة عن اثبات وجود كتب للصلاة بالعربية، ترجمت من االسريانية إليها قبل الإسلام، ومن المحتمل أن رجال الدين كانوا يعطون نصارى العرب في الجاهلية بالعربية، أما نصوص الصلاة، فكانوا يلقونها عليهم بالسريانية. وربما كان الحال على هذا المنوال. بالنسبة إلى رجال الدين المتنقلين مع الأعراب، فقد كانوا يتنقلون معهم، يعلمونهم ويرشدونهم بالعربية، ولكنهم لم يكونوا قد ترجموا كتب الصلوات ترجمة مدونة بلغتهم. وقد ورد إن رجال الدين كانوا يحملون "الدفة" معهم، حيث تحل القبائل، لترتيل الصلوات على المذابح المتنقلة، فعل ذلك رجال الدين مع "بني ثعلب" وقبائل من اليمن وغيرها. وينطبق ما اقوله على العرب الجنوييين أيضاً، فلم يعثرحتى الان على دليل يثبت وجود ترجمات بعربيات جنوبية للتوراة أو الإنجيل أو الكتب الدينية الأخرى. ولكن هنلك أخباراً يذكرها أهل الأخبار تشير إلى وجود مثل هذه الترجمات، غير اننا لا نتمكن من التسليم بها، لما فيها من عناصر تدعو إلى الشك في أمرها وعدم إمكان الأخذ بها في الوقت الحاضر.
وقد ورد إن عرب بلاد الشام من لخم وجذام وغسان وقضاعة وتظب وكلب وغيرهم، "وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية"، وقصُد بالعبرانية السريانية، ولهذا لم ياخذ علماء اللغة عنهم. غير انهم لم يشيروا إلى ما كانوا يقراون، ويظهر انهم قصدوا بذلك الصلوات والكتب المقدسة، يقواًونها عليهم بالسريانية وربما ترجموا ما قرأوه عليهم إلى العربية.
والخطابة وجه آخر من أوجه النشاط الفكري عند الجاهليين. وقد كان للخطيب عندهم، كما يقول أهل الأخبار، مقام كيير للسانه وفصاحته وبيانه وقدرته في الدفاع عن قومه والذب عنهم والتكلم باسمهم، فهو في هذه الأمور مثل الشاعر، لسان القبيلة ووجهها. وقد ذكر اهل الأخبار أسماء جماعة من الخطباء، اشتهروا بقوة بيانهم وبسحر كلامهم، وأوردوا نماذج من خطبهم. ومنهم من اشتهر بنظم الشعر، وعدّ من الفحول، مثل عمرو بن كلثوم.
قال "الجاحظ": "وكان الشاعر أرفع قدراً من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكرهم بايامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدراً من الشاعر". وذكروا إن الشعراء كانوا في ارفع منزلة عند العرب،وما زال الأمر كذلك حتى أفضى الشعر إلى قوم اتخذوه أداة للتكسب وسعوا به في كل مكان، فوضعوه أمام الملوك والسوقة، سلعة في مقابل ثمن، واستجداءّ لأكف الناس، فانف منه الأشراف وتجنبه السادة، ونبهت الخطابة. وصار للخطيب شان كبير، ارتفع على شأن الشاعر. ولخص "الجاحظ" ذلك بقوله: "كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيبَ من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر".
وكانوا يحبون في الخطيب أن يكون جهير الصوت، ويذمون الضئيل الصوت وأن يكون مؤثراً شديد التاًثر في نفوس سامعيه حتى يسحرهم وياخذ باًلبابهم. وكانوا يجعلون مثل هؤلاء الخطباء ألسنتهم الناطقة إذا تفاخروا أو حضروا المجالس أو تفاوضوا في أمر، أو أرادوا تأجيج نيران الحروب، أو عقد صلح، أو البت في أي أمر جلل. ولذلك صارت الخطابة من امارات المنزلة والمكانة، فصارت في ساداتهم وأشرافهم الذين يتكلمون باسمهم في المحافل والمجامع العظام.
وقد ذكر "الجاحظ"، أن حمل العصا المخصرة دليل على التأهب للخطبة.والتهيؤ للاطناب والإطالة، و ذلك شيء خاص فيّ خطباء العرب، ومقصور عليهم، ومنسوب اليهم. حتى انهم ليذهبون في حوائجهم والمخاصر بأيدهم، إلفاً لها، وتوقعاً لبعض ما يوجب حملها: والإشارة بها". ولا يخطب أحدهم الا وعنده عصاً أو مخصرة.، جرى على ذلك عرفهم حتى في الإسلام. "قال عبد الملك ابن مروان: لو ألقيت الخيزرانة من يدي لذهب شطر كلامي"، وأراد معاوية سحبان وائل على الكلام، فلم ينطق حتى أتوه بمخصرة. وكانوا يعتمدون على الأرض بالقسي، ويشيرون بالعصا والقنا، ومنهم من يأخذ المخصرة في خطب السلم، والقسي في الخطب عند الخطوب والحروب. وذكر أن من عوائدهم أن يكون الخطيب على زيّ مخصوص في العمامة واللباس. وان يخطب الخطيب وعلى رأسه عمامة، علامة المكانة والمنزلة عند الجاهليين. وذكر أيضاً أن من عوائدهم ألا يخطب الخطيب وهو قائد إلا في خطبة النكاح. كما ذكر أن منهم من كان و يخطب وهو على راحلته. وذكر "الجاحظ" أن الشعوبية طعنت على "أخذ العرب في خطبها المخرة والقناة والقضيب، والاتكاء والاعاد على القوس، والخد" من الأرض، والإشارة بالقضيب". وذكر أن من المستحسن في الخطيب أن يكون جهوري الصوت، قليل التلفت، نظيف البزة، وأن يخطب قائماًعلى نشز من الأرض، أو على راحلته، وأن يحتجز عمامته، ويكمل هذه الخصال شرف الأصل وصدق اللهجة.
وقد كان بين الخطباء من كان يقول الشعر بالإضافة إلى علو شانه بالنثر. غير إن العادة، إن الشعراء لم يبلغوا في الخطابة مبلغ الخطباء، وأن الخطباء دون الشعراء في الشعر. "ومن يجمع الشعر والخطابة قليل". ومن الشعراء الخطباء: "عمرو بن كلثوم" التغلبي، و "زهير بن جناب"، و "لبيد"، و "عامر ابن الظرب العدواني".
وذكر "الجاحط" إن العرب استعملت الموزون، والمقفى، والمنثور في مساجلة الخصرم، والرجز، في الأعمال التي تحتاج إلى تنشيط وبعث همة، وعند مجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادلة والمحاورة، واستعملت الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعملت المنثور في الأغراض الأخرىّ، وقال أيضاً: "وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكاًنه إلهام، وليمست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وانما هو أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، والى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالاّ،وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده. وكانوا اميين لا يكتون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر، وله أقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجد، والكلامّ عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، ويحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يخطوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد، ولا تحفظ ولاطلب "ويظهر إن من الخطباء من استعمل السجع في خطبه، ولا سيما في المفاخرات والمنافرات وأمور التحكيم، وهو في الغالب. ومنهم من كان يستعمل الكلام المرسل و ذلك في الأمور الأخرى، ولغلبة السجع على الخطب، قال بعض علماء اللغة: "الخطبة عند العرب: الكلام المتثور المسجع ونحوه.
وقسم "الجاحظ" الخطب على ضربين، فقال: "اعلم إن جميع خطب العرب من أهل المدر والوبر والبدو والحضر على ضربين، منها الطوال، ومنها القصار،ولكل ذلك مكان يليق به، وموضع يحسن فيه. ومن الطوال ما يكون مستوياً في الجودة، ومتشاكلأ في استواء الصنعة، ومنها ذات الفقر الحسان والنتف الجياد. وليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ، وإنما حفظًه التخليد في بطون الصحف. ووجدنا عدد القصار أكثر، ورواة العلم إلى حفظها أسرع" وقد اقتضى النظام الاجتماعي والسياسي في الجاهلية أن يقيم العرب للخطابة وزناً خاصاً في المفاوضات التي تكون في داخل القبيلة للنظر في أمورها وفي شؤونها الخاصة بها في أيام السلم وفي أوقات الغزو والغارات، في حالتي الهجوم والدفاع. وأقاموا لها وزناً خاصاً بالمناسبة للمفاوضات التي جرت بين القبائل، أو بين القبائل والملوك. ثم في الفاخرات وفي المنافرات. فكل هذه الأمور وأشباهها استدعت ظهور أناس بلغاء اعتمدوا على حسن تصرفهم في تنظيم الكلم وفي تنسيق الجمل وفي التلاعب بالألفاظ للتأثير على القلوب والأخذ بمجامع الألباب. فرب كلمة كانت تقيم قبيلة وتقعدها لتلاعب الخطيب بقلبها بسحر بيانه وفي كيفية اختيار ألفاظه واستخدامه مواضع الإثارة التي يعرف أنها ستثير النار الدفينة في أفئدة سامعيه.
ولهذا كانوا لا يختارون لمن يتكلم باسم قومه إلاّ من عرف بسحر لسانه وقوة بيانه،ليتمكن بما وهب من مرونة وتفنن في كلامه من التغلب على خصمه وافحامه، ولما مات "أبو دليجة" "فضالة بن كلدة" رثاه "أوس بن حجر" بكلمة مؤثرة تعبر عن مبلغ شعوره وشعور قومه للفاجعة الأليمة التي جعلت قوم الخطيب فى لبس وبلبال، لعدم وجود من سيحل محله في الدفاع عنهم، اذ حفلوا لدى الملوك، فيقول: ابا دليجة من يكفي العـشـيرة إذ أمسوا من الخطب في لبس وبلبال
أم من يكون خطيب القومِ إذحفلوا لدى الملوك ذوي أيد وافـضـال
وندخل في الخطباء جماعة عرفت بإلقاء المواعظ والنصائح في أمور الدين والأخلاق والسلوك وفي التفكير، وهم قوم تأثروا بالمؤثرات الثقافية التي كانت في أيامهم بجب وجود اليهود والنصارى بينهم،وبسبب اتصالهم بالرهبان والمبشرين في داخل جزيرة العرب وفي خارجها، فأخذوا يحثون قومهم على التعقل والتامل والتفكر في أمور دينهم ودنياهم، وترك ما هم عليه من عبادة الأصنام والتقرب إلى الأوثان، وهي حجارة صلبة، أو من خشب أو معدن لا يسمع ولا يجيب. وينسب اليهم، انهم كانوا على دين ابراهيم،على ألسنة العربية الأولى دين الفطرة دين التوحيد. وينسب اليهم أيضاً، انهم كانوا يقرأون ويكتيون، لا بالعربية وحدها، بل بالعبرانية والسريانية أيضاً، وانهم كانوا يتدارسون التوراة والانجيل وكتب الأنبياء، إلى غير ذلك من دعاوى قد تكون وضعت عليهم. وهم قوم سبق أن تحدثت عنهم، وقلت عنهم انهم الأحناف.
.واذا درسنا الأغراض التي توخاها أهل الجاهلية من الخطابة، نجدها تكاد تتجمع في الأمور الاتية: التحريض، على القتال،وإصلاح ذات الببن، ولمّ شعث، لكثرة ما كان يقع بينهم من تافر وتشاحن، ثم السفارات إلى القبائل أو الملوك، لأغراض مختلفة، مثل التهنثة والتعزية، أو طلب حاجة، وحلء معضل، أو انهاء خصومة، ثم الجلوس لحل الديات وانهاء نيران الثأر، ثم التفاخر والتنافر والتباهي بالأحساب والأنساب والمآثر والجاه والمال، ثم في الوفادات حيث تقتضي المناسبة إلقاء الخطب، أو في الحث على التعقل والتفكر وتغير رأي فاسد، كما في خطب قس بن ساعدة الإيادي وفي خطب الأحناف، ثم في المناسبات الأخرى مئل تعداد مناقب ميت، أو خطب الإملاك وما إلى ذلك، ومن اشهر الطخب المنسوبة إلى الجاهليين، الخطب التي زعم إن "أكثم بن صيفي"، و "حاجب بن زرارة"، وما من "تميم"، و "الحارث بن ظالم"، و "قيس بن مسعود"، وهما من "بكر"، و "خالد بن جفر"، و "علقمة بن علاثة"، و "عامر بن الطفيل" من "بني عامر"، قالوها في مجلس كسرى، يوم أرسلهم "النعمان بن المنذر" إليه، ليريه درجة فصاحة العرب ومبلغ بيانهم وعقلهم، مما اثار إعجاب "كسرى" بهم، حتى عجز عن تفضيل أحدهم على الآخر، مما جعله يقر ويعترف بذكاء العرب وبقوة بيانهم وبقوة عقلهم، فقدرهم لذلك حق قدرهم وأكرمهم. وهي خطب مصنوعة موضوعة، قد تكون من وضع جماعة أرادت بها الرد على الشعوبين الذين كانوا ينتقصون من قدر العرب، ومن لسان العرب، ومن دعوى الإعجاز في لغتهم، فصنعت هذا المجلس، وعملت تلك المحاورة والخطب في الرد عليهم،وهي تتناول صميم ذلك الجدل.
وأكثر ما نسب إلى زيد وأمثاله من الأحناف مختلق، وضع عليهم فيما بعد. وأكثر ما ورد عنهم في شرح حياتهم هو من هذا النوع الذي يحتاج إلى إثبات. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر من الجاهليين قالوا عنهم إنهم كانوا من خطباء الجاهلية المشهورين المعروفين، وقد أدخلوا بعضهم في المعمرين. والمعُمرَّ في عرفهم من بلغ عشرين ومئة سنة" فصاعدأ، وإلاّ، لم يعدوه من المعمرين. وعلى رأس من ذكروا دويد بن زيد بن نهد بن ليث بن أسود بن أسلم الحميري"، فهو إذن من حمير. وقد ذكر أنه عاش أربع مئة سنة وستاً وخمسين سنة، ونسبوا إليه وصية أوصى بها بنيه. ولكنهم لم يذكروا متى عاش، وفي أي زمان مات، وكيف أوصى بنيه بهذه اللهجة الحجازية، لهجة القرآن الكرم، وهو من حمير، وحمير لها لسانها وكتابتها -وذكر أهل! الأخبار اسم "سر بن جناب بن هبل" في ضمن المشهورين في قو ة البيلن والفصاحة والمنطق عند الجاهليين، ويذكرون أنه كان على عهد "كليب ابن وائل"، وانه كان لسداد رأيه كاهناً، ولم تجتمع قضاعة إلا عليه وعلى "رزاح بن ربيعة"، وقالوا إنه: "كان سيد قومه وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، وأوفدهم إلى الملوك، وطبيبهم، وحازي قومه، وفارس قومه، وله البيت فيهم والعدد منهم". وقد ذكروا له وصية أوصى بها بنيه، وأبيات شعر، زعموا أنه نظعها.
وذكروا أيضاً "مرثد الخر بن ينكف بن نوف بن معديكرب بن مضحى"، زعموا أنه كان قيلا حدباً على عشيرته،محباً لصلاحهم. وكان من أفصح الفصحاء وأخطب الخطباء، وزعموا أيضاً انه أصلح بين القيلين: "سبيع بن الحرث" و ميثم، بن مثوب بن ذي رعين"، وأوردوا ما دار بينهم من نقاش وحوار ضبطوه وسجلوه، حتى لكأن كاتب ضبط كان حاضراً بينهم كلفَ تسجيل محضر ذلك الحديث.
وعد "الحارث بن كعب الذحجي" من هذه الطبقة البليغة التي اشتهرت بسحر البيان. وقد زعم أهل الأخبار"أنه كان على دين "شعيب" النبيّ، وهو دين لم يكن قد دخل فيه غيره وغير "أسد بن خزيمة" و "تميم بن مرّ". وقد ذكروا له وصيةّ لأبنائه، أوصاهم بها حين شعر بدنو أجله، بعد أن عاش على زعمهم ستين ومئة سنة.
ولم يذكر أهل الأخبار شيئاً عن هذا الدين، دين شعيب. وليس في الوصية المنسوبة إليه ما يميزه عن غيره من الخطباء، مثل قس بن ساعدة الايادي أو غيره من المتالهين الرافضبن لعبادة الأوثان.
وعدّ علمء الأخبار كعب بن لؤي في جملة الخطباء القدماء، وذكروا انه كان يخطب على العرب عامة، ويحض كنانة على البر وكان رجلا طيباً خيراً، فلما مات، أكبروا موته، فلم تزل كنانة تؤرخ بموت كعب بن لؤي إلى عام الفيل.
وكان ابن عمار عمرو بن عمار الطائي خطيب مذحج كلها، وكان شاعراً كذلك، فبلغ النعمان حسن حديثه، فاستدعاه، وحمله على منادمته. وكان النعمان أحمر العينين والجلد والشعر، وكان شديد العربدة، قتالا للندماء، فنهاه ابو قردودة الطائي عن منادمته، ولكنه لم ينته، فلما قتله النعمان، رثاه ابو قرلودة، وهجا النعمان.
وعدّوا "عبد المطلب" في جملة خطباء قريش، الذين كانوا يخطبون في الملمات وفي الأمور العظيمة، وكان وافد أهل مكه على ملوك اليمن، فإذا مات ملك منهم، أو تولى ملك منهم العرش، ذهب إلى اليمن معزياً ومهنئاً. فهو خطيب القوم اذن.
ومن خطباء "غطفان" في الجاهلية: "خويلد بن عمرو"، و "العُشَراء بن جابر" من "بني فزارة"، وخويلد خطيب يوم الفجار.
وأما بقية من ذكر أهل الأخبار من خطباء الجاهلية، فهم: "أبوالطمحان القيني"، واسمه حنظلة بن الشرقي من "بني كنانة بن القين"، و "ذو الاصبع العدواني" وهو من حكام العرب كذللث، و "أوس بن حارثة"، و "أكيم ابن صيفي التميمي"، وهو من حكام العرب أيضاً. وقد ذكر إن "يزيد بن المهلب" كان يسلك طريقته في خطبه ووصاياه، و "عمرو بن كلثوم"، وهو من الخطباء الشعراء البارزين في الفنين. وقد ذكروا له خطبة نصح ووصية ذكروا انه أوس بها بنيه، في الأدب والسلوك، و "نعيم بن ثعلبة الكناني"، وكان ناسثاً، ينسىء الشهور، وقيل: انه أول من نساًها. وكان يخطب في الموسم، و "أبو سيّارة العدواني"، واسمه "عميلة بن خالد الأعزل" و "الحارث بن ذبيان بن لجأ بن منهب اليماني وفي الملمات والأوقات العصيبة وفي الوفدات على الملوكُ نحتار خيرة الخطباء المتكلمين المعروفين بأصالة الرأي وبسرعة البديهة والجواب، ليبيضوا الأوجه، ويؤدوا المهمة على أحسن وجه. ولما قدم النعمان بن المنذر الحيرة، بعد زيارته لكسرى،وتفاخره عنده بقومه العرب،وفي نفسه ما فيهامماسمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين امرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميبن، والى الحارث بن عباد "الحارث بن ظالم"، وقيس بن مسعود البكريين، والى خالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل العامريين، والى عمرو بن الشريد السلمي، وعمرو بن معديكرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المريّ، وهم خيرة من عرفهم في أيامه بالأصالة في الرأي وبقوة البيان، وطلب منهم الذهاب إلى كسرى والتكلم معه، ليعرف عقل العرب وصفاء ذهنها. فذهبوا وتكلموا، فاًعجب بهم، وقدرهم حق تقدير.
وذكرعن حاجب بن زرارة: أنه وفد على كسرى لما منع تيمماً من ريف العراق، فاستأذن عليه، وتحدث معه، فأرضاه، واذن عندئذ لتميم أن يدخلوا الريف. وقد وفد ابنه عُطارد على كسرى أيضاً بعد وفاة والده.
وأدرك "الربيع بن ضبيع الفزاري" الإسلام كذلك، ويذكر أهل الأخبارانه أدرك أيام عبد الملك بن مروان. وإذا كان هذا صحيحاً، فيجب أن يكون قد عاش معظم ايامه في الإسلام. أما في الجاهلية، فقد كان طفلاً، أو شاباً، وإن ذكر أهل الأخبار أنه كان من المعمرين.
ومن الخطباء عطارد بن حاجب بن زرارة، وقد خطب أمام الرسول، ومن خطباء غطفان في الجاهلية: خويلد بن عمرو، والعشراء بن جاير بن عقبل. وكان الأسود بن كعب، المعروف بالكذاب العنسي، الذي ادعى النبوة من الخطباء كذلك.
وذكر أهل الأخبار اسم: "قيس بن عامر بن الظرب"، و "غيلان بن سلمة الثقفي" في جملة حكام العرب. وذكروا انه كان قد خصص يوماً له يحكم فيه بين الناس، ويوماً ينشد فيه شعره. وذكووا من حكام قريش عبد المطلب، وهاشم بن عبد مناف، وأبا طالب والعاص بن وائل.
وعدّوا "قيس بن زهير العبسي" من خطباء الجاهلية المعروفين، وقدذكروا عنه انه جاور "النمر بن قاسط" بعد "يوم الهباء ة" وتزوج منهم. ثم رحل عنهم إلى "غمار"، فتنصر بها، وعف عن المأ كل، حتى أكل الحنظل إلى إن مات. وله امثلة مذكورة في كتب الأمثال. وقيل فيه: "أدهى من قيس بن زهر"، ومن أقواله: "أربعة لا يطاقون: عبد ملك، ونذل شبع، وأمة ورثت، وقبيحهَ تزوجت"، وله امثال عديدة. وذكر انه طرد إبلاَ لبني زياد، وباعها من عبدالله بن جدعان، وقال في ذلك شعراً.
وأما "سحبان بن زفر بن اياس" المعروف ب "سحبان بن وائل الباهلي"، فإنه خطيب ضرب به المثل في الفصاحة فيقال: "اخطب من سحبان وائل"، و "أفضح من سحبان وائل"، و "أنطق من سحبان"، و "أبلغ من سحبان"، لمن يريدون مدحه واعطاءه صفة البيان. وذكر أنه عاش في الجاهلية وعاش في الإسلام حتى أدرك أيام معاوية، وقد عرف بخطبته "الشوهاء"، قيل لهاذلك لحسنها. و ذلك انه خطب بها عند معاوية فلم ينشد شاعر ولم يخطب خطيب. "وكان إذا خطب لم يعد حرفاً ولم يتلعثم، ولم يتوقف، ولم يتفكر بل كان يسيل سيلا" وقد ورد انه توفي سنة "54".
ذكر انه دخل على معاوية وعنده خطباء القبائل، فلما رأوه خرجوا، لعلمهم. بقصورهم عنه، فقال: لقد علم الحي اليمانيون انني إذا قلت أما بعد اني خطيبها
فقال له معاوية: أخطب، فطلب عصا، فلما أحضرت له خطب جملة ساعات، فقال له معاوية: أنتَ أخطب العرب، قال: أو العرب وحدها، بل أخطبُ الجن والانسْ، وقد اشتهرت إياد وتميم بالخطابة وبشدة عارضة خطبائها وبقوة بيانهم، وقد ذكر إن معاوية ذكر تميماً، فقال: "لقد اوتيت تميم الحكمة، مع رقة حواشي الكلم". وهناك قبائل أخرى أخرجت خطباء مشهورين، نسبت اليهم خطب بليغة. وقد يكون من الأعمال المفيدة النافعة، وضع دراسة خاصة بعدد الخطباء الذين نبغوا في القبائل، وبدراسة خطبهم، وبمساكن أولئك الخطباء ومهاجر قبائلهم، فإن دراسة علمية مثل هذه تعيننا كثيراً على الوقوف على تطور هذه اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، والقبائل التي تكلمت بها سليقة وطبعاً.
وذكر "الجاحظ" أن شاًن "عبد القيس" عجب، "و ذلك أنهم بعد محاربة إياد تفرقوا فرقتين: ففرقة وقعت في عمان وشق عمان، وهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين، وهم من أشعر قبيل في العرب، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن الفصاحة. وهذا عجب"،. وذكر "الجاحظ" أن "معاوية" كان يعجب من فصاحة "عبد القيس"، ولما اجتمع ب "صحار ابن العباس" "صحار بن العياش"، المعروف ب "صحار العبدي"، عجب من بلاغته وفصاحته، فقال له، ما هذه البلاغة فيكم ? قال: ضيء بختلج في صدورنا، فنقذفه كما يقذف البحر بزبده. قال: فما البلاغة ? قال: أن تقول فلا تبطىء، وتصيب فلا تخطىء. وورد في "كتاب الحيوان"، للجاحظ،أنه قال له: "ما الإيجاز ? قاله: أن تجيب فلا تبطىء، وتقول فلا تخلىء".
وله كلام فيما يجب أن يقال عند تذكر الاحسان،. وكان نسابة، وله مع "دغفل" النسابة محاورات. وقد ذكر "ابن النديم"، أن له من الكتب: "كتاب الأمثال"، وقد أشاد "الجاحظ" بعلمه في الأنساب، وذكره فيمن ذكر ممن ألف في كتب النسب، من أمثال "ابن الكلبي"، و "الشرقي بن القطامي"، و "أبي اليقظان"، و "أبي عبيدة"، و "دغفل بن حنظلة" النسابة، و"ابن لسان الحمرة"، و "ابن النطاح اللخمي.
وكان لبني عبد الفيس، اتصال بمكة قبل الإسلام، لهم معها تجارة. يرسلون إليها التمر والملاحف والثياب والتجارة المستوردة من الهند. وقد أشير اليها في خبر إسلام "الأشج": "أشج" عبد القيس، واسمه "المنذر بن عائذ بن الحارث بن المنذر بن النعمان" العبدي. فقد أرسل ابن أخته "عمرو بن عبد القيس.
إلى مكة عام الهجرة، ومعه تجارة من تمر وملاحف، فلقيه النبي، وهداه إلى الإسلام، وكان مثل قومه نصرانياً، فاًسلم، وتعلم سورة الحمد واقرأ باسم ربك، فلما باع تجارته وعاد، أخبر خاله "الأشج" بإسلامه، فأسلم وكتم إسلامه حيناً، فلما كان عام الفتح، خرج مع وفد من أهل "هجر" وعبد القيس، وصل المدينة، وقابل الرسول، وأعلنوا إسلامهم، فقسموا بلادهم، وحوّ لوا "الببعة"مسجداً.
وممن اشتهر من "بتي عبد القيس" بالخطابة والفصاحة: "صعصعة بن صوحان" العبدي، وأخواه: "سيحان" و "زيد". وقد شهد "صفين" مع "علي"، وكانت له مواقف مع معاوية، وقد مات في خلافته. "وقال الشعبي كنت أتعلم منه الخطب"، وله شعر.
وذكر في أثناء تحدث أهل الأخبلر عن "الردة" وادعاء "لقيط بن مالك" الأزدي النبوة، إن "الحارث بن راشد"، و "صيحان بن صوحان" العبدي جاء ا على رأس مدد من "بني ناجية." و "عبد القيس"، لمساعدة "عكرمة"
و "عرفجة"، و "جبير"، و "عبيد"، فاستعلاهم، فلما وصل المدد انهزم "لقيط"، وقتل ممن كان معه عشرة آلاف. ولعل "صيحان" هذا هو اخ "صعصعة بن صوحا ن ومن منازل "عبد القيس" "دارين" و". الزارة"، وكان بها رهبان وببع، ويظهر إن النصرانية كانت متفشية بين "عبد القيس"، وردت إليها من العراق. وكان "بنو عبد القيس" من العرب المتحضرين بالنسبة إلى أعراب البوادي، ولهم اتصال بالعالم الخارجي، وقد قام المبشرون بنشر الكتابة بينهم، ولا بد وأن تكون كتابتهم بالفلم العربي الشمالي، الذي كان يكتب به النصارى العرب. ونجد في قرى البحرين أناساً من مختلف الأجناس، بسبب اتصالها بالبحر ومجيء الأقوام إليها من الهند وايران والعراق، فظهرت فيهأ ثقافة، امتصت غذائها من مختلف الثقافات.
وهناك من اشتهر بالخطابة وكان قريب عهد من الإسلام، أو أدركه وأسلم،.منهم: " قيس بن ساعدة الإيادي"، وقد رآه الرسول، وسمعه يتكلم، وهو راكب على جمل أورق، ويذكر أن الرسول قال: "يرحم الله قساً، إني لأرجو يوم القيامة أن يبعث أمة واحده". وقد عد"ه بعض الباحثين من النصارى، ولكن معظم أهل الأخبار يرى أنه كان على الحنيفية، أي على التوحيد، لا هو من يهود، ولا هو من النصارى.
وقد ذكر أهل الأخبار أنه " كان من حكماء العرب وأعقل من سمع به منهم وهو أول من كتب من فلان إلى فلان، وأول من أقر بالبعث من غيرعلم، وأول من قال: أما بعد، وأول من قال: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر". وأنه اول من خطب على شرف، وأول من اتكأ عند خطبته على سيف أو عصا. وكان أحكم حكماء العرب، وابلغ وأعقل من سمع به من إياد. وبه ضرب المثل في الخطابة والبلاغة روي أن الرسول سمع كلام "قس ابن ساعدة" الإيادي ورواه، ذكر "الجاحظ" أن رسول اللًه "هو الذي روى كلام "قس بن ساعدة" وموقفه على جمله بعُكاظ وموعظته، وهو الذي رواه لقريش والعرب، وهو الذي عجب من حسنه وأظهر من تصويبه".
وذكر في موضع آخر من كتابه "البيان والتبيين" أن الرسول قال: "رأيته بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول،: أيهآ الناس اجتمعوا واسمعوا وعوُا من عاش مات، ومن مات فات" وكل ما هو آت آت.
وهو القائل في هذه: آيات محكمات، مطر" ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت، ضوء وظلام، وبر وأئام، ولباس ومركب، وبطعم ومشرب، ونجوم تمور، وبحور لا تغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، وليل داج، وسماء ذات أبراج. ما لي أرى الناس يموتون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم حبسوا، فناموا.
وهو القائل: يا معشر إياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد. أين المعروف الذي لا يشكر، والظلم الذي لم يذكر، أقسم قس قسماً بالله، إن لله ديناً هو أرضى له من دنيكم هذا.
وأنشسوا له: في الذاهـبـين الأولـين من القرون لنا بصـائر.
لمــا رأيت مـــوارداً للموت ليس لها بصـائر
ورأيت قومي نـحـوهـا يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع المـاضـي ولا يبقى من الباقين غـابـر
أيقـنـت أنـى لا مـحـا لة حيث صار القوم صائر
وقد اشتهر قس بخطبته التي خطبها بسوق عكاظ، وبأبيات من الشعر رويت عن "أبي بكر الصديق". وبفصاحته وبلاغته ضرب المثل، فقيل: "أبلغ من قس". وقد استشهد ببعض شعر "قس" في كتب الشواهد. وذكر انه أول من قال: أما بعد في العرب.
وفي رواية من روايات أهل الأخبار:،إن أول من قال: "أما بعد"، هو كعب بن لؤي. بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. زعيم قريش، وأحد خطبائها المشهورين.
وذكر بعض أهل الأخبار: أنه قيل لقس بن ساعدة: ما أفضل المعرفة قال: معرفة الرجل نفسه، قيل له: فما أفضل العلم ? قال: وقوف المرء عند علمه قيل له: فما أفضلُ المروءة ? قال: استبقاء الرجل ماء وجه وقد وردت في الخطبة المنسوبة إلى قس بن ساعدة الإيادي هذه الجملة: "إن في السماء لخبراً". ويلاحظ إن العبرانين كانوا يراقبون السماء لأخذ الأخبار عما سيقع لهم من احداث منها. وقد تخصص بذلك نفر منهم، عرفوا ب "خبرى شمايم"، اي المخبرون عما يقع في السماء، و "قيري شمايم"، أي قراء السماء. وكان العرب يراقبون السماء كذلك، استطلاعاً للاخبار، وفي الجملة المنسوبة إلى "قس" تعبير عن ارتقابه وقوع امر مهم.
و "قس" من المعمرين، زعم بعض أهل الأخبار أنه عمر سبعمائة سنة، وزعم بعض آخر أنه عاش ثلمائة وثمانين سنة، وقال المرزباني: ذكر كثير من أهل العلم انه عاش ستمائة سنة". وقال بعضهم انه أدرك نبيتنا، وسمعه، وجعله بعضهم في الصحابة، وأماته بعضهم قبل البعثة. وقال قوم إنه أول من آمن بالبعث من أصل الجاهلية. وفي الذي يرويه أهل الأخبار عن خطبة قس ورواية النبي لها. تصادم في الروايات.. وقد ذكر ذلك العلماء، واني أرى أن القصة موضوعة، وهي من هذا النوع الذي وضع للتبشير بقرب ظهور دين جديد.
وقد اشير إلى قس في أبيات نسبت إلى الحطيئة والأعشى ولبيد. وقد ضرب الحطيئة به المثل في البيان، وبقوة تأئره في نفوس السامعين. اما الأعشى فقد وصفه بالحلم، واما لبيد فقد قال فيه: وأخلفن قساً ليتني ولعلـنـي واعيا على لقمان حكم التدبر
ويقولون: وانما قال ذلك لبيد، لقول قس: هل الغيب معطى الأمن عند نزوله بحال مسيء في الأمور ومحسن
وماقد تولى فهـو لإشـك فـائت فهل ينفعتي ليتني ولعـلـنـي ?
ونسبوا إليه أبياتاً من الشعر.
وورد إن "الجارود بن عبدالله" من "بني عبد القيس"، وكان سيداً في قومه لما قدم علي رسول الله، وأسلم مع قومه، قال له الرسول: "يا جارود هل في جماعة وفد عبد القيس من يعرف لنا قساً ? قالوا: كانا نعرفه يا رسول الله وأنا من بين يدي القوم كنت أقفو أثره. كان من أسباط العرب فصيحاً، عمرسبعمائة سنة، أدرك من الحواريين سمعان، فهو أول من تأله من العرب، كاًني أنظر إليه يقسم بالرب الذي هو له ليبلغن الكتاب أجله وليوفين كل عامل عمله، ثم أنشأ يقول: هاج للقلب من جواه ادكار وليال خلا لهـنّ نـهـارُ
في أبيات آخرها: والذي قدذكرتُ دلّ على الله نفوساً لها هدى واعتبـار
فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا جارود، فلست أنساه بسوق عكاط على جمل أورق، وهو يتكلم بكلام ما أظن اني أحفظه. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، فإني أحفظه: كنت حاضراً ذلك اليوم بسوق عكاظ فقال في خطبته: يا أيها الناس اسمعوا وعوا، فإفا وعيتم فانمنعوا، انه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إلى أخر ما أورده من الوعظ".
و "الجارود"، هو "بشر بن عمرو بن حفش بن النعمان"، وقيل هو "أبو المُعلى"، "الحارث بن زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة"،وقيل: "الجارود بن المعلى"، ويقال ابن عمرو بن المعلى، وقيل الجارود بن العلاء" وقيل الجارود بن عمرو بن حنش، وقيل اسمه بشر بن حنش، إلى غير ذلك من أقوال تدل على اضطراب أهل الأخبار في معرفته، وكان نصرانياً، وكان شاعراً، وأوردوا له شعراً يعلن إِيمانه بالرسول، وبأنه حنيف حيث كان من الأرض. قيل إنه قتل بفارس في أيام عمر سنة "21"، وقيل بقي إلى خلافة عمان.
وذكر "الجاحظ" أن من خطباء العرب: "الصباح بن شفي" الحميري، زعم أنه كان من أخطب العرب، وقيس بن شماس، وثابت بن قيس بن شماس، خطيب النبي، فقد أوكله الرسول بالرد على خطاب من كان يخطب أمامه من الوفود، فهو الناطق باسمه بالنثر، كما كان "حسان" الناطق باسم الرسول شعرأَ. وذكر أن من خطباء العرب "الأسود العني"، و "طليحة ابن خويلد" الأسدي، تنبأ في خلافة أبي بكر في بني أسد بن خزيمة، وعاضده "عيينة بن حصن" الفزاري، فوجه "أبو بكر" إليه خالد بن الوليد،فهزمه، وأسر "عيينة " سنة "11" للهجرة، وقد اسلم "طليحة"، واستشهد بنهاوند سنة "11" من الهجرة. وذكر "الجاحظ": "مسيلمة" بعد "طليحة"، فقال: "وكان مسيلمة الكذاب، بعيداً عن ذلك كله"، أي انه نفى الخطابة عنه.
ومن الخطباء النابهين اصحاب الرأي والبيان، خطيب عاش في الجاهلية والإسلام وقد أسلم وحسن إسلامه، هو: سهيل بن عمرو الأعلم، أحد بني حسل بن معيص. يقال انه كان مؤثراً جداً، أخاذاً يأخذ بعقول الناس، حتى ذكر إن عمر قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، انزع ثنيتيه السفليين حتى يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً أبداً. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:
لا أمثل، فيمثل الله بي، وإن كنت نبياً. دعه يا عمر، فعسى أن يقوم مقاماً تحمده. فلما هاج أهل مكة عند الذي بلغهم من وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قام خطيباً، فقال: "أيها الناس، إن يكن محمد قد مات، فالله حي لم يمت، وقد علمتم أني أكثركم قتباً في بر، وجاريةَ في بحر، فاقروا أميركم وأنا ضامن، إِن لم يتم الأمر، أن أردها عليكم" فسكن الناس.
وهو الذي قال يوم خرج آذن عمر، وبالباب عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وفلان، وفلان، فقال اذان:. أين بلال ? أين صهيب ? أين سلمان? أين عمار ? فتمعرت وجوه القوم، فقال سهيل لمَ تتمعر وجوهكم ?ُ دعوُا ودعينا، فاسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على باب عمر، لما أعد الله لهم في الجنة أكثر. وفي هذا الجواب دلالة على عقل فاهم للواجب مدرك لمهمات رئيس الدولة، ولما يجب أن تقوم الحكومة عليه، لا يبالي بالعنعنات القديمة وبالعرف القبيلي الجاهلي.
وروي "أنه لما ماج أهل مكة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد من العرب، قام سهيل بن عمرو خطيباً. فقال: والله اني لأعلم أن هنا السين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها إلى غروبها، فلا يغرنكم هذا من أنفسكم - يعتي أبا سفيان -، فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلم، ولكنه قد جثم على صدره حسد بني هاشم. وأتى في خطبته يمثل ما جاء به أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالمدينة".وقد كان مخلصاً في عقيدته مطيعاً لأمر الحاكم، ذكر أنه حضر" الناس باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن عمرو وأبو سفيان إن حرب، وأولئك الشيوخ من قريش، فخرج آذنه. فجعل يأذن لأهل بدر، لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم. وكان قد أوصى بهم. فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط ا انه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس، لا يلتفت الينا فقال سهيل بن عمرو، وقال الحسن: ويا له من رجل، ما كان أعقله، أيها القوم إني والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإت كنتم غضاباً، فاغضبوا على أنفسكم، دُ عي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم. أما والله قد سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتاً من باكم هذا الذي تتنافسون فيه. ثم قال: أيها القوم إن هؤلاء القوم قدسبقوكم بما ترون، ولا سبيل لكم والله إلى ماسبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فالزموه عسى الله عز وحل أن يرزقكم شهادة، ثم نفض ثوبه وقام ولحق بالشام". فالرجل مؤمن، صاحب مبداً، يرى الفضل لأصحابه بأعمالهم، لا بالرئاسة والنسب والجاه، كما كان يريد أبو سفيان وقومه. وقد نعت ب "خطيب قريش" لفصاحته.وقوة بيانه، ولهذا اختارته قريش ليكون لسانها حن فاوضت الرسول على الصلح في الحديبية. وقد تكلم فاًطال الكلام وتراجع مع الرسول حتى وافق على تدوين كتاب الصلح. وكان هو لسان قريش يوم وضع الرسول يده على عضادتي باب الكعبة، فقال: "ماتقولون" ? فقال سهيل: نقول خبراً ونظن خيرأَ، أخ كريم وابن اخ كريم، وقد قدرت".
