مـوســــوعـة الـعـيـــون الـمـعـرفـيـــــة
نص الكتاب مرفق ادناه
الصابئة المندائيون في الذاكرة الاسلامية
د. رشيد الخيُّون
الصابئة المندائيون
في الفقه والتأريخ ألاسلاميٌين
مواضيع الكتاب :
مقدمة بقلم الكاتب
الفصل الاول آراء الفقهاء
الفصل الثاني روايات المؤرخين
الفصل الثالث آراء فقهاء المسلمين فيهم وموقفهم التقي من الله والخير
مقدمة
"يا يحيى خُذ الكتابَ بقوّة وآتيناهُ الحكمَ صَبيّا وحَنانا من لدُنّا وزكوةً وكان تقيّا وبرَّاً بوالديه ولم يَكُن جَبّاراً عصيّا وسلامٌ عليهِ يومَ ولدَ ويَومَ يموتُ ويَومَ يُبعثُ حَيّا "
(12-14 سورة مريم )
يزخر الفقه والتاريخ الإسلامييـن بمسائل ومرويات كثيرة حول الصابئيـين المندائييـن، كان المصدر الأول لهذا الإهتمام القرآن الكريم، وسوره الثلاث: "البقرة"، "المائدة" والحج. ثم حضورهم بحاضرات العراق العباسي مثل: واسط والبصرة وبغداد. يضاف إلى ذلك دورهم في الحياة الثقافية أيام العباسيين، ولا زال لقب الصابئي المندائي أو ابن منده معروفاً في كتب تراجم الرجال والفقه والقضاء الإسلامية. من هؤلاء: أبو الفتح محمد بن أحمد بن بختيار المندائي (تت605هـ) المعروف بمسند أهل العراق وبالمُعدّل، وكان والده قاضياً، وأبو القاسم عبد الرحمن بن محمد (ت470هـ) ومنده لقب جده الأعلى، ومنهم الحافظ أبو عبد الله بن منده (ت395هـ) الملقب بجوال الدنيا لكثرة سفره، والمحدث عبد الوهاب بن الحافظ (ت475هـ) وغيرهم، كل هؤلاء تدل ألقابهم أنهم كانوا مندائيين، قبل إسلامهم أو إسلام آبائهم .
وإن طغت تسمية الصابئة على هؤلاء القوم إلا أن اسمهم المندائي هو الأصل، وهو نسبة إلى مندادهي الملاك الأول أو رمز المعرفة أوالحياة الأولى، وبهذا عرف بيت عبادتهم بالمندي، أي بيت المعرفة واي معرفة معرفة الله وكشف عوالم الكون، وبهذا ربما تعود أُصول العرفانية أو الأغنوصية إلى هذا الدين .
وإذا علمنا أن الشيخ معروف الكرخي كان صابئياً علمنا التأثيرات العرفانية في التصوف الإسلامي. قال الخطيب البغدادي: "أخبرنا محمد بن أحمد بن روق قال: سمعتُ أبا بكر محمد بن الحسن المقرئ المعروف بالنقاش، وسئل عن معروف الكرخي، فقال: سمعتُ إدريس بن عبد الكريم يقول: هو معروف بن الفيزران وبيني وبينه قرابة، وكان أبوه صابئاً من أهل نهر بان من قرى واسط"(1). وقال ابن تغري: "كان أبواه من أعمال واسط من الصابئة"(2).
أتخذ المندائيون الصمت سبيلاً قويماً في الحفاظ على كيانهم الديني، ولغتهم المندائية عبر دهور طويلة، خدمهم غموض لغتهم الدينية، التي لا يفقهها مواطنوهم من الأديان الأخرى، يتهامسون بها للرد على سخرية جاهل ينال من عقيدتهم، أو معتد قصد ديارهم لفرض ما لا يريدون وما لا يطيقون. فكثيراً ما يحدث الاعتداء عليهم لقلتهم ولشبهات عقائدية تدور حولهم، أقلها أنهم يعبدون الكواكب والنجوم، أو يزهقون أرواح المحتضرين منهم، هذا ما شاع عنهم بجنوبي العراق .
والحقيقة أن من شعائرهم غسل المحتضر واكساءه الكسوة الدينية البيضاء المعروفة بالرسته، اعتقاداً منهم أن ذلك يمُكن روحه من الصعود إلى مشوني كشطا(المكان السامي أي الجنة) بسلام. وبرر بعض الفقهاء نجاستهم لأنهم مشركون، وحكم هؤلاء حسب الآية القرآنية "إنما المشركون نجس"(3). يقال هذا على المندائيين رغم إفراطهم في النظافة والطهر، وأباح البعض الآخر قتلهم، رغم وداعتهم وميلهم للسلم، فلرقتهم يعتذرون ويستغفرون أثر ذباحة الطير والحيوان .
خرق الشيخ دخيل صمت المندائيين عن تجاوزات الآخرين فيما يخص الشأن الديني، يوم تقدم لمقاضاة المؤرخ عبد الرزاق الحسني بسبب ما جاء في كتابه "الصابئون في ماضيهم وحاضرهم". ففي (11 كانون الثاني1931)، فتح الشيخ كتاب "الكنزا ربا" وقرأ أمام هيئة المحكمة ببغداد، باللسان المندائي (الآرامي الشرقي) وكان الأب انستاس الكرملي يترجم إلى العربية، وقد اقتنعت المحكمة أن المندائيين لسيوا عبدة كواكب ونجوم بل يعبدون الحي الأزلي، قرأ الشيخ بوثات (آيات) من الكتاب الأول، تسبيح التوحيد. تحقق ذلك بتعاطف من قبل متصرف بغداد آنذاك أمين الخالص والحاكم الأول لمحكمة الجزاء شهاب الدين الكيلاني مع قضية المندائيين .
وحصل أن اعتذر الحسني من الشيخ ووعده أن لا يعيد نشر الكتاب إلا بعد أخذ ملاحظات وتوصيبات الشيخ، لكنه طبعه عدة طبعات، وحتى السبعينيات كتب في مجلة "التراث الشعبي" مقالاً بعنوان "إذا مات الصبي"(4)، واضعاً فيه ما يدور بين العامة حول المندائيين، من أنهم يخنقون المحتضر، بينما الصحيح هم يلبسونه الثياب الدينية وهي الرسته، ويطهرون بدنه قبل الوفاة. والعامة التي لم تكشف لها طقوس الدين المندائي لم تحسب حساب خطورة اعتقادها بمواطنيها المندائيين، فما اشاعته عنهم هو القتل بعينه، والسؤال إذا كان المندائيون يقتلون أو يخنقون المحتضر فكيف لا يتعرضون للعقوبة الجنائية، وكيف جرى المؤرخ الحسني خلف هذا الادعاء الباطل؟ ومعلوم أن قتل الرحمة لم يجز إلا في بعض الدول الأوروبية وبعد نقاشات وصراعات حامية في البرلمانات، وهذا لا يجاز إلا بطلب المريض الشخصي، وفي حالة معاناته من قسوة الألم مع اليأس التام من شفائه، فأين ومتى مارسه المندائيون، وهم كما اسلفنا يعتذرون عن ذبح الحيوان والطير !
وخلاف ما قدمه الحسني من اعتذار للمندائيين بعد المحكمة المذكورة كتب في مجلة "الهلال" المصرية (أيار 1932) قائلاً: "فتلقينا من ضجيج الصابئة وإنكارهم ما جرَّنا إلى المرافعات ومحاكمات طال أمدها، ولكنها انتهت بفشل المدعين لعدم وجود مأخذ على ما كتبنا ونشرنا"(5). لكن الحسني بعد أكثر من عشرين عاماً من تاريخ مقاضاته كتب إلى الشيخ دخيل يقول: "إكراما لخاطركم وحباً بدوام حسن العلاقة بيني وبينكم لاسيما بعد أن اتضح بأني لا أريد إلا خدمة التاريخ وتحري الحقيقة (20 تشرين الأول 1957). وكانت وزارة المعارف، في عهد الوزير خليل كنة قد ردت طلب عبد الرزاق الحسني، الذي عرض فيه شراء (205) نسخة من هذا الكتاب، وجاء في الرفض: "ذلك لعدم الإفادة منه في مؤسساتنا الثقافية"، لكن الطلب نفذ في عهد الوزير منير القاضي(6 (
إن صحت العبارة المندائيون أثر من آثار التاريخ الحية، فوجودهم يذكر بأنبياء ورسل، حاولت الأديان المتعاقبة نسخ شرائعهم، ولم يبق منهم غير صحف نوح وإبراهيم، والصابئة إن ذكروا في الكتب المقدسة فلم يذكروا بأكثر من تلميح واستشهاد وعبرة من الماضي. فقول المندائيين: إنهم أقدم ديانة سماوية على وجه الأرض، وإن كتبهم هي صحف سادة البشر الأولين: كآدم وشيت وإدريس ونوح، يرفعهم إلى مصاف بدايات الأديان والشرائع الموحدة في التاريخ؟ وأن الكل نحل من منحلهم، لذا من الصعب أن يعرف للصابئة المندائية مؤسساً، وهذه الخاصية، التي ميزتهم عن اليهودية والمجوسية والمسيحية والمانوية والإسلام وغيرها من الديانات العالميةِ، أشارت إلى قدمهم وروحانيتهم الصافية، وكأنهم يوافقون أبا الفتحِ محمد بن عبد الكريم الشهرستاني حينَ قالَ: "إنما مدارُ مذهبِهم على التعصبِ للروحانيينَ"(المللُ والنحلُ).
ويبدو أن غرض الشهرستاني من نقل، أو إبداع، الحوار بين الصابئة والحنفاء(7) هو ميل الصابئة إلى الرسل من الكائنات النورانية، مثل هيبل زيوا(جبرائيل)، فالبشر لخطاياهم وما يتعلق بأبدانهم من فساد، لا يُصلحونَ للوساطةِ بينَ السماء والأرض. قالَ الشهرستاني في مذهب الصابئة: "إن للعالمِ صانعاً، فاطراً، حكيماً، مقدساً عن سمات الحدثان، والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربينَ لديهِ، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهراً، وفعلاً، وحالة"(8).
بيد أن ما أتى عليه الشهرستاني، من عدم اعتراف الصابئة بأنبياء من البشر، يفنده ما ورد في كتبهم من الصحف التي نزلت على آدم، والكتاب الذي نزل على أحد النوصرائيين، إدريس (دنانوخت)، ويصدقه، في الوقت نفسه، أنهم لم يسموا أحداً من البشر بالنبي أو الرسول، فالكل عندهم كانوا نوصرائيين، من آدمٍ إلى يحيى بن زكريا. فالكتابات الصابئية المندائية أشارت "إلى الاعتقاد بأن المعرفة أو العلم الرباني - مندادهيي - إنما يؤتيه اللهُ عباده المختارين الصادقينَ (بهيرا زدقا)، إما وحياً وإما إلهاماً، وذلك هو صوت الحـي الأقدم (شوت هيا قدمايي)، أو فيضـاً سماوياً وكشفاً وهو التجلي، أو بواسطةِ رسلٍ أثيرين نورانيين"(9).
أشار المندائيون، ربما لاهتماماتهم الفلكية، إلى وجود بشر خارج كوكب الأرض، فالكواكب السماوية عندهم، ما دون عالم النور، اتخذت سكناً للبشر والكائنات النورية، وكتبهم الدينية تُرشد إلى عوالم "يسكنها بشر مثلُنا، وتركز بالدرجة الأولى على عالمِ العهدِ مشوني كشطا، وتذكرُ أيضاً أن البشرَ في هذا العالمِ لا يختلفونَ عنا كثيراً، وعلى هذا الأساسِ فقد أمر هيي ربي قدمايي، الحي الأزلي، بنقلِ بناتِ آدمَ من هذا العالم (اره اد تبيل)، الأرض، ويجلب زوجات من عالم مشوني كشطا لأولاده"(10).
ويصفُ غضبان رومي، وهو واحدُ من بين أبرز المثقفين المندائيين، مستقبل العلاقة بين إنسان الأرض وإنسان الكواكب الأخرى، حسب تصورات ديانته، بالقول: "من ذريتهن تكوّن الإنسان الحالي، الذي أخذ يزحف من عالمنا هذا نحو الكواكب الأخرى، وليس ببعيد أن يصل في آخر المطاف إلى عالم مشوني كشطا، وينـزل ضيفاً على أخواله هناك، مستقبلاً من أبناء عماته"(11).
كان آدمُ أباً للبشر وحواء أمهم، لكن البشرية، حسب الكتب المندائية، فنيت مرات بكوارث سببها عالمُ الظلام المنحوس وما فيه من شر أنتقل إلى الآدميين عبر مادة الطين التي منها جُبل جسد آدم، وفي كل فناء يبقى رجل وامرأة يتجدد منهما الجنس البشري. "فبعد شيت قضي على هذا العالمِ بالحرب، ولم يبق منه إلا رجل وامرأتُه، هما رام ورود، وبعد عشرات الألوف من السنين فني العالم بالنار، ولم يبق منه إلا شوربي وزوجته شور هيبل، وبعد عشرات الآلاف من السنين جاء الطوفان، ولم ينج منه إلا نوح وزوجته (انهريتا) وابنه سام"(12).
وحسْب أغلب الأديان، ومنها المندائية، إن هذه الكوارث ضرورية لغسلِ الأرض من خطايا البشر، وبهذا قال شاعر البشر أبو العلاء المعري، حسب تسمية معروف عبد الغني الرصافي له، وكأنه قرأَ الكنـزا ربا وتبحر فيها :
والأرض للطوفان مشتاقةٌ
لعلها من درن تُغسلُ
قد كثر الشرُ على ظهرها
وأتهم المُرسلُ والمُرسلُ
إن اعتقادَ المندائيين بوجود بشر يعيشون على الكواكب العليا يقود إلى علاقة ما بنظرية أفلاطون: "المُثل" أو "النماذج"، وبالتالي إلى صلة ما بالفكر اليوناني بشكلٍ عام. ولا ندري، هل كان هذا التوافقُ توارد خواطر أم بتأثيرات فلسفية مباشرة. في هذا المجال قد يكون للحرانيين في نقلهِا دورٌ ما. ولا يستبعد أيضاً في أن يكونَ الأمر امتداداً سومرياً وبابلياً، حيث القول بوجود مجتمع الآلهة، ومكانُه العالم العلوي، وخُلق البشر على هيئتهِ ونظامه. جاء في النصوص المندائية على لسان المتوفى: "أذهب إلى شبيهي، وشبيهي يأتي إليَّ، يتذكرني ويحتضنني، كما لو أنني خارج من السجن ".