وتعد "ابنة الخس هند الإيادية"، وهي بنت "الخس بن حابس"، رجل من إياد، من النساء المعروفات بالفصاحة. وقد رووا عنها الأمثال. وذكر إن والدها هو "خس بن حابس بن قريط" الإيادي. وقال بعض أهل الأخبار إن ابنة الخس من "العماليق". والإيادية هي "جمعة بنت حابس" الإيادي، وكلتاهما من الفصاح. وذكر بعض آخر، إن الصواب إن ابنة الخس المشهورة بالفصاحة واحدة، وهي من "بني إياد". واختلف في اسمها، فقيل هند وقيل جمعة. ومن قال انها بنت حابس، فقد نسبها إلى جدها.
وممن ضرب به المثل في الفصاحه "سحبان بن زفر بن إياس" الوائلي، وائل باهلة. خطيب مفصح يضرب به المثل في البيان، أدرك الجاهلية وأسلم، ومات سنة "54" شهرته في الإسلام، كشهرة "قس" في الجاهلية. واشتهر "هيذان بن شيخ" "هيدان بن سنح"، بكونه خطيب "عبس"، وذكر أن النبي قال للنابغة الجعدي: لا يفضض الله فاك، وقال لهيذان: رب خطيب من عبس.
والخطابة عند الجاهليين حقيقة لا يستطيع أحد أن يجادل في وجودها، ودليل ذلك خطب الوفود التي وفدت على الرسول، وهي لا تختلف في أسلوب صياغتها وطريقة إلقائها عن اسلوب الجاهليين في الصياغة وفي طرق الإلقاء. ثم إن خطب الرسول في الوفود وفي الناس وأجوبته للخطباء، هي دليل أيضاً على وجود الخطابة بهذا الاسلوب وبهذه الطريقة عند الجاهليين. بل في أن الخطابة كان لها شأن في الحياة العربية في الجاهلية وفي الإسلام. ففي المناسبات مثل عقد زواج، لا بد للخاطب من خطبة يخطبها أمام العروس والحاضرين، يذكر فيها مناقب موكا " ومناقب الأسرة التي رغب العروس في مصاهرتها ولعلها هي التي حملت الناس على نعت هذه المناسبة ب "الخطبة" و "بخطبة العروس"، حتى قيل: "جاء يخطبُِ فلانة لفلان"، وان فرق العلماء بين "الخُطبة" التي هي الموعظة والكلام، وبين "الخِطبة" التي هي طلب المرأة، بالحركة، فذكروا أن الأولى هي بضم الخاء والثانية بكسرها.
ونجد في كتب الأدب والأخبار نصوص خطب نسبت إلى خطباء جاهليين، يخرج المرء من قراءتها ومن قراءة ما ذكره أهل الأخبار عنها، بأنها نصوص دقيقة تمئل الأصل تمام التمثيل، أو كانها نسخ استنسخت عن نسخ أصلية كتبها اخطباء باًنفسهم، أودونها كتاب شهود كانوا حضوراً وقت القاء الخطب. ونحن وإِن تعوسنا على اعتبار هذه الخطب، وكأنها خطب أصيلة لا شك عندنا في أصالتها ولا شبهة. لكننا لا نستطيع اقناع أنفسنا ولا غيرنا بصحة رأينا هذا.واذا كنا قد قبلنا ما قيل لنا عن الشعر الجاهلي، فإننا لانتمكن من قبول مايذهب إليه الأدباء المقلدون من أن الخطب المنسوبة إلى خطباء الجاهلية، هي نصوص دقيقة صحيحة، أو إن أكثرها صحيح لاشك لأحد في صحته، و ذلك لاْسباب: منها ما ذكره أهل الأخبار أنفسهم من قولهم "وكان الخطيبُ من العرب إذا لرتجل خطبة ثم أعادها زاد فيها ونقص"، ثم ما نجده من اختلاف في رواية خطبة "قس بن ساعدة"، ومنهم أناس حضروا خطابه، فكيف نصدق صحة نصوص خطب لأناس جاهليين تبلغ عدة صفحات وكيف يصدق انسان بصحة ما ينسب إلى الجاهلييٍن من خطب وأقوال، وهو يعلم إن خطبة "حجة الوداع"، قد اختلف الرواة في رواية نصها اختلافاً كييراً، واذا كانوا قد اختلفوا في ضبط نص خطبة تعد من أهم خطب الرسول، لما جهاء فيها من بيان واحكام، وكلام الرسول أفضل كلام المسلم، فهل يعقل اخذ موضوع صحة نصوص خطب الجاهليين، على انه كلام صحيح بالنص ولطرف والمعنى ! واذا كان المسلمون قد جوزوا رواية حديث رسول الله بالمعنى، لصعوبة الرواية بالحرف والكلم والنص، فهل يعقل ضبط الناس لخطب للجاهليين، ضبطاً تاماً كاملاً بالحرف والمعنى،مع إن كلام أهل الجاهلية لا يقاس بكلام الرسول في نظر المسلمين من دون شك.
والأمر بالنسبة للشعر الجاهلي من حيث الصنعة والافتعال أهون أمراً في نظري من موضوع الخطب الجاهلية، فالشعر كلام موزون مقفى وهو عير طويل، يمكن حفظه بسهولة، ويمكن خزنه في الذهن أمداً طويلاً، أما النثر، فليس من السهل حفظه حرفياً؛ واذا حفظ، فلا يمكن للذاكرة مهما كانت قوية أن تحافظ على صفائه إلى أجل طويل، لا سيما إذا كانت الخطب طويلة، لا تعاد قراءتها إلا في المناسبات. وللسبب المذكور ولخوف المسلمين من التقول على الرسول بما لم يقله من حروف وألفاظ وجمل، جوءزوا رواية حديثه بالمعنى، لصعوبة حفظ النص، فهل تعد خطب الجاهليين أكثر أهمية من حديث الرسول، حتى نقول انها نصوص مضبوطة صحيحة، لاغبار على صحتها، ولا شك من نصها !
وطابع الخطب، السجع وقصر الجمل والإكثار من لحكم والأمثال، والتفصيل والإزدواج. ويرد غالب السجع في كلام الكهان لذلك وسم بهم، فقيل "سجع الكهان". والسجع في كلام العرب أن يأتلف أواخر الكلم على نسق كما تاًتلف القوافي، وأن يكون في الكلام فواصل كفواصل الشعر من غير وزن. وذكر ان الرسول قال لأحدهم وكان يتكلم سجعاً: أسجع كسجع الكهان ! وفي روايهّ إياكم وسجع الكهان، وفي الحديث أنه نهى عن السجع في الدعاء. وإنما كره السجع في الكلام لمشاكلته كلام الكهنة. قال "الجاحظ": "وكان الذي كرّه الأسجاع بعينها وإِن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، ان كهان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون اليهم، وكانوا يدعون الكهانة وأن مع كل واحد منهم رئيأَ من للجنً، مثل حازي جُهينة، ومثل شق وسطيح، وعزى سلمة وأشباههم، كانوا يتكهتون ويحكمون بالأسجاع كقوله: والأرض والسماء، والعقاب الصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفر المجدُ بني العشراء، للمجد والسناء". "فوقع النهي في ذلك الدهر لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبمًيتها فيهم وفي صدور كثير منهم، فلما زالت العِلة زال التحريم"، وقد كانت الخطباء تتكلم عند ا الخلفاء الراشدين، فيكون في ذلك الخطب أسجاع كثيرة، فلاينهونهم. واتبع الخطباء في الإسلام وبعض الكتاب اسلوب السجع في خطبهم وفي كتبهم، ولا زال السجع محبوباً عند كثير من الناس، ولهذا فهم يكتبون به.وأغلب الخطباء هم سادات قبائل واشراف من أهل القرى ومن أصحاب المكانة والجاه والكهنة والحكام. ومنازلههم تحتم عليهم الخطابة في المناسبات، لأنهم ألسنة قومهم، فللكلام أثر في نفوس العرب، يثير الحرب ويهدىء الأعصاب ويعقد السلم، ويفض المشكل، فصار من ثم للخطيب أثر كبير في الجاهلية. وكانت القبائل تفتخر بكثرة ما عندها من خطباء. وذكز "الجاحظ" إن رجلاً من حمير قام في مجلس لمعاوية اجتمع فيه الخطباء، فقال: إنا لا نطيق أفواه الكمال، عليهم المقال، وعلينا الفعال. ومعناه: إنا لا نستطيع الكلام كما يفعل غيرنا، ولذلك فأنا لا أريد أن اتسابق معهم، ثم اننا معشر عمل لاقول و "الكمال، بمعنى الجمال، جمع جمل، نطق بها بالكاف على لغة أهل اليمن القدبمة، لأن لسان حمير ينطق الجيم كافاً مفخمة.
ويلاحظ إن اكثر الذي ذكره أهل الأخبار من كلام الخطباء، هو وصايا.رْعم أهل الأخبار أن أولئك الخطباء أوصوا بها أبناءهم، و ذلك حين تقدمت بهم السن، وحين شعروا بدنو أجلهم. وهي يمثل خلاصة تجارب الموصى ومجمل ما حصل عليه من اختبارات في هذه الحياة. وهي على الجملة حكم، وآراء في الدنيا، ومواعظ، لا تخطر إلا على بال رجل سئم من الحياة ويئس منها، أو من زاهد متصوف متدين يؤمن بإله وبحساب وكتاب، وجد إن الحياة مدبرة، وانها زائلة فانية، لا تدوم لأحد، لذلك يريد أن يوصي أبناءه بما وجده فيها وخبره ورآه.
ولم يهمل أهل الأخبار ذكر أهل العي والبلادة، وهم على قلتهم وضآلة عددهم مجتمع خاص قائم بذاته، فأشاروا إلى نوادرهم وبعض قصصهم، وجعلوا رأسهم وحامل لوائهم في الجاهلية شخصاً ضربوا به المثل في العيّ، دعوه "باقلا" وجعلوه من قيس بن ثعلبة. وقالوا: إن من حماقته وعيه انه اشترى عنزاً من الظباء باًحد عشر درهماً، فقيل: بكم اشتريتها ? فأطلق كفيه ومد اصابعه واخر ج لسانه، أي يعده بلسانه واصابعه، فنفرت العنز، فعُير بذلك وفيه يقول الشاعر: يلومون في حمقه باقلا كاًن الحماقة لم تخلق
و لابد لنا وقد تحدثنا عن لغات العرب وعن العربية الفصحى من التحدث عن "الإعراب" لما له من صلة بها. فأقول الإعراب في تعريف علماء اللغة: الإبانة والافصاح عن الشئ. يقال للعربي: أعرب لي أي بين لي كلامك. وأعرب الكلام وأعرب به بينّه. روي عن النبي أنه قال: "الثيب تعرب عن نفسها"، وإنما سُمي الإعراب إعراباً لتبيينه و إيضاحه. ومن هنا يقال للرجل الذي أفصح بالكلام: أعرب. ويقال أعرب الأعجمي إعراباً، أي أفصح وأبان. وعَرّبه: علَّمه العربية. "وفي حديث الحسن أنه قال له البَتيُّ: ما تقول في رجل رعُفَ في الصلاة ? فقال الحسن: إن هذا يُعرّب الناس، وهو يقول رِعُفَ، أي يعلمهم العربية، إنما هو رَعُفَ". وتعرب واستعرب أفصح، قال الشاعر: ماذا لقينا من المُستعربين ومن قياسِ نحوِهِمُ هذا الذي ابتدعوا
وعرف الإعراب، بأنه أن لا تلحن في الكلام. يقال أعرب كلامه إذا لم يلحن في الإعراب. فربطوا بين الإعراب واللحن. وذكروا أيضاً "أن الإعراب الذي هو النحو، انما هو الإبانة عن المعاني والألفاظ"، "وانما سمي الإعراب إعراباً، لتبيينه وإيضاحه"، "وعرب منطقه أي هذبه من اللحن". وروي عن "أبي هريرة" قوله: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه"، والمراد بالغريب أن تكون اللفظة حسنة مستغربة في التأويل، لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس. وقد عدّوا من ذلك في القرآن كله سبعمائة لفظة أو تزيد قليلاً.
ورد في تأريخ "الطبري" ان رجلاً من العباديين مرّ بجمع من المسلمين أصابوا جراباً من "كافور" فحسبوه ملحاً، فأخذوا يلقون منه في طعامهم، فقال لهم: "يا معشر المعربين، لا تفسدوا طعامكم، فإن ملح هذه الأرض لا خير فيه"، فاستعمل المعربين في معنى العرب، ولعل العباديين، وهم نصارى الحيرة كانوا يطلقون على العرب الخلص معربين، لوضوح لسانهم بالنسبة لغيرهم ممن كان لا يعرب على طريقة العرب الخلص من أهل البوادي.
وقد ذهب "ابن فارس" إلى وجود "الإعراب" عند العرب العاربة، إذ يقول: "وزعم قومُ أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وانهم لم يعرفوا نحواً و لا إعراباً و لا نصباً و لا همزاً". وقد رد على من أنكر وجود الإعراب عند العرب قبل الإسلام، وأورد حديثاً في ذلك، إذ قال: "وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، انه قال: اعربوا القرآن". وقد ورد ان "عمر بن الخطاب"، وجه كتاباً إلى "أبي موسى" الأشعري، عامله على البصرة فيه: "أما بعد، فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن، فإنه عربي، وتمعددوا فإنكم معديون"، ووجه إليه كتاباً آخر فيه "أما بعد، فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفقهوا في العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب". غير ان العلماء من فسّر الإعراب في القرآن بأن المراد به معرفة اللحن.
وعرف الإعراب، بأنه: "الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يعرف الخبر الذي هو أصل الكلام، ولولاه ما ميّز فاعل من مفعول، ولا مضاف من منعوت، و لا تعجب من استفهام، و لا صدر من مصدر، و لا نعت من تأكيد. وذكر بعض أصحابنا أن الإعراب يختص بالإخبار. وقد يكون الإعراب في غير الخبر أيضاً، لأنا نقول: أزيدُ عندك ? وأزيداً ضربت ? فقد عمل الإعراب وليس هو من باب الخبر"، فبالإعراب تميز المعاني ويوقف على أغرض المتكلمين. وأنواع الإعراب رفع، ونصب، وجر، وجزم، فالإعراب عبارة عن الحركات. وقد جعل الإعراب من العلوم الجليلة التي اختصت بها العرب. والإعراب في الواقع، هو التعرب، أي التكلم بالعربية وفق طريقة العرب الخلص في مراعاة أواخر الكلم، ومراعاة التصرف الإعرابي.
والإعراب في نظري، أن يتكلم الإنسان بطريقة العرب في كلامهم، وذلك بأن يبين وفقاً لقواعد لسانهم، وقد عرفنا ورود لفظة "عرب"و "عربية "في النصوص الآشورية واليونانية والسريانية، فالإعراب إذن من هذا الأصل، أي من العربية، ثم اطلق على النطق وفقاً لأساليب العرب في كلامهم ووفقاً لقواعد لسانهم.
وللوقوف على معنى: "العربية"، يجب الرجوع إلى ما ورد عنها في الأخبار. فقد ورد أن الرسول "دخل المسجد فرأى جمعاً من الناس على رجلٍ، فقال: ما هذا ? قالوا: يا رسول الله، رجل علاّمة، قال: وما العلاّمة ? قالوا: أعلم الناس بأنساب العرب، وأعلم الناس بعربية، وأعلم الناس بشعر، وأعلم الناس بما اختلف فيه العرب، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر". وهو خبر يرجع سنده إلى "أبي هريرة".
ووردت اللفظة في روايات أخرى يرجع الرواة زمانها إلى أيام الخليفة "عمر بن الخطاب". فقد روي عن "عثمان المهرّي"، انه قال: "أتانا كتاب عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، ونحن بأذربيجان يأمرنا بأشياء، ويذكر فيها: تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المرؤة". "وقد روي أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ: إن الله برئً من المشركين ورسوله، بجرّ رسوله، فتوهم عطفه على المشركين. فقال: أو برئ الله من رسوله ? فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأمر أن لا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية". وروي أن الخليفة المذكور، كتب إلى "أبي موسى الأشعري"، يوصيه، فكان مما قاله له: "خذ الناس بالعربية، فإنه يزيد في العقل ويثبت المروءة". ونسبت إلى "عمر"رسائل أخرى، ذكر انه وجهها إلى عامله المذكور فيها: "أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، واعربوا القرآن فإنه عربي وتمعددوا فإنكم معديون"، و "أما بعد: فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"، أو انه قال: "تفقهوا في الدين، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وتعلموا العربية". وفسّر "الحسن"العربية، بأنها التنقيط، أي أن ينقط المصحف بالنحو، وذكر ان النبي قال: "عليكم بتعلم العربية، فإنها تدل على المرؤة وتزيد في المودة. وروي أن عمر كتب: "أما بعد: فإني آمركم بما أمركم به القرآن، وأنهاكم عما نهاكم عنه محمد، وآمر باتباع الفقه والسنة والتفهم في العربية"، و "مُر من قبلك بتعلم العربية، فإنها تدل على صواب الكلام، ومرهم برواية الشعر، فإنه يدل على معالم الأخلاق".
وورد أن "عبد الله بن مسعود "كان يتعاطى العربية والشعر، وقد كان يسأل في ذلك "زر بن حُبيش"، وكان من أعراب الناس. "قال عاصم: كان من أعرب الناس. وكان ابن مسعود يساأله عن العربية". وورد: "كان بعض اليهود قد علم كتاب بالعربية، وكان تعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول". وورد أن أهل الحيرة كانوا يتعلمون "العربية" في الكتاتيب، وان لهم ديواناً يكتب بالعربية، كما كان للفرس ديوان يدون الرسائل إلى العرب بالعربية، وأن أهل الأنبار كانوا يكتبون بالعربية ويتعلمونها.
وبعد، فما هي تلك العربية التي كان "العلامة ? "المزعوم يعلمها في المسجد وكان من أعلم الناس بها ? وما هي تلك العربية التي كان الخليفة يوصي حكامه وأصحابه بأخذ الناس بها ? أو العربية التي علمها اليهود بيثرب ? عربية بمعنى الإبانة والافصاح وتحريك الفم تحريكاً كفيلاً بإخراج الحروف من مخارجها إخراجاً واضحاً ? أم عربية أخرى ? أم عربية الكتابة. أي تقليم الخط، أم بالمعنى الذي دفع "أبا الأسود" على وضع العلأمات لضبط الحركات ولصيانة الألسنة من الوقوع في اللحن. ولو سألتني رأيي، لقلت لك حالاً: أنها العربية الثانية. العربية الكفيلة بضبط الألسنة وتعليمها كيفية النطق الصحيح وفقاً لقواعد العربية، أي الإعراب وتفسير معاني الألفاظ، أي اللغة، وأوضح دليل على ما أقوله، ما جاء في الرواية المتقدمة من أن "عمر بن الخطاب "لما سمع خطأ الأعرابي الفاحش في قراءة الآية أمر "أن لا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية"، ومن وصيته بأخذ الناس بالعربية، ومن قوله أيضاً: "تعلموا الفرائض والسنن واللَحٌن كما تعلمون القرآن"، و "تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه، يريد تعلموا لغة العرب في القرآن"، أو: "تعلموا اللحن والفرائض فإنه من دينكم". فلم يكن خطأ "الإعرابي" هو خطأ في كيفية اخراج الحروف من مخارجها، و لا في كيفية الإفصاح وإبانة الكلم، وإنما في جره رسوله، وتوهمه عطفها على المشركين، مما أخرج الآية إلى عكس ما أراد الله منها. أي غلطه في اللغة، ولهذا فزع الخليفة فحث الناس على تعلم العربية، لتكون دليلاً لمن يتعلمها وهادياً له في صون لسانه من الوقوع في الخطأ، وفي هذا الحث دلالة على وجود علم سابق عند العرب بكيفية حفظ الألسنة من الوقوع في الخطأ ومجانبة القواعد العامة. ويعود هذا العلم إلى ما قبل الإسلام.
أضف إلى ذلك ما ذكرته سابقاً من قول عمر: "أما بعد: فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب". فإذا صح هذا الخبر دل على وجود الإعراب في زمن عمر، وعلى ان المراد من الإعراب الذي كلّف "أبا الأسود" أن تعلم أهل البصرة به، هو النحو، أي قواعد صيانة اللسان من الوقوع في الخطأ في الكلام.
ولو تساهلنا فأخذنا "العربية "الواردة في قول "عمر" وغيره بالمعنى اللغوي الظاهر من اللفظة، وهو الإفصاح والإبانة وإخراج الكلم حسب أصول النطق عند العرب، فإن هذا المحمل يحملنا على الذهاب إلى وجود علم سابق، كان الناس يراعونه ويسيرون بمقتضى اعتباراته وقواعده في كيفية النطق بالكلم، ويسمونه: العربية.
ويتبين مما ذكره أهل الأخبار من أن "أبا الأسود" "كان أول من وضع العربية"، أن مرادهم من العربية المذكورة هذه العلأمات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون، تلك العلأمات التي استعملها في المصحف، وأن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعدُ وسمّوا كلامهم نحواً سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود. وبهذا المعنى نستطيع فهم ما ورد في الحديث والأخبار من وجوب الإعراب في القرآن. أي إظهار حركات الكلم عند القراءة. فالعربية، تعنى النحو. "ولما وضع أبو الأسود النحو وأطلق عليه لفظ العربية ..."، كان يقصد منه صيانة اللسان من الخطأ، والنطق بصحة. فقد ورد ان الرسول قال: اعربوا القرآن، أو اعربوا القرآن فإنه عربي، وأن "عمر بن الخطاب: "قال: تعلموا إعراب القرآن كما تتعلمون حفظه"، وروى انه قال: "تعلموا النحو كما تعلمون السنن والفرائض".
وبهذا المعنى وردت "العربية" في حديثهم عن الشاعر "عدي بن زيد " العبادي، فقد ذكروا انه تعلم "العربية" في كتاب بالحيرة حتى غدا من أكتب الناس بها، فلما حذق ومهر فنه بالعربية، أرسل إلى كتّاب الفارسية، فتعلم مع أولاد المرازبة. وذكروا انه "قرأ كتب العرب والفرس"، إذ لا يعقل أن يكون مرادهم تعلم حروف الهجاء وحدها، أو الخط، أو مجرد معاني الألفاظ.
وقد تحدثت عن التنقيط عند أهل الكتاب في أثناء حديثي عن نشأة الخط العربي. ويظهر أن كتاب المصاحف، لم يكونوا على أتفاق في موضوع العواشر، أي تعشير القرآن، والتنقيط والخواتم، والفواتح، والألفاظ المفسرة في المصحف، بدليل ما ورد عنهم من اختلاف رأي في هذا الموضوع، فمنهم من كان يأمر بتجريد القرآن من كل ذلك ومنهم من جوّز، ومنهم من كره نقط القرآن بالنحو.
وقد اختلف العلماء في تفسير معنى جملة "يريد أن يعربه فيعجمه" الواردة في شعر ينسب لرؤبة ويقال للحطيئة، هو: الشعر صعب وطويل سلمـه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمـه
زلت به إلى الحضيض قدمه
وقوله: والشعر لا يسطيعه من يظلمه يريد أن يعربه فيعـجـمـه
فذهب بعضهم إلى أن مراد الشاعر أنه يأتي به أعجمياً، يعني يلحن فيه، وقيل يريد أن يبينه فيجعله مشكلاً لا بيان له، وقيل أزال عجمته بالنقط.
والذي أراه أن قول العلماء: "العجم النقط بالسواد مثل التاء عليها نقطتان، يقال: أعجمت الحرف والتعجيم مثله"، وقولهم: "معجم الخط هو الذي أعجمه كاتبه بالنقط، تقول: أعجمت الكتاب أعجمه إعجأما"، هو تعريف يجب أن يكون قد وضع بعد وضع الإعجام، أي التنقيط، فإذا كان الإعجام من وضع "أبي الأسود الدؤلي"، فيجب أن يكون ظهوره منذ أيامه فما بعد، أما إذا كان قبله فيجب أن يكون من مصطلحات الجاهليين.
ويذكر علماء اللغة أن "أعجم الكتاب خلاف أعربه، أي نقطه" فأزال الكاتب عجمة الكتاب بالنقط. ومعنى هذا أن النقط قد أزال الغشاوة عن الحروف المعجمة، أي المتشابهة في الشكل، بوضع النقط فوقها، فصارت حروفاً معربة واضحة. و لولا الإعجام لما استبان الكلام، ولوقع سوء الفهم واللبس في كثير من الألفاظ التي ترد فيها الحروف المعجمة، ففي الإعجام لبس ووقوع في خطأ، وفي اللحن مثل ذلك أيضاً، ولهذا أرى وجود صلة كبيرة بين اللحن، الذي هو الخطأ في الكلام، بسبب الجهل بالاعراب. وقد رأيت قول العلماء: "أعجم الكتاب خلاف أعربه"، أي وضحه وصححه بالنقط. فبين الاثنين ترابط في الأصل، فالاعجام خلاف الاعراب، واللحن خلاف الإعراب كذلك.
وقد صار النقط، أو وضع الحركات على الحروف لإرشاد القارئ إلى القراءة الفصيحة الصحيحة، ضرورة لازمة، بدونها قد يخطئ الإنسان فهم المعنى، وقد يقع في أخطاء جسيمة لو أخليت الكتابة من النقط والإعجام. وقد ضرب العلماء الأمثال على أخطاء وقع بها الناس بسبب طريقة الكتابة القديمة التي لم تكن تنقط الحروف و لا تعجمها، فكان القارئ يقع في أخطاء.
والإعراب بعد، لا يختص بالعربية وحدها، بل نجد آثاره في لغات سامية أخرى، وانما ظهر وعرف في عربيتنا، لأن اللغات الأخرى قد ماتت في الغالب، فلم يبق أحد من الناطقين بها، لنتبين كلامه، ولأن نصوصها غير مشكلة، وهي خالية من الحروف التي تدل على الشكل والحركات، لذلك لا نستطيع التحدث عن وجود الإعراب بها. ولكن بعض النصوص البابلية تشير إلى وجود الإعراب بها. واللاتينية مع أنها من اللغات الآرية فهي لغة معربة كذلك. ويخيل لي ان معظم العامة، ولتكون اللسان الرفيع الذي يخاطب الإنسان به أربابه، ثم خفت حدة الحاضر، تبسط لغتها وتختزل لغتها قواعدها وجمل كلامها ليتناسب الكلام مع عقلية السرعة التي أخذت تسيطر على الإنسان الحاضر.
وما قلته عن اللغات الأخرى من صعوبة التكلم عن إعرابها، بسبب عدم وجود نصوص مشكلة عندنا تشير إلى طرق اإعراب بها، ينطبق كذلك على اللغات العربية الجنوبية، وعلى اللغات الأخرى، مثل الصفوية، والثمودية واللحيانية، لعدم وجود الحركات بها أو العلأمات الدالة على الإعراب. وخلو هذه اللغات من العلأمات التي تقوّم الإعراب، هو بالنطق في اللسان، وهو ما لا يمكن استخراجه من الكتابة العربية الجنوبية، فاللسان هو الذي يشكل ويحرك الألفاظ وفق مقتضيات قواعد الألسنة: أما النبطية، وهي من اللهجات العربية الشمالية، ففيها ظواهر بالرزة تشير إلى انها كانت لغة معربة، وهي في نظري أقرب اللغات العربية الجاهلية إلى عربية القرآن الكريم، فالأسماء في النبطية، معروفة في عربيتنا قليلة في العربيات الأخرى، وهي قريبة من هذه العربية في أمور أخرى نحوية وصرفية.
اللحن
من معاني اللحن: اللغة. "روي أن القرآن نزل بلحن قريش، أي بلغتهم. وفي حديث عمر رضي الله عنه: تعلموا الفرائض والسنة واللحن، بالتحريك، أي اللغة"، ومنه قول "عمر": "تعلموا الفرائض والسنن واللحن، كما تَعلَّمون القرآن". ومن معانيه الخطأ في الكلام. "قال أبو عبيد في قول عمر رضي الله عنه: تعلّموا اللحن، أي الخطأ في الكلام لتحترزوا منه"، وورد: "وأما قول عمر رضي الله عنه: تعلّموا اللحن والفرائض، فهو بتسكين الحاء، وهو الخطأ في الكلام ... قال أبو عدنان: سألت الكلابيين عن قول عمر: تعلّموا اللحن في القرآن كما تعلمونه، فقالوا: كُتب هذا عن قوم ليس لهم لغو كلغونا، قلت: ما اللغو ? فقال: الفاسد من الكلام. وقال الكلابيون: اللحن: اللغة. فالمعنى في قول عمر: تعلموا اللحن فيه، يقول: تعلموا كيف لغة العرب فيه الذين نزل القرآن بلغتهم"، "وجاء في رواية تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه، يريد تعلموا لغة العرب بإعرابها"، ووردت اللفظة بمعان أخرى. وقد أجمل العلماء ما جاء فيها من معان بستة معان: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفطنة، والتعريض، والمعنى.
وقد ذكر أن الرسول لما أرسل "سعد بن معاذ"، وهو يومئذ سيد الأوس و "سعد بن عبادة"، وهو يومئذ سيد الخزرج إلى "كعب بن أسد"، وكان قد نقض عهده للرسول وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله، قال لهما: "انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقاً فالحنوا إليّ لحناً أعرفه و لا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس"، فلما أتيناهم وجداهم على أخبث ما بلغهما عنهم، نالوا من رسول الله، "وقالوا: من رسول الله ! لا عهد بيننا وبين محمد و لا عقد"، فلما عادا إلى رسول الله قالا: "عضل والقارة. أي كغدر عضل والقارة"، فاللحن هنا بمعنى الإيماءة والاشارة والرمز، فاللحن هنا أن تريد الشئ فتوري عنه.
والذي أريده من اللحن، الخطأ في الكلام، والزيغ عن الإعراب، وهو معنى لا نستطيع فهمه من النصوص الجاهلية، لخلو تلك النصوص من الكركات، ومن الإشارة إلى قواعد لغاتها. ولذلك فلا مناص لنا لفهمه إلا بالرجوع إلى الموارد الإسلامية. وهي تذكر أن اللحن بهذا المعنى، لم يظهر إلا في الإسلام، ظهر بسبب دخول الأعاجم في دين الله، واختلاطهم بالعرب، وأخذهم لغتهم واتصال العرب بهم، ففسدت الألسنة، وظهر اللحن بين الموالي وبين العرب. وقد عيب ظهوره في العربي، حتى غلب على ألسنة الناس. وهم يذكرون ان العربي القح الأصيل، لم يكن يخطئ في كلامه، لأنه يتكلم عن طبع وسجية، ومن كان هذا شأنه، لا يقع اللحن في كلامه، أو لأنهم كانوا يتأملون مواقع الكلام ويعطونه في كل موقع حقه وحصته من الإعراب عن ميزة وعلى بصيرة.
يقول العلماء: وكان أول لحن ظهر بين العرب على عهد النبي، فقد رووا أن الرسول سمع رجلاً يقرأ فلحن، فقال: ارشدوا أخاكم، أو ارشدوا أخاكم فإنه قد ضل، ثم فشا وانتشر في مواضع الإختلاط خاصة، حيث اختلط العجم بالعرب، كالعراق و بلاد الشام ومصر، حتى دخل أعمال الحكومة، فأخطأ الكتاب في النحو، وأفحشوا في الإعراب، فكتب كاتب من كتاب "أبي موسى" الأشعري كتاباً فيه، "من أبو موسى ..."أو ما شابه ذلك من خطأ في القول، فكتب "عمر" إلى عامله: "سلام عليك. أما بعد، فاضرب كاتبك سوطاً واحداً، وأخر عطاءه سنة": أو: "إذا أتاك كتابي هذا، فاجلده سوطاً واعزله عن عملك"، أو "قنع كاتبك سوطاً"، أو: "ان كاتبك الذي كتب إليّ لحن، فاضربه سوطاً"، وذكر "الجاحظ"، أن "الحصين بن أبي الحرّ"كتب إلى "عُمر" كتاباً "فلحن في حرف منه، فكتب إليه عمر: أن قنع كاتبك سوطاً".
وسبب ذلك انهم كانوا يرون ان اللحن عيب مشين. قال "عبد الملك بن مروان: اللحن هجنة على الشريف، والعجب آفة الرأي. وكان يقال: اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدري في الوجه".
و لا يمكن تفسير قول القائل ان "اللحن بمعنى الخطأ محدث، لم يكن في العرب العاربة الذين تكلموا بطباعهم السليمة"، الا أن يكون مراده أن الجاهليين كانوا يتكلمون بطباعهم السليمة بلغاتهم، كل يتكلم بلغته، ووفق سجيته ولسانه الذي أخذه من بيته، فهو ينطق وفق ما سمع وحفظ، فلا يلحن في الكلام بلسانه الذي أخذه من أهله، وهو رأي أقول أنه على الجملة مقبول معقول. أما اذ أريد به، أن العرب كانوا جميعاً يتكلمون بلسان واحد، فلا يخطئ أحدهم فيه و لا يلحن، فإن ذلك يتعارض مع قولهم بوجود اللغات، وبأن تلك اللغات كانت تتباين في أمور كثيرة في جملتها قواعد في النحو والإعراب، كما في "ذي" الطائية، وفي اعراب المثنى بالألف مطلقاً، رفعاً ونصباً وجرّاً وذلك في لغة "بلحرث"و "خثعم" و "كنانة"، فيقولون: جاء الرجلان، و رأيت الرجلان، و مررت بالرجلان، وكما في "كم" الخبرية، حيث ينصب "بنو تميم" تمييز "كم"، و لغة غيرهم وجوب جره و جواز إفراده و جمعه، و كما في إعراب "الذين" من أسماء الموصول إعراب جمع المذكر السالم في لغة "هذيل"، أو "عقيل" و في قول بعضهم هذه النخيل و قول بعض آخر هذا النخيل إلى غير ذلك من مواطن خلاف و تباين بحث فيها العلماء، لا مجال للبحث فيها في هذا المكان ، و وجدود هذا الاختلاف، هو دليل في حد ذاتهعلى خروج القبائل على قواعد اللغة، و الخروج على القواعد هو الحن.
لقد أقر علماء العربية بوجود خلاف بين القبائل المتكلمة بلهجات عربية شمالية، وقد أشرت إلى مواضع ذكروها في هذا الباب، و كشف علماء النحو عن خلاف في قواعد النحو، في مثل اختلاف القبائل في التذكير و التأنيث، كما في مثل الطريق و السوق و السبيل و التمر، فهي ألفاظ مؤنثة عند اهل الحجاز، وهي مذكرة عند قبائل أخرى، و كشفوا عن أمور أخرى إن تكلم المتكلم أو كتب بها عدّ صدور ذلك لحنا منه، فهل يعدّ العربي المتكلم بلهجة من هذه اللهجات المخالفة مخالفاً لقواعد العربية، أي لحّاناً، كما نعد الاعجمي الذي يقع في الخطأ نفسه، أم نعدّه فصيحاً، عربي اللسان و السليقة? أما الاعجمي الذي يقع في الخطأ ذاته فنعده لحّاناً لحنة! لقد ذكروا ان الرسول "حين جاءته وفود العرب، فكان يحاطبهم جميعاً على اختلاف شعوبهم و قبائلهم و تباين بطونهم و أفخاذهم، و على ما في لغاتهم من اختلاف الاوضاع و تفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين إن أصحابه رضوان الله عليهم و من يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوجَّه اليهم الخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة، حتى قال له علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه و سمعه يخاطب بني نهدّ: يا رسول الله، نحن بنوا أب واحد و نراك تككلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره? فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات"، فهل يعقل بعد، أن يقال إن العربي كان لا يلحن و لا يخطئ في كلامه و لا يزيغ عن العربية المبينة، و العرب هم على هم عليه من اختلاف في اللجات، الذي يدفع حتماً على وقوع اللحن، لو تكلموا بالعربية القرآنية، أي هذه العربية التي يسميها علماء اللغة لغة قريش، و التي هي اللسان العربي المبين على تسمية القرآن لها.
ثم كيف نفسر حديث: "أرشدوا أخاكم"، أو "أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل" مع قولهم ان العربي لا يخطئ في كلامه ولا يلحن، لآنه يتكلم عن طبع و سليقة، و لم يكن هذا الذي لحن أمام الرسول، أعجمياً، و إنما كان عربيا، غأذا كان الامر كذلك، فكيف وقع اللحن إذن? ثم كيف نفسر خبر سماع الأمام "علي" أعرابياً، وهو يلحن في القرآن و يقرأ: )لا يأكله إلا الخاطئين"، أو حبر ذلك الأعرابي الذي قرأ )إن الله بريء من المشركين و رسولِه( بالجر، لأن رجلاً من أهل المدينة أقرأه إياه على هذا النحو، فبلغ ذلك "عمر"، فأمر ألاّ يقرأ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو، و الأعراب هم لبّ العرب، و صفوتهم في الكلام، فكيف وقع هذا الاعرابي في اللحن ياترى? ثم كيف نفسر قول من زعم أن في القرآن آيات فيها لحن، مثل: )إن هذان لساحران(، )و المقيمين الصلاة و المؤتون الزكاة(، )وان الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئون(، و مواضع أخرى تحتاج إلى تأويل ليستقيم إعرابها، أو إلى إصلاح أملائها لتنجو من اللحن.
ثم كيف اختلف قراء القرآن في نصب "الطير" في الآية: )يا جبال أوبي معه و الطير( أو رفعها، و أختلافهم في ضم الفاء أو فتحها في الآية: )لقد جائكم رسول من أنفسكم(، و اختلافهم في بناء الفعل للمجهول أو للمعلوم في الآية: )الم. غلبت الروم(، و غير ذلك من مواضع اختلاف، فيها القرّاء، مع كونهم من العرب الأقحاح.
ثم كيف نفسر اضطراب العلماء و ذهابهم مذهاب في قراءة الآية: )قالوا: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم و يذهبا بطريقتكم المثلى(، و تأويلهم القراءة جملة تأويلات، لأن القاعدة النحوية تقول: "ان هذين" بينما القراءة: "إن هذين"، فعللوها جملة تعليلات، منها أن هذه القراءة نزلت بلغة "بني الحارث بن كعب" ومن جاورهم يجعلون الاثنين، أي المثنى في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف، كما في قول بعض "بني الحارث بن كعب": فأطرق اطراق الشجاع و لو يرى مساغاً لناباه الشجاع لصـمـمـا
و قيل إن هذه القراءة، هي قراءة بلحارث بن كعب، وخثعم، وزبيد ومن وليهم من اليمن. ونسبها "الزجاج "إلى كنانة، وابن جني إلى بعض بني ربيعة.
ثم ما ورد في خبر آخر عن سعيد بن جبير، من قوله: "في القرآن أربعة أحرف لحن: الصابئون، والمقيمين، و فأصدّقَ وأكن من الصالحين، وإن هذان لساحران" إلى غير ذلك من أخبار. ثم ما ورد من قول "عثمان": "إن في القرآن لحناً، وستقيمه العرب بألسنتها"، وأمثال ذلك، و ما ذكر من أن "أبا بكر"، كان يستحب أن يُسقط القارئ الكلمة من قراءته على أن يلحن فيها، أفلا يدل هذا الخبر، على أن اللحن كان معروفاً ومتفشياً في عهد "أبي بكر"، و ما روي في رواية تقول: "لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان رضي الله عنه، فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها، أو قال ستعربها بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف و المملي من هذيل لم يوجد فيه هذه"، ثم ما ورد من وقوع اللحن من عرب أقحاح، ومنهم من ولى الحكم وادارة أمور المسلمين، ومنهم أبنة "أبي الأسود الدؤلي" التي لحنت أمامه، فعمل باب التعجب على ما يزعمه الرواة.
وتوحي الأحاديث الواردة في الحث على إعراب القرآن، والكتب التي ألفها العلماء في إعرابه، أن من العرب: من أهل مدر وأهل وبر، من كان يقرأ القرآن بغير إعراب، أما لأن لغته لم تكن معربة، وأما لأن إعرابها كان لا يتجانس مع إعراب القرآن، و سببه أن الجاهليين لم يكونوا يتقيدون جميعاً بقواعد الإعراب، فمنهم من كان يتحلل منه، ومنهم من يعمل به وفق قواعد لغته ولهجته، و دليل ذلك قراءة الصحابة القرآن بألسنتهم، مما سبب في ظهور مشكلة القراءات، و هذا ما أخاف الصحابة، وجعلها تخشى من احتمال ظهور قرائين مختلفة، مما حمل "عثمان" على توحيد لغة القرآن، وتدوين كتاب الله حسب التوصيات التي أعطاها إلى اللجنة التي كلفها بتدوينه.
أضف إلى ذلك ما نجده في الكتب من إجازة اصلاح اللحن والخطأ في الحديث. من مثل ما نسب إلى الأوزاعي من قوله: "لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث"، وقوله: "اعربوا الحديث فإن القوم كانوا عرباً"، ومثل ما نسب إلى "يحيى بن معن" من قوله: "لا بأس أن يقوم الرجل حديثه على العربية" و إلى "أبن أبي رباح" حين سئل عن الرجل يحدث بالحديث فيلحن، هل يحدث به كما سمع منه أم يعرب، فقال لسائله: لا، بل اعربه. و ما ورد في أقوال العلماء في جواز أو عدم جواز اصلاح اللحن في الحديث، واختلافهم فيه، هو دليل على أن من العرب من كان يقع في اللحن أيضاً، وان اللحن لم يقع من الأعاجم وحدهم.
ثم ان من غير المعقول ألا يقع اللحن من أهل اليمن ومن بقية عرب العربية الجنوبية، الذين كانوا يتكلمون بألسنة عربية جنوبية، رأينا أنها تختلف عن عربيتنا في مفردات الألفاظ وفي قواعد النحو والصرف.
إن كل من صدر منهم اللحن، ممن أشرت اليهم و ممن لم أشر، كانوا من العرب، منهم من كان من أهل المدر، ومنهم من كان من أهل الوبر، بهم بدأ اللحن، أما لحن العجم، فقد بدأ بعد اللحن الذي ظهر في أيام الرسول، و في أيام "عمر "بدأ بالطبع بالفتوح، فلحن العرب اذن أقدم عهداً من لحن العجم، يؤيد ذلك ما يرويه العلماء من وقوع الشعراء الجاهليين في أخطاء نحوية، هي لحن و خروج على القواعد في نظرهم. و الشعراء الجاهليون عرب، ومن لسانهم استمد علماء النحو نحوهم وصرفهم. فقد زعموا أن "النابغة"أخطأ في قوله: "في أنيابها السم ناقع"، أخطأ و لحن لحناً شنيعاً، و كان عليه أن يقول: "في أنيابها السم ناقعاً"، أخطأ و لحن على زعمهم، مع ان كلامه حجة عندهم، و استشهدوا به في قواعد النحو والصرف.
وأخذ "حفص بن أبي بردة"، وهو من أهل الكوفة ومن أصحاب "حماد" الراوية على "المرقش"، انه كان يلحن، زعم أنه لحن في شعره، وقد أشير إلى زعمه هذا في شعر هجاء هجوه به، هو: لقد كان في عينيك يا حفص شاغل وأنف كثيل العود عما تـتـبـع
تتبعت لحنناً في كـلام مـرقـش وخلقك مبنيُ على اللحن أجمـع
فعيناك إقواءُ وأنـفـك مُـكـفـأُ ووجهك إيطاءُ فأنت المـرقـع
وزعم علماء الشعر، أن "أمرأ القيس" حامل لواء الشعر، ومن جاء بعده من الشعراء، مثل "النابغة"، و "بشر بن أبي خازم"، و"الأعشى"، أقووا في شعرهم، والإقواء: هو اختلاف إعراب القوافي، وهو أن تختلف حركات الروي، فبعضه مرفوع وبعضه منصوب أو مجرور. ويكثر وروده في اجتماع الرفع مع الجر، وأما الإقواء بالنصب فقليل. وهو في نظرهم عيب. وزعموا أن بعضاً من شعراء الجاهلية أكفأوا في شعرهم. والإكفاء، المخالفة بين حركات الروي رفعاً ونصباً وجراً، أو المخالفة بين هجائها، أي القوافي، فلا يلزم حرفاً واحداً تقاربت مخارج الحروف أو تباعدت، ومثله أن يجعل بعضها ميماً وبعضها طاء، وقال بعضهم: الإكفاء في الشعر هو التعاقب بين الراء واللام والنون. وهو أحد عيوب القافية الستة التي هي: الإيطاء، والتضمين، والإقواء، والإصراف، والإكفاء، والسناد.
وقد روي أهل الأخبار قصة زعموا انها وقعت للنابغة، وكان لا يعرف شيئاً عن إقوائه بشعره، فلما وقعت له عرف به فعافه، ذكروا أن الناس خافوا تنبيه الشاعر إلى إقوائه، وبقي هو عليه، حتى دخل يثرب، فأرادوا إظهار عيبه له فأمروا قينة لهم أن تغنيه شعره، فغنته: أمن آل ميّة رائح أو مغتدي عجلان ذا زاد و غير مزود
زعم البوارح أن رحلتنا غدا وبذاك حدثنا الغراب الأسود
ففطن إليه ولم يعد إلى إقواء. "قال أبو عمرو بن العلاء: فحلان من الشعراء كانا يقويان، النابغة و بشر بن أبي خازم، فأما النابغة فدخل يثرب فغنى بشعره ففطن فلم يعد للإقواء، وأما بشر، فقال له أخوه سوادة: انك تقوي، قال: و ما الإقواء ? قال: قولك: ألم ترَ أنّ طول الدهر يُسلى و يُنسي مثل ما نسيت جذامُ
ثم قلت: و كانوا قومنا فبغوا علينا فسقناهم إلى البلد الشام
فلم يعد للإقواء".
ورويت قصة إقواء "بشر بن أبي خازم" بشكل آخر، فقد زعم ان أخاه "سوادة" قال له: إنك تقوي، قال: و ما الإقواء ? قال: قولك: ألم ترَ أنّ طول الدهر يُسلي وينسي مثل ما نسيت جُذامُ
ثم قلت: و كانوا قومنا فبغوا علينا فسقناهم إلى البلد الشام
فلم يعد للاقواء"، أو أن أخاه "سمير"، قال له: "أكفأت وأسأت. فقال: وما ذاك ?".
وقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن المصاحف لما كتبت "عرضت على عثمان، فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: لا تغيّروها، فإن العرب ستغيرها - أو ستعربها - بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد هذه الحروف"، وقد كان كل من اختارهم الخليفة لكتابه القرآن من خالص العرب، ولم يكن من بينهم من هو من المولدين أو الموالي، وقد كانوا من الفصحاء الألباء، فكيف وقع منهم اللحن إذن ?
بل زعموا أن "عمر" ضرب أولاده لما لحنوا، وأن "معاوية" كلم "عبيد الله ابن زياد"، فوجده كيساً عاقلاً على أنه يلحن فكتب إلى والده بذلك، وزعموا ان "الحجاج "كان يلحن، زعموا انه لحن في القرآن، فقرأ: )إنا من المجرمون منتقمون(، وزعموا انه لحن في آيات آخرى، والحجاج من ثقيف، ولم يكن أعجمياً، حتى يظهر اللحن منه، مع انهم جعلوه أحياناً من أفصح العرب، وممن لم يلحن في حياته في جدّ و لا هزل. قال "الأصمعي": "أربعة لم يلحنوا في جد و لا هزل: الشعبي، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وابن القرية. والحجاج أفصحهم"، وزعموا ان "الوليد بن عبد الملك"، وأخاه "محمد بن عبد الملك" كانا لحاّنين. ذكر ان "الوليد" خطب الناس يوم عيد، فقرأ في خطبته "يا ليتُها كانت القاضية، بضم التاء، فقال عمر بن عبد العزيز: عليكَ وأراحنا منك. ورووا قصصاً عن لحنه. وذكر أن "عبد الملك" قال: "أضر بالوليد حبنا له، فلم نوجهه إلى البادية "يقصد أنه كان يلحن بسبب عدم ارساله إلى الأعراب ليأخذ عنهم اللسان الفصيح. وقد كان أخوه محمد لحاناً كذلك، وذكر أنه لم يكن في ولد عبد الملك أفصح من هشام ومسلمة. قال "الجاحظ": "وكان الوليد بن عبد الملك لحنة، فدخل عليه أعرابي يوماً، فقال: أنصفني من ختني يأمير المؤمنين. فقال: ومن ختنك ? قال: رجل من الحي لا أعرف اسمه. فقال عمر بن عبد العزيز: ان أمير المؤمنين يقول لك: من ختنك ? فقال: هو ذا بالباب. فقال الوليد لعمر: ما هذا ? قال: النحو الذي كنتُ أخبرتك عنه. قال: لا جرم: فإني لا أصلي بالناس حتى أتعلمه". وذكر "الجاحظ "أمثلة على اللحن. وروي أن كتب "الوليد"كانت تخرج ملحونة. فسأل "اسحاق بن قبيصة "أحد موالي "الوليد" ما بال كتبكم تأتينا ملحونة وأنتم أهل الخلافة ? فأخبره المولى بقولي، فلإذا كتابُ قد ورد عليّ: أما بعدُ فقد أخبرني فلان بما قلت، و ما أحسبك تشك أن قريشاً أفصح من الأشعرين، والسلام".
وقد ورد في شعر "مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري: قوله: وحديثُ الذّه هـو مـمـا ينعت الناعتون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا- ناً وخير الحديث ما كان لحنا وقد ذكر أنه لم يرد اللحن في الإعراب الذي هو ضد الصواب، وإنما أراد الكتابة عن الشئ والتعريض بذكره، والعدول عن الافصاح عنه. قيل: تكلمت "هند بنت أسماء بن خارجة"، أخت الشاعر المذكور فلحنت، وهي عند الحجاج، فقال لها: أتلحنين وأنت شريفة في بيت قيس ?! فقالت: أما سمعت قول أخي مالك لامرأته الأنصارية ? قال: وما هو ? قالت: قال: منطق صائب وتلحـن أحـيا ناً وخير الحديث ما كان لحنا
فقال لها الحجاج: إنما عني أخوك اللحن في القول، إذا كنّي المحدث عما يريد، ولم يَعٌنِ اللحن في العربية، فأصلحي لسانك. غير أن منهم من رأى أن المراد بهذا اللحن، اللحن المخالف لصواب الاعراب.
وقد ذكر "السهيلي"، أن الجاحظ قد أخطأ حين قال في كتابه "البيان والتبيين"، ان الشاعر لم يقصد اللحن الذي هو الخطأ في الكلام وإنما أراد استملاح اللحن من بعض نسائه، وخطأه في هذا التأويل، قال: فلما حدث الجاحظ بحديث "الحجاج"، "قال: لو كان بلغني هذا قبل أُألف كتاب البيان، ما قلت في ذلك ما قلت ! فقال له: أفلا تغيره ? فقال: كيف وقد سارت به البغال الشهب، وانجد في البلاد وغار". و "قال السيرافي: ما عرفت طريق الصواب، والنحو قصد إلى الصواب".
وذكروا أن بعض شعراء الدولة الأموية كان يلحن، وممن وقع منه اللحن "الفرزدق". رووا أن "عبد الله بن يزيد الحضرمي" البصري، كان ينتقده ويتعقب لحنه، فهجاه الفرزدق، بقوله: فلو كان عبد الله مولى هجوته ولكن عبد الله مولى المواليا
فقال له الحضرمي: لحنت. ينبغي أن تقول مولى موالٍ.
"وقالوا: تربع ابن جؤية في اللحن، حين قرأ: هؤلاء بناتي هنّ أطهرَ لكم"، وجعلوه حالاً، يعني: أطهر. وليس هو كما قالوا ..."، و "تكلم معاوية بن صعصعة بن معاوية يوماً، فقال له صالح بن عبد الرحمن: لحنتَ. فقال له معاوية: أنا ألحن يا أبا الوليد، والله لنزل بها جبريلُ من الجنة".
وقد فشا اللحن وانتشر حتى بين العلماء، وبين علماء النحو واللغة أيضاً، حتى غلط بعضهم بعضاً، ونسب بعضهم اللحن إلى البعض الآخر، قال "ابن فارس": "وقد كان الناس قديماً يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أو يقرأونه اجتنابهم بعض الذنوب. أما الآن، فقد تجوزوا حتى إن المحدّث يحدث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبّها قالا: ما ندري ما الإعراب ! وانما نحن محدثون وفقهاء". ولما كثر اللحن في الحديث، جوزوا إعرابه. قال "الأوزاعي": "لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث"، وقال أيضاً: "أعربوا الحديث فإن القوم كانوا عرباً". وقال "النضر بن شميل": "كان هشيم لحاناً، فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة، يعني بالإعراب".
وبعد، فقد رأيت من روايات أهل الأخبار أنفسهم، أن اللحن لم يكن قاصراً على العجم، بل كان قد عرف بين العرب كذلك، وعلى هذا يجب ألا نلقي مسؤولية ظهوره على الأعاجم، بل على العرب أولاً، لأنهم هم الذين بدأوا باللحن، بدأوا به قبلهم بأمد طويل، لحنوا في الجاهلية، أي قبل دخول العجم في اإسلام. فنحن نظلم الأعاجم اذن، إن ألقينا على عاتقهم مسؤولية إشاعة اللحن بين العرب. ولكن هل يعقل وقوع اللحن من عرب كالجاهليين، ومن شعراء فحول، استمد علماء اللغة قواعد النحو والصرف من شعرهم مثل "النابغة "الشاعر المعظم، أو من غيره ? لقد سبق أن ذكر علماء اللغة أن العربي، لا يزال في كلامه وحاشا له أن يلحن أو يخطئ في لسانه، لأنه إذا تكلم عن سليقة وطبع، وقد حماه الله من الوقوع في زلل الكلام ! إذن فكيف نفسر ما ذكروه من وقوع النابغة في اللحن، ومن وجود الإقواء في شعره وفي شعر غيره، ومن ظهور اللحن في أيام الرسول ? هل نرجع ذلك إلى خطأ الرواة في رواية شعر النابغة وأمثاله، أو نرجع ذلك إلى التزوير، فنقول إن ذلك الشعر مفتعل، وإنه ليس من شعر النابغة، وإنما هو شعر منحول وضع عليه، ومن ثم وقع الخطأ. ولكن الذي نعرفه أن من كان ينحل العرب الشعر وينسبه للجاهليين، كان من أتقن الناس لشعر الجاهلية ومن أعرف الناس بالعربية، ومن البارعين الحاذقين بقواعدها، وأناس على هذا الطراز من الفهم والعلم، هل يعقل وقوع مثل هذا الغلط منهم ? أو هل نرجع ذلك إلى الخطأ في التدوين والاستنساخ، ولكن كيف غفل العلماء من النص على ذلك ? وجوابي أن القول بأن اللحن بمعنى الخطأ في الكلام، يستوجب وجود لغة فصيحة ذات قواعد نحوية وصرفية مقدّرة ومقننة وثابتة تعدّ اللغة الفصيحة العالية في نظر أصحابها، من يخالف قواعدها يعدّ لحاناً لا يحسن القول و لا الكلام. وهو قول لا يعارضه أحد بالنسبة إلى وجوده في الإسلام، بعد أن فرض الإسلام دين الله على المؤمنين به كتاباً سماوياً ولساناً عربياً مبيناً، تثبتت قواعده نحوه وصرفه في الإسلام. فمن سار عليها عدّ فصيحاً، ومن خالفها عد لحاناً عامياً. أما بالنسبة لأهل الجاهلية، فالقول بوجود اللحن عندهم، يقتضي التسليم بوجود لغة فصيحة عليا لديهم، لها قواعد مقررة، من تكلم وفقها عد فصيحاً، حسب درجة إعرابه وملكته في اللغة، ومن خالفها عد عامياً جلفاً. وقد أكد علماء اللغة، وجود هذه العربية الفصيحة، التي هي عندهم عربية قريش، عند ظهور الإسلام، وقالوا: إن بها كان نزول عربية القرآن، وبها نظم الشعر الجاهلي، وبها نثر الكلام الجاهلي المنثور. أما اللحن، فقد أنكروا وجوده، ولم يسلموا بوقوعه، وحجتهم ما ذكرته من أن العربي فصيح بطبعه، إذا تكلم تكلم عن سجية فيه وسليقة، لم يلحن و لم يخطئ في كلامه في الجاهلية، إلى أن كان الإسلام، فاختلط العرب بالأعاجم، ودخل الغرباء بين العرب، ففسد الطبع وظهر الخطأ في اللسان، وفشا اللحن.
وقد يعقل تصور وجود هذه العربية الفصحى، إذا افترضنا - مع المفترضين الأخباريين -ان تلم العربية، هي عربية أهل مكة ومن عاش حولهم، وانها كانت عربية قريش، وأن المتكلمين بها كانوا بشراً عصموا عن الخطأ في اللسان وجبلوا على التكلم بها على الفطرة، ولكننا لا نستطيع القول انها كانت عربية كل عرب جزيرة العرب، إذ رأينا العرب الجنوبيين، وقد كانوا يتكلمون بلغات أخرى، ووجدنا عرب أعالي الحجاز، ولهم ألسنة تباين عربية القرآن، ورأينا للقبائل لهجات، تختلف بدرجات عن هذه العربية. فكيف يتصور اذن اتفاق العرب كلهم على التكلم بلسان قريش، وبغير خطأ أو زلل في اللسان.
وفي نفي علماء اللغة وجود اللحن عند الجاهليين تعارض مع رواياتهم القائلة بوجود الإقواء والأكفاء في شعر بعض الشعراء الجاهليين، وبلحن "النابغة" في قوله: "في أنيابها السم ناقع"، وبلحن الأعرابي في حضرة الرسول، وبتياين لغات العرب، تبايناً تحدثت عنه في فصل "لغات العرب" وقد وقع في كثير من صميم خصائص اللغات، ومن بينها أمور تخص قواعد الإعراب، وفيه تعارض أيضاً مع القرارات الشهيرة والشاذة للقرآن، وبينها أمور تخص قواعد النحو والصرف والإعراب، وفيه تعارض مع ما ذكروه من أن "أطراف الجزيرة لم تكن خالصة العروبة في القديم، بل كان أهلها مغلوبين على أمرهم ؛ فلم يكن لهم من معنى اللغة إلا تعاور المنطق والاستبداد بالكلمات يتلقفونها ممن حولهم، لأن ملكات الوضع العربي فيهم غير صحيحة، وشروطه غير تامة، وليس كل عربي الجنس عربي اللسان، وإلا فما بال الحميريين ومن قبلهم من الأمم السالفة ?".
وكيف يعقل نفي اللحن عن العرب مع وجود اللغات، ووجود التعارض والإختلاف البين بين قواعد هذه اللهجات، هل يعقل أن يتكلم العربي الجنوبي، باللغة العربية الفصيحة من غير خطأ و لا لحن، ولسانه غير لساننا، وعربيته غير عربيتنا، وقواعده على خلاف قواعدنا، وإعرابه على خلاف إعرابنا، كما أثبت ذلك بالبرهان القاطع من الكتابات الجاهلية، وبأقوال علماء العربية أنفسهم، وفي مقدمتهم "أبو عمرو بن العلاء"، القائل: "ما لسان حمير بلساننا، و لا لغتهم بلغتنا". ثن اننا إذا أخذنا القراءات المتنوعة التي قرئ بها القرآن، والشواهد الشعرية الكثيرة التي أوردها علماء العربية والنحو على الشواذ، وما يذكره العلماء من خلاف في النحو، فإننا لا يمكن تفسير خروجها على القواعد إلا بأنها أثر من أثر بقايا اللهجات. وخروجها على القواعد، هو لحن. ومن خرج على القواعد عدّ لحاناً، مهما كان عصره أو جنسه، جاهلياً كان أو مسلماً، عربياً كان أم أعجمياً، لأن اللحن لا يختص بعصر أو جنس.
ان ما دعوه باللحن، وما أخذوا الأعاجم عليه، من عدم تمكنهم من النطق ببعض الحروف، أو من وقوعهم في أخطاء نحوية، نراه قد وقع للعرب الفصحاء في الجاهلية وفي الإسلام، فما كان ينطقه بعض العرب من اشمام الصاد صوت الزاي، أو من النطق بالجيم "كافاً" على اللهجة المصرية، يعدّ لحناً، إن صدر من أعجمي، أما ان صدر من عربي، فلا يقال لذلك لحناً، بل يقال انه لغة من لغات العرب. واذا تصورنا ان عربية الجاهليين، كانت عربية عالية واحدة، على نحو ما يراه أهل الأخبار وعلماء اللغة، وجب اعتبار هذه اللغات لغات عامية، المتكلم بها خارج على قواعد اللغة، فهو ممن يلحن ويخطئ سواء كان عربياً، أم أعجمياً، جاهلياً أم أسلامياً، فنحن نتكلم هنا عن اسلوب كلام، لا عن رسّ وأصل.
اننا حين نقول ان اللحن لم يكن معروفاً بين أهل الجاهلية، نكون قد حصنّاهم بالعصمة: بعصمة اللسان، ونكون قد جعلناهم بذلك شعباً مختاراً، فضل بعصمة لسانه على ألسنة سائر البشر، ولكن العلم لا يعرف عصمة و لا حصانة في لسان، وهو يرى ان اللحن لا بد وأن يقع عند أي شعب، أو قوم، أو قبيلة، حتى ان كانت القبيلة في سرة البادية، وفي معزل ناءٍ، لأن الطبيعة توجد من اختلاف قابليات أفراد القبيلة ومن اختلاف مستوى عقلياتهم وثقافاتهم وتباعد سكنهم بعضهم عن بعض، خروجاً على اللسان، فيظهر اللحن الشاذ، ويبرز النشاز في اللغة، مهما كان موطن هذه القبائل، في جزيرة العرب أو في أي موضع آخر من العالم، فاللحن، أي التبليل في الألسنة من الأمور الطبيعية، التي توجدها طبيعة البشر وطبيعة الاقليم، وأمور أخرة بحث فيها علماء اللغة و الاجتماع، و لا يمكن أن يكون العرب بمنجاة منها ! لقد تحير "السيوطي" وغيره في تفسير خبر ورد عن "سعيد بن جبير" من انه "كان يقرأ: والمقيمين الصلاة، ويقول: هو لحن من الكاتب". فقال: "وهذه الآثار مشكلة جداً، وكيف يظن بالصحابة أولاً انهم يلحنون في الكلام فضلاً عن القرآن، وهم الفصحاء اللدّ ! ثم كيف يظن بهم ثانياً في القرآن الذي تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنزل، وحفظوه، وضبطوه، وأتقنوه، ثم كيف يظن بهم ثالثاً اجتماعهم على الخطأ وكتابته ! ...الخ"، وفي بعض هذه القراءات خطأ حصل من الكتابة، قال "هشام بن عروة عن أبيه، قال: سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله تعالى: إن هذان لساحران، وعن قوله تعالى: والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة. وعن قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون، فقالت: يا ابن أخي، هذ عمل الكتّاب اخطئوا في الكتاب"، أي من الرسم، وهو في الأكثر، فهذا الخطأ في الرسم القديم للكتابة، هو الذي جعل العلماء يسمونه لحناً، وهو ليس بلحن في الأصل، وانما جاء اللحن من قراءة القراء بألحانهم، أي على حسب لغاتهم، وإلا فلا يعقل تطاولهم على القرآن بقراءاتهم له قراءة مخالفة للإعراب ولما نزل به الوحي. وهكذا كان الأمر بالنسبة للمواضع الأخرى مثل: "اثنتا عشرة عيناً"، فقد قرئ بسكون الشين وهي لغة تميم"، وكسرها وهي لغة الحجاز، وفتحها وهي لغة، ومثل "الصراط"، فقد قرأت بالسين وبالصاد، والقراءتان لهجتا قبائل، ومثل "حتى"، فقد قرئت "عتى"، قرأها "ابن مسعود"على لسانه، إذ كان من هذيل.
وقد ذكر "المعري" أمثلة على قراءات في القرآن قرأها علماء مشهورون مثل "حمزة بن حبيب"، هي منكرة في نظر غيره من العلماء، "ينكرها عليه أصحاب العربية، كخفض الأرحام في قوله تعالى: وأتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، وكسر الياء في قوله تعالى: وما أنتم بمصرخي، وكذلك سكون الهمزة في قوله تعالى )استكباراً في الأرض ومكر السئ (، وجاء بأمثلة أخرى من قراءات غيره للقرآن.
والخلاف الذي نلاحظه في أمور النحو بين علماء البصرة وعلماء الكوفة، في مثل عمل الأسماء والأدوات: أدوات الجرّ، أو الخفض، وأدوات النصب، وأدوات الجزم، وأمثال ذلك، هو في حدّ ذاته دليل على وجود إعراب متعدد للعرب، وقف العلماء على شئ يسير منه، فوقعوا من في بلبلة من أمره، بسبب عدم اهتمامهم بأمر تلك اللغات، واقتصارهم في جمعهم قواعد النحو على لهجات الأعراب الذين اتصلوا بهم، فظهر لهم وكأنه نشاز، ولو فطنوا يومئذ إلى أنه من إعراب الذين أخذ عنهم البصريون: قيس، وتميم، وأسد، "فإن هؤلاء هم الذين أخذ عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب، وفي الإعراب، والتصريف. ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم"، والقبائل المذكورة باستثناء الطائيين، هم من مجموعة "مضر"، وليس فيها قبيلة من "ربيعة"، لذلك نستطيع القول ان العربية قد بنيت على لهجات مضر، وحيث أن علماء اللغة أهملوا لغات القبائل الأخرى وبينها قبائل من مضر كذلك، فلم يأخذوا منها إلا عرضاً، تولد من عملهم هذا بناء العربية على تلك اللهجات وبموجب اجتهاد واستقصاء أولئك العلماء، فطهر من أجل ذلك الغريب والنشاز، والاختلاف في الإعراب، الذي أشار إلى قسم منه العلماء، وهو الذي احتاجوا اليه للاستشهاد به في الشواهد والمناظرات، وأكثره من لغات مضر، وأهملوا الباقي، ولو هم سجلوا كل ما عرفوه من نشاز لتجمع من ذلك تراث كبير كثير من تراث اللغات الجاهلية من اختلاف في لغة وقواعد اعراب وصرف.
لقد تمسكت القبائل بقواعد ألسنتها حتى في الإسلام، فكان أفرادها ينطقون بلهجتهم، من ذلك ما ذكره "الزجاجي" من اختلاف "عيسى بن عمر "الثقفي، و "أبو عمر بن العلاء" في رفع أو نصب: "ليس الطيب إلا المسك"، ومن احتكامها إلى "أبي المهدي"، فلما ذهبا اليه وجداه لا يرفع، فلما حاولا اقناعه بالرفع، أبي عليهما ذلك وقال: "لا، ليس هذا من لحني و لا من لحن قومي"، فلما ذهبا إلى "المنتجع" التميمي، وجداه لا ينصب وأبى إلا الرفع، وذكر "الزجاجي": "ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، و لا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع". وقع ذلك في الإسلام وبعد تثبيت القواعد، وكان هذا حال قبائل الحجاز، وحال تميم في الجاهلية و لا شك، فهل يعد هذا الاختلاف دلالة على عدم وجود اللحن عند أهل الجاهلية، أم يعدّ دليلاً على وجوده عندهم ? لقد أدى اقتصار العلماء في أخذهم العربية عن القبائل التي ذكروها وفي تمسكهم برأيهم في أن تلك القبائل، هي صاحبة اللغة الفصيحة، إلى نبذ اللهجات العربية الأخرى، لاعتبارهم اياها لهجات مستقبحة، ولغات حشوية، فخسرت العربية بذلك خسارة كبرى، وظهر بسبب ذلك التنابذ في مذاهب علماء العربية، بسبب اعتمادهم على لغات معينة محدودة، وليس على كل اللغات العربية القريبة من لغة القرآن، ليتمكنوا بذلك من استقرائها كلها واستنباط القواعد الكلية منها.
ومن جملة الأمور التي يجب أن نشير إليها وننتبه اليها، هو أن علماء العربية حين كانوا يشيرون إلى لهجة من اللهجات، مثل لهجة أهل الحجاز، أو لهجة هذيل، أو تميم، وأمثالها، كانوا يشيرون اليها بالتعميم، مثل: جاء هذا على لغة اهل العالية: أو على لغة اهل الحجاز، أو على لغة تميم مع ان حكمهم هذا لم يؤخذ من دراسة لغة القبيلة المشار اليها، وانما اخذ من لسان اعرابي أو اكثر، بينما الحكم على منطق انسان واحد أو اثنين أو ثلاثة، لا يمكن ان يتخذ حجة للحكم على منطق قبيلة باكملها، اضف إلى ذلك ان القبائل الكبيرة كانت موزعة منتشرة، والحجاز وحده ذو قبائل كثيرة، متعارضة اللغات، فكيف يقال: جاء هذا على لغة اهل الحجاز وكانت اسد وتميم متجزئة منتشرة في مناطق واسعة وهذا مما يجعل لهجتها تتاثر بالاقليمية وبالجوار، فلم يكن لها لسان واحد، غير ان علماء العربية لم يفطنوا إلى هذه الامور، فوقعوا من ثم في اخطاء فاخذوا من بعض تميم، ونسبوا ما اخذوه على كل تميم مثلا.
ثم انهم لم يستخلصوا النحو من القرآن رأسا، وقد كان عليهم الاعتماد عليه أو لانهم انما اتخذوا النحو لصيانة اللسان من الخطأ في القرآن وفي لغة التنزيل، وانما مالوا عنه إلى الشعر، والى كلام اعراب من قبائل معينة وثقوا بصحة كلامهم وزاد ابتعادهم عن الاسلوب العلمي، باخذهم بالعصبية العلمية، فظهرت الاراء المتعصبة للمدن وللعلماء، فهذا رجل محب للبصرة، مفرط في حبها، لا يقدم على علمائها عالم، وهذا كوفي متعصب لنحو الكوفة، لا يقدم على اهل الكوفة احدا ثم زاد هذا التعصب للعلماء فهذا يلميذ عالم يتعصب له وياخذ برايه كانه راى نزل من السماء وهذا عالم كبير يعيب على عالم منافس له، ويتهجم هو وتلاميذه عليه، وهذا نحوي يعيب نحو الاخرين، وقد دفعت هذه العصبية بعض العلماء إلى الابتعاد عن العلم، باللجوء إلى الموضع والفتعال والاتهام، لافحام الخصوم، حتى جاء بعضهم بشواهد نحوية وصيرفية مفتعلة، وبشهود من الاعراب، تكلموا باطلا لتأييد عالم على عالم، وفي المسألة الزنبورية التي وقعت بين سيبويه والكسائي، وفي مجالس الجدل التي تجادل فيها العلماء في محضر الخلفاء في قضايا النحو و اللغة والشعر أمثلة عديدة على ما أقول.
وعندي ان ما نسب إلى بعض الشعراء الجاهليين من وقوعهم في اغلاط نحوية أو لغوية أو شعرية لم يكن خطأ بالنسبة لهم، وانما بان الخطأ عند علماء العربية، حين قاسوا الشعر بمقياس واحد، هو العربية التي جمعوا قواعدها ودونوها في الإسلام، والعروض الذى ضبطه "الخليل" ومن جاء بعده، ولو كانوا قد درسوا لهجات القبائل، وعلموا ان الشعر الجاهلي، جاء بالسنة متعددة، لعلموا اذن سر وقوع هذا الاختلاف في الشعر، ولاراحوا انفسهم من دراسة كثير من هذا الغريب والشاذ الذي ادخلوه كتب النحو واللغة، بعد صقل الشعر وتهذيبه. وقد فطن إلى ذلك "المعري" فاعتذر عما نسب إلى "امرىء القيس" من خروج عن القواعد بسوء الرواية وبالتصحيف، وبانهم في الجاهلية كانوا لا يعدون لذلك خروجا على القاعدة، وانما كان ذلك شيئا مالوفا عندهم فلما جاء "المعلمون في الإسلام" "غيروا على حيب ما يريدون"، وجعله يقول عن "الاقوياء": "لا نكرة عندنا في الاقواء واعتذر عما نسب إلى غيره من الشعراء من عيوب احصاها علماء الإسلام عليهم، بان قال ان هذه لم تكن من العيوب في ايامهم، وانما هي صارت عيوبا في الإسلام".
لقد اعتمد علماء العربية على الشعر الجاهلي وعلى لغات العرب التي وثقوا منها في جمع قواعد العربية وتثبيتها، كما استشهدوا بالقرآن، الذي نزل بلسان عربي مبين، والذي ثبت الغربية. أما "الحديث"، فقد اختلفوا في جواز الاستشهاد به ذلك لان الحديث لم ينقل كما سمع النبي وانما روي بالمعنى، وهذا فان ائمة النحو المتقدمين من المصرين: البصرة والكوفة لم يحتجوا بشيء منه، وقد جوز بعض العلماء الاستشهاد به على التقدير السليم بان النقل كان بالمعنى، انما كان في الصدر الاول، وقبل تدوينه في الكتب وقبل فساد اللغة، وغايته تبديل لفظ بلفظ، وهذا يجوز الاحتجاج به، لان السلائق العربية لم تكن قد فسدت بعد. وموضوع الخلاف، هو ان النقل لم يكن بالحرف، وانما بالمعنى، ولو كان بالاول لما وقع الخلاف في وجوب الاستشهاد به، ولجرى ذلك مجرى القران الكريم في اثبات القواعد الكلية بموجبه. قال "سفيان الثوري: ان قلت لكم اني احدثكم كما سمعت، فلا تصدقني، انما هو المعنى. ومن نظر في الحديث ادنى نظر علم العلم اليقين انهم يريدون المعنى". وقد وقع اللحن كثيرا فيما روي من الحديث لان كثيرا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ويتعلمون لسان العرب بصناعة النحو فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون، ودخل في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، فدخل من ثم هذا اللحن في الحديث، ولهذا امتنع علماء المصرين من الاستشهاد بالحديث في النحو. وقد جوز بعض المتأخرين الاستشهاد بالحديث والامثال النبوية الفصيحة، ولم يجوزوا الاستشهاد في غير ذلك للسبب المذكور.
هذا وقد الف العلماء كتبا عديدة في اعراب القران وفي معانيه وغريبه، وصل بعض منها الينا. وقد اشار "ابن النديم" إلى اسماء عدد من تلك المؤلفات. وهي مرجع هام بالنسبة لعلماء العربية، لورود آراء لغوية ونحوية قيمة فيها تفيد في شرح النحو العربي.
والنحو في الطريق والجهة والقصد، ومنه نحو العربية. وهو اعراب الكلام العربي. اخذ من قولهم: انتحاه إذا قصده. وهو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من اعراب وغيره ليلحق به من ليس من اهل اللغة العربية باهلها في الفصاحة فينطق بها، وان لم يكن منهم أو من ليس من اهل اللغة العربية باهلها من الفصاحة فينطق بها، وان لم يكن منهم أو ان شذ بعضهم عنها رد به اليها. وهو في الاصل مصدر شائع، أي نحوت نحوا، كقولك قصدت قصدا ثم خص به انتحاء هذا القبيل مع العلم. وقيل لقول علي بن ابي طالب بعدما علم الاسود الاسم والفعل وابوابا من العربية: "انح هذا النحو". أو لان ابا الاسود لما وضع ما وضع في النحو وعرضه على "علي" قال "علي" له: "ما احسن هذا النحو الذي نحوت ! ولذلك سمي النحو نحوا". ولكننا نجد "الجاحظ" يشير إلى وجود اللفظة في ايم "عمر"، اذ يقول: "وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا النحو كما تعلمون السنن والفرائض"، ويشبه هذا الخبر خبرا آخر نسب اليه ايضا فقد ذكروا انه قال: "تعلموا اعراب القران كما تتعلمون حفظه"، وانه قال: "تعلموا الفرائضنن واللحن، كما تعلمون القرآن". ويظهر ان الكتاب قد فصحوا في خبر "عمر"، فخلطوا بين "اللحن" و "النحو"، وعلى كل فان بين اللفظتين صلة. واذا صح خبر "الجاحظ"، اعتبرنا لفظة "النحو" لفظة صحيحة غير محرفة، دلت على وجود هذه التسمية علما لهذا العلم في ايامه، وقبل ايامه، أي في ايام الجاهليين.
والجمهور من اهل الرواية ان النحو علم ظهر في الإسلام. ظهر بظهور الحاجة الماسة اليه لضبط اللسان وصيانته من الخطأ ولتعليم الاعاجم الكلام بالعربية. ورجع اكثرهم مصدره واساسه إلى الأمام "علي بن ابي طالب"، ويقولون ان ابا الاسود الدؤلي "69 ه" اخذ هذا العلم عنه. وان الأمام القى عليه شيئا من اصول النحو. فاستأذن التلميذ استاذه ان يصنع نحو ماصنع، فاذن له به، فسمي ذلك نحوا. وذكر بعضهم ان الأمام دفع إلى ابي الاسود رقعة مكتوبا فيها: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما انبأ عن المسمى، والفعل ما انبىء به، والحرف ما افاد معنى. واعلم ان الاسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وانما يتفاضل الناس فيما ليس بظاهر ولا مضمر. ثم وضع ابو الاسود بابي العطف والنعت ثم بابي التعجب والاستفهام، إلى ان وصل إلى باب ان واخواتها ما خلا لكن، فلما عرضها على علي امره بضم لكن اليها، وكلما وضع بابا من ابواب النحو عرضه عليه". وذكر بعض اخر ان اول من اسس العربية وفتح بابها، وانهج سبيلها، ووضع قياسها، ابو الاسود الدؤلي، وضع العربية "حين اضطرب كلام العرب فغلبت السلسقة، فكان سراة الناس يلحنون، فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب، والجزم". وقال "ابن قتيبة": "وهو اول من وضع العربية". وذكر "ابن حجر"، انه اول من وضع العربية ونقط المصاحف. وروى "ابن النديم" ان اربعة اوراق، وجدت فيها كلام في الفاعل والمفعول من ابي الاسود الدؤلي، وكانت بخط "يحيى بن يعمر"، وتحت هذا خط علان النحوي، وتحته هذا خط النضر بن شميل. ففي هذه الاوراق دلالة على ان هذه الاوراق من كلام "ابي الاسود"، وانه كان صاحب علم النحو.