تناول الفقهاء والمؤرخون المسلمون، شيعة وسنُّة، الدين المندائي، وأختلفوا حوله في أن يكون أصحابه من أهل الكتاب أو شبه الكتاب، واختلفوا أيضاً في جواز أخذ الجزية وبالتالي الاعتراف به كديانة لها حق حماية المسلمين والأمن بينهم. إلا أن أكثر المتشددين ضدهم هم فقهاء الشافعية، بينما كان للفقهاء الحنفيين والشيعية فتاوى وآراء إيجابية منهم، اعتامداً على ما ورد في القرآن الكريم بخصوص الصابئة، وما ورد في الكتب الصابئية، حسب قراءة آية الله علي خامنئي لها .
كذلك كانت لرجال الدين الشيعية صلات صداقة ومودة على غرار صداقة العلم الشيعي البارز الشريف الرضي والعلم الصابئي البارز إبراهيم الصابئي. يتناول هذا الكراس معاملة الفقه الإسلامي وروايات التاريخ في أمر قوم لا زالوا يحتفظون باللغة الآرامية ويرون أنفسهم أنهم أتباع آدم أبي البشر .
وبالتالي المندائيون أهل دين سماوي، توجهوا إلى غاية السموات بعقولهم وأفئدتهم، وبفكرة السفن الكونية وبحارتها الكائنات النورية، ولم يجعلوا الكواكب آلهة بل هي عندهم أمكنة لكائنات النور والظلام، والله لديهم متعالٍ عرشه يطوف فوق بحار النور النقية. ومثلما للأديان الأخرى معاريجها لهم معراجهم وجنتهم ونارهم .
غير أن كل هذا كان مخفياً على المحيطين، لم يعرفوا منهم غير أنهم يعبدون الكواكب كامتداد لصابئة حران، أو يسجدون إلى كائن صاغ حروف اسمه الآخرون، عن جهل، من العبارة المندائية المقدسة "بشميهون اد هي ربي"، وتعني باسم الحي ربي، مثلها مثل عبارة المسلمين "بسم الله الرحمن الرحيم". وإذ جعل المسلمون الرحمة صفة الله الأولى، يطلبونها منه في مستهل كل عمل، جعل المندائيون الحياة صفة دائمة يذكرونها في مستهل كل عمل وحركة، فالحياة الأزلية، حسب كتابهم، هي الفارق الأكبر بين الله والبشر .
الفصل الأول
آراء الفقهاء
هل من خلاف وتعارض بين ما ورد في القرآن وبين ما كتبه المؤرخون ونقله الإخباريون وشرعه الفقهاء حول موقف الإسلام من الأديان الأخرى؟ الإجابة على هذا السؤال تستدعي متابعة دين من هذه الأديان عبر الذاكرة الإسلامية، من تاريخ ورواية وفقه وممارسة .
وربما لعبت الظروف التي ورد فيها النص القرآني، والظروف التي استدعت المؤرخين والفقهاء تجاوز هذا النص، دوراً في هذا التعارض. فمعظم المفسرين الفقهاء صرحوا بنسخ الإسلام للأديان الأخرى بما فيها الكتابية، حسب الآية: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"( 13).
بدأ التصريح بنسخ أو إلغاء الآخر عملياً في الجزيرة العربية بترحيل يهودها ومسيحيي نجران على يد الخليفة عمر بن الخطاب لتبقى خالصة للإسلام، وبلا شك أثر هذا الموقف، سلباً، في العلاقة مع أهل تلك الأديان. لكن من الصعوبة بمكان الغاء النص القرآني الذي ضمن للكتابيين وغيرهم الاحتفاظ بدياناتهم وفق شروط، استغلها عدد من الخلفاء بداية من عمر بن عبد العزيز وحتى خلفاء بني العباس وأمراء المغول بعد إسلامهم، ومن أتى بعدهم، ليضيقوا على أهل الذمة في لباسهم ودور عبادتهم وحياتهم الشخصية، ووراء هذه السياسات كان إخباريون وفقهاء .
وبهذا لم يعترف فقهاء مسلمون للصابئة المندائيين ما أعترف لهم فيه القرآن الكريم، كأهل دين وكتاب في ثلاث سور من سوره وهي: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"( 14).
تتكرر الآية بالصيغة نفسها "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون (هكذا وردت) والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"( 15)، وصيغة أخرى أُضيف فيها المجوس والمشركين، "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد"( 16) .
جاء في أسباب نزول الآية الأولى، وبالتالي يعبر سبب نزولها وتفسيرها عن نزول الآيتين الأخيرتين: أنها "نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، لما قدم سلمان على رسول الله (ص) جعل يخبر عن عبادة أصحابه واجتهادهم، وقال: يا رسول الله كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك تبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول الله: يا سلمان هم من أهل النار، فأنزل الله: إن الذين آمنوا والذين هادوا … وتلا قوله: ولا هم يحزنون"( 17) .
وروي عن عبدي الله، ابن مسعود وابن عباس، وغيرهما: "نزلت هذه الآية في سلمان الفارسي، وكان من أهل جندي سابور من أشرافهم"( 18). وهنا لا يقصد بديانة سلمان المسيحية أو اليهودية، فالكثير منهما دخل الإسلام قبل سلمان، وجاءت فيهما نصوص قرآنية كثيرة، لم تحتج إلى تدخل أحد، سلمان أو غيره، كما لا يقصد فيها المجوسية، وإن كانت منتشرة في بلاد فارس، حيث انحدار سلمان، لان أسباب النـزول خاصة بالآية (62) من سورة البقرة، والمجوس لم يذكروا إلا في سورة الحج (17). لذا الاحتمال الوارد أن سلمان الفارسي واسمه الحقيقي ،حسب الطبري: (مايه بن بوذخشبان بن ده ديره)( 19) كان صابئياً مندائياً، فللدين المذكور وجود ببلاد فارس، يوم كان العراق وإيران تحت حكم واحد .
يروى عن عائشة كان للرسول مجلس مع سلمان الفارسي "ينفرد به في الليل حتى يكاد يغلبنا على رسول الله"( 20). ربما كانت هذه العلاقة سبباً في ورود شيء من اعتقادات المندائيين في الإسلام، فهم أحناف، بالمعنى المعروف للحنفية. ومعروف أن تسمية الإسلام ممتدة في أديان أخرى، حتى أن فقهاء مسلمون يعدون الاديان التي سبقت الإسلام مراحل لدين واحد. قال الفقيه السوداني المقتول محمود محمد طه: "بالإسلام جاء جميع الأنبياء من لدن آدم وإلى محمد"( 21 ) .
و ورد في دعاء مندائي:"يا شلماني وامهيمنى.. يا امهيمنى وشلماني.. لا تيفخون من مملا لخون"( 22)، ومعناها: "أيها المسلمون المؤمنون، وأيها المؤمنون والمسلمون، لا تتراجعون عن عهدكم الذي عاهدتم الله عليه". وبالتالي لا أجد سبباً يمنع من إشارة الآية "ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين"( 23) إلى مندائية إبراهيم الخليل .
ورغم أن الباحث الراحل هادي العلوي لم يشر إلى صلة لسلمان بالمندائيين، وأكد ما جاء في سيرة سلمان أنه كان مجوسياً ثم مسيحياً، إلا أنه بلا قصد أعطى إشارة إلى تلك الصلة وهي الموقف من الكنوز، يفهم ذلك من قوله: "وكنت رجحت في دراستي لمسألة تحريم الاكتناز أنها وقعت بتأثير من سلمان"( 24). وقد يعزز هذا الرأي أخبار زهد سلمان الفارسي المتماثل مع زهد كهنة المندائيين. ورد تحريم الاكتناز في الآية: "والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنـزون"( 25).
تعد سورة التوبة أو براءة من أشد السور تهديداً للمشركين، وهي السورة الوحيدة التي لم تستهل بالبسملة "بسم الله الرحمن الرحيم"، وحين سأل الإمام علي بن أبي طالب عن السبب قال: "لأنها أمان وبراءة نزلت بالسيف"( 26) .
وفي كتاب المندائية المقدس "الكنـزاربا" أكثر من نص يحرم الكنـز منها: "وأن حب الذهب والفضة وجمع الأموال، صاحبه يموت ميتتين في موت واحد"( 27)، و"لقد ولعت بالفضة والذهب فألقيا بك في لجة اللهب"( 28)، و"لقد شغلني ذهبي.. وشغلتني فضتي، ذهبي رماني في الجحيم وفضتي أسكنتني في ظلام بهيم، وحليّ ومرجاني.. آليت أن يصادقاني.. فأي شر علماني"( 29).
فسر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) تسمية الصابئين، حسب ما ورد في الآية (62) من سورة البقرة بكلام طويل نلخصه بالآتي: أولاً: أنهم ليسوا يهوداً ولا نصارى ولا دين لهم، ثانياً: منـزلتهم بين المجوس واليهود، ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نسائهم، ثالثاً: أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون لا إله إلا الله ولم يؤمنوا برسول الله (هذا خلاف ما أضافه الرواة على حديث سلمان الفارسي مع النبي محمد، من أن قومه يؤمنون برسالته ونبوته) رابعاً: يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة، ويصلون الخمس، خامساً: فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزبور، سادساً: قبيلة من نحو السواد (العراق) ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى( 30).
ما يخص الموصل، فلعل المقصودين كانوا الإيزيديين، فهم يقولون لا إله إلا الله، ولم يقروا بنبوة محمد، وقبل أن يحل فيهم الشيخ عدي بن مسافر الذي أدخل إلى دينهم ما أدخل من عقائد جديدة. وما يخص قراءة الصابئة للزبور فهي ما زالت منتشرة بين العوام بالعراق، رغم عدم صحتها، فهو من كتب اليهود، جاء ضمن العهد القديم من "الكتاب المقدس" ، تحت اسم "سفر المزامير"، وهي مائة وخمسون مزموراً، أكثرها كان لداوود، لاعلاقة للصابئة المندائيين به .
يضاف إلى ذلك أن الزبور يعني الكتاب، وكتاب الصابئة زبور "الكنـزاربا"، لا الزبور الذي غلب لفظه على مزامير داوود فعرفت بالزبور. ليس بين النقاط، التي أتى بها الطبري عن الإخباريين والمفسرين السابقين، ما يشير إلى المندائيين الحاليين غير الرأي القائل: "قبيلة من نحو السواد، ليسوا بالمجوس ولا اليهود ولا النصارى ".
إن الجهل في تاريخ هذا الدين، بسبب باطنيته، جعل الطبري ينقل عن الصنعاني (ت211هـ) عن سفيان الثوري: "الصابئون قوم بين اليهود والمجوس ليس لهم دين"( 31). ولا نعتقد أن في الشرق، منبع الأديان، قوماً لا دين لهم! والذي يطلع على كتاب "الكنـزاربا" وترجمات الكتب الأخرى، مثل "ديوان أباثر" والرسوم الفلكية والكائنات النورانية قد يعذر الزمخشري (538هـ) على الشطر الأخير من عبارته التالية: "قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة"( 32). هذه أهم آراء المفسرين الأقدمين، ولنرى ما جاء به المحدثون .
إن غموض تسمية الصابئة وأحوالهم الدينية كان سببه، كما أسلفنا، باطنية أو سرية الطقوس والنصوص، فهم قوم اعتادوا على العيش تحت الاضطهاد بداية من اليهودية والمسيحية، بواسطة المبشرين الذين اعتبروهم نصارى منحرفين، ثم المسلمون، وابرز اضطهاد الأخيرين لهم هو فتوى القتل بحقهم من قبل محتسب بغداد والقاضي والفقيه الشافعي أبي سعيد الحسن بن يزيد الأصطخري (ت328هـ) أيام القاهر العباسي .
روى الخطيب البغدادي (ت463هـ) في سياق ترجمة الأصطخري: "أفتاه بقتلهم، لأنه تبين له أنهم يخالفون اليهود والنصارى، وأنهم يعبدون الكواكب، فعزم الخليفة على ذلك، حتى جمعوا بينهم مالاً كثيراً له قدر فكف عنهم"( 33). ذكرت فتوى القتل في مصادر إسلامية ترجمت لحياة الأصطخري منها "سير أعلام النبلاء" لشمس الدين الذهبي (ت748هـ)، وعزف عن ذكرها آخرون مثل شمس الدين ابن خِلّكان (ت681هـ) في "وفيات الأعيان ".
كان صاحب فتوى القتل شافعي من أبرز فقهاء عصره، يعرف بفقيه العراق، وتولى حسبة بغداد، فأحرق مكان الملاهي. وبعد حوالي قرنين من الزمان جاء في رسالة رئيس ديوان الجوالي، محمد بن يحيى بن فضلان (ت631هـ) الشافعي أيضاً، الخاصة بأهل الذمة إلى الناصر بالله العباسي (ت622هـ)، فقرة تذكر بفتوى الأصطخري في الصابئة والحث على تطبيقها: "الصابئة قوم من عبدة الكواكب، يسكنون في البلاد الواسطية (بين الكوت والبصرة) لا ذمة لهم، وكان في قديم الزمان لهم ذمة، فاستفتى القاهر بالله أبا سعيد الاصطخري، من أصحاب الشافعي، في حقهم، فأفتاه بإراقة دمائهم، وأن لا تقبل منهم الجزية، فلما سمعوا بذلوا له خمسين ألف دينار، فأمسك عنهم، وهم اليوم لا جزية عليهم، ولا يؤخذ منهم شيئ، وهم في حكم المسلمين والأمر أعلى"( 34).