وروى ابن النديم رواية اخرى، ذكر فيها ان "الطبري" قال: "انما سمي النحو نحوا لان ابا الاسود الدؤلي قال لعلي عليه السلام، وقد القى عليه شيئا من اصول النحو. قال ابو الاسود: واستاذنه ان يصنع نحو ما صنع، فسمي ذلك نحوا. وقد اختلف الناس في السبب الذي دعا ابا الاسود إلى ما رسمه من النحو. فقال ابو عبيدة اخذ النحو عن علي بن ابي طالب ابو الاسود، وكان لا يخرج شيئا يكون اخذه عن علي كرم الله وجهه إلى احد، حتى يعث اليه زياد ان اعمل شيئا يكون للناس أماما ويعرف به كتاب الله، فاستعفاه من ذلك حتى سمع ابو الاسود قارئا يقرأ ان الله بريء من المشركين ورسوله بالكسر، فقال: ما ظننت ان امر الناس آل إلى هذا فرجع إلى زياد، فقال ابو الاسود: إذا رايتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نفطة فوقه على اعلاه، وان ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وان كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف. فهذا نقط ابي الاسود. قال ابو سعد رضي الله عنه ويقال: ان السبب في ذلك ايضا انه مر بابي الاسود سعد=، وكان رجلا فارسيا من اهل زندخان، كان قدم البصرة مع جماعة من اهله فدنوا من قدامه بن مظعون وادعوا انهم اسلموا على يديه، وانهم بذلك من مواليه. فمر سعد هذا بابي الاسود وهو يقود فرسه. فقال: مالك يا سعد لو لا تركب ? قال: ان فرسي ضالع اراد ضالعا. قالفضحك به بعض من حضره. فقال ابو الاسود هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه فصاروا لنا اخوة، فلو عملنا لهم الكلام. فوضع باب الفاعل والمفعول".
"وقيل لابي الاسود: من اين لك هذا العلم ? _ يعنون النحو _ فقال: لقنت حدوده من علي بن ابي طالب - عليه السلام - وكان ابو الاسود من القراء، قرأ على امير المؤمنين عليه السلام".
وتذكر رواية اخرى، ان "ابا الاسود" دخل على "علي" فوجده مطرقا مفكرا، فساله عن سبب ما به، فذكر له امر اللحن وما فشا من الخطأ في السنة الناس، وانه يريد ان يصنع كتابا في اصول العربية، فانصرف عنه، وهو مغموم، ثم عاد اليه بعد امد، فألقي الأمام عليه رقعة كتب فيها: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما بنأ عن المسمى، والفعل ما أنبىء به، والحرف ما افاد معنى"، ثم امره ان ينحو نحوه، وان يزيد عليه، فجمع "ابو الاسود" اشياء وعرضها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكر منها: ان، أن، وليت، ولعل، وكأن، ولم يذكر لكن، فاشار الأمام عليه بادخالها عليها.
وذكر "ابن الانباري" "577 ه"، "ان من وضع علم العربية، واسس قواعده، وحدد حدوده، امير المؤمنيينن علي بن ابي طالب رضي الله عنه لهذا العلم، ما روى ابو الاسود، قال: دخلت على امير المؤمنيين علي بن ابي طالب رضي الله عنه فوجدت في بده رقعة، فقلت: ما هذه يا امير المؤمنيين ? فقال: اني تاملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء - يعني الاعاجم - فاردت ان اضع لهم شيئا يرجعون اليه، ويعتمدون عليه، ثم القي الي الرقعة، وفيها مكتوب: كلام كله اسم، فعل، حرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبىء به، والحرف ما جاء لمعنى. وقال لي: انح هذا النحو، واضف اليه ما وقع اليك، واعلم يا ابا الاسود ان الاسماء ثلاثة: ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر، واراد بذلك الايم المبهم.
قال ابو الاسود: فكان ما وقع الي: ان واخواتها ما خلا لكن، فلما عرضتها على علي رضي الله عنه، قال لي: واين لكن ? فقال ما حسبتها منها، فقال: عي منها فألأحقها، ثم قال: ما احسن هذا لانحو الذي نحوت، فلذلك سمي النحو نحوا.
وتذكر رواية تنسب إلى الاصمعي تذكر انه قال: "سمعت ابا عمرو بن العلاء يقول جاء اعرابي إلى علي عليه السلام، فقال، السلام عليك يا امير المؤمنيين. كيف تقرا هذه الحروف ? لا ياكله إلا الخاطون، كلنا والله يخطو، قال: فتبسم امير المؤمنيين عليه السلام، وقال: بيا اعرابي: لا ياكله إلا الخاطئون. قال صدقت والله يا امير المؤمنيين، ما كان الله ليظلم عباده، ثم التفت امير المؤمنيين إلى ابي الاسود الدؤلي، فقال: ان العاجم قد دخلت في الدين كافة فضع للناس شيئا يستدلون به على صلاح السنتهم، ورسم له الرفع والنصب والخفض".
و "روي من حديث علي رضي الله عنه مع الاعرابي الذي أقرأه المقرىء: ان الله بريء من المشركين ورسوله: حتى قال الاعرابي: برئت من رسول الله، فأنكر ذلك علي عليه السلام، ورسم لابي الاسود من عمل النحوما رسمه ما لا يجهل موضعه".
ونجد رواية اخرى تذكر ان "ابا الاسود"، كان اول من وضع العربية، واول من املى في الفاعل والمفعول به، والمضاف، زالنصب، والرفع، والجر، والجزم. وكان قد اخذ العلم من "علي بن ابي طالب". وحدث ان ابنته لحنت في فعل التعجب، فقالت لابيها وكان اليوم حارا شديد الحر: "ما اشدُ الحر" وكانت تقصد "ما اشدًّ الحر" أي على باب التعجب. فلما علم "أبو الأسود" بخطأها، نبهها إلى موضع الخطأ. ثم ذهب إلى "زياد" والى البصرة، وطلب منه السماح بوضع علم النحو، فلم يسمح له. ولما اخطأ رجل أمام "زياد"، كبر عليه ذلك فوضع "أبو الأسود" قواعد النحو. فأخذ عنه "الليثي" هذا العلم ووسعه، ثم وسعه "عيسى بن عمر" في كتابيه الجامع والمكمل.
ورويت قصة وضع النحو بشكل آخر، "روي أيضاً ان زياد بن أبيه بعث إلى أبي الأسود، وقال له: يا أبا الأسود، إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم، ويعرب به كتاب الله تعالى ! فأبى أبو الأسود، وكَرِه إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلاً وقال له: أقعد على طريق أبي الأسود، فإذا مر بك، فاقرأ شيئاً من القرآن، وتعمّد اللحن فيه. فقعد الرجل على طريق أبي الأسود، فلما مر به رفع صوته فقرأ: إن الله برئ من المشركين ورسولهِ "بالجر، فاستعظم أبو الأسود ذلك، وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله ! ورجع من حاله إلى زياد، وقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إلى بثلاثين رجلاً، فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال:خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحتُ شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعتُ شيئاً من هذه الحركات غُنة فانقط نقطتين".
"وقيل: إنه دخل إلى منزله، فقالت له بعض بناته: ما احسنُ السماء! قال: أي بنية نجومها، فقالت: إني لم أرد أي شئ منها أحسن ? وإنما تعجبت من حسنها ؛ فقال: إذا فقولي ما أحسنَ السماء ! فحينئذ وضع كتاباً".
و"قيل: وأتى أبو الأسود عبد الله بن عباس، فقال: إني أرى ألسنة العرب قد فسدت ؛ فأردت أن أضع شيئاً لهم يقوّمون به ألسنتهم. قال: لعلك تريد النحو ؛ أما إنه حق، واستعن بسورة يوسف". و"قال ابو حرب بن أبي الأسود: أول باب رسم أبي من النحو باب التعجب. وقيل: أول باب رسم باب الفاعل والمفعول، والمضاف، وحروف الرفع والنصب والجر والجزم".
"ومن الرواة من يقول: إن أبا الأسود هو أول من استنبط النحو، واستخرجه من العدم إلى الوجود، وأنه رأى بخطه ما استخرجه، ولم يعزه إلى أحد قبله". وكان "أول من أسس العربية وفتح بابها وأنهج سبيلها ووضع قياسها". وروي عن "أبي سلمة موسى بن اسماعيل" "عن أبيه، قال: كان أبو الأسود أول من وضع النحو بالبصرة".
وتذكر رواية ان "أبا الأسود" الدؤلي، إنما وضع النحو بأمر من الخليفة "عمر"، روت أن أعرابياً قدم المدينة في خلافته، فقال: "من يُقرئني شيئاً مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ? فأقرأه رجل سورة براءة، فقال: "ان الله برئ من المشركين ورسولهِ" بالجر، فقال الأعرابي: أو قد برئ الله من رسوله ! إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه ! فبلغ عمر رضي الله عنه مقالة الأعرابي، فدعاه فقال: يا أعرابي: أتبرأ من رسول الله! فقال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرأني هذا سورة براءة، فقال: إن الله برئ من المشركين ورسولهِ، فقلت: أو قد برئ الله تعالى من رسوله ! إن يكن برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فقال له عمر رضي الله عنه: ليس هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين ? فقال: )إن الله برئ من المشركين ورسولهُ(، فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر رضي الله ألا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو".
وذكر أن "عمر بن الخطاب" كتب إلى "أبي موسى" الأشعري، كتاباً فيه: "أما بعد: فتفقهوا في الدين وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرّية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب".
ويفهم من هذا الكتاب، أن "أبا الأسود"، كان على علم بالنحو وبالإعراب قبل أيام "علي"، ولهذا طلب الخليفة من عامله أن يكلف "أبا الأسود" بتعليم أهل البصرة الإعراب.
ويظهر من الرواية التي ذكرتها عن التقاء "أبي الأسود" بعبد الله بن عباس، وقوله له: "إني أرى ألسنة العرب قد فسدت ؛ فأردت أن أضع شيئاً لهم يقوّمون به ألسنتهم "ومن رد "عبد الله بن عباس" عليه بقوله له: "لعلك تريد النحو"، أن "ابن عباس"، كان على علم بالنحو، ودليل ذلك نصه على اسمه، مما يدل على أنه معروفاً. وذلك إن جاز لنا التصديق بصحة هذه الرواية، التي أرى أنها من المصنوعات.
وكان "أبو الأسود" مثل غيره من العرب الفصحاء يكره اللحن واللحانين. روي عنه أنه ذكر اللحن، فقال: "إني لأجد للحن غمزاً كغمز اللحم".
ولأبي الحسن أحمد بن فارس المتوفي سنة 395 للهجرة، وهو كما نعلم من مشاهير علماء اللغة، رأي طريف في منشأ هذا العلم خلاصته: ان أبا الأسود كان أول من وضع العربية، لكن هذا العلم قد كان قديماً، وأتت عليه الأيام، وقلَّ في أيدي الناس، ثم جدده هذا الأمام. فأبو الأسود الدؤلي هو مجدد هذا العلم وباعثه، وليس موجده ومخترعه.
فنحن اذن أمام رأي جديد، رأي يرجع على العربية إلى ما قبل الإسلام وكفى لكنه لم يفصل ولم يشرح ولم يتعرض لموضوع متى كان ظهور هذا العلم في القديم وكيف وجد وهل كان للألسنة الأعجمية كاليونانية أو السريانية أثر في ظهوره ونشوئه ? ثم انه لم يتعرض للأسباب التي جعلت الأيام تأتي عليه حتى قلَّ في أيدي الناس، إلى أن ظهر أبو الأسود فأعاده إلى الوجود، ولم يذكر كيف عثر أبو الأسود على هذا العلم ومن لقنه به حتى بعثه وجدده ? تعرض "ابن فارس"لبحث منشأ علم النحو في أثناء كلامه على الخط العربي فقال: "وزعم قوم ان العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وانهم لم يعرفوا نحواً ولا إعراباً و لا رفعاً و لا نصباً و لا همزاَ". وهو يرى ان رأيهم باطل، وان بين العرب من كان يقرأ كما كان بينهم من كان أمياً، وجاء بأمثلة في تفنيد دعواهم، ثم خلص إلى هذه النتيجة: "فإنا لم نزعم ان العرب كلها -مدراً ووبراً - قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها. وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم، فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة". ثم قال: "والذي نقوله في الحروف، هو قولنا في الإعراب والعروض، والدليل على صحة هذا وان القوم قد تداولوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحطيئة التي أولها: شاقتك أظعان لليلى دون ناظرة بواكر
فنجد قوافيه كلها عند الترنم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علم الحطيئة بذلك لأشبه أن يختلف إعرابها، لأن تساويها في حركة واحدة اتفاقاً من غير قصد لا يكاد يكون.
فإن قال قائل: فقد تواترت الرويات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية، وأن الخليل أول من تكلم في العروض، قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول: إن هذين العملين قد كانا قديماً، وأتت عليهما الأيام وقلاّ في أيدي الناس، ثم جددها هذان الأمامان. وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب.
وقال "ابن فارس": "ومن الدليل على عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم العربية كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء، والهمز، والمد، والقصر، فكتبوا ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكناً في مثل: الخبء، والدفء، والملء".
وقد استخدم "ابن فارس"لفظة "العربية" في معنى: الإعراب. وذكر لفظة "النحو"قبل كلمة: "الإعراب"، حيث قال كما ذكرت ذلك قبل قليل: "وانهم لم يعرفوا نحواً و لا إعراباً و لا رفعاً و لا نصباً و لا همزاً". وذكر غيره أيضاً ان "أبا الأسود"" أول من وضع العربية، و "أول من نقط المصحف ووضع العربية". وقد استنتج المرحوم "احمد أمين" من ذلك الاستعمال انهم يعنون بالعربية هذه العلأمات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون والتي استعملها أبو الأسود في المصحف، وان هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموّا كلامهم "نحواً" سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود وقالوا: انه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم النحو بتاتاً". ففرق "أحمد أمين" بين "العربية" و "النحو"، وجعل للعربية سابقة على علم النحو، وجعل النحو وليداً ولد من العربية. وهو رأي لا يتفق مع رأي "ابن فارس"، الذي نص على النحو بذكر اسمه، كما نص على الإعراب من بعده.
هذا هو المشهور المعروف المتداول بين أكثر الناس عن منشأ علم النحو. وقد تعرض "ابن النديم" لهذا الموضوع فقال: "قال محمد بن اسحاق: زعم اكثر العلماء ان النحو أخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وان أبا الأسود أخذ ذلك عن أميلا المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام"، ثم روى روايات أخرى، تذكر ان غيره قام برسم النحو، إذ قال: "وقال آخرون رسم النحو نصر بن عاصم الدؤلي، ويقال الليثي. قرأت بخط أبي عبد الله بن مقلة عن ثعلب، انه قال: روى ابن ابي لهيعة عن أبي النضر، قال: كان عبد الرحمن بن هرمز أول من وضع العربية، وكان اعلم الناس بأنساب قريش وأخبارها وأحد القراء".
وقد رد "ابن الأنباري" على من ذهب إلى أن علم النحو من صنع رجل آخر غير "أبي الأسود"، إذ قال: فأما زعم من زعم ان أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ونصر بن عاصم فليس بصحيح، لأن عبد الرحمن بن هرمز، أخذ النحو عن أبي الأسود، وكذلك أيضاً نصر بن عاصم أخذه عن أبي الأسود، ويقال عن ميمون الأقرن". وكان قد ذكر ما ورد في الأخبار من قيام "أبي الأسود به"، ثم رجحها على غيره بقوله: "والصحيح ان أول من وضع النحو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لأن الروايات كلها تُسنِد إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه روي عن أبي الأسود انه سئل فقيل له: من أين لك هذا النحو ? فقال: لَفَقٌتُ حدوده من علي بن أبي طالب رضي الله عنه".
ويلاحظ ان الذين رجعوا سبب وضع النحو إلى الخطأ في قراءة الآية: "إن الله برئ من المشركين ورسوله"، قد اختلفوا فيما بينهم في العهد الذي لحن فيه قارئ الآية في قراءتها، فمنهم من جعله في عهد "عمر"، ومنهم من صيره في عهد "علي"، ومنهم من رجعه إلى أيام "زياد بن أبيه"، فأنت أمام رواية واحدة، لكنك تراها وقد نسبت إلى ثلاثة عهود، ومثل هذا الاختلاف أمر غير غريب بالنسبة إلى مراجعي الموارد الإسلامية، إذ نجد فيها أمثلة كثيرة من أمثاله، ويظهر ان الرواة تلاعبوا في الخبر، فنسبه كل واحد منهم إلى عهد لغاية أرادها، من هذا التحريف والتغيير.
وقد رجح "أحمد أمين"نسبة النحو إلى أبي الأسود، اذ يقول: "ويظهر لي ان نسبة النحو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح، وذلك ان الرواة يكادون يتفقون على ان أبا الأسود قام بعمل من هذا النمط، وانه ابتكر شكل المصحف ... وواضح ان هذه خطوة أولية في سبيل النحو تتمشى مع قانون النشوء، وممكن أن تأتي من أبي الأسود، وواضح كذلك ان هذا يلفت النظر إلى النحو .... وعلى هذا فمن قال ان أبا الأسود وضع النحو، فقد كان يقصد شيئاً من هذا، وهو انه وضع الأساس بضبط المصحف حتى لا تكون فتحة موضع كسرة، و لا ضمة موضع فتحة، فجاء بعدُ من أراد أن يفهم النحو على المعنى الدقيق، فاخترع تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، والاسم إلى ظاهر، ومضمر، وغير ظاهر و لا مضمر، وباب التعجب وباب إن".
وقال:"فالذي يظهر انهم يعنون بالعربية هذه العلأمات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون والتي استعملها أبو الأسود في المصحف، وان هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموا كلامهم نحواً سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود، وقالوا: انه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم النحو بتاتاً ... فالظاهر ان عمله كان في أول الأمر ساذجاً بسيطاً، وهو وضع علأمات الرفع والنصب وما اليهما ولم يزد على ذلك، فلما سمى العلماء بعدُ بعض ضروب الرفع فاعلاً، وبعض ضروب النصب مفعولاً، قالوا: إن أبا الأسود وضع باب الفاعل والمفعول، وإن كان أبو الأسود نفسه لم يعرف فاعلاً ولا مفعولاً، بل ربما لم يعرف أيضاً رفعاً و لا نصباً، فإنهم يروون انه قال لكاتبه: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه، وإن ضممت فمي فانقط بين يدي الحرف، وان كسرت فاجعل النقطة من تحت. وهو تعبير ساذج يتفق وزمن أبي الأسود".
ولإبراهيم مصطفى، رأي قريب من رأي "أحمد أمين". فهو يرى إن المصطلحات والقواعد التي ذكر ان "أبا الأسود" وضعها بأمر "علي" لا يمكن أن تتفق وزمنه، لأن المصطلحات النحوية إنما ظهرت في وقت متأخر. ويذكر إن الآراء النحوية، لم تظهر أيضاً في عهده، بدليل اننا لا نجد في كتاب سيبويه و لا في كتب النحو الأخرى رأياً له. ويستنتج من ذلك ان عمل أبي الأسود، كان وضع الإعراب وضبط المصحف.
وقد درس المستشرقون موضوع نشأة علم النحو وأصله، فمنهم من قال انه نقل من اليونان إلى بلاد العرب، وقال آخرون برأي علماء العربية، من أنه عربي الأصل والنجار، وقد نبت كما تنبت الشجرة في أرضها. وتوسط آخرون، فقالوا: انه كان من إبداع، ولكن لما تعلم العرب الفلسفة اليونانية من السريان في بلاد العراق، تعلموا أيضاً شيئاً من النحو، وهو النحو الذي كتبه "ارسطو طاليس"، وبرهان هذا ان تقسيم الكلمة مختلف، قال"سيبويه":"فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم و لا فعل"، وهذا تقسيم أصلي، أما الفلسفة فيقسم فيها الكلام إلى اسم وكلمة ورباط، أي الأسم هو الاسم، والكلمة هي الفعل، كما يقال له في اللغات الأوروبية Verb، والرباط هو الحرف، كما يقال له في اللغة الأوروبية Conjunction أي ارتباط، وهذه الكلمات اسم وفعل ورباط، ترجمت من اليوناني إلى السرياني، ومن السرياني إلى العربي، فسميت هكذا في كتب الفلسفة لا في كتب النحو، أما كلمات اسم وفعل وحرف فإنها اصطلاحات عربية ما ترجمت و لا نقلت.
ثم ان "القياس" هو من أهم الأسس والأصول في المنطق اليوناني، وحيث انه كان من أهم أدوات علماء النحو في تفريع علم النحو، حتى صار من مميزات مدرسة البصرة، والبصرة غير بعيدة عن "جند يسابور"وعن مدارس نصرانية، كان فيها علماء يدرسون علوم اليونان، ومنها المنطق والنحو، فلا يستبعد تأثر"أبي الأسود"الدؤلي ومن جاء بعده بهذه الدراسات، ودليل ذلك، هو ظهور هذا العلم في البصرة دون سائر المدن الأخرى، ومنها مدن الحجاز مهد الإسلام.
ويرى "فون كريمر"، ان ما يقال من أن ظهور اللحن، كان السبب في وضع النحو، دعوى لا يعول عليها، و لا أساس لها، وإنما هو وليد الحاجة التي أحس بها الأعاجم من آراميين وفرس، لتعلم العربية، وللتكلم بها على وجه صحيح.
وقد ألّف بعض المستشرقين بحوثاً في موضوع النحو العربي ومدارسه، منهم المستشرق "فلوكل"، و"هول"، و"رايت"، وغيرهم، وقد تطرقوا فيها إلى قواعد العربية وآراء علمائها فيها.
وقد ذهب بعض المحدثين مذهب المستشرقين القائلين بتأثير النحو العربي بالنحو اليوناني، وذلك لأمور، منها: ان تقسيم الكلم المألوف المتبع في النحو، هو تقسيم يوناني، واعتبار القياس أصلاً من أصول النحو، ووجود مدارس سريانية كانت تدرس علوم النحو في مدارسها عند ظهور الإسلام، ووجود يونان وأديرة في العراق، فهذه الأسباب وأشباهها تحمل الإنسان على القول ان النحو العربي قد تأثر بالنحو اليوناني وبمنطق "أرسطو" خاصة، لاسيما وان النحو قد ظهر في العراق، وهو ملتقى الحضارات. وقد تأثر خاصة في عهد "الخليل بن أحمد"الذي كانت له صلات وثيقة مع العلماء السريان، مثل حنين بن اسحاق وأضرابه، حتى ذهب بعض الباحثين إلى وقوف "الخليل"على اللغة اليونانية.
وقد ذهب "مصطفى نظيف" إلى أن "يعقوب" الرهاوي، كان من معاصري "أبي الأسود" الدؤلي، وكان من تلامذة "سويرس سيبخت"، ومن البارعين في الفلسفة والنحو والتأريخ، ومن المؤلفين في النحو السرياني، ومن الذين أدخلوا التنقيط والحركات. وكان في البصرة، والبصرة ملتقى الثقافة، وحولها أديرة ومدارس، وهي غير بعيدة عن "جند يسابور"، فلا يستبعد اذن تاثر "ابي الأسود"بهذه التيارات اليونانية التي كانت هناك.
وأنا على رأي "ابن فارس" القائل ان الإعراب كان قديماً عند العرب، قدم معرفتهم بالحروف، وان علم العربية كان قديماً، ثم جدده "أبو الأسود الدؤلي" على نحو ما حكيته من قوله في ذلك قبل قليل. وعندي ان علم "العربية" كان معروفاً في العراق، وانه كان يدرس في مدارس الحيرة وعين التمر والأنبار وربما في مواضع أخرى، كانت غالبية سكانها من العرب النصارى، كان يدرسه لهم رجال الدين، الذين كانوا يتقنون الإرمية، وكانوا قد أخذوا علومهم في النحو من اليونان، بتأثير النصرانية ودراسة الأناجيل والكتب الدينية المؤلفة باليونانية. ولما كان أهل المواضع المذكورة من العرب، فلا يستبعد ظهور جماعة من رجال الدين النصارى العرب، اتخذت من مبادئ النحو التي وضعت للسريانية والمنقولة عن اليونانية، قواعد لضبط العربية بموجبها، كما ضبطوا الكتابة بها بالأبجدية التي صارت الأبجدية التي انتشرت بين أهل مكة ويثرب وأماكن أخرى. وبين هذه الأبجدية وبين العربية، من حيث هي قواعد صلة متينة. فلا يستبعد قيام رجال الدين بتعليم العربية والخط للعرب، لأنهم كانوا يقومون بالتبشير، وكان من مصلحتهم نشر الكتابة بين من يبشرون بينهم، وتعليمهم أصول اللغة، ليكون في وسع من يعتنق النصرانية تثقيف المشركين، وكانت هذه طريقتهم في التبشير في المواضع الأخرى من العالم.
وأنا لا أستبعد احتمال وقوف "علي بن أبي طالب"، أو "أبو الأسود"الدؤلي على تقسيم الكلم إلى اسم وفعل وحرف. وقفا عليه باتصالهم بالحيرة أو بعلماء من أهل العراق كانوا على علم النحو وعلوم اللغة في ذلك العهد، وقد كان ذلك في الأسس والمبادئ، فلما جاء الإسلام، وأخذ المسلمون علم العربية عن المتقدمين، زادوا فيه وفرَّعوا واستقصوا وقاسوا، وأخذوا من كلام العرب ومن الشعر، حتى تضخم النحو فبرز على الصورة التي نجدها في "كتاب" سيبويه وفي الكتب التي وضعت بعده.
ومما يؤسف له كثيراً ان المؤرخين اليونان واللاتين والسريان لم يذكروا أي شيء عن علوم العربية عند العرب، وفي ضمنهم المؤرخون الذين أرخوا تأريخ الكنيسة والنصرانية، بسبب أنهم لم يكونوا يحلفون كثيراً بأمور العرب، وأكثر ما ذكروه عنهم انما تناول الغزوات التي كانت تقوم بها القبائل على حدود الانبراطوريتين، فأضاعوا علينا بذلك فوئد كبيرة، كان يمكن الاستفادة منها في تدوين تأريخ ظهور الكتابة وعلوم العربية عند العرب. أما الموارد الإسلامية، فقد رأينا رأيها في أول ظهور النحو، وقد رأينا حاصل روايات مضطربة، يكتنفها غموض، ثم هي عاجزة في النهاية عن بيان كيفية توصل الأمام "علي" أو "أبو الأسود" إلى استنباط هذا التقسيم الثلاثي للكلم، ثم البحث في "العطف" و "النعت"والتعجب والاستفهام، وباب إن وأخواتها، والفاعل والمفعول، ونحو ذلك من قواعد، لايمكن لإنسان استنباطها بمفرده من غير علم سابق له بقواعد اللغات، مهما أوتي ذلك الإنسان من ذكاء خارق وقوة إبداع ! وأنا لا أستطيع أن أتصور ان انساناً يستطيع أن يجلس بمفرده ثم يجيل النظر في محيط اللغة التي يتكلم بها قومه، وهو غير مسلح بعلم سابق باللغات و لا بمعرفة مسبقة بقواعدها. ثم تنثال عليه المعرفة ويستخرج منها بنفسه القواعد المذكورة، ثم يضع لأبوابها تلك الأسماء التي لا يمكن لأحد وضعها إلا إذا كان ذا علم بقواعد اللغات عند الأمم الأخرى، لأنها مصطلحات علمية منطقية، لا يمكن أن تخرج من فم رجل لا علم له بمصطلحات علوم اللغة والمنطق، ولأنها ليست من الألفاظ الاصطلاحية البسيطة التي يمكن أن يستخرجها الإنسان من اللغة بكل سهولة وبساطة حتى نقول انها حاصل ذكاء وعقل متقد. وكيف يعقل أن يتوصل رجل إلى استنباط ان الكلمة أما اسم، أو فعل، أو حرف، ثم يقوم بحصرها هذا الحصر الذي لم يتغير ولم يتبدل حتى اليوم، بمجرد إجابة نظر وإعمال فكر، من دون أن يكون له علم بهذا التقسيم الذي تعود جذوره إلى ما قبل الميلاد. ثم كيف يتوصل إلى إدراك القواعد المعقدة الأخرى التي لم يبتدعها انسان واحد، وإنما هي من وضع أجيال وأجيال، إذا لم يكن له علم بفلسفة الفعل وعمل الفاعل وما يقع منه الفعل على المفعول، وكذلك الأبواب المذكورة التي لا يمكن أن يتوصل اليها عقل انسان واحد أبداً.
لقد كان للبابليين ولغيرهم من أهل العراق علم باللغات، وكان لهم أساس في النحو وفي دراسة اللغة، كما كان لليونان ولغيرهم علم بالمنطق والنحو واللغات، وصل إلى العراقيين قبل النصرانية وبعدها، بطرق لا مجال للتحدث عنها في هذا المكان. وبقي العلم اليوناني إلى الإسلام، ومنه جاء في نظري علم النحو وعلوم العربية، وبسببه صار العراق القطر الإسلامي الأول الذي نبت فيه علم العربية والنحو، لا بسبب لحن وقع من أعاجم، أو من أعراب جهلاء، و لا بسبب تلك القصص التي ساقوها في أسباب اختراع النحو، وانما بسبب وجود علم سابق في العربية عند أهل الحيرة والأنبار والقرى العربية الأخرى، وبسبب ظهور الحاجة اليه، لتعليم العرب وغيرهم أصول لغتهم وكيفية صيانة اللسان من الوقوع في الخطأ، فكان ما كان من وقوف "علي" أو "أبو الأسود"، وهما من أصحاب الذكاء الخارق والتعطش إلى البحث والاستقصاء، فأخذا به، وتوسع من جاء بعدهما في تفريعه وفي تثبيته في كتب، كملت وتمت بالتدريج، فهي من حاصل ذلك التراث العربي الجاهلي.
ولسابقة العراق هذه في الجاهلية بزَّ سائر الأقطار الإسلامية في علوم العربية، حتى "يثرب" و "مكة"، وهما موطنا الإسلام ومهبطه، لم ينافساه فيها. قال "السيوطي": "فأما مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نعلم بها أماماً في العربية. قال الأصمعي: أقمت بالمدينة زماناً ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة. وكان بها ابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكلأما ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه، وخفيت روايته". "وممن كان بالمدينة أيضاً عليّ الملقب بالجمل، وضع كتاباً في النحو لم يكن شيئاً. وأما مكة، فكان بها رجل من الموالي يقال له: ابن قسطنطين، شدا شيئاً من النحو ووضع كتاباً لا يساوي شيئاً". وفي انفراد العراق، وتفوقه على غيره من الأمصار في هذه العلوم، دلالة على وجود البذور القديمة لها في هذه الأرض قبل الإسلام، فلما دخل العراق في الإسلام أينعت واتسعت، فكان ما كان من ظهورها فيه.
وقد تأثر النحاة والمناطقة في الإسلام بمنطق "أرسطو". هذا الأمام "الشافعي" يشير إلى تأثر القوم بمنطقه، إذ قال: "ما جهل الناس و لا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطو طاليس". وقد توفي الشافعي سنة "204" للهجرة، فلا بد اذن من أن يكون ميل الناس إلى هذا المنطق قد كان هذا العهد. ولعله قصد ب "لسان أرسو طاليس" العلوم اللسانية التي كان قد برع بها اليونان. فتكلموا عن أقسام الكلمة وعن بناء التركيب القياسي وعن الموضوع والمحمول وأنواع الإعراب بحسب لغتهم وعن النعت والضمائر والأفعال وما إلى ذلك من قواعد.
و"أبو الأسود"الدؤلي، هو "ظالم بن عمرو بن سفيان"، أو "عمرو ابن ظالم بن سفيان" أو "عويمر بن ظليم"، من أشياع "علي بن أبي طالب" ومن أصحابه. استعمله "عمر" و "عثمان" على البصرة، ثم استعمله "علي" عليهما بعد "ابن عباس". وقد ذكر "أبو عبيدة"، انه كان كاتباً لابن عباس على البصرة، وكان "ابن عباس" يكرم "أبا الأسود" لما كان عاملاً بالبصرة لعليّ ويقضي حوائجه. وقد اشترك مع "علي"في وقعة صفين. ويذكر انه توفي في وباء سنة "تسع وستين"، وقيل مات بعد ذلك، توفي بالبصرة. قال عنه "الجاحظ": "أبو الأسود الديلي، معدود في طبقات الناس، وهو فيها كلها مقدم، ومأثور عنه الفضل في جميعها. كان معدوداً في التابعين والفقهاء والمحدثين والشعراء والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين، والحاضري الجواب، والشيعة، والبخلاء، والصلع الأشراف". وله أجوبة مسكتة مع معاوية، ومع أشخاص آخرين أرادوا التحرش به، تدل على بديهة وذكاء.
ولأبي الأسود الدؤلي شعر، وقد طبع شعره في ديوان، وقد استشهد به في شواهد اللغة والنحو، ونجد نتفاً منه في الكتب التي تعرضت لسيرته، وليس شعره على مستوى رفيع من الوجهة الفنية، و لا يتعرض للأحداث التأريخية التي وقعت في أيامه.
وقد أخذ عن أبي الأسود جماعة من التلامذة، صاروا من مؤسسي علم النحو عند العرب، ومن مبوبيه ومصنفيه. منهم ابنه "عطاء". وكان قد بعج العربية وبرز بها. ومنهم "يحيى بن يعمر"وهو من عدوان بن قيس، وكان عدده في "بني ليث بن كنانة"، ولقي ابن عباس وابن عمر، وروي عنه قتادة. ومنهم "عنبسة بن معدان"، المعروف ب"عنبسة الفيل"، ويقال ان "نصر ابن عاصم" أخذ عن أبي الأسود، وأخذ عن "نصر" "أبو عمرو بن العلاء"البصري، وأخذ عن "أبي عمرو" "الخليل بن أحمد"، وأخذ عن الخليل "سيبويه"، وأخذ عن سيبويه "الأخفش". وممن أخذ عن أبي الأسود: "ميمون الأقرن"، و"عبد الرحمن بن هرمز".
وفي رواية: ان الذي برع بعد أبي الأسود ميمون الأقرن، وبعد ميمون عنبسة الفيل، وبعده عبد الله بن أبي اسحاق، فقاس وأكثر، ثم برع بعده أبو عمرو بن العلاء، ولحقه الخليل بن أحمد، إلا أن نظر أبي عمرو أقدم من نظر الخليل.
ثم أتى الخليل في النحو بما لم يأت بمثله أحد قبله في تصحيح القياس، واللطافة والتصريف.
وكان يونس في عصر الخليل، وبقي بعده مدة طويلة، ويقال ان سيبويه مات قبل يونس.
وكان عيسى بن عمرو في عهد أبي عمرو وعهد الخليل، وكان بارعاً أيضاً. وكان "عنبسة" الفيل، من أبرع أصحاب "أبي الأسود" الذين كانوا يتعلمون منه العربية. وذكر ان الناس اختلفوا اليه بعد "أبي الأسود"، وكان من بينهم "ميمون الأقرن" الذي كان من أبرع أصحابه. وقد ذكرت رواية تنسب إلى "أبي عبيدة" اسم "ميمون الأقرن" قبل عنبسة.
وأما "نصر بن عاصم"الليثي "89 ه" "90 ه"، فإنه كان فقيهاً عالماً بالعربية، فصيحاً قرأ القرآن على "أبي الأسود"، وقرأ "أبو الأسود"على "عليّ"، فكان "أبو الأسود" أستاذه في القراءة.
و"ابن أبي اسحاق" الحضرمي، هو "أبو بحر عبد الله بن أبي اسحاق" "117 ه"، وكان قيّماً بالعربية والقراءة، شديد التجريد للقياس. ويقال انه كان أشد تجريداً للقياس من "أبي عمرو بن العلاء"، وكان "أبو عمرو ابن العلاء "أوسع علماً بكلام العرب ولغاتهم وغريبها. ويقال انه أول من علل النحو. وكان قد قرأ على "يحيى بن يعمر"، وعلى "نصر بن عاصم"، وزعم انه كان أول من بعج النحو ومدّ القياس والعلل.
وأما "يحيى بن يعمر" العدوانبي، "129 ه"، فكان عالماً بالعربية والحديث، لقي "عبد الله بن عمر"، و"عبد الله بن عباس" وغيرهما من الصحابة. وكان يستعمل الغريب في كلامه. وقد لحق بخراسان، وكتب ليزيد ابن المهلب، ألحقه بها "الحجاج".
وكان "عيسى بن عمر" الثقفي "149 ه"، ثقة عالماً بالعربية والنحو والقراءة، وصنف كتابين في النحو، يسمى أحدهما: الجامع، والآخر الإكمال، وقد ذكرهما "الخليل بن أحمد" بقوله: ذهب النحو جمـيعـاً كـلـه غير ما احدث عيسى بن عمر
ذاك إكمـال وهـذا جـامـع فهما للناس شمـس وقـمـر
وبلغ النحو درجة كبيرة من التقدم، حين انتقلت الزعامة فيه إلى "الخليل ابن احمد" الفراهيدي، الذي "كان غاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس". "فهو الذي بسط النحو ومد اطمنابه وسبب علله، وفتق معانيه، واوضح الحجاج فيه حتى بلغ اقصى حدوده، ثم لم يرض ان يؤلف فيه حرفاً أو يرسم منه رسماً. . واكتفى في ذلك بما اوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره ونتائج فكره، ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلده، والف فيه الكتاب الذي اعجز من تقدم قبله، وامتنع على تأخر بعده". وقد كان علم الخليل، في جملة المنابع التي غرف منها "سيبويه" في كتابه:الكتاب. وقد ذكر "سيبويه" اسمه في "410" مواضع من كتابه، واشار إلى ارائه دون ان يذكر اسمه في "174" مكاناً اخر، وهو وان لم يشر إلى اسمه، لكن العلماء ذكروا انه قصده.
واورد"سيبويه" له في كتابه اراء استاذه في اعراب آيات من القرآن الكريم، وتأويلها، كما جاء له بشواهد من الشعر في شرح قواعد نحوية، منها اشعار نص على اسماء قائليها، مثل امية بن ابي الصلت، وطرفة والنابغة والاعشى، وغيرهم. ومنها اشعار لشعراء مخضرمين واسلاميين، ومنها اشعار لم يذكر اسماء اصحابها.
ونعت بانه "نحوي عروضي، استنبط من العروض وعلله ما لم يستخرجه احد، ولم يسبقه إلى علمه سابق من العلماء كلهم. وقيل انه دعا بمكة ان يرزق علماً لم يسبق اليه احد، ولا يؤخذ عنه، فرجع من حجه، ففتح عليه بالعروض". وذكر انه كان "الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله"، "وكان اول من حصر اشعار العرب". دخل عليه ولده وهو يقطع العروض، فخرج إلى الناس وقال: ان ابي قد جن، فدخل الناس عليه فرأوه يقطع العروض، فأخبروه بما قال ابنه، فقال له: لو كنت تعلم ما اقول عذرتني أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتنـي وعلمت انك جاهل فعذلتكـا
ويظهر من دراسة "كتاب" "سيبويه" ان اثر "الخليل" عليه كان كبيراً، لا يدانيه اثر أي عالم اخر عليه، وان علم الخليل بالنحو، كان غزيراً جداً، يؤيده استشهاد "سيبويه" بآرائه اكثر من استشهاده برأي أي عالم اخر من علماء هذا العلم، مثل "ابو عمرو بن العلاء" "154ه"، و"عيسى بن عمر الثقفي"، "149ه"، و"يونس بن حبيب"، "182ه". ويظهر ان "الخليل" لم يدون علمه بالنحو في رسائل أو كتب، وانما كان يعلم من يقصده مشافهة، فكان تلامذته يسمعونه ويحملون العلم عنه، وذلك على طريقة اكثر العلماء في ذلك العهد.
وللخليل بعد، آراء خاصة في النحو، ونجد "الخوارزمي" يتكلم في الفصل الثاني من فصول النحو، بقوله: "في وجوه الاعراب وما يتبعها على ما يحكى عن الخليل بن احمد"، مما يشير إلى وجود آراء خاصة له به، اشير اليها في كتب النحو، وربما وضعها بعضهم في مؤلفات خاصة بآرائه في النحو. ومن آرائه أستعماله مصطلح الرفع في الاسم المضمون المنون، ومصطلح الخفض في الاسم المجرور المنون، والنصب في الاسم المفتوح المنون، على حين يسمى بقية الحركات العارية من التنوين في الاحوال والصيغ المختلفة بأسماء الحركات العامة، أي: الضم، والكسر، والفتح، كما انه يسمى بالجر حركة الكسر التي تربط بين آخر الصيغة الفعلية وبين همزة الوصل. ولا يوجد عنده ما يدل على تأثير النظرية القائلة بأن اختلاف حركات الكلمات المتصرفة متوقف على العامل النحوي، الاغ في التفرقة التي جعلها بين التوقيف، أي عدم الحركة في اواخر الحروف وما شاكلها، والجزم، أي سكون الفعل المجزوم.
وكان سند علماء العربية ومنبعهم الذي اخذوا منه علمهم في وضع القواعد العربية كتاب الله والشعر وكلام العرب. ويكون كلام العرب، المنبع الاول الذي استمد منه علمهم في اللغة وفي وضع القواعد، وهو مال ما اخذ من القبائل والأفراد، و نجد للهجات اهل الحجاز وتميم اهمية كبرى في كتب الشواهد والقواعد. ونظراً لاعتماد العلماء على هذا المورد اكثر من غيره، وقعوا في مشاكل، جعلتهم يتحايلون في حلها، ويرجعون إلى التأويل والتفسير، من ذلك ما وقعوا فيه من عدم تمكنهم من التوفيق بين القواعد التي وضعوها، وبين ما جاء في القرآن أو الشعر من امور لا تنسجم مع هذه القواعد. وكل هذه الموارد المذكورة، هي موارد اخذ منها بالسماع، وهناك قواعد وضعها العلماء قياساً على كلام العرب، استنبطوها بطريق "القياس". و"القياس"من أهم الميزات التي ميزت البصرة على الكوفة في وضع قواعد اللغة.
والقياس ركن من ركنيين مهمين، قام عليهما علم النحو، أما الركن ألاول، فهو السماع. وللدور الخطير الذي قام به القياس في تكوين اصول وقواعد النحو، قال المستشرقون وغيرهم بتأثير النحو العربي بمنطق "ارسطو". وممن اخذ وعمل به في النحو "عبد الله بن ابي اسحق" الحضرمي، قيل عنه "وكان شديد التجريد للقياس. ويقال انه كان اشد تجريداً للقياس من ابي عمرو بن العلاء".
وفرع النحو وقاسه، وكان اول من بعج النحو ومد القياس والعلل.
وكان الخليل بن احمد على رأس العاملين بالقياس في فتاوي النحو. كان قياساً بارعاُ فيه. قيل عنه "انه سيد قومه، وكاشف قناع القياس في علمه". وقد تأثر "سيبويه" بقياس الخليل، فأستعمله في تثبيت العربية. فتجد في كتابه جملاً مثل:"والقياس كذا" أو "والقياس يأباه" و "سألت الخليل عن قول العرب ما أميلحه، فقال:لم يكن ينبغي ان يكون في القياس لأن الفعل لا يحقر، وأنما تحقر الاسماء".
وقد انقسم علماء اللغة والنحو إلى فئتين بالنسبة لاستعمال القياس في اللغة والنحو. ولكن الاغلبية معه، وقد وقع فعلاً، واثر في وضع القواعد اثراً خطيراً. فبه اوجد النحاة كليات القواعد. "قال ابن الانباري: اعلم ان انكار القياس في النحو لا يتحقق لأن النحو كله قياس، فمن انكر القياس فقد انكر النحو، ولا يعلم احد من العلماء انكره. وينسب إلى الكسائي انه قال: انما النحو قياس يتبـع وبه في كل امرٍ ينتفع
ولعلماء اللغة، كلام طويل في مدى جواز استعمال القياس، وفي حالة ورود السماع، لأن اللغة في نظر بعض منهم سماع، فأذا كانت سماعاً، وجب الاخذ بالسماع، فأذا ورد السماع بطل القياس. وقد تحدث العلماء عنه. قال "ابن فارس": "اجمع أهل اللغة -الا من شذ عنهم- ان للغة العرب قياساً، وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض". غير انه قال:"وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا ان نقول غير ما قالوه، ولا ان نقيس قياساً لم يقيسوه، لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائقها، ونكتة الباب ان اللغة لا تؤخذ قياساً نقيسه الآن نحن".
ولابن جني رأي في القياس. قال: "واعلم انه إذا أداك القياس إلى شئ ما، ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشئ آخر على قياس غيره، فدع ما كنت عليه إلى ما هم عليه، فأن سمعت من آخر مثل ما اجزته، فأنت فيه مخير، تستعمل ايهما شئت، فإن صح عندك ان العرب لم تنطق بقياسك انت كنت على ما اجمعوا عليه البتة وأعددت ما كان قياسك أداك اليه لشاعر مولد، أو لساجع، أو لضرورة، لأنه على قياس كلامهم".
والاجماع ان النحو لم يجمع ولم يرتب ترتيباً علمياً إلا في الإسلام، وإلا في ايام العباسيين، حيث ظهر علماء العربية نشاطاً عظيماً في تتبع القواعد واستنباطها من المظان التي اشرت اليها. وقد استقر وثبت، بعد أخذ ورد بين علمائه في المسائل الفرعية التي أثارت الاختلاف فيما بينهم، فكانت ردود وتخطئة بعض منهم لبعض، ثم استقر في كتب تمثل اليوم ثروة قيمة تقدر في هذه اللغة الواسعة الثرية بألفاظها وبقواعدها.
ولا بد في نظري لمن يريد فهم النحو العربي فهماً صحيحاً واضحاً، من دراسة نحو اللغات الجاهلية من عربية جنوبية ومن ثمودية ولحيانية وصفوية ونبطية، لأنها وإن فارقت العربية القرآنية في امور، إلا انها عربية في النهاية، ودراستها تفيدنا فائدة كبيرة في الوقوف على تأريخ تطور عربيتنا والعربيات البعيدة عن الإسلام، وهي كما نعلم من اقدم اللهجات العربية التي افادتنا في تقديم كتابات مدونة في تلك الايام، يعود تأريخ بعض منها إلى ما قبل الميلاد. وقد تحدثت عن نحو اللهجات العربية الجاهلية وعن امور من صرفها في الجزء السابع من كتابي الاول المعروف بتاريخ العرب قبل الإسلام، المطبوع ببغداد.
هذا وقد عثر حديثاً على آثار في أمارة "ابي ظبي" وفي مواضع اخرى من سواحل الخليج، قد تقدم لنا علماً جديداً بلهجات عربية قديمة لا نعرف اليوم من امرها شيئاً، وبذلك يتسع علمنا عن لهجات العرب قبل الإسلام، وقد نستطيع بواسطتها الوقوف على كيفية تطور اللغة العربية القرآنية وعلى حصر المواضع التي كان سكانها يتكلمون بها، أو بلهجات قريبة منها.
بل ارى ضرورة دراسة اللغات السامية للاستفادة من هذه الدراسة المقارنة في فهم خصائص اللغة العربية ولحل بعض مشاكلها في النحو والصرف والالفاظ. وقد بذل-المستشرقون-والحق يقال- جهوداً يشكرون عليها في دراسة هذه اللغات دراسة مقارنة. ولدينا اليوم مؤلفات كثيرة في هذه الدراسة، تعرضت للحروف بنوعيها الصامتة "The consonant sounds" والحروف المتحركة "The vowels "وللضمائر، وللأسماء الموصولة وادوات الوصل، وللأسماء، وللجموع وللأفعال، ولحروف الجر، وغير ذلك من الموضوعات التي تجدها في الكتب التي بحثت عنها.
ومن أهم الموضوعات التي يجب توجيه العناية اليها، موضوع: علم الاموات "Phonology"بالنسبة إلى اللغات السامية، مثل دراسة مخارج الحروف، والحركات، والأمالة، والتفخيم، والاشمام في العربية على وجه خاص، ثم دراسة صرف هذه اللغات "Morphology"، مثل جذور الالفاظ التي يغلب عليها الطابع الثلاثي "Triconsonantal"المكون من الحروف الصامتة، بينما تقل فيها الجذور المكونة من حرفين صامتين أو من اربعة حروف صامتة. ومثل دراسة كيفية تكون الأسماء، وأبنيتها، ودراسة الجنس في هذه اللغات، والعلأمات التي تميز الجنس:المؤنث عن المذكر، ثم العدد:المفرد، والمثنى والجمع، جموع التذكير وجموع التأنيث، وجموع التكسير، ثم الظرف، وحروف الجر، والعطف، ودراسة الافعال بأنواعها، وحالات الجمل، وغير ذلك من أمور تخص علم اللغات.
وقد عالج بعض العلماء موضوعات خاصة من موضوعات النحو والصرف، مثل موضوع الفعل في اللغات السامية. وموضوع الصلة بين العربيات الجنوبية وبين اللغة الحبشية. والصلة بين العربية وبين اللغات السامية الاخرى، أو بين لغة سامية ولغة سامية اخرى من حيث قواعد النحو والصرف.
الشعر والحكم والكهانة والخطابة وأضرابها، هي أهم المظاهر التي تحدد لنا العقلية الجاهلية، وتعطينا فكرة عامة عن العقل الجاهلي.
أما الشعر الجاهلي، فلم يصل الينا من الجاهلية مدوناً قط، وانما وصل الينا مدوناً في الإسلام. وأقصد اننا لم نعثر حتى الآن على أي شئ منه مكتوباً بقلم جاهلي أو محفوراً على نص جاهلي. وكل ما نحفظه ونعرفه من ذلك الشعر، هو مما وصل الينا بنقول الاسلاميين.
وللعلماء، من اسلاميين قدامى ومحدثين، ومن مستشرقين، آراء في هذا الشعر. منهم من يبالغ في اليقين، فيرى ان كل ما وصل الينا منه صحيح، ومنهم من يبالغ في الشك، فيرى ان أكثر ما وصل هو شعر منتحل فاسد موضوع، وضع لأغراض عديدة يذكرونها: دينية وسياسية وجنسية وغير ذلك، ومنهم من يتوسط فيرى أن فيه الصحيح وفيه الفاسد المدسوس، وان من الخير البحث فيه من نواح متعددة ودرسه دراسة علمية حديثة ونقده نقداً علمياً لتمييز صحيحه من فاسده، ولكل فريق حجج وأدلة مدونة، وكتب افردوها، فيها رأيهم وحججهم، اليها استحسن رجوع من يريد الوقوف على تلك الاراء.
ومن الكتب المؤلفة في الأدب الجاهلي، واشتهرت خاصة بين ادباء العربية بنقد الشعر الجاهلي وبتوجيه الشك إلى صحة أكثره، فأثارت لذلك ضجة كبيرة كتاب الفه الدكتور طه حسين في العربية بعنوان:"في الادب العربي". وقد رد عليه أدباء عديدون في مصر وغيرها من البلاد العربية الاخرى. وقد أوضح الدكتور في كتابه العوامل التي حملته عيى تكوين رأيه المذكور في الادب الجاهلي.
وليس مرجع هذا الاختلاف هو في حقيقة وجود شعر جاهلي اصلاً، أو فيعدم وجوده. فوجود شعر للجاهليين، حقيقة لا يشك فيها ابداً، لأن الجاهليين هم مثل سائر الناس، لهم حس ولهم شعور، وما دام الحس موجوداً، فلال بد ان يظهر على شكل شعر أو نثر. وانما الاختلاف هو في هذا الشعر المروي لنا، والمدون في بطون الكتب. هل هو جاهلي حقاً، أو هو منحول فاسد محمول على الجاهليين? أو وسط بين بين، وفي كمية الصحيح منه?، بالنسبة إلى مقدار الفاسد منه? هذا موضع الاختلاف بين العلماء.
وقد وصف القديس "نيلوس" المتوفي حوالي السنة 430 للميلاد غارة بدوية على دير سيناء، وقعت سنة 410م، وتحدث عن تغني الاعراب بأشعارهم وهم يستقون الماء. كما أشار المؤرخ "سوزيموس" إلى تغني العرب بأشعارهم وذلك في المعارك التي وقعت بينهم وبين الروم في حوالي سنة "440م"، وهي اغان نشبه الاشعار التي كان يتغنى بها الاعراب في حروبهم وغزواتهم، مثل يوم ذي قار، والمعارك التي وقعت في فتوح العراق والشام. ولا زال الاعراب يترنمون بالشعر عند غزوهم بعضهم بعضاً، لأن الشعر عندهم سلاح مهم من اسلحة القتال.
ثم ان شعر المخضرمين، هو في حد ذاته دليل على وجوةد شعر سابق جاهلي، فشعر مثل هذا لا يمكن أن يكون قد ظهر فجأة من غير شعر سابق ومن غير شعراء ماضين مهدوا الجادة لمن جاء بعدهم ووضعوا لهم البحور المعروفة، وقد وجدها المخضرمون، فنظموا عليها.
وفي القرآن الكريم سورة تسمى "سورة الشعراء"، وهي تدل على كثرة الشعراء، وعلى تأثر الناس الناس بهم، وعلى تأثير شعرهم في النفوس وتلاعبه بأفئدة الجاهلين. وتجاسر بعض الكفار على الرسول، فوصفوه بأنه شاعر. ووصفه بهذه الصفة دليل على ما كان للشعر من اثر في نفوس القوم. وقد ورد في الحديث: ان الرسول قال: "إن من البيان لسحراً، وان من الشعر لحكماً"، أو ان من الشعر لحكمة. وفي الأخبار انه كان يرفع أناساً ويذل آخرين، وان من الناس من كان يشتري ألسنة الشعراء. وورد في الحديث، ان الرسول ذكر الشعر فقال: "إن من الشعر لحكمة، فأذا ألبس عليكم شئ من القرآن فالتمسوه في الشعر، فأنه عربي". ووردت عنه احاديث أخرى في حق الشعر.
وورد في خبر آخر ان "العلاء بن الحضرمي"، لما وفد على رسول الله، قال له الرسول: أتقرأ شيئاً من القرآن?فقرأ سورة عبس، ثم زاد فيها من عنده: وهو الذي اخرج من الحبلى نسمة تسعى بين شراسيف وحشى، فقال رسول الله كف فإن السورة كافية، ثم قال: أتقوا شيئاً من الشعر? فأنشده: وحي ذوي الاضغان تسب قلوبهـم تحيتك الادنى فقد يدبغ الـنـعـل
فأن دحسوا بالكره فأعف تكـرمـاً وإن اخنسوا عنك الحجديث فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منه استماعه=وإن الذي قالوا وراءك لم يقل فقال النبي: إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكماً.
وورد ان الرسول كان يسأل الصحابة أن يسمعوه شعراً، سأل مرة "الشريد ابن سويد" الثقفي أن ينشده شيئاً من شعر أمية بن ابي الصلت، فأنشده مائة بيت، فقال الرسول:كاد امية بن ابي الصلت أن يسلم، أو ان كاد ليسلم. وكان الرسول يقول: أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد: ألا كل شئ ما خلا الله باطل، أو ان أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شئ ما خلا الله باطل.
وورد أنه استشهد ببيت شعر لطرافة بن العبد، هو: ستبدي لك الايام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالاخبار من لم تـزود
وورد انه جلس في مجلس من الخرزج، فأستنشدهم شعر: "قيس بن الخطيم"، فأنشدوه بعض شعره. وللرواة أخبار عديدة تشير إلى سماع الرسول الشعر والى وقوفه عليه وعلمه به، وأنه كان يكلف الصحابة بأن ينشدوه من شعر الشعراء، وذكر أنه نهى من رواية رثاء "امية بن ابي الصلت" قتلى قريش في معركة بدر، لما فيها من رثاء لمشركين ومن تحريض على الإسلام. وورود أن الشاعر "العباس بن مرداس"، شهد مع النبي حنيناً على فرسه "العبيد"، فأعطاه النبي أربع قلايص، فقال: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع
وكانت نهاباً تلافيتها بكرى عـلـى الـمـهـر فـي الأجـرع
فقال الرسول: اقطعوا عنا لسانه=ولسانه هو شعره وروي عن "عمر" قوله: "نعم ما تعلمته العرب الأبيات من الشعر يقدمها الرجل أمام حاجته فيستزل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم، مع ما للشعر من عظم المزية، وشرف الابية، وعز الانفة، وسلطان القدرة".
وقديماً قال ابن عباس: "إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله، فاطلبوه في الشعر فإنه ديوان العرب". وقيل إنه -أي ابن عباس - ما فسر آية من كتاب الله، إلا نزع فيها بيتاً من الشعر. وروي أن غيره كان يحفظ شيئاً وافراً من الشعر، الشعر المروي عن أناس عاشوا قبل الإسلام وأناس أدركوا الإسلام، وأنهم كانوا يتداولونه ويتطارحونه ويحفظونه لصلته بكل فرد منهم. ففيه أخبار القبائل وأيام العرب وما قيل فيهم من مدح أو ذم، والحق أننا بفضل هذا الشعر حصلنا على كثير من هذا القصص المنسوب إلى أهل الجاهلية، وبفضله عرفنا أخبار الشعراء والقبائل والأيام والحروب، فهو كما قلت في الجزء الأول من هذا الكتاب مورد مهم رئيسي يرد منه المؤرخ في تدوينه تأريخ العرب قبل الإسلام.
ونحن لا نكاد نقرأ قصة من قصص "أيام العرب"، إلا نجد فيها شعراً، ينسب إلى بطل من الأبطال الذين ساهموا فيها، أو من شاعر يذكر قومه أو خصوم قومه أو خصومه بالأيام التي أنتصر فيها على خصومهم. وقد ساعد هذا الشعر على تثبيت تلك الأيام في ذاكرة رواتها، حتى وصلت إلى أيام التدوين فدونت، على نحو ما نقرأها في هذا اليوم.
ثم ان كتب الأدب بأنواعها مملوءة بأخبار المساجلات والمطارحات التي وقعت بين الشعراء قبيل الإسلام وفي أيام الرسول والخلفاء. وقد رويت فيها أشعار وقصائد لشعراء جاهليين، ولشعراء مخضرمين. وقد تحدث معظم المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والاسلام عن ذكرياتهم في الجاهلية، ورورا ما نظموه فيها من أشعار وما وعوه من المناسبات التي نظموا فيها. ثم ان هذه الكتب مملوءة أيضاً بأخبار مجالس سمر تناولت الحوادث والأيام والشعر والشعراء، وفيها نقد ومفاضلات لما ذكر في تلك المجالس من من شعر. وقد روي: ان الرسول كان يجالس أصحابه ويتحدث معهم ويصغي اليهم، ويستمع إلى ما يروونه وما يتذاكرونه من الشعر، وروي: ان الحطيئة، وهو شاعر معروف، كان يتذاكر الشعراء ويحفظ أشعارهم.
وقيل للحسن البصري: "أكان أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يمزحون ? قال: نعم ويقارضون، أي يقولون القريض وينشدونه. والقريض الشعر". وروي أن أصحاب رسول الله، كانوا يتناشدون الأشعار ويذكرون أمر جاهليتهم، وأن رسول الله كان يجالسهم في المسجد، وهم يتناشدون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم. وعن "أبي سلمة": "لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متحزقين و لا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون".
وقد ذُكر أن من الأعاجم من تعلم الشعر العربي ورواه وعشقه، فزعم "أبن الكلبي" مثلاً أن "خُرَّخسرة"، وهو ابن "المروزان"، كان قد تعرب، أعجبته العربية فتعلمها وروى الشعر، وكان والياً على اليمن في عهد "كسرى"، ثم بلغ "كسرى"تعربه، وروايته الشعر، وتأدبه بأدب العرب، فعزله، وولى باذان.
وللشعر أثر خطير في نفوس العرب، كان يهز عواطفهم هزاً، ويفعل فيهم فعل السحر، فلا عجب إذا ما قرن "رؤبة" الشعر بالسحر، وجعله مثله في التأثير لتلك العلة: لقد خشيتُ أن تكون ساحراً رواية مَرَّا ومَرّا شاعـرا
قال "الجاحظ": "وكان الشعر أرفع قدراً من الخطيب، وهم اليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدراً من الشاعر.
وقد بقي أثر الشعر هذا في نفوس الناس حتى بعد زوال الجاهلية ودخول الناس في الإسلام. فكان مدح الشاعر لقوم، من المآثر والمفاخر، وكان ذمه مما يشين ويسيء إلى المهجو. فلما هجا "جرير" "بني نمير" بقوله: فغض الطرف انك من نميرٍ فلا كعباً بلغت و لا كلابـاً
أخذ بنو نمير ينتسبون إلى "عامر بن صعصعة"، ويتجاوزون أباهم نميراً إلى أبيه، هرباً من ذكر "نمير" وفراراً مما وسم به من الفضيحة والوصمة. مع انهم كانوا قبل ذلك إذا سئل أحدهم ممن الرجل فخم لفظه ومدّ صوته وقال: من بني نمير، وكانوا جمرة من جمرات العرب. وكان أحدهم إذا رأى نميرياً وأراد نبزه والإساءة اليه قال له: غمض وإلا جاءك ما تكره، وهو انشاد هذا البيت. وصار الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل ? قال: من بني عامر ! قال الجاحظ: "وفي نمير شرف كثير. وهل أهلك عنزة، وجرماً، وعُكلاً، وسلولَ، وباهلة، وغنياً، إلا الهجاء ?! وهذه قبائل فيها فضلُ كثيرُ وبعض النقص، فمحق ذلك الفضل كله هجاء الشعراء. وهل فضح الحبطات، مع شرف حسكة بن عتاب، وعبّاد بن الحصين وولده، إلا قول الشاعر: رأيت الحُمر من شر المطايا كما الحبطات شر بني تميم
وقد هُجيت فزارة بأكل أير الحمار، وبكثرة شعر القفا. وكان "حذف" الفزاري قد أطعم جُردان الحمار، فقتل الذي أطعمه. وقال: طاح مرمقه، فذهبت مثلاً. ففزارة تعير بذلك إلى اليوم. قال الشاعر: إنّ بني فـزارة بـن ذبـيان قد سبقوا الناس بأكل الجُردان
وقال آخر: أصيحانـية عُـلّـت بُـزد أحب اليك أم أير الحمار ?
وبين الشعر والسحر صلة، حتى ذهب بعض الباحثين في الشعر إلى أن الشعر هو فن من الفنون التي كان يمارسها السحرة في التأثير في مشاعر الناس، إذ كانوا يتخذونه وسيلة من وسائل التأثير في النفوس، لما يستعملونه فيه من كلام مؤثر ساحر يترك أثراً خطيراً في نفس سامعه. ولهذا عدوّا السحرة في جملة أوائل من كان ينظم الشعر من القدماء، كما ذهب بعض الباحثين إلى أن الشعراء كانوا "أهل المعرفة" والفهم، لما كان لهم من ذكاء وصفاء ذهن في فهم تجارب الحياة، وفي نظم خلاصة تلك التجارب على شكل علم أو حكم تفيد في التهذيب وفي التوجيه وفي وعظ الناس، ولهذا كان لهم رأي في السياسة في السلم وفي الحرب.
وفي كتب الأدب والأخبار أمثلة كثيرة عن أثرالشعر في القبائل وفي الأشخاص من مدح وذمّ، يرينا كيف كان العرب يتأثرون به، وكيف كان يلعب دوراً خطيراً في حياتهم، والعرب قوم عاطفيون، تلعب العاطفة دوراً خطيراً في حياتهم، وما الشعر إلا نتيجة لهذا الطبع المتوارث في العربي. وقد كان أثر الشعر في المغازي وفي الحروب أثر السيف في الخصوم، يحرض المقاتلين على الاستبسال في القتال. ولما وقعت الوقائع بين المسلمين والفرس، لعب الشعر والنثر دوراً خطيراً فيها، ففي يوم "أرماث" مثلاً، أرسل سعد إلى قادة الكلام، من رجال النثر والشعر، يدعوهم إلى استخدام سلاحهم في هذه المعارك، فكان ممن حضر عنده: "طليحة"، و"قيس بن هبيرة" الأسدي، و"حذيفة"، و"غالب"، و"عمرو بن معد يكرب"، و"ابن الهذيل" الأسدي، و"عاصم بن عمرو"، و"ربيع بن البلاد" السعدي، و"ربعي بن عامر" وهم من الخطباء، و"الشماخ"، و"الحطيئة"، "أوس بن مغراء"، و"عبدة بن الطيب " وأمثالهم، وهم من الشعراء، فلما تجمعوا، قال لهم "سعد": "قوموا في الناس بما يحق عليكم ويحق عليهم، عند مواطن البأس، فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم، فسيروا في الناس، فذكروا وحرضوهم على القتال". فالشعر سلاح ماضٍ عند العرب، مثل الأسلحة الأخرى وربما كان أمضى منها أثراً في نفوسهم لما كان يفعله فيهم، وكذلك النثر من أثر في النفوس يحملهم على الإقدام وعدم التهيب من الموت.
ونحن لا نعرف حرباً أو غزواً وقع للعرب، ثم لم يقترن خبره بشعر أو بأبيات منه، فقد كان المحاربون، يحاربون خصومهم بألسنتهم وبسيوفهم وبسهامهم ورماحهم في الوقت نفسه، وقد رأينا أنه قد كان للشعر الفضل الأكبر في كثير من الأحايين في حفظ أخبار الحروب وبقاء ذكرها إلى هذا اليوم. ونستطيع القول بأن قسطاً كبيراً من الشعر الجاهلي، هو من شعر القتال. ولذلك نستطيع جعله صنفاً قائماً بذاته نسميه شعر القتال والحروب.
ومن هذا الأثر الذي كان يعرفه الشعراء حق المعرفة، كانوا يستعلون ويترفعون به عن غيرهم، كتب "هوذة بن عليّ" الحنفي، إلى النبي يجيبه على رسالته التي أرسلها اليه: "ما أحسن ما تدعو اليه واجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والهرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك"، فهو شاعر قومه وخطيبهم، وله مكانة فيب العرب، فهو يرى ان مايميز عن غيره بميزات تمنح له، وكان الشعراء يمنّون على قومهم بأنهم ألسنتهم المخرسة الناطقة المهاجمة المدافعة، فهم من الطبقة المثقفة الممتازة التي حظيت بالتقدير ونالت الاحترام، بسبب قدرة اللسان، وأثر الشعر في الناس.
و لا زال الشاعر ينال مكانة محترمة عند أهل الحضر وعند أهل الوبر، فهو لسان القبيلة حتى اليوم، يدافع عنها، ويهجو أعداءها، ويرّد على شعراءها، ويشيد بفعال قومه. وللهجاء عندهم مكانة، إلا انها أخذت تتزلزل عن مكانها، بفعل التحضر الذي أخذ يغزو البوادي، وتغير العقلية، وعدم الاهتمام بالقيل والقال، مما أثر على مكانة الشعر والشاعر أيضاً، فلم يعد الناس يخشون لسان الشاعر، كما كانوا يخشونه أيام الجاهلية، يوم كانوا يسترضون الأعشى والحطيئة، خوفاً من لسانيهما السليطين.
ويطلق على الشعر الذي قيل قبل الإسلام: الشعر الجاهلي، لأنه قيل في الجاهلية التي شرحنا معناها في الجزء الأول من هذا الأول من هذا الكتاب، وأصحابه كلهم ممن عاشوا وماتوا قبل الإسلام. أما الذين أدركوا الإسلام وأسلموا، فهم الشعراء المخضرمون لأنه أدركوا عهدين، فعاشوا ردحاً من عمرهم في الجاهلية، وقضوا البقية الباقية من حياتهم في الإسلام.
واذا قلنا الشعر الجاهلي، أو شعر الجاهليين، فلا نريد أو يريد أحد منا الغض من شأنه، أو الحط من قدره، فإننا على العكس، نجد علماء الشعر والأدب، يرفعون من قدره، ويرون انه الأوج الذي بلغه العرب في الشعر، و لاسيما الشعر المختار منه مثل المعلقات، فقد بلغ القمة في نظرهم، وقد بلغ من تقدير بعضهم للشعر الجاهلي، انهم كانوا "أحياناً يذهبون بعيداً في تدقيقهم إلى حد التهوين من قيمة شاعر لا يمكن إنكار تفوقه، لمجرد أن ولادته كانت بعد ظهور الإسلام".
وروي أن عمر قال: "الشعر علم قومٍ لم يكن لهم علمُ أعلم منه" وأنه كتب إلى "أبي موسى الأشعري": "مُر مَنٌ قِبلَك بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب". ولقد قال الجاحظ: "وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها، وعلى أن الشعر يُفيد فضيلة البيان، على الشاعر الراغب، والمادح، وفضيلة المأثرة، على السيد المرغوب اليه، والممدوح به". وقال العسكري: "لا تعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملة أشعارها، فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها"، والشعر هو ديوان تسجيل من لا تسجيل له، لجأت اليه الشعوب القديمة حين لم تعرف الكتابة، ليقوم مقام الكتابة في تخليد المآثر والأحداث وما يستجد لها من أمور عظام، بما فيه من أثر على القلب، ومن نغم يساعد على الحفظ، فقام الشعر عند العرب مقام الكتابة، قبل أن تتفشى الكتابة بينهم.
والواقع ان هذا الشعر الجاهلي قد أفاد المؤرخ الباحث في تأريخ الجاهلية فائدة لا تقدر بثمن، وربما زادت فائدة هذا الشهر من الوجهة التأريخية على فائدته من الوجهة الأدبية، لأنه حوى أموراً مهمة من أحداث العرب الجاهليين، لم يكن في وسعنا الحصول عليها لولا هذا الشعر.
ولكن كثيراً من هذا التراث الذي أريد تخليد عمل العرب به قد ضاع، قبل الإسلام، بسبب عدم تدوينه وتخليده في كتاب واعتماد الناس في روايته على الحافظة وحدها، والحافظة لا تحفظ المحفوظ لأمد طويل، فضاع منه ما ضاع، ووصل بعض منه بصورة يرتاب منها، وآفة كل ذلك هو الموض الذي يصيب الذاكرة: مرض النسيان. "قال ذو الرمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري ؛ فالكتاب أحب إليّ من الحفظ. لأن الأعرابي ينسى الكلمة وقد سهر في طلبها ليلته، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى و لا يبدل كلاماً بكلام".
والشعراء الجاهليون كثيرون، ونجد في كتب اللغة والمعاجم، أسماء شعراء، لم يرد لهم خبر في موارد أخرى، ذكروا لمناسبة الاستشهاد بشعرهم، ونجد في كتب السير والرجال أسماء رجال لهم شعر، لم يرد اسمهم في كتب الشعر. قال "ابن قتيبة": "والشعراء بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والاسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفذ عمره في التنقير عنهم ؛ واستفرغ مجهوده في البحث و السؤال. ولا أحسب أحداً من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر الا عرفه، ولا قصيدة الا رواها".
و أنت إذا قرأت بعض الكتب مثل كتاب: "الاشتقاق"، و"المحبر"، وكتب المجالس والأمالي والشواهد، تجد أمامك أسماء عدد كثير من الشعراء الجاهليين، لم يرد اسمهم في كتب الشعر الجاهلي، ولم يحفل بهم علماء الشعر مع انهم كانوا في أيامهم من الشعراء المعروفين، وقد نص على انهم كانوا من الشعراء.
ولا أجد في كلام قدماء العلماء القائل ان الذي وصل الينا من أمر الشعر الجاهلي والشعراء الجاهليين، هو قليل جداً من كثير جداً من كثير جداً، وأن الذي فات عن علم العلماء من أمر الشعراء الجاهليين أكثر بكثير مما بقي، أية مبالغة أو تهويل، لأننا نجد في الموارد التي تتحدث عن الصحابة أو عن الأخبار، أسماء رجال كانوا شعراء، لا نجد لها وجوداً في كتب الشعر، ثم ان علماء الشعر أنفسهم يعترفون في كتبهم ودفاترهم، انهم لم يدونوا من أسماء الشعراء الا من اشتهر أمره و عرف بغزارة شعره، أما من كان دون هؤلاء، فأنهم لم يتحرشوا بهم، اذ لو تعرضوا بهم لاحتاجوا إلى تدوين كتب ضخمة في الشعر و الشعراء. اضف إلى ذلك موت ذكر كثير من الشعراء، بسبب عدم وجود التدوين قبل أيام التدوين و عجز الذاكرة عن المحافظة على أسماء الشعراء و على شعرهم إلى أمد طويل. ثم ان الشعر سليقة عند العرب، وبديهة، وقلما نقرأ اسم رجل من أهل الجاهلية، الا وقد نسب له أهل الأخبار البيت أو البيتين، أو أكثر من ذلك من الشعر.
ونحن لا نذكر هنا من الشعراء الا من نبه منهم، وترك أثراً في الأدب العربي إلى يومنا هذا.
وقد جرت العادة بأن يدرس الشعر الجاهلي على أسلوب الجادة القديمة، بالاعتماد على الروايات المدّونة عنه في الموارد الاسلامية القديمة، وهي روايات لاقت رواجاً كبيراً بين المعنيين في الشعر الجاهلي، حتى صارت في درجة القضايا البديهية المسلم بصحتها، مع أنها في الواقع أخبار آحاد، وردت في كتب اسلامية قديمة نقلها عنها المؤلفون المتأخرون عن المؤلفين القدماء. مع أن الصحيح هو في وجوب درس الشعر الجاهلي، على ضوء شعر المخضرمين والشعراء الاسلاميين الذين عاشوا في صدر الإسلام، وعلى ضوء الدراسات المعروفة عن الشعر عند الساميين، مثل شعر السريان الذي يأخذ أيضاً بالوزن والقافية وله مصطلحات قديمة في الشعر تعود إلى ما قبل الإسلام، ثم الشعر العبراني والشعر البابلي وشعر بقية الساميين.
وفي دراسة شعر القبائل الحاضرة المنزوية في جزيرة العرب، فائدة كبيرة في تشخيص الشعر الجاهلي، لأنها-ولا سيما القبائل القابعة في العربية الجنوبية- لا زالت تنظم الشعر متاثرة بالقوالب القديمة وببحور جاهلية لم يحفل بها "الخليل" أو أنه لم يقف عليها، ففات أمرها على العلماء، وعدت من الشعر العامي المبتذل. الذي لا يليق بالعالم المتزن أن يحفل به. وقد تفيدنا دراسة شعر القبائل العربية ن الناطقة بلهجات بعيدة عن عربيتنا بعض البعد، فائدة كبيرة في الحكم على طبيعة ونوع الشعر عند العرب الجنوبيين قبل الإسلام، فألسنة هذه القبائل هي من وحي الألسنة العربية الجنوبية الجاهلية، و نظم الشعر بها بأسلوب خاص وببحور متميزة، هو دليل قاطع على وجود الشعر عند العرب الجنوبيين، وهو شعر لا نعرف اليوم من أمره أي شئ، لعدم وصول نماذج مدّونة منه الينا حتى الآن، ولعدم اهتمام العلماء القدامى به، لاختلافه عن عربية القرآن الكريم، وفي الشعر اليماني القديم الذي نجد نماذج منه في المؤلفات اليمانية، مثل مؤلفات "الهمداني"، فائدة في تشخيص الشعر اليماني الجاهلي، وان كان هذا الشعر قد صيغ وفقاً للشعر العربي القرآني، بفعل دخول أهل العربية الجنوبية في الإسلام، و أخذهم بلغة القرآن الكريم. و لا استبعد احتمال ترك علماء الشعر و اللغة كثيراً من الشعر الجاهلي، لأنه شعر لم ينظم وفق عربية القرآن الكريم أو وفق البحور "الكلاسيكية" المعروفة التي اعتبرت الصور الرغفيعة لبحور الشعر العربي الصحيح، نبذوه لأنه كان في أعينهم من الشعر العامي المبتذل الذي لا يليق بالعالم المدقق توجيه عنايته اليه، على نحو ما فعلوه بالنسبة إلى اللهجات العربية الأخرى التي كانت تختلف عن العربية المألوفة التي أخذوها من أفواه القبائل التي اعتبروا لسانها هو اللسان العربي الفصيح، و أما ما سواها فألسنة رديئة لا يؤخذ بها و لا يحتج بما ورد فيها من نثر أو نظم.