والسؤال، كيف عبد الصابئة الكواكب وكتابهم يقول: "باسم الحي العظيم، أشرق نور الحي، وتجلى مندادهيي بأنواره، فأضاء جميع الأكوان، حطم ألوهية الكواكب، وأزال أسيادها من مواقعهم"( 35). وكيف عبد الصابئة المندائيون الأصنام والأوثان وكتابهم يقول: "من يقدم الضحايا والقرابين تعقد خطاه في جبل الظلام (جهنم) فلا يرى نور الله، أما من آمن وأتقى فله من النور مرتقى حتى يبلغ بلد النور"( 36). وهم قبل أن تحرم على الأصطخري الخمور حرموها بالقول: "وليعلموا أن الخمرة يوضع شاربها في قيود وأقفال، وتثقل عليه السلاسل والأغلال"( 37).
كانت فتوى القتل المذكورة، في القرن الرابع الهجري، بعد أن أجاز الفقيه الحنفي وقاضي القضاة أبو يوسف، في القرن الثاني الهجري، التعامل مع الصابئة بأخذ الجزية منهم أسوة بـ "جميع أهل الشرك من المجوس وعبدة الأوثان وعبدة النيران والحجارة (من غير العرب) والسامرة"( 38). وحكم الإمام أبو حنيفة فيهم: "إنهم ليسوا بعبدة أوثان، وإنما يعظمون النجوم كما نعظم الكعبة"( 39)، وأضاف أبو الثناء الآلوسي: "هم موحدون يعتقدون تأثير النجوم"( 40).
والغريب في الأمر أن هذا التعامل مع الصابئة، وإن كان يحمي دمائهم، إلا أنه لا يتناسب مع حكم القرآن فيهم، أسوة باليهود والنصارى، في الآية (62) من سورة البقرة. والغرابة الأكثر، أن أبا يوسف كان عراقياً من أهل السواد، والصابئة المندائيون ليسوا بعيدين عن سمعه ونظره. ويشترط أبو علي الماوردي الشافعي (ت450هـ) في أخذ الجزية منهم "إذا وافقوا اليهود والنصارى في أصل معتقدهم، و إن خالفوه في فروعه"( 41). ومعلوم أن الأُصول هي أساس الدين والمذهب، وما الفروع إلا وصايا لتطبيقها .
وإن جاز الاصطخري والماوردي كشافعيين أخذ الجزية من المجوس، لما ورد عن الرسول بشهادة الصحابي عبد الرحمن بن عوف أنه أخذها من أهل البحرين وكانوا مجوساً، فأن ابن قيم الجوزية(ت751هـ)، وهو جنبلي المذهب، قال: "الصابئة أحسن حالاً من المجوس، فأخذ الجزية من المجوس تنبيه على أخذها من الصابئة بطريق الأَوْلى، فإن المجوس من أخبث الأمم ديناً ومذهباً، ولا يتمسكون بكتاب، ولا ينتمون إلى ملة، ولا يثبت لهم كتاب ولا شبه كتاب"( 42). وهذا اعتراف ضمني من فقيه حنبلي كبير في مذهبه، وتلميذ شيخ الإسلام تقي الدين أحمد المعروف بابن تيمية (ت726هـ)، بكتب أو شبه كتاب للصابئة .
إن حكم الماوردي كان مخالفاً أيضاً للقرآن، فالقرآن لم يشترط موافقتهم لدين آخر، مع علمنا أن موافقة الصابئة المندائيين للإسلام أكثر بكثير من موافقة أو مقاربة اليهود والنصارى له، والذي يدرس كتابهم ويقارنه مع نصوص القرآن، ويدرس فقههم ويقارنه مع الفقه الإسلامي يجد الموافقة واضحة .
من جانب آخر خالفت فتوى الاصطخري وخالف حكم الماوردي وتحريض ابن فضلان ضدهم، والجميع شافعيين، إمامهم الأول محمد بن إدريس الشافعي (204هـ) حين أفتى: "الصابئون والسامرة مثلهم يؤخذ من جميعهم الجزية، ولا تؤخذ الجزية من أهل الأوثان، ولا ممن عبد ما استحسن من غير أهل الكتاب"( 43)، ومَنْ تؤخذ منه الجزية يحرم دمه ولا يطلب منه مجارات اليهود والنصارى بشيء إلا الإقرار بوجود الله .
يضاف إلى ذلك أن الماوردي من أهل البصرة، حيث أحد مواطن الصابئة، ويورد السؤال أيضاً، ألم يكلف الفقهاء من أبي يوسف و الأصطخري و الماوردي ثم ابن فضلان أنفسهم وحاولوا استقصاء حقيقة هذا الدين من كاهن أو خبير من أهله، بدلاً من أن يعدوه من المشركين المجازين، أو يصدروا فيهم حكم القتل، أو تشترط عليهم موافقة اليهود والنصارى؟ إنه مجرد استفسار، يضع أمامنا أدوات الفقيه ومستوى علمه وحرصه، فالكل استخدموا أداة التاريخ المكتوب ورواية الحديث، وتركوا الواقع المعاش. ولم ينته الأمر عند الفقهاء القدماء بل تواتر هذا الاسلوب إلى المعاصرين من الفقهاء، رغم كثرة الدراسات وتبدل أحوال المعرفة، إلا أنهم ظلوا يجهلون أمر الصابئة وكأنهم خارج الكون أو يتعاملون مع دين في مجاهل أفريقيا .
قال الشيرازي بحذر وتردد: "فيهم غموض وخلاف، وربما قيل عبدة نجوم"( 44). ويرى الطباطبائي في "الميزان" أن عقيدتهم مزيج من المجوسية واليهودية مع أشياء من الحرانية. ولعل صاحب الميزان أول المحدثين، من فقهاء المسلمين، ميز بين الصابئة الحرانيين والصابئة المندائيين، ويؤكد أسباب نزول الآية (62) من سورة البقرة في ديانة سلمان الفارسي السابقة( 45). ولا يأتي الطباطبائي، رغم بحثه المطول فيهم، بجديد على ما ورد في كتب الأقدمين .
ويعد محمد حسين فضل الله، عن مؤرخين وكتاب مهتمين، أن الصابئة فرقتان: المنديا أو نصارى يوحنا المعمدان وصابئة حران الوثنيين، ويذهب مستفيداً من بحوث أخرى، على الأرجح من بحث "الصابئة المندائيون" لليدي دراوور، إلى أن "الصابئة الذين ذكرهم القرآن إلى جانب اليهود والنصارى من أهل الكتاب يعدون من المنديا، ولا شك في أن اسم الصابئة مشتق من الأصل العبري (ص ب أ) أي غطس، ثم سقط الغين، وهو يدل بلا ريب على المعمدانيين"( 46).
ولعل آية الله فضل الله ينفرد من بين علماء الدين والمفسرين بتحفظه على قبول نسخ الآيات التي ورد فيها اسم الصابئة بالآية: "ومَنْ يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"( 47)، إذ قال: "نتحفظ على هذا الجواب، لأن مدلول هذه الآية لا يتنافى مع مدلول تلك، حتى نفرض نسخ الثانية للأولى، لأن الظاهر إرادة الإسلام بمعناه المصطلح، كما يلوح ذلك من صدرها، وهو الالتقاء على قاعدة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح"( 48). وهذا ما تقره الأديان المشار إليها في الآية .
ويقترب الشيخ محمد جواد مغنية من الصواب عندما قال في الصابئين:"قوم يقرون بالله وبالمعاد وببعض الأنبياء، ولكنهم يهتدون بتأثير النجوم في الخير والشر، والصحة والمرض، ومنهم طائفة في العراق الآن"( 49). وعلى خلاف مَنْ اشتق تسمية الصابئة من صبأ العبرانية أي غطس وتوضأ، وجد مغنية أن التسمية مشتقة من"صبأت النجوم أي طلعت"، ويعدهم بأقدم الأديان في التاريخ. ويبدو لي أن مغنية اطلع على سلسلة المقالات التي حبرها الأب أنستاس الكرملي في مجلة "المشرق" في العام 1900 –1901، وذهب فيها إلى اشتقاق تسميتهم من الضوء .
بداية من صاحب أكبر موسوعة فقهية "جواهر الكلام" النجفي، من أعلام القرن التاسع عشر، وانتهاء بالسيد السيستاني، المرجع الشيعي الحالي بالنجف، لم نجد رأياً محرضاً في التعامل ضد أهل هذا الدين، بل أن آية ال العظمى له أبا القاسم الخوئي اعبرهم من أهل الكتاب، وقدم مرشد الدولة الإيرانية آية الله علي خامنئي بحثاً مفصلاً فيهم عدهم من أهل الكتاب ومن الأديان الموحدة .
كان أكثر اختلاط المندائيين بالمذهب الشيعي في جنوب العراق مقارنة بالأديان والمذاهب الأخرى، وكانوا سبباً في حياة المنطقة الاقتصادية، فهم لفترة طويلة ظلوا منتجي وسائل الإنتاج، من أدوات الصيد والزراعة والنقل. فلابد أن يحدث احتكاك وتعالجه فتاوى الفقهاء. قال آية الله أبو القاسم الخوئي "الصابئي كان من أهل الكتاب كما هو الظاهر"( 50) جاء ذلك في أمر رجل صابئي أشهر إسلامه معتنقاً المذهب الجعفري، وطالبته زوجته بالنفقة في محكمة من محاكم بغداد الشرعية .
وطرح آية الله علي الخامنئي جملة أمور بشأنهم، فلهم بإيران طائفة كبيرة كانت جزء من سكان العراق قبل قطع الأهواز عنها، لهذا نظر مرشد الدولة الإيرانية في أمرهم عن قرب، باحثاً في كتبهم المترجمة إلى الفارسية والعربية، وربما كان أول فقيه يبتعد عن النصوص الشرعية، وليطلع على كتبهم ويتابع ممارستهم الدينية عن كثب، فقال: "نتيجة البحث في النقطة الأولى: إن الأقوى والأظهر بحسب الأدلة أن الصابئيين يعدّون من أهل الكتاب"( 51).
ولأنه نظر في واقع هذا الدين، لا فيما كُتب وقيل، نفى خامنئي أن يكون الصابئة ديانة متفرعة من الأديان الأخرى بل نظر إليها كديانة مستقلة. قال: "هل الصابئة يعدّون من شعب بعض الأديان الثلاثة: اليهود والنصارى والمجوس، أو إنهم نحلة أخرى غير هؤلاء؟ والجواب على ذلك: قد علم من بعض ما ذكرنا في توضيح النقطة الأولى، فلا دليل على ما قيل، وقد مضى ما نقلناه من كلمات بعض الفقهاء، من أنهم شعبة من اليهود أو أنهم مجوسيون وأمثال ذلك مما نقله في الجواهر عن غير واحد من الفقهاء كالشافعي، وابن حنبل، والسدي، ومالك وغيرهم، بل لعل مقتضى ما ذكرنا الجزم بخلافه"( 52).
ولعل الخامنئي في كلمته التالية قدم نقداً غير مباشر للفقهاء الذين لم ينظروا في أمر هذا الدين وهو حيٌّ بينهم، قال: "والحق الذي ينبغي الاعتراف به هو أننا لا نعرف من المعارف والأحكام الدينية لهذه النحلة التاريخية، والتي أصبح المنتمون إليها موجودين بين أيدينا وفي عقر بلادنا، شيئاً كثيراً تسكن النفس بملاحظته إلى معرفة أصحابها، والباحث في هذا الموضوع يجد في حقل البحث الموضوعي فيه فراغاً كبيراً لم يسدّ مع الأسف"( 53 ).
وبعد الاطلاع على ما نشر من "درفش"(كلمة فارسية تعني العَلَم وإحدى صحف الصابئة، قابلت فيما بعد محررها المندائي الحلالي سالم جحيلي من صابئة الأهواز) قال الخامنئي: "فمن جملة عقائدهم التي يدّعونها ويصرون عليها التوحيد"( 54). ويستشهد آية الله الخامنئي من بوثة التوحيد النص المندائي التالي: "إلهي منك كل شيء، يا عظيم يا سبحان، يا حكيم يا عظيم، يا الله المتعال الكريم، علا قدرتك على كل شيء، يا من ليس له شبيه، ولا نظير ، يا راحم المؤمنين، يا منجي المؤمنين، يا عزيز يا حكيم، يا من ليس له شريك في قدرته، اسبح بأسمك"( 55).
إن ما أكده مرشد الدولة الإيرانية في حكم الصابئة المندائيين هو "أن في عقائدهم جملة من العقائد التوحيدية الحقّة المقبولة، وزمرة من الأباطيل المنافية للعقيدة التوحيدية الخالصة"( 56). ويعني بالأباطيل المنافية للتوحيد الخالص هو "اعتقادهم بما يسمى مندادهيي الذي يقولون عنه بأنه أول منْ سبح الله تعالى وحمده، وأنه أحد الملائكة المقربين ويقرنون أسمه في بعض البوثات (الآيات) باسم الربّ تعالى، ومن ذلك ما يرى التوسل بالملائكة الذين يسمونهم بأسماء عندهم ويعتبرونهم من المقربين، ويذكرون اسم آدم أبي البشر ويحيى عليه السلام في عداد الملائكة، ويسلمون على الأنهار المقدسة والأماكن المقدسة وعلى الحياة وسكان عالم الأنوار وغير ذلك"( 57).
كل ما أفصح به آية الله علي الخامنئي في أمر الصابئة كان صحيحاً، لكنه ربما لم يسمع منهم تأويل علاقتهم بالماء الحي وتعريفهم لعالم النور، وأي دين يخلو مما لدى الصابئة من العلاقة بالماء والضياء؟ فهم إذ يجعلون للماء منـزلة في طقوسهم، كوسيلة للعبادة، لا يسلمون على الأنهار وإنما يذكرون الحي القديم وهم وسط النهر. وقد لا ينفصل اهتمام آية الله خامنئي بالصابئة المندائيين عن مهامه كمرشد لدولة يقطنها المسلم والمسيحي واليهودي والمندائي والزرادشتي والبهائي، وهو بذلك تفوق على سلفه آية الخميني في معاملة أهل الكتاب والأديان الأخرى، فالزرادشتيون بإيران يظهرون في المجالس الرسمية بثيابهم البيضاء الناصعة، مع أنهم على دين منسوخ بالإسلام .