?خبر شعراء الجاهلية
وقد حصلنا على أسماء الجاهلية من الموارد الاسلامية، فقد ذكرت ان النصوص الجاهلية لم تتعرض لأمر الشعر الجاهلي ولا للشعراء الجاهليين. ونجد أسماء هؤلاء الشعراء في مختلف الموارد، في كتب الأدب و في ضمنها دواوين الشعر، و في كتب النثر الباحثة عن الشعر، وفي كتب التفسير والحديث واللغة والمعاجم، بل وفي الشعر الجاهلي كذلك، اذ ذكر بعض أسماء الشعراء. ونجد في شعر بعض الشعراء الذين ظهروا في العصر الاموي أسماء جاهليين، فنجد في شعر للفرزدق أسماء شعراء جاهليين، اذ يقول: وهب القصائد لي النوابغ اذ مضوا وأبو يزيد و ذو القروح و جرول
والفحل علقمة الذي كـانـت لـه حلل الملوك كلامـه لا ينـحـل
وأخو بني قيسٍ وهن قـتـلـنـه ومهلهل الشـعـراء ذاك الأول
والأعشيان كلاهمـا ومـرقـش وأخو قضاعة قولـه يتـمـثـل
وأخو بني أسد عبـيدُ إذ مـضـى وأبـو دوُاد قـولـه يتـنـخـل
وابنا أبي سلمى زهـير وابـنـه وابن الفريعة حين جدّ المـقـول
والجعفري وكان بشـر قـبـلـه لي من قصائده الكتاب المجمـل
ولقد ورثتُ لآل أوسٍ منـطـقـاً كالسم خالط جانبيه الحـنـظـل
والحارثي أخو الحمِاس ورثـتـه صدعاً كما صدع الصفاة المعول
ونجد في شعر "جرير" الذي نقض على الفرزدق قصيدته المذكورة، وفي شعر "سراقة" البارقي، ذكراً لأسماء بعض الشعراء الجاهليين إذ يقول: ولقد أصبت من القريض طريقةً أعيت مصادرها قرين مُهلهـل
بعد امرئ القيس المُنوّه باسمـه أيام يَهٌذي بالدخول فحـومـل
وأبو دُواد كـان شـاعـر أمةٍ أفَلَتٌ نجومهم ولـمّـا يأفـل
وأبو ذؤيب قد أذل صعـابـه لا ينصبك رابض لـم يذلـل
وأرادها حسان يوم تعرضـت بردى يصفق بالرحيق السلسل
ثم ابنه من بعده فتمـنـعـت وإخالُ أن قرينه لـم يخـذل
وبنو أبي سُلمى يقصر سعيهـم عنّا كما قصرت ذراعاً جَرول
واذكر لبيداً في الفحول وحاتماً=يلومك الشعراء إن لم تفعل ومُعقِّرا فاذكر وإن ألـوى بـه ريب المنون وطائر بـالأخـيل
وأمية البحر الذي في شـعـره حكم كوحي في الزبور مُفصل
واليذمري على تقـادم عـهـده ممن قضيتُ له قضاء الفيصـل
واقذف أبا الطحمان وسط خوانهم وابن الطرمة شاعر لم يُجهـل
لا والذي حجت قـريش بـيتـه لو شئت إذ حدثتكـم لـم آثـل
ما نال بحري منهم من شـاعـرٍ ممن سمعت به ولا مستعجـل
وجمع رواة الشعر شعر الشعراء الجاهليين وأخبارهم من موارد متعددة، من الشعراء انفسهم، مثل الحطيئة الذي ادرك الإسلام، ومثل حسان وبقية الشعراء، وبما حفظوه من شعرهم، وبما استحسنوه من اشعارهم، كما مونوهم بأخبارهم التي بقيت عالقة في اذهانهم عن الجاهلية، وعن ايامهم في الإسلام. كما جمعوا اخبارهم من أبناء الشعراء الجاهليين ومن ذوي رحمهم وآلهم، ونجد في كتب الأخبار والأدب أخباراً كثيرة من شعراء جاهليين، نقلها الرواة من ابناء أولئك الشعراء، أو من ذوي قرابتهم، فقد جاء قسط كبير من شعر الشاعار "تميم ابن مقبل" عن ابنته أم شريك، وجاء جزء من شعر "حاتم" وأخباره عن ابنه "عدي".
وأخذ الرواة شعر الشعراء الجاهليين من قبائلهم كذلك، فقد كان القبيلة من يحفظ شعر شعرائها أو شعر البارزين منهم. وقد رأينا كيف استعزت تغلب بقصيدة "عمرو بن كلثوم"فكانت ترددها دوماً حتى عيبت على ذلك، وكان في القبائل الاخرى من حفظ شعر شعرائها، ونجد كتب الأدب والأخبار تنص على اسمائهم، فتذكر اسم الشخص، وتنص على اسم قبيلته، وقد تذكر جملاً مثل "سمع أشياخاً من طئ"، أو "حدثني الطائيون"، وأمثال ذلك، من جمل تنص على أسم المورد الذي استقى منه الرواية خبره أو شعر الشاعر من القبيلة.
كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة "276ه"، اسماء شعراء جاهليين، وقد أخذا علمهما بهم ممن تقدم عليهم فألف قبلهم في موضوع الشعر والشعراء، ودون "اليعقوبي" في تأريخه جريدة بأسماء شعراء العرب، وقد جعل أولهم "امرئ القيس"، وذكر "النابغة" الذبياني بعده، وانتهى بالمخضرمين، ولكنه لم ينص على اسم المورد الذي أخذ تلك الاسماء منه.
ولا نجد بين أسماء الشعراء الجاهليين اسم شاعر واحد نظم شعره وعاش في العربية الجنوبية أو نظم بلهجة متأثرة باللهجات العربية الجنوبية، فأكثر من ذكروهم من الشعراء انما هم من الشعراء الذين قضوا أكثر حياتهم خارج العربية الجنوبية، وقد كان في هذه العربية شعراء ولابد، فليس من المعقول خلوها من الشعر والشعراء، ولكن علماء العربية لم يعتنوا إلا بشعراء القبائل التي احتكوا بها والتي أخذوا العربية عنها، والتي اعتبروا لسانها من افصح ألسنة العرب، فضاع بسبب ذلك شعر القبائل التي كانت بعيدة عنهم أو التي كان لسانها بعيداً بعض البعد عن العربية التي ارتضوها والتي نزل بها القرآن الكريم.
ولا نجد في الشعر الجاهلي الواصل الينا شعراً نظم في أغراض دينية وثنية، أي في عبادات القوم قبل الإسلام، اللهم إلا ما نسب إلى بعض الشعراء الأحناف من شعر فيه تحنف، وإلا ما نسب إلى بعض آخر من شعر فيه اشارات عابرة إلى عقائد يهودية أو نصرانية. أما شعر وثنى خالص، من شعر فيه ترنيم بالأصنام والأوثان، وتحميد لها وتقديس، أو وصف لطقوس دينية وثنية، فهو شعر لم يصل الينا منه شئ، وسبب عدم وصوله الينا هو الإسلام، الذي اجتث ما يمت إلى الوثنية بصلة قريبة، وقضى عليه، فأمتنع المسلمون من رواية هذا النوع من الشعر.
الشاعر
والشاعر متعاطي الشعر ومحترفه ومن يقوله، أو يكثر القول منه. ذكر علماء اللغة أنه أنما سمي شاعراً، لأنه يشعر ما لا يشعر غيره، أي يعلم، أو لفطنته.
ومن هنا قال البعض ان الشعراء في الجاهلية كانوا أهل المعرفة، يعنون أنهم كانوا من اثقف أهل زمانهم، وأنهم كانوا على مستوى عال في الفكر والرأي وفي فهم الامور.
وجعلوا للشعراء مزايا، ومنحهم العلماء امتيازات خاصة، وقالو عنهم: "الشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدون المقصور، ويقدمون ويؤخرون، ويؤشرون ويشيرون، ويختلسون ويعيرون ويستعيرون. فاما لحن في إعراب، أو أزالة كلمة عن نهج صواب، فليس لهم ذلك".
وفي كتب أهل الأخبار أخبار تدل على اعتداد الشعراء بأنفسهم من ناحية الرقي العقلي، وعلى تقدير الناس لمدارك الشعراء. جاء أن "الطفيل الدوسي قدم مكة ورسول الله بها، فحذره رجال من قريش من سماع النبي حتى لا يتأثر بقوله. قال الطفيل: فما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئاً، ثم قلت في نفسي: واثكل أمي! والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني من ان أسمع هذا الرجل ما يقول? فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وان كان قبيحاً تركته"، وجاء في خبر اخر، "ان الطكفيل لما قدم مكة، ذكر له ناس من قريش أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وسألوه أن يختبر حاله فأتاه فأنشده شعره، فتلا النبي الاخلاص والمعوذتين فأسلم". وفي هذا الخبر ان صح دلالة على تقدير الناس لفطنة الشاعر ولسمو مداركه. وقد رأينا ما كتبه "هوذة بن علي" الحنفي، للرسول من انه شاعر قومه وسيدهم، ونجد في خبر "جلاس بن سويد" الصامت الانصاري، أن قومه اتوا عليه "فقالوا: إنك امرؤ شاعر..."، وفي هذه الاخبار وغيرها دلالة على ان الشعراء كانوا يرون أنفسهم فوق الناس في الفطنة والفهم، وأن الناس كانوا يرون هذا الرأي فيهم، لما يجدونه فيهم من فطنة وذكاء.
ولا يعني هذا ان الشعراء كانوا كلهم من أرقى الناس عقلاً، ومن افهم الناس ادراكاً، ومن اعلمهم بالأمور وابصرهم بالمعرفة، فبينهم ولا شك تفاوت في الادراك، وفي مجتمعهم من هو أرقى منهم عقلاً وأكثر منهم ادراكاً، وهم مع ذلك لا يقولون الشعر أو لا يمارسونه، مثل الحكام والكهنة وأصحاب الآراء. وانما الشعر، ملكة لا تكون إلا عند صاحب حس مرهف ولا تظهر الا في انسان ذكي فطن لبيب، يذل الالفاظ والابيات، لتنصاع لإرادته، فيخرجها أبياتاً وقصائد تعبر عن مشاعره ومداركه. فالشاعر من هنا من اذكى الناس، ومن أهل الإدراك والمعرفة.
والشعراء ككل البارزين من طبقات مختلفة تباينت في السويات، منهم من نبت من عائلة شريفة، ومنهم من نبت من عائلة أعرابية، ومنهم من نبغ من بيت فقير. وقد سمي أهل الاخبار شعراء بأسمائهم كانوا من اشراف قومهم، وسموا شعراء كانوا من اوساط أقوامهم، أو من النابتة. فالنبوغ لا يختص بجماعة دون جماعة، ولا بطبقة دون طبقة.
وشعر الشاعر دليل على عقليته ومقدار مداركه، ولهذا تباين واختلف، فنجد في شعر شعراء البادية الروح الاعرابية والخشونة تتجسم في المعاني وفي الالفاظ، ونجد في شعر الحضر اثر النفس الحضرية، ونرى في شعر الجوابين القاصدين للملوك، والذاهبين إلى الحضر والاعاجم، أثر اختلاطهم بهم في شعرهم، كما هو في شعر الاعشى.
والشعراء الجاهليون، هم من قبائل متعددة ذات لهجات وحروف في الكلام مختلفة، ولكننا نرى أن لغة شعرهم وطريقة نظمهم واحدة، لا فرق فيها بين قحطاني وعدناني، ولا بين شاعر من عرب العراق أو بلاد الشام وشاعر من أهل اليمن أو الحجاز أو نجد. ومعنى هذا ان الشعراء كانوا إذا نظموا شعراً، نظموه ببحور معروفة مقررة، وبلغة عالية، سمت فوق لهجات القبائل، على نحو ما نفعل في الزمن الحاضر من استعمال لغة عربية فصيحة هي لغة القرآن الكريم في النظم والنثر والاذاعة وما شابه ذلك من وسائل الايضاح والاعلان، ومن استعمال لهجات محلية في الحياة اليومية الاعتيادية في مثل البيت والسوق والتفاهم بين الناس.
ولكن هذا لا يعني أن الشعراء لم يكونوا ينظمون الشعر بألسنتهم القبلية، ووفق وقاعد منطقهم، فقد ثبت من اقوال علماء الشعراء، ومن اخبار أهل الاخبار ان الجاهليينه كانوا ينظمون بلهجاتهم، وكان نظمهم مفهوماً عند غيرهم، وقد تحتاج الاذن إلى تأمل وتفكير، لإدراك كلمات ومعاني ذلك الشعر. قال "ابن هشام" في شرح الشواهد: "كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم بمقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن ههنا كثرت الروايات في بعض الابيات". فالشاعر التميمي، ينظم بلهجته، والشاعر الاسدي ينظم بلهجة بني اسد قومه الذين ولد بينهم، والشاعر الثقفي ينظم بلهجة ثقيف، ولكنه إذا انشده في غير قومه، فهم وعرف معناه، وان احتيج إلى ترقيع أو تعديل في بعض الاحيان.
ودليل ما اقول: هو ما نجده في شعر الشواهد من اظطراب في القواعد، وخروج على اصول النحو والصرف، وورود ألفاظ في الشعر الجاهلي دعاها علماء اللغة غريبة أو وحشية، أو ألفاظ خاصة ذكروا انها وردت في شعر الشاعر، لأنها من ألفاظ قبيلته، التي انفردت بها دون سائر القبائل، ولو كان نظم الشعر بغير لغة القبائل، لما شاهدنا فيه هذه الخصائص اللسانية التي وجدها علماء اللغة في شعر بعض الشعراء، ولجاء الشعر كله بلا خصائص قبلية وبلا ألفاظ غريبة، أما وقد صقل العلماء الشعر وحسنوا في بعض الفاظه، ونقحوا منه ما نقحوه، فإن ذلك دليل في حد ذاته على ان الشعراء كانوا ينظمون الشعر بألسنتهم، وهي غير متباينة تبايناً كبيراً، فلما ظبطه العلماء، ودونوه، هذبوا ما شذ منه وفق القواعد التي تثبت في الإسلام. ففي الاخبار أن رواة الشعر، كانوا يجرون تغييراً في نصوص الشعر، لتحسين الشعر وتصليحه، فقد رووا أن "الاصمعي" رفع لفظة "زندية" من هذا البيت المنسوب إلى "امرئ القيس": رب رام من بني ثعـل مخرج زنديه من ستره
فجعله كفيه، ورووا اجراء اصلاحات أخرى، أدخلها علماء اللغة على شعر امرئ القيس وغيره، اقتضتها قواعد الاعراب أو البلاغة والبيان.
ونجد في رسالة الغفران ملاحظة طريفة عن التغيير الذي كان يجريه "المعلمون" في نصوص الشعر، فقد تصور ان "امرئ القيس" قد سئل عن كيفية وجود "الزحاف" في شعره، ثم اجالب على لسانه بقوله: "فيقول امرؤ القيس: أما أنا فما قلت في الجاهلية إلا بزحاف: لك منهن صالحٍٍ
وأما المعلمون في الإسلام، فغيروه على حسب ما يريدون.
وورد ان رواة الشعر كانوا ينقحون حتى في شعر الشعراء الاسلاميين، وحجتهم في ذلك ان "الرواة قديماً تصلح من أشعار القدماء". وقد يقوم بذلك رواة الشاعر نفسه. وورد ان رواة الفرزدق كانوا "يعدلون ما انحرف من شعره" وان رواة جرير، فعلوا مثل فعلهم في إصلاح شعر صاحبهم.
والتصحيح المذكور، وان كان جزئياً، تناول الفاظاً في الأكثر، لكنه في الواقع تحريف وتزييف، وتغيير للنصوص وتبديل لها، حرمنا من الوقوف على قواعد اللهجات العربية عند الجاهليين، بسبب ان المعدلين المصححين، لم يشيروا في كثير من الاحايين إلى المواضع التي غيروا وأجروا التصحيح فيها، ولو فعلوا ذلك، لكان الأمر علينا سهلاً هيناً، إذ يكون في وسعنا إرجاع الأمور إلى نصابها والوقوف على النصوص، وإن كان علملهم هذا هو عمل مخالف للذمة وللحق، حتى في هذه الحالة، لأن من قواعد الأمانة وجوب المحافظة على الاصل.
وعندي ان اللغة التي نظم بها الشعر الجاهلي هي لغة الأعراب، وهي اصل اللغة العربية، ولغه أهل البوادي والقرى التي غذتها البادية بالسكان. ولهذا قال "الجاحظ": "ومن تمام آلة الشعر أن يكون الشاعر أعرابياً"، دلالة على ما ببلادية والبداوة من صلة به. ولهذا أيضاً جعل العلماء مقياس الشعر أن يكون عربياً بألفاظ نجدية، أي اعرابية خالصة، وهذه العربية كانت تمتد فتشمل لغة أعراب بادية الشام، بما في ذلك قرى الفرات العربية، التي جاء سكانها العرب من البادية. ولهذا ايضاً حفلوا بالشعر الصلب الصلد، المنظوم بألفاظ بدوية صميمة تمثل الغلظة والشدة والمتانة، ولم يميلوا إلى شعر شعراء أهل القرى، لأنه شعر سهل سلس، خال من صلابة البوادي ومن غلظة الشعر الاعرابي.
وشعراء الجاهلية بعد، إما شعراء ظهروا بين أهل الوبر، فهم شعراء أعراب يمثل شعرهم نفس البادية، وطبيعة البداوة وعقليتها، وإما شعر أهل المدر وهم الحضر، المستقرون، وسكان القرى. ولشعر شعرائهم طابع خاص يمثل الطبيعة الحضرية حسب درجاتها ومراتبها واختلاط أهلها بالاعاجم، أو انعزالهم في مستوطنات حضرية ظهرت في البادية. فمن سافر من شعرائهم واختلط بالاعاجم، وشاهد بلاد الشام والعراق، تأثر بما شاهده، فبان ذلك الاثر في شعره، كما يظهر ذلك في شعر الاعشى، وعدي بن زيد العبادي، وأمية بن أبي الصلت.
وطبيعي أن يكون بين الشعراء تنافس وتحاسد وتقديم وتأخير وتفضيل. وفي كتب الأدب أمثلة على منافرات ومناظرات جرت بين شعراء، لبيان رأيهم في شعر شعراء آخرين. وطبيعي أيضاً أن يكون بين شعراء الجاهلية كالذي وقع في كل زمان ومكان، شعراء فحول، وشعراء دونهم في المنزلة والدرجة وفي القدرة في الشعر.
وذكر أن الشعراء الجاهلية كانوا يتفاخرون بعضهم على بعض، ويتعارضون في قول الشعر، يومالطون. والممالطة: أن يقول رجل نصف بيت ليتمه الاخر، ويقال لذلك التمليط، وأن يتساجل الشاعران فيصنع هذا قسيماً وهذا قسيماً، لينظر أيهما ينقطع قبل صاحبه، وهو نوع من التفاخر والتنافر والتعجيز وإظهار النفس بالتغلب على المنافس.
وللشعراء بعد منازل في قول الشعر، فمنهم الشاعر الفحل، الذي لا يبارى، ذكر أنهم كانوا لا يسمون الشاعر فحلاً، إلا إذا كانت له حكمة. ومنهم الشاعر الخنديد. والخنديد: الفحل، والشاعر المجيد المفلق، وتطلق اللفظة ايضاً على الخطيب البليغ المفوه المصقع وعلى العالم بأيام العرب وأشعارهم. وقيل: الشاعر الخنديد، هو الذي يجمع جودة شعره في رواية الجيد من شعر غيره. والمفلق، هو الذي لا رواية له، إلا أنه مجود كالخنديد في شعره، وقيل: هو الذي يأتي في شعره بالفلق، وهو العجب. ثم يليه الشاعر فقط، وعرفوا الشاعر، انه الذي لم ينعته علماء الشعر بنعت نمن هذه النعوت ومن كان فوق الردئ بدرجة. وأما الشعرور، فهو لا شئ، والشويعر، هو من كان دون الشاعر في الشعر. ويذكرون ان الشعراء أربعة. ذكروا في شعر، ينسبه بعضهم إلى الحطيئة، هو: الشعراء فأعلـمـن أربـعة فشاعر لا يرتجى لمنفـعة
وشاعر ينشد وسط العمـعة وشاعر اخر لا يجري معه
وشاعر يقال خمر في دعه
وقالوا: رابع الشعراء، ازدراء وتحقيراً: يا رابع الشعراء كيف هجوتني وزعمت أني مفحم لا أنطـق
وقسم بعض العلماء الشعراء: ثلاث طبقات:شاعر وشويعر، وشعرور. وروا: أن امرأ القيس بن حجر أطلق لفظة "الشويعر" على "محمد بن حمران بن ابي حمران"، وهو ممن سمي محمداً في الجاهلية، وهو شاعر قديم، فقال فيه: أبلغا عني الشويعر أني عمد عين نكبتهن حزيما
فسمي بهذا البيت الشويعر: قال "الجاحظ": "والشعراء أربع طبقات. فأولهم:الفحل الخنديد. الخنديد هو التام. قال الاصمعي: قال رؤبة: الفحولة هم الرواة. ودون الفحل الخنديد الشاعر المفلق، ودون ذلك الشاعر فقط، والرابع الشعرور. ولذلك الاول في هجاء بعض الشعراء: يا رابع الشعراء كيف هجوتني وزعمت أني مفحم لا انطـق
فجعله سكيتاً مخلفاً ومسبوقاً مؤخراً.
وسمعت بعض العلماء يقول:طبقات الشعراء ثلاث: شاعر، وشويعر، وشعرور. قال: والشويعر مثل محمد بن حمران بن أبي حمران، سماه بذلك أمرؤ القيس بن حجير".
ويظهر من القول المنسوب إلى "رؤبة"، ان الشعراء الرواة، كانوا في نظره ارفع منزلة من بقية الشعراء، ولعل ذلك بسبب طول حفظهم للشعر، مما أكسبهم علماً وخبرة ومراناً به، فصارت صياغتهم له أعلى من صياغة الشعراء الذين لم يكونوا يحفظون شعر غيرهم من الشعراء، ولم يكن لهم علم بأسايب غيرهم من الشعراء. فبسبب الحفظ، طوعوا الشعر والكلم وركبوا ظهره بكل سهولة، حتى صار طوع أيديهم.
والتقسيم المذكور هو تقسيم اسلامي، كما ان تقسيمهم الشعراء إلى سبع طبقات هو تقسيم اسلامي كذلك. فقد قسموهم إلى اصحاب المعلقات، وأصحاب المجمهرات، واصحاب المنتقيات، واصحاب المذهبات، وأصحاب المرائي، وأصحاب المشوبات، وأصحاب الملحمات.
عدد الشعراء
وقد احصى بعض الباحثين عدد أسماء الشعراء الجاهليين الذين ذكروا في كتب الادب، فبلغ عدد ما احصوه "125" شاعراً. وهناك اسماء جاهليين استشهد الرواة ببيت أو ابيات من شعرهم في كتب الأدب واللغة، لو أحصوا واعتبرناهم من ضمن الشعراء، لاضطررنا إلى تغيير هذا الرقم، بأضافة هؤلاء عليهم. ومع ذلك فإننا نستطيع القول بأن هذا الرقم هو رقم نهائي ومظبوط لشعراء الجاهلية، فالمنطق يحملنا على تصور وجود عدد آخر من الشعراء فات خبرهم عن رواة الشعر، لأسباب عديدة، منها قدم اولئك الشعراء، بحيث لم تتمكن ذاكرة حفظة الشعر من استيعابهم، ثم بعد بعضهم عن الارضين التي حصر علماء الشعر فيها نشاط بحثهم عن الشعر الجاهلي وعن شعرائه، ثم كون قسم منهم من الشعراء المحليين، أو الشعراء المقلين الذين لم ينتشر شعرهم بين الناس.
وقد فطن إلى ذلك القدماء، فقال "ابو عمرو بن العلاء": "ما انتهى اليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر به". وذكر غيره ان العلماء على حرصهم على العناية بجمع شعر الشعراء، لم يتمكنوا مع ذلك من جمع أشعار قبيلة واحدة، فكيف بشعر كل القبائل ! والواقع ان في العرب قابلية على قول الشعر، وبين الصحابة عدد كبير نظموا شعراً روي في الكتب، ومع ذلك، فلم يعدّهم العلماء في جملة الشعراء، وكذلك الحال بالنسبة إلى أهل الجاهلية، فقد كان بينهم عدد كبير ينظم الشعر.
انشاد الشعر
وللشعراء طريقة خاصة في انشاد الشعر. يذكرون ان الشاعر منهم كان إذا أراد إلقاء شعر، تهيأ لذلك واستعد له، وأظهر للناس انه يريد إلقاء شعر. ومن أصولهم في الإلقاء أن ينشد الشاعر شعره وهو قائم. وأن يلبس الوشي والمقطعات والأردية السود وكل ثوب مشهر.
وذكر أن من عادة الشعراء في الهجاء، أن أحدهم كان إذا أراد الهجاء "دهن أحد شقي رأسه، وأرخى إزاره، وانتعل نعلاً واحدة". وقد ذكر "المرتضى"، في خبر وفود العامريين على النعمان بن المنذر، وكان فيهم "لبيد ابن ربيعة"، وهو يومئذ غلام له ذؤابة، وكان القيسيون قد صدوا وجه النعمان عنهم، فأرادوا تقديم "لبيد" ليرجز بالربيع بن زياد رجزاً مؤلماً ممضاً، وكان هو الذي صرف الملك بالطعن فيهم وذكر معايبهم، فحلقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين وألبسوه حلة وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان. فقام وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلاً واحدة على فعل شعراء الجاهلية إذا أرادت الهجاء، ثم أنشد رجزه الذي أثر في النعمان، حتى صار سبباً في ابعاد "الربيع بن زياد"عنه.
واذا أراد شاعر انشاد شعر، وقف وأنشد شعره، بأسلوبه الخاص في الإنشاد. وقد يترنمون في انشادهم ليكون الإلقاء أوقع أثراُ في نفوس السامعين. وقد يلقي راوية الشاعر شعر شاعره إذا كان أقدر منه على الإنشاد. وذكر أن "النشيد" هو الشعر المتناشد بين القوم ينشد بعضهم بعضاً، ومنه نشد الشعر وأنشده، إذا رفعه. وأنشد بهم، هجاهم. "وفي الخبر أن السلّيطين قالوا لغسان: هذا جرير ينشد بنا، أي يهجونا". و لا يخلو الانشاد من الترنم على اللحن الذي يتسمح به بالطبع، ومن مدّ الصوت، ليكون للشعر وقع على نفوس سامعيه، وتأثير جميل على المنصتين له.
وذكر ان الشعراء كانوا لا ينشدون إلا قياماً، وقد يعلو أحدهم موضعاً مشرفاً، أو يركب ناقته، ليدل على نفسه، ويعلم انه المتكلم دون غيره، وكذلك كان يفعل الخطيب. وقد استدل بعض المستشرقين من هذا الوصف على أن الشعراء انما أخذوا تقليدهم هذا من السحرة: الشعراء الأوائل ومن الكهنة، لأن السحرة والكهنة كانوا ينظمون الشعر وينشدونه على هيأة خاصة، يلبسون فيها أردية خاصة ويقفون في وضع خاص حين إنشاد الشعر.
وذكر ان الملوك كانوا يجلسون خلف الستور حين يستمعون إلى شاعر. فروي ان "عمرو بن هند" كان يسمع الشعراء من وراء سبعة ستور. وان الشاعر "الحارث بن حلزة" اليشكري لما طلب قومه منه انشاد قصيدته أمام "عمرو بن هند"، قال لهم: "والله إني لأكره أن آتي الملك فيكلمني من وراء سبعة ستور، وينضح أثري بالماء، إذا انصرفت عنه، وذلك لبرص كان به". فلما سمع قصيدته أمر برفع الستور ستراً ستراً، حتى صار مع الملك في مجلسه، وأمر أن لا ينضح أثره بالماء. . " "وأمره أن لا ينشد قصيدته إلا متوضئاً".
ولكن العادة أن الشاعر يقف أمام الملك، الذي قد يكون جالساً على سرير، فينشده شعره بعد أن يكون قد استأذنه بذلك. وقد يكون في المجلس جملة شعراء، أُذن لهم بالدخول عليه جملة واحدة، لينشدوا الملك شعرهم وما جاءوا به من شعر في مديحه. ويكون المجلس عامراً بأهل الحظوة من المقربين إلى الملك ومن الشعراء الملازمين له. وكانت مجالس ملوك الحيرة، عامرة بهذه المناسبات، أكثر بكثير من مجالس الغساسنة، لغلبة النزعة الأعرابية على ملوك الحيرة وقلة تأثرهم بالحضارة، وتغلب الحياة الحضرية على الغساسنة وتأثرهم بالحياة اليومية لأهل الشام، وبنزعة الروم في الحكم وفي آداب السلوك، حتى أنهم كانوا يتلذذون في الاستماع إلى غنائهم، ولهم قيان في قصورهم وبيوتهم يغنّين لهم بغناء الروم.
وكان من عادة الأعراب الطواف حول قبة الملك مع رفع الصوت بالرجز، ليسمع الملك صوت الراجز، فإذا عرفه أو أعجبه رجزه، اذن له بالدخول. وكان الملوك يضربون قبة على أبوابهم، يقعد فيها الناس حتى يؤذن لهم وقد يكون هذا الرجز مقدمة لدخول الشاعر على الملك حتى يلقي عليه ما يكون نظمه في مدحه وفي مدح آله من شعر.
وكان من عادة الملوك وسادات القوم والأشراف انهم إذا سمعوا الشاعر، واستحسنوا شعره، طربوا حتى يظهر الطرب عليهم وأظهروا استجادتهم لشعره، وربما شربوا إذا كانوا في مجلس الشرب، وأدنوا الشاعر اليهم، وأسقوه من شرابهم حتى يطرب. وقد يطلبون من الشاعر إعادة إنشاد الأبيات المستجادة. وكان الشاعر يستأذن صاحب المجلس أولاً ليسمح له بانشاد شعره. ولما استأذن "النابغة" الجعدي رسول الله، أن ينشده شعره، قال له الرسول: أجدت لا يفضض الله فاك، أي لا يكسر أسنانك، والفم هنا الأسنان. و لا زال الناس يرددون هذه العبارة وعبارة: أعده أحسنت وأجدت، أو أعد أعد، يقولونها بحماس وبصوت مرتفع ارتفاعاً يتناسب مع حس الاستحسان إذا قال الشاعر قولاً يستجيده العارفون بالشعر.
سوق عكاظ
ومن مرويات الأخبار، ان الشعراء الجاهليين كانوا يفدون إلى عكاظ، "فيتعاكظون، أي يتفاخرون و يتناشدون ما أحدثوا من الشعر، ثم يتفرقون". وذكر ان "النابغة" الذبياني، كان ممن يأتيها، فتضرب له قبة حمراء من أدم، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، وكان ممن تحاكم اليه، الأعشى، أبو بصير، فأنشده، ثم أنشده "حسان بن ثابت"، ثم الشعراء، ثم جاءت "الخنساء" فأنشدته، فقال لها "النابغة": والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفاً لقلت انك أشعر الجن والإنس. فقال حسان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك ومن جدك. فقبض النابغة على يده، ثم قال: يا ابن أخي، انك لا تحسن أن تقول مثل قولي: فإنك كالليل الذي هو مـدركـي وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسعُ
ثم قال للخنساء: أنشديه، فأنشدته، فقال: والله ما رأيت ذات مثانة أشعر منك، فقالت له الخنساء: والله ولا ذا خصيين".
وروي أن "حسان" كان قد أنشده شعره: لنا الجفنات الغُر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دمـا
ولدنا بني العنقاء وابني محـرق فأكرم بنا خالاً واكرم بنا ابنمـا
فقال له "النابغة": أنت شاعر، ولكنك أقللت جفناتك وسيوفك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك.
وهو خبر مصنوع، شك فيه العلماء، "قال أبو علي: هذا خبر مجهول لا أصل له". وقد روي عن الآمدي قوله: "أجمعت العرب على فضل النابغة الذبياني، وسألته أن يضرب قبة بعكاظ، فيقضي بين الناس في أشعارهم لبصره بمعاني الشعر، فضرب القبة وأتته وفود الشعراء من كل أوب". ثم ذكر القصة، وروي أن الذي فَنَّد حساناً وعاب عليه بيته، هو الخنساء. والقصة مطعون فيها. "حكى ابن جني عن أبي علي الفارسي، أنه طعن في صحة هذه الحكاية". فالقصة موضوعة، وما هذا القصص المروي عن "عكاظ"، إلا من روايات أهل الأخبار، وضعوه مع قصصهم الموضوع عن اختيار قريش للغة، وتخيرها أحسن الألفاظ، وتحكيمها في الشعر.
وذكر أن "عمرو بن كلثوم" كان ممن حضر سوق عكاظ، وقد أنشد فيها قصيدته الشهيرة: ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تُبقي خمر الأندرينـا
وهي معلقته الشهيرة، وهي قصيدة طويلة، ذهب الكثير منها، قيل إنها كانت تزيد على ألف بيت. وقد ذكر أن الرسول سمع الشاعر ينشد قصيدته هذه بسوق عكاظ.
ولم نسمع ان أحداً من الشعراء حكم في الشعر في سوق عكاظ قبل "النابغة" ولابعده. وسوق عكاظ سوق لم تقم إلا قبيل الإسلام، ولعل هذا التحكيم من القصص الذي أوجده أهل الأخبار، وقد يكون "النابغة" قد نظر حقاً في شعر "حسان"، ولكن ذلك لا يمكن أن يعد حكومة دائمة لسوق عكاظ، اختصاصها النظر والتحكيم في شعر الشعراء الجاهليين، واذا كان "النابغة" حاكم سوق عكاظ حقاً، فلمَ لم نسمع بأحكام أخرى له في حق شعر شعراء آخرين، ما دام كان يحضرها في كل عام، وتضرب له قبة من أدم، يجعلها مقراً له ولحكومته، ولمن يحضر اليه من الشعراء رجاء النظر في شعره.
وذكر ان القبائل كانت تفد إلى "عكاظ" وتبحث عن مختلف الأشياء وتتداول أشياء قبيحة أو محمودة، وأن الرسول حضرها، للدعوة إلى الإسلام.
ولم نسمع بأن الشعراء كانوا يتوافدون إلى مكة موسم الحج، لإنشاد شعرهم، على نحو ما ذكر عن سوق عكاظ، مع أن موسم الحج من المراسم المعهودة بالنسبة إلى قريش والى من كان يعيش حولها من قبائل، وشرف إلقاء الشعر في موسم الحج أسمى ولاشك من شرف إلقائه بسوق عكاظ وفي الأسواق الأخرى، فلو كان الشعراء كما زعم أهل الأخبار يقيمون وزناً كبيراً لحكم قريش في أشعارهم، فلِمَ لا نجد في أخبارهم خبراً يشير إلى تجمع الشعراء في مكة للتباري في انشاد الشعر وفي الحصول على شرف التقدير والتقييم من قريش، ليتباهى الفائز بالتقدير على سائر أقرانه الشعراء ? ثم لِمَ لم نسمع بأسماء القصائد التي نالت منهم شرف التقدير والتعظيم، خلا المعلقات السبع، التي شك في صحة تعليقها حتى المحافظين من أمثال المرحوم "الرافعي"!
يثرب
واذا كانت سوق عكاظ موضع تحكيم على النحو الذي رأيناه، واذا كانت مكة، قد نظرت في شعر شاعر، أو شاعرين، فقد كانت يثرب موضع تقدير وتقييم للشعر كذلك. فقد ذكر أهل الأخبار ان "النابغة قدم المدينة، فدخل السوق، فنزل عن راحلته، ثم جثا على ركبتيه، ثم اعتمد على عصاه ثم أنشأ يقول: عرفت منازلاً بعـربـيات فأعلى الجزع للحي المبين
حتى انتهى من شعره، قال ألا رجل ينشد ? فتقدم "قيس بن الخطيم"فجلس بين يديه وأنشده قصيدته التي مطلعها: "أتعرف رسماً كاطراد المذهب "حتى فرغ منها، ثم استمع إلى شعر حسان. وذكر انه قال لكل واحد منهما: "أنت أشعرالناس".
وروي ان "النبي"وضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يهجو الذين كانوا يهجون النبي، وذلك لما كان للشعر من أثر في نفوس الناس آنذاك.
وقد تخصص أناس بإنشاد الشعر، كانوا رواة شعر، ينشدون شعر غيرهم أو شعرهم بأسلوب مؤثر، ذكر ان منشداً أنشد يوماً رسول الله: لا تأمنن وإن أمسيتَ في حـرم حتى تلاقي ما يمني لك الماني
فالخير والشر مقرونان في قرن بكل ذلـك يأتـيك الـجـديدان
تطواف الشعراء
وكان الشعراء يتنقلون من مكان إلى مكان، فكان "الأسود بن يعفر"، "يكثر التنقل في العرب يجاورهم، فيذم ويحمد"، وجاب "الأعشى" معظم أنحاء جزيرة العرب والعراق وبلاد الشام، وكان النابغة يتنقل، فيزور ملوك الحيرة والغساسنة، ويسافر إلى مكة وسوق عكاظ، وكان "عمرو بن كلثوم" من المتنقلة كذلك، وقد علمت أمر:امرئ القيس "وتنقله بين القبائل، وأمر "الصعاليك"، الذين كانوا يتنقلون من مكان إلى مكان للحصول على رزقهم، وأمر "حسان" وقصده ملوك الغساسنة ووصوله إلى الحيرة، بل اننا لا نكاد ندرس حياة شاعر جاهلي، حتى نراه جواباً، متنقلاً من مكان إلى مكان، حتى صار التنقل من سيماء الشاعر عند الجاهليين، وكان هدفهم في الدرجة الأولى ملوك الحيرة ثم ملوك الغساسنة، أما ملوك اليمن، فقلما نجد في أخبار الشعراء وصولهم اليهم وانشادهم شعرهم أمامهم، وذلك بسبب أن لسانهم كان لا يشاكل لسان الشعراء، وأما ما نسب اليهم من شعر، وما قيل من مدح بعض الشعراء لهم، فهو من القصص الذي لا يرجع إلى أصل، إلا ما ذكره من شعر في مدح بعض أذواء اليمن، فإن هؤلاء لم يكونوا ملوكاً، وإنما كانوا سادة مواضع وقبائل تقع شمال اليمن في الغالب، وقد كانت على صلة بالعرب الشماليين، وبلغة "ال" في ذلك الحين، ومع ذلك فإن صلتهم بهم لم تكن على نمط صلة الشعراء بسادة العرب الشماليين.
كان الشاعر يتنقل بين القبائل، فينزل على سادتها ويحل في ضيافتهم، يقصد ملوك الحيرة خاصة، لما كان لهم من نفوذ في جزيرة العرب، ولينال عطاياهم، أو ليتوسط في حل ما بين الملوك وما بين قبيلة الشاعر، أو قبائل أخرى من أمور معقدة ومشكلات مستعصية، كما كان يزور الريف والقرى للميرة ولنيل هبات ساداتها من تمور أو دقيق أو أي شيء آخر يكون عند الحضر. فيمدح ويذم، وينشد شعره في أسواق القرى وفي نواديها ومجتمعاتها، فكان سوق "يثرب"، وهو المحل الذي يتجمع فيه الناس للبيع والشراء الموضع الذي يقصده الشاعر لإنشاد شعره به، ثم حل مسجد الرسول محله في الإسلام.
وقد ورد في الشعر الجاهلي ذكر بعض المواضع التي نزل بها الشاعر، أو التي ارتحل اليها ليزورها، وقد طمست أسماء بعض منها، وبقيت أسماء بعض آخر. وقد أمدتنا هذه الأسماء بمادة طيبة، أفادتنا فيؤ الحصول على معارف تأريخية وجغرافية عنها. ففي شعر "الأعشى"، وهو من الشعراء المتنقلة الذين أكثروا من الأسفار، وتنقلوا من مكان إلى مكان، نجد أسماء أماكن عديدة وردت في شعره، مثل "عانة"، و"بابل"، و"الحيرة" و، ومواضع في اليمامة وفي اليمن. وتطرق في شعره هذا إلى أحوال من مر بهم، وذكر أسماءهم وأسماء قبائلهم، فصار شعره لذلك مورداً هاماً بالنسبة لنا، أفادنا في الوقوف على نواح مهمة من التأريخ الجاهلي.
رحل "الأعشى" إلى الغساسنة ملوك عرب الشام، والى المناذرة ملوك عرب العراق، والى "قيس بن معديكرب"، والى "ذي فائش" في اليمن، والى "بني الحارث بن كعب" في نجران، فمدحهم ونال عطاءهم، وأقام عندهم يسقونه الخمر ويسمعونه الغناء الرومي، مما يدل -إن صح هذا الخبر- على تأثر سادة نجران بالثقافة الرومية، التي ربما أخذوها عن طريق ارتباطهم بالروم بروابط النصرانية، وعلى وجود جالية من الروم في نجران أو رجال دين من الروم، عينته الكنيسة لتعليم الناس أمور الدين، فقد كان الروم يرسلون رجال دينهم إلى هذه المواضع والى غيرها للتبشير، ولأغراض سياسية في الوقت نفسه.
ونجد في شعر "الصعاليك" أسماء المواضع التي غزوها، والطرق التي سلكوها في طريقهم إلى الغارات، أو في طرق عودتهم منها إلى ديارهم، ونظراً إلى كثرة تنقلهم وخبرتهم بالمواضع، وبأبعادها وبأصحابها، لما في هذهة الخبرة من العلاقة بنجاح سوقهم وتجارتهم، أفادتنا إشارتهم إلى المواضع والقبائل فائدة كبيرة إذ حصلنا بواسطتها على معارف عن أحوال أهل الجاهلية، ساعدتنا في سد بعض الثلم الكثيرة من ثلم بنيان التأريخ الجاهلي.
طباع الشعراء
والشعراء في الطبع مختلفون، منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء، ومنهم من تتيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل، ومنهم من يحسن الوصف، فإذا صار إلى المديح والهجاء، أو إلى الحكم والموعظة، خانه الطبع، وتأخر عن غيره من الفحول. ومن هنا لم يبرز فحول الجاهلية، ومن عدّ في الطبقة العليا من طبقات الشعراء في كل درب من دروب الشعر وطرقه وفنونه. بل ظهروا وبرزوا في أمور، وتأخروا أو لم يبرزوا في أمور أخرى، فذكروا مثلاً ان "النابغة" الجعدي، كان أوصف الناس لفرس. وورد عن "ابن الأعرابي" قوله: "لم يصف أحد قط الخيل إلا احتاج إلى أبي دواد، و لا وصف الحُمر إلا احتاج إلى أوس بن حجر، و لا وصف أحد النعامة إلا احتاج إلى علقمة بن عبدة، و لا أعتذر أحد في شعره إلا احتاج إلى النابغة الذبياني.
وقد قال من قدّم "امرئ القيس" على غيره من الشعراء، انه "سبق العرب إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب واتبعته فيها الشعراء، منه استيقاف صحبه والبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وشبّه النساء بالظباء والبيض والخيل والعقبان والعصي، وقيّد الأوابد ؛ وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى، وكان أحسن طبقته تشبيهاً". فهذه هي المزايا التي ميزت شعره عن غيره من الجاهليين.
وقال علماء الشعر الذين قدّموا النابغة على غيره، انه كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتاً، كأن شعره كلام ليس فيه تكلف. وأما الذين قدّموا "زهيراً"على غيره، فقالوا: "كان زهير أحكمهم شعراً وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح".
وقلما نجد الشاعر الجاهلي يعنى بوصف الطبيعة أو مظاهرها بشعر خاص، كأن يصف المطر وحده، أو الشمس والكواكب والأجرام السماوية، أو الجبال أو السهول أو الحيوانات أو النبات، وصفاً خاصاً لا يهرب منه إلى أمور أخرى لا صلة لها بهذا الوصف، ثم إنه قلما يتعمق في الوصف، فيصف الأجزاء والفروع وكل ما في الموصوف من مميزات، وهو إذا وصف الطبيعة، أو تعرض لوصف مشهد بارز منها أثر عليه، فإنه لا يفرد ذلك الوصف في كلمة خاصة به لا يشاركه فيها مشارك بحيث يكون شعره وصفياً خاصاً بالطبيعة، وإنما يقحم الوصف في القصيدة جرياً على العرف الشعري الذي سار عليه الشعراء، وليس عن عمد وتقصد لوصف ما يراد وصفه بالذات. ثم هو لا يصف من الشيء الموصوف ككل، وإنما يصف منه ما يلفت نظره، وما يؤثر على حسه وبصره. فهو إذا وقف أمام شجرة لا ينظر اليها ككب، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها ؛ وإذا كان أمام بستان لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة يطير من زهرة إلى زهرة فيرتشف من كل رشفة.
هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف لك ما ترى في أدب العرب-حتى في العصور الإسلامية -من نقص، وما ترى فيه من جمال.
فأما النقص فما تشعر تقرأ قطعة أدبية -نظماً أو نثراً-من ضعف المنطق، وعدم تسلسل الأفكار تسلسلاً دقيقاً، وقلة ارتباطها بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً، حتى لو عمدت إلى القصيدة -وخاصة في الشعر الجاهلي -فحذفت منها جملة أبيات أو قدّمتَ متأخراً أو أخرت متقدماً، لم يلحظ القارئ أو السامع ذلك-وإن كان أديباً - ما لم يكن قد قرأها من قبل.
"وهذا النوع من النظر هو الذي قصَّر نَفس الشاعر العربي، فلم يستطع أن يأتي بالقصائد القصصية الوافية، و لا أن يضع الملاحم الطويلة كالإلياذة والأوديسا.
أما ما أفادهم هذا النوع من التفكير، وخلع على آدابهم جمالاً خاصاً، فذلك ان هذا النظر لما انحصر في شيء جزئي خاص جعلهم ينفذون إلى باطنه، فيأتون بالمعاني البديعة الدقيقة التي تتصل به، كما جعلهم يتعاورون على الشيء الواحد، فيأتون فيه بالمعاني المختلفة من وجوه مختلفة، من غير إحاطة و لا شمول، فامتلأ أدبهم بالحِكم القصار الرائعة والأمثال الحكيمة. وأتقنوا هذا النوع إلى حد بعيد، غَنِيَ به عقلهم، وانطلتق به ألسنتهم، حتى لينهض الخطيب فيأتي بخطبته كلها من هذه الأمثال الجيدة القصيرة، والحكم الموجزة الممتعة، فلكل جملة معانٍ كثيرة تركزت في حبّة، أو بخار منتشر تجمع في قطرة. ولما جاء الإسلام تقدم هذا النوع من الأدب، واقتبسوا كثيراً من حكم الفرس والهند والروم".
وأكثر الوصف الوارد في الشعر الجاهلي، وصف لم يرد لأن الشاعر قصده وأراده، وإنما هو وصف ورد عرضاً في القصيدة على النسق الذي زعموا أن "امرأ القيس" وضعه وحاكاه فيه غيره ممن عاصره أو جاء بعده من الشعراء. فالشاعر يبدأ بتذكر الديار وبالبكاء على الأحبة وعلى من فارقهم، فيدفعه ذلك إلى الوصف، بأبيات يجعلها مقدمة لغرض آخر، فهي إذن مقدمة، وليست غاية، ثم هو إذا افتخر وأراد الاشادة بنفسه وبما قام به من عمل بطولي، لم يصف نفسه وصفاً شاملاً عاماً، وإنما يصف من نفسه بعض ما يعجبه وما يريد التبجح به، من مغامرات عجيبة قام بها، ومن صبر وتحمل للجوع وللمشقات وللأهوال ومن عدم تهيب من اقتحام الصحاري الموحشة المخوفة، وحده، لأنه لا يرهب أحداً، و لا يخشى وحشاً، فإذا جابهه وحش، وصفه وصفاً، لا يتعدى النواحي الخاصة التي يراها تظهر شخصيته وتبرز شجاعته ثم يبالغ ويبالغ في وصف المخاطر والمهالك التي لم يبال بها، للوصول إلى هدفه. وهو إذا اصطاد صيداً، بالغ في الجهد الذي صرفه في صيده، ونوه بجودة حصانه، وبالطريقة التي صاد بها فريسته.
وهو إذا ما أراد مدح انسان، قدم لمدحه مقدمة تزيد على شعر المدح في الغالب، يذكر فيها الأهوال والمخاطر وحرّ الشوق، والتلهف الشديد وما شاكل ذلك من أمور، لتكون شرح حال له يبين مبلغ حبه له واخلاصه لمن سيمدحه، ذي الجود والكرم والسخاء، الذي يجود بماله عنده، و لا يحسب لنفسه ولأهله حساباً، يجود خاصة في السنة الجماد، وفي مواسم القحط والبرد الشديد حيث تموت الماشية والأنعام، ومع ذلك فإن الممدوح، لا يعبأ بكل ذلك، ويسخر من الخوف من العواقب السيئة التي ستحيق به إن بذر ماله. وقد يبالغ الشاعر نفسه في مدح نفسه، ويشيد بسخائه وجوده، ويتخذ من ذلك قصص شجار يقع بينه وبين زوجه في الغالب، يشاركها ولدها فيه، بسبب تبذير الرجل لما عنده من مال، وعدم اهتمامه بما سيحيق بأهله من جوع وفقر.
وهو إذا تغزل، فوصف محبوبته، فإنما يصف منها ما يلفت نظره، من أجزاء في الجسد، أو لون أو ما شاكل ذلك مما يلفت نظره، وقد يقارن بينها وبين بعض الحيوانات التي تعجبه مثل المها والظباء، والخيل والعقبان وقد زعم أهل الأخبار ان "امرأ القيس" كان قد سبق العرب إلى أشياء لبتدعها استحسنتها العرب واتبعه فيها الشعراء، منها انه شبّه النساء بالأمور المذكورة، فصار تشبيه هذا لهن سنّة لمن جاء بعده من قالة الشعر. وقد يصف الليل وشدة طوله وسهره فيه ومبلغ ما ألمّ به من أرق لفراق محبوبته، أو من شدة تذكره لها، وقد يذكر حزنه على فراقها وكيف انه كان يقضي لياليه ساهراً يناجي نجوم السماء، ويعدها، ينتظر ذهاب كابوس ليله عنه حتى يتراءى له نور الصباح، وفيه الأمل والرجاء. ووصفه كله، ليس وصفاً كلياً عاماً محيطاً، وانما وصف جزئي، جاء تعبيراً عن خاطر الشاعر ومحاكاة للطريقة التقليدية التي توارثها الشعراء بعضهم عن بعض.
وقد برز بعض الشعراء في وصف بعض الحيوانات، كما أشرت إلى ذلك في مواضع سابقة، فقد اشتهر "أبو دؤاد" بوصف الخيل، حتى صُيّر بطل الشعراء في هذا الميدان، واشتهر النابغة الجعدي بوصف الفرس، واشتهر أوس ابن حجر بوصف الحمر، وعرف علقمة بن عبدة بوصف النعامة. وقد وصف غيرهم من الشعراء هذه الحيوانات وغيرها، كما نجد ذلك في الأشعار المنسوبة اليهم.
ومن أبرز المواضيع التي تطرق اليها الشعراء في وصفهم لمظاهر الطبيعى: المطر، والنخيل، والسحب، ومشاهد من فصول الشتاء، والغدران ومواضع المياه والسيول والنحل والعسل البري، وبعض الصخور الغريبة، والطيور، أما البحر والسفن، فيردان على لسان الشعراء الساكنين على السواحل، حيث يرون البحر وسفنه. ولكننا لا نجد وصفاً خاصاً بهما، يظهر فيه تأثر الشاعر وإحساسه بالبحر، أو بالسفن، من حيث هي سفينة، وإنما ذكر وهماً عرضاً على سبيل الفخر، ولأمور عرضية أخرى. فالوصف الجاهلي لعناصر الطبيعة خالياً من المشاعر الخاصة، ومن التصورات المعبرة عن إلهام الشاعر الذاتي.
وذكر أن من الشعراء من كان يتأله فيؤ جاهليته ويتعفف في شعره، ولا يستبهر بالفواحش ولا يهتم في الهجاء، ومنهم من كان ينعي على نفسه ويتعهر، ومنهم امرؤ القيس والأعشى، وأن منهم من كان يأتي بالحكم في شعره، مثل:زهير والأفوه الأودي، وعلقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص، وعدي بن رعلاء الغساني وغيرهم. والحكمة عندهم، هي خلاصة تجارب الشاعر في هذه الحياة، وما حصل عليه من رأي استوحاه من الواقع أو من أفواه الناس وتجاربهم. وهي بديهة من البديهات صيغت شعراً. قد يبدع في صياغتها الشاعر فتسير بين الناس مثلاً، كقول "عدي بن رعلاء" الغساني: 3ليس من مات فاستراح بمَيْتٍ=إنما الميّتُ ميّت الأحياء ويظهر من بيت ينسب إلى "زهير"، هو: ما أرانا نقول إلا مُـعـاراً أومعاداً من لفظنا مكرورا
إن شعراء الجاهلية كانوا قد وصلوا إلى حالة جعلتهم يقلدون من سبقهم في الشعر ويحاكون طرقهم في النظم، فهم يعيدون ويكررون ما قاله الشعراء قبلهم. وهو كلام يؤيده قول علماء الشعر في القصيدة، من انها كانت تسير على هدى الشعراء السابقين في نظمها من بدءٍ بذكر الديار والبكاء على الأحبة والأطلال إلى غير ذلك من وصف، حتى صارت هذه الجادة، جادة يسير عليها كل شاعر، مما أثّر على البراعة والابتكار وجعل الشعر قوالب معروفة معينة، يختار الشاعر قالباً منها ليعبر به عما يريد أن يقوله نظماً. ومن هنا ثار "أبو نواس"وأضرابه من الشعراء الإسلاميين على "التقليد" في النظم، لتبدل العقلية وتغبير الزمن، وإن كنت أجد فيؤ هذه الثورة مبالغة وإفراطاً في الاتهام. فالقصيدة الجاهلية وإن غلب عليها التقليد والمحاكاة، مما ضيق عليها المعاني، إلا انها لم تكن كلها على نمط واحد على نحو ما يقوله علماء الشعر والأ>ب، كان الشعراء يراعون الوزن والقافية والرويّ، وهي أمور ميزت الشعر العربي عن غيره، ولكنهم كانوا يتحللون فيما عدا ذلك، فيأتون بالمعاني التي تدركها عقولهم، وهي معان استمدت من المحيط، وهو محيط واحد، ألهم الشعراء شعرهم، فمن ثم تقارب الإلهام وقربت المعاني، ولو تعددت طبيعته، لما غلب على شعر أولئك الشعراء ما نأخذه عليهم وقد كان تغير وتنوع معاني الشعر في الإسلام، نتيجة حتمية لتغير المحيط.
المغلبون
ومن الشعراء من كان لا يستطيع الوقوف أمام خصمه، فيغلب، فذكر ان "النابغة" الجعدي، كان مختلف الشغر مغلَّباً. وكانت العرب إذا قالت مغلَّباً فهو مغلوب، واذا قالب غَلَبَ، فهو غالب، وقد غلبت عليه "ليلى الأخيلية" و"أوس بن مغراء" القريعي. وذكروا ان "تميم بن أبي مقبل" وهو شاعر "خنذيذ" مُغَلّب عليه النجاشي، ولم يكن اليه في الشعر، وقد قهره في الهجاء، ثم هاجى النجاشي عبد الرحمان بن حسان فغلبه عبد الرحمان، وكان "ابن مقبل جافياً في الدين. وكان في الإسلام يبكي أهل الجاهلية و يذكرها، فقيل له تبكي أهل الجاهلية وأنت مسلم، فقال: ومالي لا أبكي الديار وأهلـهـا وقد زارها زوار عكٍ وحميرا
وجاء قطا الأجباب من كل جانب فوقع في اعطاننـا ثـم طـيرا
ومن المغلبين: الزبرقان، غلبه عمرو بن الأهتم، وغلبه المخبل السعدي، وغلبه الحطيئة، وقد أجاب الإثنين ولم يجب الحطيئة.
والهجاء فن، لا يستطيع كل شاعر أن يبرز فيه، لما يجب أن يكون في الشاعر من ذكاء وسرعة خاطر وقابلية على إسكات الخصوم. ولهذا كان يخشى جانب الهجاء فلا يتعرض له إلا من وهب قابلية على الهجاء. وإلا غلب على أمره، وصار من المغلبين، وهو من أهم أبواب الشعر عند الجاهليين، لما له من أثر في حياتهم، حيث يغض من منزلة المهجو.
وذكر أن الشعراء كانوا يتنازعون بعضهم بعضاً على التقدم في الشعر، فذكر أن "امرأ القيس" نازع "الحارث بن التوأم" اليشكري، فقال: إن كنت شاعراً، فأجز أنصاف ما أقول فأخذا يتسابقان في ذلك. وذكر أن "عبيد بن الأبرص" الأسدي، لقي "امرأ القيس" يوماً، فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد? فقال له: إلق ماشئت، وأخذا يتسابقان. وكان آخر ما أجاب به "امرؤ القيس" هذا البيت: تلك الموازين والرحمان أنزلها ربّ البرية بين الناس مقياسا
وهو بيت مفضوح، يحدثك عن أصله وفصله، وعن هذه القصة، وقد فات وضاع القصة أن هذا الشعر لا يمكن أن يقع من ةشاعر جاهلي، و لاسيما إذا كان على شاكلة امرئ القيس.
والأبيات الجيدة من الشعر، في نظر نقدة الشعر هي الأبيات التي إذا سمعت صدر البيت فيها، عرفت قافيته.
بدء الشاعر
يبدأ الشاعر بالشعر بعد إحساسه بوجود ميول له إلى الشعر، تدفعه دفعاً على الاقبال عليه، فيبدأ بحفظ الشعر المقال، وبنظمه، ويكون هذا النظم نظماً تجريبياً غير متقن في بادئ أمره، ويقال لهذه المرحلة "الغرزمة". و"الغرزمة" أن يقول الشاعر الشعر قبل أن يستحكم طبعه وتقوى قريحته. فإذا قوي به وتمكن منه صار من الشعراء المجيدين.
وقد كان الشاعر الجاهلي مثل الشاعر الاسلامي، يبدأ لكي يكون شاعراً بحفظ شعر غيره، و لا سيما شعر المشهورين من الشعراء المتقدمين عليه، حتى يرويه رواية، وقد يتصل بشاعر يعجبه من شعراء قبيلته أو من غيرهم، فيلازمه ويأخذ عنه شعره، حتى يصير رواية له، ومتى شعر هذا الراوية الحافظ لشعر غيره، ان عوده قد استوى، وأن له قابلية في النظم، أظهر شعره للناس، وربما بعد أن يكون قد وجد التشجيع ممن اتصل بهم من الشعراء ومن المتذوقة للشعر، العارفين به، ولما كانت الشاعرية موهبة يصقلها المران ومرور الزمن، فإن كثيراً من الشعراء نظموا الشعر وهم صغار، و لا سيما أولئك الذين نشأوا في بيت برز بهى شاعر، أو في بيوت عرفت بنبوغ جماعة من أفرادها بنظم الشعر، فهناك بيوت معرقة توارثت الشعر أباً عن جد. وقد سبق أن ذكرت قول "رؤبة": "الفحولة هم الرواة"، أي ان فحول الشعراء هم الذين كانوا في بادئ أمرهم رواة شعر.
فحفظ الشعر وروايته هو مران كان لا بد منه لتهيئة شاعر فحل. وقد وجدت هذه النظرة عند الفرس كذلك، قال صاحب "جهار مقالة": "و لا يبلغ الشاعر هذه المنزلة إلا أن يحفظ في عنفوان الشباب وريق العمر عشرين ألف بيت من أشعار المتقدمين ويجعل نصب عينه عشرة آلاف كلمة من آثار المتأخرين ويديم القراءة في دواوين الأئمة ويلتقط منها ليعلم كيف تصرفوا في مضايق القول ودقائق الكلام حتى يرتسم في طبعه صور الشعر وطرائقه، ويتجلى له مزايا الشعر ونقائصه، فريتقي قوله ويعلو طبعه. فإذا رسخ طبعه في نظم الشعر، وانقاد له الكلام عمد إلى علم الشعر وقرأ العروض ... وقرأ نقد المعاني والألفاظ والسرقات والتراجم وأنواع هذه العلوم على أستاذ يحذقها ليكون جديراً بالأستاذية". وهذا الرأي الفارسي الاسلامي، يمثل و لا شك رأي قدماء الفرس كذلك.
ولم يكن الشاعر الجاهلي يعرف بالطبع هذه العلوم والقيود التي عرفت وشاعت في الإسلام، بل لم يكن للشاعر العربي الإسلامي ليحفل بالعروض وبعلوم البيان والبديع، لأن الشعر طبع وموهبة، وإذا لم تكن الموهبة موجودة في إنسان، فلن يكون هذا الشخص شاعراً موهوباً مرموقاً مهما حفظ من ةالشعر، وبلغ من علم العروض ومن علوم الصناعة الأخرى التي لها مساس بالشعر. فقد برز شعراء جاهليون قالوا شعراً وهو بعد أحداث، واشتهروا به بين قومهم وهم بعد شباب. وطرفة الشاعر المشهور، كان لا زال شاباً حين قتل، ومع ذلك، نجد ترتيبه بعد امرئ القيس في ترتيب المعلقات، وفي ترتيبه هذا دلالة على تقدير قصيدته، واشتهار أمره بالشعر. وقد نظم "الخليل بن أحمد" شعراً، وهو صاحب العروض، ونظم غيره من فحول هذا العلم، ومن فحول اللغة شعراً، لم يعد من عيون الشعر العربي، ونظم الفقهاء شعراً عرف بين نقاد الشعر، وأهل البصر به ب"شعر الفقهاء" ازدراء به. بل نجد السعراء الإسلاميين يهزأون من قواعد العروض.
ألقاب الشعراء
ويذكر أهل الأخبار ويؤكدون ان أهل الجاهلية لقبوا شعراءهم بألقاب، مثل: المهلهل، والمرقش، وذا القروح، والمثقب، والمنخل، والمتنخل، والأفوه، والنابغة. قيل عن المهلهل، انه انما سمي مهلهلاً لهلهلة شعره، أي رقته وخفته، وقيل لاختلافه، وقيل: بل سمي بذلك لقوله: لما توقل في الكراع شريدهم هلهلت أثأر جابراً أو صنبلا
وقيل لأنه كان أول من هلهل الشعر وأرقه وألان ألفاظه.
وذكر ان "المرقش" الأكبر، انما عرف بذلك، بقوله: الدار قفر والرسوم كمـا رقش في ظهر الأديم قلم
أو لأنه كان قد عني بتنميق شعره ورقشه.
وروي ان لقب:المثقب" العبدي، انما جاءه من قوله: رددن تحية وكنن أخـرى وثقبن الوصاوص للعيون
وعرف المتلمس بهذا الاسم بقوله: فهذا أوان العِرض حيّا ذبابه زنابيره والأزرق المتلمس
وعرف الممزق بهذا اللقب لقوله: فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل وإلا فأدركني ولمـا أمـزق
وعرف "النابغة" بالنابغة بقوله: وحلت في بني القين بن جسر وقد نبغت لنا منهم شـؤون
وذكر أن "منبه بن سعد"، إنما عرف ب"أعصر"، بقوله: أعمير إم أباك غـيّر لـونـه مرّ الليالي واختلاف الأعصر
وأن معاوية بن تميم، إنما عرف ب "الشقر" بقوله: قد أحمل الأصم كُـعـوبُـه به من دماء القوم كالشقرات
وأن "خالد بن عمرو بن مرة"، إنما قيل له:الشريد"، بقوله: وأنا الشريد لمن يعرفني حامي الحقيقة ما له مثل
وأن "صريم بن معشر"التغلبي، إنما عرف ب "أفنون"بقوله: منيّتنا الودّ يا مضنون مضنونا أزماننا إن للشبان أفنـونـا
وأن معاوية بن مالك، سُمي معود الحكام لقوله: أعودّ مثلها الحكّام بـعـدي إذا ما الأمر في الأشياع نابا
وذكر "الجاحظ"، أن "عمرو بن رياح" السلمي أبو خنساء ابنة عمرو، غلب عليه الشريد، لقوله: تولي إخوتي وبقيت فرداً وحيداً في ديارهم شريدا
وعرف "خداش بن بشر"، "خداش بن لبيد بن بيبة"، "خداش بن بشر بن خالد بن بيبة"من بني مجاشع بالبعيث، لقوله: تبعث مني ما تبعثَ بـعـدمـا أمرت حبالي كل مرتها شزارا
وذكروا ان "الفند"، واسمه "شهل بن شيبان"، انما سمي الفند، لأنه قال يوم "قضة": أما ترضون أن أكون لكم فِنداً. وأن طفيلاً الغنوي، انما عرف بالمحبر، لتحسينه الشعر، وأن علقمة بن عبدة، انما لقب بالفحل، لأنه تزوج امرأة امرئ القيس، بعد أن حكمت له بتفوقه على زوجها في الشعر أو لأنه كان في قومه علقمة آخر عرف ب"علقمة الخصي"، وان "الأعشى" انما عرف بصنّاجة العرب، لكثرة ما تغنت العرب بشعره، وأن عنترة انما لقب بالفلحاء لفلحة كانت به.
وأما الأغربة من الشعراء، فهم عنترة، وخفاف بن ندبة السلمي، وأبو عمير ابن الحباب السلمي، وسليك بن السلكة، وتأبط شرّاً، والشنفري، وكلهم من الشعراء الجاهليين.
إلى آخر ما ذكروه من تعليلات عن أسباب تلقيب الشعراء الجاهليين بألقابهم التي عرفوا بها، تجد بقيتها مدونة في كتب الأدب واللغة والأخبار.
ولعلماء الشعر بعد، آراء في أحسن وأجود ما قيل من شعر في فن واحد من فنون الشعر، فقيل أرثى بيت قيل في الجاهلية، قول أوس بن حجر: أيتها النفس اجملي جزعا إن الذي تحذرين قد وقعا
وهذا على رأي الأصمعي، وقدم غيره قول عبدة: فما كان قيسُ هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قـوم تـهـدمّـا
ومنهم من قدم شعر الخنساء.
وقيل قول إن امرئ القيس في الماء، هو أحسن ما قيل فيه. وان وصف "أوس بن حجر" للسحاب، هو أحسن ما قيل فيه، وان أهجى بيت قالته العرب، قول الأعشى: تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وأن أمدح بيت قالته العرب قول زهير: تراه إذا ما جئته متـهـلـلاً كأنك معطيه الذي أنت سائله
وبيت النابغة: بأنك شمس والملوك كواكـب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
ولكنك لو أطلت النظر في كتب الأدب، تراها تختلف في هذا الاختيار وفي اسم الشاعر، وسبب ذلك اختلاف أمزجة العلماء، واختلاف وجهات نظرهم في نقد الشعر.
وللعلماء كلام في أوصف الشعراء للدرع، أو للفرس، أو للنجوم والكواكب، أو للدنيا إلى غير ذلك من أشياء.
وقد عرفت القصائد التي يكون الشاعر فيهاً منصفاً في شعره، بالمنصفات، والمنصفة هي القصيدة التي يكون الشاعر فيها قد أنصف من تحدث عنه، فإذا كان في فخر واستعلاء على قوم، فخر بقومه، وذكر في الوقت نفسه فضائل خصوم قومه، وشجاعتهم واستبسالهم في معاركهم مع قومه. ومن المصنفات قصيدة "العباس بن مرداس" السينية التي قالها في يوم "تثليث"، حيث غزت "سُليم" مراداً، فجمع لهم "عمرو بن معد يكرب"، فالتقوا بتثليث، س فصبر الفريقان، ولم تظفر طائفة منهما بالأخرى، فصنع العباس بن مرداس قصيدته المذكورة.
وزعم علماء الشعر، ان الشعراء الجاهليين كانوا في سرقة الشعر مثل الشعراء الاسلاميين، فقد كان منهم من يسطو على شعر غيره، فيدخله في شعره، وينحله نفسه، أو يضمن شعره من معانيه، ولهم في ذلك بحوث. وذكروا ان من الشعراء الاسلاميين من سطا على شعر الشعراء الجاهليين، أو أخذ منه.
الشهرة بالشعر
يقول الرواة والعلماء بالشعر: من أراد الغريب فعليه بشعر هذيل، ومن أراد النسيب والغزل من شعر العرب الصلب، فعليه بأشعار عُذرة والأنصار، ومن أراد طرف الشعر وما يحتاج إلى مثله عند محاورة الناس وكلامهم فذلك في شعر الفرسان.
وأشعر الفرسان: دريد بن الصمة، وعنترة، وخفاف بن ندبة، والزبرقان ابن بدر، وعروة بن الورد، ونهيكة بن إساف، وقيس بن زهير، وصخر ابن عمرو، والسليك بن سلكة، وأنس بن مدركة، ومالك بن نويرة، ويزيد ابن الصعق، ويعّد من الفرسان الأشراف، ويزيد بن سنان بن أبي حارثة.
التكسب بالشعر
يذكر أهل الأخبار أن العرب كانت لا تتكسب بالشعر، أنفة وتعززاً، وإنما يصنع أحدهم ما يصنع مكافأة عن يد لا تستطيع على أداء حقها إلا بالشكر إعظاماً لها. بقوا على ذلك دهراً، حتى نشأ النابغة الذبياني فمدح الملوك، وقبل الصلة على الشعر، وخضع للنعمان بن المنذر، وقد كان أشرف بني ذبيان، وكان قادراً على الامتناع منه بمن حوله من عشيرته، وله مال يكفيه، فسقطت منزلته، مالاً جزيلاً حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة وأونيهم من عطايا الملوك. وذكر عنه من التكسب باشعر مع النعمان بن المنذر ما فيه قبح من مجاعلة الحاجب ومجاملته والتودد اليه تقرباً وتزلفاً ليوصله إلى النعمان، ومن دس الندماء على ذكره بين يديه، وما أشبه ذلك. هذا، وانما امتدح ملكاً، فكيف بشاعر يمدح من هم دون الملوك والأشراف من السوقة وسواد الناس، طمعاً في صلة وعطاء !
وتكسب زهير بن أبي سُلمى يسيراً مع "هرم بن سنان"، ونال "أمية ابن الصلت"عطايا "عبد الله بن جدعان" لمدحه اياه، فلما جاء الاعشى جعل الشعر متجاً يتجر به نحو البلاد، وقصد حتى ملك العجم فأثابه، لعلمه بقدر ما يقول عند العرب، وأقتداء بهم فيه، على أن شعره لم يحسن عنده حين فسر له، بل استخف به و استهجنه لكنه حذا حذو ملوك العرب.
ثم إن الحطيئة أكثر من السؤال بالشعر وانحطاط الهمة فيه، حتى مقت وذل أهله، و استصغر شأنه، و عرف بتكسبه بشعره.
وقد عيب "من تكسب بشعره و التمس به صلات الأشراف و القادة، وجوائز الملوك والسادة، في قصائد السماطين". وانما المقبول ما جاء بما لا يزري بقدر ولا المروءة، مثل الفلتة النادرة، والمهمة العظيمة، وعن باب التودد والتلطف والتذكر، فأما من وجود الكفاف و البغلة فلا وجه لسؤاله بالشعر.
ومن هنا زعم أهل الأخبار ان أشراف أهل الجاهلية، كانوا يأنفون من قول الشعر، وكانوا ينهون أولادهم من قوله، فلما خالف "امرؤ القيس"، وهو شريف وابن ملك، أمر والده من وجوب ترك الشعر، واستمر على قوله، طرده بسببه من بيته، وأخرجه من داره، فصار من الضلّيلين، وهو زعم عارضه "ابن رشيق" وردّ عليه بقوله:"وقد غفل أكثر الناس عن اليبب، وذلك انه كان خليعاً، متهتكاً، شبب بنساء ابيه، وبدأ بهذا الشر العظيم، و اشتغل بالخمر والزنا عن الملك والرياسة، فكان اليه من أبيه ما كان، ليس من جهة الشعر، ولكن من جهة الغي والبطالة، فهذه العلة، وقد جازت كثيراً من الناس و مرت عليهم صفحاً". فلم يكن طرد امرئ القيس من بيت أبيه اذن بسبب قوله الشعر، و إصراره عليه تنافي أخلاق الأشراف.
وقد قيل في الشعر إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل، مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل. وإنه أسنى مروءة السري. و قيل ان الشريف كان يتحاشى قول الشعر، ويمنع أولاده من قوله. لأن قول الشعر مثلبة للرجل الشريف. وقد فسر هذا الزعم بعض العلماء بقوله: "ان الشعر لجلالته يرفع من قدر الخامل إذا مدح به، مثل ما يضع من قدر الشريف إذا اتخذه مكسباً، كالذي يؤثر من سقوط النابغة الذبياني بامتداحه النعمان بن المنذر، وتكسبه عنده بالشعر، وقد كان أشراف بني ذبيان، هذا، وإنما امتدح قاهر العرب، وصاحب البؤس والنعيم". مدحه و لم يكن في حاجة اليه، وكان أكله و شربه في صحاف الذهب و الفضة و أوانيه من عطاء الملوك. وبين الشعراء الجاهليين من كان من السادة الأشراف، ولم يجد مع ذلك غضاضة في قوله الشعر، ومن غض من قدره، هو من استجدى بشعره، واتخذ شعره سبباً من أسباب التكسب.
وما يقوله أهل الأخبار عن التكسب بالشعر يمثل و جهة نظرهم حسب، وهو رأي لا أساس له، بسبب ان علمهم بالشعر لا يستند إلى دليل جاهلي مكتوب، وإنما هو من رواية ولدت في الإسلام لاكتها الألسن، و تناولتها الكتب، حتى صارت في حكم الإجماع، يردده الخلف عن السلف إلى هذا اليوم. والشعراء في نظرنا قبل النابغة وبعده بشر، فيهم المترفع وفيهم المستجدي الذليل، الذي لا يبالي أن تمتهن كرامته في سبيل الحصول على المال. وإذا كان في هذا اليوم شعراء يمدحون ويذمون لغاية الكسب والحصول على مغنم، فلم نجعل شعراء ما قبل أيام النابغة الذبياني ملائكة، لا يمدحون إلا الشريف المستحق للمدح، ولا يذمون إلا الحقير الذي يستحق الذم، وما شعراء تلك الأيام، إلا كشعراء أيام، وما بعده، فيهم الشاعر المترفع وفيهم الشاعر المتبذل ن وفيهم من لا يبالي بشعره، يمدح اليوم هذا ن ثم لا يبالي من ذمه بعد حين. و في حقهم جميعاً جاء القرآن )والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون(، و نحن نظلم "النابغة" ان جعلناه أول المتكسبين بالشعر، ونخرج عن المنطق ان ذهبنا هذا المذهب.
وذكر ان ممن رفعه الشعر من القدماء: "الحارث بن حلزة"اليشكري، وكان أبرص، فلما أنشد الملك "عمرو بن هند"قصيدته: آذنتنا ببينهـا اسـمـاء رُب ثاوٍ يمل منه الثواء
وبينه وبين سبعة حجب، فما زال يرفعها حجاباً فحاجباً لحسن ما يسمع من شعره حتى لم يبق بينهما حجاب، ثم أدناه وقربه. وأمثاله ممن رفع من قدرهم الشعر كثير.
ورووا إن الملحق كان ممن الشعر بعد الخمول، وذلك ان الأعشى قدم مكة وتسامع الناس به ن وكانت للملحق امرأة عاقلة، وقيل بل أم، وكان الملحق فقيراً خامل الذكر، ذا بنات، فأشارت عليه، ان يكون اسبق الناس اليه في دعوته ال الضيافة، ليمدحهم، ففعل، فلما أكل الأعشى وشرب، و أخذت منه الكأس، عرف منه انه فقير الحال، وانه ذا عيال، فلما ذهب الأعشى إلى عكاظ أنشد قصيدته: أرقت و نما هذا السهاد المؤرق وما بي من سقم و ما بي معشق
ثم مدح المحلق، فما اتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنؤونه ن والاسراف من كل قبيلة يتسابقون اليه جرياً يخطبون بناته، لمكان شعر الأعشى.
هذا ما يرويه أهل الاخبار عن اثر الشعر في الناس ز وروي ان الاعشى انشد قصيدته المذكورة "كسرى"، فقال: "إن كان سهر من غير سقمٍ و لا عشق فهو لص".
"قال أبو عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يُقيد عليهم مآثرهم و يفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم و يخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، اتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى اعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر" "ولقد وضع قول الشعر من قدر النابغة الذبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده ذلك إلا رفعة البيان".
ويذكر الرواة ان القبيلة كانت إذا نبغ فيها شاعر احتفلت به، وفرحت بنبوغه، واتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن. بالمزاهر، وتباشروا به لأنه حماية لهم، ولسانهم الذاب عنهم المدافع عن أعراضهم واحسابهم و شرفهم بين الناس. وكانوا لا يهنأون إلا بغلام يولد أو فرس تُنتج أو شاعر ينبغ فيهم. فالشاعر هو صحيفة القبيلة و "محطة إذاعتها"، وصوته يحط ويرفع و يخلد لا سيما إذا كان مؤثراً، فيرويه الناس جيلاً بعد جيل.
وكان اثره في الناس أثر السيف في الحروب، بل استخدمه المحاربون أول سلاح في المعارك. فيبدأ الفارس بالرجز، ثم يعمد إلى السيف أو الرمح أو الآت القتال الاخرى. و لأثره هذا، ورد الحديث عن الرسول قوله: "والذي نفسي بيده، لكأنما تنضحونهم بالنيل بما تقولون لهم من الشعر" مخاطباً بذلك شعراء المسلمين، الذين حاربوا الوثنيين بهذا السلاح الفتاك ن سلاح الشعر. وقد كان الوثنيون قد اشهروه أيضاً وحاربوا به المسلمين.
وطالما قام الشعراء بدور السفارة والوساطة في النزاع الذي كان يقع بين الملوك وبين القبائل، أو بين القبائل والقبائل، فلما أسر "الحارث بن أبي شمر"الغساني" شأس بن عبدة"في تسعين رجلاً من "بني تميم"، وبلغ ذلك اخاه "علقمة بن عبدة"، قصد "الحارث"، فمدحه بقصيدته: طحا بك قلبُ بالحسان طروب بعيد الشباب عصر حان مشيب
فلما بلغ طلبه بالعفو عن اخيه وعن بقية المأسورين، قال الحرث: نعم واذنبة، واطلق له شأسا اخاه، وجماعة اسرى بني تميم، ومن سأل فيه أو عرفه من غيرهم.
ولم يقل اثر الشاعر في السلم وفي الحرب عن اثر الفارس، الشاعر يدافع عن قومه بلسانه، يهاجم خصومهم ويهجو سادتهم، ويحث المحربين على الاستماته في القتال، ويبعث فيهم الشهامة والنخوة للاقدام على الموت حتى النصر، والفارس يدافع عن قومه بسيفه، وكلاهما ذاب عنهم محارب في النتيجة. بل قد يقدم الشاعر على الفارس، لما يتركه الشعر من اثر دائم في نفوس العرب، يبقى محفوظا في الذاكرة وفي اللسان، ويريه الخلف عن السلف، بينما يذهب اثر السيف، بذهاب فعله في المعركة ن فلا يتركه شعر المديح أو الهجاء من اشر في النفوس، يهجيها حين يذكر، وكان من اثره ان القبائل كانت إذا تحاربت جاءت بشعرائها، لتستعين بهم في القتال. فلنا كان يوم "احد" قال "صفوان ابن امية" لأبي عزة عمرو بن عبد الله الجمحي: "يا ابا عزة انك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك، فاخرج معنا. فقال: ان محمدا قد من علي فلا اريد ان اظاهر عليه. قال: فاعنا بنفسك فلك الله علي ان رجعت ان اغنيك، وان اصبت ان اجعل بناتك مع بناتي ما اصبهن من عسر ويسر، فخرج ابو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة" شعرا إلى السير مع قريش لمحاربة المسلمين.