كان هذا التجاهل والجهل قديماً بأمر الصابئة، والسكوت عما شاع بنجاستهم بين العامة في جنوب العراق، وعانى المندائيون ما عانوا، رغم ذكرهم في القرآن، والصداقة الروحية، التي كان يضرب فيها المثل، بين جامع "نهج البلاغة" ونقيب الطالبيين وتلميذ الشيخ المفيد الشريف محمد حسين الرضي (ت406هـ)وبين الصابئي أبي إسحاق إبراهيم بن هلال (ت384هـ)، التي أخبارهما ملأت صفحات التاريخ وأخبار الأدب، ورسائلهما الوجدانية استغرقت كتاباً صدر بعنوان "رسائل الصابئ والشريف الرضي ".
كانت أشهر قصائد الشريف الرضي في رثاء إبراهيم الصابئ، التي استغرقت ثمانين بيتاً، ومطلعها المشهور :
أعلمت منْ حملوا على الأعوادِ
أرأيت كيف خبا ضياء النادي( 58)
ومن أبياتها ذات الوجد العميق :
ما مات مَنْ جعل الزمان لسانه
يتلو مناقبَ عُوداً وبوادي
فأذهب كما ذهب الربيع وإثره
باقٍ بكل خمائلٍ ونجادِ
وكتب الرضي معاتباً إلى بعض أصدقائه، عقب وفاة أبي إسحاق، يصف له ما لحقه من وجد وقلق بسبب فقده: "بلاغي بما لا أقوم له من أليم قطيعته، والأُولى صفته معي في الصديق الصادق، والحميم الموافق أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ، فأنه كما لم يغير لي ودَّه في حياته رماني بالخطب الجليل من وفاته، وأنتزعه من يدي على حين انضمامها على إخائه"( 59).
وإذ كانت عاطفة الشريف الرضي تجاه صديقة الأثير، إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون الصابئ، ندية كما جسدها في قصيدته المذكورة كان أخوه الشريف المرتضى من خشونة الجانب أن رد على "أعلمت منْ حملوا على الأعواد" بالقول: "نعم علمنا أنهم حملوا على الأعواد كلباً كافراً صابئاً عجلَ به إلى نار جهنم"( 60). وعلى هذا تُقاس الهوة الروحية بين الأخوين الشريفين .
وكتب ابن أبي أصيبعة في ترجمة ثابت بن قره الحراني: "هو أصل ما تجدد للصابئة من الرآسة في مدينة السلام" وكان طبيباً من خاصة المعتضد، يمشي معه في الفردوس، وهو بستان في داخل دار الخلاقة للرياضة( 61). وقال ثابت بن سنان الصابئ في والده شيخ أطباء بغداد: "إنه لما كان في أول يوم من المحرم، سنة ست وثلاثمائة، فتح والدي سنان بن ثابت بيمارستان السيدة (شغب أم المقتدر)، الذي أتخذه لها بسوق يحيى، وجلس فيه ورتب المتطببين، وقبل المرضى، وهو كان بناه على دجلة. وكانت النفقة عليه في شهر ستمائة دينار .
قال: وفي هذه السنة أيضاً أشار والدي على المقتدر بالله بأن يتخذ بيمارستاناً ينسب إليه، فأمره باتخاذه، فأتخذه في باب الشام، وسماه البيمارستان المقتدري، وانفق عليه من ماله في كل شهر مائتي دينار. ولما كان في سنة تسع عشرة وثلثمائة أتصل المقتدر أن غلطاً جرى على رجل من العامة، من بعض المتطببين فمات الرجل، فأمر إبراهيم بن محمد بن بطحا بمنع سائر المتطببين من التصرف إلا مَنْ أمتحنه والدي، سنان بن ثابت، وكتب له رقعة بخطه بما يطلق له من الصناعة، فصاروا إلى والدي وامتحنهم، وأطلق لكل واحد منهم ما يصلح أن يتصرف فيه، وبلغ عددهم جانبي بغداد ثمانمائة رجل ونيفاً وستين رجلاً، سوى مَنْ استغنى عن مهنته باشتهاره بالتقدم في صناعته، وسوى كان في خدمة السلطان"( 62).
لم يكن سنان بن ثابت طبيباً فقط بل لرجاحته عقله وسدادة رأيه أن بعث له أمير واسط، بعد وفاة الراضي بالله، لتدبير بدنه وسلوكه، فقال له: "أريد أن أعتمد عليك في تدبير بدني وتفقده، والنظر في مصالحه، وفي أمر آخر هو أهم إليّ من أمر بدني، وهو أمر أخلاقي، لثقتي بعقلك وفضلك ودينك ومحبتك، فقد غمني غلبة الغضب، والغيظ عليَّ، وإفراطهما بيّ، حتى أخرج إلى ما أندم عليه عند سكونهما من ضرب وقتل"( 63).
فأين عاطفة الشريف الرضي، ووجدانه تجاه مَنْ ظل محتفظاً بدينه الصابئي من فقهاء العصر، وثقة الخلفاء والأمراء بالطبيب الصابئ، فأفتوا خارج كتب الفقه بنجاسة الصابئة المندائيين، وهم أهل دين، الماء عندهم بعد الله وقبل النور؟ هذا وليس لدي معطيات تسمح ببحث العلاقة بين الرجلين، الرضي والصابئ، خارج إطارها الصداقي الإنساني إلى إطار فكري، فهناك إشارات وتلميحات في شعر الرضي قد تفيد في وجود منحى عرفاني (أغنوصي) لديه، والصابئة بالأساس هم عرفانيون، لكن ذلك هم آخر لا مجال للدخول فيه الآن .
غير أن ذكرى العلاقة بين الشريف الرضي والشيخ الصابئي ظلت حية حتى عصرنا الحالي. أخبرني السيد محمد بحر العلوم عن آصرة الصداقة بين والده السيد علي بحر العلوم والشيخ الصابئي أبي بشير عنيسي بالعمارة فكان علي بحر العلوم يذهب إلى هناك لوجود أراضٍ موقفة له، وكانت تربطه بعنيسي صداقة وطيدة، فبعض الأصدقاء سأله:"كيف تكون لك صداقة وطيدة بشيخ صابئي؟ فرد عليه :
بيني وبين أبي بشير صداقة
تبقى مدى الأيام والأحقابِ
أني لأرجو الودَ يبقى بيننا
كودادِ سيدنا الرضي والصابي
بعد بيان آراء الفقهاء والعلماء المسلمين في أمر الصابئة المندائيين نود المرور على رسالة استلمتها عبر البريد موقعة باسم الشيخ ميثم العقيلي عن المؤسسة الإعلامية للسيد الشهيد الصدر بالبصرة، بعد التاسع من نيسان 2003، جاء فيها أن الصابئة يمارسون أعمال الدجل والشعوذة والزنا والتفريق بين المرء وأهله. قبل اتهام ديانة كاملة بمثل هذه الممارسات علينا التذكر جيداً ما يُتهم فيه الخصوم المذاهب الإسلامية الأخرى، وأخص بالذكر مذهبنا الشيعي .
فمَنْ ينسى تشويهات جريدة "الثورة" بقلم صحافي النظام السابق عبد الجبار محسن، ربيع 1991 ضد الشيعة في جنوب العراق، وأهل الأهوار عامة، كان المقال تحت عنوان "التعصب الشيعي، فساد أخلاق أهل الأهوار"، وجاء في المتن: "من المعروف أن الكثير من الذين أعدموا بقرارات من محمكة الثورة جراء الزنا بالمحارم هم من بين هذا الصنف من الناس"( 64).
ومَنْ ينسى ما نشرته جريدة عدي صدام حسين "بابل" من تشويهات وافتراءآت ضد الشيعة؟ لقد وردت في صفحة حوارات موضوع يبرئ هند بنت عتبة وزوجة أبي سفيان من دم الحمزة عم النبي، وموضوع آخر يشوه عقيدة الشعية في المهدي المنتظر، وفي طقوس عاشورا( 65).
وكان آخر هذه التشويهات ضد الشيعة ما جاء على لسان جريدة عربية صادرة بلندن، وهي من بقية تمويل النظام الزائل، حاولت تحسين صورة صدام حسين وعهده المظلم بأنه رفع راية الإسلام عالياً وبناء المساجد وقضى على الدعارة وأماكن الفسق.كتبت صحيفة "العرب" بالحرف الواحد: "أشتهرت العراق بتعدد أماكن اللهو فيها منذ الستينيات، وخاصة في المدن الجنوبية بحكم انفتاح الشيعة فيها، وقد حصل في مجلس صدام حسين حديث عما يحصل في هذه الأماكن من جرائم خلقية حتى أصبحت مرتعاً للفساد والإفساد" ( 66).
فهل علم كاتب المقال ببواطن إفساد نظام صدام حسين وبواطن المذهب الشيعي، ومعاملاته! فلماذا يقع صاحب الرسالة في التوهم نفسه ويرى في المندائيين جماعة مفسدة دون أن يقرأ كتابهم وتشددهم ضد الشعوذة والزنا، ووداعتهم ومعاشرتهم الطيبة لأبناء المذهب الشيعي ومواطنيهم من العراقيين عامة، ولو حصل أن مندائياً واحداً أو مجموعة أفسدت فهل يعني هذا أن الدين المندائي راضي بما يفعلون، وهل أن أتباع الأديان والمذاهب الأخرى كافة يلتزمون تعاليم أديانهم ومذاهبهم؟
ولكشف الحقيقة نأتي بتعاليم المندائيين ضد الشعودذة والزنا وكل ما يضر المجتمع ويغضب الله. ورد في الكتاب المندائي المقدس "الكنز ربا" ما يفيد النهي عن الشعودذة والتنجيم: "لا تستشيروا العرافين والمنجمين والساحرين والكاذبين، في أموركم مخافة أن يرمي بكم أسوة بهؤلاء إلى الظلمات"( 67)، والظلمات تعني جهنم أو الجحيم. وجاء في النهي عن الربا: "لا تغالوا بفرض الفائدة والربا الفاحش خشية أن يقع عليكم الحكم بالنفي إلى الظلمات الدامسة( 68).
وفي النهي عن الزنا وإشاعته: "لا تعشقوا نساء الآخرين ولا تقترفوا الزنا، لا تغنوا غناء السكير ولا ترقصوا رقص الغجر، أحذروا أن يستحوذ على قلوبكم الشيطان المملوء بأحابيل السحر والخذاع والغواية، ذلك أنه يستطيع أن يقلب نوايا الصالحين المحمودة إلى عكسها ويجعل قلوب المؤمنين تتعثر وتتحول"( 69). هناك تعاليم أخرى تحرص على مساعدة الفقير وابن السبيل وأعطى حق الأحير والإلتزام بوحدانية الله، ومنها "لا تسبحوا للشمس والقمر الذاين ينيران العالم"، "لا تعبدوا الشمس التي اسمها شامش"، ويؤكد الدين المندائي على حب الخير والعمل به "لا تفعلوا شيئاً ضد الغير ما ليس تحبونه لأنفسكم". هذا شيء يسير من تعاليم المندائية .
الفصل الثاني
الروايات التاريخية
للصابئة المندائيين حضور في الرواية الإسلامية، ذكرهم أبو فرج النديم (ت377هـ)، وأبو الحسن المسعودي(346هـ) وأبو الريحان البيروني (ت440هـ)، بما هم عليه الآن، وذكر آخرون علاقتهم بأنبياء وشخصيات قديمة، لا يخلو منها كتابهم "الكنـزاربا". وأقدم من هذا قال الطبري مفسراً معنى الصحف الأولى: هي التي "نزلت على ابن آدم هبة الله، وإدريس عليهما السلام"( 70). وقصة معراج دنانوخت (إدريس)، والكتب التي نزلت عليه، ومعراجه إلى السماء السابعة، واضحة في نصوص "الكنـزاربا ".
قال الطبري كان "مُلك بيوراسب في عهد إدريس، وقد وقع إليه كلام من كلام آدم، صلوات الله عليه، فأتخذه في ذلك الزمان سحراً، وكان بيوراسب يعمل به، وكان إذا أراد شيئاً من جميع مملكته، أو أعجبته داية أو امرأة نفخ بقبضة له من الذهب"( 71). وبيوراسب "دعا إلى ملة الصابئين... وتبعه على ذلك الذين أرسل إليهم نوح عليه السلام"( 72 ).
ويعدُّ صابئتنا الحاليون كتابهم كتاب آدم ويعدون إدريس ونوح من عظمائهم. ويذكر المسعودي - غير الرواية الخاصة بالمندائيين الحاليين – أن الصابئة "تزعم أخنوخ بن يرد هرمس، ومعنى هرمس عطارد، وهو الذي أخبر الله في كتابه أنه رفعه مكاناً علياً، وكانت حياته في الأرض ثلاثمائة سنة، وهو أول مَنْ درز الدروز، وخاط بالإبرة، وأُنزلت قبل ذلك على آدم إحدى وعشرون صحيفة، و أُنزلت على شيت تسع وعشرون صحيفة، فيها تهليل وتسبيح"( 73).
تقترب رواية المسعودي إلى حد كبير من قصة "الكنـزاربا"، فأخنوخ بن يرد هو دنانوخت نفسه وهو هرمس، وهرمس هو إدريس، وهو الذي عرج إلى السماء السابعة، المكان العلي، ونزلت عليه الصحف، التي كان يحتفظ بها في غرفة مغلقة، ثم نزلت عليه ثمانية كتب أخرى، لم يصح منها غير الكتاب الثامن .
ورد معراج إدريس (دنانوخت) في "الكنـزاربا" والقرآن الكريم، وقصته واحدة من المتوافقات بين الكتابين. ورد في الآية: "وأذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبيا، ورفعناه مكاناً علياً"( 74). وفي صلة إدريس ببالصابئة وا ينفي عنهم عبادة النجوم أو الأصنام قال السيوطي: "إن النبي إدريس، عليه السلام، دعا الخلق إلى الله تعالى فأجابوه، وكانت عقيدته الصابئة، وهي توحيد الله تعالى والطهارة والصوم وغير ذلك من رسوم التعبدات"( 75).