وكان للرسول شاعره "حسان بن ثابت" يدافع عن الإسلام والمسلمين، وكان المشركين من أهل مكة شاعرهم "عبد الله بن الزبعري" يرد عليه ويهاجم المسلمين في السلم وفي المعارك، وقد دونت كتب السير والاخبار والتواريخ اشعارهم زما قاله احدهم في الآخر، وقد فات منه شيء كثير، نص رواة الشعر على انهم تركوه لما كان فيه من سوء ادب وخروج على المروءة. وكان إلى جانب الشاعرين شعراء اخرون، منهم من ناصر المسلمين لأنه كان منهم، ومنهم من ناصر المشركين لأنه كان منهم. بل كان المحاربين إذا حاربوا، فلا بد وان يبدأوا حربهم بتنشيطها وبتصعيد نارها برجز أو بقريض.
ومن خوفهم من لسان الشاعر، ما روي من فزع "ابو سفيان"، لما سمع من عزم "الاعشى" على الذهاب إلى يثرب ومن اعداد=ه شهرا في مدح الرسول، ومن رغبته في الدخول في الإسلام. فجمع قومه عندئذ، وتكلم فيما سيتركه شعر هذا الشاعر من اثر في الإسلام وفي قريش خاصة ان هو اسلم، ولهذا نصحهم ان يتعاونوا معه في شراء لسانه وفي منعه من الدخول في الإسلام بإعطائه مائة ناقة فوافقوا على رأيه وجمعوا على رايه وجمعوا له ما طلبه، وتمكن ابو سفيان من التاثير عليه، فعاد إلى بلده "منفوحة" ومات بها دون ان يسلم.
قال "الجاحظ": "ويبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السب عليهم، وتخوفهم ان يبقى ذكر ذلك في الاعقاب، ويسب به الاحياء والاموات، انهم إذا اسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدوا لسانه بنسعة ، كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص الحارثي حين اسرته بنو تيم يوم الكلاب. و "عبد يغوث ابن وقاص" شاعر قحطاني، وكان شاعرا من شعراء الجاهلية، فارسا سيد قومه من "بني الحارث بن كعب"، وهو الذي قادهم يوم كلاب الثاني فأسرته بنو تيم وقتلته. وهو من أهل بيت شعر معروف في الجاهلية والاسلام، منهم "اللجلاج" الحارثي، وهو طفيل بن زيد بن عبد يغوث، وأخوه "مسهر" فارس شاعر، ومنهم من أدرك الإسلام، : "جعفر بن علية بن ربيعة بن الحارث ابن عبد يغوث"، وكان شاعراً صعلوكاً.
ولما مدح "الحطيئة" "بغيض بن عامر بن لاي بن شماس بن لاي بن انف الناقة"، واسمه "جعفر بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم"، وهجا "الزبرقان"، واسمه "الحصين بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن عوف بن كعب"، صاروا يفخرون ويتباهون بأن يقال لهم "انف الناقة"، وكانوا يعيرون به ويغضبون منه، ويفرقون من هذا الاسم، حتى ان الرجل منهم كان يسأل ممن هو فيقول من "بني قريع" فيتجاوز جعفراً أنف الناقة، ويلغي ذكره فراراً من هذا اللقب، إلى ان قال "الحطيئة" هذا الشعر فصصاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدون به اصواتهم في جهارة، إذ قال: قوم هم الانف والاذناب غيرهم ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
وقد تعزز الاعشى على قومه، وبين مكان فضله عليهم، إذ كان لسانهم الذاب عنهم المدافع عن اعراضهم، الهاجي لأعدائهم بشعر هو كالمقرض يقرض أعداء قومه قرضاً.
وادفع عن اعراضكم وأعيركم لساناً كمقراض الخفاجي ملحبا
وذكر ان بني تغلب كانوا يعظمون معلقة "عمرو بن كلثوم" ويرونها صغاراً وكباراً، حتى هجاهم شاعر من شعراء خصومهم ومنافسيهم:بكر بن وائل، إذا قال: ألهي بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثـوم
يرونها أبداً مذ كـان اولـهـم يا للرجال لشعر غير مسـئوم
ولسلاطة ألسنة بعض الشعراء، ولعدم تورع بعضهم من شتم الناس ومن هتك الاعراض، ومن التكلم عنهم بالباطل، تجنب الناس قدر امكانهم الاحتكاك بهم، وملاحاتهم والتحرش في أمورهم، خوفاً من كلمة فاحشة قد تصدر منهم، تجرح الشخص الشريف فتدميه، و "جرح اللسان كجرح اليد"، كما عبر عن ذلك "امرؤ القيس" أحسن تعبير. والامر ما قال طرفة: {ايت القوافي تتلجن موالجـاً تضايق عنها أن تولجها الابر
وفي هذا المعنى دون "الجاحظ" هذه الابيات: وولشعراء ألسـنة حـداد على العورات موفية دليله
ومن عقل الكريم إذا اتقاهم وداراهم مدارة جـمـيلة
إذا وضعوا مكاويهم علـيه وإن كذبوا فليس لهن حيله
و "كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه عالماً بالشعر، قليل التعرض لأهله:استعداه رهط من تميم بن أبي مقبل على النجاشي لما هجاهم، فأسلم النظر في أمرهم إلى حسان بن ثابت، فراراً من التعرض لأحدهما، فلما حكم حسان أنفذ عمر حكمه في النجاشي كالمقلد من جهة الصناعة، ولم يكن حسان-على علمه بالشعر- أبصر من عمر رضي الله عنه بوجه الحكم، وان اعتل فيه ما اعتل".
"وكذلك صنع في هجاء الحطيئة الزبرقان بن بدر: سأل حسان، ثم قضى على الحطيئة بالسجن"، وقد كان عمر قد كره ان يتعرض للشعراء، فاستشهد حساناً، فلما بيّن حسان رأيه في الشعر، انفذ حكمه، فتخلص "عمر" بعرضه سليماً.
و"تميم بن مقبل بن عوف بن حنيف" العجلاني، من الشعراء الذين أدركوا الإسلام فأسلم، وكان يهاجي "النجاشي"، فهجاه "النجاشي" يوماً، فاستعدى "تميم" "عمر"عليه. فلما قرأ "النجاشي" على "عمر" ما قاله في "تميم" أمر بضربه وحبسه. وكان يبكي أهل الجاهلية.
"وسئل أبو عبيدة: أي الرجلين أشعر: أبو نُواس، أم ابن أبي عيينة ? فقال: أنا لا أحكم بين الشعراء الأحياء، فقيل له: سبحان الله كأن هذا ما تبين لك ! فقال: أنا ممن لم يتبين له هذا ?! "وذلك خوفاً ولاشك من لسان الشاعر الحي. "ولسير الشعر على الأفواه هذا المسير تجنب الأشرافُ ممازحة الشاعر خوف لفظة تسمع منه مزحاً فتعود جداً " وكانوا يهابون الشاعر الهجّاء البذيء اللسان المتمكن من شعر الهجاء، أكثر من غيره من بقية الشعراء، لما كان يتركه هجاؤه من أثر فيهم، حتى الشعراء البارزون كانوا يتقون شر الشاعر الهجاء ويبتعدون عنهم. فلما هجا "عبد الله بن الزبعري"، بني قصيّ، خاف قومه من هجاء "الزبير بن عبد المطلب"، فرفعوه برمته إلى "عتبة بن ربيعة"، فلما وصل اليهم أطلقه "حمزة بن عبد المطلب" وكساه، وكان "الزبير" غائباً بالطائف، فلما وصل مكة وبلغه الخبر هجا قوم "ابن الزبعري" هجاء مراً، بقوله: فلولا نحن لم يلبس رجـال ثيابَ أعزة حتى يمـوتـوا
ثيابهم سِمـالُ أو طـمـارُ بها دسم كما دسم الحَمـيت
ولكنّا خلقنا إذ خـلـقـنـا لنا الحبرات والمسك الفتيت
وكان عبد الله بن الزبعري قد قال حين أطلقه حمزة: لعمرك ما جاءت بنكر عشيرتي وإن صالحت إخوانها لا ألومها
فودّ جناة الشرّ أن سـيوفـنـا بأيماننا مسلولة لا نشـيمـهـا
فإن قصيّاً أهل عـزّ ونـجـدة وأهل فعالٍ لا يرام قديمـهـا
هُمُ منعوا يومي عُكاظ نساءنـا كما منع الشول الهجان قرومها
ونظراً لأثر شعر الهجاء في الناس، من أفراد وقبائل، صاروا يصطنعون الشعراء ويحسنون جهدهم اليهم خشية ألسنتهم، يفعلون ذلك بشعرائهم وبشعراء القبائل الأخرى ممن يخشون سلاطة ألسنتهم. يفعلون ذلك حتى إذا كان الشاعر قد أساء اليهم، على أمل التكفير عن ذنبه، بمدحهم بشعر ينفي أثر ما قاله فيهم من هجاء. حتى انهم كانوا يعفون عن شاعر قد يقع أسيراً في أيديهم، إذا أعطاهم العهود والمواثيق ألا يعود إلى هجوهم، وألا يقول شعراً في ذمهم. وقد يغدقون عليه بالهدايا والألطاف تأليفاً للسانه، وأملاً في مدحه لهم، والقاعدة عندهم ان أثر الهجاء يمحوه المدح.
وبين الشعر الجاهلي والشعر الاسلامي فروق واضحة في الأسلوب وفي الاتجاه وفي الجزالة واختيار الكلمات، اقتضتها طبيعة اختلاف الزمان وتغير الحال واتصال العرب بغيرهم، وخلود أكثرهم إلى الحضارة، إلى غير ذلك من أسباب.
ومما امتاز فيه الشعر الجاهلي عن الشعر الاسلامي، هو أن شعراءه كانوا من العرب، إلا بضعة شعراء، كانوا من أصل خليط، مثل الأغربة، الذين كانت أمهاتهم من أصل افريقي. و لا أعلم اسم شاعر جاهلي، يرجع أصله إلى فارس أو الروم، إلا ما ذكره "ابن الكلبي" من أمر "خرخسرة". أما في الإسلام فقد زاحم الفرس بصورة خاصة العرب على تراثهم التليد، وهو الشعر، برزّ منهم فيه فحول، طوروا الشعر ولوّنوه، وأضافوا اليه معاني جديدة، اقتضتها طبيعة الامتزاج بين العقليتين والتطور الجديد الذي ظهر في المجتمع الجديد، مجتمع العرب والموالي.
ولعلماء الشعر آراء في الشعر الجاهلي وفي شعراء الجاهلية، وفي شعرهم وفي الاستشهاد بالشعر الجاهلي. ولهم آراء في ذلك دوّنوها في كتبهم. من ذلك أن العرب كانت لا تروي شعر شاعر، أو لا تعجب به إذا كانت ألفاظه ليست نجدية. ذكروا أن "العرب لا تروي شعر أبي دواد وعدي بن زيد. وذلك لأن ألفاظهما ليست بنجدية". وذكروا عن شعر "عدي بن زيد العبادي"، أن "العرب لا تروي شعره، لأن ألفاظه ليست بنجدية. وكان نصرانياً من عباد الحيرة قد قرأ الكتب". وقالوا عنه أيضاً "وكان يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شيء كثير جداً، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة".
وجزالة الألفاظ وشدة وقعها على الأسماع وغرابتها، هي من أهم المعايير التي اتخذها علماء الشعر في تقدير قيم الشعر الجاهلي، والقصيدة الجيدة الحسنة هي القصيدة الجزلة الفخمة الألفاظ التي لا تتسم بالسهولة والليونة، والتي لا تفهم إلا بالرجوع إلى الشروح والتعليقات والايماءات والإشارات. ومن هنا فوّقوا شعر الأعراب على شعر الحضر، لوجود لين في شعر أهل المدر، ولسهولته، ومن هنا قالوا: إن في شعر قريش ليناً وسهولة، وفي شعر أهل الحيرة وأهل القرى مثل ذلك.
وقد تعرض "ابن رشيق" لموضوع الشعر الجاهلي القديم والشعر الإسلامي المحدث، فقال: "إنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رَجُلين ابتدأا هذا بنا فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزيّنه فالكلفة ظاهرة على هذا وان حسن، والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن".
الخمر والشعر
وقد كان الشعراء يقبلون على شرب الخمر، إقبال أكثر الجاهليين على شربها لتنسيهم همومهم وفقرهم، حتى أن منهم من كان يبيع ما عنده ليشتري الخمر. وقد كان الشعراء يشربون ليستوحوا الوحي من الشرب، حتى ان الأعشى لما قدم ليسلم، فقيل له ان الإسلام يحرم الخمر، توقف، ولم يسلم، إذ شق عليه هذا التحريم، ولم يتمكن بعضهم من تركها، فحدّوا على شربها. وقد هرب "ربيعة بن أمية بن خلف" الجمحي، من بلاد الإسلام ولحق بالروم، لأن عمر جلده الدّ في الخمر، وكان من آنف العرب وأسخاهم، فحلف أن لا يقيم بأرض حد فيها و لا يدين من حده، فحمله الأنف إلى أن يأتي الروم فمات بها نصرانياً. ويروى انه قال: لحقت بأرض الروم غير مـفـكـر بترك صلاة من عشاء و لاظـهـر
فلا تتركوني مـن صـبـوح مـدامةٍ فما حرم الله السلاف من الـخـمـر
إذا أمـرت تـيم بـن مـرة فـيكـم فلا خير في أرض الحجاز ولا مصر
فإن يك اسلامي هو الحق والـهـدى فإني قـد خـلّـيتـه لأبـي بـكـر
ويذكر "المعري" انه قد جرى له مع "أبي بكر" خطب، فلحق بالروم. د
شيطان الشاعر
ولابد لي هنا من أشير إلى ما كان يعتقده الجاهليون من أن الشعراء كانوا يستلهمون وحيهم بالشعر من "شيطان"، كنّوا عنه ب"شيطان الشاعر". فقالوا: "لكل شاعر شيطان". وهم يعبرون بذلك عن الحس الذي يصيب كل انسان حساس شاعر عندما يهز مشاعره وإحساسه شيء ما يؤثر عليه فيستولي على عقله وشعوره ويستهويه، ولا يتركه يستقر ويهجع حتى يعبر عن شعوره هذا الذي سيطر عليه وملكه، بشعر يأتيه وكأنه وحي ينزل عليه تنزيلاً، وعندئذ فقط يستقر ويهجع، بعد أن يكون قد نسب هذا الشعور المرهف الذي ألمّ به إلى وحي "شياطين الشعر".
وكان الكهناء، يقولون في الجاهلية:إن الشياطين كانت تأتيهم، فهم مثل الشعراء يعتقدون بأن وحياً يوحى اليهم بما يقولونه للناس، يتجلى لهم على صورة "رئي"، الرئي يقول سجعاً، والشيطان ينظم شعراً.
وقد بلغ من اعتقاد بعضهم بوجود "شياطين الشاعر" أن رووا قصصاً تذكر كيف أن "شياطين الشعر" كانوا يعلمون الشعراء قول الشعر حين ينحبس الشعر عنهم وحين تقف قريحتهم حتى ليصعب على الشاعر أن ينظم بيتاً واحداً، حتى إذا حار في أمره، استجار بشيطانه وتوسل اليه لإنقاذه من محنته، فيرق شيطانه عليه، ويلقي عليه الشعر إلقاء فيأتي على لسان الشاعر وكأنه سيل متدفق. ولاعتقاد الشعراء هذا بوجود قرين لهم من الشياطين، أو من الجن، سموا شياطينهم بأسماء، فكان اسم شيطان الأعشى "مسحلاً"، وقيل تابعه وجنيّه الذي كان يوحي اليه بالشعر. كما أشار هو اليه في شعره:
دعوت خليلي مسحلاً، ودعوا له جهنام، جدعاً للهجين المذمّـم
وللأعشى أشعار أخرى ذكر فيها فضل شيطانه عليه في قول الشعر. من ذلك قوله: وما كنت ذا قولٍ ولكن حسبتنـي إذا مسحل يبري لي القول أنطق
خليلان فيما بيننـا مـن مـودةٍ شريكان جنيّ وإنـس مـوفـق
وجنيّه هو الذي حباه بموهبة الشعر، وبفيض الخواطر، ينظمه كلاماً محبوكاً، فهو يشكره ويفديه بنفسه: حباني أخي الجنيّ نفسي فداؤه بأفيح جيّاش العشيّات مرجـم
واسم هاجس الأعشى وشيطانه "مسحل بن أوثاثة"، وكان هو الذي يلقي الشعر على لسان الأعشى. وقد رآه "الأعشى"ودخل خباءه وهو من شَعر، وكان الأعشى في أول أرض اليمن يريد الذهاب إلى "قيس بن معدي كرب "بحضرموت. فضل طريقه، فأبصر هذا الخباء، فذهب اليه، وسأله الشيخ أن ينشده شعراً، فكان إذا تلا عليه مطلع القصيدة أوقفه، واستدعى جارية من جواريه لتتلو عليه بقية القصيدة، حتى سقط في يدي الأعشى وتحير، وأغشته رعدة، فلما رأى الشيخ ما حل به، قال: "ليفرج روعك أبا بصير، انا هاجسك مسحل بن أوثاثة الذي ألقى على لسانك الشعر". ثم ودعه وأرشده الطريق.
وكان للأعشى شيطان، اسمه "جهنّام"، وهو تابعة، أي شيطانة أنثى. وكان لقب "عمرو بن قطن" من "بني سعد بن قيس بن ثعلبة"، وكان يهاجي الأعشى، وقال فيه الأعشى: دعوت خليلي مسحلاً ودعوا له جهنام جدعاً للهجين المذلـل
وقيل إن "جهنام" كان شيطان الأعشى الأول، ثم أتخذ الأعشى مسحلاً بعده.
وزعم ان "امرئ القيس" كانت له قصائد ومطارحات مع "عمرو الجني" وان اسم شيطان "امرئ القيس" هو "لافظ بن لاحظ". وان اسم شيطان "عبيد بن الأبرص" هو "هبيد"، وهو اسم شيطان "بشير بن أبي خازم ?" "بشر بن أبي خازم"كذلك. وان اسم شيطان "النابغة" الذبياني، هو "هاذر بن ماهر". وان اسم شيطان "المخبل" السعدي، هو "عمرو".
وقد بقي هذا الاعتقاد في شياطين الشعراء إلى الإسلام، فكان الشيطان الذي يلقي الشعر إلى "جرير"، هو "ابليس الأباليس"، وكان اسم شيطان الفرزدق "عمرو"، واسم شيطان بشار بن برد "شنقناق". وكان جني "حسان" وصاحبه الذي يوحي اليه الشعر من "بني شيصبان"، "وكانت الشعراء تزعم أن الشياطين تلقي على أفواهها الشعر، وتلقّنها إياه، وتعينها عليه، وتدعي أن لكل فحل منهم شيطاناً يقول الشعر على لسانه، فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود"، وورد أن "الفرزدق" كان يرى أن للشعر شيطانين، يدعى أحدهما "الهوبر" والآخر "الهوجل"، فمن انفرد به "الهوبر" جادّ شعره وصح كلامه، ومن أنفرد به "الهوجل" فسد شعره.
وقد زعم "أبو النجم" أن شيطانه الذي يوحيّ اليه الشعر شيطان ذكر، أما شياطين بقية الشعراء فأناث: إني وكلّ شاعر من البشـر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
فما يراني شاعر إلا استَتـر فعِلَ نجوم الليل عاين القمر
وقال آخر: إنّي وإن كنتُ صغير السـنّ وكان في العين نبّو عـنـي
فإن شيطاني أمـيرُ الـجـنّ يذهبُ بي في الشعر كلّ فن
وروي ان السعلاة لقيت "حسان بن ثابت" في بعض طرقات المدينة، وهو غلام قبل أن يقول الشعر، فبركت على صدره، وقالت أنت الذي يرجو قومك أن تكون شاعرهم ? قال: نعم. قالت: فأنشدني ثلاثة أبيات على روي واحد وإلا قتلتك، فقال: إذا ما ترعرع فينـا الـغـلام فما أن يقال لـه مـن هـوه
إذا لم يسد قـبـل شـد الازار فذلك فـينـا الـذي لاهـوه
ولي صاحب من بني الشيصبان فحيناً أقـول وحـينـاً هـوه
فخلت سبيله. فهذه الأبيات هي على زعم أهل الأخبار أول شعر حسان. قالها بوحي من شيطانه: "الشيصبان".
وليس هذا الشيطان الذي تصوره الجاهليون، يلهم الشعراء وحيهم ويلقي اليهم الشعر إلقاء بقذفه في قلوبهم، ليخرج على السنتهم، هو من وحي الجاهليين ومن تخيلاتهم وتخرصاتهم وحدهم، بل هو شيء معروف عند غيرهم أيضاً. فقد تصور اليونان أن للشعر آلهة تقذف الشعر في نفوس الشعراء، فينطلق على ألسنتهم. والرئي الذي يوحي إلى "الكاهن" علمه بالكهانة، هو ضرب من هذه الشياطين التي تخيلوها للشعراء، فبفضل "الرئي" يقول الكاهن سجعه لمن يطلب منه أن يتكهن عن أمر سأله عنه، وهو يجيب السائل بما يلقيه رئيه عليه. يلقيه سجعاً، أما شيطان الشاعر، فيلقيه على شاعره شعراً، ومن هنا وقع الفرق بين قول الشاعر وبين قول الكاهن.
وكانوا يسمون الشعراء "كلاب الحي"، وهم الذين ينبحون دونهم، ويحمون أعراضهم. وفي ذلك يقول عمرو بن كلثوم: وقد هرّت كلاب الحيّ منّا وشذبنا قتادة من يلـينـا
وأما "كلاب الجن"، فشعراؤهم، وهم الذين ينبحون دونهم ويحمون أعراضهم.
عرّف علماء العربية الشعر بقولهم: "الشعر: منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعراً من حيث غلب الفقه على علم الشعر". وعرّف "الأزهري" الشعر بقوله: "الشعر القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها، والجمع أشعار، وقائله شاعر، لأنه يشعر ما لا يشعر غيره، أي يعلم". وعرّفه "ابن خلدون" بقوله: "الشعر هو الكلام المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على اساليب العربية المخصوصة به". فهو يجعل التقفية والوزن من شروط الشعر، ويشترط أيضاً استقلال كل بيت منها بغرضه.
وعرف بأنه الكلام المقفى الموزون قصداً، والتقييد بالقصد مخرج ما وقع موزوناً إتفاقاً، فلا يسمى شعراً. وقد قصد بهذا التعريف الإسلامي، إخراج من قال الشعر إتفاقاً لا عن قصد واحتراف. بل عفواً وسجيّة. ولما جاء في القرآن الكريم، من رمي المشركين للرسول بأنه شاعر بقول الشعر، فنزل الوحي ينفي ذلك عنه. وحدد العلماء صفة الشاعر بأنه الذي يحترف الشعر ويقوله قصداً، حتى لا تنطبق هذه الصفة على من يقول سطراً بوزن اتفاقاً من غير قصد.
وقد عرفه بعضهم بقوله: "الشعر كلام موزون مقفى، دال على معنى، ويكون أكثر من بيت". وهو تعريف وضعه علماء الشعر في الإسلام، وهو لا ينطبق بالطبع على وصف الشعر عند الأعاجم من الآريين والساميين، لأن للشعر عند هذه الأمم مفاهيم أخرى، تختلف بأختلاف وجهة نظرها إلى الشعر. فقد يكون الشعر سجعاً عند الأمم الأخرى، وتعّد الأمثال عند بعض الشعوب في جملة أبواب الشعر، كما أنه لا يمكن أن ينطبق على الشعر الجاهلي القديم، إذ ليس في استطاعة أحد حق التحدث عن الشعر الجاهلي المتقدم على شعر أقدم من وصل اسمه إلينا من الشعراء الجاهليين، لعدم وجود نصوص مدوّنة أو مروية عن ذلك الشعر، وما دمنا لا نملك نصوصاً منه، فلا حق لنا اذن في التحدث عنه.
وعندي ان الشعر الجاهلي المروي والمدون في المؤلفات الإسلامية ببحوره المعروفة انما يمثل المرحلة الأخيرة من مراحل تطور هذا الشعر، أي مرحلة الكلام الموزون المقفى الدال على معنى، ولكننا لا نستطيع كما قلت سابقاً الزعم بأن الشعر الجاهلي الأقدم كان على نفس هذه البحور، أي انه كان متمسكاً بالوزن والقافية إذ من الجائز أن يكون قد كان على شاكلة الشعر القديم الذي نظمه الشعراء الساميون، من عدم تقيد بالقافية وبوزن الأبيات، كما نجد ذلك في العبرانية وفي اللغات السامية الأخرى وانما كانوا يراعون فيه النغم، بحيث يتغنى به، أو التأثير في العواطف، بمراعاة نسق الكلام المبني على البلاغة. ولهذا عدّ السجع نوعاً من أنواع الشعر، لأن في السجع من الوصف والعاطفة والحس ومعالجة الموضوع، ما يجعله شعراً، وفي بعضه نغم يجعله صالحاً لأن يتغنى به، وبين الغناء والشعر صلة ونسب. وقد جعل بعض العلماء الشعر وليداً من أولاد الغناء، لأن الشعوب القديمة كالبابليين، والمصريين، واليونان، والعبرانيين، كانت تقرن شعرها بالموسيقى، وعرف هذا الشعر بالإنشاد، وقد كان الإنشاد في المعابد، نوعاً من التراتيل الموجهة إلى الآلهة، كما كان يستخدم في الحروب. ولهذا رأى العلماء ان الموسيقى، أولدت الإنشاد، والإنشاد هو والد الشعر.
والشعر معروف عند كل شعوب العالم، معروف موجود حتى عند الشعوب البدائية، لأنه نوع من أنواع التعبير عن الحس. والإنسان مهما كانت ثقافته ومنزلته لابد له من التعبير عن إحساساته بمختلف الصور، وبشتى الوسائل، من كلام أو تدوين أو نقش أو صراخ أو غناء أو رمز، إلى غير ذلك من الأنواع، وفي جملتها الشعر. فهو لا يخص إذن شعباً معيناً، ولا جنساً خاصاً، إنما هو تعبير إنساني، يؤديه كل انسان، متى كانت عنده المواهب ووجد عنده الحس المرهف الذي يدفعه إلى اليف الشعر دفعاً، يؤديه على نحو ما يتأثر به إحساسه وذوقه، في أسلوب يختلف عن الكلام المعتاد المألوف، ولكنه ليس على نمط واحد عند جميع البشر، فقد يكون الشعر شعراً عند أمة، وهو ليس شعراً عند أمم أخرى، والمصطلح العربي الذي ذكرته للشعر، يختلف عن المصطلح المفهوم للشعر عند اليونان مثلاً أو عند الرومان أو عند البابليين، كما أن أبوابه وأنواعه قد تختلف بين أمة وأخرى.
فقد كان العبرانيون يحبون الشعر، حب العرب له، ويقولون له:"ه-ش"، أي الشعر وكانوا ينظمون أشعاراً رتلوها في مختلف المناسبات، في الأفراح وفي الأتراح في المدح وفي الهجاء، وفي الغزل وفي الوصف، وفي تمجيد الرب، وكانوا يستعينون بالشعر في القتال، ينشدونه في قتالهم ويجعلونه عوناً لهم في شحذ الهمم وفي تقوية العزائم للنصر، كما نرى ذلك في أسفار التوراة. ونجد ثلث التوراة شعراً، لا سيما في أسفار أيوب والمزامير والأمثال والجامعة ونشيد الانشاد. وفي مواضع من "التكوين" وكتب الأنبياء. ولكن شعرهم ليس وزناً وقافية، على نمط الشعر العربي، بل هو شعر من طراز آخر. هو شعر بالنسبة للعبرانيين، وهو ليس بشعر بالنسبة لمصطلحنا المحدد للشعر.
وقد بدأ الشعر بداية متحررة، فلم يكن الإنسان في بادئ أمره بالشعر يتقيد بالوزن والقافية، وإنما كان يميز بينه وبين النثر بالنغم الذي يجعله فيه، وبالنبرات التي يخرجها مخارج الغناء، ولهذا نجد المقطوعات الشعرية القديمة التي وصلت الينا مدوّنة في كتابات مختلف الشعوب لا تشبه الشعر المعروف، إذ فيه تحرر، وفيه اعتماد على الترنم والإنشاد وعلى فن الإلقاء، أما الاعتبارات الفنية المعروفة، فهي من عمل الشعراء المتأخرين الذين أحلّوا الوزن محل الإلقاء، ووضعوا قواعد فنية في نظم الشعر. فلم تكن الأبيات الشعرية في الشعر القديم متساوية، ولم تكن هناك قوافي بالضرورة، حتى أنك لا تستطيع تمييز القطعة الشعرية عن غيرها، إلا بالإنشاد.
والشعر من أقدم الأحاسيس التي عبر بها الإنسان عن نفسه، فهو يعبر عن عواطفه وعن أحاسيسه، من سرور أو حزن، أو ألم، وعن اهتمامه بالأمور وعن تصوراته، وعن كل ما يدور في رأسه من أمور تسترعي حسه، فيشعر عندئذ بالترفيه عنه بإخراجه كلاماً فيه نغم "Rhythm"، أي إيقاع ووزن، وفيه توازن ونظام بين أجزائه، على غرار ما يفعله الراقص في رقصه، من اقران رقصه بحركات موزونة. وهو من العواطف المولودة في الإنسان. ولهذا تعدّ العواطف التي عبر بها الإنسان عن نفسه شعراً، وإن خرجت بغير بحور، وبدون وزن و لا قافية. ففي كلام "سارة": "وقالت سارة قد أنشأ الله لي فرحاً فكل من سمع يفرح لي، وقالت من كان يقول لإبراهيم إن سارة ستُرضع ابناً. فقد ولدت ابناً في شيخوخته"، وفي الآيات: "ثم أخذت مريم النبية أخت هارون الدفَّ في يدها وخرجت النساء كلهن وراءها بدفوف ورقص. فجاوبتهن مريم: سبّحوا الرب، لأنه قد تعظم بالمجد. الفرس وراكبه طرحهما في البحر"، وفي مباركة يعقوب أبنائه عند شعوره بدنو أجله، وفي كلام موسى حين قهر "فرعون"، معان شعرية، وتعد من أقدم أنواع الشعر السامي التصويري.
وذلك لأن الشعر السامي القديم، لم يكن يتقيد بالقافية "Rhyme"، ولا بالتفعيلات " "Feets أو بالمقاطع القصيرة "Short Syllables"، وإن حاول و لاسيما فيما بعد، أن يضع في كل شطر أو بيت عدداً من الكلمات أو المقاطع، يعادل ما يضعه في الشطر أو البيت الثاني منها، ليتولد من ذلك الوزن.
ويقسم الغربيون الشعر عادة إلى"Epic"، وهو شعر الملاحم، حيث يمتاز بطول قصائده وفخامة أسلوبه، وبقصصه الذي يدور حول أبطال الملحمة والأحداث التي تعرض لها هذا النوع من الشعر. وشعر يقال له ""Dramatic، وهو شعر مسرحي، أو تمثيلي. وشعر يقال له "Lyric"، وهو شعر غنائي. وشعر يقال له ""Didactic، وهو شعر تعليمي، أريد به التعليم ووعظ الإنسان. ونجد النوع الأول منه عند اليونان والرومان والهنود والفرس والألمان وهم من الشعوب الهندأوروبية، أي الشعوب الآرية.
ولا نجد من شعر الملاحم، ومن شعر "الدراما" في التوراة، ولكننا نجد ما يشبه "الدراما" "Semi Dramatic" في سفر أيوب. ويكثر الشعر "الغنائي" المعدّ للترتيل والترنيم Lyric فيه. ففي كلمات موسى على البحر الأحمر، التي تمثل غناء النصر ""Triumphal Odes، وفي غناء "دبوره""Deborah" ، وفي المزامير، أشعار غنائية معدة للترتيل.
وقد أشير إلى إنشاد الشعر جماعة في التوراة، فلما وصل العبرانيون إلى "البئر" التي قال الرب فيها لموسى اجمع الشعب حتى أعطيهم ماءً، "حينئذ ترنم اسرائيل بهذا النشيد:اصعدي يا بئر تجاوبوا لها. بئر احتفرها الرؤساء، احتفرها أشراف الشعب بمخصرة عصيهم". وقد لازم الترنم الشعر منذ أوائل أيامه، ففي الترنم به تقوية له. وما النغم سوى "ايقاع" يجعله نوعاً من أنواع الغناء "نوطته" التفعيلات التي تكون بحوره في الأدب العربي. ولهذا نجد الشعر قد رافق الغناء بل هو نوع منه منذ نشأته.
ونجد القديس "نيلوس" ""Nilus" المتوفي حوالي سنة 430 م"، يصف غارة بدوية على دير سيناء وقعت سنة 410 م، وتحدث في أثناء حديثه عنها عن إنشاد الأعراب أناشيد بترانيم عندما كانوا يأخذون الماء، وهي ترانيم لم يشر القديس إلى نوعها، ولكني لا استبعد أن تكون من الرجز، الذي يقال في المناسبات، في استنباط الماء، وفي حفر الآبار، أو رفع الأثقال، أو في بناء، وأمثال ذلك مما لا يزال مألوفاً، ويشاهد حتى بين أهل القرى. وان كان بعضها ترانيم غير فنية ولا مصقولة، ولكنها ذات ايقاع على كل حال.
ومن هذا القبيل الأشعار التي أنشدها العرب في انتصارهم على الرومان سنة 372 م، والتي أشار اليها المؤرخ "سوزومن" في كتابه "تأريخ الكنيسة"، فقد ذكر أن العرب كانوا ينشدون الشعر في قتالهم هذا مع الرومان. والواقع أننا لا نكاد نقرأ خبر معركة إلا ونجد الشعر فيها في مقدمة الأسلحة التي تستخدم فيها، وقد يسبق السيف في الضرب، حيث يخرج الفارس وهو يرتجز رجزاً يشيد فيه بنفسه، وبقومه، مهوناً من أمر من سينازله ثم يقابله من يتبارى معه برجز آخر، يشيد فيه بنفسه، رداً على خصمه.
والشعر العبراني القديم نوعان: النوع المعدّ للترتيل، والنوع التعليمي. ومن النوع الأول المزامير، ومن النوع الثاني الأقسام الشعرية من كتب الأنبياء. والمزامير ""Psalms، هي من أفصح الأشعار الدينية في التوراة، وهي تعبر عن الحس الديني عند الإنسان، وعن شعور البشر تجاه خالقهم، وهي تمجيد وحمد له، واعتراف بضعف الإنسان تجاه خالقه، فهو يرتل فيها حمد الله والثناء عليه. أما الأمثال والجامعة، وبعض أقسام كتب الأنبياء، فهي وإن كانت دينية في الأصل، إلا انها وضعت لغايات تعليمية، لإرشاد الناس وتقديم النصح لهم.
ولا توجد القوافي والبحور في هذا الشعر، ومع ان بعض الأشعار العبرانية قد نظمت أحياناً على الحروف الابجدية، لكن أشطرها لم تتضمن عدداً مماثلاً من المقاطع، فيتولد منها الوزن، أي النغم. وانما نظمت على مقابلة الأفكار في الشطر الأول والثاني، أو في الشطرين الأولين والثالث. وقد يشرح فكر الشاعر على نوع مقابلة فكرين، إما لوجه المشابه بينهما، وإما لوجه المخالفة بينهما. ومن أمثلة أوجه المشابه: فمن هو الإنسان حتى تذكره أو ابن آدم حتى تفتـقـده
وما جاء في المزمور التاسع عشر من قوله: السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه
يوم إلى يوم يذيع كلامـا وليل إلى ليل يبدي علما
ومن أوجه المخالفة بينهما: لأن عـامـلـي الـشـر يقـطـعـون والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض
وما جاء في الأمثال: الجواب اللين يصرف الغضب والكلام الموجع يهيج السخط
لسان الحكماء يحسن المعرفة وفم الجهال ينبـع حـمـاقة
وقد ذهب بعض العلماء إلى وجود "التفاعيل" ""Feetو "الوزن" ""Metre في الشعر العبراني، و ذهب بعض آخر إلى عدم وجود التفاعيل فيه، وذهب بعض إلى وجود القافية " Rhyme" والوزن ""Rhythm في الشعر العبراني. وهو شعر يختلف عن شعرنا المألوف، وهو وإن أمكن تقسيمه إلى أشطر و أبيات، إلا أن له خصائص يختلف بها عن الشعر العربي. فترى مثلاً ان الأبيات في القصيدة العبرانية غير متساوية، فقد يطول فيها بيت، وقد يقصر فيها بيت آخر. وقد ترتب الأبيات على ترتيب حروف الهجاء، كما في الأمثال وفي المزامير.
ومن أهم أبواب الشعر العبراني، باب يقال له: ""Parallellism في الانكليزية، أي التطابق. وهو انواع. وقد بحث فيه العلماء.
وقد يكون الشعر على صورة أفكار متسلسلة متتابعة، فتتقدم الفكرة تدريجياً، وتوضح الأبيات التالية السابقة مثل: نامـوس الـرب كـامـل يرد الـنـفـس شهادات الرب صادقة تصير الجاهل حكيماً
وصايا الرب مستقيمة تـفـرّح الـقـلـب أمر الـرب طـاهـر ينـير الـعـينـين
خوف الرب نـقـي ثـابـت إلـى الأبـد أحكـام الـرب حـق عـادلة كـلـهـا
أشهى من الذهـب و الابـريز الـكـثـير وأحلى من العسل وقـطـر الـشـهـاد
ومن أنواع الشعر في التوراة، ما نقول له "ترادف المتطابقات" ""Synonymous Parallelism، وذلك أن تكون فكرة الشطرين مترادفة، وكذلك المصطلحات الواردة فيهما ن فترتبط فكرة الشطر الاول بالشطر الثاني من البيت مثل: "وقال لآمك لامرأته عادة وصلة: اسمعا قولي يا امرأتي لآمك واصغيا لكلامي. انني قتلت رجلاً لجرحي وفتى لشدخيط، فالشطر الأول هو "وقال لآمك ...الخ"، والشطر الثاني المتمم هو: "انني قتلت رجلاً لجرحي"، ومثل: "انقذ من السيف نفسي من يد الكلب وحيدتي، خلصني من فم الأسد ومن قرون بقر الوحش استجب لي". ومثل: كيف ألعن من لم يلعنه الـلـه وكيف اشتم من لم يشتمه الرب
وما نقول له ب"تناقض المتطابقات"، أو "تضاد المتطابقات" ""Antithetic Parallelism". وذلك أن يكون الشطر الثاني مثل الشطر الأول في احتوائه على الحقيقة، أي الفكرة، ولكنه جاء بها بصورة أخرى، أي متضادة Contrast. فالشكل متطابق تماماً، وأحد جزئي الشطر مترادف، أما الجزءان الآخران، فمتعارضان. وأكثر ما يقع ذلك في المثل: الابن الحكيم يسـرّ أبـاه والابن الجاهل حزن أمه
ونوع آخريقال له "الايقاع المتصاعد"، أو "الوزن الصاعد"، "Asending Rhythem" "Stair-like"، وهو شعر يرد في الشطر الثاني منه جزء مما ورد في الشطر الأول، أو مختصر الشطر الأول، ليضاف عليه شئ جديد. مثل: حتى يعبر شعـبـك يا يهـوة حتى يعبر الشعب الذي اقتنيته
ونوع يقال له "المتطابقات المركبة" " Synthetic Parallelism" أو "Constructive" وذلك بأن يكون ما يرد في الشطر الثاني مخالفاً، أو على الاكثر لما ورد في الشطر الأول. على ان المتطا