ويربط المسعودي بين الصابئة القدماء الحرانيين وبين المندائيين الحاليين، ثم اختصاص الأخيرين باسم الكيماريين، مشخصاً مؤسسهم الأول في الديار الهندية، قال: "رجل يقال له بوداسف أحدث مذهب الصابئة، وقال: إن معالي الشرف الكامل والصلاح الشامل، ومعدن الحياة في هذا السقف المرفوع، وإن الكواكب هي المدبرات والواردات والصادرات، وهي التي برزوها من أفلاكها وقطعها مسافاتها، واتصالها بنقطة، وانفصالها عن نقطة سبب ما يكون في العالم، من آثار من امتداد الأعمار وقصرها، وتركيب البسائط، وانبساط المركبات، وتتميم الصور، وظهور المياه وفيضها، وفي النجوم السيارة، وفي أفلاكها التدبير الأعظم وغير ذلك... فاجتذب جماعة من ذوي الضعف في الآراء، فيقال إن هذا الرجل أول مَنْ أظهر مذهب الصابئة من الحرانيين، والكيماريين، وهذا النوع من الصابئة مباينون للحرانيين في نحلتهم وديارهم بين واسط والبصرة من أرض العراق نحو البطائح والآجام"( 76).
وربما قصد المسعودي في حديثه حول كهنة الصابئة "أعلى كهنتهم يسمى رأس كمري" برئيس أمة أو ريش أمة، حسب اللفظ المندائي، وهو أعلى درجة دينية بين المندائيين الحاليين. والمسعودي قد ينفرد في تسمية الصابئة المندائيون بالكيماريين، فلم نعثر على هذه التسمية عند الآخرين، وليس لدينا معنى لهذه التسمية غير الاحتمالات التالية: هو تصحيف لكلمة كماريم التي وردت في "قاموس الكتاب المقدس"( 77).
وتعني "كهنة الآلهة الكاذبة" و"كهنة الأصنام" أو"كهنة عجول بيت أوان"، والجملة الأخيرة، حسب "نبوءة صفينا" من العهد القديم تعني السامرة، وهم فرقة يهودية تخالف اليهود في أمور عديدة، وتعني الجملتان الأخيرتان الصابئة، ففي العرف اليهودي أنهم عبدة أصنام. ومن جانب آخر قد تتعلق تسمية الكيماريين بالختان أو الطهور، وبالتالي مصحفة من كلمة كَمرَة وتعني رأس الذكر، و"المكمور مَنْ أصاب الخاتن كمرته"( 78).
وإن صح ذلك فالتسمية من أسماء الأضداد، مثلما يسمى القبيح بالجميل، والمعروف عن الصابئة أنهم يحرمون الختان لأسباب تتعلق بتقديس ما خلقه الله، أو تتعلق التسمية بالستر والإخفاء، والمندائيين لا يشهرون طقوسهم، فهم ديانة أقرب إلى السرية، ومن معاني الكمر الغطاء والستر، أو لها صلة بالشعر والصابئة يشددون على عدم حلاقته، فمن معاني الكمر منطقة من الشعر وهي فارسية. ويبقى الاحتمالان الأول والثاني هما الأقرب إلى تسميتهم بالكيماريين. وأحسب أن المسعودي استقى معلوماته السالفة الذكر من أحد الكهنة، قصها عليه كما قص الكهنة المعاصرون أسرارهم وطلاسمهم لليدي دراوور، ولم تحفل بها إلا بعد صحبة عشرين عاماً .
سمى أبو فرج النديم المندائية بالمغتسلة، وهو أقرب الأسماء إليهم، قال: "وهو هؤلاء القوم كثيرون بنواحي البطائح (الأهوار) وهم صابئة البطائح، يقولون بالاغتسال، ويغسلون جميع ما يأكلونه"( 79). وقال حول عقائدهم: إنهم "على مذاهب النبط القديم، يعظمون النجوم، ولهم أمثلة وأصنام، وهم عامة الصابة المعروفين بالحرانيين، وقيل إنهم غيرهم جملة وتفصيلاً"( 80).
وفي العبارة الأخيرة تراجع النديم عن الخلط بين الحرانيين والصابئة المندائيين رغم أنه نقل قصة عن أبي يوسف أيشع القطيعي النصراني أشارت إلى حادثة غريبة تؤرخ إلى سبب اتخاذ الحرانيين اسم الصابئة، بعد أن خيرهم الخليفة عبد الله المأمون بين الإسلام أو الالتحاق بدين من الأديان الكتابية، واختاروا الصابئية لوردوها في القرآن بناءً على نصحية أحد العارفين( 81).
وأكثر الظن، أن النديم في تسمية ملة من الملل بالرشيين كان يعني دون قصد المندائيين، وربما سجل ذلك نقلاً من أفواه الآخرين، يظهر ذلك من اهتمام هؤلاء بالماء الحي والظلام، فقد جاء في مقالة الرشيين، وللاسم متعلق مباشر برش الماء:"لم يكن غير الظلمة فقط، وكان في جوفها الماء، الريح، وفي الريح الرحم، وفي الرحم المشيمة، وفي المشيمة البيضة، وفي البيضة الماء الحي، وفي الماء الحي ابن الأحياء العظيم، وارتفع إلى العلو، فخلق البريات والأشياء والسموات والآلهة"( 82).
وأشار إليهم، لا عن قصد أيضاً، بالكشطيين، ومعروف أن كلمة كشطا كلمة مندائية تعني العهد أو الحق، وتتكرر كثيراً في كتاب "الكنـزاربا" وتأتي مركبة: مشوني كشطا، "أي الحق المتسامي، وهو عالم مثالي وموطن الآدميين السماويين، وفيه أشباه المخلوقات والأدوات الأرضية، ويكون موقعه في الشمال من الكون، حيث يقع عالم النور"( 83). جاء في مقالة الكشطيين: "إنه قبل كل شيء الحي العظيم، فخلق من نفسه ابناً وسماه نجم الضياء، ويسمونه الحي الثاني (لعله مندادهيي) ويقولون بالقربان والهدايا والأشياء الحسنة"( 84 ).
قد ينفرد النديم في ذكر المندائيين بالتسميات الدالة عليهم، مع الاختلاف في المقالات والعقائد، وينفرد أيضاً في ذكر علاقتهم بالمانوية، وهي ديانة وفلسفة في آن واحد، ظهرت بالعراق في القرن الثالث الميلادي، من أهدافها إقامة كنيسة بابل وأن الوحي والاجتماع المانوي الرسمي لا يتم إلا ببابل، وهذه العلاقة تقدم برهاناً ساطعاً على قدم المندائية بجنوب العراق، حيث جداول المياه العذبة بالأهوار .
بدأت المانوية بصوت سمعه فاتق والد ماني، ناداه من الهيكل قائلاً: "لا تأكل لحماً ولا تشرب خمراً ولا تنكح بشراً، تكرر ذلك عليه دفعات في ثلاثة أيام، فلما رأى فاتق ذلك لحق بقوم كانوا بنواحي دستميسان معروفون بالمغتسلة، وبتيك النواحي والبطائح بقاياهم إلى وقتنا هذا (القرن الرابع الهجري)، وكانوا على المذهب الذي أمر فاتق الدخول فيه، وكانت امرأته حاملاً بماني، فلما ولدته زعموا كانت ترى له المنامات الحسنة، وكانت ترى في اليقظة كأن أحداً يأخذه، فيصعد به إلى الجو ثم يرده"( 85).
وأخيراً، لا ندري إن كان اسم ماني مشتقاً من المانا المندائية، التي تفيد عدة معانٍ، كل واحدة منها مناسبة لصفات الأنبياء، وهي: العقل، الوعاء، النفس، وقد تأتي بمعنى ملاك ذي مرتبة سامية( 86).
روى أبو الريحان البيروني عن آخر: "إن هؤلاء الحرانية ليسوا الصابئة بالحقيقة، بل هم المسمون في الكتب بالحنفاء والوثنية، فإن الصابئة هم الذين تخلفوا ببابل من جملة الأسباط الناهضة في أيام كورش، وأيام أرطحشست إلى بيت المقدس، ومالوا إلى شرائع المجوس، فصبوا إلى دين بختنصر، فذهبوا مذهباً ممتزجاً من المجوسية واليهودية كالسامرة بالشام، وقد يوجد أكثرهم بواسط وسواد العراق بناحية جعفر والجامدة ونهري الصلة، منتمين إلى أنوش بن شيت، ومخالفين للحرانية عائبين مذاهبهم لا يوافقونهم إلا في أشياء قليلة، حتى أنهم يتوجهون في الصلاة إلى جهة القطب الشمالي والحرانية إلى الجنوبية"( 87).
ولرواية البيروني صلة بمندائيي اليوم، فقد ورد في كتاب "كنـزاربا" فصلاً تحت عنوان "تساؤلات آنوش"، جاء في بدايته: "باسم الحي العظيم.. جالس في بلد الضياء، متطلع إلى الأرض والسماء، أنا أنوش الأمين بن شتيل (شيت) الأمين بن آدم الأمين ابن الملائكة ذوي الوقار، ابن بلد المعرفة والتسبيح والأنوار"( 88). غير أن البيروني، الذي نقل هذه المعلومة الهامة، أعتذر في كتاب آخر عن ذكر المندائيين، بقوله: "الصابئون في كتاب الله تعالى مقترنوا بالذكر بالطوائف الذين قدمنا ذكرهم، فأما الكائنون بسواد العراق، حوالي قرى واسط، فما حصلت من أسبابها على شيء البتة"( 89).
رد أبو الريحان على روايات اتهمت الصابئة بأمور منافية لوداعتهم وإيمانهم العميق، مثل ذبح أولادهم وتقديمهم قرابين للكواكب، قال: "ونحن لا نعلم منهم إلا أنهم أُناس يوحدون الله وينزهونه عن القبائح، ويصفونه بالسلب لا الإيجاب كقولهم لا يُحدُّ ولا يُرى ولا يُظلم ولا يجور، ويسمونه بالأسماء الحسنى مجازاً"( 90).
ومن غير المؤرخين جاء ذكر الصابئة المندائيين عند ابن بحر الجاحظ (ت255هـ)، وسنذكرها لا لأهميتها التاريخية بل لمخالفتها الواقع، ونميل إلى أن ابن بحر كان يقصد المندائيين بالذات، فهو من البصرة حيث ديارهم في جنوب العراق، وابن بحر كأديب، صاحب نثر فني، يدخل ما يعرض من أخبار وطرائف بلا تمحيص، وربما خلق الرواية خلقاً. كتب تحت عنوان "خصاء الصابئة": "وأما الصابئون، فإن العابد منهم ربما خصي نفسه، فهم في هذا الموضع قد تقدم الروميّ، فيما أضطر من حسن النية، وأنتحل من الديانة والعبادة بخصاء الولد التام، وبإدخاله النقص على النسل، كما فعل ذلك أبو المبارك الصابي، وما زال خلفاؤنا وملوكنا يبعثون إليه ويسمعون منه، ويسمر عندهم … وقد خصى نفسه من الصابئين رجال، قد عرفناهم بأسمائهم وأنسابهم وصفاتهم وأحاديثهم" ( 91) .
إن كلام الجاحظ مردود من ألفه إلى يائه، إذا كان الأمر يتعلق بالصابئة المندائيين، فقد حرمت عقيدتهم الجنة على من يعزف عن الزواج، ولا يولون عاقراً منصباً دينياً، والبوثة (الآية) التالية من كتابهم المقدس كفيلة بهذا الرد: "أيها العزاب أيتها العذارى، أيها الرجال العازفون عن النساء، أيتها النساء العازفات عن الرجل، هل وقفتم على ساحل البحر يوماً؟ هل نظرتم إلى السمك كيف يسبح أزواجاً؟ هل صعدتم إلى ضفة الفرات العظيم، هل تأملتم الأشجار واقفة تشرب الماء على ضفافه وتثمر؟ فما بالكم لا تثمرون؟ وجاء في البوثة: "الرجال الزاهدون في النساء، والنساء الزاهدات في الرجال كذلك يموتون، ومصيرهم الظلام حين من أجسادهم يخرجون"، والباثة: "اثمروا إن أردتم أن تصعدوا حيث النور"( 92). فهل تكفي الجاحظ باثات "الكنزاربا" الكثيرة في تقديس الصابئة الخصب؟ أورد أبو فرج النديم أموراً هامة أخرى، لها صلة بكتاب الصابئة المقدس، ذلك الكتاب الذي رفعه رئيس كهنتهم، المدعو دنقا، يوم دخول العرب المسلمين العراق( 93)، ليبين لهم أن قومه من أهل الكتاب. قال النديم عن أحمد بن عبد الله بن سلام مولى هارون الرشيد: "ترجمت هذا الكتاب من كتاب الحنفاء، وهم الصابيون الإبراهيمية، الذين آمنوا بإبراهيم عليه السلام، وحملوا عنه الصحف، التي أنزلها الله عليه، وهو كتاب فيه، إلا أني اختصرت منه ما لابد منه ليعرف به سبب ما ذكرت منه اختلافهم وتفرقهم، وأدخلت فيه ما يحتاج إليه من الحجة في ذلك من القرآن والآثار، التي جاءت عن الرسول (ص) وعن أصحابه، وعن مَنْ اسلم من أهل الكتاب"( 94).
وقال المترجم أحمد بن سلام أيضاً: "ترجمت هذا الكتاب والصحف والتوراة والإنجيل، وكتب الأنبياء والتلامذة، من لغة العبرانية والصابية وهي لغة أهل الكتاب إلى اللغة العربية، حرفاً حرفاً، ولم اتبع في ذلك تحسين لفظ ولا تزيينه مخافة التحريف، ولم أزد على ما أوجدته في الكتاب الذي نقلته، ولم أنقص إلا أن يكون في بعض ذلك من الكلام ما هو متقدم بلغة أهل ذلك الكتاب"( 95).
وعد مولى هارون الرشيد الكتب السماوية، وما ادعتها الصابئية منها، منذ ذلك الزمان بالتالي: "جميع ما أنزل الله تعالى من الكتب مائة كتاب وأربعة كتب، من ذلك مائة صحيفة أنزل الله تعالى فيما بين آدم وموسى، فأول كتاب أنزله الله جل أسمه على شيث عليه السام، وهي إحدى وعشرون صحيفة، والكتاب الثالث أنزله الله على أخنوخ (مصحف من الاسم المندائي دنانوخت) وهو إدريس عليه السلام، وهو ثلاثون صحيفة، والكتاب الرابع أنزله جل أسمه على إبراهيم عليه السلام وهو عشر صحائف"( 96).
أبدى أكثر من باحث، في شأن المندائيين، صعوبة البحث في كتبهم الدينية، بسبب تاريخها المجهول وموضوعاتها الشائكة. فـ"الكنـزاربا" كتاب أُنزل بواسطة هيبل زيوا (جبرائيل) على آدم وشيت وإدريس ونوح، كمجموعة من الصحف نزلت بفترات مختلفة، إلا أن أسماء وأحداث عديدة دخلت في الكتاب تصل إلى زمن يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، ومع أن الصابئيين يعتقدون أن كتاباً من كتبهم نزل على يحيى بشهادة القرآن: "يا يحيى خذ الكتاب بقوة وأتيناه الحلم صبيا"( 97). غير أن المفسرين المسلمين أشاروا إلى أنه كتاب "التوراة" لا الكتاب المندائي .
تجعلنا رواية النديم عن مولى هارون الرشيد نشكك فيما ذهب إليه الكرملي إلى أن تاريخ كتابة "الكنزاربا" كان بداية القرن الثامن الميلادي، وبالتحديد السنة (708 الميلادية)، وحسب قوله توصل إلى ذلك بعد قراءة حوادث الكتاب. وغير ما جاء في "الفهرست"، عن مولى الرشيد، ذكر ابن أبي أصيبعة أن المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ، مصنف كتاب "شرح مذهب الصابئي"، ترجم كتاباً إلى العربية بعنوان "السور والصلوات التي يصلي بها الصابئون"( 98)، ولا يستبعد أن يكون أحد كتبهم الحالية .
هناك تأثيرات مندائية، تعد من ثوابت الدين، قد دخلت بعض الحركات الإسلامية ومنها تحريم الختان، فقد حرم بعض رؤساء الفرق السرية الإسلامية الختان للسبب نفسه، وهو عدم إنقاص ما خلق الله في الجسد، فقد شاع عن عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب أنه شرع لأصحابه، وهم جماعة من الشيعة "تحريم الختان، وقال (ما قالته الصابئة): إن المختتن راغب عن خلق الله، ولولا الشعر والظفر ميتان وعلى الحي مفارقة الميت ما قلمنا ظفراً ولا خففنا شعراً"( 99).
في طقس أو ممارسة الختان يقف المندائيون واليهود على طرفي نقيض، فبالوقت الذي جعلته اليهودية شرطاً أساسياً من شروط الديانة، جعلت المندائية ممارسته خروجاً من الديانة. فالذي لا يختتن لا يكون يهودياً، بمعنى "الختان علامة انتماء للشعب اليهودي، وعلامة عهد بين الله وهذا الشعب"( 100)، والذي يختتن ليس مندائياً، لأنه تجاوز فطرة جسد الإنسان، ولا يجوز إنقاص خلقة الله .
وفي الإسلام لم يذكر الختان في القرآن، وإنما أقره الفقهاء كسنِّة بين واجب وغير واجب، فهو واجب لدى الشيعة الإمامية والزيدية، ومن أهل السنة أوجبه الشافعية والحنبلية والإباضية، إلا أنه لا وجوب له لدى المذهبين الحنفي والمالكي. أما ختان أو خفض البنات فلا يراه واجباً إلا المذهب الشافعي، والزيدي( 101).
عموماً، أن تحريم الختان من قبل المندائيين لم يعد مخالفة كبيرة للمحيط، مدام هناك مسلمون وغير مسلمين، مثل المسيحيين، لا يقرون بوجوبه، ومن جانب آخر هناك معارضة كبيرة ضده في العالم، ذلك لآلامه وما يتعلق بعذاب الإنسان، وخاصة أن بعض العقائد لا تجيزه إلا بعد البلوغ، وقد أنتقلت معارضته إلى داخل إسرائيل، حيث معقل اليهودية( 102).
ومن التاثيرات المندائية الأخرى في المحيط الإسلامي التأثر نرى قصة صراع وانتصار هيبل زيوا المندائي متجسدة في مقالة "أصحاب بن حرب" في محمد بن الحنفية، يوم يخرج من البلد الأمين ويقضي على الجبابرة بسيف من شق صاعقة يكور به الشمس "ثم يعود في عمق الأرض حتى إذا بلغ الماء الأسود والجوّ الأزرق صاح به صائح بسمع الثقلين (الجن والأنس): قد شفيت قد شفيت، فيمسك عند ذلك ويعود إلى البلد الأمين"(103). فالماء الأسود عند المندائيين هو مكان كائن الظلام الروهة في اسفل السافلين من طبقات الأرض، والجو الأزرق هو لون ثيابها، لذا يكره الدين المندائي ارتداء الثياب الزرقاء، مثلهم مثل الإيزيدية .
ينبأ الفقه والتاريخ الإسلاميين عن اعتراف ضمني وواضح بالدين المندائي، ولو سمع الخلفاء صوت المتشددين على شاكلة أبي سعيد الأصطخري وابن فضلان لما ظل على وجه الأرض مندائي، ولو كان وجودهم ينافي عقيدة الدولة الدينية ويتعارض معها لاجتهد الفقهاء وتحايلوا على إزالتهم، ولو رأى الناس منهم مثلما ورد في رسالة الشيخ العقيلي لهبت العشائر والمحلات على قمعهم وهم القلة القليلة بين الملايين .
إلا أن تاريخهم العريق في أرض العراق ووجودهم النافع في الاجتماع والاقتصاد وصبرهم على مشاكسة المحيط يجعلهم في مأمن من تجاوز يريد بهم ترك مرابع ألفوها منذ مئات السنين، وعقائد توارثوها اب عن جد فأصبحت هويتهم، ولغة كانت يوماً لغة العراق، فكم هو محظوظ العراق أن فيه قوم أنجبوا إبراهيم الصابئ وسنان بن ثابت وعبد الجبار عبد الله .
فهل ستأخذ الدولة الجديدة بيد هؤلاء في الحفاظ على وجودهم السكاني بالعراق، وإعادة تأهيل لغتهم الآرامية؟ لماذا لا! ونحن نرى دول العالم وشعوبه المتحضرة تبني المتاحف المحصنة من أجل الحفاظ على حجرة أو قرطاس، وتُعد الظروف الطبيعية من أجل حيوان يتجه نوعه نحو الإنقراض! فكيف والحال عندنا جماعة بشرية لا زالت تقاوم من أجل التحدث بلغة نوح، ويتصل بها تاريخنا السومري والبابلي، وتجمعها مع أدياننا ومذهبنا الأخرى المواطنة أولاً والتاريخ ثانياً .
الفصل الثالث
المندائيون..آراء فقهاء المسلمين فيهم وموقفهم التقي من الله والخير
هناك نداء موجه من صابئيين مندائيين، يشكون فيه ما يحل بأهلهم وبدينهم وبملتهم، في بعض مناطق العراق اليوم، من ضغوط يمارسها ضدهم رجال دين مسلمون مسيّسون، يجهلون تاريخ هذا الدين، وفقهه، وتعاليمه. يشهد التاريخ بتمرس الصابئة المندائيون على التعامل الحذر مع المحيط والقدرة على الصبر تجاه المضايقات المستمرة، فحاولوا لدهور طويلة التعايش السليم في المجتمع العراقي. مطلبهم الوحيد هو الاحتفاظ بدينهم وممارسة طقوسهم دون تظاهر قد يزعج الآخرين، وهذا ما يأملون أن يوفره لهم العراق الجديد .
تضامناً مع النداء، ومع قدماء العراق، أحاول في هذا المقال الكشف عن آراء فقهاء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين في أهل هذا الدين القديم الموحد، ولينظر فيها مَنْ يجهلهم، ويجهل رأي الإسلام فيهم. وهنا لا أحاول أن أبرر لوجود هذا الدين أو ذاك، فأي إنسان من حقه الحياة وممارسة طقوسه وعقيدته طالما ضمنها له دستور متحضر وإنساني. فالله خلق الدنيا متسعة للجميع، وكل فئة تصله وتتعرف عليه وتناجيه بطريقتها، والهيمنة والسيطرة مرفوضة في القرآن الكريم قبل لوائح حقوق الآدميين، وليس هناك أفصح من الآية "لستَ عَليهم بمُصَيطِرٍ ".
صرح معظم المفسرين الفقهاء بنسخ الإسلام للأديان الأخرى بما فيها الكتابية، حسب الآية: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، بينما حاول فقهاء آخرون تثبيت اعتراف الإسلام بالآخر وهذا ما حصل فعلاً. بدأ التصريح بنسخ أو إلغاء الآخر عملياً في الجزيرة العربية بترحيل يهودها ومسيحيي نجران على يد الخليفة عمر بن الخطاب، لشأن سياسي وزمني، حتى تبقى خالصة للإسلام، وبلا شك أثر هذا الموقف سلباً في العلاقة مع أهل تلك الأديان، لكن هذا لم يطبق خارج الحجاز. بيد أن من الصعوبة بمكان الغاء النص القرآني الذي ضمن للكتابيين وغيرهم الاحتفاظ بدياناتهم وفق شروط، استغلها عدد من الخلفاء بداية من عمر بن عبد العزيز وحتى خلفاء بني العباس وأمراء المغول بعد إسلامهم، ومن أتى بعدهم، ليضيقوا على أهل الذمة في لباسهم ودور عبادتهم وحياتهم الشخصية، ووراء هذه السياسات كان الإخباريون والفقهاء .
وبهذا لم يعترف بعض الفقهاء المسلمين للصابئة المندائيين ما اعترف لهم فيه القرآن الكريم، كأهل دين وكتاب في ثلاث سور من سوره هي: البقرة، والمائدة والحج. تتكرر الآية بالصيغة نفسها "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون (هكذا وردت) والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، وصيغة أخرى أُضيف فيها المجوس والمشركين: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ".
جاء في أسباب نزول الآية الأولى، وبالتالي يعبر سبب نزولها وتفسيرها عن نزول الآيتين الأخيرتين: أنها "نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، لما قدم سلمان على رسول الله (ص) جعل يخبر عن عبادة أصحابه واجتهادهم، وقال: يا رسول الله كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك تبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول الله: يا سلمان هم من أهل النار، فأنزل الله: إن الذين آمنوا والذين هادوا … وتلا قوله: ولا هم يحزنون"(الواحدي، أسباب النزول).
وروي عن عبدي الله، ابن مسعود وابن عباس، وغيرهما: "نزلت هذه الآية في سلمان الفارسي، وكان من أهل جندي سابور من أشرافهم". وهنا لا يقصد بديانة سلمان المسيحية أو اليهودية، فالكثير منهما دخل الإسلام قبل سلمان، وجاءت فيهما نصوص قرآنية كثيرة، لم تحتج إلى تدخل أحد، سلمان أو غيره، كما لا يقصد فيها المجوسية، وإن كانت منتشرة في بلاد فارس، حيث انحدار سلمان، لان أسباب النـزول خاصة بالآية (62) من سورة البقرة، والمجوس لم يذكروا إلا في سورة الحج (17). لذا الاحتمال الوارد أن سلمان الفارسي واسمه الحقيقي ،حسب الطبري: (مايه بن بوذخشبان بن ده ديره) كان صابئياً مندائياً، فللدين المذكور وجود ببلاد فارس، يوم كان العراق وإيران تحت حكم واحد .
يروى عن عائشة كان للرسول مجلس مع سلمان الفارسي "ينفرد به في الليل حتى يكاد يغلبنا على رسول الله"(ابن عبد البر، الاستيعاب). ربما كانت هذه العلاقة سبباً في ورود شيء من اعتقادات المندائيين في الإسلام، فهم أحناف بالمعنى المعروف للحنفية. ومعروف أن تسمية الإسلام ممتدة في أديان أخرى، حتى أن فقهاء مسلمين يعدون الأديان التي سبقت الإسلام مراحل لدين واحد. قال الفقيه السوداني المقتول محمود محمد طه: "بالإسلام جاء جميع الأنبياء من لدن آدم وإلى محمد"(الرسالة الثانية في الإسلام).
روى الخطيب البغدادي (ت463هـ) في سياق ترجمة الأصطخري أن القاهر بالله العباسي استشار فيهم الفقيه والمحتسب المذكور: "أفتاه بقتلهم، لأنه تبين له أنهم يخالفون اليهود والنصارى، وأنهم يعبدون الكواكب، فعزم الخليفة على ذلك، حتى جمعوا بينهم مالاً كثيراً له قدر فكف عنهم"(تاريخ بغداد). ذكرت فتوى القتل في مصادر إسلامية ترجمت لحياة الأصطخري منها "سير أعلام النبلاء" لشمس الدين الذهبي (ت748هـ)، وعزف عن ذكرها آخرون مثل شمس الدين ابن خِلّكان (ت681هـ) في "وفيات الأعيان". ومثلما يتوجه المسلمون صوب الكعبة ويتوجه اليهود والمسيحيون صوب المشرق يتوجه الصابئة المندائيون في صلاتهم صوب الشمال، فكوكب القطب الشمالي عندهم هو علامة اتجاه قبلة صلاتهم فقط .
كان صاحب فتوى القتل شافعي من أبرز فقهاء عصره، يعرف بفقيه العراق، وتولى حسبة بغداد، فأحرق مكان الملاهي. وبعد حوالي قرنين من الزمان جاء في رسالة رئيس ديوان الجوالي، محمد بن يحيى بن فضلان (ت631هـ) الشافعي أيضاً، الخاصة بأهل الذمة إلى الناصر بالله العباسي (ت622هـ)، فقرة تذكر بفتوى الأصطخري في الصابئة والحث على تطبيقها: "الصابئة قوم من عبدة الكواكب، يسكنون في البلاد الواسطية (بين الكوت والبصرة) لا ذمة لهم، وكان في قديم الزمان لهم ذمة، فاستفتى القاهر بالله أبا سعيد الاصطخري، من أصحاب الشافعي، في حقهم، فأفتاه بإراقة دمائهم، وأن لا تقبل منهم الجزية، فلما سمعوا بذلوا له خمسين ألف دينار، فأمسك عنهم، وهم اليوم لا جزية عليهم، ولا يؤخذ منهم شيئ، وهم في حكم المسلمين والأمر أعلى"(الحوادث الجامعة ).
السؤال، كيف عبد الصابئة الكواكب وكتابهم يقول: "باسم الحي العظيم، أشرق نور الحي، وتجلى مندادهيي بأنواره، فأضاء جميع الأكوان، حطم ألوهية الكواكب، وأزال أسيادها من مواقعهم"؟(الكنزا ربا اليمين). وكيف عبد الصابئة المندائيون الأصنام والأوثان وكتابهم يقول: "من يقدم الضحايا والقرابين تعقد خطاه في جبل الظلام (جهنم) فلا يرى نور الله، أما من آمن وأتقى فله من النور مرتقى حتى يبلغ بلد النور"؟ وهم قبل أن تحرم على الأصطخري الخمور حرموها بالقول: "وليعلموا أن الخمرة يوضع شاربها في قيود وأقفال، وتثقل عليه السلاسل والأغلال"(كتاب الكنزا ربا)، وأن يشربها قوم منهم فحالهم حال المسلمين، وهناك اختلاف بين فقهاء المسلمين حول إباحة النبيذ من الشراب .
كانت فتوى القتل المذكورة، في القرن الرابع الهجري، بعد أن أجاز الفقيه الحنفي وقاضي القضاة أبو يوسف، في القرن الثاني الهجري، التعامل مع الصابئة بأخذ الجزية منهم أسوة بـ "جميع أهل الشرك من المجوس وعبدة الأوثان وعبدة النيران والحجارة (من غير العرب) والسامرة"(كتاب الخراج). وحكم الإمام أبو حنيفة فيهم: "إنهم ليسوا بعبدة أوثان، وإنما يعظمون النجوم كما نعظم الكعبة"(الآلوسي، تفسير روح المعاني). والغريب في الأمر أن هذا التعامل مع الصابئة، وإن كان يحمي دمائهم، إلا أنه لا يتناسب مع حكم القرآن فيهم، أسوة باليهود والنصارى، في الآية (62) من سورة البقرة .
إن أجاز الاصطخري والماوردي كشافعيين أخذ الجزية من المجوس، لما ورد عن الرسول بشهادة الصحابي عبد الرحمن بن عوف أنه أخذها من أهل البحرين وكانوا مجوساً، فابن قيم الجوزية(ت751هـ)، وهو حنبلي المذهب، قال: "الصابئة أحسن حالاً من المجوس، فأخذ الجزية من المجوس تنبيه على أخذها من الصابئة بطريق الأَوْلى، فإن المجوس من أخبث الأمم ديناً ومذهباً، ولا يتمسكون بكتاب، ولا ينتمون إلى ملة، ولا يثبت لهم كتاب ولا شبه كتاب"(أحكام أهل الذمة). وهذا اعتراف ضمني من فقيه حنبلي كبير في مذهبه، وتلميذ شيخ الإسلام تقي الدين أحمد المعروف بابن تيمية (ت726هـ)، بكتب أو شبه كتاب للصابئة .
من جانب آخر خالفت فتوى الاصطخري وخالف حكم الماوردي وتحريض ابن فضلان ضدهم، والجميع كانوا شافعيين، إمامهم الأول محمد بن إدريس الشافعي (204هـ) حين أفتى: "الصابئون والسامرة مثلهم يؤخذ من جميعهم الجزية، ولا تؤخذ الجزية من أهل الأوثان، ولا ممن عبد ما استحسن من غير أهل الكتاب"(كتاب الأم)، ومَنْ تؤخذ منه الجزية يحرم دمه .
بعد عرض فقه القدماء حول الصابئة المندائيين نأتي على آراء الفقهاء المعاصرين حولهم. قال الشيرازي بحذر وتردد: "فيهم غموض وخلاف، وربما قيل عبدة نجوم"(تفسير تقريب القرآن). ويرى الطباطبائي في "الميزان" أن عقيدتهم مزيج من المجوسية واليهودية مع أشياء من الحرانية. ولعل صاحب الميزان أول المحدثين، من فقهاء المسلمين، ميز بين الصابئة الحرانيين والصابئة المندائيين، ويؤكد أسباب نزول الآية (62) من سورة البقرة في ديانة سلمان الفارسي السابقة. ولا يأتي الطباطبائي، رغم بحثه المطول فيهم، بجديد على ما ورد في كتب الأقدمين .
ويعد محمد حسين فضل الله، عن مؤرخين وكتاب مهتمين، أن الصابئة فرقتان: المنديا أو نصارى يوحنا المعمدان وصابئة حران الوثنيين، ويذهب مستفيداً من بحوث أخرى إلى أن "الصابئة الذين ذكرهم القرآن إلى جانب اليهود والنصارى من أهل الكتاب يعدون من المنديا، ولا شك في أن اسم الصابئة مشتق من الأصل العبري (ص ب أ) أي غطس، ثم سقط الغين، وهو يدل بلا ريب على المعمدانيين"(من وحي القرآن ).
ولعل آية الله فضل الله ينفرد من بين علماء الدين والمفسرين بتحفظه على قبول نسخ الآيات التي ورد فيها اسم الصابئة بالآية: "ومَنْ يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، إذ قال: "نتحفظ على هذا الجواب، لأن مدلول هذه الآية لا يتنافى مع مدلول تلك، حتى نفرض نسخ الثانية للأولى، لأن الظاهر إرادة الإسلام بمعناه المصطلح، كما يلوح ذلك من صدرها، وهو الالتقاء على قاعدة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح". وهذا ما تقره الأديان المشار إليها في الآية .
يقترب الشيخ محمد جواد مغنية من الصواب عندما قال في الصابئين:"قوم يقرون بالله وبالمعاد وببعض الأنبياء، ولكنهم يهتدون بتأثير النجوم في الخير والشر، والصحة والمرض، ومنهم طائفة في العراق الآن"(التفسير الكاشف). وعلى خلاف مَنْ اشتق تسمية الصابئة من صبأ العبرانية أي غطس وتوضأ، وجد مغنية أن التسمية مشتقة من"صبأت النجوم أي طلعت"، ويعدهم بأقدم الأديان في التاريخ. يبدو لي أن مغنية اطلع على سلسلة المقالات التي حبرها الأب أنستاس الكرملي في مجلة "المشرق" في العام 1900 –1901، وذهب فيها إلى اشتقاق تسميتهم من الضوء .
بداية من صاحب أكبر موسوعة فقهية "جواهر الكلام" النجفي، من أعلام القرن التاسع عشر، وانتهاء بالسيد السيستاني، المرجع الشيعي الحالي بالنجف، لم نجد رأياً محرضاً في التعامل ضد أهل هذا الدين، بل أن آية الله العظمى أبا القاسم الخوئي اعتبرهم من أهل الكتاب، وقدم مرشد الدولة الإيرانية آية الله علي خامنئي بحثاً مفصلاً فيهم عدهم من أهل الكتاب ومن الأديان الموحدة .
كان أكثر احتكاك المندائيين بالمذهب الشيعي بجنوب العراق مقارنة بالأديان والمذاهب الأخرى، وكانوا سبباً في حياة المنطقة الاقتصادية، فهم لفترة طويلة ظلوا منتجي وسائل الإنتاج، من أدوات الصيد والزراعة والنقل. فلابد أن يحدث احتكاك وتعالجه فتاوى الفقهاء. ونزيد الذين يجهلون هذه الصلة علماً أن إعادة إعمار أو إصلاح قبب العتبات المقدسة المذهبة يتم عادة على الصابئة المندائيين، فهو أهل حرفة الصياغة الأصليين .
قال آية الله أبو القاسم الخوئي "الصابئي كان من أهل الكتاب كما هو الظاهر"(كتاب الصابئة) جاء ذلك في أمر رجل صابئي مندائي أشهر إسلامه معتنقاً المذهب الجعفري، وطالبته زوجته الصابئية المندائية بالنفقة في محكمة من محاكم بغداد الشرعية .
وطرح آية الله علي الخامنئي جملة أمور بشأنهم، فلهم بإيران طائفة كبيرة كانت جزء من سكان العراق قبل قطع الأهواز عنها، لهذا نظر مرشد الدولة الإيرانية في أمرهم عن قرب، باحثاً في كتبهم المترجمة إلى الفارسية والعربية، وربما كان أول فقيه يبتعد عن النصوص الشرعية، وليطلع على كتبهم ويتابع ممارستهم الدينية عن كثب، فقال: "نتيجة البحث في النقطة الأولى: إن الأقوى والأظهر بحسب الأدلة أن الصابئيين يعدّون من أهل الكتاب"(الصابئة حكمهم الشرعي ).
ولأنه نظر في واقع هذا الدين، لا فيما كُتب وقيل، نفى خامنئي أن يكون الصابئة ديانة متفرعة من الأديان الأخرى بل نظر إليها كديانة مستقلة. قال: "هل الصابئة يعدّون من شعب بعض الأديان الثلاثة: اليهود والنصارى والمجوس، أو إنهم نحلة أخرى غير هؤلاء؟ والجواب على ذلك: قد علم من بعض ما ذكرنا في توضيح النقطة الأولى، فلا دليل على ما قيل، وقد مضى ما نقلناه من كلمات بعض الفقهاء، من أنهم شعبة من اليهود أو أنهم مجوسيون وأمثال ذلك مما نقله في الجواهر عن غير واحد من الفقهاء كالشافعي، وابن حنبل، والسدي، ومالك وغيرهم، بل لعل مقتضى ما ذكرنا الجزم بخلافه ".
قدم الخامنئي في كلمته التالية نقداً غير مباشر للفقهاء الذين لم ينظروا في أمر هذا الدين وهو حيٌّ بينهم، قال: "الحق الذي ينبغي الاعتراف به هو أننا لا نعرف من المعارف والأحكام الدينية لهذه النحلة التاريخية، والتي أصبح المنتمون إليها موجودين بين أيدينا وفي عقر بلادنا، شيئاً كثيراً تسكن النفس بملاحظته إلى معرفة أصحابها، والباحث في هذا الموضوع يجد في حقل البحث الموضوعي فيه فراغاً كبيراً لم يسدّ مع الأسف ".
وبعد الاطلاع على ما نشر من "درفش"(كلمة فارسية تعني العَلَم وإحدى صحف الصابئة، قابلت فيما بعد محررها المندائي الحلالي سالم جحيلي من صابئة الأهواز) قال الخامنئي: "فمن جملة عقائدهم التي يدّعونها ويصرون عليها التوحيد". ويستشهد آية الله الخامنئي من بوثة (آية) التوحيد النص المندائي التالي: "إلهي منك كل شيء، يا عظيم يا سبحان، يا حكيم يا عظيم، يا الله المتعال الكريم، علا قدرتك على كل شيء، يا من ليس له شبيه، ولا نظير ، يا راحم المؤمنين، يا منجي المؤمنين، يا عزيز يا حكيم، يا من ليس له شريك في قدرته، اسبح بأسمك ".
كل ما أفصح به آية الله علي الخامنئي في أمر الصابئة كان صحيحاً، لكنه ربما لم يسمع منهم تأويل علاقتهم بالماء الحي وتعريفهم لعالم النور، وأي دين يخلو مما لدى الصابئة من العلاقة بالماء والضياء؟ فهم إذ يجعلون للماء منـزلة في طقوسهم، كوسيلة للعبادة، لا يسلمون على الأنهار وإنما يذكرون الحي القديم وهم وسط النهر. وقد لا ينفصل اهتمام آية الله خامنئي بالصابئة المندائيين عن مهامه كمرشد لدولة يقطنها المسلم والمسيحي واليهودي والمندائي والزرادشتي والبهائي، وهو بذلك تفوق على سلفه آية الخميني في معاملة أهل الكتاب والأديان الأخرى، فالزرادشتيون بإيران يظهرون في المجالس الرسمية بثيابهم البيضاء الناصعة، مع أنهم على دين منسوخ بالإسلام .
كان هذا التجاهل والجهل قديماً بأمر الصابئة، والسكوت عما شاع بنجاستهم بين العامة في جنوب العراق، وعانى المندائيون ما عانوا، رغم ذكرهم في القرآن، والصداقة الروحية، التي كان يضرب فيها المثل، بين جامع "نهج البلاغة" ونقيب الطالبيين وتلميذ الشيخ المفيد والمرجع الشيعي المشهور الشريف محمد حسين الرضي (ت406هـ) وبين الصابئي أبي إسحاق إبراهيم بن هلال (ت384هـ)، التي أخبارهما ملأت صفحات التاريخ وأخبار الأدب، ورسائلهما الوجدانية استغرقت كتاباً صدر بعنوان "رسائل الصابئ والشريف الرضي ".
كانت أشهر قصائد الشريف الرضي في رثاء إبراهيم الصابئ، التي استغرقت ثمانين بيتاً، ومطلعها المشهور :
أعلمت منْ حملوا على الأعوادِ
أرأيت كيف خبا ضياء النادي
ومن أبياتها ذات الوجد العميق :
ما مات مَنْ جعل الزمان لسانه
يتلو مناقبَ عُوداً وبوادي
فأذهب كما ذهب الربيع وإثره
باقٍ بكل خمائلٍ ونجادِ
فأين عاطفة الشريف الرضي، ووجدانه تجاه مَنْ ظل محتفظاً بدينه الصابئي من فقهاء العصر، وثقة الخلفاء والأمراء بالطبيب الصابئ، فأفتوا خارج كتب الفقه بنجاسة الصابئة المندائيين، وهم أهل دين، الماء عندهم بعد الله وقبل النور؟ هذا وليس لدي معطيات تسمح ببحث العلاقة بين الرجلين، الرضي والصابئ، خارج إطارها الصداقي الإنساني إلى إطار فكري، فهناك إشارات وتلميحات في شعر الرضي قد تفيد في وجود منحى عرفاني (أغنوصي) لديه، والصابئة بالأساس هم عرفانيون، لكن ذلك هم آخر لا مجال للدخول فيه الآن .
غير أن ذكرى العلاقة بين الشريف الرضي والشيخ الصابئي ظلت حية حتى عصرنا الحالي. أخبرني السيد محمد بحر العلوم عن آصرة الصداقة بين والده السيد علي بحر العلوم والشيخ الصابئي أبي بشير عنيسي بالعمارة فكان علي بحر العلوم يذهب إلى هناك لوجود أراضٍ موقفة له، وكانت تربطه بعنيسي صداقة وطيدة، فبعض الأصدقاء سأله:"كيف تكون لك صداقة وطيدة بشيخ صابئي؟ فرد عليه :
بيني وبين أبي بشير صداقة
تبقى مدى الأيام والأحقابِ
أني لأرجو الودَ يبقى بيننا
كودادِ سيدنا الرضي والصابي
بعد بيان آراء الفقهاء والعلماء المسلمين في شأن الدين المندائي، والعلائق بين شيوخ وسادة مسلمين وشيوخ صابئة قديماً وحديثاً نود المرور على رسالة استلمتها عبر البريد موقعة باسم الشيخ ميثم العقيلي عن المؤسسة الإعلامية للسيد الشهيد الصدر بالبصرة، بعد التاسع من نيسان 2003، جاء فيها أن الصابئة يمارسون أعمال الدجل والشعوذة والزنا والتفريق بين المرء وأهله. قبل اتهام ديانة كاملة بمثل هذه الممارسات علينا التذكر جيداً ما يُتهم فيه الخصوم المذاهب الإسلامية الأخرى، وأخص بالذكر مذهبنا الشيعي .
فمَنْ ينسى تشويهات جريدة "الثورة" بقلم صحافي النظام السابق عبد الجبار محسن، ربيع 1991 ضد الشيعة في جنوب العراق، وأهل الأهوار عامة، كان المقال تحت عنوان "التعصب الشيعي، فساد أخلاق أهل الأهوار"، وجاء في المتن: "من المعروف أن الكثير من الذين أعدموا بقرارات من محمكة الثورة جراء الزنا بالمحارم هم من بين هذا الصنف من الناس ".
ومَنْ ينسى ما نشرته جريدة عدي صدام حسين "بابل" من تشويهات وافتراءآت ضد الشيعة؟ لقد وردت في صفحة حوارات موضوع يبرئ هند بنت عتبة وزوجة أبي سفيان من دم الحمزة عم النبي، وموضوع آخر يشوه عقيدة الشعية في المهدي المنتظر، وفي طقوس عاشورا .
وكان آخر هذه التشويهات ضد الشيعة ما جاء على لسان صحيفة "العرب" الصادرة بلندن، وهي من بقية تمويل النظام الزائل، حاولت تحسين صورة صدام حسين وعهده المظلم بأنه رفع راية الإسلام عالياً وبناء المساجد وقضى على الدعارة وأماكن الفسق.كتبت الصحيفة بالحرف الواحد: "أشتهرت العراق بتعدد أماكن اللهو فيها منذ الستينيات، وخاصة في المدن الجنوبية بحكم انفتاح الشيعة فيها، وقد حصل في مجلس صدام حسين حديث عما يحصل في هذه الأماكن من جرائم خلقية حتى أصبحت مرتعاً للفساد والإفساد"(شهادة التاريخ: عقد من حياة صدام حسين في ميزان الإسلام، جريدة العرب العالمية، العدد 6813، التاريخ:18 كانون الأول 2003 ).
فهل علم كاتب المقال ببواطن إفساد نظام صدام حسين وبواطن المذهب الشيعي، ومعاملاته! فلماذا يقع صاحب الرسالة في التوهم نفسه ويرى في المندائيين جماعة مفسدة دون أن يقرأ كتابهم وتشددهم ضد الشعوذة والزنا، ووداعتهم ومعاشرتهم الطيبة لأبناء المذهب الشيعي ومواطنيهم من العراقيين عامة، ولو حصل أن مندائياً واحداً أو مجموعة أفسدت فهل يعني هذا أن الدين المندائي راضي بما يفعلون، وهل أن أتباع الأديان والمذاهب الأخرى كافة يلتزمون تعاليم أديانهم ومذاهبهم؟
لكشف الحقيقة نأتي بتعاليم المندائيين ضد الشعوذة والزنا، وكل ما يضر المجتمع ويغضب الله. ورد في الكتاب المندائي المقدس "الكنز ربا" ما يفيد النهي عن الشعوذة والتنجيم: "لا تستشيروا العرافين والمنجمين والساحرين والكاذبين، في أموركم مخافة أن يرمي بكم أسوة بهؤلاء إلى الظلمات"، والظلمات تعني جهنم أو الجحيم. وجاء في النهي عن الربا: "لا تغالوا بفرض الفائدة والربا الفاحش خشية أن يقع عليكم الحكم بالنفي إلى الظلمات الدامسة ".
وفي النهي عن الزنا وإشاعته جاء في "الكنز ربا": "لا تعشقوا نساء الآخرين ولا تقترفوا الزنا، لا تغنوا غناء السكير ولا ترقصوا رقص الغجر، أحذروا أن يستحوذ على قلوبكم الشيطان المملوء بأحابيل السحر والخذاع والغواية، ذلك أنه يستطيع أن يقلب نوايا الصالحين المحمودة إلى عكسها ويجعل قلوب المؤمنين تتعثر وتتحول". هناك تعاليم أخرى تحرص على مساعدة الفقير وابن السبيل وأعطى حق الأحير والإلتزام بوحدانية الله، ومنها "لا تسبحوا للشمس والقمر الذين ينيران العالم"،"لا تعبدوا الشمس التي اسمها شامش"، ويؤكد الدين المندائي على حب الخير والعمل به "لا تفعلوا شيئاً ضد الغير ما ليس تحبونه لأنفسكم". هذا شيء يسير من تعاليم المندائية، فهم أحق بالانصاف لا بلاجحاف .
مصادر المقدمة
1- تاريخ بغداد 13 ص 200
2- النجوم الزاهرة 2 ص 126
3- رومي ، الصابئة، ص 46 و112 وسباهي ، الصابئة ، 176
4- سورة التوبة 28
5- منهاج الصالحين ـ قسم العبادات 1 ص 150
6- لهذا الرجل اكثر من موقف انساني مع الطوائف الدينية العراقية الأخرى ، إضافة إلى ماتقدم في شأن الصابئة المندائيين له موقف محمود مع اليهود العراقيين عندما كان متصرفاً بالحلّة . فقد حدث أن قـُتل يهودي بالحلّة من قبل الجماعات المتأثرة بإنقلاب رشيد عالي الكيلاني ( ايار " مايو " 1941 ) والمتأثر هو الآخر بالحركة النازية القومية . ولما أبلغ المتصرف الخالص أن جماعة تعد لفرهود اليهود ، قام باستدعاء المشتبه بهم ، وأخذ الإجراءات اللازمة لمنع تكرار ماحدث في بغداد من سلب ونهب واعتداءات ، بما فيها منع التجوال في ذلك اليوم ، وقد علق الشيخ الفقية يوسف كركوش الِحلّي على تصرف هذا المتصرف بالقول " والحق إنه عمل يستحق الثناء " ( كركوش ، تاريخ الحلة ، ص 189 ).
7- مجلة التراث الشعبي ، العدد 11 ، 1974
8- الصابئة في ماضيهم وحاضرهم ص10
9- المصدر نفسه 7-8 الهامش
10- الشهرستاني الملل والنحل 2 ، ص 5
11- المصدر نفسه 1 ص 9 ، 44
12- المصدر نفسه 2 ص 6
13- مراني ، مفاهيم صابئية مندائية ، ص99
14- رومي الصابئة 180
15- المصدر نفسه
16- المصدر تفسه ص 188
مصادر الفصل الاول
17- ال عمران 85
18- ابن الفوطي الحوادث الجامعة ص 218
19- البقرة 62
20- المائدة 69
21- الحج 17
22- الواحدي ، اسباب النزول ص 22- 23
23- المصدر نفسه
24- تاريخ الامم والملوك 2 ص 217 ورد عند هادي العلوي شخصيات غير قلقة في الاسلام ص 12 بروزبه وهنا تعتد رواية الطبري
25- ابن عبد البر الاستيعاب 2636
26- الرسالة الثانية في الاسلام ص 16
27- الحج 87
28- برنجي ، الصابئة المندائيون ص 42
29- سورة آل عمران 67
30- شخصيات غير قلقة في الاسلام ص 19
31- سورة التوبة 34-35 تعد سورة التوبة من اشد السور تهديد للمشركين ، وهي السورة الوحيدة التي تستهل بالبسملة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وحين سأل الامام علي بن ابي طالب قال : لانها امان وبراءة نزلت بالسيف . ( جلال الدين السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن 1 ص 142 .
32- كنزاربا ، اليمين ترجمة بغداد 2000 ، ص 264
33- كنزاربا ، اليسار ترجمة بغداد 2000 ، ص 127
34- المصدر نفسه ص 126
35- الطبري ، جامع البيان عن تأويل القرآن 2 ص 145 – 146
36- الصنعاني ، تفسير القرآن 1 ص 47
37- الزمخشري ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل 1 ص 275
38- الخطيب البغدادي ، تأريخ بغداد 7 ص 269 – 270
39- ابن الفوطي ، الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة والسبعون ص70
40- كنزاربا ، اليمين ترجمة بغداد 2000 ، ص 117
41- المصدر نفسه ص 265
42- المصدر نفسه ص 264
43- ابو يوسف ، الخراج ص 128
44- الآلوسي ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني 1ص279
45- الماوردي ، الاحكام السلطانية ص 143
46- الشافعي ، كتاب الأم 3 ص 293
47- ابن قيم الجوزية ، احكام اهل الذمة ص1 ص 97- 99
48- المصدر نفسه
49- البيطار ، حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر 4 ص 455-454
50- الشيرازي ، تقريب القرآن الى الاذهان 1 ص 87
51- الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن ص1 ص 196
52- فضل الله ، من وحي القرآن 2 ص 69
53- آل عمران 85
54- من وحي القرآن ص2 ص 69
55- مغنية ، التفسير الكاشف 1 ص 117
56- ابن قيم الجوزية ، احكام اهل الذمة ، 1 ص 94
57- رومي ، الصابئة ، ص 53
58- الصابئة حكمهم الشرعي وحقيقتهم الدينية ص 40
59- المصدر نفسه
60- المصدر نفسه ص41
61- المصدر نفسه
62- المصدر نفسه ص 42
63- المصدر نفسه
64- المصدر نفسه
65- دستور الجهورية الاسلامية الايرانية ص44
66- جريدة الزمان ، العدد 1992 ، في 18 كانون الثاني 2004
67- رسائل الصابئ والشريف الرضي ، ص 45-55
68- المصدر نفسه ص 105-106
69- ترترات اهل الذمة في الاسلام ص 180
70- القنطي ، اخبار العلماء باخبار الحكماء ص 55
71- ابن ابي اصيبعة ، عيون الأنباء في طبقات الاطباء 2 ص 199
72- المصدر نفسه 2 ص 204
73- المصدر نفسه
74- جريدة القورة العراقية 5 نيسان 1991
75- حوارات بابل ، جريدة بابل تاريخ 4 ، 10 ، 13 نيسان 2002
76- شهادة التاريخ : عقد من حياة صدام حسين في ميزان الاسلام ، جريدة العرب العالمية ، العدد 6813 ، التأريخ 18 كانون الاول 2003
77- كتاب كنزاربا القسم اليمين ، الكتاب الاول ، ص 23 ، ترجمة استراليا
78- المصدر نفسه
79- المصدر نفسه
مصادر الفصل الثاني
80- الطبري تاريخ الملوك والرسل 1 ص 171
81- المصدر نفسه
82- المصدر نفسه 172- 179
83- المسعودي مروج الذهب ومعادن الجوهر 1 ص 43
84- مريم 58
85- السيوطي حسن المحاضرة في اخبار مصر والقاهرة 1 ص 12
86- المسعودي مروج الذهب 1 ص 263
87- القلستا ص 1 و26
88- قاموس الكتاب المقدس ص 787
89- الفيروز ابادي ، القاموس المحيط ، ص 471
90- الديم الفهرست ص 403
91- المصدر نفسه ص 404
92- المصدر نفسه ص 389
93- المصدر نفسه ص 403
94- نعيم بدوي ، الصابئة فلسفة وتأريخاً ، محاضرة القيت على أساتذة وطلاب قسم الدين في كلية الآداب ، جامعة بغداد ، 29 نيسان 1975
95- الفهرست ص 403
96- المصدر نفسه ص 392
97- مصطلحات كنزاربا اليمين
98- البيروني ، الاثار الباقية من القرون الخالية ص 206
99- الكنزاربا اليمين ، الكتاب الرابع عشر ، التسبيح الاول ، ص 226
100- البيروني ، القانون المسعودي ، 1 ص 267
101- الاثار الباقية من القرون الخالية ، ص 205
102- الجاحظ كتاب الحيوان ، 1 ص 25
103- الكنزاربا اليمين الكتاب الثاني ص 38 - 39
104- رومي الصابئة ، ص19 عن كتاب حران كويثا المندائي
105- الفهرست ص 24
106- المصدر نفسه
107- المصدر نفسه ص 24- 25
108- مريم 58
109- ابن ابي اصيبعة ، عيون الانباء في طبقات الاطباء 2 ص 199
110- سعد الاشعري ، المقالات والفرق ، ص 41
111- الذيب ، ختان الذكور والاناث ص 141
112- الخطيب فقه الطفل ، ص 164 -169
113- الذيب ، ختان الذكور والاناث ص 131 -138
114- الاشعري ، المقالات والفرق ص 31
ادخال الكتاب في الكومبيوتر حسام هشام العيداني
تم العمل بالاستناد الى نسخة سحب سكنر للاخ نائل الزهيري
تم ادخال الفصل الثالث للكتاب من مصدر آخر